مكانة علم الأخلاق في التراث العربي والإسلامي

مكانة علم الأخلاق في التراث العربي والإسلامي

سجال النفي والإثبات*

د. حيدر العايب[1]

مفتتح استشكالي:

من الأسئلة التي تتقدم إشكاليات الخطاب الأخلاقي الإسلامي هي مدى حيازة هذا التراث على فلسفة أخلاقية نظيراً للثقافات الأخرى، فعلم الأخلاق الذي يعدّ فناً وصناعة فلسفية ترتبط بكلا البعدين النظري والعملي من الخطاب الفلسفي، قد يجري سحبه (ها) عن التراث الإسلامي بتهمة أنّ طابعه الأخلاقي ذو صبغة عملية لا فلسفية عقلانية، فهي بلا منهج، وهي إلى الوعظ والإرشاد أقرب منها إلى الاستدلال العقلي، حتى جاز عند بعضهم نعتها بالأخلاق “الكلاسيكية”[2]. أو لأن الدّراسات الأخلاقية في المنظومة الإسلامية وعلومها لم تخرج من إطار علم الفقه ورجال الدّين والتصوف، فغلبة الفتوى والوعظ الدّيني على الحكم الأخلاقي مؤشر واضح عن صحة هذا الادعاء[3].

لذلك ما من مهتم بالفكر الأخلاقي العربي والإسلامي إلاّ وينطبع في ذهنه سؤال رئيس مفاده “إلى أيّ مدى يمكن الحديث عن نظريّة إسلاميّة في الأخلاق”؟ هذا الاستفهام لا ينفك عن سابقيه، من قبيل؛ هل هنالك فلسفة إسلاميّة؟ وهل هنالك نزعة إنسانيّة إسلاميّة؟ وهل هنالك تنوير أو حداثة إسلاميّة؟.

هي أسئلة استفهاميّة أخذت طابعاً استنكارياً بالغالب، تعبّر عن إدانة أكثر من اعتراف بأحقيّة التّراث الإسلامي في إرساء أنماط من الفلسفة والحداثة الإنسانيّة بما في ذلك الصّناعة الأخلاقيّة، برؤى مخصوصة. لذلك يُعد في رأي هؤلاء المنكرين أنّ الحديث عن فلسفة أو نظريّة أخلاقيّة إسلاميّة مجرّد ادّعاء وأمل في معدوم.

تفاعلاً مع الإشكاليات المطروحة، اقتضت الدراسة توزيع الموضوع على الاهتمامات الآتية:

القيم والقيم الأخلاقية؛ ضبط للمفاهيم؛ بسطنا فيه تحليلاً مفاهيمياً للمصطلحات الثلاثة، الأخلاق والقيم، وكذا الأدب. وذلك بعرض الجدل الحاصل حول تلك المفاهيم وأيهما الأصل وأيهما الموروث، وفي أيّ سياق يكون أحدهما الأنسب من الآخر، بل والكشف عن وجود خلفيات معرفية وحتى أيديولوجية عند من يستأثر بأحدهما دون الآخر.

شبهات ثلاث؛ كان تقصياً لأهم الادعاءات التي تعرض لها علم الأخلاق الإسلامي ثم الرد عليها، وهي تنحصر في الغالب في الإنكار على المسلمين والعرب عدم عنايتهم بعلم الأخلاق، وأنّ الأخلاق الإسلامية هي من جنس العلوم الفقهية وليست بفلسفة للأخلاق، ثم أنّ فلسفة الأخلاق المتوافرة عند المسلمين منحولة من التراث الإغريقي خاصة في شقه الأرسطي.

مكانة علم الأخلاق راهناً؛ ينهض هذا العنصر بالبحث في مسألة عودة الاهتمام بالفكر الأخلاقي عند المفكرين العرب والمسلمين المعاصرين، وذلك بعد القطيعة التي عمرت لقرون طويلة بين المسلمين وتراثهم الأدبي والفلسفي الخلاق.

عودة النقاش الأخلاقي بين الفضاءين الغربي والإسلامي؛ وهو سؤال يتضمن مقارنة بين الفكرين الإسلامي العربي والغربي في اهتمامهما المشترك بالفكر الأخلاقي، والرد على ادعاء أنّ اهتمام المسلمين المعاصر بالفكر الأخلاقي هو تقليد لنظرائهم في الغرب، وهو ادعاء يعود للجابري بشكل خاص، حيث بيّنا فيه وجود مشاكلة بين السياقين الإسلامي والغربي، بله وأسبقية الأخير على الأول، غير أنّ الأسباب التي حملتهما على الاهتمام بالفكر الأخلاقي ليست واحدة، ذلك أنّ لكل سياق أزماته الحضارية؛ فأزمات العالم الإسلامي والعربي هي أزمات ما قبل الحضارة، بينما أزمات العالم الغربي هي أزمات ما بعد الحضارة.

أولاً: القيم والقيم الأخلاقية؛ ضبط للمفاهيم:

ليس الهدف من وراء هذا الطرح المفاهيمي مجرد العرض والتحليل، وإنّما الأمر يتجاوز التوظيف الاصطلاحي ليضرب بجذوره في عمق التوظيف الأيديولوجي وصراع الأنظمة القيمية في فترة من فترات تاريخ الفكر الأخلاقي العربي. فليس يخفى مدى الالتباس والتضارب المفهومي الذي يجعل الأمر قريباً من فتنة مفهومية تهزّ أركان ميدان الأخلاق، الوضع الذي أشار إليه طه عبد الرحمن بقوله: “لعله ليس في أبواب الفلسفة المعاصرة باب حملت مفاهيمه وأحكامه من مظاهر الاشتباه والاختلاط ما حمله باب الأخلاقيات”[4]. وإن كان يقصد بكلامه هذا الاضطراب المفاهيمي في علم الأخلاق الغربي. فإنه على التحقيق ينطبق قليلاً أو كثيراً على تراثنا الإسلامي والعربي.

  • القيم من المصطلح إلى الرؤية: لغوياً، القيم جمع قيمة، وشيء ما ذي قيمة بمعنى كونه مفضلاً عند الآخرين، وذلك لاعتبارات نفسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو أخلاقيّة أو جمالية[5]. وقيمة الشّيء من الناحية الذّاتية، الصفة التي تجعل ذلك الشّيء مطلوباً ومرغوباً فيه عند شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص، كالنّبل في نظر الأرستقراطي. بخلاف قيمته الموضوعيّة، ما يتميز به الشّيء من صفات تجعله مستحقاً لتقدير نسبي[6]. إلاّ أنّ دلالة القيم تاريخياً شهدت على ما يبدو انعطافاً من المجال العسكري القديم (الشجاعةVaillance ) إلى الاقتصاد السياسي مع آدم سميث (Adam Smith)، وصولاً للتوظيف الأخلاقي (Axiologie) للمصطلح، وقد كان لنيتشه الفضل في ذلك[7].

مدلول القيمة في سياقه القيمي سيكتسي قيمة مضافة قد ترتبط بالأقوال (أي المعرفة عبر قيمتي الصواب والخطأ)، والأفعال (الأخلاق عبر قيمتي الخير والشّر)، وكذا الأشياء (الفنون عبر قيمتي الجميل والقبيح). وقد تختزل دلالة القيم في الفعل (الفعل الأخلاقي المباشر) وانفصام ارتباطها بالنّظر (التأمل العقلي)[8]، ولئن كان مثل هذا التقسيم قد درجت عليه مختلف الدّراسات الفلسفيّة التاريخية، فإنّ ذلك التصنيف من شأنه توريث انطباع سلبي مشين، أبرزه اقتطاع تلك المجالات أو الأبعاد المعرفية والأخلاقيّة والجمالية عن بعضها البعض؛ في حين أنه يمكن الحكم على ما هو قولي/ معرفي بقيمتي الخير والشّر، بل وقد يكون ما هو صائب في المعرفة شر من الناحية الأخلاقيّة. الأمر ذاته بالنسبة للفن، فما قد يتم عرضه كفن لا يمنع الحكم عليه بقيمتي الخير والشّر، وقد يكون ما هو جميل فنياً شراً من النّاحية الأخلاقيّة.

نجد في الفكر الإسلاميّ المعاصر من عمل على مساءلة مفهوم القيمة مستأنساً بالنّص القرآني الكريم، مثل ما فعل فتحي حسن ملكاوي الذي لاحظ أنّ استعمال مصطلح “القيم” أولى من استعمال مصطلح “الأخلاق”. فالقيم وردت مشتقاتها في القرآن الكريم حوالي 659 مرة؛ مثل: قام، وأقام، وقيوم، استقام، مستقيم، قيامة، قوم،”هذا كلّه دال على أنّ الكون كلّه قائم على نظام تتقوم به عناصره وظواهره، وأنّ حياة الإنسان في الكون تتقوم بمنظومة من القيم تحدد تصوراته وعلاقاته وأعماله الظاهرة والباطنة”[9].

مفهوم القيمة في القرآن الكريم يرتكز على أربعة مجالات من الدّلالة تتضافر في إعطاء القيمة الكلّيّة لدلالة القيمة في الاصطلاح القرآني: الوزن والفائدة والثمن والخيرية؛ فالأمر الذي لا قيمة له لا وزن له ولا فائدة فيه، أما الأمر الذي فيه قيمة فهو الأفضل والأكثر خيراً، يقول الله U: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف: 105]، كذلك الثبات والاستقرار والتماسك؛ لقوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) [الدّخان:51]. أيضاً المسؤولية والرعاية؛ فالقائم على الأمر مسؤول عن رعايته وإدارة شؤونه لقوله U: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) [النساء: 34]، وقوله تعالى: (اللَّهُ لا إِلَٰهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة: 52]، الاستقامة والصلاح: يقول تعالى: (وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا) [الجن:16].

في نظر ملكاوي أنّ مصطلح “القيم” في التراث الإسلامي جرى تغييبه لصالح مصطلحات أخرى منها: الفضائل، والآداب، الأخلاق، الشمائل. مبرره في ذلك أنّ الفلسفة الإسلاميّة جعلت من التراث اليوناني مرجعاً لها في حين أنّ “القيم” لفظ أصيل في القرآن الكريم.

وإلاّ فمن اللازم جعل الأخلاق تابعاً والقيم أصلاً فـ “إذا كانت الأخلاق وصفاً لسلوك الإنسان، فإنّ القيم معايير لتقويم هذا السلوك، فالإنسان سلك سلوكاً أخلاقياً معيناً، لأنه يتبنى قيماً محددة”[10]. فالقيم بذلك تختلف عن الأخلاق في أنّ الأولى تعد بمثابة قواعد ومعايير، أما الثّانية فهي صفة تطلق على الأفعال والسلوكيات، فالأولى ميزان للثانية.

إلاّ أنّ المعيار هاهنا يتجاوز فيما يبدو دلالة القانون الأخلاقي أو المبدأ، فما تمتاز به القيم من قوة معنوية يجعلها كفيلة لتمثِّل رؤية وأنموذجاً يحكم فضاء الممارسة الإنسانية بما فيها القوانين والمبادئ الأخلاقية، فالمعيار في مثل هكذا وضع يعدُّ معيار المعيار ومبدأ المبدأ. هذا ما يعكسه ضبط كل من الجابري وسيف الدين عبد الفتاح لدلالة القيم، عندما يصف الأول القيم بأنها نظام وجمعها نظم (systèmes) وليس منظومة جمعها منظومات (ordres) باعتبار الأول أعم من الثاني زيادة على مراعاة الترتيب بين عناصره، ما يخولنا الحديث عن قيمة مركزية وأخرى تابعة فرعية تنتظم حولها[11]، كما يصفها الثاني بكونها “أحد المفاهيم الحضارية الكبرى أو مفاهيم المِظَلة التي تشتق منها مفاهيم فرعية، تعمل ضمن نسق من شبكة القيم، وشبكة المفاهيم، وشبكة المعتقدات”[12]. وأنّ الأخلاق فرع من أصل، أي فرع من القيم، لذا فـ “القيم ليست الأخلاق فقط؛ فالأخلاق منظومة مهمة ضمن منظومة القيم الكلية”[13].

  • الأخلاق والأدب: لئن كانت القيم معاييراً للسلوك ومحكِّمات لها، وإن جرى الحديث عن قيم الخير وقيم الشّر في الأخلاق، وقيم الصحيح وقيم الخطأ في المعرفة، وقيم الجمال وقيم القبح في الفنون، فإنّ الأخلاق هي صفة للفعل والسّلوك الإنساني، يقال عنها أفعال محمودة لتخريجها على مقتضى قيم الخير، أو أفعال مذمومة لمجانبتها قيم الخير وتطرفها إلى قيم الشّر، فكان لفظ الأخلاق عامّاً، فيه ما هو خير يعلو بفاعله درجة، وفيه ما هو على خلاف ذلك فيدنو به دركة. أمّا لفظ الأدب فهو مصطلح جامع ودال حصراً على الحسن والإيجابي والحميد من الأفعال. فقد جاء في “درر السلوك” لصاحبه الماوردي ما نصه: “اعلم أنّ الإنسان مطبوع على أخلاق قَلَ ما حُمدَ جميعها، أو ذُم سائرها، وإنّما الغالب أنّ بعضها محمود وبعضها مذموم. قال الشاعر:

وما هذه الأخلاق إلاّ طبائع ….. فمنهن محمود ومنهن مذمم”[14].

كما جعل الماوردي في ذات الكتاب عنواناً فرعياً وسمه بـ “إصلاح الأخلاق المذمومة بالتأديب”، ما يعني أنّ هنالك من الأخلاق ما يحتاج إلى صقل وتهذيب بالتأديب، يقول “وليس يمكن إصلاح مذمومها بالتسليم إلى الطبيعة والتفويض إلى النَّحيزة (=الطبيعة، الغريزة، السليقة)، إلاّ أن يرتاض لها رياضة تأديب وتدريج، فيستقيم له الجميع، بعضها خلق مطبوع، وبعضها تخلق مسموع، لأنّ الخلق طبع وتكلّف. قال الشاعر؛

يا أيها المتحلي غير شـيمته …. ومن سجيته الإكثار والمَلَقُ

عليك بالقصد فيما أنت فاعله …. إنّ التخلق يأتي دونه الخلق”[15].

من كلا المقتطفين يكون جلياً أنّ الأخلاق، منها ما هو في حالة الطبيعة دون تهذيب، ومنها ما هو في حالة الثقافة على خلاف الأوّل، لذلك فهي لفظ جامع لمكارم الأفعال ومذمومها. عدا الأدب/ التأديب الذي يعد صناعة تنقل الأفعال من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة، فكان لفظاً مخصوصاً على الأفعال الحميدة، لذلك نجد في “الكليّات” أنّ “كلّ رياضة محمودة يخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل فإنّها يقع عليها الأدب”[16].

  • الأدب وسلطان البيان: غير أنّ هنالك ملحوظة أثارها الجابري، وهي فيما يبدو مشكلة تراثية تصدى لها العامري قديماً، حيث كتب الجابري توصيفاً منه للإشكال الذي يثيره لفظ “الأدب” في الثقافة العربية المعاصرة ما نصه: “ثار من النقاش حول كلمة “أدب” ومعانيها المختلفة وأصل اشتقاقها خاصة في العصر الحديث ما لم يثر حول كلمة “أخلاق”[17]، ومرد ذلك في نظره لسببين اثنين؛ الأول، أنّ لفظ الخُلقِ ورد في القرآن الكريم مما لا يدع الشك في أصله ومصدره، على خلاف لفظ “الأدب” الذي لم يأت ذكره في القرآن الكريم. أما السبب الثاني، أن هنالك سلاسة يظفر بها الانتقال من “الخلق” بمعنى الهيأة التي تكون عليها النفس، إلى “الأخلاق” بمعنى الصفات والخصال التي تُسمى بها تلك الهيأة، إلى “علم الأخلاق/ أو صناعة الأخلاق” كمبحث منهجي منتظم. وذلك كله بخلاف “الأدب” الذي تعددت معانيه ومجالات استعماله حسب العصور ما يجعله محل نقاش حول الأصل اللّغوي للكلمة وتاريخها وأي مجال يضفر بها (هل هو مجال التصوف، أم الموروث العربي، أم الفارسي)[18].

مبرره في ذلك أنّ بعض الأجناس الأدبية كـ “فن الخطابة” و”فن الترسل بما هو تكلف في الخطابة”جاءت خدمة لتكريس قيم الطاعة خلال العهد الأموي، لأنها تعرض أخلاق الطاعة في جنس بياني وبرهاني يزيد وقعه في نفوس المستمعين للخطب في الأسواق وعلى منابر المساجد[19].

المشكلة ذاتها أثارها فهمي جدعان، فالأدب عند الأخير يقصد به على وجه الخصوص أدب اللّسان، يقول: “الأدب نفسه بمعناه الاصطلاحي القديم، أي جملة التجليات المعرفية والأخلاقية والمعاملاتية الخاصة والعامة، قد اكتسى هو أيضاً بكسوة “البيان” وإهابه السحري أو الساحر و”بقوة الكلمة” […] وفي أيامنا هذه يستحوذ الأدب على الفكر نفسه”[20]. فتأديب اللّسان على البيان هو أحد تجليات إرادة قوة الكلمة على الفكر، والبيان على البرهان. بل وسيضحى قوة تدميرية رهيبة ليس للعقل فقط، بل والفعل كذلك، ذلك أن الكلمة لها مركزية في المخيال العربي، ولئن تفطَّن ابن رشد قديماً إلى دلالة القول الشعري كدليل غير برهاني وضعيف، إلاّ أنّه لم يتفطن من أن سلفه وخلفه قد حولوه إلى فعل حقيقي خيالي أو متوهم، مع إضفاء القوة المادية المشخصة عليه، ما جعله أحد الفواعل الأساسية للتدمير، ليس فقط تدمير مبدأ العقل، بل ومبدأ الفعل أيضا[21].

ولأنّه كما ذكرنا أنّها مشكلة تراثية تصدى لها العامري، فذلك لأنّ الأخير كتب ما نصُّه: “ثم وجدنا طائفة من النّسّاك يعيبون الآداب، فيزعمون أن المشغُوف باقتنائها لن يكون إلاّ أحد رجلين: إمّا رجل همّته المدح باللّسن والفصاحة. أو رجل يتحلّى بها عند الأشراف والأجلّة؛ تدرّجاً برونقها إلى النّفع والرتبة”[22]. ووجه بطلانهما في نظر العامري، أنّ كلاهما مخدوع عن التّمسك بالعبادة أو التطلب للحكمة. لأنّ صناعة البيان سابقة على الآداب. وأن ليس ما يُعاب في البيان، وأن ليس المـُراد من الاتّساع في اللّغة حسن الفصاحة، بل الوصول إلى الكلام المنطبع كالشعر والخطب والرسائل والأمثال، وهي على حد تعبيره من جنس الكلام الحيّ[23].

ولأنّ مصطلح الأدب تندرج ضمن عائلته المفهومية؛ التهذيب بالمجاهدة، والسلطة، والطاعة. وما يتطلبه من مجاهدة وتوجيه وشيخ موجِّه وطالب متعلم مطواع لشيخه، يخلص الجابري إلى الحقائق التالية؛ الأدب لفظة عرفها العرب بعد ترجمة الموروث الفارسي ولقيت استقبالاً كبيراً من طرف الموروث الصوفي، حتى وإن عرف ذينك الموروثين (الفارسي والصوفي) كلمة “الأخلاق” فلا يزيد ذلك عن كونه مجرد استعمال لغوي، إذ الشائع في ترجمة النص الفارسي هو “الأدب”. في مقابل ذلك لا يرد لفظ الأدب بمعنى الأخلاق في الموروث اليوناني، إذ الشائع في الترجمة العربية للنص اليوناني هو الأخلاق. أما الموروث العربي الخالص فقد آثر هو الآخر مصطلح الأدب، مع وجوب التمييز بين “أدب اللسان” وهو الأصل، و”أدب النفس” كنتيجة، الأول بمثابة غذاء للعقل والثاني مفعول ذلك الغذاء. أما الحال مع الموروث الإسلامي الخالص فتبقى المراوحة بين كلا اللفظين الأدب والأخلاق وذلك بنوع من التخصص، إذ تَرِد لفظة الأدب عندما يتعلق الأمر بالآداب الشرعية (آداب الوضوء، آداب التلاوة، وآداب الصدقة، وآداب الصلاة)، لما تتطلبه من تمرن ومجاهدة، بينما يَرِد لفظ الأخلاق عندما يتعلق الأمر بالمحمود والمذموم من السلوك[24].

ثانيا: الأخلاق النظرية والأخلاق العملية:

من الناحيتين المنهجية والمضمونية، نميّز في علم الأخلاق بين ضربين من الاشتغال الأخلاقي، هما الأخلاق النظرية في مقابل الأخلاق العملية، وتفصيل الفارق بينهما هو كالآتي:

  • علم الأخلاق العملي: ويبحث في أنواع الملكات الفاضلة التي ينبغي على الإنسان أن يتحلى بها ويمارسها في حياته العملية اليومية، وذلك مثل الصدق والإخلاص والأمانة والوفاء والعفة والشجاعة والعدل والرحمة ونحو ذلك. وهذه كلها تمثل أنواعاً من الأفعال لها مثال في الخارج. وقد عرفت كل الأمم والشعوب في القديم والحديث هذا النوع من الأخلاق العملية.
  • علم الأخلاق النظري: ويبحث في المبادئ الكلية التي تستنبط منها الواجبات الفرعية “كالبحث عن حقيقة الخير المطلق وفكرة الفضيلة من حيث هي، وعن مصدر الإيجاب ومنبعه، وعن مقاصد العمل البعيدة وأهدافه العليا ونحو ذلك “من الموضوعات التي سبقت الإشارة إليها[25]. ويطلق على هذا القسم أيضاً فلسفة الأخلاق. وعلاقته بعلم الأخلاق العملي كعلاقة علم أصول الفقه بعلم الفقه، فموضوعه ليس هو أنواع الأفعال التي لها مثال في الخارج كما هو الحال في علم الأخلاق العملي، وإنَّ موضوعه هو “جنس العمل المطلق وفكرته المجردة التي لا يتحقق مسماها خارجاً إلاّ في ضمن الأنواع التي يبحث عنها العلم العملي” تلك الأنواع التي تعتبر بمثابة وسائل لتحقيق الغايات التي يبحث عنها العلم النظري والتي تتمثل في الخير المطلق أو الفضيلة الكلية[26].

من الواضح أن علم الأخلاق العملي يهتم أساساً بالسلوك الفردي والجماعي، وقد يندرج ضمنه البحث في عادات الناس وتقاليدهم، إنّه يشكل نوعا من “علم النفس الأخلاقي” على المستوى الفردي، أو “الأنثروبولوجيا الأخلاقية” على المستوى الجماعي، ومنهجه في ذلك “منهج وصفي”. بينما يميل علم الأخلاق النظري لأن يكون أكثر تجريداً لأنّ موضوعه المفاهيم الأخلاقية الكلية، مُؤسِّساً نوعاً من “الميتا-أخلاق”. ومنهجه “تحليلي” في الغالب. وإذ هو كذلك، فإنّ ما يحمل بعض الأطراف على التحامل على التراث الإسلامي بعدم حيازته على علم أخلاق نظري مرده أساساً للتشكيك في قدرة العقل الإسلامي على التفكير التأملي والتشكيك في قدرته على الخوض في الكليات المجردة.

ثالثا: شبهات ثلاث:

التصقت بالتراث الفلسفي الإسلامي العديد من الشبهات التي حاولت التدليس على هذا التراث والتقليل من قيمته العلمية وحضوره التاريخي ضمن التراث الإنساني ككل، تلك الشبهات ألصقتها به في الغالب بعض دوائر الاستشراق المعادية للتاريخ والعقل الإسلاميين؛ كأن تنكر تلك الدوائر أصالة الفكر الفلسفي الإسلامي وترى فيه انتحالاً للتراث الفلسفي اليوناني، أو ادعاء أنّ النص القرآني حال بين العقل الإسلامي وبين حريته في التفكير لكون ذلك النص قدم للمسلمين إجابات جاهزة عن أسئلة الوجود الكبرى؛ الله، والإنسان، والكون، والمأتى والمصير، فهو بذلك عقل لم يكلف نفسه عناء البحث في تلك القضايا، وذلك بخلاف العقل اليوناني الذي كان أكثر حرية وأكثر جرأة في التصدي لها. كذلك شبهة إنكار إنسانية ما أنتجه العقل الإسلامي واعتباره محض لاهوت ديني، متحججين بتقدم العلوم الدينية وأفضليتها على حساب العلوم الأخرى لأن المعهود في تصنيف المسلمين للعلوم أن شرف العلم من شرف معلومه، حتى العلوم غير الدينية فقد وُضعت لخدمة الدين أساساً، فالعلوم اللغوية وضعت لفهم وتفسير النص القرآني، والعلوم الرياضية والفلكية وضعت لضبط مواقيت العبادات اليومية والمناسبات الدينية. وغيرها من الادعاءات.

وليس التراث الأخلاقي الإسلامي بمنأى عن تلك الادعاءات، وعليه لم يعد من المستغرب اعتقاد بعضهم من أنّ الدّرس الأخلاقي لم يأخذ نصيبه بما يكفي من العناية في المنظومة الفكرية الإسلامية[27]، وإن وجدت فهي أحد أمرين؛ الأول إما أنها أحكام فقهية ناجزة لا تصدر من معين النقاش الأخلاقي الفلسفي بقدر ما تُقرُّها سلطة الفقيه، دليل ذلك غلبة الدراسات الفقهية على الدراسات الأخلاقية، وتقديم حكم الفقيه على رأي الفيلسوف، وأن الحضارة الإسلامية حضارة نص، وكأن هنالك تعارضاً بين الفقه وعلم الأخلاق، أو أنها أخلاق عملية وعظية لا نظرية فلسفية. بينما يعتقد الثاني في أن المسألة الأخلاقية في المجال التداولي الإسلامي لم تخرج عن إطار التناول اليوناني الأرسطي على نحو خاص للأخلاق ولواحقها الفضيلة والنفس والعدالة… ما يجعله ينكر وجود أخلاق إسلامية خاصة، تختلف عن الطرح الأخلاقي اليوناني استشكالاً واستدلالاً[28].

  • درء شبهة “إنكار علم للأخلاق” في التراث الإسلامي:

إن القراءة الموضوعية لبعض ما ألفه الفلاسفة المسلمون في مجال الأخلاقيات يحيل من غير ما شك إلى تفنيد ادعاء أن الدرس الأخلاقي لم يأخذ نصيبه بما يكفي في المنظومة الفكرية الإسلامية[29]؛ ذلك أنّ من النصوص التراثية ما يثبت خلاف ذلك، ليس في التأكيد على وجود فلسفة أخلاقية وفقط، بل وفي تصدرها باقي العلوم والفلسفات الأخرى، الشاهد على ذلك قول مؤسس علم الأخلاق الإسلامي ابن مسكويه[30] ما نصه: “[لما] كان الإنسان أشرف موجودات عالمنا […] وجب أن تكون الصّناعة التي تعنى بتجويد أفعال الإنسان حتى تصدر عنه أفعاله كلّها تامة كاملة بحسب جوهره ورفعه عن رتبة الأخس التي يستحق بها المقت من الله والقرار في العذاب الأليم، أشرف الصناعات كلّها وأكرمها” وقوله “فأما هذه الصناعة هي أفضل الصناعات كلّها أعني صناعة الأخلاق التي تُعنى بتجويد أفعال الإنسان بحسب ما هو إنسان”[31]. ذلك الذي لم يختص به أرسطو ذاته، وهو الذي يُنسب إليه الفضل في الكثير من النظريات الأخلاقية في تراثنا الفلسفي. فأرسطو جعل العلم السياسي مقدماً على العلم الأخلاقي، والسّياسة في نظره أشرف العلوم وأعزّها مكانة كونها ملكة اجتماع الآمال البشرية (الخير)، فكل الفنون الصناعية والأبحاث العقلية وجميع الأفعال والمقاصد الأخلاقية غرضها شيء من الخير ترغب في بلوغه، الأمر الذي يجعل من الخير “موضوع جميع الآمال”[32].

وبما أن لكل غاية علم يختص بها (مثل غاية الصّحة تكون في علم الطب، وغاية الظّفر تكون في العلم الحربي…)، فما هو علم “غاية الغايات” (أي الخير) يتساءل أرسطو؟ في نظره لن يكون ذلك علم الأخلاق، يقول: “نقطة أولى يظهر أنّها بديهية وهي أنّ الخير يتبع العلم الأعلى، بل العلم الأساس أكثر من جميع العلوم، وهذا هو على التحقيق علم السياسة […] ويمكن أن ننبه فوق ذلك إلى أنّ العلوم الأعلى مكانة في الشرف هي تابعة للسياسة، أعني العلم الحربي والعلم الإداري والبيان”[33]. ولا يفيد قول القائل بأنّ معنى السّياسة هاهنا محمول على موضوع التربية، ذلك أنّ أرسطو أدرج في العلم السياسي التخطيط الحربي والتخطيط الإداري وعلم البيان (كالبلاغة وفن الخطابة)، بل زاد أن صرّح في أنّ كتابه “علم الأخلاق” هو مُؤلف في السياسة لا في الأخلاق[34].

في حين أنّ التّراث العربي الإسلامي وسَّعَ من مدلول السياسة فلم تعد تقتصر على مدلولها الأرسطي وإنّما أخذت دلالة تربوية فيما يفيد سياسة الذّات، بل وتقديم الثانية على الأولى، فنجد أنّ الراغب الأصفهاني مثلاً جعل السياسة والشريعة على ضربين؛ أحدهما سياسة الإنسان لنفسه وبدنه وما يختص به. ثانيهما سياسة غيره من دونه وأهل بلده، ولا يصلح لسياسة غيره من لا يصلح لسياسة نفسه[35].

أمّا عند الارتحال إلى فضاء الفكر المعاصر، نجد أن طه عبد الرحمن قد فنّد بدوره الادعاء السابق؛ حيث دافع عن أطروحة أخلاقية التراث العربي، مبيِّناً أنّ للعرب المسلمين أسبابهم الخاصة التي جعلتهم يهتمون بعلم الأخلاق؛ أوّل الأسباب تلك، طبيعة الدّين الإسلامي الذي جاء نبيه ليتمم مكارم الأخلاق لقوله r: “إنَّما بُعِثتُ لأُتمِمِ مَكَارمَ الأَخلاَقِ”. فالغاية من البعثة المحمدية غاية أخلاقية أساساً، ومن المحال أن يغفل أهل هذا الدّين غاية دينهم. ثاني سبب، خصوصية الفكر الأخلاقي الإسلامي سواء من حيث المقتضيات المضمونية (أي الاشكالات والمفاهيم الفلسفية) أو من حيث المقتضيات المنهجية (أي الاستدلالية)، فمن ادّعى ضحالة الفكر الأخلاقي الإسلامي كمن ادعى كونية الاستشكال الفلسفي والاستدلال المنطقي اليونانيين ولزومهما لكل ممارسة تراثية، وهذا في نظر طه اعتقاد فاسد، ذلك أن المنهجية الإسلامية استقلت عن المنهجية اليونانية بـ “علم الكلام” و”علم الأصول”، وأنّ العلوم التي ساهمت في النهوض بتجديد علم الأخلاق الإسلامي هي “علم الفقه” و”علم الكلام” و”علم التصوف”. ثم ثالثاً إدراك علماء الإسلام فطرية القانون الأخلاقي، فبعد تعرفهم على التراث الأخلاقي اليوناني والشرقي الهندي والفارسي كان من ذلك المنقول ما وافق المأصول الإسلامي فصار بمثابة قوانين كلية لدى الإنسانية قاطبة. لمثل تلك الأسباب أبطل طه عبد الرحمن “دعوى ضعف العناية التراثية بعلم الأخلاق” من وجوه ثلاثة: “ثبوت صلة الشريعة الإسلامية بالأخلاق”، “الخصوصية الاستشكالية والاستدلالية للأخلاق الإسلامية”، “الكليات الأخلاقية الفطرية”[36].

مما تقدم، وبعد الانتهاء من إيراد النصوص التراثية، وآراء المعاصرين، وهي نصوص وآراء تجتمع كلها حول إثبات مركزية علم الأخلاق عند المسلمين والعرب قديماً، وبالتالي تفنيد ادعاء المخالف ممن يعتقد بعدم عناية المسلمين بعلم الأخلاق، نتأكد أنّ للمسلمين أسبابهم الخاصة التي حملتهم على العناية بعلم الأخلاق، وهي أسباب تختلف في خلفياتها وغاياتها عن الأسباب التي حملت أسلافهم الإغريق عن العناية به، أهم تلك الأسباب وأكثرها نوعية هي طبيعة الدين الإسلامي الذي جاء متمماً لمكارم الأخلاق.

  • درء شبهة نسبة الأخلاق العربية إلى التراث اليوناني:

يقول محمد عبد الرحمن مرحبا مبرزاً دور اليونان وقوة حضورهم تاريخياً: “في قمة سامقة من قمم الصعود الإنساني ارتفع الأغارقة وباهوا الأمم والشعوب بسخاء عطائهم وعظم تراثهم ودقّة أحاسيسهم وسمو مشاعرهم. فقد مرّوا في هذا العالم كما يمر الغمام فوق أرض قفر وواد غير زرع، فكانوا كالأمل المشرق في عتمة اليأس. ثم مضوا كالحلم تاركين وراءهم الخضرة والنضرة والرواء لقوم غراث عطاش”[37]. هذا النص يعكس جانباً من ملامح التأثر العربي بعظمة الإغريق وقوة حضورهم وثقل إسهامهم فكراً وفناً وأدباً في تاريخ البشرية. ونحن هاهنا لا نناقش فرضية “المعجزة اليونانية” ولا مدى “موضوعية” هذا الحكم. وإنّما ما يهمنا هي مناقشة المميزات التي جعلت الخطاب اليوناني ذي طابع فلسفي، وعلى أساسه بُني حكم إنكار المساهمات الأخرى التي لا تتمتع بالمميزات الإغريقية نفسها. وعليه يُطرح السؤال: ما هي “الروح” التي ميّزت القول الفلسفي اليوناني عمن سواه، سواء السابق له أو اللاحق عليه؟. تدَّعي بعض الدراسات الفلسفية والأثرية والتاريخية وكذا الأنثروبولوجية أن اليونانيين تميزوا بـ “العقل”، فهم تميزوا بـ “روح عقلية” تجنح إلى “الصورنة والتجريد والترتيب المنطقي للأمور، وبالأخص “المنهج”، وهي الروح الأنسب بالفلسفة، في حين تميز سلفهم “بروح دينية لاهوتية” الأقرب للأسطورة. يقول (مرحبا): “لقد أوتي أقوام كثيرة قبل اليونان حكمة وحضارة وفناً، لكن الحكمة التي اختص بها اليونان كانت فريدة من نوعها وإليها وحدها ينصرف اسم الفلسفة بمعناها الدقيق. فلئن توصلت بعض الحضارات السابقة إلى كثير من الحقائق التي عرفها اليونان إلاّ أنّها لم تستطع أن تصوغ ذلك في منهج موحّد سليم ونظرية عقلية متماسكة وفي كلٍ منسجم شامل”[38]. السمات العقلية سالفة الذكر كالتجريد والصورنة والتناسق والمنهج هي ما رتبت القول بأنّ الفلسفة الإسلامية، بشقيها النظرية والعملية، لم تخرج عن النمط اليوناني، لأنّه لم يكن للمسلمين روح الخطاب الفلسفي ذاته التي تجعله يختلف في مضمونه واستشكاله واستدلاله، وكأنّه على الخطاب الفلسفي أن يتسم بالتجريد والصورنة مضموناً واستشكالاً واستدلالاً وإلا فهو بخطاب فلسفي.

حقيقة الأمر، ليس من الموضوعيّة ولا من حكم التاريخ إنكار الوافد اليوناني على التّراث الإسلامي، غير أنّه ليس من الموضوعيّة كذلك القول بنموذج ثقافي واحد نحاكم به كلّ الثّقافات وكلّ الأزمان، وإلاّ وقعنا في تجميد التاريخ وعدم الاعتراف بمبدأيه الرّئيسيين؛ السيرورة والصيرورة. وعليه ليس من الحكمة القول بأنّ قضايا الفكر الأخلاقي اليوناني هي قضايا الفكر الأخلاقي الإسلامي، استشكالاً واستدلالاً، فالقضايا التي لا تنتمي لهذا التّراث بالأصالة تكون إغناء للتراث الإسلامي لا استغناء عنه، دليل ذلك أنّ التّراث الفلسفي والأخلاقي الإسلامي شهد إشكالات ونظريات فلسفيّة أصيلة، نذكر منها: نظريّة الكسب الأشعري، نظريّة العدل الإلهي، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاعتزاليتين، التكلّيف والالتزام (وليس الإلزام) وعلاقتهما بالميثاق (وهو يختلف أنطولوجياً عن العقد الاجتماعي)، وكذا الجبر والاختيار، وغيرها من النظريات الأخلاقية. كما شهد التّراث الإسلامي مذاهب وتيارات وأدبيات أخلاقيّة غزيرة؛ فتجدنا نتحدث عن المدرسة الفلسفيّة، والمدرسة السّنّيّة، والمدرسة الشّيعيّة، والمدرسة الصّوفيّة والعرفانيّة، وداخل كلّ مدرسة نجد تيارات وجيوباً تتعدّد بتعدّد رجالات كلّ مدرسة[39]. وهذا يدل على أنّ واحدية المنهل (القرآن والسّنّة) لا تعكس أحاديّة ونمطية الخطاب الأخلاقي على قالب واحد.

سؤال آخر يمثل أهمية بالغة، وهو ما مدى مشروعية مطالبة التراث الإسلامي بـ “فلسفة للأخلاق”، ألا يوقعنا هذا المطلب بدعوى الافتتان بالتراث اليوناني من حيث لا نعلم؟ يجيب الجابري أنّ مطلباً كهذا فيه تحميل للتراث الإسلامي ما ليس من خصوصيته، فقد جاء ردُّ الجابري على الدّعوى التي تنفي وجود أخلاق فلسفية في التراث الإسلامي كما جاء اعتراضه على الدّعوى المضادة، أي التي أرادت أن تواجه الدّعوى السابقة بالبحث في القرآن عن فلسفة أخلاقية. الادعاء الأول يعود في الغالب إلى بعض المستشرقين وحتى الباحثين العرب، رَدُّ الجابري جاء للاعتبارات الآتية؛

  • أن الفلسفة لم تكن أم العلوم عند العرب حال الإغريق، بل كانت مجرد صنف من أصناف العلوم، وعليه لا ينبغي أن تكون معياراً يقاس به الانتاج الأخلاقي في التراث العربي. ومن أراد البحث في التراث الإسلامي عن علم للأخلاق، فليس عليه الرجوع إلى النص الفلسفي، وإنّما البحث يطال ما هو خارج الخطاب الفلسفي، وفي هذه الحال سيُدرك الباحث خصوصية علم الأخلاق الإسلامي وغنى التراث به.
  • أنّ هذا الادعاء يجعل الاعتقاد من أن غِنى التراث الأخلاقي في المجال العربي أو افتقاره، يرتبط بمدى تطور الوعي الفلسفي ونضجه من عدمه، وهذا في نظره أمر غير وارد البتة، إذ عرف التراث الإسلامي تراجعاً في الانتاج الفلسفي خاصة بعد ابن رشد، إلاّ أن إنتاجه في القيم بقي غزيراً، والعز بن عبد السّلام خير مثال.
  • كما أنّ النّمط الفلسفي الذي راج في التراث الإسلامي هو النّمط السّينوي – نسبة إلى ابن سينا- اشراق عقلي، وهو في نظر الجابري ليس له في الأخلاق ما يحتاج لأن يُذكر[40].

كما جاء اعتراضه على من يبحث في القرآن الكريم عن أخلاق نظريّة ليبين تجذر علم الأخلاق في التراث الإسلامي، وهو هنا يقصد الرد على محاولة دراز بشكل أخص، وهو يستند في اعتراضه على اعتبارين اثنين:

  • أنّها وقعت في فخ الدّعوى السابقة في إنكارها وجود فلسفة أخلاقية إسلامية، لذلك أخذت تبحث في الأمر متخذة من القرآن والسّنة مرجعاً لها.
  • كما أنّها لم تقرأ في القرآن “أخلاق القرآن” بقدر ما أرادت أن تكشف فيه “الأخلاق كما يُؤلَف فيها اليوم” والتفتيش عن سند لها في القرآن أو السّنة النبوية، وهي أخلاق غربية الشكل والمضمون[41].
  • درء شبهة تفقيه الصناعة الأخلاقية الإسلامية:

من بين ما يتسم به علم الأخلاق الإسلامي أنّه لا يقيم تعارضاً بين ما هو فقهي وما هو أخلاقي في المجال التداولي الإسلامي، أي أن الممارسة الفقهية ساهمت في تطوير وتثوير الصناعة الأخلاقية الإسلامية[42]. وحسبنا أن اعتقاد التعارض بينهما ينبني على مسلمتين اثنتين لا يتقومان بدليل؛ الأولى، “أنّه لا تصوُّرَ للعقل إلاّ تصور الإغريق له” – وقد سبق بسط الكلام في هذا-. واستناد هذا الاعتقاد على التصور اليوناني المجرد للعقل، في صورته الاستدلالية خاصة، تفرع عنه الاعتقاد في أن الأحكام الأخلاقية لا تنبني على نصوص شرعية، من جانب، ومن جانب آخر، النّظر لفضاء الممارسة الأخلاقية نظرة أفقية تقتصر على الفضاء البشري أو بلغة الفقهاء، فقه المعاملات، مستثنياً البعد العمودي أي فقه العبادات. هاهنا يكون للممارسة الفقهية الفضل في توسيع الأخلاق بإخراجها من ضيق المرئي إلى رحابة اللامرئي.

المسلمة الثانية، “تقدّم النّظر على العمل”، بمعنى أولوية العقل النظري على العملي، أو تقديم سلطة الفيلسوف والمتكلم على الفقيه، الأمر الذي يعدُ تعارضاً صارخاً لمنطق الصّنعة الأخلاقية، فالأخيرة تنتمي لمجال الحكمة العملية، لذلك سيكون من الأنسب إسنادها إلى العقلانية العملية لا النظرية، ومثل هذا النّمط من العقلانية تظفر به الممارسة الفقهية لا الممارسة الفلسفية والكلامية المجردتين، وفضل العقل العملي أو المسدد على النظري أو المجرد كما يعتقد طه مردُّه إلى أنّ “العقل المجرّد يطلب أن يعقل من الأشياء أوصافها الظاهرة أو بالاصطلاح رسومها، وكان العقل المسدّد يقصد أن يعقل من هذه الأشياء أفعالها الخارجية أو «أعمالها»”[43].

زيادة على أنّ للاشتغال الشّرعي (الفقه) أفضلية على الاشتغال غير الشّرعي (الفلسفة وعلم الكلام)، لتعدّيه الممارسة الفقهية “إذ يفيد -أي الفقه- في إخراج الشّيء من عالم التّصوّر إلى عالم التحقق، ويعلو من قيمة الشّيء الذي يدخل في مجاله، ويفتح آفاقاً إدراكية وعمليّة جديدة، كما أنّه يقوم بتصحيح السلوك، إنْ تأصيلاً فيرده إلى الأصول أو تصويباً فيدله على أصح المقاصد أو تقويماً فيمده بأنفع الوسائل”[44].

هذا وكان المفكر والباحث الياباني الضليع في الدراسات اللغوية توشيهيكو ايزوتسو (Tohsihiko Izutsu) مقاربته النوعية في علاقة الفقه بالأخلاق الإسلامية، فالأخير أكّد على أنّ النّصّ القرآني متضمن لثلاث طبقات من الخطاب القرآني هي بمثابة ثلاثة أصناف من المفاهيم الأخلاقيّة؛ تلك التي تشير إلى الطّبيعة الأخلاقيّة للحق تعالى وتصفها (أسماء الله وصفاته). وتلك التي تصف الجوانب المختلفة للموقف الأصلي للإنسان من الله، خالقه (فقه العبادات). ثم تلك التي تشير إلى مبادئ السلوك وقواعده التي تنظم العلاقات الأخلاقيّة بين الأفراد الذين ينتمون للجماعة الدّينية للإسلام ويعيشون في إطارها (فقه المعاملات). الأولى تشكلّ “منظومة الأخلاق الإلهية”، والثّانية بشقّيها فقه العبادات وفقه المعاملات تشكلّ “منظومة الأخلاق البشريّة والاجتماعيّة”[45]. مُضيفاً إمكانية التّمييز بين مستويين من اللّغة الخطابية الأخلاقيّة، المستوى الأوّلي للخطاب، ذو الوظيفة الوصفية، والمستوى الثانوي للخطاب وهو المستوى التّقييمي، ذو الوظيفة التصنيفية[46]. والفقهاء درجوا على تطوير شبكة مفهومية واسعة من التعبيرات الأخلاقيّة التصنيفية وذلك من خلال الأحكام الفقهيّة التالية: الواجب، المندوب، الجائز، المكروه، المحظور. هاته منظومة محكمة لما وراء اللّغة (Métalanguage)[47] فلا نجد أي “فعل بشري” إلا ّويمكن تصنيفه في إطار أحد تلك الأحكام، خيراً كان أم شراً، أو قيمة تتوسطهما، وهذا بيت القصيد، فللنظريّة الأخلاقيّة الإسلاميّة، خاصّة الفقهيّة منها، مقولات ونماذج تفسيرية مستوعبة لكلّ المواقف والأفعال الأخلاقيّة. هذا الموقف الذي دشّنه ايزوتسو مع النص القرآني جعل البعض يرى فيه على أنّه أوّل من قرأ القرآن الكريم من وجهة رؤى العالم. وأوّل من قال أنّ الرؤية الإسلامية ذات دلالة أخلاقية، لذلك تأتي شبكة المفاهيم القرآنية على هذا التأويل. والأوّل من بين قراء القرآن الذين تجاوزوا المنهج الفيلولوجي التاريخي (منهج فقه اللّغة) ليفتح المجال أمام التحول السّيمنطيقي (الدلالي)[48].

يمكن الاستطراد في ذكر مواقف أخرى؛ أهمها كتابات الفيلسوف والمستشرق الأمريكي ذي الأصول الفلسطينية وائل حلاق، والذي كان من أهم دارسي الشريعة من منظور مقاربة قيمية أخلاقية لا نصية سلطوية كما فعل غالبية المستشرقين، لقد فسّر وائل حلاق مكانة الفقهاء في التراث الإسلامي -وهي مكانة رأى فيها المستشرقون والحداثيون العرب أمارة انحطاط وتراجع للعقل الإسلامي وتسلطا للنص الديني على النظر العقلي واستلاب لاهوتي على حساب الإبداع الإنساني- تفسيراً أخلاقياً لا سلطوياً؛ ذهب حلاق إلى أنّ السلطة الدينية لم تكن كافية كيما يتبوأ الفقهاء مكانتهم المركزية في المجتمعات الإسلامية، لأنّ أهل العرفان وعلماء الكلام كانت لهم السلطة الدينية ذاتها، وإنّما السبب يعود أولاً، إلى أنّ الفقهاء امتلكوا سلطة معرفية (التفسير والتأويل) من المجتهدين إلى المقلدين ميّزتهم بأن امتلكوا عدّة منهجية منقطعة النّظير، فكان النّص الفقهي يمثّل جهداً متكاملاً منهجياً ومعرفياً وليس مجرد نص لاهوتي. ثم حيازتهم على سلطة اجتماعية بحكم أنّهم كانوا الأقرب إلى المجتمع نظير قيامهم بأدوار اجتماعية وأخلاقية من قبيل القضاء والإصلاح وتطوير الأشغال العمومية، حتى أنّهم كانوا أوصياء على الأيتام والمحرومين[49]، وهو الأداء الاجتماعي والأخلاقي الذي نعدمه عند المشتغلين بالفلسفة والكلام.

على نحو ما تقدم يمكن القول إنّ اهتمام التراث الإسلامي وإسهامه في مجال الأخلاقيات كان بليغاً، وأنّ ما حدث هو تقريب علم الأخلاق الذي لا ننكر أصله الإغريقي ليتماشى وخصوصية المجال التداولي العربي استشكالاً واستدلالاً، وعدم تبصّر هاته الحقيقة هو ما يجعل التطاول على التراث العربي والإسلامي يبلغ مداه.

رابعاً: مكانة علم الأخلاق راهناً:

يشهد علم الأخلاق في فكرنا العربي الراهن وضعاً متخلفاً بشكل جذري مقارنة بالماضي، حيث يشهد الواقع عن ضمور وتراجع طال الصّنعة الأخلاقية، فجل المهتمين بالدرس الأخلاقي من مفكرين ومؤرخين للفلسفة يشهدون غياب الاهتمام الفعلي بالممارسة الأخلاقية مقارنة بالماضي، وهم مجمعون بالغالب على الافتقار النظري الذي تشهده السّاحة الإسلامية والعربية في هذا المجال، ونقصد بالنظري البعد الفلسفي من المسألة.

أوّل من أشار لذلك عبد الله دراز الذي بيّن قوله الآنف الذكر أنه لم يجد في السّاحة العربية سوى نمطين من خطاب الأخلاق، أخلاق عملية غايتها تعليم الفضيلة للشباب، أو أخلاق تصف النفس وملكاتها على شاكلة الدرس الأخلاقي الإغريقي، كما يصف ذلك الغياب بقوله “فإنّ النصوص المتعلقة بالنظرية الأخلاقية ليست بالكثرة والوضوح الذي تمتاز بهما الأحكام العملية”[50].

هذا الذي جعله يراهن على تأسيس علم أو نظرية للأخلاق انطلاقاً من النص القرآني في محاولة منه التأكيد على وجود أخلاق نظرية في التراث الإسلامي، ففي كتابه “دستور الأخلاق في القرآن الكريم” يقول: “فأما أن يكون ذلك الكتاب (أي القرآن) قد تحدث في الوقت نفسه عن أسس النظرية الأخلاقية، فذلكم هو السؤال الأول الذي طرحناه في دراستنا هذه، والذي خصصناه بأعظم قدر من جهدنا. وإنا لنعتقد أن بوسعنا أن نعلن منذ الآن أننا قد وجدنا لهذا السؤال إجابة واضحة، وإيجابية تماماً، إن القرآن لا يكتفي في الواقع بأن يضع قاعدة في السلوك، على وجه أكثر شمولاً وتفصيلاً، كما لم يفعله أي تعليم عملي، فقد وجدناه يُرسي تحت هذا البناء الضّخم قواعد من المعرفة النظرية أعظم متانة وأشدّ صلابة”[51].

للجابري هو الآخر موقفه من الغياب الذي تشهده المكتبة العربية المعاصرة من كتب في الأخلاق النظرية، شهادة ذلك قوله: “الأمر لا يتعلق فقط بكون المكتبة العربية خالية من أي محاولة جادة وشاملة، تحليلية ونقدية، لنظم القيم في الثقافة العربية الإسلامية، بل إنّها تخلو كذلك من مؤلفات في “تاريخ الفكر الأخلاقي العربي”. ولو من النوع الذي كتب في “تاريخ الفلسفة العربية” سواء من طرف مستشرقين أو أساتذة عرب. على أنّ هناك ما هو أخطر من كل ذلك وهو تسليم جل الذين عرضوا للموضوع بفكرة “أن العرب لم ينتجوا، لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فكراً أخلاقياً باستثناء ما ردده بعض فلاسفتهم من آراء في إطار ما نقلوه عن” فلاسفة اليونان”[52]. وشهادته: “أما عن الدّراسات التي تعرضت لموضوع الأخلاق في الفكر العربي الإسلامي فيمكن القول إنّها تجمع أو تكاد على خلوه من “الفلسفة الأخلاقية”، أعني البحث النظري في الأخلاق”[53].

أما عن محمد أركون فلا يختلف هو الآخر عن الذين سبقوه، إذ شهد هو كذلك على تغييب (وليس فقط غياب) الفكر الأخلاقي في الفضاء العربي الراهن بخلاف الماضي، مُعللاً هذا التغييب بالمخيال الدّيني الزائف الذي يدشنه الخطاب الإسلاموي المعاصر، والذّي قوّض كل إمكانية لتبلور خطاب أخلاقي اناسي فلسفي رصين، يقول: “لاحظت إمحاء كل تفكير في مسألة الأخلاق داخل السياقات الإسلامية المعاصرة. لم يعد هذا الموضوع يهم أحداً من علماء المسلمين، وهنا وجه الغرابة. فقد كان محط اهتمام كبار مفكري العصر الكلاسيكي أو العصر الذهبي كـ مسكويه وسواه. لقد انعدم هذا الموضوع داخل التراثين المتوازيين، أي التراث الفلسفي والتراث الدّيني المعروف تحت الاسم الطموح: “مكارم الأخلاق”[54].

كما جعل أركون من تراجع الفكر الأخلاقي علة النكوص والتخلف الذي ألّم بالعالم الإسلامي بعد العصر الذهبي الكلاسيكي من عمر الحضارة الإسلامية إلى اليوم، على خلاف الحضارة الغربية الحديثة التي شهدت مساراً مغايراً لمسار العالم الإسلامي، يقول أركون: “ينبغي العلم أنّه إبّان العصر الكلاسيكي المبدع من عمر الحضارة العربية الإسلامية، كان هناك توتر صراعي خصب بين المبادئ الأخلاقية ذات الاستلهام الدّيني والمبادئ الأخلاقية ذات الاستلهام الفلسفي. وكانت هذه الأخلاق النظرية بشقّيها الديني والفلسفي هي التي تؤثر على السلوك أو الأخلاق العملية في الحياة اليومية. لكن هذا التناغم أو التعايش بين الأخلاق الدينية والأخلاق الفلسفية لم يدم طويلاً، فقد حصل انفصال بين الخط الديني الذي انتصر وهيمن حتى اليوم وبين الخط الفلسفي الذي هُزم وسُحق ولم تقم له قائمة بعد القرن الثالث عشر عملياً. أما في جهة أوربا، المسيحية أولاً، فالعلمانية ثانياً، فقد حصل العكس تماماً”[55].

خامساً: عودة النقاش الأخلاقي بين الفضاءين الغربي والإسلامي:

كنا قد أشرنا إلى تراجع الاهتمام بالمسألة الأخلاقية في الفكر العربي الحديث، وجرى تأويل ذلك إلى تراجع مكانة الإنسان ذاته. إلاّ أنّ هنالك أسباباً أخرى يتقدمها الصراع الأيديولوجي في العالم العربي وتصاعد خطابات التقدم والنهضة والقومية العربية كردات فعل بعد الاستقلال، وتقاسم تلك الخطابات بين فاعلين أيديولوجيين من تغريبيين حداثيين وإسلاميين تراثيين وقوميين عرب، وسط ذلك التدافع أُنهكت مقدرات الإنسان العربي ومقوماته القيمية، لأنّه ما تحقق فعلياً كان بخلاف الموعود، فلا الاشتراكية سدت باب الفقر والفاقة على الإنسان العربي ولا هي حققت مطالبها في المساواة والعدالة الاجتماعية، ولا الرأسمالية حررت الأسواق وحققت الرفاه ودفعت بالمبادرات الفردية قدماً، ولا القومية استطاعت مجابهة القوى الغربية المعادية خاصة فيما تعلق بالقضية الفلسطينية، ولا الإسلاميين استطاعوا بقيمهم الكلاسيكية الحفاظ على هوية الإنسان المسلم من المد التغريبي والعولمي.

هي أسباب أفضت إلى عودة الاهتمام بالمسألة الأخلاقية عربياً أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين. هي عودة قد يرى فيها البعض تقليداً للاهتمام المماثل بالمسألة الأخلاقية في الغرب منذ المنتصف الثاني من القرن العشرين في فضاء الفكر العربي المعاصر[56]، وعليه سنحاول مناقشة مدى موضوعية القول السابق، وهو أن اهتمام العرب المعاصرين بالمسألة الأخلاقية من جنس اهتمام الغرب المعاصر بها، وهي أمارة على استمرارية الافتتان بما يطرحه الغرب المعاصر من نقاش في المجالات الفكرية خاصة.

إنّه وبالعودة إلى الطرح الأخلاقي في الغرب المعاصر نجد أنّ هنالك أسباباً أصيلة بذلك الفضاء كانت سبباً وراء الثورة الأخلاقية المعاصرة[57]، قد لا نجد من تلك الأسباب ما يربطه بسياقنا الثقافي والاجتماعي.

فعلى التحقيق تكاد تجمع معظم الكتابات الأخلاقية في الفلسفة الغربية المعاصرة على أنّ الذي يبرر الحديث عن عودة الأخلاق إلى فضاء النقاش الفلسفي والميدان العملي، هي مجموعة من الاعتبارات والأسباب التي ترهن الوجود الإنساني بأسره، أكثر تلك الأسباب حدَّة:

  • انحطاط القيم الأخلاقية خاصة التقليدية منها والبحث عن سبل جديدة لتطوير علم للأخلاق، ومن الأسئلة التي باتت تُطرح في هذا الصدد، ما هي طبيعة الأحكام الأخلاقية؟، وهل يمكن أن تتمتع بأساس موضوعي؟ وما هي المقاييس الجديدة في تحديد الخير والشر، ونظراً لمعياريتها فهل هي صادقة أم كاذبة؟ أسئلة وأخرى فرضت أبحاثاً جديدة في علم الأخلاق ووجهتها صوب إشكاليات غير معهودة في علم الأخلاق التقليدي. وعلى قِدم هاته المسألة إلاّ أنّ طابع الفردانية والنسبية الذي أتى على عقل الإنسان المعاصر ووجدانه نسف كلّ إمكانية للتفكر في أحكام أخلاقية موضوعية وباتت مسألة ترسيم مقاييس وأسس أكثر رصانة لتحديد قيمتي الخير والشر أكثر تعقيداً واستحالة، فالنزوع “لإعطاء علم الأخلاق اتجاهاً جديداً أمليت قبل كل شيء بواسطة التغيرات الجدّية في الوعي الأخلاقي وسلوك النّاس الذي كان انعكاساً لأزمة النظام الرأسمالي العامة والـمُستفحلة”[58].
  • الوضع العالمي الراهن جعل البعض يستدعي مفهوم الأزمة، وهي أزمة مركبة بأربعة أبعاد؛ البعد الاقتصادي والاجتماعي (عدم المساواة والفساد)، البعد الإيكولوجي أو أزمة حضارة (تعرض النظام البيئي للخطر والتشكيك الذي طال العلاقة بين الطبيعة والإنسان كأحد مخلفات الحداثة الغربية وأسس العلم الحديث)، البعد الجيو-سياسي (مع نهاية الهيمنة الأمريكية وتبلور قوى جديدة)، البعد الإيديولوجي (وذلك مع تبلور النزعات المعادية للأجانب وتفشي العنصرية)[59].
  • تزايد النمو الديمغرافي وما نتج عنه من انعدام الأمن على نطاق واسع، خاصة وأن حالة اللاأمن باتت ترعاها لوبيات تتعهد بمكافآت مالية لنشر العنف في أماكن معينة، في بعض الأحياء، وفي بعض المناطق من هذا الكوكب، وكأن العنف والصراعات باتت سلعة تُعمم، هذا ما يشكل على حدّ تعبير البعض بـ “نزع الإنسانية عن العالم (Déshumanisation)”، علماً بأنّه لا يمكن توقيف استراتيجية التجريد تلك بمجرد اتخاذ سياسات تنموية، وإنّما ينبغي “أنسنة العالم (L’humanisation du monde) ” “فمن الضروري أَنسنَةُ العالم عبر معركة هائلة لإعادة تصميم مثالي لمجتمعنا من شأنها أن تؤسس لإنسانية على أسس مستدامة… يجب دفع هذا الاعتقاد في مجتمع مثالي أُعيد تصميمه بحيث يكون قادراً على توجيه نسيج العلاقات الاجتماعية والتعاون بين الأفراد دونما اللّجوء إلى تعزيز الوهم بالنّمو الدّائم”[60]. في مطالب مماثلة ينبغي “استرجاع سحر العالم (réenchantement du monde)”[61]. أو “تجميل العالم”(l’esthétisation du monde).
  • اتّساع الفجوة الاقتصادية بين البلدان وكذا داخلها مع تركز القوى الاقتصادية والسياسية بشكل غير معهود بين فئات قليلة من الناس، زيادة على التنوع الثقافي المهدد، والصيد الإيكولوجي الجائر، وطبيعة المساهمة في خلق ظروف ملائمة للصراعات والانتفاضات، فضلاً عن الشعور المتنامي من القلق حول مستقبل كوكبنا الأرضي، فـ “الإنسانية باتت في مفترق طريق حاسم في التاريخ”. كما أنّ عناصر التوازن والتكامل في العالم لا تزال أعلى بكثير من مستوى التفاهم الحالي بين البشر. هنا تأتي راهنية مبدأ المسؤولية بإعادة توسيع نطاق المسؤولية من المسؤولية الفردية في الحاضر إلى المسؤولية الجماعية في المستقبل[62].
  • تبلور نمط إنساني جديد شاذ عن كل الأنظمة والأعراف والقواعد الأخلاقية، إنسان الموضة، الإنسان الاستهلاكي، الإنسان ذي البعد الواحد، الإنسان المجوف من كل معنى أو إيديولوجيا،… وما ترتب عنه من استفحال الفردانية والعزلة واللامبالاة والشذوذ وتنامي معدلات الإجرام والمخدرات والانتحار خاصة في صفوف الشباب منهم، وهكذا ولأوّل مرة باتت القيمة من الحياة محل مساءلة وارتياب؟.
  • سطوة منطق الكم على حساب الكيف كأحد مظاهر المجتمع الاستهلاكي ولجوء الشركات الاقتصادية المتنافسة لصناعة الرغبة وخلق الحاجة عبر مخابر بحثية مختصة تجيد هندسة العقول والتلاعب بالأمزجة النفسية للمستهلكين، فكما كتب جارودي يوماً أنّ الهدف الرئيسي من الإنتاج لم يعد إشباع الحاجات وإنّما خلق الحاجات (وبالتالي أسواق) لزيادة الأرباح.
  • النّزوع الراهن نحو العنف وتغذيته، بل وصناعته إعلامياً، وما سببّه من أوضاع سياسية وأمنية واقتصادية غير مستقرة، فظواهر من قبيل الحروب والإرهاب والسّباق نحو التّسلح وتكثيف الرقابة الأمنية والتّحالفات غير المتّزنة هي ما باتت تطبع على المشهد العالمي الرّاهن، فقد كتب إزيا برلن معلقاً على هكذا وضع: “إنّنا نعيش في عالم يغلب عليه العنف، يستوجب الأمر فهمه، عبر القيام بمعاينة نقدية للغايات والدّوافع التي ترشد السلوك البشري، واكتشاف العلاقات البشرية… كل ذلك تجعل علم الأخلاق مجالاً ذا أهمية أساسية”[63].

 تلك الأسباب مجتمعة كانت مبرراً كافياً لاستدعاء سؤال القيم الأخلاقية إلى ساحة النقاش الفلسفي الغربي الراهن، أسباب حركت مختلف الفاعلين في الميادين الفكرية والدينية والإنسانية من فلاسفة ومنظمات حكومية وغير حكومية ومؤسسات ومخابر علمية ترعى إدارة النقاش وتبادل الحوار وتفعيل التوصيات ودعم وتمويل البرامج ذات الطابع الأخلاقي على كافة الأصعدة المحلية والعالمية، إيماناً منها بضرورة تخليق العالم وإعادة تصميم مثالي له.

وكإجابة على الإشكال الذي باشرناه آنفا، أي فيما تعلق بالمعتقد السائد أنّ الاهتمام العربي بالمسألة الأخلاقية هو من جنس الاهتمام الغربي بها، سيكون من الضروري التّمييز بين مستويين من الطّرح الأخلاقي في نطاق الفكر العربي الراهن؛ مستوى إدراك الأزمة هنا فقط نلتمس مشاكلة ومماثلة في الوعي بين كلا السياقين العربي والغربي. ومستوى تدارك الأزمة عندها فقط نلتمس اختلافاً شبه جذري في طبيعة حضور القيمة بين السّياقين استشكالاً واستدلالاً. وتبيان ذلك، أنّه على المستوى الأول، نتحسس شعوراً مشتركاً بوجود أزمة قيم داخل السياق العربي تماماً مثل الشعور بها في السياق الغربي، ما يعني أنّ هنالك مماثلة وتقارباً بين كلا السّياقين في الشعور بالطّابع المتأزم للقيم.

وتبيان ذلك أنّه، وعلى المستوى الأول، نتحسس شعوراً مشتركاً بوجود أزمة قيم داخل السياق العربي تماماً مثل الشعور به في السياق الغربي، ما يعني أنّ هنالك مماثلة وتقارباً بين كلا السّياقين في الشعور بالطّابع المتأزم للقيم. وأنّه مثلما يتمُ الحديث عن أزمة أخلاقية في السّياق الغربي فإنّه يتم وبنفس الكيفية الحديث عن هذه الأزمة في السياق العربي، بل قد يستتبع ذلك استيراد المشكلات والحلول ذاتها على نحو ما يعكسه القول السابق للجابري.

تعكس هذه المـُشاكلة حقيقة أخرى مفادها أنّ الاهتمام بالمسألة الأخلاقية في سياقنا العربي والإسلامي لا يعود إلى مجرد أزمة معرفية تفتقر إليها المكتبة العربية لنصوص أخلاقية حصراً، وإنّما هو اهتمام يَنمُ عن حس جمعي بعمق الأزمة التي تعصف بالإنسان العربي عقلاً ووجداناً، إذ الأزمة أزمة قيمية والدّواء ينبغي أن يكون من جنس الدّاء، فما يبدو على أنه أزمة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وحتى الصراع الطائفي الذي يشهد حضوراً مهولاً وكذا مشكلتنا مع الآخر، إنّما مرد ذلك كله للأخلاق على نحو خاص.

لقد تفطّن عديد من المفكرين العرب المعاصرين على غرار الجابري وحنفي وجدعان وطه عبد الرحمن إلى ضروب هاته الأزمة، وكلٌ كان له وصفه الخاص لها، فمثلاً أكّد الأول -أي الجابري- في مستهل كتابه أن الكثير من الصراعات التي يعيشها العالم العربي قديمها وحديثها إن هي إلاّ “أزمات في القيم”[64]. أما فهمي جدعان فقد أشار هو الآخر إلى ذات الأزمة، فالعالم العربي في نظره ليس بمنأى عن الإشكالية الكونية للقيم التي خلَّفها واقع الحداثة الغربية، تمظهرات هذه الأزمة تكمن في “فوضى القيم” و”تعدد المرجعيات” و”النسبية القيمية”، وهي ذاتها مَن يوجه الثقافة المعاصرة الراهنة بما في ذلك الثقافة العربية والإسلامية التي لم تعد “خارج اللّعبة” على حد تعبيره، وبما أن الأمر على هذا النّحو، أي حتمية متداولة شبه من المحال تجاوزها، فما على هاته الثقافة سوى الاحتكام إلى قيمها المركزية لغربلة ما اندّس إليها من تلكم القيم، فـ “الثقافة العربية الإسلامية يتعين عليها أن تقف طويلاً عند هذه المشكلة العسيرة وتخضعها لنقاش تداولي واسع تحُلُ فيه قضية التقابل بين النسبي والمطلق، ويحدد فيه سُلَم القيم الخاصة بهذه الثقافة وطريقة بثها وإشاعتها في الأجواء القيمية العاصفة للثقافة الكونية. فإنّ “فوضى القيم” و”تعدد المرجعيات” وتوازي النظم الثقافية تتطلب بذل جهود قصوى في البحث والنظر والاقتراح من أجل إدراك صيغ “تداولية” عملية تحظى بالقبول العام -لا المطلق- تعمل على إنفاذها مؤسسات الدولة والمجتمع المدني قاطبة من دون تخاذل أو إهمال. وذلك وجه أساسي من وجوه “أخلاق المسؤولية” التي يتطلبها آمر (الأمن والهوية) لثقافتنا وعالمنا”[65].

كذلك حسن حنفي الذّي تبصر في أزمات العالم العربي أزمة قيمية عصفت بمعالم الهوية وأركان القومية والوطنية، يُنذر كلّ ذلك بـــ “انقلاب القيم”، إذ أن مسار التطور القيمي الذي يشهده السياق العربي المعاصر هو “التحول من الضد إلى الضد، والتغير من النقيض إلى النقيض دون تراكم كاف في كل قيمة حتى تظهر قيمة أخرى مضافة لا تنقض القيمة السابقة”[66]. الرّهان هو الوعي بهذا الانقلاب القيمي فلا يوجد عصر إلاّ وله قيمة تطغى على باقي القيم الأخرى، الحرية أو العدالة، هكذا يكون الوعي التاريخي بانقلاب القيم هو أساس الوعي السّياسي[67].

كما عزى طه عبد الرحمن هو الآخر سبب فشل مشاريع النهضة العربية والإسلامية الحديثة إلى سوأتي الغلو في الاختلاف المذهبي والخلو من السند الفكري، وذلك في مطلع كتابه “العمل الديني وتجديد العقل”، فالسوأة الأولى تجلب أسباب الفرقة والتشتت، أما السوأة الثانية فتجلب أسباب الجمود والتحجر، فكيف السبيل – والسؤال لطه – إلى جعل هذه اليقظة متكاملة لا متنافرة ومتجددة لا متحجرة؟ أو قل كيف نجعل هذه اليقظة متيقظة؟

إنّ الشروط التكاملية والشروط التجديدية التي يموضعها طه كأسباب لإيقاظ اليقظة، تتحدد أساساً في:

– شرط التجربة: وهي تجربة إيمانية صادقة ترفع الإنسان إلى مكارم الأخلاق أو تحمله على “التخلق”.

–  شرط التعقل: أي حصول التجدد في اليقظة الإسلامية بالتوسل بأحدث وأقوى المناهج العقلية. ليست مناهج على مقتضى العقلانية المجردة -طبعاً، وإنما مناهج تأخذ بالشرط الأول أي التجربة الإيمانية كمقدمة لها، لتكتمل الشروط القيمية بالشروط الإبستمولوجية[68]. من هكذا منطلق فإنّ النّهضة أيّا كانت لا غنى لها عن تجربة أخلاقية روحية تسبق الأخذ بالأسباب العقلية المنطقية.

أما عند المستوى الثاني، أي مستوى تدارك الأزمة فحقيق بنا الاعتراف بعالمية الطرح الأخلاقي المعاصر، إذ ليس من الحكمة إنكار الاهتمام المتبادل أو المشترك بالمسألة الأخلاقية بين كلا السياقين العربي والغربي، بل وربما كان لهذا الأخير السبق والحظ الأوفر في ذلك. إلاّ أنّ المشاكلة في هكذا اهتمام لا تعني البتة المشاكلة في الطرح استشكالاً واستدلالاً، ما يعني بطريقة أخرى أن مستلزمات اهتمام العقل العربي بالمسألة الأخلاقية ليس من جنس اهتمام العقل الغربي بها، وبيان ذلك أنّ المشكلات الأخلاقية التي نلتمس حضورها في السياق الغربي هي مشكلات ما بعد الحضارة على خلاف مشكلات السياق العربي والإسلامي بما هي انعكاس لمشكلات ما قبل الحضارة[69]، أو بتوضيح أدّق فإنّ الاهتمام بالجانب الأخلاقي لدى الأول يتموضع ضمن مساءلة نقدية لمآلات الحداثة الغربية على نحو خاص ومجتمعات ما بعد الثورات الصناعية والعلمية والاقتصادية، كمشكلات تتعلق بأسس وبنيات وكذا نتائج المشروع الحداثي، لذلك تجدنا نتحدث في هذا السياق عن أزمة العقلانية ليس على المستوى المعرفي فقط بل على المستويين الوجودي والقيمي، حتى أزمة العلوم بنوعيها التجريبية والإنسانية تتموضع ضمن المساءلة النقدية القيمية، أيضاً أزمة البيولوجيا والبيئة، أزمة التقنية والإعلام، وأزمة العلاقات الاجتماعية والأسرية، أزمة الفراغ الروحي وما تشهده الساحة من عودة للمقدس، تبلور الشخصية التسويقية الاستهلاكية.

هذا في الوقت الذي تظل فيه تلك الإشكاليات غائبة عن سياقنا العربي والإسلامي لصالح مشكلات أكثر أصالة[70] من قبيل؛ مشكلات النهوض الحضاري ومعوقاتها كالنزاع الطائفي والفساد السياسي والفقر والجهل والبطالة والهجرة، ومشكلات الصِّحة والتربية… وغيرها من المشكلات التي تنخر جسد الوطن العربي والإسلامي هي في جوهرها مشكلات أخلاقية لارتباطها بالأنا العربي فكراً ووجداناً. هنا يأخذ ما قاله مالك بن نبي مصداقيته: “علاج أيّ مشكلة يرتبط بعوامل زمنية نفسية، ناتجة عن فكرة معينة، تؤرخ من ميلادها عمليات التطور الاجتماعي، في حدود الدّورة التي ندرسها. فالفرق شاسع بين مشاكل ندرسها في إطار الدّورة الزّمنية الغربية، ومشاكل أخرى تولدت في نطاق الدّورة الإسلامية”[71].

تبعاً لذلك سعى بعضهم لترشيح جملة من مشكلات العالم العربي تشمل التالي؛ تحرير الأراضي العربية ومقاومة الاحتلال. ومشكلة الحريات العامة خاصة وأنّ المواطن العربي يعاني من شتى صنوف القهر والتّسلط ما يتعارض وروح الديمقراطية. كذلك مشكلة العدالة الاجتماعية. أيضاً مشكلة الوِحدة السياسية والجغرافية ووحدة المصير في مقابل التجزئة. إضافة لجدلية الهوية والتغريب أو الأصالة والمعاصرة، أو التراث والتجديد، الأصولية والعلمانية. زيادة إلى مشكلة التقدم في مواجهة التخلف. وأخيراً مشكلة تجنيد الجماهير ضد اللامبالاة تعكس مفارقة غِنى الوطن العربي بثروة بشرية يقابلها فتور في القوّة[72]. وهي كما نلاحظ أسباب تختلف كلية عن أسباب السياق الغربي التي أوردناها من قبل.

في سبيل الختام:

بناء على ما تم بيانه يمكن تصريف القول إلى أنّ لعلم الأخلاق في التراث العربي الإسلامي نطاقه المركزي وذلك على خلاف ما تحاول بعض الأطراف نفيه، هذه المركزية إنّما ارتبطت بمركزية الإنسان ذاتها في التراث الإسلامي، باعتبار أنّ العلم الأخلاقي علم يُعنى بسياسة الإنسان صلاحاً له في حاله وفلاحاً له في مآله، فكانت أشرف الصنائع بقدر ارتباطها بأشرف مخلوق. إلاّ أن ما حدث هو قطيعة الفكر العربي الحديث والمعاصر عن تراثه الأخلاقي الكلاسيكي، ولا نستبعد أنّ هذا التراجع مردّه إلى تراجع مكانة الإنسان ذاتها في سياق الواقع العربي الحديث بفعل عوامل سياسية واجتماعية أردته القهقرى، ليشهد سؤال الأخلاق بوادر جديدة تدفع بالفكر الأخلاقي قدماً تداركاً لإصلاح الوضع وترميمه، وذلك لأسباب ذاتية يشهدها الواقع العربي والإسلامي وليس كما يعن للكثيرين أنّها أسباب من جنس أسباب الواقع الغربي المعاصر.

* * *

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  البحث منشور في مجلة المسلم. العدد 172- 173. ص ص. 41 – 78.

[1] أستاذ الفلسفة بجامعة محمد لمين دباغين- سطيف (الجزائر).

[2] وصف يعود لجدعان إذ في نظره أنّ هذا النّمط “الكلاسيكي” من الخطاب الأخلاقي يأخذ شرعيته في ظل ما يتميز به الخطاب الأخلاقي العربي من ثنائية راديكالية ضدّية بين من يحاول تأسيس الأخلاق على أسس عقلية أنثروبولوجية (عادل ضاهر في جدليته الراديكالية المتعلقة بـ “أوّلية العقل” 2001، والتسويغ العقلاني للأخلاق “نقد الفلسفة= =الغربية الأخلاق والعقل” 1990) هذا من جانب، وبين جانب ثان يحاول تأسيسها على أسس أنطولوجية مفارقة (طه عبد الرحمن “سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية” 2000)، “إنّها مجابهة جذرية لا ينعقد معها توافق، في أجواء تظل المواعظ الدينية والدعوية التي ينشرها الأئمة والدعاة في شتى الوسائل والمنابر هي الأكثر تداولا وانتشارا وتأثيرا”. فهمي جدعان. مركب أخلاقي حديث للمستقبل العربي، تبيُّن للدراسات الفكرية والثقافية، العدد 22، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، خريف 2017، ص ص09، 10.

[3] تأمل في قول الجابري: “صحيح أنّ الفقهاء قد اهتموا بمسائل تدخل في نطاق “علم الأخلاق”، إذ خصص معظمهم في كتبهم ملحقاً يسمى بـ “الجامع” منه موطأ الإمام مالك ذكروا فيه من جملة ما ذكروا أموراً تتعلق فيما سُمِى فيما بعد بـ “الآداب الشرعية”… ويبدو أنّ وجود هذه الآداب الشرعية المكملة للفقه “المجّملة” لتآليفه قد رسخ في نفوس الفقهاء والمحدثين والمتكلمين الاطمئنان إلى أنّ علوم الدّين هي نفسها “الأخلاق”، فكان أن غاب لديهم، لعدّة قرون، الشعور بالحاجة إلى الكتابة في حقل معرفي يختص بالقيم والأخلاق”. محمد عابد الجابري. العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2001، ص 536.

[4] طه عبد الرحمن. سؤال الأخلاق: مساهمة في النّقد الاخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي: بيروت، ط1، 2000، ص 15.

[5] Le Petit Larousse de la philosophie: Sous la direction de HERVE BOILLOT, 2011, P 978.

[6] آندريه لالاند، المرجع السابق، ص ص 1522.                                   

[7] آندريه لالاند، المرجع السابق، ص ص 1522- 1524.

[8] Le Petit la rousse de la philosophie, P842.  

[9] فتحي حسن ملكاوي. التأصيل الإسلامي لمفهوم القيم، مجلة إسلامية المعرفة، السنة 4، العدد 54، خريف 2008، فرجينيا-الو م أ، ص ص 12، 13.

[10] المرجع نفسه، ص 11.

[11] محمد عابد الجابري. العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية: لبنان، ط1، 2001 ص 21.

[12] سيف الدّين عبد الفتاح. العولمة والإسلام: رؤيتان إلى العالم، دار الفكر: دمشق، ط1، 2009، ص 104.

[13] سيف الدّين عبد الفتاح. قيم الواقع، وواقع القيم، ما المعنى العلمي للقيم؟، القيم في الظاهرة الاجتماعية، أعمال الدّورة المنهجية في كيفية تفعيل القيم في البحوث والدّراسات الاجتماعية بمركز الحضارة للدراسات السياسية، دار النشر للثقافة والعلوم: القاهرة، ط1، ص 45.

[14] أبي الحسن علي الماوردي. درر السلوك في سياسة الملوك، تحقيق: فؤاد عبد المنعم أحمد، دار الوطن للنشر: الرياض، ط1، 1997، ص 56.

[15] المرجع نفسه، ص ص 56، 57.

[16] أبي البقاء أيوب الكفوي. الكليات، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع: بيروت، ط2، 1998، ص 65.

[17] محمد عابد الجابري. العقل الأخلاقي العربي، ص 42.

[18] المرجع نفسه، ص 42.

[19] محمد عابد الجابري. العقل الأخلاقي العربي، ص 113.

[20] فهمي جدعان. المقدّس والحرية، ص ص 238، 239.

[21] فهمي جدعان، المرجع السابق، ص 239.

[22] أبي الحسن العامري. الإعلام بمناقب الإسلام، دار الأصالة للثقافة والنّشر والإعلام: الرياض، ط1، 1988، ص 92.

[23] المرجع نفسه، ص ص 92، 93.

[24] محمد عابد الجابري. العقل الأخلاقي العربي، ص ص 51، 52.

[25] محمود حمدي زقزوق. مقدمة في علم الأخلاق، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2، 1993، ص 18.

[26] محمد عبد الله دراز. دراسات إسلامية، دار القسم، الكويت، دط، 1980، ص ص 101، 102.

[27] دون أن يكون أصحاب تلك الادعاءات من دوائر الاستشراق حصرا، وإنّما هي من دوائر إسلامية مختصة. تأمل على سبيل المثال لا الحصر القول التالي: “لم يُعِر العرب علم الأخلاق العناية الكافية ولم يخوضوا في موضوعاته متبحرين كما خاضوا في سائر العلوم الفلسفية من لاهوت، ونفس، ومعرفة، ووجود. ويبدو أن الأخلاق لم تكن بالنسبة لهم مشكلة عويصة تستدعي بذل الجهد لإيجاد حلّ لها. ولهذا جاء نتاجهم فيه قليلا يفتقر إلى العمق والتفصيل”. محمد عابد الجابري. العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، 2001، ص 289.

كذلك أحمد محمود صبحي الذي دافع في كتابه “الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي” عن وجود فلسفة أخلاق إسلامية وخصوصية الفكر الأخلاقي الإسلامي استشكالا واستدلالا، مفندا بذلك من ينظر للأخلاق الإسلامية كنسخة طبق الأصل عن علم الأخلاق اليوناني، إلاّ أنّه بدأ كتابه بتأكيده على قلة الاهتمام بعلم الأخلاق في السياق الإسلامي والعربي القديم والحديث، وإن كان قوله بقلة اهتمام العرب بالدرس الأخلاقي في العصر الحديث ما يقارب الإجماع فإنّا نؤاخذ عليه قوله بقلة العناية بعلم الأخلاق في العصر القديم، يقول:= =”تكاد تكون الفلسفة الأخلاقية من أقل فروع الفلسفة حظّاً من عناية الدارسين والمؤرخين للثقافة الإسلامية – الأقدمين منهم والمحدثين على السواء، فابن خلدون في الفصل السادس من مقدمته حيث تناول “العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه” ذكر علوم العرب جميعاً دون أدنى إشارة للأخلاق، كذلك لا يذكر ابن صاعد الأندلسي فيما ذكره عن علوم العرب شيئاً عنها”. احمد محمود صبحي. الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي: العقليون والذوقين أو النظر والعمل، دار المعارف: القاهرة، ط2، 2002، ص 13.

[28] تأمل في قول صاحب كتاب “دستور الأخلاق في القرآن الكريم”، عبد الله دراز: “بيد أننا بالرجوع إلى مكتبتنا الإسلامية نفسها، لا حظنا أنّها لم تعرف حتى الآن سوى نوعين من التعاليم الأخلاقية: فهي إما نصائح عملية هدفها تقويم أخلاق الشباب حين توحي إليهم الاقتناع بالقيمة العليا للفضيلة، وإما وصف لطبيعة النفس وملكاتها ثم تعريف للفضيلة وتقسيم لها، مرتب في غالب الأمر بحسب النموذج الأفلاطوني والأرسطي، وكثيرا ما نرى المنهجين يتعاقبان في قلم كاتب واحد”. من كتاب دستور الأخلاق في القرآن الكريم، ترجمة: عبد الصبور شاهين، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع: بيروت، ط10، 1998، ص 40. وموقف فهمي جدعان: “إلى عهد غير بعيد، لم تكن مقاربة السؤال الأخلاقي ممكنة، من دون العودة إلى الإغريق […] لقد تمثّل فلاسفة الإسلام المنظورات الأخلاقية الـمُنحدرة من العصرين الهيليني والهلنستي”. فهمي جدعان. مركب أخلاقي حديث للمستقبل العربي، تبيُّن للدراسات الفكرية والثقافية، ص 08.

[29] في الحقيقة الأمر لا يخص فلسفة الأخلاق لوحدها من الحكمة العملية، فمثل هذا الادعاء طال كذلك باقي فروع الحكمة العملية، نخص بالذكر الفلسفة السياسية، فقد سبق لعلي عبد الرازق في كتابه المثير للجدل إنكاره أن يكون للعرب اهتمام بعلم السياسة بخلاف نظرائهم من الإغريق. راجع: علي عبد الرازق. الإسلام وأصول الحكم بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام، مطبعة مصر، 1925.

[30] يعود وصف ابن مسكويه بمؤسس علم الأخلاق للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن في كتابه ” تجديد المنهج في تقويم التراث” كما وصف الإمام الغزالي بـ “مجدد الفكر الأخلاقي الإسلامي”. طه عبد الرحمن. تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي: بيروت، ط3، 2007، ص 381.

[31] أبو علي احمد بن محمد بن مسكويه. تهذيب الأخلاق: في التربية، ط1، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1985، ص 30.

[32] أرسطو طاليس. علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ك 1، ترجمة: احمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب المصرية، 1964، ص 167.

[33] المرجع نفسه، ص 171.

[34] المرجع نفسه، ص 172.

[35] أبي القاسم الحسين الراغب الأصفهاني. الذّريعة إلى مكارم الشريعة، بيروت، ط1، 1980، ص 33.

[36] طه عبد الرحمن. تجديد المنهج في تقويم التراث، ط3، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2007، ص ص 385- 388.

[37] محمد عبد الرحمن مرحبا. من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، دط، دت، ص 57.

[38] المرجع السابق، ص 59.

[39] يُنظر مثلا كتاب: المدارس الأخلاقية في الفكر الإسلامي: دراسة منهجيّة في المصادر والاتّجاهات، مجموعة مؤلفين، ترجمة: عبد الحسن بهبهاني بور، الصادر عن مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي: بيروت، 2012.

[40] محمد عابد الجابري. العقل الأخلاقي العربي، ص ص 621- 624.

[41] تأمل في نقد الجابري لعبد الله دراز حيث جاء على لسان الأوّل ما نصه: “لقد كان من الطبيعي أن يؤثر هذا الهدف الذي توخاه المؤلف (التوجه بكتابه إلى المكتبة الأوربية وعلماء الغرب) في عمله/ منهجيا ورؤية. فقد جاء المنهج تقريريا يجتهد لا في قراءة “أخلاق القرآن” في القرآن. بل قراء “أخلاق الغرب” في القرآن وفي بعض المؤلفات الإسلامية القديمة. ومن هنا تحكمت في رؤيته لـ “أخلاق القرآن” القضايا التي كانت تشغل الفكر الأوربي في مجال الأخلاق في النصف الأول من القرن الماضي. وهي القضايا التي تجد مرجعيتها في الأخلاق الكانتية – نسبة لكانط- والتي تحتل فيها فكرة “الواجب” أو “الإلزام الخلقي” أو “القانون الأخلاقي”، قطب الرحى. هذا مع انسياق كبير مع النظرة القانونية الحقوقية للموضوع”. محمد عابد الجابري. العقل الأخلاقي العربي، ص ص 14، 15.

[42] تأمل في قول طه عبد الرحمن التالي: “إنّ الأصوليين المسلمين استطاعوا أن يأتوا في شريعتهم بما لم يستطع إلى حد الآن الفقهاء والفلاسفة في الشّرائع الأخرى، ألا وهو أن يقيموا الفقه على الأخلاق ويوجهوا الأخلاق بالفقه”. طه عبد الرحمن. سؤال المنهج: في أفق التأسيس لأنموذج فكري جديد، المؤسسة العربية للفكر والإبداع: بيروت، ط1، 2015، ص 93.

[43] طه عبد الرحمن. العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء: بيروت، ط2، 1997، ص 121.

[44] المرجع نفسه، ص 122.

[45] توشيهيكو ايزوتسو. المفهومات الأخلاقية الدينية في القرآن الكريم، ترجمة: عيسى علي العاكوب، دار الملتقى: حلب، ط1، 2008، ص 66.

[46] فالقول مثلا أنّ “زيد خيّر أو شرير” يعدُّ تصنيفا لا وصفا، أما لو قيل “زيد صادق أو كاذب” ففي هاته الحالة يكون وصفا.

[47] المرجع نفسه، ص 72.

[48] رضوان السيد. نظام القيم في القرآن والتّجربة الثقافية الإسلامية في زمانين، مجلة الإحياء، العددان 34 و35 خاصان بـ “سؤال الأخلاق وسؤال القيم”، الرّابطة المحمدية للعلماء: الرباط، 2011، ص 148.

[49] وائل حلاق. مقالات في الفقه: دراسات حول الشريعة، ترجمة: فهد الحمودي، ط1، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2014ص ص 187-191.

[50] عبد الله دراز. دستور الأخلاق في القرآن الكريم، ص 13.

[51] المرجع نفسه، ص 05.

[52] محمد عابد الجابري. العقل الأخلاقي العربي، ص ص 07، 08.

[53] المرجع نفسه، ص 08.

[54] محمد أركون. نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، ترجمة: هاشم صالح، دار الساقي: بيروت، ط1، 2011، ص 100.

[55] محمد أركون. المرجع السابق، ص 101.

[56] يقول الجابري: “من الظواهر اللافتة للنظر في الفكر الأوربي المعاصر، وبالتبعية في الفكر العربي، الاهتمام المتزايد بمسألة الأخلاق والقيم” (التسويد من عندنا). الجابري. قضايا في الفكر المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1997. وقوله= =في موضع آخر: “وبما أنّنا، نحن أبناء العالم الإسلامي، بل أبناء العالم الثالث عموماً واقعون في تبعية حضارية للغرب، تكاد تكون شاملة، فإنّنا واقعون أيضاً، على نسبتنا ومقدارنا، تحت تأثير الظاهرة نفسها، ظاهرة الآلية […] مما يثير لدينا ردود فعل تعكس احتجاج نظام حضارتنا وعاداتنا وقيمنا […] ليس هذا وحسب، بل إنّنا نستورد، بحكم تبعيتنا للحضارة الغربية المعاصرة، ردود فعل هذه الأخيرة على الظاهرة نفسها ظاهرة هيمنة المادية والآلية، نستورد ردود الأفعال تلك ونتبناها ونرددها مع نوع من الالتذاذ”. محمد عابد الجابري. اشكاليات الفكر العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية: بيروت، ط2، 1990، ص 145.

وليست ردود الأفعال المستوردة والمقصودة هاهنا على ظاهرة المادية والآلية إلاّ النقاش الأخلاقي على الظاهرة في الغرب المعاصر.

[57] هذا الوصف لم نورده جزافاً، بل هو قياس على الثورات العلمية المعاصرة كالثورات الصناعية، والبيولوجية، والتكنولوجية، والرقمية. وهي ثورة أخلاقية لأنّها عرفت تبلور نظريات أخلاقية عدة ومتزامنة؛ من قبيل مبدأ المسؤولية (Le Principe Responsabilité) مع هانس يوناس (Hans Jonas) بديلا عن أفول الواجب الكانطي (Le crépuscule du devoir kantien) بصيغته الكلاسيكية، ومقولة التواصل (Communication) مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Jurgen Habermas) والاعتراف (la reconnaissance) مع مواطنه أكسل هونيث (Axel Honneth) وحتى الضيافة (Hospitalité) مع الفرنسي جاك دريدا… إلخ.

[58] شفارتز مان. الأخلاق البرجوازية في العصر الحاضر: الوهم والحقيقة، ترجمة: محمود شعبان، مطبعة ابن خلدون: دمشق، ط1، 1986، ص ص 11، 12.

[59] GUS, Massiah: Pour une démarche convivialiste: Sortir du néolibéralisme, Du convivialisme comme volonté et comme espérance, REVUE DU MAUSS, N°43, PREMIER SEMESTRE 2014, Paris, P 51.

[60] MARC, Humbert: Une indispensable offensive intellectuelle collective, Du convivialisme comme volonté et comme espérance, P 68.

[61] Voire: GRELLIER, Isabelle: Vers un réenchantement du monde?. In: Autres Temps. Cahiers d’éthique sociale et politique. N°43, 1994. PP 63-77.

[62] Responsabilité et cultures du monde: Dialogue autour d’un défi collectif, Sous la direction d’Edith Sizoo, Éditions Charles Léopold Mayer, Paris, P 324.

[63] إزيا برلن. ضلع الإنسانية الأعوج: فصول في تاريخ الأفكار، ترجمة: محمد الزاهي المغيري ونجيب الحصادي، ط1، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2013. ص 28.

[64] محمد عابد الجابري. العقل الأخلاقي العربي، ص 22.

[65] فهمي جدعان. المقدّس والحريّة: وأبحاث ومقالات أخرى من أطياف الحداثة ومقاصد التحديث، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2009، ص ص 249، 250.

[66] حسن حنفي. الواقع العربي الراهن، ط1، دار العين للنشر، القاهرة، 2012، ص 19.

[67] المرجع نفسه، ص 22.

[68] طه عبد الرحمن. العمل الديني وتجديد العقل، ص 09.

[69] مقولتي “الما قبل” و”الما بعد” في هذا السّياق تأخذ دلالة زمنية صرفة بغض النّظر عن الشروط النّفسية والاجتماعية على نحو ما نجدهما عند بن نبي في “إنسان ما قبل الحضارة” (إنسان الفطرة نفسيته مهيّأة لبناء حضارة) و”إنسان ما بعد الحضارة” (الذي يمثل نموذج التّفسخ الحضاري).

[70] في هذا السياق نذكِّر بدعوة فهمي جدعان للبحث عن “مركب أخلاقي جديد” تستند على ما استجد في علم الأخلاق كالأخلاق التطبيقية والديونطولوجية بدل الانكباب على مجرد الأخلاق النظرية الكلاسيكية. وعليه ليس على الخطاب العربي أن يقف بعيداً عن عرض حلول لتلك الاشكاليات وإلاّ الاستثمار في حلولها على نحو ما جادت به قريحة العقل الغربي كالاستثمار في “مبدأ المسؤولية” مثلا. فـ “في فضاءاتنا العربية التي لا تشخص فيها مسائل هذه الحقول وعقابيلها – حيث إنّ جميع أقطارنا تظل في أمرها “خارج السياق”- تثور أسئلة “الأخلاق المطبقة” في مجالات الحياة والاقتصاد والتنمية والسياسة والإعلام والفن وحقوق الإنسان” فهمي جدعان. مركّب أخلاقي حديث للمجتمع العربي، مجلة تبين للدراسات الفكرية والثقافية، ص 12.

[71] مالك بن نبي. شروط النهضة، ترجمة: عبد الصّبور شاهين، دار الفكر، دمشق، ص 48.

[72] حسن حنفي، محمد عابد الجابري. حوار المشرق والمغرب: نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي، ط1، المؤسسة العربية للدّراسات والنشر، الأردن، 1990، ص ص 11- 14.

عن حيدر العايب

شاهد أيضاً

مركزية الفعل الأخلاقي في الرؤية الإسلامية

د. عبد الرزاق بلعقروز

إن إعادة بناء منهج النظر إلى القيم الأخلاقية يجب أن يتم بنقل القيم من دائرة الوجود الكمالي أو التجزيئي أو التهميشي الى دائرة النموذج الحاكم والإطار المرجعي.

غزة وبداية جديدة للتاريخ

أ. مهجة مشهور

نتابع منذ شهور ما يجري على أرض غزة الطاهرة من قتل وتدمير وتجويع واستباحة لكل المعاني الإنسانية، ويتساءل البعض كيف يمكن لهذه الجرائم أن تتم على مرأى ومسمع من العالم دون محاولات حاسمة من قِبل الدول الكبرى لإيقاف هذه الكارثة الإنسانية. بل على العكس إننا نرى هذه الدول تدعم بالسلاح والمال مَن يقوم بهذه المجازر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.