العنوان: مُشكلة الثقافة.
المؤلف: مالك بن نبي.
المترجم: عبد الصبور شاهين؛ عمر كامل مسقاوي (مترجم للفصل الخامس)
الطبعة: ط. 4 “الإعادة الحادية عشرة”.
مكان النشر: دمشق.
الناشر: دار الفكر.
تاريخ النشر: 2005.
الوصف المادي: 150ص.، 25 سم.
السلسلة: مشكلات الحضارة.
الترقيم الدولي الموحد: 3-037-57547-1.
التعريف بالمؤلف: مالك بن نبي (1905-1973) مفكر جزائري، يعد أحد أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبهوا الى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة. فالسؤال عن أسباب تقهقر المسلمين وما هي شروط النهضة ليستعيد المسلمون دورهم وفاعليتهم المفقودة كانا المحور الرئيسي لأغلب كتاباته.
يعرف “مالك بن نبي”، في مقدمة دراسته؛ “الثقافة” على أنها ليست فقط قضية “أفكار” ولكنًّها تضم أيضاً أسلوب الحياة في مجتمع معين والسلوك الاجتماعي الذي يطبع تصرفات الفرد في ذلك المجتمع.
كما رأى “مالك بن نبي” إن تنظيم المجتمع وحياته وأفكاره، بل فوضاه وخموده وركوده، كل هذه الأمور ذات علاقة وظيفية بنظام الأفكار المنتشرة في ذلك المجتمع؛ فإذا ما تغير هذا النظام بطريقة أو بأخرى فإن جميع الخصائص الاجتماعية الأخرى تتعدل في الاتجاه نفسه، فالأفكار تُكوِن في مجموعها جزءًا هامًا من أدوات التطور في مجتمع معين.
وأوضح “مالك بن نبي” أن أهمية الأفكار في حياة مجتمع معين تتجلى في صورتين: فهي إما أن تؤثر بوصفها عوامل نهوض بالحياة الاجتماعية، وإما أن تؤثر على عكس ذلك بوصفها عوامل “مٌمرضة”، تجعل النمو الاجتماعي صعبًا أو مُستحيلًا.
كما يرى الكاتب أن أهمية الأفكار قد تجلت بشكل كبير في العالم الحديث، ففي القرن التاسع عشر كانت العلاقات بين الأمم والشعوب علاقات قوة (كم تملك الدولة من مصانع ومدافع وأساطيل بحرية …الخ؟)، ولكنًّ القرن العشرين نظر إلى “الأفكار” باعتبارها قيمة قومية كبرى في المجتمعات.
وربما هذا ما جعل العالم الإسلامي يعيش في وضع متخلف أو متأخر، إذ أن الإنسان المُسلم قد شعر بأن سبب تخلفه هو نقص ما لديه من (أشياء)، لكن وفقًا لـ “مالك بن نبي” فإن سبب تخلف المُسلم يتمثل في نقص ما لديه من (الأفكار) وليس (الأشياء).
وفي هذا السياق، رأى “مالك بن نبي” أن العالم قد دخل مرحلة لا يمكن أن تُحل فيها أغلبية مُشكلاته إلا على أساس نظم الأفكار، وفي مرحلة كهذه يتحتم على البلاد العربية والإسلامية أن تولي أكبر قدر من اهتمامها لمشكلة الأفكار، وخاصة تلك البلاد التي لا تملك كثيرًا من أدوات القوة المادية.
الفصل الأول
تحليل نفسي للثقافة
ما هي الثقافة ؟
يقول “مالك بن نبي” إن كلمة “الثقافة” كلمة جديدة لم يرد ذكر لها في مؤلفات “إبن خلدون” أو في العصور السابقة له، ففكرة (الثقافة) فكرة حديثة جاءتنا من أوروبا، وهي ثمرة من ثمار عصر النهضة، عندما شهدت أوروبا في القرن السادس عشر تعاظم للإنتاج الفكري، انبثق عنه مجموعة من الأعمال الأدبية الجليلة في الفن والأدب والفكر.
وفي البلاد العربية نجد أن الكتّاب يقرنون دائمًا كلمة (ثقافة) بكلمة Culture مكتوبة بحروف لاتينية. ويوضح “مالك بن نبي” أن هؤلاء الكتّاب يُدركون أن الكلمة لم تكتسب في العربية قوة التحديد الضرورية لتصبح عَلَماً على مفهوم معين.
الثقافة وعلم الاجتماع
وأوضح “مالك بن نبي” أن القرن التاسع عشر قد أحدث تقدمًا في تعريف كلمة (ثقافة)، حيث شهد وسائل للبحث والتحقيق أخصب وأكثر تنوعًا. فعلم الإنسان وعلم الأجناس وعلم النفس والاقتصاد السياسي، تتلاقى جميعها وتتركز في نقطة واحدة هي الواقع الاجتماعي. ومن هنا أصبحت فكرة (الثقافة) إحدى مُشكلات “علم الاجتماع”، وتطور مفهوم الثقافة تحت تأثير الأفكار الجديدة التي حملها علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأجناس، وهو يدل على الحاجة إلى خطوة جديدة في طريق تحديد معنى الكلمة، للانتقال من الفكرة العفوية الموروثة عن عصر النهضة الأوروبية إلى فكرة علمية جديدة.
واختلف التعريف الجديد لمفهوم الثقافة تبعاً للزاوية التي ينظر منها الى الموضوع، فنجد:
المدرسة الغربية: التي ظلت وفيّة لتقاليد عصر النهضة، وهي ترى عمومًا أن الثقافة ثمرة الفكر، أي ثمرة الإنسان.
المدرسة الماركسية: التي ترى أن الثقافة في جوهرها ثمرة المجتمع.
وقام “مالك بن نبي” في هذا المقام بعرض أفكار إثنين من مفكري المدرسة الأولى هما (وليام أوجبرن) و (رالف لنتون). ثم قام بعرض رأيان من المدرسة الثانية وهما لـ (ف. كونستا نتينوف) و (ماوتسي تونج). ثم قام بالتعليق على هذه الأطروحات، وكان رأيه أنها جميعها ناقصة، وهذا النقص ليس راجعاً الى خطأ فيها بل لأن مضمونها انعكاس لرؤية معينة تعطي الأسبقية إما للجانب النفسي وبالتالي الفردي، أو الجانب الاجتماعي ذاهبين الى أن الثقافة قضية المجتمع، وبالتالي لا يمكن أن تعطينا هذه الرؤى مفتاح المشكلة في الظروف النفسية الزمنية التي تمر بها البلاد العربية والإسلامية.
ويرى “مالك بن نبي” أننا لكي نعرف الثقافة يجب أن ننظر الى المشكلة في ثلاث اتجاهات: العناصر النفسية الفردية أو عامل “الأفكار” والعناصر الاجتماعية أو عامل “الأشياء”، ثم ندرس العلاقة الضرورية بين هذه العناصر جميعاً.
ويؤكد “مالك بن نبي” أن الفكرة والشيء مرتبطان ومتعاونان، إلا أن أي مجتمع يكوِن عالم أفكاره قبل أن يشيد عالم أشيائه. من ناحية أخرى قد يحدث في ظروف معينة أن يفقد مجتمع معين السيطرة على (عالم أشيائه) كما حدث في ألمانيا عام 1945، وعلى الرغم من هذا فقد احتفظت ألمانيا بالقدرة على إنشائه مرة أخرى، وبذلك تكون المقدرة الخلاقة هي قوة الأفكار.
ثم يتعرض “مالك بن نبي” الى مفهوم فاعلية الفكرة التي هي رهن بشروط نفسية واجتماعية تتنوع بتنوع الزمان والمكان. وضرب مثلاً لهذا بتراث ابن خلدون الذي لم يسهم وقتها الى تقدم العالم الإسلامي العقلي والاجتماعي، لأن هذا التراث في ذلك العصر كان يمثل فكرة لا صلة لها إطلاقاً بالوسط الاجتماعي المعاش.
ومن هنا ووفقًا لـ “مالك بن نبي” كان علينا أن نتصور تعريفًا للثقافة، لا من زاوية نظرية فحسب، بل لابد أن ينضاف إليها وجهة النظر العملية. وبذلك نجد أنفسنا مُنساقين مع طبيعة المشكلة الخاصة بالبلاد العربية والإسلامية إلى تطبيق منهج اّخر، هو المنهج الذي يُستخدم في تعريف الشيء المعقد. ولقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلاقة في صورة أخاذة تخلع على الأفكار قيمتها العقلية وفاعليتها الاجتماعية حين قال:
“مثل ما بعثني الله عز وجل به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت منها بقعة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها بقعة أمسكت الماء فنفع الله عز وجل بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وكانت منها طائفة قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت الكلأ”.
ففي هذا النص تدرج عليه الصلاة والسلام من الأعلى للأدنى في تصوير علاقة الفرد والمجتمع بالعلم أي بالأفكار والأشياء. وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من هذا التدرج أن يرمز الى عصور ثلاثة يمر بها المجتمع، يبدأ تاريخه بمرحلة يحدث فيها إبداع الأفكار وتمثلها، تليها مرحلة تبلغ فيها الأفكار الى مجتمعات أخرى، ثم نعقب مرحلة يتجمد فيها عالم الأفكار فيصبح بلا أدنى فاعلية اجتماعية. فيمكننا القول إن المجتمع الإسلامي في عصر الفارابي كان يخلق أفكاراً وأنه كان على عهد ابن رشد يبلغها الى أوروبا، وأنه بعد ابن خلدون لم يعد قادراً لا على الخلق ولا على التبليغ.
طبيعة العلاقة الثقافية:
رأى “مالك بن نبي” إن القيمة الثقافية للأفكار وللأشياء تقوم على طبيعة علاقتها بالفرد، وهذه الصلة تُجسد ما اصطلح على تسميته بـ “العلاقة التبادلية” بين سلوك الفرد وأسلوب الحياة في مجتمع معين، فهي الجانب العضوي من هذه العلاقة.
ومفهوم الثقافة وفقًا لهذه العلاقة، هي تعبير حسي عن علاقة الفرد بالعالم الروحي الذي ينمي فيه وجوده النفسي. فالفرد إذا ما فقد صلته بالمجال الحيوي فإنه يموت موتًا ماديًا، وكذلك الأمر إذا فقد صلته بالمجال الثقافي فإنه يموت موتًا ثقافيًا، “فالثقافة إذن هي حياة المجتمع التي بدونها يُصبح مُجتمعًا ميتًا”.
إذن فطبيعة الثقافة وفقًا لـ “مالك بن نبي” تتحدد وفقًا لكل مجتمع على حِدة بمراعاة خصوصياته وثقافته، وضرب مثلًا على ذلك عندما خطب سيدنا “عمر” رضى الله عنه في عامة المسلمين عند غُداة توليه الخِلافة، فقال (أيها الناس: من رأى منكم فىّ اعوجاجًا فليقومه)، ورد عليه أحد أولئك البدو البُسطاء قائلًا (والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا). وهذا الحوار الفريد طبع بطريقة رائعة أسلوب الحياة في المجتمع الإسلامي، فعمر كان متجهًا صوب المجتمع الإسلامي، وأن الذي أجابه إنما هو ذلك المجتمع على لسان البدوي البسيط.
وهكذا يقول “مالك بن نبي” أننا نرى بطريقة مباشرة العلاقة المتبادلة بين الجانب النفسي والجانب الاجتماعي مُتجسدة في رجلين، كان موقفهما انعكاسًا لأسلوب الحياة من ناحية، وتعبيرًا عن سلوك معين خاص بالمسلم في ذلك العصر من ناحية أخرى. وفي الوقت ذاته يُظهر هذا التشابه الحدود الروحية للمجتمع، ويرسم داخل هذه الحدود معالم ثقافة مُحددة، هي المجال الروحي للثقافة الإسلامية.
وهكذا يختلف الأمر إذا كانت المقارنة بين رجل غربي على سبيل المثال وأخر مُسلم، إذا قد يتأثر ايًا منهما بموقف معين دون أن يتأثر الاّخر بذات الدرجة، وضرب “مالك بن نبي” عددًا من الأمثلة في هذا الصدد، على سبيل المثال مسألة الاستعمار الغربي، فإن درجة تأثر الفرد في المجتمعات المُستعمَرة يختلف عن درجة تأثر الفرد في المجتمعات المُستعمِرة.
الثقافة والمقاييس الذاتية:
مقاييسنا الذاتية التي تتمثل في قولنا (هذا جميل) و (ذاك قبيح) أو (هذا خير) و (ذلك شر)، هذه المقاييس هي التي تحدد سلوكنا الاجتماعي في عمومه، كما تحدد موقفنا أمام المُشكلات قبل أن تتدخل عقولنا. واختيار هذه المقاييس لا يتم بناء على عملية واعية يجريها العقل والتفكير، وإنما يتم استنشاقها في محيط حياة الفرد وفي مجاله الروحي الذي يحوط وجوده المعنوي. يقول “مالك بن نبي” إن الفرد ومنذ ولادته غارق في عالم من الأفكار والأشياء التي يعيش معها في حوار دائم، فالمحيط الداخلي الذي ينام الإنسان في ثناياه ويصحو، والصورة التي تجري عليها حياتنا اليومية، تُكون في الحقيقة إطارنا الثقافي المؤثر علينا.
الفصل الثاني
تركيب نفسي للثقافة
اعتمد “مالك بن نبي” في الفصل الأول على أسلوب “التحليل” لمحاولة إبراز العوامل المختلفة التي لها دور ما في تحديد ثقافة مُعينة، وهذا أفاد في فهم واقع اجتماعي معين، وفي إدراك معالمه النفسية والاجتماعية.
وفي هذا الفصل يخطو “مالك بن نبي” خطوة إلى الأمام، تمثل الخطوة الجديدة “تركيبًا نفسياً” لعناصر الثقافة. ذلك إذا ما واصل مجتمع معين تطوره الطبيعي، فإنه يؤدي عملية تركيب ثقافته بصورة تلقائية، تنحصر في تنظيم المقومات الثقافية في وحدة متجانسة تمثل ثقافته. وليس هذا منهجًا يقوم على أساسه تنظيم الثقافة وإنما هي ظاهرة.
ويرى “مالك بن نبي” أنه في حال أدركنا ميكانيكية الظاهرة فسنستطيع أن نتصور المنهج. وينبغي لكي ننظم العناصر الثقافية في وحدة عضوية، أن نضع خطة تربوية صالحة لتحقيق هذه الوحدة.
وبعد ذكر العوالم الأربعة التي سبق الإشارة اليها، وهي عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء وعالم الظواهر الطبيعية، تناول “مالك بن نبي” الشروط الضرورية اللازمة لتركيب العناصر الثقافية:
- الشرط الأول: (الأخلاق) الصلة بين الأشخاص، وكما ذكر القراّن الكريم ﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾. (الأنفال: 63). فأساس كل ثقافة هو بالضرورة (تركيب) و (تأليف) لعالم الأشخاص، وهو تأليف يحدث طبقًا لمنهج تربوي يأخذ صورة فلسفية أخلاقية. إذًن فالأخلاق والفلسفة الأخلاقية هي أولى المقومات في الخطة التربوية لأية ثقافة.
- الشرط الثاني: (الجمال): فقد يكون لعنصر من عناصر الطبيعة –كصوت مثلاُ- خاصة مزدوجة، فنعامله باعتبارين: شكلًا أو حدثًا؛ فهو من حيث كونه شكلًا ينتمي إلى الجمال أو الفلسفة الجمالية، ولكن بوصفه حدثًا يُعد ظاهرة يتولى دراستها علم خاص هو علم الأصوات، وهو على كلتا الحالتين ينتمي إلى الثقافة. فعنصر الجمال يعد إذن (تركيبًا) لطائفة جديدة من العناصر الثقافية، فإذا حدد العنصر الأخلاقي شكل السلوك حدد العنصر الجمالي أسلوب الحياة في المجتمع.
- الشرط الثالث: (المنطق العملي) يوضح “مالك بن نبي” أن أسلوب الحياة لا يحدد العناصر الثقافية الساكنة فحسب، كعناصر الألوان والأصوات والأشكال… إلخ، بل يشمل فضلًا عن ذلك جانبًا، يرجع إلى العناصر الثقافية المتحركة كالحركة والنشاط، تلك التي تحدد إلى درجة ما فاعلية المجتمع. فمن الضروري إذن أن نتصور لهذه الطائفة تركيبًا تربويًا اّخر نطلق عليه (المنطق العملي).
- الشرط الرابع: (الصناعة) وأخيرًا فإن أسلوب حياة المجتمع وفاعليته يقومان في جانبهما الأكبرعلى عالم الأشياء، الذي هو نتيجة عوامل فنية صناعية مُختلفة، فهذا أيضًا جانب الأشياء الذي ينبغي أن نصنفه عنصرًا ثقافيًا في إطار تربوي مناسب، فالصناعة -أو العنصر الفني- هي إذن فصل اّخر ضروري لتصنيف العناصر المتبقية.
استطاع “مالك بن نبي” من خلال شرح هذه الشروط الأربعة تكوين فكرة واضحة عن تعريف الثقافة، بأنها “التركيب العام لتراكيب جزئية أربعة هي: الأخلاق، والجمال، والمنطق العملي، والصناعة”.
توجيه الأفكار:
يرى “مالك بن نبي” أن مشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مُشكلة توجيه الأفكار، فهناك كم هائل من طاقات وقوى لم تُستخدم لأننا لا نعرف كيف نوجهها. فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت، فهناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية، صالحة لأن تُستخدم في كل وقت؛ والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل المكون من ملايين السواعد والعقول، في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية. وليس يكفي أن نُنتج أفكارًا فحسب، بل يجب أن نوجهها طبقًا لمهمتها الاجتماعية الموحدة التي نريد تحقيقها.
توجيه الثقافة:
يقول “مالك بن نبي” يجب أن نحدد الثقافة بوصفها حركة مُستمرة (صيرورة)؛ فإن في التاريخ منعطفات هائلة وخطيرة يتحتم فيها هذا التعرف، والنهضة في العالم الإسلامي إحدى تلك المنعطفات، والثقافة من الأمور الأساسية التي تتطلب في إلحاح تعريفًا بل تعريفين:
الأول: يحددها في ضوء حالتنا الراهنة.
الثاني: يحددها في ضوء مصيرنا.
ويرى “مالك بن نبي” أننا ذلك الجيل الذي يُعد الحد الفاصل بين عهدين: عهد الكساد والخمول، وعهد النشاط والحضارة، وذلك يتطلب منا واجب تصفية عاداتنا وتقاليدنا وإطارنا الخلقي والاجتماعي مما فيه من عومل قتّالة لا فائدة منها، حتى يصفو الجو للعوامل الحية والداعية إلى الحياة. ولن يتأتى هذا إلا بفكر جديد، يُحطم ذلك الوضع الموروث عن فترة تدهور المجتمع، بالبحث عن وضع جديد هو وضع النهضة.
وهذا ما فعلته الحضارة الإسلامية، عندما قامت بعملية التجديد هذه من ناحيتها السلبية (التخلص من رواسب الماضي) والإيجابية (الوصل بالحياة الجديدة)، إلا أن الحضارة الإسلامية قد جاءت بهذين التجديدين مرة واحدة، وصدرت فيهما عن القراّن الكريم الذي نفى الأفكار الجاهلية البالية، ثم رسم طريق الفكرة الإسلامية الصافية التي تُخطط للمستقبل بطريقة إيجابية. وهذا العمل نفسه وفقًا لـ “مالك بن نبي” ضروري اليوم للنهضة الإسلامية.
وبالتالي يعرف “مالك بن نبي” الثقافة هنا على أنها “مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية، التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لا شعوريًا العلاقة التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه”، فالثقافة إذن تعكس حضارة معينة، ومقوماتها تنسجم جميعًا في كيان واحد، تُحدثه عملية التركيب التي تجريها الشرارة الروحية، عندما يؤذِن فجر إحدى الحضارات.
الحَرفيَّة في الثقافة:
يقول “مالك بن نبي” أن أحد أهم المُشكلات التي تواجه مُجتمعاتنا هو مُشكلة الشخص “المتعالم” أو “الحرفية في التعلم”، أو الشخص “حامل اللافتات العلمية” أي الشخص الذي الذي لم ير في الثقافة إلا المظهر التافه، لأنها عنده طريقة ليصبح شخصية بارزة، أو بالنسبة له علم يجلب رزقًا.
ورأى “مالك بن نبي” أنه لا عِلاج لهذا الشخص، لأن عقله لم يقنن العلم ليصير ضميرًا لأفعاله، بل لجعله اّلة للعيش وسلمًا يصعد به منصة البرلمان، وهكذا يصبح العلم مسخًا وعملة زائفة غير قابلة للصرف.
معنى الثقافة في التاريخ:
يوضح “مالك بن نبي” أنه لا يمكن تصور تاريخًا بلا ثقافة، فالشعب الذي يفقد ثقافته يفقد حتمًا تاريخه. والثقافة كما حددها “مالك بن نبي” لا تعد علمًا يتعلمه الإنسان، بل هي محيط يحيط به وإطار يتحرك داخله، فهى الوسط الذي تتشكل وتتكون فيه جميع خصائص المجتمع المتحضر، كما تتشكل فيه كل جزئية من جزئياته تبعًا للغاية التي يرسمها المجتمع لنفسه.
فالثقافة هي “تلك الكتلة نفسها بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة وعواطف متشابهة، وهي كل ما يعطي الحضارة سمتها الخاصة: من عقلية ابن خلدون وروحانية الغزالي. أو عقلية ديكارت وروحانية جان دارك. هذا هو معنى الثقافة في التاريخ.
معنى الثقافة في التربية:
يرى “مالك بن نبي” أن الثقافة ليست علمًا خاصًا لطبقة من الشعب دون أخرى، بل هي دستور تتطلبه الحياة العامة، بجميع ما فيها من أفكار وتنوع اجتماعي، إذ أن الثقافة هي الجسر الذي يعبره الناس إلى الرقي والتمدن، وهي ذلك الحاجز الذي يحفظ بعضهم الاّخر من السقوط من أعلى الجسر إلى الهاوية.
وبهذا المعنى فإن الثقافة في التربية هي “إطار حياة واحد يجمع بين راعي الغنم والعالم بما تفرضه عليهم مقتضيات مشتركة، وهي تهتم بكل طبقة من طبقات المجتمع فيما يناسبها من وظيفة تقوم بها. والثقافة أيضًا هي “بمثابة الدم في جسم المجتمع الذي يغذي حضارته، ويحمل أفكار الصفوة كما يحمل أفكار العامة، وكل من هذه الأفكار مُنسجم في سائل واحد من الاستعدادت المتشابهة، والاتجاهات الموحدة، والأذواق المناسبة.
التوجيه الأخلاقي
قَصد “مالك بن نبي” بـفكرة “التوجيه الأخلاقي”، تحديد قوة التماسك الضرورية للأفراد في مجتمع يريد تحقيق وحدة تاريخية، وهذه القوة مرتبطة في أصلها بغريزة (الحياة في جماعة) عند الفرد، ارتباطًاً يتيح له تكوين القبيلة والعشيرة والمدينة والأمة. وهذا مرتبط بقوله تعالي {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال:63).
كما رأى “مالك بن نبي” أن أي حضارة لا تتشكل بين يوم وليلة، ولكنها تتشكل وتتلون عبر السنين حتى تصبح على وضعها الراهن، وأن الخطأ الذي نقع فيه اليوم هو نظرتنا للمدنية الغربية في يومها الراهن فقط والتغاضي عن أمسها الغابر. حيث أوضح أن من أكبر مصادر خطئنا في تقدير المدنية الغربية هو النظر إلى منتجاتها وكأنها نتيجة علوم وفنون وصناعات، وننسى أن هذه العلوم والفنون والصناعات ما كان لها أن توجد لولا صلات اجتماعية خاصة لا تُتصور هذه الصناعات والفنون بدونها، فهي الأساس الخلقى الذي قام عليه صرح المدنية الغربية في علومه وفنونه، بحيث لو ألغينا ذلك الأساس لسرى الإلغاء على جميع ما نشاهده اليوم من علوم وفنون.
كما أكد “مالك بن نبي” إنه وإذا ما تتبعنا كل مظهر من مظاهر الحضارة الغربية؛ سوف نصل في النهاية إلى الروابط الدينية الأولى التي بعثت الحضارة، وهذه حقيقة كل عصر وكل حضارة.
ويرى “مالك بن نبي” أن روح الإسلام هي الذي خلقت من عناصر متفرقة كالأنصار والمهاجرين أول مجتمع إسلامي، حتى كان الرجل في المجتمع الجديد يعرض على أخيه أن ينكحه من يختار من أزواجه بعد أن يطلقها له كي يبني بذلك أسرة. فقوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام، وقوة التماسك هذه جديرة بأن تؤلف لنا حضارتنا المنشودة.
التوجيه الجمالي:
يرى “مالك بن نبي” أنه لا يمكن لصورة قبيحة أن توحي بالخيال الجميل أو بالأفكار الكبيرة، فإن لمنظرها القبيح في النفس خيالًا أقبح، والمجتمع الذي ينطوي على صور قبيحة، لابد أن يظهر أثر هذه الصور في أفكاره وأعماله، وربما هذا ما دفع من عنوا بالنفس الاجتماعية من علماء الأخلاق أمثال الغزالي إلى دراسة الجمال وتأثيره في الروح الاجتماعية، وخلصوا الى أنه لا يمكن تصور الخير منفصلاً عن الجمال. فللجمال أهمية اجتماعية كبيرة، فهو أحد أهم المنابع التي يصدر عنها الأفكار، وتصدر عنها بواسطة تلك الأفكار أعمال الفرد في المجتمع.
والإطار الحضاري وفقًا لـ “مالك بن نبي” بكل محتوياته مُتصل بذوق الجمال، بل إن الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة، فينبغي أن نلاحظه في أنفسنا، كما ينبغي أن نراه في شوارعنا وبيوتنا ومقاهينا.
المنطق العملي:
يقصد “مالك بن نبي” بالمنطق العملي كيفية ارتباط العمل بوسائله ومقاصده، حتى يسهل وضع مقياس له. حيث رأى “مالك بن نبي” أن العقل المجرد متوفر بكثرة في بلادنا، غير أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه شيء يكاد يكون معدومًا.
ورأى أن حل ذلك يتطلب الربط بين الأشياء ووسائلها وبين الأشياء وأهدافها، فسياستنا في –بلادنا العربية- تجهل وسائلها، وثقافتنا لاتعرف مثلها العليا وفكرتنا لا تعرف التحقيق. فعلى سبيل المثال قد يقال (إن المجتمع الإسلامي يعيش وفقًا لمبادئ القراّن، ومع ذلك الأصوب وفقًا لـ “مالك بن نبي” أن نقول؛ أنه يتكلم تبعًا لمباديء القراّن لعدم وجود المنطق العملي في سلوكه الإسلامي).
كما رأى إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً. فعلى الرغم من أن القراّن أمر المسلم بذلك في قوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (لقمان: 19)، وقوله {وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا} (الإسراء: 37). إلا أن الرجل المسلم للأسف ليس كالرجل الأوروبي في النشاط والعزم والحركة. فنحن حالمون وفقًا لـ “مالك بن نبي” وينقصنا المنطق العملي وطريقة التنفيذ والسعي.
التوجيه الفني أو الصناعة:
يعني “مالك بن نبي” بالصناعة -بالإضافة الى المفهوم الشائع لها- كل الفنون والمهن والقدرات وتطبيقات العلوم. ويرى “مالك بن نبي” أن الصناعة للفرد وسيلة لكسب عيشه وربما لبناء مجده، ولكنها للمجتمع وسيلة للمحافظة على كيانه واستمرار نموه. والتوجيه الفني هو الذي يتيح للفرد أن يلِج باب الحضارة.
ويؤكد “مالك بن نبي” على ضرورة تكوين الفرد الحامل لرسالته في التاريخ، فقد صار مؤكداً أن التركة الكبرى التي ورثنا عنها جيلاً من (المتعالين) وورثنا عنها التنافس على المقاعد الأولى يمكن أن نضع لها حداً إلا بتجديد الثقافة.
الأزمة الثقافية
رأى “مالك بن نبي” أن الأزمة الثقافية تنشأ كلما عمل المجتمع واجبه في السهر على سلوك الأفراد، أو عندما يقوم المجتمع بفرض قيود سواء على أساس ديني أو أساس دستوري، فذلك من شأنه أن يعمل على تدمير كل ما يقوم على تلك الأسس سواء كانت دينية أو علمانية، أي أنها تدمر البناء الاجتماعي.
وهذا كما يحدث عندما يفقد الفرد، مثلًا لأسباب سياسية، حقه في النقد، وهنا تنشأ أزمة ثقافية ماّلها أفول الحضارة. ثم يتبعها زوال الالتزام بين المجتمع والفرد.
فالأزمة الثقافية وفقًا لـ “مالك بن نبي” تنمو وتنمو معها أيضًا نتائجها، ويكون رد الفعل المجتمعي إما الاستسلام لواقع هذه الأزمة أو ثورة ثقافية عارمة تكون بمثابة انطلاقة جديدة للحياة الاجتماعية من نقطة الصفر. مثل الدفعة التي أعطاها “ماوتسي تونج” للحياة الصينية تحت اسم (الثورة الثقافية). وبين هاتين الحالتين، الاستسلام التام لـ (لواقع) والثورة العنيفة درجات من الخنوع والتقوقع والهروب من المسئولية، هي درجات الأزمة الثقافية التي يتخبط فيها المجتمع.
إن الأزمة الثقافية تكون في ذروتها إذا حرم الفرد منذ البداية مما نسميه (الجو) الثقافي، فالفرد عندما يُعزل عن المجتمع عزلًا كاملًا، لن تتكون لديه أية صلة اجتماعية. وسينشأ في بيئة لا يستطيع فيها التكيف مع أقرانه، وهذه أبشع صورة للأزمة الثقافية على مستوى الفرد لأنها تمس جوهره الإنساني.
أما الأزمة الثقافية للمجتمع فتتمثل في أزماته الاقتصادية والسياسية، فعدم تماشي القيم الثقافية مع السلم الاجتماعي للمجتمع؛ أمر يؤذن بأزمة ثقافية حادة، ويصبح من خلالها المجتمع عاجزًا عن حل مشكلاته داخليًا وخارجيًا، وبصورة أعم لا يستطيع التعايش دون عقد نفسية تعرض شخصيته للتلف أو كرامته للمهانة.
الفصل الثالث
تَعَايُش الثَقافات
سعى “مالك بن نبي” في هذا الفصل لعرض بعض الأفكار العامة عن إمكانية استحداث تركيب أوسع بين ثقافتين أو ثلاث، لهما حدود مشتركة على الخريطة، وعن إمكانية تعايش هذه الثقافات في صورة مشروع يُدرك في مستوى جغرافي سياسي. كما ناقش التعايش على محور طنجة – جاكرتا والتعايش على محور واشنطن – موسكو، مؤكدا أن الخلافات السياسية لا تعيق السير الحضاري لهذه التبادلات.
وقد تطرق “مالك بن نبي” لمؤتمر (باندونج) الذي انعقد في إبريل عام 1955، موضحًا أن هدف الذين ذهبوا للمؤتمر لم يكن السعي لحل مشكلة الثقافة، ولكن الأحداث ذاتها قد حددت معنى محاولاتهم، فإذا بمهمتهم وقد أصبحت تحقيق برنامج ثقافي معين في إطار الاجتماعات الإفريقية الاّسيوية.
وخلص “مالك بن نبي” إلى أنه، وفي حال إذا ما اعتبرنا أن مؤتمر باندونج كان هدفه التفكير في “مشكلة الحضارة” ومع اعتبار ما بين الحضارة والثقافة من ربط وثيق، سنصل إلى أن “أي تفكير في مشكلة الحضارة هو في جوهره تفكير في مشكلة الثقافة”. فالثقافة تقوم بالنسبة للحضارة بوظيفة الدم بالنسبة للكائن الحي، فالحضارة في جوهرها عبارة عن مجموع من القيم الثقافية المحققة. وإذن فمصير الإنسان رهن دائمًا بثقافته.
كما بينَّ أن “الثقافة الأفرسيوية”، لا يمكنها لأسباب مُختلفة أن تجد إلهامها الجوهري في مجرد نزعة معادية للاستعمار، تختفي باختفاء سببها وهو: الاستعمار، فيجب أن تبحث عن روحها الأخلاقي في مجموع من القيم الروحية والتاريخية التي تُقِرُها الشعوب الأفروسيوية بوصفها نوعًا من التراث، تجد فيه دليل الطريق وزادها، والمصدر الذي يغذى عبقريتها.
الفصل الرابع
الثَقافة في اتّجاهِ العَالميَّة
يرى “مالك بن نبي” أن للثقافة مجالين متمايزين، ينبغي عليها أن تواجه في كل منهما مُشكلات ذات طبيعة خاصة. فهي في أحدها يجب أن تمثل أسلوب الحياة في مجتمع معين وسلوك أفراده، وهي في الاّخر ينبغي أن تخلق إمكانيات اتصال وتعاون بين المجتمعات المختلفة.
ويجد “مالك بن نبي” أن مجال الثقافة في المجال الأول يتم بصورة تلقائية، لأن يقظة الضمير أمام المشكلات الداخلية أو العضوية تتم هي الأخرى بصورة تلقائية. أما يقظة الضمير أمام مُشكلات الاتصال بين المجتمعات ظلت غائمة زمنًا طويلًا. إلا أن التطور الذي أعقب الحربين العالميتين قد أبرز كثيرًا من المُشكلات بعيدة المدىبما أنشأ بصورة ما مجالاً ثالثاً هو المستوى العالمي، ربما تكون هذه المُشكلات هي الدافع الأساسي لنشأة “منظمة اليونسكو”.
إن مُشكلات العالم اليوم لا تهم نوعًا أو فئة واحدة من الناس في العالم، إذ أن مُشكلات الساعة اليوم واحدة هنا وهناك، وإن تكامل النوع الإنساني وسلامه قد أصبحا أهم ما يهم الفرد في القرن العشرين. ونتيجة لهذا اتحدت المهمات الأساسية التي يتحمل عبئها الجيل الحالي في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا.
فالمثقف المسلم نفسه مُلزم بأن ينظر إلى الأشياء من زوايتها الإنسانية الرحبة، حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي. وهذا الأمر لا يتوقف مُطلقًا على ظروف مادية كما يحسب الناس غالبًا في بلادنا، بل إنه يقوم على شروط أخلاقية، فهو يتم أولاً في الأفكار قبل أن يتم في نطاق الأشياء.
وضرب “مالك بن نبي” هنا مثال بـ “غاندي” في الهند، حيث لم يكن غاندي يتحرك في مستوى عالمي، وإنما كان يملك ضميرًا تراحب حتى وسع العالم، ولقد خول له هذا الضمير قدرًا من العالمية أكثر مما تخوله (الأقمار الصناعية) لأصحابها اليوم. فإذا بالهند التي ورثت عن غاندي مبدأ (عدم العنف)، قد أصبحت بفضل هذه الفكرة البسيطة أمة في الطليعة بالنسبة لمجموع المُشكلات التي تثيرها قضية السلام.
فهيبة الأمة قد تكفلها لها أحيانًا الأفكار، إذا ما تناغمت هذه الأفكار مع المرحلة التي تجتازها الإنسانية.
ووجه “مالك بن نبي” حديثه للمربين في البلاد العربية والإسلامية، بأن عليهم أن يُعَلّموا الشباب كيف يستطيعون اكتشاف طريقًاً يتصدرون فيه موكب الإنسانية، لا أن يعلموهم كيف يواكبون الروس أو الأمريكيين في طرائقهم. ولو أتيح لهم ذلك، فسوف يحتلون مقام الصدارة في الزحف نحو اتجاه جديد، نحو تقرير مصائر الإنسانية. فهناك نوعان من النماذج كانت مثالاً تاريخياً يضع حدود تعريف لثقافة ما:
-إما أن نعرف الثقافة باعتبارها وسيلة للإمبراطورية تتعامل بلغة القوة.
-وإما أن نعرفها باعتبارها طريقاً الى الحضارة وتتعامل بلغة البقاء.
في السياق ذاته، أوضح “مالك بن نبي” أن الحتمية الجغرافية تلعب دورًا في تشكيل الثقافة، إذ أن لكل ثقافة رقعتها حيث تكتشف منابع إلهامها، ولها مجال معين تُكون فيه وعيها للمشكلات، كما تجد فيه وسائل حل هذه المشكلات.
كما رأى أن افريقيا متحفًا هامًا للثقافة، لا ينبغي نسيانه عند تصنيف عناصر الثقافة، وخاصة ما يتصل بالقيم الأخلاقية والجمالية الإفريقية، التي لا يجوز إغفالها عند أي تخطيط للثقافة. وبيَّن أيضًا أن دراسة أي ثقافة يجب أن تُدرس في ضوء عنصرين محددين هما: مزاج الثقافة، ورقعتها.
أما المزاج؛ فبالنسبة لإفريقيا لا يمكن القول إن إفريقيا ستُمثل يومًا ما تهديدًا للغير، تحت شعار إمبراطورية عسكرية. فإفريقيا لا تملك في الواقع رصيدًا من القنابل الذرية، ولا صناعة ثقيلة لإنتاجها، وإذن فمن غير الممكن أن تسطر مُشكلاتها بلغة القوة، وإنما العكس من ذلك سوف تسطرها –بقوة واقعها- بلغة البقاء. وبالتالي فإن المزاج الإفريقي لا يحمل أية عقدة من نوع إمبراطوري، وليس في صدره أية نواة لإرادة قوة تأتي بثقافة إمبراطورية، وإذن فنحن من أول خطوة أمام ثقافة حضارية.
أما الرقعة؛ فتتمثل في الحدود التي يجب أن نضعها للثقافة الإفريقية، تلك الحدود التي في داخلها سوف تجد منابع إلهامها من ناحية، كما تجد فيها الأعمال التي ينبغي أن تقوم بها.
وفي الوقت الذي لم يعد فيه الضمير الإنساني في القرن العشرين يتكون في إطار الوطن أو الإقليم، بل يتكون في ضوء الحوادث العالمية التي لا يستطيع أن يتخلص من تبعاتها، فإن مصير أي جماعة إنسانية يتحدد جزء منه خارج حدودها الجغرافية. فالثقافة وفقًا لـ “مالك بن نبي” باتت تتحدد أخلاقيًا وتاريخيًا داخل تخطيط عالمي، وبالتالي فإن الثقافة الإفريقية لكي تصبح ثقافة عالمية يجب أن تميز بين الأعمال التي تتصل ببناء حضارة إفريقية، وتلك التي تبعث بإشعاع تلك الحضارة خارج حدودها.
كما رأى “مالك بن نبي” أن المهام التي ينبغي أن تواجهها الثقافة الإفريقية داخل هذا التخطيط فإنها تتألف من قضايا ثلاث هي:
- الارتفاع بمستوى الرجل الإفريقي المتحرر من الاستعمار الذي خلفه القرن التاسع عشر، إلى مستوى الحضارة.
- الارتفاع بالرجل المتحضر الذي لا يزال ضميره مُلطخًا بإثم الاستعمار إلى مستوى الإنسانية.
- إدخال الشخصية الإفريقية في المسألة الرئيسية للسلام.
وحتى تستطيع النخبة الإفريقية أن تقوم بدورها الحضاري على أتمه، فإن عليها أن تدرك بدقة وضعها الحالي، إذ أنها تجد نفسها أحيانًا منفصلة عن وسطها، فإن المثقف الإفريقي الذي كونته باريس ولندن، هو في أغلب الأحيان أوثق اتصالًا بمنشأ ثقافته منه بمنشأ حياته.
كما يرى “مالك بن نبي” أن ما يمكن لأفريقيا أن تقدمه للعالم ربما ليس العلم، ولا صناعة القنابل الذرية، بل إن ما ينبغي أن تقدمه إفريقيا لخدمة السلام هو الضمير. وبالتالي وجب على إفريقيا وفقًا لـ “مالك بن نبي” أن تضع مُشكلة السلام من بين المهام الرئيسية التي تضطلع بمواجهتها. واختتم “مالك بن نبي”هذا الفصل، بالتأكيد على أنه إذا ما كُتب للثقافة الإفريقية تحقيق ذلك، فإن من حقها على التاريخ أن تحظى لديه بلقب (ثقافة كبرى)، لأنها تكون حينئذ قد أسهمت في تشييد عصر إنساني شامل في العالم.
الفصل الخامس
ما ضد الثقافة
كُتب هذا الفصل في عام 1959، حيث كان العالم يمر بفترة من الانفراج النسبي، وفي الوقت أيضًا الذي تسارعت فيه عملية تصفية الاستعمار في العالم الثالث، وسارعت الدول الأفروسيوية المستقلة للاجتماع في (باندونج)، مٌحققة وعيها لحقوقها وواجباتها في العالم، ولتضع ثقلها بأكمله في الميزان تحت شعار عدم الانحياز.
ومن هنا رأى “مالك بن نبي” أن أفضل وسيلة لإدخال إنسان العالم الثالث، والإنسان الإفريقي على وجه الخصوص، في تلك الاّفاق البارزة، أن ندعوه إلى المشاركة في تحقيقها في الإطار السياسي والأخلاقي والاجتماعي. خاصة وأن العالم الثالث نزع نحو الإغراق في تخلفه أكثر فأكثر، حيث تبين مع مرور السنوات أن:
- الرجل المتحضر قد أصبح أكثر همجية، فمستواه الأخلاقي قد انخفض بشكل ملحوظ.
- الإنسان الإفريقي لم ير مستواه الاجتماعي قد ارتفع إلى ما كان يأمل أن يرتفع إليه.
جـ. أن السلام –تلك الفكرة المهيمنة، والموضوع المحوري لباندونج- هو اليوم كما لم يكن في يوم مضى في ظل لغة السلاح.
كما رأى “مالك بن نبي” أن الإنسان الإفريقي في المرحلة الحاضرة من تطوره، لا يستطيع أن يدعي دور الموجه للإنسان المتحضر، ليرفعه إلى مستوى (الأخلاق الإنسانية). كما رأى أنه إذا ما تخلت ثقافة أو قصرت عن رفع المستوى الاجتماعي للفرد، فإنها لن تكون ثقافة، وستسقط في المعنى الأدق للكلمة في وهدة (لا ثقافة)، وقد تصطبغ بشيء من الغرابة أو الاغتراب، وقد تصطبغ بلون محلي فولكلوري.
ورأى “مالك بن نبي” أن إفريقيا تتمتع بقيم نبيلة كالخير والحماس والأخلاق والجمال ونقاء روحها وعفويتها، وعميق مخزونها البكر من روحها والقيم النافعة. لكن تلك الثروة الثمينة معرضة للأخطار، فنحن وفقًا لـ “مالك بن نبي” في عالم ما زال ملطخًا بخطيئة الاستعمار إزاء أولئك المشغوفين بـ (ثقافة السيطرة)، ولا يريدون أن يتيحوا للشعوب التي خرجت حديثًاً من رِبقة الاستعمار إمكانية تحقيق (برنامج ثقافة) ولا أن يحافظوا على (لا ثقافتهم) بكرًا لا يمسها سوء.
كما وضح “مالك بن نبي” أن هناك مشاريع حقيقية لما هو ضد الثقافة، تولد تحت الأشكال والعناوين كافة، لتجهض بالوسائل المصطنعة أخلاقيًا وفكريًا البرامج التي تنمو في إطارها كل تلك القيم النبيلة.
الأمر الآخر والذي هو ضد الثقافة نابع من داخلنا، وهو ما يتمثل في كل محاولة لتحجيم القيم الثقافية لتتلائم مع إطار ثقافة أخرى، وينبغي أن ننقي مفهوم الثقافة من أي تراكمات قد تشوهه. فالثقافة يجب أن تُعبر عن روح المجتمع وليست فولكلورًا يتفق بما يناسب ذوق عصر معين أو فئة معينة، فالثقافة أسلوب حياة، وهي الأسلوب المشترك للمجتمع بأكمله.
خاتمة
استهدف “مالك بن نبي” من تناوله لموضوع “مُشكلة الثقافة” أن يُلم القارئ العربي في نظرة واحدة بمشكلة الثقافة من جوانبها الكلاسيكية، كي يُدرك العناصر الأولية في الثقافة إدراكًا أكثر عُمقًا. كما أراد “مالك بن نبي” من الحديث عن “الثقافة الإفريقية”؛ تبيان أن الثقافة العربية الإسلامية يمكنها أن تقوم بهذا الدور الثقافي في العالم، لأنها قد قامت به في الماضي بالفعل، عندما كانت تهدي بإشعاعها من مراكزها في القاهرة وبغداد وقرطبة موكب التقدم الروحي والعقلي للإنسانية. ورأى أنها قادرة وجديرة اليوم بأن تنهض بدورها بصفتها “ثقافة كبرى” في العالم. وإذا ما أدرك المثقف العربي المُسلم مُشكلة الثقافة من هذه الزاوية، فسوف يمكنه أن يُدرك حقيقة الدور الذي يُناط به في حضارة القرن العشرين.
عرض:
أ. أحمد محمد علي*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ماجستير في العلوم السياسية. جامعة القاهرة.