مولانا- الضيف- صاحب المقام: الدين في أفلام إبراهيم عيسى

مولانا- الضيف- صاحب المقام  

الدين في أفلام إبراهيم عيسى

أ. تقى محمد يوسف*

في كل مرةٍ يخرج علينا إبراهيم عيسى بفيلم من أفلامه، تثور حالة كبيرة من الجدل؛ فالأفلام التي يكتبها تتطرق إلى مواضيع حساسة يدور معظمها حول الدين وعلاقته بالمجتمع، ولذلك تتباين وجهات النظر حولها بشكل كبير، وينقسم الناس إزائها إلى فريقين؛ مؤيد ومعارض. حتى اليوم، تم إنتاج ثلاثة أفلام من تأليف عيسى، الأول هو فيلم “مولانا” (2016) وهو مأخوذ عن روايةٍ له تحمل نفس الاسم. والفيلم الثاني بعنوان “الضيف” (2019). أما الفيلم الأخير الذي ألفه فهو “صاحب المقام” والذي عُرض على منصة إلكترونية عام (2020).

في هذا المقال، نحاول التعمق في موضوعات الأفلام الثلاثة، وفي الطريقة التي تم تناولها من خلالها، كما نبحث في أدوات الإقناع المستخدمة فيها، ونحاول أيضًا الكشف عن الخطابات التي تم تعزيزها في هذه الأفلام والخطابات التي تم تحييدها، وذلك للوقوف على طبيعة الرسائل الموجهة للمجتمع المصري؛ المستهدف الأساسي بهذه الأفلام.

قصة الأفلام الثلاثة

قبل الشروع في تحليل موضوعات الأفلام الثلاثة، نعرض فيما يلي لملخصاتها ليكون القارئ على دراية بالفكرة الرئيسية لكل فيلم.

مولانا

يحكي الفيلم قصة الشيخ حاتم، موظف الأوقاف، الذي يتبدل حاله ويصبح غنيًّا بعدما صار أحد مشايخ التلفاز، وبسبب طريقته الساخرة البسيطة في إيصال معاني الدين يصبح ذا شعبية عريضة، تزداد حتى يبدأ في التعرف على “جمال” ابن الرئيس، الذي يطلب مساعدته في إقناع “حسن” شقيق زوجته بالرجوع إلى الإسلام بعدما تأثر بالمسيحية. وهكذا يلتقي حاتم مع حسن (الذي يريد أن يتحول إلى بطرس)، لنعرف من خلال مناقشاتهما آراء حاتم في علاقة الأديان ببعضها. من جانبها، تحاول أجهزة السلطة كسب الشيخ حاتم إلى صفها، واستخدامه من أجل بث أفكارها بسبب شعبيته وحب الناس له. وهكذا يعاني الشيخ حاتم من أجل التوفيق بين مبادئه وقناعاته، وبين الضغوط التي يتعرض لها من قِبَل أجهزة الأمن والطبقة الحاكمة. وأثناء ذلك، يناقش الفيلم قضايا كثيرة مثل التجديد والتصوف وعلاقة الدين بالدولة والإرهاب. 

الضيف

يتناول الفيلم قصة يحيى التيجاني، المثقف الذي يحاول “تنوير عقول الناس وتغيير أفكارهم البالية،” وفي سبيل ذلك يتحمل صعوبات من بينها تلقي العديد من التهديدات فضلا عن رفع عدد من القضايا ضده بتهمة ازدراء الأديان. تتعرف فريدة ابنته على شخص يدعى أسامة، وتقرر تقديمه لوالديها كزوج المستقبل، فتدعوه لبيتها ليتعرف على أسرتها، يزور أسامة الأسرة ليتفاجأ الوالدان بأنه شخص سلفي ذي أفكار تختلف اختلافًا جذريًا عن أبيها يحيى. وتدور — على مدار الفيلم — حوارات طويلة بين يحيى وأسامة حول قضايا مثل الحجاب واختلاف الأديان، يظهر من خلالها التناقض الرهيب في الآراء بينهما. وفي لحظة معينة يخرج أسامة مسدسه الذي خبأه، ويوجهه تجاه يحيى وعائلته، لنكتشف أن أسامة إرهابي، كان يخطط منذ البداية لقتل يحيى، ليخلّص العالم من أفكاره.

صاحب المقام

بطل الفيلم هو يحيى الرملي؛ رجل الأعمال الغني الذي لا يهتم بعائلته بسبب انغماسه في أعماله ومشاريعه. يريد يحيى بناء منتجع سياحي في نفس المنطقة التي تضم مقام “سيدي هلال،” ولذلك كان لابد من هدم المقام الذي يزوره الناس تبركا به، ورغم محاولة شريكه إقناعه بعدم الهدم، يقرر يحيى في النهاية هدم المقام لتبدأ حوادث غريبة في حياته، بدايةً من انخفاض أسهم شركته في البورصة، وصولًا إلى فقدان زوجته للوعي من دون أي مقدمات، وعندما يذهب بها يحيى إلى المستشفى يعرف أن زوجته قد أصيبت بنزيف في المخ، لكن الأطباء لا يعرفون السبب. وفي المستشفى، يقابل السيدة “روح” التي تخبره أنه لابد أن يذهب ليطلب السماح من الذين أحزنهم، ليفهم يحيى أن ما حدث له ولأسرته إنما هو بسبب هدمه مقام “سيدي هلال”، وأن عليه أن يطلب السماح من صاحب المقام الذي هدمه ومن الأولياء عموما، وهكذا يذهب يحيى إلى عدة مقامات حتى يصل إلى مقام الشافعي، ويقرر أن يأخذ الرسائل التي يتوجه بها الناس إلى مقامه حتى يحاول حل مشكلاتهم التي يكتبونها في تلك الرسائل. وبعدما تتقاطع طرقه مع عدة أشخاص يحاول أن يساعدهم، تستعيد زوجته وعيها، وتعود معه إلى البيت، لنكتشف أنها كانت قد استردت وعيها منذ فترة، لكنها اتفقت مع “روح” أن تتظاهر أمامه بأنها مازالت في غيبوبتها حتى يُكمل يحيى رحلته الروحية ويتعلم الدرس.   

الموضوعات التي تطرحها الأفلام

تدور أفلام إبراهيم عيسى بشكل أساسي حول الدين وتفاعلاته مع المجتمع، وتشتمل على حوارات وأسئلة حول التجديد والإرهاب والتعايش مع الديانات الأخرى. ونحاول فيما يلي فحص هذه الموضوعات كل على حدة. 

سؤال الدين في الأفلام الثلاثة

مثل الدين في أفلام عيسى المحور الأساسي، وتمت مناقشته عبر عدد من الموضوعات الفرعية مثل علاقة الدين بالعقل والعلم، ومَن الذي يحق له أن يتحدث باسم الدين، وشكل التدين المرغوب فيه. وعند مناقشته علاقة الدين بالعقل يصور عيسى شخصيتي الشيخ حاتم ويحيى التيجاني كمثالين “للنموذج العقلاني،” الذي يرد “السنة النبوية” جزئيًا أو كليًا، ويتوسع في “الاجتهاد” دون ضوابط منهجية محددة، ويعول على العقل حتى يضعه في أحيان كثيرة فوق الوحي. ويتأكد هذا النموذج في حوارات الأبطال، ففي حوار الشيخ حاتم ونشوى في فيلم مولانا؛ يذهب الشيخ حاتم إلى ضرورة إعمال العقل في الأحاديث النبوية كشرط لقبولها، فلابد أن يكون الحديث موافقًا للعقل والمنطق حتى يُقبل. وفي إطار هذا الحوار يتم — تصريحا — استدعاء فكر المعتزلة، والذي يدعو لتقديم العقل على النقل. ففي أحد المشاهد يقول الشيخ حاتم لنشوى “أنا كمان مؤمن بحرية المرأة في الإسلام، بس افرضي يعني جالك أحد المستشرقين بحديث في البخاري عن الرسول “إذا باتت امرأةٌ هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع، ها؟ هـ تقولي إيه؟” ولما احتجت نشوى بأنه يجب قبول الحديث لأنه في البخاري، رد عليها الشيخ حاتم قائلًا “بقينا بـ نعبد البخاري يا نشوى، مبنعبدش ربنا، فيه مئات، بل آلاف الأحاديث الضعيفة والغريبة واللي محتاجة إن إحنا نُعمل فيها العقل“.

وفي فيلم الضيف؛ يتم تصدير المنهج العقلاني مرة أخرى، ولكن من خلال إكليشيهات بعضها غير منطقي، كما في الحوار الذي يدور بين يحيى التيجاني وأسامة حول الحجاب، حيث يحاول الأول إسقاط فرضية الحجاب باستخدام حجة أن النساء قبل السبعينيات لم يكنّ يلبسن الحجاب، وبالتالي فالحجاب بهذا المعنى عُرف مستحدث وليس بقديم، وكأن الممارسة في حد ذاتها تمثل حجة ودليلا عقلانيين.

ومع تقديم العقل والمراهنة عليه، إلا أن “الدين غير العقلاني” يتم الاحتفاء به في فيلم صاحب المقام، حيث يقدم عيسى نسخته المفضلة من الدين، وهي النسخة القائمة على الطقوس التي تركز على القلب لا العقل، وتنهض على كرامات الأموات، الذين يمكن طلب المساعدة منهم، وممارسة صنوف العبادة المختلفة عند/إلى أضرحتهم، إلى غير ذلك من صور “اللاعقلانية” التي امتلأ بها الفيلم، مثل الشخصية الشبحية “روح”، التي كانت تختفي وتظهر — دون سياق عقلاني — على مدار الفيلم. ويؤكد عيسى الطبيعة الغرائبية لـ “روح” في ردها على راندا، (زوجة يحيي)، عندما طلبت الأولى منها أن تتظاهر بالاستمرار في غيبوبتها حتى يكتشف زوج الثانية (يحيى) الجانب غير المادي في شخصيته، ويتخلى عن أنانيته المفرطة. فعندما سألت راندا “هو حضرتك مين؟” ردت روح “مش مهم أنا مين، المهم أنا ليه؟” في إحالة عرفانية إلى الميتافيزيقي المتجاوز لعالم العقل، فليس من المهم أن يكون ثمة أساس منطقي/واقعي لشخصية روح، ولكن المهم هو ما تحدثه من تأثير على راندا ويحيى. ولهذا عندما بدأ يحيى في اليأس بسبب عدم تحسن حالة راندا، رغم محاولاته مساعدة الناس عبر حل مشاكلهم، قالت له روح “مش مهم إنك تفهم، المهم إنك تحس“. ليقلب عيسى الطاولة على العقل، ويسلم مشاهديه لحالة صوفية، تؤمن بالعرفان، ولا تتوقف كثيرا لطلب البرهان.

هذه المراوحة بين الإصرار على توظيف العقل في فهم الدين، ثم استبعاد العقل عند ممارسته، تقدم لنا الشفرة اللازمة لفهم تصور عيسى عن الدين ودوره في المجتمع. وهي الشفرة التي ظهرت بوضوح في “مولانا” حيث يهتم عيسى بتصوير العلاقة بين العلم والدين على أنها علاقة أضداد، وأنهما في طرفي نقيض، فالدين تجربة ذاتية، بين الإنسان وربه، بينما العلم علاقة موضوعية قائمة على توظيف قواعد المنهج العلمي. يقول الشيخ حاتم في “مولانا” مخاطبا الدكتور جمال “بقولك يا شيخ، قصدي يا دكتور جمال، ما تحاولوا تخترعوا لنا دوا كده مصري يرفع الراس بدل ما انتوا سايبين الاختراعات كلها للصليبيين والفرنجة ولا الكفرا… وانتوا بقى مقضينها تفسير وتأويل وقراءة القرآن“؛ وهنا فإن خطاب عيسى يحمل أكثر من رسالة محتملة، منها الإيحاء بأن ثمة تناقضا ضروريا بين اختراع الدواء وتفسير القرآن، وأن الإنسان إما أن يصبح شيخًا أو طبيبًا، وأنه لا يمكن الجمع بين الصفتين، وأن الخطاب الديني هو خطاب عاطل، لا يبدع فكرا، ولا يقيم حضارة، وأن علوم الدين ليست علوم عمران، وإنما هي أمور زائدة على الحاجة. ولكن الأهم من هذه الرسائل هي فكرته أن الدين لا يصلح أن يكون علما أصلاً، ولا يصح النظر له على أنه كذلك، وإنما هو تجربة شخصية، لا يستقيم أن تقعد بقواعد، بل ينبغي أن يترك الأمر فيها لكل واحد كي يعيشها وفق ذائقته الخاصة.

ويؤكد هذا المعنى يحيى التيجاني في سؤاله “الضيف” أسامة “علماء إيه بقى؟ كيميا ولا فيزيا؟” وعندما يرد عليه أسامة قائلا “علماء دين”، يقول يحيى “مشايخ، مشايخ، شيوخ، مش كل شيخ عالِم، أصل عالم دي كلمة كبيرة ومركبة، مش حاجة مجانية كده“. وهكذا يستحق المشتغلون في الكيمياء أو الفيزياء وصف “علماء” بشكل تلقائي، بينما لا يمكن وصف الشيوخ بالعلماء إلا إذا اتصفوا بصفات معينة لم يوضحها لنا يحيى التيجاني. 

العامل المشترك في الحوارات السابقة هو إصرار عيسى على تصوير المشايخ — الذين يؤكدون على “علمية الدين” — بصورة سلبية، وذلك من أجل الانتصار لوجهة النظر العكسية والتي مفادها أن الدين علاقة شخصية/روحانية/ذائقية بين الإنسان وربه، لا تحتاج إلى وساطة وسيط ولا إلى تعليم شيخ، أو تفسير مفسر، وبالتالي يصبح من حق كل فرد أن يعيش تجربته الدينية، وأن يتحدث في الدين، على اعتبار أن هذا الأمر لا يقتصر على الشيوخ والأئمة! 

وهنا يقول الشيخ حاتم لحسن “أول حاجة لازم نعملها قبل ما نتكلم إن إحنا نفرق بين الدين وبين رجال الدين أو اللي بيتكلموا باسمه“؛ وهنا يتم استحضار الكلمة سيئة السمعة “رجال الدين،” للإيحاء بأن شيوخ اليوم يشبهون في طبيعتهم وأدوارهم رجال الدين، الذين كانوا يقفون عائقا بين الإنسان وبين ما يؤمن به، في أوروبا العصور الوسطى، والذين حاولوا منع التنوير هناك، ووقفوا في وجه الإصلاح. نفس المعنى السابق قام يحيى التيجاني بتأكيده في المقارنة التي عقدها بين الشيوخ ورجال الدين في حواره التالي مع ضيفه:

يحيى: عندك مثلًا اللي  بـ يقولوا عليه شيخ الإسلام ابن تيمية

أسامة: رحمة الله عليه

يحيى: أهلا وسهلا، هل بقى عندك فكرة إن ابن تيمية كفّر جابر بن حيان وقالك إيه؟ “إن الكيمياء أشد حرامًا من الربا”، تخيل! وتلميذه ابن القيم، عندك فكرة قال على ابن سينا إيه؟ إمام الملحدين، معقولة؟!

أسامة: ما الغرب برضه يا دكتور اضطهد وقتل وعذّب علماء كتير، زي جاليليو وكوبرنيكوس.

يحيى: صح، وغيرهم كتير كتيير، أنا معاك يا أسامة، بس اللي حصل بعد كده يا حبيبي إيه؟ اللي حصل إن الغرب رجع واعترف إن هو كان متخلف وجاهل وإن هو أجرم باسم الدين في حق العلم والعلماء.

إذن، تحاول أفلام عيسى أن ترسم صورة للدين باعتباره تجربة روحية محضة، يخوضها الإنسان ليرتقي بنفسه من المادية إلى حالة من الوجد الصوفي، ومن عالم الشهادة إلى عالم الغيب. هذا التصور “المفارق” للدين ينأى به عن التدخل في الحياة الاجتماعية وتفاصيلها، ليس لأن الزمن يتغير، وما كان مناسبًا للبشر في الماضي لم يعد كذلك في الوقت الراهن، وإنما لأن هذا هو الجوهر الحقيقي للدين، فالدين شعور، وليس التزام، ومن هنا لم تكن دعوة عيسى لإعمال العقل والاجتهاد — من دون تحديد منهجية واضحة لذلك —ترمي إلى فهم الدين، بقدر ما كانت تستهدف تحديد ما يتم الأخذ به وما يتم طرحه جانباً منه، وذلك للحفاظ على المعنى الحقيقي للدين من حيث هو تجربة روحية، وليس مدونة محددة للأخلاق والسلوك. 

من ناحية أخرى، لم يتم إغفال العلاقة بين الدين والسياسة في أفلام عيسى، فقد ظهر التفاعل والتقاطع بين الدين والسياسة واضحًا في فيلم مولانا، لكنه خفت بشكل كبير في فيلم الضيف، ثم اختفى بشكل شبه تام في فيلم صاحب المقام. وتظهر إشكالية التفاعل بين الدين والسياسة في فيلم مولانا في العلاقة التي جمعت بين الشيخ حاتم وبين جمال ابن رئيس الجمهورية، والذي يرمز بشكل واضح لجمال مبارك، من خلال التشابه في الاسم وفي الشكل أيضا. كان جمال يريد من الشيخ حاتم أن يقنع حسن — شقيق زوجة جمال — بالبقاء على الإسلام وعدم اعتناق المسيحية، ليمنع الفتنة التي قد تحصل في البلد نتيجة هذا، وقد كان واضحًا خوف الشيخ حاتم من جمال، لذلك كان يحاول إقناع حسن حتى ينفذ ما طُلب منه، رغم عدم اقتناعه هو (حاتم) بما يفعل. حيث ظهر حاتم في صراع نفسي بين اضطراره تنفيذ ما تطلبه السلطة منه وبين التزامه تجاه ما يؤمن به، على نحو أراد من خلاله عيسى أن يعكس العلاقة القلقة بين الدولة والمؤسسات الدينية، والصراع الدائر بينهما على السلطة، بمعنى القدرة على التأثير.  

كان الشيخ حاتم يعتقد أن النظام (السابق) هو من يقوم بتأزيم العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وفق سياسة “فرِّق تسد”، ويظهر هذا في قول الشيخ حاتم لحسن أثناء إحدى حواراتهما “البلد عندنا مقسومة أغنيا وفقرا، فسدة وشُرَفا، مش مسلمين وأقباط، لكن النظام اللي عندك في البيت عايزنا كده؛ المسلم (بـ)يتعامل مع المسيحي على إنه كافر ولازم يسلم، والمسيحي شايف المسلم كافر وظالم وعنصري“. 

أما عن تصور عيسى عن العلاقة التاريخية بين الدين بالسياسة فيصرح بها على لسان الشيخ حاتم في فيلم مولانا في قوله “المسيحية أول ما خرجت من بيت لحم بقت سياسة، والإسلام بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام بقى سياسة“. ويقول يحيى التيجاني في فيلم الضيف “الخلافة نظام حكم زيه زي كل نظم القرون الوسطى، مجد عسكري وتوسع امبراطوري، صراع على السلطة وتقتيل في البشر وتجارة في الدين وتطرف إلخ إلخ، يعني نفس اللي حصل في أوربا حصل عندنا بالمللي، هم بس استفادوا من أخطائهم واحنا اتشلينا جوا أخطاءنا.

 من هذين المشهدين يظهر تبني عيسى للتفسير “المُسيس” للتاريخ الإسلامي، وهو التفسير الذي يفترض وجود أغراض سياسية كامنة وراء كافة تفاصيل التراث والتاريخ الإسلاميين، على نحو يشوه المقاصد الحقيقية لرموز هذا التاريخ، ويهدم تراثهم من خلال تصويرهم على أنهم مجرد سعاة وراء السلطة والجاه، غير معنيين بحمل رسالة الدين إلى العالمين، وأن نشرهم للدين إنما كان لأغراض سياسية ونفعية بحتة لا أثر للقيم السامية فيها.[1]

التقريب بين الأديان

تُظهر أفلام عيسى أن لكل إنسان حق اختيار طريقه لله، ولا يوجد طريق أفضل من آخر، وحتى إن كان هناك طريق أفضل فمَن الذي يقرر وعلى أي أساس؟ لذلك فالأسلم — كما توحي أفلام عيسى — أن تتقارب الأديان مع بعضها، وأن يتقبل الناس بعضهم البعض بشكل مطلق، بل وأكثر من ذلك؛ أن تتحد الأديان والمذاهب مع بعضها، لأن أهدافها واحدة.

وتجدر الإشارة إلى أن هناك فرقًا بين الدعوة إلى وحدة الأديان وبين الدعوة إلى تقريب الأديان؛ فالأولى تصدر عن قناعة بأن الأديان كلها متساوية، ومن ثم تتمثل قناعتها في الانصهار التام في دين عالمي واحد، ليس فيه أثر لأي اختلافات، بينما الثانية تصدر عن قناعة بوجود اختلافات بين الأديان، ولكنها تتبنى استراتيجية غض الطرف عنها، وعدم إثارتها، وتكون غايتها تحقيق التعايش المشترك واحترام حق الاختلاف.[2]

في فيلم مولانا تظهر في مواطن متعددة رغبة المؤلف في الترويج لفكرة “التقارب بين الأديان؛” فيقول الشيخ حاتم في رده على سؤال طرح عليه حول موضوع علاقة السنة بالشيعة: “الأصل في الدعوة … أن نوحد لا نفرق، نجمع لا نشتت، ننصح لا نهدد، الدين … وسيلة، طريق لغاية الغايات، الله عز وجل، نقوم إحنا بقى ننسى الغاية ونتوه في الطريق!” كما يقول لحسن في نقاشهما حول الإسلام والمسيحية “يا سيدي أنا لا أدخل مسيحيين إسلام ولا مسلمين المسيحية.” ويظهر منطق التقريب بين الدينين بوضوح عندما ذهب جمع من المشايخ إلى الكنيسة، بعد التفجير الإرهابي الذي وقع فيها، لتهدئة الناس هناك. وتعتمد رؤية عيسى في التقريب بين الأديان على الحوار، فتظهر في الفيلم دعوات إلى حوار الأديان، وقبول الآخر، في محاولة للوصول إلى مساحة مشتركة، حتى وإن أدى ذلك إلى التنازل عن بعض المسلمات والثوابت.

ولكن الدعوة “لوحدة الأديان” تظهر أيضا في حوارات أبطال عيسى، ومن ذلك عندما يقول الشيخ حاتم لحسن: “بصراحة أنا مش ضامن إنك هتخش الجنة لو فضلت مسلم، ولا طبعًا إنك هتروح النار لو بقيت مسيحي، لأني مؤمن إن ربنا سبحانه وتعالى بـ يشمل رحمته كل الناس؛ مسلمين (بقى) نصارى يهود ملاحدة“.

وفي فيلم الضيف تظهر “وحدة الأديان” عندما يتفاجأ أسامة أن زوجة يحيى التيجاني مسيحية وليست مسلمة، ويسأله لماذا لا يدعوها إلى الإسلام ليرد عليه يحيى بقوله “ما هو ربنا هاديها، أهديها أنا ليه؟” ثم يقول “يعني واحدة ست سعيدة مع ربنا، أنا أتدخل بينها وبين ربنا ليه؟” كما يمكن اعتبار الفيلم كله دعوة للمزج الديني، إذا اعتبرنا أن بيت يحيى التيجاني، وفق وصف عيسى نفسه، يرمز إلى المجتمع المصري؛ فيحيى وفريدة يمثلان المسلمين، وميمي تُمثل المسيحيين، وهم يعيشون في تناغم ومحبة وسلام، إلى أن ظهر أسامة (الضيف) صاحب الفِكر المتطرف الدخيل على المجتمع المصري، الذي يجب القضاء عليه.

أما فيلم صاحب المقام فقد ضخًم المؤلف فيه من فكرة التصوف[3] ليعرض من خلالها مشروعه الداعي لوحدة الأديان، فالتصوف يعتمد فكرة أن طرق الوصول إلى الله تتعدد بتعدد أنفس الخلائق، لذلك ليس من الضروري الالتزام بدين محدد، بل الأهم هو الوصول إلى حقيقة الإيمان وفق معناه المطلق. وقد تجلت هذه الفكرة بوضوح في زيارات يحيى الرملي إلى المقامات والأضرحة، ليدعو عندها الله أن يشفي زوجته، ويقرأ الفاتحة على روح صاحب المقام الذي يزوره، ثم بعدها يذهب إلى الكنيسة مع صديقه جورج وعندما يسأله يحيى “هو أنا المفروض أعمل إيه دلوقتي يا جورج؟” يرد جورج قائلًا “هتولع شمعة وتقرأ الفاتحة“، ويفعل يحيى ما يقوله جورج، لينقل للمشاهد رسالة مفادها أن كل طرق الإيمان تؤدي إلى الله، فلا فرق بين طريق أو دين وآخر.

التجديد

التجديد، أو التنوير، هو من الموضوعات التي تتم مناقشتها في أفلام إبراهيم عيسى على نحو متكرر، ولا عجب في ذلك فالكاتب له أفكار “تجديدية” يعبر عنها في برامجه ومقالاته. ولكن التجديد الذي يطرحه عيسى في أفلامه يأتي دوما وفق معنى سلبي؛ إذ يتضمن إحداث نوع من القطيعة مع التراث، والتشكيك في ثوابته، وإسقاط شخصياته ورموزه. 

ففي فيلم مولانا، كان حامل لواء التجديد هو الشيخ حاتم نفسه الذي يحاول بث الوعي في عقول الناس من خلال برنامجه، حتى وإن لم يستطع البوح بكل أفكاره التي تصادم الأفكار “التقليدية” التي يحملها أفراد المجتمع. ويظهر ذلك واضحًا في حواراته مع نشوى، التي كانت ضيفة في إحدى حلقات برنامجه. 

كما استخدم عيسى “الرموز” لإبراز قضية التجديد؛ ففي مشهد من فيلم مولانا يقف الشيخ حاتم ليتحدث مع منتج البرنامج، وخلفه مباشرةً صورة للإمام محمد عبده، في إشارة إلى أن الشيخ حاتم يمثل امتدادا لأفكار الإمام محمد عبده صاحب المحاولة الأشهر للتجديد في العصر الحديث. وتتشابه بالفعل بعض أفكار الشيخ حاتم مع أفكار الإمام محمد عبده؛ فمثلًا يتفق حاتم مع عبده في تقديم العقل على النقل، ويظهر ذلك بوضوح في حوارات الشيخ حاتم مع نشوى حين سألها “ربنا عرفوه بإيه؟” قبل أن يؤكد قائلا “ربنا عرفوه بالعقل، هي دي نظرية المعتزلة كاملة”، أو حين قال لها “فيه مئات، بل آلاف الأحاديث الضعيفة والغريبة واللي محتاجة إن إحنا نُعمل فيها العقل“. كما يتفق الشيخ حاتم مع الإمام محمد عبده في موضوع وحدة الأديان؛ فمما قاله محمد عبده في رسالة بعثها إلى إسحاق تايلور يناقشه فيها حول توحيد الإسلام والنصرانية “وإنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة، وصحفاً متصادقة، يدرسها أبناء الملتين ويوقرها أرباب الدينين”[4]، ويقر الشيخ حاتم بذلك حين يقول لحسن “يا سيدي، أنا لا عايز أدخل مسيحيين إسلام ولا مسلمين المسيحية“.

وإذا كان التجديد في فيلم “مولانا” يقدم على يد شيخ وهو الشيخ حاتم، فإن التجديد في فيلم “الضيف” يأتي على يد التنويري يحيى التيجاني، الذي يريد أن ينير عقول الناس ويصلح أحوالهم، ويظهر من مقارنة البناء الدرامي للفيلمين أن عيسى أراد أن يظهر يحيى (العلماني) أكثر شجاعةً وإقناعا من الشيخ حاتم (رجل الدين)، لأن الأول يعلن آراءه وأفكاره بوضوح، دون خوف من الاتهامات التي توُجه له بازدراء الأديان، على عكس الشيخ حاتم الذي كان يحسب حسابا لكل كلمة، ولم يكن يعبّر عن كل أفكاره خوفًا من مخالفيه. وتظهر الأفكار التنويرية الجريئة ليحيى التيجاني أثناء حديثه مع أسامة حول موضوعات مختلفة مثل الحجاب، والعلاقة بالتراث، وعلاقة المسلمين بالمسيحيين، ووحدة الأديان.

ولنأخذ مثلًا قضية الحجاب؛ فيحيى التيجاني يعتبر الحجاب بدعة مستحدثة ظهرت في سبعينيات القرن الماضي، ودليله على ذلك أن النساء لم يكنّ محجبات في مصر قبل السبعينيات، وكل صور النساء كانت وقتها بملابس قصيرة! وهكذا يقع عيسى/يحيى في مغالطة رجل القش ليثبت عدم فرضية الحجاب؛ فلا يناقش الآيات القرآنية ولا الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الموضوع، لكنه يختار حديثًا ضعيفًا[5] وهو حديث “يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا — وأشار إلى وجهه وكفيه،” ليفحم من خلاله “الضيف” بهذه المعلومة، معلومة ضعف الحديث، ثم ينبري لمناقشته مناقشة عقلية، بحيث يظهر بعدها وكأنه قد استطاع إسقاط فرضية الحجاب بالضربة القاضية!

التشدد والإرهاب في الأفلام

تناقش الأفلام الثلاثة قضية التشدد والإرهاب، على نحو أراد من خلاله عيسى أن يلقن مشاهديه بمجموعة من المعطيات، التي تحدد على نحو مدرسي ما هو التشدد وما هو التطرف وما هي صفات الإرهابي ودوافعه. فالغالب على أفلام عيسى الطابع المقالي، حيث الحبكة تقدم دائما في صورة درس مباشر، الأمر الذي يأتي عادة على حساب جودة التناول الدرامي من جهة، وقد لا يستوفي معايير الدرس العلمي (لصعوبة وضع مقال علمي في إطار قالب فني) من جهة أخرى.

 في فيلم الضيف اهتم عيسى أن يُظهر احترام أسامة “المتطرف الإرهابي” لابن تيمية، الذي يعتبره يحيى التيجاني رجلًا متشددًا وتكفيريًّا. وهنا نجد أن أسامة، الإرهابي، كان معيدًا في الجامعة، درس في أمريكا، ويعيش في منطقة راقية. أما دافعه الأساسي وراء محاولة قتل يحيى فهو تخليص الناس من أفكاره التي يعتبرها كفرًا وخروجًا عن الملة، ولم يكن أسامة يعمل من تلقاء نفسه، بل كان عضوا في جماعةٍ لم يخبرنا الفيلم عن تفاصيلها، كما لم يعرض، على نحو شاف، الحيثيات التي بموجبها صار أسامة إرهابيا.

أما بالنسبة لمعنى التشدد والتطرف، ففي الأفلام الثلاثة يتم تقديم التشدد كمرادف للأفكار السلفية، ويظهر ذلك من خلال بعض الحوارات والمشاهد الرمزية. ففي فيلم مولانا، لم يكن من بين الشخصيات الرئيسية شخصيات سلفية، لكن ظهر في أحد المشاهد شخص سلفي، ذو لحية كثيفة، يعتلي المنبر يصرخ ويتحدث بعنف عن البدع وهو غاضب، وفي مشهد آخر تظهر مجموعة من السلفيين يحرقون بيت الشيخ مختار (الصوفي)، ويهتفون بصوت عالٍ “إسلامية، إسلامية“، و”يسقط الكفرة“. 

كما تم تمثيل السلفيين في هذا الفيلم على أنهم أعداء للصوفية، متشددون، إرهابيون، بالإضافة إلى أنهم يتم استعمالهم مِن قِبل السلطة، ويظهر هذا في حوار الشيخ حاتم مع ضابط الشرطة، حين يذهب الشيخ حاتم ليسأله عن مكان الشيخ مختار الصوفي، فيقول ضابط الشرطة “إنت تعرف كويس أوي إن مشكلته مع المتشددين والسلفيين والرأي العام” فيرد عليه الشيخ حاتم قائلًا “ومين اللي عمل كل دول يا باشا؟ مين خدهم على حِجره وكبرهم وإداهم كل جوامع مصر؟”  

وفي فيلم الضيف، أخذ يحيى يتحدث عن نمط حياة هؤلاء “المتطرفين” عندما كان يخبر أسرته عن انتمائه السابق لإحدى الجماعات الإسلامية: “كنت في تانية ثانوي، كنت بـ أنزل أصلي في جامع مسيطر عليه واحدة من الجماعات الإسلامية، ابتدوا يتابعوني ويشوفوا مواظبتي على الصلاة، وبعد كده بدأوا يتقربوا مني؛ هدايا، مصاحف وشرايط، كتب من الكتب بتاعتهم، وتسجيلات للدعاة بتوعهم، بعد كده ختمة قرآن، اعتكاف رمضان، وبعدين بدأوا يقنعوني بضرورة الانضمام للجماعة…روحنا هاجمنا نادي فيديو“، في إشارة إلى أن ختمة القرآن، واعتكاف رمضان، وسماع الدروس الدينية، هي خطوات أكيدة تنتهي بالمرء للتشدد والتطرف!

كما حاول الفيلم إظهار أن جمود السلفيين في فهم النصوص الدينية هو ما يؤدي بهم في النهاية إلى التطرف والإرهاب، ويظهر ذلك من خلال فهم أسامة لآية “قُمْ فَأَنْذِرْ” والتي اعتبرها محركه الأساسي للقيام بمحاولة قتل يحيى في بيته وأمام أسرته، فقد جاء أسامة بلوحة مكتوبٌ عليها “قم فأنذر” وقدّمها ليحيى كهدية، وبعد الحوارات التي دارت بين أسامة ويحيى، بدأ يحيى بتنفيذ خطته ليُخرج المسدس الذي كان مخبأً في اللوحة ليقول ليحيى “أديني قُمت” ثم يوجه المسدس ناحية يحيى ويقول “فأنذرت.” في مقابل ذلك، يُظهر الفيلم تفسير التنويريين للنصوص الدينية على أنه أكثر اعتدالًا وأكثر بعدًا عن التشدد، مثل تفسير يحيى لنفس الآية في أول الفيلم قائلًا “إنتـ (ـي) واخدة بالك من المغزى يا ميمي؟ “قم فأنذر” اللي هي أصلًا مهمة الرسل، وبالتبعية المصلحين والمفكرين، أن ينذروا الظالم والمفسد والغافل“.

وفي فيلم صاحب المقام الذي يدور كله حول التصوف والأضرحة والأولياء، يظهر السلفيون في مشهد واحد في الفيلم وهم يكبّرون أثناء هدم الضريح، وكانت وجوههم غاضبة ومنفعلة، ليوحي المشهد بتشددهم وتطرفهم. كما يصور الفيلم العداء بين السلفيين والصوفيين، لأن السلفيين يريدون هدم الضريح بينما يريد الصوفيون الإبقاء عليه، وهكذا فكر “حليم” في استخدام هذا العداء من أجل هدم الضريح وبناء المنتجع السياحي، وحرّض يحيى الرملي قائلًا “السلفيين في المنطقة قالبين عليه الدنيا، مفيش خطبة جمعة إلا لما يتكلموا في الموضوع ده“.

وهكذا، يتم تصوير السلفيين في الأفلام الثلاثة على أنهم متشددون، غير قادرين على التعايش مع المذاهب الأخرى، وهي نفس رؤية التنويريين العرب لهذا التيار، حيث يعتبرونه دخيلًا على الإسلام الوسطي في مصر.[6] وقد حرص عيسى على إبراز هذا المعنى عن السلفية في كافة حوارات أفلامه، فالسلفي بالضرورة إرهابي ولا يمكن أن يكون وسطيا سمحا، وهو هنا لا يقدم تعريفا واضحا للسلفية، وبالتالي جعله مصطلح سيئ السمعة يندرج تحته كل من يصلي الفروض في الجامع أو يصوم النوافل أو حتى يقرأ القرآن في الأجزخانة التي يعمل بها، فأولئك جميعا مشروع إرهابي، وهذا ما يسعى عيسى الى ترسيخه في أذهان الناس.    

وإذا كانت أفلام عيسى تهاجم بشكل عنيف السلفية، فإنها تُروِّج للصوفية والمتصوفين بنفس الدرجة، باعتبارهم البديل المسالم وغير المتشدد، كشخصية الشيخ مختار أو شخصية روح، حيث تصورهم على أنهم النموذج المسالم، الذي يمشي على الأرض هونا. وعلى أي حال فإن الترويج الدرامي للتصوف، على عكس ما يصور عيسى في مولانا، مجرد تحصيل حاصل، فالواقع العملي يعرف احتفاءً ودعما — لا تضييقا ومطاردة كما يصور عيسى — لهذا التيار، حيث يتم اعتباره نموذجا للتيار الإسلامي المعتدل، الذي يجب الاعتماد عليها لمواجهة “التيارات المتطرفة.”[7] 

بعض الاستراتيجيات المُستخدمة

تعتمد الأفلام التي يؤلفها عيسى على الحوار المباشر، كمكون رئيسي في صياغة القصة وترتيب الأحداث، ولإيصال الرسالة التي تكون عادة مباشرة وتعليمية وفجة في كثير من الأحيان. من هنا يأتي الحوار تلقينيا، يواجه المُشاهد بالأفكار التي يريد المؤلف إيصالها له، على نحو يأخذ شكل الدرس أو المحاضرة، ويفتقر غالبا إلى التناول الدرامي الناضج، الذي يعطي المُشاهد مساحة للتفكير والنقد، والموازنة بين أفكار البطل وأفكار خصومه. ففي فيلمي مولانا والضيف يأتي الحوار في اتجاه واحد تقريبا في معظم مساحة الفيلم، وكأن المؤلف يخشى أن يتفلت منه المشاهد، أو يتأثر بالخطاب المضاد لرسالته، فيصور الخصم، الذي ينطق بهذا الخطاب المضاد، مهزوزا، مرتبكا وغير عقلاني، وذلك وفق آلية سردية تمارس نوعا من الوصاية على المشاهد، فتفكر بالنيابة عنه، وتأسره في مساحة طفولية، لا يملك فيها أن يمارس نقدا أو تقييما.

من الاستراتيجيات التي اعتمد عليها المؤلف وظهرت أثناء الحوار: 

السخرية: كانت السخرية هي السلاح الأهم للشيخ حاتم في فيلم مولانا وللتنويري يحيى التيجاني في فيلم الضيف، حيث كان كلٌ منهما يستخدم السخرية في الرد على مخالفيه، أو حتى في الرد على تساؤلات الناس، كما يظهر مثلًا في كلام يحيى للرجلين اللذين أرادا أن يستوضحا موقفه من الدين “مش قلقانين تصلوا ورا واحد مزدري؟ مش يمكن بدل ما أصلي بيكم أزدري بيكم؟” فهذان المجددان يريان أن هناك بعض الأشياء التي لا يمكن شرحها للعامة لأنهم لن يفهموها، وبذلك يناقضان ما يؤمنان به من ضرورة تنوير عقول الناس وشرح الدين لهم بشكل صحيح حتى لا ينساقوا وراء الأفكار المتشددة! 

استغلال الصور النمطية: على مدار أفلام عيسى يتم دائما استغلال الصورة النمطية السلبية للسلفيين، التي تظهرهم غاضبين لا يبتسمون، يتحدثون بشكل مخيف ومتعالٍ، وجامدين في تفكيرهم. وقد ظهر هذا في المشاهد التي ظهر فيها السلفيون في فيلم مولانا وفيلم صاحب المقام. أما في فيلم الضيف فكان هناك تركيز دائم على ملامح أسامة أثناء حديثه مع يحيى، وكانت مليئة بالاشمئزاز والكره والغضب طوال الفيلم. 

حشد الكثير من القضايا والأفكار: يتم تناول الكثير من الأفكار والقضايا بشكل متتابع في فيلم مولانا وفيلم الضيف، وذلك على نحو “عقلاني” ملئ بالحجج والمبررات — التي يقدمها طرفٍ واحدٍ بالطبع، وتعاني هذه الاستراتيجية من إشكالات كمية وكيفية، فمن حيث الكم، تأتي كثرة القضايا المطروحة على حساب القيمة الفنية للعمل، وتؤكد معنى المحاضرة أو الدرس، الذي لا يهتم فيها المحاضر بكثرة المادة العلمية المقدمة، طالما أنها موثقة ومثبتة وصحيحة، وليس هذا هو حال العمل الفني، الذي ينبغي أن يراعي الكيف بأكثر مما يراعي الكم، إلا أن على المستوى الكيفي، فإن القضايا التي عرضها عيسى في أفلامه تحتاج في التعامل معها إلى تركيز شديد قد لا يتناسب مع طبيعة السينما التي يدخلها الناس وهم غير مستعدين لممارسة هذا النوع من التفاعل الذهني. على الجانب الآخر، لم يكن فيلم صاحب المقام محتشدا بالأفكار، وإنما بالمشاعر، التي تمت دغدغتها، من خلال الموسيقى الكثيفة ومَشاهد الأولياء المليئة بالغموض، والظهور/الاختفاء المتكرر لشخصية روح على نحو يتجاوز حدود العقل. 

الخطابات التي يعاد إنتاجها من خلال الأفلام

بالإضافة لكونه مؤلف درامي، يقدم عيسى؛ برامج على الفضائيات، مثل برنامج (حديث القاهرة) الذي يُبث على قناة القاهرة والناس، والمملوكة من قِبل طارق نور، وبرنامج (مختلف عليه) الذي يُبث على قناة الحرة التي تمولها الحكومة الأمريكية، وهاتان القناتان هما المنبران اللذان يقدّم من خلالهما أفكاره “التنويرية”، لذلك لا عجب أن نجد أفلامه الثلاثة تُردد الكثير من هذه الأفكار “التنويرية”، كأن هدفه الأساسي من تأليف هذه الأفلام هو بث أفكاره لجمهور أوسع من متابعي برامجه. 

فمثلًا فيما يتعلق بالعلاقة المتوترة بين الصوفية والسلفية في أفلامه، يقول إبراهيم عيسى في حلقة بعنوان (الطرق الصوفية في الميزان): “دائمًا تُطرح الصوفية كفلسفة إيمانية عقائدية في مواجهة التطرف الأصولي السلفي الجمودي”.[8] وفيما يتعلق بالعلاقة المتناقضة بين الدين والعلم في أفلامه، فإن لعيسى تصريح انتشر بدرجة كبيرة في الآونة الأخيرة قال فيه، في برنامج (حديث القاهرة) “أنا أحيان كتيرة لما بـ أدخل أجزخانة ألاقي الشاب اللي قاعد في الأجزخانة، الطبيب، الصيدلي بيقرا قرآن، شيء جميل … لكن من باب أولى قاعد في الأجزخانة مبيقراش ليه في كتاب عن الدوا، مرجع عن الدوا؟ … ليه أنا موديه كلية طب عشان أفهمه إن علم الحديث النبوي بالنسبة له أهم؟”[9] 

ومن الخطابات التي يظهر بوضوح تبنيها وترديدها في أفلام عيسى خطاب مؤسسة راند في تقاريرها عن العالم الإسلامي. حيث تقسم راند، كما في تقريرها الذي عنوانه (الإسلام الديمقراطي المدني)، العالم الإسلامي إلى 5 مجموعات: الأصوليون، التقليديون، المجددون، العلمانيون، الصوفية (ويمكن إلحاقها بالمجددين).[10] هذا التقسيم قريب من التقسيم أو التنميط الذي يطرحه عيسى في أفلامه؛ فشخصية الشيخ حاتم في فيلم مولانا وشخصية يحيى التيجاني تعكس فئة المجددين، أما شخصية أسامة فتعكس فئة الأصوليين، وتعكس شخصية الشيخ مختار وشخصية روح فئة الصوفية. وليس التقسيم فقط هو محل التشابه بين عيسى وراند، وإنما الآراء المتبناة حول كل فئة؛ فالأصوليون السلفيون ليسوا مقبولين بحال كما السلفي أسامة الذي ظهر على أنه إرهابي لابد من القضاء عليه، أما المجددون والصوفية فهم من الفئات التي يجب دعمها ودعم صورتها.

وفي الختام

لا يمكن إدراج إبراهيم عيسى ضمن فئة المفكرين، لأنه لا يقدم فِكرًا تنويريًّا أصيلا خاصًا به، وإنما هو “مثقف” يردد أفكار سبقه بها غيره من الحداثيين والتنويريين العرب منذ عقود. كما أن عيسى ليس مثقفا مستقلا، وإنما هو جزء من سياقات نخبوية معينة، يوظف أفلامه خدمة لأغراضها وأهدافها، ويمكن تلخيص معالجات عيسى  في ثلاثة محاور هي: 

(1) الدعوة لتجديد الخطاب الديني من خلال فهم النصوص الدينية بطريقة معاصرة، وتقديم تفسيرات جديدة لهذه النصوص، وعدم الرجوع إلى تفسيرات السابقين، وهذه المهمة منوطة، وفقا له، بالأئمة والشيوخ المعتدلين في المؤسسات الدينية من جانب، ومن جانب آخر بالتنويريين (أو الحداثيين). 

(2) شيطنة السلفيين واعتبارهم العدو المتطرف الذي يجب مواجهته ومحاربته، واعتبار السلفية شكلا غير مقبول من أشكال التدين، لأنه قائم على فهم خاطئ للنصوص الدينية، وهذا الفهم الخاطئ يؤدي حتمًا إلى التشدد والتطرف وأخيرًا الإرهاب. 

(3) ومع شيطنة التيار السلفي واعتبار نمط التدين السلفي تشددًا، كان لابد من الترويج لتيار بديل يمكن للناس أن يتدينوا به ويعتنقوه. ولذلك قام المحور الثالث على الترويج للتيار الصوفي كبديل عن التيار السلفي، وهو تيار تدعمه العديد من الدول، وحتى الجهات غير الدولية، من أجل مواجهة التشدد والإرهاب، باعتبار الصوفية أكثر مسالمة واعتدالًا.[11]

(4) كما يروج عيسى للتدين الفرداني ويؤكد على أن التدين هو شأن خاص بالفرد لأنه علاقة بين الفرد وربه فقط، وبالتالي للفرد مطلق الحرية في تشكيل هذه العلاقة كما شاء، فمن خلال فكرة وحدة الأديان يتم الترويج لنمط إيماني يصبح فيه الدين مسألة شخصية، ويُلغى فيه أي شكل من أشكال التدين الجماعي. وهو بذلك يؤكد على اتجاه تصاعد بالفعل في العالم العربي؛ بعد الربيع العربي وما ترتب عليه من خيبات وصدمات، حيث أصبح الشباب يسعون “نحو التأويل الشخصي للنصوص الدينية عبر الانطباع والذوق الشخصي والفهم الذاتي، محاولين تشكيل نظرتهم الخاصة للدين بعيدًا عن أي أحكام سُجلت في المدونات الفقهية أو تقريرات نقلها العلماء”.[12] 

وأخيرًا، فأيًا كان الشكل الذي يتم اختياره للعلاقة بالله، فلابد وفقا لعيسى من تقبل الآخر الذي اختار شكلًا مختلفا لهذه العلاقة، وبالتالي لا مجال لاعتبار الديانات الأخرى أو طرق التعبد الأخرى خاطئة، ويؤدي هذا إلى نتيجتين: الأولى: تأكيده على أنه لا وجود لدين صحيح أصلًا، وبالتالي القول بنسبية الحقيقة والدين، والثانية: الدعوة لاستبعاد الدين من المجال العام، لأن الدين — مرة أخرى — هو علاقة شخصية بين الإنسان وربه، وبالتالي الدعوة للعلمانية التي تُقصي الدين من المجال العام، وتحصره في الشأن الشخصي، وتعتبره غير قادر على تنظيم شئون المجتمع والدولة الآخذة في التعقد.

وفي النهاية تجدر الإشارة إلى أن استخلاص الأفكار السابقة قد استند على التعامل مع أفلام عيسى الثلاث باعتبارها مكملة لبعضها، فالكثير من عناصرها وأفكارها متشابهة لتأكيد الرسائل السابقة. وإذا كان البعض قد يعتبر أن فيلم “صاحب المقام” مغايرًا، بل ومناقضًا للفيلمين السابقين عليه؛ “مولانا” و”الضيف”، إلا أننا نرى أن الفيلم يدعم سابقيه في بعض الجوانب ويكمّلهما في جوانب أخرى. فقد عالج بعض القضايا مثل الوحدة الوطنية والتعايش السلمي والتشدد مثل سابقيه، وزاد عليهما ترويجه للتيار الصوفي بشكل مكثف، والرسالة هي باختصار “إذا كان الناس لن يستطيعوا أن يفهموا الدين بعقولهم كالشيخ حاتم أو يحيى التيجاني، فليتجهوا إلى الروحانيات والمقامات التي يقدمها التصوف، وليتبعوا الأولياء المباركين بدلًا من الشيوخ والأئمة.”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحثة في العلوم السياسية.

[1]  إبراهيم السكران، التأويل الحداثي للتراث، (الرياض: دار الحضارة للنشر والتوزيع)، صـ177

[2] سعيد معلوي، وحدة الأديان في عقائد الصوفية، (الرياض: مكتبة الرشد ناشرون، 2011)، صـ51

[3] التصوف الذي عبّر عنه الفيلم هو عبارة عن فلسفة دينية تعود جذورها لكل دين، وليس ظاهرة إسلامية بشكل خاص، ويرتبط هذا التصوف بالرقص والتمايل أثناء الذكر والتواشيح وزيارة الأضرحة، وكل هذه الأشياء ظهرت في الفيلم بالفعل.

[4] خالد أبو الفتوح، “نظرة عامة على دعوة وحدة الأديان”، جامع الكتب الإسلامية، https://ketabonline.com/ar/books/96676/read?part=1&page=21&index=4228171/4228176 ، تم الإطلاع بتاريخ 24 نوفمبر 2021

[5]  https://dorar.net/hadith/search?q=%D8%A7%D8%B0%D8%A7+%D8%A8%D9%84%D8%BA%D8%AA+%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A2%D8%A9+%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%8A%D8%B6&st=a&xclude=

[6]  عمرو عزت، “تحت قبة مولانا: التجرؤ الجبان والخروج الآمن”، مدى مصر، 

https://www.madamasr.com/ar/2017/01/17/opinion/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/%D8%AA%D8%AD%D8%AA-%D9%82%D8%A8%D8%A9-%D9%85%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D8%A4-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B1%D9%88/ 

[7]  ريهام مقبل، “الطرق الصوفية في مصر: تقارب مع السلطة وصراع مع السلفيين”، DW 

https://www.dw.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D8%A8-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9-%D9%88%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%8A%D9%86/a-17489628

[8]  قناة الحرة، “مختلف عليه – الطرق الصوفية في الميزان”، يوتيوب،

https://www.youtube.com/watch?v=Djyf6uVsZvQ&t=925s

[9]  القاهرة والناس، “إبراهيم عيسى: ليه أدخل أجزجانة ألاقي الشاب الصيدلي قاعد بيقرأ قرآن..من باب أولى يقرأ مرجع أدوية”، يوتيوب،  https://www.youtube.com/watch?v=Hnf2PiAbP3M

[10]  صالح الغامدي، “الإسلام الذي يريده الغرب”، (الرياض: مركز الفكر المعاصر، 2012)، صـ158، 159

[11]  Alix Philippon, “Positive branding and soft power: The promotion of Sufism in the war on terror”, Brookings, https://www.brookings.edu/blog/order-from-chaos/2018/12/13/positive-branding-and-soft-power-the-promotion-of-sufism-in-the-war-on-terror/

[12]  قناة رواسخ، “عصر الأنا. نزعة الفردانية”، يوتيوب، الدقيقة 12:21،

https://www.youtube.com/watch?v=ZLPafXEK9t0&t=807s

عن تقى محمد يوسف

شاهد أيضاً

الفكر المقاصدي والمقاربة العلمانية

عارف بن مسفر المالكي

يدور منشأ اصطلاح العلمانية حول «اللادينية» أو «الدنيوية»، «لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى أخص: هو ما لا صلة له بالدين، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد».

المجددون في الإسلام

تأليف: أ. د. أمين الخولي

عرض: د. محمود خليفة الحفناوي الأزهري

تناول الخولي أمر التجديد قديمًا، وكيف كان ثم تحدث عن أسس التطور في الإسلام وفيم يكون، ثم تكلم عن وجود التطور في العقائد وفي العبادات وفي المعاملات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.