الجمال
بين الرؤية الإسلامية والعولمة*
أ. د. زياد خليل الدغامين**
تعد مواجهة التحديات التي تهدف إلى طمس الهوية الإسلامية، ومسخ قيمها، والعبث بمفاهيمها الدينية والثقافية من الضرورات الملحة التي تفرض نفسها على واقع الأمة، وساحة العمل الإسلامي في وقت شاعت فيه الدعوة إلى السفور والعري والتفكك الأسري، بل مسخ مفهوم الأسرة، لتصبح مكونة من شخصين، وذلك على حساب الحياء والعفة والتكامل بين الزوجين في قيادة الأسرة؛ كما شاعت فيه دعوة المرأة إلى التمرد على قيم الأسرة. وأصبحت الدعوة إلى تحرير الأرض المغتصبة دعوة إلى الإرهاب والتطرف، تتعاون الدول على مكافحتها، ولو كانت مقاومة شريفة للغاصب المعتدي… مما بات يعرف بالعولمة على صعيد الثقافة والقيم، وهو أسلوب يهدف إلى سلب الأمة خصوصيتها، وتميزها على سائر الأمم بثقافتها، وبمنظومة قيمها التي حافظت إلى اليوم على تماسك المجتمع المسلم والأسرة المسلمة؛ ولذلك كانت الدعوة إلى إحياء القيم الإسلامية -بوصفها أبرز رموز الهوية الثقافية- من فرائض الدين وضروراته.
إن العولمة اليوم -وما تحمل من سلبيات أو إيجابيات- ظاهرة تستحق الدراسة على أكثر من صعيد، ولأكثر من هدف ما دام أن الأمة المسلمة هي الدائرة الأولى لفعل العولمة وتأثيرها؛ لأسباب قد تعود إلى امتلاك الأمة ثروات هائلة، أو لتشكيلها سوقًا استهلاكيًا ضخمًا، وقبل ذلك لأن الأمة المسلمة تمتلك من القيم ما يشكل عقبة في وجه النظام العالمي الجديد.
وتُعد القيم الإسلامية الرصيد المرجعي والحضاري للأمة، وقد تعرضت لتأثير العولمة، وواقع المجتمعات الإسلامية ينبئ بذلك. وحسبنا في هذه الدراسة أن نلقي الضوء على قيمة مهمة من القيم الإسلامية تأثرت بظاهرة العولمة هي: قيمة الجمال التي تسير في طريق التبعية للأنموذج الغربي، كشاهد على أن منظومة القيم الإسلامية مهددة أكثر من أي وقت مضى بالتفكك والاضطراب، مما يفرض على الأمة نمطًا جديدًا في المواجهة؛ حفاظًا على قيمها وهويتها ووحدتها الثقافية.
أولًا: في مفهوم القيم وعولمتها:
يتضمن المفهوم اللغوي للقيمة معنى الثبات، وهي في مفهوم بعضهم: فكرة، أو مبدأ، أو صفة، تكون محل التقدير، وتمثل معيارًا يحكم به على الأشياء أو الأفعال، وتحدد الغاية التي يطمح إليها ويرغب فيها[1]، ويتصف ذلك المعيار بالثبات. أو هي أحكام معيارية تتضمن مثلًا وأهدافًا ضابطة للوجود الاجتماعي فكرًا ونظمًا وممارسة، ولها صفة الضرورة والالتزام والعمومية[2]، وعليه فالقيم هي المعايير الموجهة والحاكمة لسلوك الإنسان من حيث الغايات والأهداف.
أما العولمة فهي تعميم القيم التي أفرزتها الثورة الهائلة في التكنولوجيا، والتقدم العلمي المذهل، وما نتج عنهما من إمكانات حوّلت سكان الأرض إلى مجتمع صغير، يراد له أن يخضع للقوى المهيمنة صاحبة القوة والإنتاج. هذه الثورة العلمية في مجالات الحياة وظفها منتجها وسخرها من أجل حمل قيمه وثقافته إلى عموم البشر في مجال السياسة والاقتصاد والإعلام، والاجتماع، والفن، والتربية، وحقوق الإنسان… بدافع الهيمنة عليهم، والتحكم حتى في طريقة أكلهم وشربهم.
وبما أن هذا المصطلح (globalization) كان أول ظهور له في الولايات المتحدة، وهو يفيد معنى تعميم الشيء، وتوسيع دائرته ليشمل الكل فإنه يمكن القول إن الدعوة إليه يعني تعميم نمط من الأنماط التي تخص ذلك البلد، أو تلك الجماعة، وجعله يشمل الجميع في العالم كله. ومن هنا -كما يقول الجابري- نستطيع أن نحدس منذ البداية أن الأمر يتعلق بالدعوة إلى توسيع النموذج الأمريكي، وفسح المجال له ليشمل العالم كله[3]. فهي في أهدافها استبداد من نوع جديد، وإملاء قيمي يفرض على الأمم الأخرى في أهم ما يثير خصوصياتها، مما سيجعل كل أمة مضطرة إلى تبني موقف منها سلبًا أو إيجابًا بحسب ما تمتلكه من قيم ثابتة مقاومة. إنها باختصار شديد تعني: احتواء العالم[4].
لقد جرى استخدام مصطلح عولمة في هذا العقد على نطاق واسع، وتنبع خطورة هذا المفهوم وأهميته من أنه تحول كلية إلى سياسات وإجراءات عملية ملموسة في كل المجالات: الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، وأضحى عملية تطرح في جوهرها هيكلًا للقيم تتفاعل كثير من الاتجاهات والاستراتيجيات في الغرب على فرضه وتثبيته، وقسر مختلف شعوب المعمورة على تبني تلك القيم، ونظرتها للإنسان والكون والحياة[5]. وبهذا يتبين أن العولمة -على صعيد القيم- هي أخطر مظاهر العولمة وألوانها؛ بسبب امتداد أثرها إلى بقية مجالات الحياة العملية والنظرية. إن عولمة القيم والثقافة هي سبيل التأييد لذوبان الحضارات غير الغربية في النموذج الحضاري الغربي[6].
ثانيًا: منظومة القيم الإسلامية في مقابل منظومة قيم العولمة:
لكل أمة قيمها النابعة من نظرتها إلى الإنسان والكون والحياة؛ فهي التي تحدد موقفه، وتبني سلوكه، وتنشئ علاقاته مع كل مفردات الوجود، بل إنه مضطر إلى أن يتعامل مع أصغر كائنات هذا الوجود وفق القيم التي تربى عليها في أسرته وبيته ومجتمعه، بقطع النظر عن كونها قيمًا إيجابية أو سلبية، وسواء أكانت هذه القيم وضعية من صناعة إنسانية، أم كانت مستندة إلى مصدر هو خارج إمكانات الإنسان، وهو الوحي الذي يعد مصدر القيم بالنسبة للمسلم. ولأهمية القيم في حياة الأمة عد بعضهم تعليمها فريضة غائبة[7]. لقد شملت القيم الإسلامية كل مجالات الحياة، واستغرقت معاييرها كل أوجه النشاط الإنساني، وتركت بصماتها الواضحة على كل تصرفات المسلم الحق في كل أحواله. وقد جعلها بعضهم في مجموعات، وهي: القيم العقدية، وقيم الشرعة، وقيم التأسيس، وقيم الأمة، وقيم الحضارة، وقيم السنن، وقيم المقاصد[8]. فهذا التقسيم للقيم لا يخرج عن حدود بناء التصور الذي أصله الوحي لله الخالق، وللكون، والحياة، والإنسان.
وبتفصيل أكثر تشعبًا رأى بعضهم أن يقسمها إلى قيم مثالية تحكم علاقة الفرد بربه، وهي القيم المحورية، وجعلها في نوعين: عقدية وتعبدية. وقيم واقعية تحكم علاقة الفرد بالآخرين، وبالبيئة التي ينتمي إليها. والقيم الإسلامية -من حيث نوعها- تنقسم إلى قيم اقتصادية: كالإنفاق في سبيل الله…، وقيم سياسية: كالقدوة الحسنة، والشورى..، وقيم اجتماعية: كالتعاون والتواضع..، وقيم علمية: كالسعي في طلب العلم والعلم النافع، والتجديد والابتكار ونشر العلم…، وقيم روحية: كحسن الخلق، وإخلاص النية…، وقيم جمالية[9].
لقد كان الإنسان هو موضوع كتاب الوحي -القرآن الكريم- وقد شمل خطابه كل عناصر الكينونة الإنسانية: العقل والعاطفة، والقلب، والوجدان، والروح، والجسد. إن الخطاب القرآني توجه إلى الإنسان بكل هذه الأبعاد فيه، والقيم الإسلامية جاءت متناسبة مع هذه التشكيلة المتوازنة في الكيان الإنساني، بوصف الإنسان خليفة في الأرض، عهد إليه عمارتها، وتحقيق العبودية لله فيها، فهناك قيم للروح وقيم للجسد، وقيم للعقل، وقيم للوجدان أو العاطفة. بينما لم ترق العولمة في منظومة قيمها إلى هذه الأبعاد؛ فقد تشكلت قيمها بناء على نظرتها إلى الإنسان، وطبيعة نشاطه في الوجود، وغايته. إن نظرة العولمة للإنسان نشأت من واقع مادي بحت، فقيم الروح والعاطفة والوجدان ليس لها أثر في واقع حياة أفرادها، وبناءً على ذلك فقيم العولمة هي قيم المادة في الإنسان، أو قيم الجسد في الإنسان.
وتفترق منظومة القيم الإسلامية عن منظومة قيم العولمة بفارقين اثنين:
الفارق الأول: أن منظومة القيم الإسلامية -بسبب شمولها- جمعت شتات الكيان الإنساني في وحدة واحدة، وحافظت عليه، وبعثت التوازن في نشاطه وتصرفاته، بخلاف المذاهب الأخرى التي مزقت كيان الإنسان، وجعلته أشتاتًا في علاقته مع مفردات الوجود الكوني، ومع خالق الوجود سبحانه. وهذا الشمول راجع إلى كون الوحي هو مصدرها الوحيد؛ ولذلك يُعد قبول المسلم بقيم جديدة أمرًا مستحيلًا؛ وذلك لاكتمال منظومة القيم لديه؛ فلا مجال لزيادة أو نقصان. وهذه حقيقة عقدية لا مجال للاجتهاد فيها.
الفارق الثاني: استقلال منظومة القيم الإسلامية بجملة من الخصائص:
أولها: الثبات؛ وهذه حقيقة استمدت معانيها من نصوص الوحي واستندت إليه؛ فلا يتطرق إليها التبديل والتغيير من حيث كونها معايير ثابتة، أو ضوابط حاكمة لمهام الإنسان في الحياة التي هي الخلافة، والأمانة، والشهادة، والعمارة، والعبادة. ولا يمكن أن تزول بفعل عوامل الهدم من قبل التيارات الغازية، أو الدخيلة، أو تيارات التمرد على القيم الإسلامية التي يتزعمها أبناء جلدتنا. فالحق حق والباطل باطل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ ولذلك كان مبدأ الغاية تبرر الوسيلة -الذي تتبناه العولمة- مبدأ مرفوضًا في القيم الإسلامية مهما كان الدافع إليه؛ لأنه معيار ينشئ فوضى في الأخلاق والقيم والسلوك.
إن الذي يحكم القيم الإسلامية النية الصادقة، والمقصد الصحيح، والعمل يكون صحيحًا بتوافر شرطين فيه مشروعيته والوسيلة إليه. فالمرائي والمنافق لا تصدر أعمالهما عن قيم ثابتة؛ لأن المنفعة العاجلة تهيمن على سلوكهما. وهذا يصدق على قيم العولمة وسلوكياتها المحكومة بمنافع آنية، ومصالح عاجلة، يقول محمد حسين أبو العلا: “المنظومة القيمية للعولمة.. منظومة تتضمن الكثير من السلبية، وإن قيمها الإيجابية -كالديموقراطية وحقوق الإنسان والتسامح- هي قيم موجهة، لا يقصد منها معناها المطلق؛ لقصر خصوصية ممارساتها على الدول الكبرى، أي إنها قيم لا ينعكس مضمونها على كل المجتمعات، وإنما تشير المعطيات المفاهيمية داخلها إلى خدمة سياسات العولمة؛ وعلى سبيل المثال تعكس قيمة التسامح استدلالًا قويًا نحو التواصل والحوار. لكن التساؤل الموضوعي في هذا الإطار هو: كيف يتسق التسامح الذي تدعو الثقافة الغربية إلى تكريسه، بينما تسود هذه الثقافة قناعات خاصة بفكرة الصدام تؤكد في ذاتها أن الحوار والتواصل مع الثقافات الأخرى سيكون لمصلحة ثقافة الغالب؟! وعلى ذلك، فحتى القيم الإيجابية للعولمة تقوم في مضمونها على نفي الآخر وإقصائه[10]“.
ثانيها: عالمية القيم الإسلامية، انبثقت من الوحي المنزل على محمدﷺ رحمة للعالمين، فهي قيم صالحة لكل بني الإنسان، وصالحة لأن تكون موضع قدوة واهتداء للناس جميعًا؛ لأنها قيم طابعها الرحمة. وكما أن الدين -الذي هو مصدر هذه القيم- جاء رحمة للعالمين، فكذلك القيم المنبثقة عنه جاءت رحمة للعالمين، يقول سبحانه ﴿فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ [الروم: ٣٠]. فإقامة الوجه للدين القيم كان بوصفه الموجه للإنسان في الحياة، وكان تغيير القيم وتبديلها هو تغيير للفطرة التي خلق الله الناس عليها، وهو تبديل لخلق الله؛ مما يؤدي إلى انقلاب الإنسان عن إنسانيته، واختلال معاييره الضابطة لسلوكه.
ولا تعني عالمية القيم الإسلامية سلب الآخرين خصوصيتهم القيمية، بخلاف العولمة التي تسعى جاهدة لأن تكون قيمها عالمية بقطع النظر عن خصوصيات البشر. إن العولمة تتجاوز هذه الخصوصيات، وبها تستبدل قيمًا تدعي أنها عالمية. إن القول بعالمية القيم أمر فيه مجانبة للحقيقة؛ لأن قيم العولمة إنما هي القيم الغربية التي تبلورت ضمن المحضن الغربي خلال القرون الثلاثة الأخيرة، إنها ذات القيم التي نشرتها المركزية الغربية وطبعتها بطابعها، وكذا كانت تلك القيم قد تشكلت في بنيتها الغربية في ظل شروط تاريخية معينة. إن نزعة التمركز الغربي عملت على تعميمها؛ لتصبح كونية[11].
ثالثها: ومن الخصائص المهمة للقيم الإسلامية اكتسابها معاني مقاصدية دلت عليها هداية الوحي، وتناغمت معها نصوص الشريعة؛ لبناء الإنسان الكامل. وربما نجد الهدي النبوي قد حدد قيمًا بعينها تأسيسًا لها في نفوس الناس، وترسيخًا لما تحمله من دلالات هي في غير حسبانهم؛ فمثلًا، تأكدت قيمة الغنى بدلالة أخرى في قولهﷺ: “ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس”[12]، فالغنى الحقيقي هو شعور النفس باستعلائها على كل قيم المادة، وهذا من شأنه أن يحد من هيمنة المادة على النفس، أو تعلق النفس بها، وعلى هذا قد لا يكون صاحب المال غنيًا بالمفهوم القيمي، لكنه بالمفهوم المادي كذلك. ومثل ذلك يقال في معنى الإفلاس؛ فالمفلس هو “من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار”[13]. فهذا هو الإفلاس الحقيقي بالمعنى المقاصدي والقيمي.
ثالثًا: صراع القيم وسنة التدافع الحضاري:
تحتم سنة التدافع الحضاري عدم افتراض العيش في بيئة عالمية آمنة؛ فقد بذلت الأمة جهودًا هائلة في نشر القيم الإسلامية بين الناس، وفي المقابل تعرضت لحملات استهدفت كل ما لديها. وإذا كانت الحملات السابقة على هذه الأمة تستهدف أرضها وخيراتها ومقدراتها، فهي اليوم تستهدف -إضافة إلى ذلك- قيمها وثقافتها في كل ميادين الحياة.
إن العولمة لا تعرف إلا وجهها فقط، وتحاول طمس وجوه الآخرين. فالمجال لا يتسع عند العولمة -بوصفها قوة باطشة- لكي تسمح بوجود رأي آخر إلى جوارها تتعايش معه، أو قيمة أخرى تنافس قيمها، أو ثقافة أخرى تفوق ثقافتها؛ لذلك تراها قوة أنانية غير إنسانية، لا تكترث بخصوصيات الآخرين، ولا تعبأ بتوجهاتهم ورغباتهم وحرياتهم: “إن العولمة في ظل هيمنة القطب الواحد الأمريكي إنما تحاول أن تتخذ صيغة الحركة الشمولية والإكراهية لإعادة صياغة العالم”[14].
وينبغي هنا أن نتساءل: هل يمكن للعولمة أن تحقق ما تريد من محاولة طمس القيم الإسلامية؟ أقول: ليس ذلك مستبعدًا. بل إن ضياع القيم وانحلالها في المجتمع المسلم نذير خطر يتهدد القيمة الإسلامية العليا وهي الإيمان؛ وإن حققت العولمة هذا الهدف فقد وصلت بالمجتمع المسلم إلى المرحلة التي سماها بعض الباحثين “التصفية الروحية التي هي آخر مراحل العولمة؛ وذلك عندما يصبح المستتبعون يجدون في سيدهم عين المثال الأعلى من الإنسان، بحيث يصبح همهم الوحيد أن يكونوا مثله، مع الاعتقاد بأنهم لن يصبحوا مثله إلا بنفي كل ما يميزهم عنه: الانتحار الروحي الذي أصبح غالبًا على جل النخب العربية”[15].
إن تفويت الفرصة على العولمة -التي تمتلك إمكانات ضخمة من إعلام مهيمن، ورأس مال ضخم، وقدرة على الإنتاج تفوق التصور- غير مستحيل ولا مستبعد، فمجتمعات العولمة تعاني من نقاط ضعف جوهرية، تتمثل في التمييز العنصري بين أفرادها، وانتشار الجريمة بكل أنواعها، وانتشار الخمر والمخدرات والانتحار، وإباحية الجنس والاكتئاب، …[16]. وهذا يعني وجود مداخل لاختراق العولمة من قبل العالمية الإسلامية، فمجتمعات العولمة أصابها الوهن من كل جانب، وهي متعطشة للبعث الروحي كي تولد من جديد، ومن هنا يمكن للأمة أن تبادر إلى إحداث عملية معاكسة تنشر بها القيم الإسلامية، عبر وسائل القوة التي تمتلكها، وإلا فإن نقاط الضعف والخلل السائدة في مجتمعات العولمة ستنتقل إلى المجتمعات الإسلامية، إن لم تكن قد بدأت بالفعل عبر القيم المتهالكة للعولمة.
قيمة الجمال بين الإسلام والعولمة:
الجمال البهاء والحسن[17]. قال ابن الأثير: الجمال يقع على الصور والمعاني، ومنه قول النبيﷺ في الحديث: “إن الله جميل يحب الجمال”[18]، أي: حسن الأفعال، كامل الأوصاف[19]، فاللغة تقرر أن الجمال يقع في مظهرين مادي ومعنوي وهو ما تقرر في الشرع والدين أيضًا.
الجمال قيمة إسلامية عظيمة، ومعيار حاكم على الإحساس بالإبداع والحسن، ومعيار حاكم على إنتاج الجمال في مظاهره المادية، ومظاهره المعنوية؛ فالعقل له حظ من تذوقه وإدراكه، وكذا الروح والنفس، وكذا بقية الحواس. ومن شأن هذه القيمة أن تولِّد تفاعلًا إيجابيًا في التعامل مع الوجود الكوني، من خلال استشعار الجمال فيه والإحساس به، بل محاكاة هذا الجمال في الوجود الكوني كذلك.
ولقد ضبط الوحي معايير الجمال، ونمّى عند المؤمن الذوق الجمالي؛ فجعل الكون المنظور ميدانًا واسعًا لمفردات الجمال، فلفت النظر إلى السماوات والأرض، والجبال والبحر والشجر، والشمس والقمر، قال تعالى ﴿ولقد جعلنا في السماء بروجًا وزيناها للناظرين﴾ [الحجر: ١٦]، وقال سبحانه ﴿أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة﴾[النمل: ٦٠]. فالجمال الكوني يتمظهر في الزينة والبهجة التي تمتلئ بها العين، وتطمئن لرؤيتها النفس، ويسر لها القلب. وقد وجه الوحي النظر لإحساس هذا الجمال في النظام الكوني، بوصفه سبيلًا يقود إلى الإيمان به سبحانه؛ فإن النفس فُطرت على حب الجمال، والاستمتاع به.
ويجعل بعضهم الجمال منظومة من القيم التي تُعنى بنواحي الشكل والجمال والتناسق، وذلك باهتمام الفرد وميله إلى كل ما هو جميل وجذاب من ناحية الشكل والتوافق والتنسيق، ويتميز الأشخاص -الذين تسودهم هذه القيم- بالفن والابتكار والإبداع الفني. ومن معاني الجمال النظافة والتجمل، والصحة، وحسن المظهر، ونظافة البيئة، وممارسة الرياضة وأدب الحديث ..[20] وحسن المقال، وطيب الخُلق، وصدق المشاعر… وإخلاص النية الله تعالى، وإدخال الفرحة على قلب يتيم، أو صاحب حاجة؛ فقيم الجمال تشمل كل عناصر الكينونة الإنسانية: الروح والعقل والقلب والوجدان، والمادة والجسد.
وقد نالت هذه القيمة من المسلم اهتمامًا كبيرًا، ونظر إليها وتصورها في أوسع معانيها ومظاهرها؛ فانطبعت في تصوّره على كل جوانب الحياة المادية والمعنوية، فجمال الطبيعة وجمال النظام الكوني، وجمال الحياة، وجمال الكلمة والتعبير، وجمال العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وجمال العاطفة، وجمال العقل والأدب، كلها مظاهر للجمال رسمتها العناية الإلهية بدقة متناهية، وإتقان بديع، قال تعالى ﴿الذي أحسن كل شيء خلقه﴾ [السجدة: ٧]، وقال تعالى ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾ [التين: ٤] ليرى مبلغ الإبداع في هذا الكون ومظهر الجمال فيه؛ فالحسن هو القاسم المشترك بين كل هذه المظاهر.
كذلك -فيما شرعه الوحي من تشريعات تنظم علاقة الإنسان بالإنسان- قال تعالى ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا﴾ [الحجرات: ١٣] حقًا أن مبلغًا عظيمًا من الجمال يتجسد في صياغة منظومة العلاقات الإنسانية والاجتماعية وانضباطها، وما تحققه من عدالة بين أفراد المجتمع الإنساني، وليرى كذلك الجمال في هذا الإبداع والإعجاز المتناسق في كتاب الكون المنظور في انسجامه واتزانه وانتظامه؛ ليظهر الجمال في أروع صورة، وليجد الإنسان -من خلال هذه القيمة- طريقه إلى الإيمان، وليتعرف من خلال مظاهر الجمال على خالقه الجليل ذي الجمال.
وكان لهذه القيمة حضور في التراث الإسلامي؛ فشملت ما شيده المسلمون من عمارة وبنيان، وشملت جوانب الحياة الإسلامية في المأكل والمشرب والملبس. ومن الصور الجمالية التي وجه القرآن النظر إليها مشهد الأنعام في غدوها وعشيها، يقول سبحانه (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) [النحل: ٦]. لقد نبه هذا الدين إلى مطالعة البهاء والحسن حتى في مشهد الأنعام في عودتها عشيًا، وفي ذهابها إلى المرعى صباحًا، فهو طريق للتعرف على الخالق المبدع، بل إنه يُدخل البهجة والمسرة إلى النفس.
وقد كان حضور هذه القيمة واضحًا في الجوانب المعنوية؛ فشملت ما ضبطته الشريعة من علاقات تربط الإنسان بأخيه الإنسان، وتراءت هذه القيمة الجمالية في علاقة الإنسان بخالقه؛ فمظاهر العبادة من صلاة وزكاة وصيام وحج وغير ذلك من العبادات، التي يرى فيها الإنسان الجمال مفردًا، والجمال مجتمعًا، وإذا استشعر تسبيح الكائنات من حوله، يتراءى له هذا المنظر الجميل البديع في العبادة، عندها يدرك قيمة الجمال في مظاهره المعنوية والكونية.
وإذا نظرنا في فعل العولمة في قيمة الجمال، ندرك أنها مسختها وقزمتها، وما ذكره فلاسفتهم قديمًا من جعل الجمال في قوالب محسوسة فقط، هو ما تبنته العولمة حديثًا في نظرتها إلى الجمال. إن الجمال لدى هيجل هو الحضور الحسي للفكرة. الجمال هو مزيج يصل بين الفكرة العقلانية والأداء الحسي، أي الشكل والمضمون[21]. إن الحس ليس هو القالب الوحيد في إدراك الجمال وتذوقه؛ فالحس وحده قد يهبط بكل المظاهر الراقية للجمال، ومن ثم فإن نظرة العولمة إلى الجمال في جوانبه المادية قد أساء إلى قيمة الجمال والإحساس بها في الحياة، وحرم النفس والقلب والروح من إدراك الجمال والتمتع به.
ولو تساءلنا في ضوء معيار العولمة المادي، عن المرتبة التي وصلت إليها في إدراك الجمال؛ لوجدنا أنها تراجعت به إلى مستوى لا يمكن قبوله؛ فقد جعلت الجمال في وجه المرأة، وجسدها، وإلا، فكيف نفسر غزو صورتها كل وسائل الإعلام، صفحات الجرائد والمجلات، ومواقع الإنترنت؟ وكيف استحوذت المرأة على معظم المادة الإعلامية والدعائية في تلك الوسائل؟ على أننا لا نتحدث عن وسائل إعلام غربية، بل وسائل إعلام عربية وإسلامية وقعت ضحية العولمة بجهل وبحسن نية، أو بعلم وسوء نية.
ولو تساءلنا عن سبب احتواء الصفحة الأخيرة من صحفنا اليومية على صور النساء من عارضات أزياء، ومغنيات، وممثلات … لكان الجواب على بعض الاحتمالات: إنها تجارة بالجسد، وترويج له، واستشعار قيمة الجمال من خلال دافع الشهوة والغريزة. “فالمرأة في عصر العولمة زبون، أي مستهلك لما تنتجه الشركات العابرة للقوميات، ومن بينها شركات إنتاج مواد التجميل، وزبائنها من النساء بالملايين، ولا بد من تقديم كل الإغراءات للنساء كمستهلكات، فيجري رسم صورة للأنثى المغرية، الأنثى الأبدية ذات الفتنة الخالدة التي لا تصيبها الشيخوخة أبدًا، ويظل سحرها الجنسي فعالًا طالما استخدمت أدوات المكياج التي تتنافس الشركات فيما بينها لإنتاجها وتسويقها… يصبح جسد المرأة -إذن- سلعة من السلع، ويفقد مواصفاته الإنسانية، ويدخل في النمط التجاري الاستهلاكي ما دام عنصر جذب لترويج البضائع[22]. إذن فقد اختزلت العولمة الجمال باستحواذ المرأة على موضوعه؛ لأنه يلبي تلك النزعة الشهوانية التي قصر إنسان العولمة الهمّ عليها.
إن قضية الجمال من المسائل والقضايا التي تجتذب مشاعر الإنسان وتصوراته، وتفتح لها الكثير من الآفاق التي يمكن أن يشعر فيها بنوع من الإحساس بالطمأنينة والاستقرار والسعادة، ولكن هذه تشكل العناصر الجمالية التي تمثل إنسانية الإنسان، بحيث ينفتح الإنسان على الجمال من خلال عناصره الإنسانية في الشكل والكلمة والصوت… ولكن أن يتحول الجمال إلى حالة جنسية تجتذب الحس وتُبعد الإنسان عن العناصر الجمالية في الصورة لتشغله بالجوانب الغريزية الجنسية؛ فهذا ما نتحدث عنه، ولعل أكثر الإحصائيات تشير إلى أن علاقة الرجل بالمرأة في شكل عام خارج نطاق الضوابط الاجتماعية الضاغطة، والقانونية – تمثل علاقة ذكر بأنثى[23]، فأين الجمال في علاقة الرجل بالمرأة على هذا النحو؟ وماذا تختلف عن علاقات ذكور الحيوانات بإناثها؟ ويسهل تعليل هذه الظاهرة عند العولمة، فإذا ما توقفت عجلات إنتاجها في المصانع والمعامل؛ فلا بد أن توفر لأبنائها قدرًا من اللهو واللعب، وليس هناك ما يملأ هذا الفراغ القاتل في ثقافتها إلا الخمر والنساء، والمتعة والتسلية.
ثم إن هناك معايير أخرى بدت تظهر في زمن العولمة، وهي الاهتمام بالجمال، حتى باتت معاهد الجمال تفوق المطاعم في بعض البلدان، فالمرأة الجميلة ولو كان مستواها المهني متواضعًا تسرق الوظيفة من أختها ذات الجمال العادي، فالدراسات تشير إلى سيطرة المرأة الجميلة وحصولها على نصيب الأسد، رغم قلة إنتاجيتها مقارنة بالأخرى ذات الجمال المتواضع. ومثل ذلك الأمر ينعكس أيضًا على الزواج والتواصل مع الآخر[24]. ولماذا تقتصر وظيفة السكرتارية على المرأة فقط؟ والمرأة الجميلة فحسب؟ وما تفسير العولمة لذلك؟ ولماذا أصبح هذا الوضع عرفًا في مؤسسات القطاع العام والخاص في بلدان العالم الإسلامي؟.
لقد أثرت هذه الصورة الجمالية للمرأة على أنوثتها وروحها، وأشغلتها عن واجباتها الحياتية، واستهلكت وقتها وجهدها ومالها لتشبع غرورها، وتلبي رغبتها بالإحساس بالجمال بهذا الأفق الضيق، والمعيار المختل غير الموزون لقيمة الجمال؛ فالرشاقة، والجسم النحيف، وتسريحات الشعر أخذت لب المرأة وغلبت على تفكيرها.
لقد أصبحت عمليات التجميل لا تقتصر على النساء فقط، بل تعدتها فاقتحمت عالم الرجال أيضًا، فإذا كان الرجل يبحث وبشكل لاهث عن المرأة صاحبة الجمال المتألق، فمن حق المرأة -أيضًا- أن تحدد مواصفات شريك حياتها الذي ستقترن به، وأن تراه وسيمًا رشيقًا يعتني بنفسه وصحته وأناقته. ولذلك تشهد الأرقام الغربية زيادة متنامية بين الرجال الذين اقتحموا صالونات وعيادات التجميل التي كانت إلى وقت قريب حكرًا على النساء. إنها عولمة الجمال التي هبت رياحها، فاقتلعت الوجوه القديمة واستبدلتها بأخرى جديدة ناعمة الملمس[25].
وقد يتخذ الجمال -الذي تحمله رسالة العولمة- قوالب مادية أخرى عديدة، مثل جمال مظهر الإنسان، وجمال بيته وجمال مركبته، وجمال أثاثه… وليس مأخذًا أن يقصد الإنسان تحقيق هذا الجمال المادي في حياته، ويتمتع برؤيته واستعماله، ولكن المأخذ أن يكون الجمال قاصرًا على هذه الماديات. إن المأخذ أن يقتصر الإنسان على تلميع حذائه، وينسى قلبه يحيط به الران، وتتراكم عليه الأدران. إن دنيا الجمال – بهذه المقاييس – دنيا ضيقة غير فسيحة؛ فهي تقزم رؤية الإنسان في الحياة، وتحدّ من أفقه في التعامل مع الجمال بوصفه قيمة راقية انطبعت وتمظهرت في كل موجودات هذا الكون.
لقد انبنى معيار العولمة في الجمال على فلسفة تصوّر مادي قاصر للوجود. وحتى هذه المظاهر المادية للجمال لم تُحترم عند أصحاب العولمة ومروجيها؛ فقد اعتدى الإنسان -تلميذ العولمة- على مظاهر الجمال في الطبيعة التي أبدعها الخالق جل جلاله؛ فأفسد البر والبحر بالملوثات، وحرق الغابات الجميلة، وقطع أشجارها، ولوث المياه العذبة، والهواء النقي، بما قذفته مصانعه ومختبراته من سموم طمعًا في المادة وطلبًا لها مهما كانت النتائج.
لقد تأثرت قيمة الجمال بظاهرة العولمة في المجتمعات الإسلامية، وتلوثت بهذه الظاهرة التي ألقت بظلالها على مختلف جوانب الحياة، ترى ما الذي يغلب على همّ المرأة المسلمة اليوم؟ وما تصورها للجمال بوصفه قيمة إسلامية راقية؟ إن الجمال -بهذا الوصف- من شأنه أن يقوي تلك العلاقة التكاملية بين المرأة وزوجها، ويوثق علاقة البنت بأمها وأبيها لتلمس جمال الأمومة، وعطف الأبوة، لكن الذي حدث أن هذه العلاقات قد فقدت أبعادها الجمالية؛ بسبب المتطلبات المادية للجمال، فلهثت المرأة وراء الأزياء وصرعاتها، والعطور وأنواعها، والمساحيق التجميلية وألوانها، والبيوت وأثاثها، ولقد امتلأت البيوت بورود الزينة (البلاستيكية)، ورضيت بجمال لا روح فيه.
وأدى تأثير العولمة إلى فصل الجمال عن الأخلاق؛ فمعايير الجمال عندها غير مرتبطة بأي معيار أخلاقي، وقد أباحت لنفسها صناعة جمال يخلو عن المروءة والحياء فانتشرت الصور العارية في فن الرسم والنحت وضخمت من جمال الجسد حتى قامت بعقد مسابقات عالمية لملكات الجمال؛ لاختيار ملكة جمال الكون، وتبارت الدول في ذلك وتسابقت، وسلمت المرأة نفسها للمقاييس والمعايير التي سلبتها قيمتها وأنوثتها، بل لشدة الاستخفاف بالمرأة تم إجراء مسابقات أخرى، ولكن للقبيحات والدميمات، فأين ستصل العولمة بمسابقاتها واستخفافها بالإنسان والكرامة الإنسانية؟ ولم تستحي العولمة من رسم الأنبياء وتصويرهم بصور مشيئة وأوضاع فاضحة؛ فليس ثمة مقدس عندها، ولا اعتبار بمعتقدات الناس ومشاعرهم، ومِمن تخاف إن لم تعترف بإله !
ولعل القضية تكون أكبر وأخطر عند فقدان الشعور بقيمة الجمال لدى أبناء الأمة؛ بسبب ضنك العيش، أو الشعور بالإحباط، أو غير ذلك من أسباب جعلت الإنسان ينظر إلى الجمال بمنظور مادي بحت. إن انعدام الإحساس بالجمال، أو البحث عنه، أصبح مطلبًا ثانويًا في خضم معترك الحياة ومتطلباتها الشاقة، بفعل إملاءات العولمة وتبعاتها الباهظة الثمن، والمتمثلة بقيم المال والمنفعة، والربح والمصلحة.
كذلك، إذا نظرنا في المظاهر المعنوية للجمال مثل جمال العبادة من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، ودعاء، وتضرع، وخشوع، أو جمال النظام الكوني واتساقه، أو جمال الطبيعة وسحرها – سنجد أنها فقدت معانيها الحقيقية في نفوس كثيرين، ولم يبق إلا صورتها الظاهرة المجردة عن كل روح. وعلى حد قول بعض الباحثين: “ليس هناك من شك بأن القيم الغربية المادية العلمانية سوف يكون لها تأثير على صلواتنا وثقافتنا ونظرتنا الكونية ونظامنا الاقتصادي والتعليمي، وعلى قيمنا الإسلامية وهويتنا بحيث تبعد عقولنا عن الله”[26]. لقد بات تذوق الجمال في تلك المظاهر لا يُعرف إلا في كتب اللغة أو المعاجم أو كلام الشعراء على أن العولمة قد أسهمت إلى حد كبير في تكوين هذه النظرة السلبية في هذا المجال؛ فغدت قيمة الجمال العولمية المادية لا تتصف بالمصداقية من حيث سلوكها غير المنضبط في التعامل مع الكون.
إن المشكل في نظرة العولمة للجمال -بوصفه قيمة إنسانية- تمحورها على مظاهر مادية خالصة؛ فبناء المدن الجميلة، والشوارع الواسعة النظيفة والمتنزهات العامة، والحدائق الواسعة الغناء… امتيازات وفضائل للعولمة يجب الاعتراف بها، ولكنها لم توفق في بناء علاقة الإنسان بأخيه الإنسان؛ فانعدم الجمال من هذه الناحية، ولم تستطع أن تنظر في جمال عبادة الله الخالق سبحانه؛ فحُرمت من أهم مجالات ذلك الجمال، وما له من آثار إيجابية على نفس الإنسان واستقراره وتوازنه.
وفن الكلمة الطيبة أحد مظاهر الجمال التي ترقى في مستوى أدائها إلى أن تكون صدقة، قال ﷺ: “والكلمة الطيبة صدقة”[27]، وقد شبهها القرآن الكريم بالشجرة الطيبة في أثرها، وكذلك شبه الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة في أثرها، في قوله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ* وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتَنَتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾ [إبراهيم: ٢٤-٢٦]، هذا الأفق الذي وصلت إليه الكلمة نما في البيئة العربية فناطح السحاب وعانق السماء، ويكفي أن العرب هم الأمة الوحيدة التي عقدت للكلمة أسواقًا ومهرجانات، وظهر جمالها في شعرهم ونثرهم، فكان لها معنى وأثر كبير في النفس، وقد عُدت من النعم التي يمتن الله تعالى بها على أهل الجنة في قوله تعالى ﴿لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا إلا قيلًا سلامًا سلاما﴾ [الواقعة: ٢٥-٢٦].
أما نظرة العولمة إلى هذا النوع من الجمال -نظرًا لما تحمله من قيم مادية- فلم تجد الكلمة مكانًا مناسبًا في اهتمامات العولمة وتوجهاتها؛ ففقدت الكلمة قيمتها ووظيفتها وأثرها، وتلاشت معانيها النبيلة، ورسالتها الكريمة، وقلت قدرتها على التأثير الإيجابي في الإنسان والمجتمع، بل ضعفت الكلمة حتى أصبح لا غنى عن المعاجم لفهمها، ولم تعد صناعة الكلمة -من شعر ونثر- بضاعة رائجة في عصر العولمة، واستعاضت عن ذلك بصناعة الصورة المؤثرة التي توجهت بها إلى الجمهور الأعظم من الناس بقطع النظر عن لغاتهم وثقافاتهم وأجناسهم[28]، فضلًا عن أن ثقافة الصورة تدرّ أرباحًا أكثر من ثقافة الكلمة، وبذلك يكون الجمال قد اقتصر على ما يملأ العين؛ فليس للعقل والنفس والروح حظ من التأمل والنظر الجمالي.
بل لقد أهملت العولمة أبعاد الجمال في الكلمة بالكلية؛ فوظفتها التوظيف الخاطئ في الغناء بتجريدها من كل فضيلة أو رسالة نبيلة، فاقتصرت في الأعم الأغلب على رسم حدود علاقة غير مشروعة بين الرجل والمرأة عرف بصنم الحب الذي خصص للاحتفال به يوم في السنة، يصحب هذا الغناء نوع من الإثارة عبر أدوات موسيقية، ورقصات ماجنة، ودعوة للإباحية صريحة.
لقد أصبح الغناء اليوم من أصنام العصر الكبرى التي تستهوي قطاعًا عريضًا من أفراد المجتمع البشري، بما في ذلك المجتمعات المسلمة، واشتهر مغنون لم يكتب لهم حظ من العلم والمعرفة، بل وصل الأمر إلى أن يصبح هؤلاء المغنون من أكثر الناس ثراء، فامتلكوا ثروات لم تجتمع يومًا لمفكر، أو عالم، أو فيلسوف، وما قدموا للناس سوى الإثارة والجنس. ولو استعرضنا مجموعات من الأغاني العربية باحثين عن المعاني السامية الجميلة التي تحملها مفردات كل أغنية، أو بلاغة تلك المفردات وفصاحتها؛ لما وجدنا شيئا ذا بال، بل لو جردنا تلك الكلمات مما يصاحبها من موسيقى؛ لكانت ممجوجة يأباها الذوق والسمع؛ مما يعني وجود انقلاب في المعايير، واختلال في الأذواق، وفساد في موازين الحكم على الكلام البليغ. وقد جندت فضائيات خاصة لا تعمل إلا على إفساد أذواق الجيل المسلم، وتدريب الناشئة على تقليد الغناء الغربي، والتغني بلسانهم، وتعطيل رسالة الكلمة المعبرة عن قيمة الجمال الفني الأدبي.
أن تغيير الوجدان والأذواق والأحاسيس والعالم الداخلي للمرأة والرجل هي غاية العولمة الثقافية والأخلاقية والتذوقية، فتغيير الوجدان والأذواق والأحاسيس والمُثل هي من أعسر المهام للعولمة، وإن نجحت العولمة في ذلك تكون قد استطاعت اختراق الجدار السميك الذي كان غايتها منذ فترة زمنية مديدة. فلقد استطاعت أن تغزو المنازل والعائلات، وأن تؤثر في حياة المرأة والأسرة، وتؤثر الموسيقى والأغاني الغربية في بعض من النساء لخلق ذوق وأحاسيس مغايرة لما هو موجود في الواقع، أو محاولة الاستماع للموسيقى العربية المقلدة للموسيقى والأغاني الغربية، حيث تتميز هذه الأغنيات بـ:
- ركاكة ألفاظها، وضعف شاعريتها.
- اغتراب الأغنية، وألفاظها خالية من الذوق والجمال الفني.
- الخلط غير المبدع وبشكل مصطنع ما بين الموسيقى الغربية والعربية، مما يشوه الذوق والأحاسيس.
- انعدام الإحساس والشعور الفني.
- الفقر الواضح للذوق والثقافة الفنية[29].
إن هدف العولمة -في هذا المجال- هو حفز المشاهد والمستمع (المتلقي عمومًا) على استبطان القيم الغربية، ومن خلال هذا المدخل حصل الغزو الحقيقي، حيث بات المتلقي يستبطن القيم الأمريكية في داخله، ويحكم بها على الظواهر من حوله، ومن هنا نلاحظ ونفسر مدى تغلغل فكر الربح والمنفعة والمصلحة والأنانية الفردية في المجتمعات العربية والإسلامية[30].
فإذا تم للعولمة ما تريد من تغيير معايير الجمال لدى أبناء الشعوب المغلوبة تكون قد أنجزت مهمتها على هذا الصعيد؛ لتبني -بعد ذلك- النمط الاستهلاكي بناء على تلك المعايير في الجمال؛ فإذا طالعنا الصحف اليومية سنجدها تتبارى في الإعلان على صفحاتها عن الأثاث الأمريكي، والستائر الإسبانية، والموكيت الإيطالي، والعطر الفرنسي… وكل منتجات العولمة التي باتت تحتكر الجمال وصناعة الجمال على وجه تهدد فيه الاقتصادات الوطنية في البلدان العربية والإسلامية، وعلى ذلك لا ينبغي إهمال معايير الجمال في مناهج التربية والتعليم في المراحل التدريسية، وينبغي أن تشتمل المقررات الدراسية على قيم الجمال التي تقررت في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه الكريم؛ لما لذلك من أثر في الرقي بمدارك الإنسان، وعلى قدر هذا الرقي يكون القرب من الله العظيم ذي الجلال والجمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* منقول بتصرف من:
زياد خليل الدغامين (2008). تأثر منظومة القيم الإسلامية بظاهرة العولمة/ زياد خليل الدغامين. في: العولمة وانعكاساتها على العالم الإسلامي في المجالين الثقافي والاقتصادي “3- 4 مايو 2006 بالأردن”. ط. 1. عَمَّان: دار الرازي. ص ص. 145 – 179.
** أستاذ التفسير بكلية الدراسات الفقهية والقانونية، جامعة آل البيت.
[1] السيد، عزمي طه. ” الفلسفة مدخل حديث، عمان، دار المناهج، (۲۰۰۳م)، ص ۱۹۷.
[2] منجود، مصطفى. القيم والنظام المعرفي في الفكر السياسي، مجلة إسلامية المعرفة، العدد ۱۹ (۱۹۹۹م)، ص ٣٦
[3] انظر: الجابري، محمد عابد، قضايا في الفكر العربي المعاصر، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية (1997 م)، ص ١٣٦ – ١٣٧.
[4] العزاوي، وصال؛ العولمة بين الحتمية والاختيار، ضمن كتاب أنعكاسات العولمة السياسية والثقافية على الوطن العربي، عمان، مركز دراسات الشرق الأوسط، (۲۰۰۱م)، ص ١٥٣.
[5] امحزون، محمد ، العولمة بين منظورين، مجلة البيان المنتدى الإسلامي، لندن، العدد ١٤٥ ، ص ١٢١.
[6] عمارة، محمد مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية، مصر – مجلة المسلم المعاصر، العدد ١٠٤ (۲۰۰۲م)، ص ۱۸.
[7] المهدي، أحمد تعليم القيم فريضة غائبة، مجلة المسلم المعاصر، العدد ٦٥-٦٦ / ٩٢-١٩٩٣. ص ٤١.
[8] انظر: عبد الفتاح، سيف الدين. مدخل القيم الإشكالية ومحاولة التأصيل، مجلة المسلم المعاصر، العدد ۸۹ (١٩٩٨م)، ص ٤٤ – ٤٥ .
[9] انظر: صديق، محمد جلال، دور القيم في نجاح البنوك الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ) ١٩٩٦ م) ، ص: ٢٨-٥٢.
[10] محمد حسين أبو العلاء العولمة والقيم: إشكالية معاصرة، موقع على الإنترنت .www.islammemo.kasf.com
[11] انظر : بركات محمد مراد. العولمة بين أحلام مشروعة وأوهام ممنوعة: www.islammemo.kashaf/cc
[12] متفق عليه من حديث أبي هريرة: البخاري – كتاب الرقاق – باب الغنى غنى النفس، ح (٦٤٤٦) مسلم – كتاب الزكاة – باب ليس الغنى عن كثرة العرض، ح (١٠٥١).
[13] رواه مسلم، الجامع الصحيح – كتاب البر والصلة – باب تحريم الظلم، ح (٢٥٨١). ومثل ذلك يقال في المعنى المقاصدي للبر والإثم.
[14] حيدر، قادري؛ العولمة ومسألة الهوية: قراءة فكرية ثقافية، مجلة قضايا فكرية، مصر (٢٠٠٥م)، ص ۳۹۸.
[15] المرزوقي، أبو يعرب العولمة والكونية، مجلة التجديد، الجامعة الإسلامية العالمية / ماليزيا، العدد ٤، ص ٢٠.
[16] انظر: الدلال، سامي الإسلام والعولمة: المنازلة لندن المنتدى الإسلامي، كتاب البيان، (٢٠٠٤م). ص ٣١٤-٣٢٤.
[17] انظر: ابن منظور، محمد بن مكرم لسان العرب ترتيب يوسف، خیاط، بیروت، دار صادر (بلا تاريخ) ١/ ٥٠٣.
[18]مسلم، الجامع الصحيح، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، ۱/ ۹۳ ح (۹۱)
[19] ابن الأثير، المبارك بن محمد؛ النهاية في غريب الحديث والأثر، تحقيق محمود الطناحي، بيروت، دار الكتب العلمية (بلا تاريخ) ۱/ ۲۹۹.
[20] انظر: محمد جلال، دور القيم في نجاح البنوك الإسلامية، مرجع سابق، ص ٣١، ٤٩-٥١.
[21] (ماجد محمد حسن). www.rezgar.com
[22] الشميري، سمير؛ المرأة في زمن العولمة نقلاً عن فريدة النقاش “الإعلام والعولمة وقضايا المرأة”www.amanjordan.org
[23] محمد حسن فضل الله لقاء علمي: www.balagh.com/woman
[24] ظاعن شاهين؛ عولمة الجمال في زمن الوجوه الناعمة: www.balagh.com/woman
[25] المصدر السابق نفسه.
[26] جاه، عمرة العولمة والتغيرات الاجتماعية – الثقافية، مجلة إسلامية المعرفة، العدد ٣٧-٣٨ / ٢٠٠٤م، ص ۲۰۸ – ۲۰۹
[27] متفق عليه من حديث أبي هريرة البخاري، ح (۲۹۸۹ ، ۲۸۹۱) ، مسلم ، ح (۱۰۰۹)
[28] درويش، أحمد تحديات الهوية العربية بين ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، مصر، مجلة المسلم المعاصر، العدد ۹۸ (۲۰۰۰م)، ص ۹.
[29] الشميري. المرأة في زمن العولمة: www.amanjordan.org
[30] إسماعيل أحمد. عولمة القيم : aisyr.hotmail.com