الاعتدال- المعروف- الإحسان

الاعتدال- المعروف- الإحسان

مفاهيم مُنشئة للمجتمع المسلم

أ. مهجة مشهور*

“إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

ليست الأخلاق في الإسلام أمراً عابراً أو من الكماليات، بل على العكس من ذلك هي أمر محوري وأساس متين في بناء صرح الإيمان. فما يبلغه المسلم بحُسن الخُلق قد يصل به لدرجة العابد والصائم القائم، لقوله عليه السلام (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حُسن الخلق، وإن صاحب حُسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة[1].

وكان –عليه الصلاة والسلام- قدوة المسلمين في ذلك، وكان لقبه قبل الرسالة كما هو معلوم الصادق الأمين، وقد أثنى الله تعالى عليه، فقال –عز وجل- {وإنك لعلى خُلقٍ عظيم}. (القلم، 4). وقد علَمنا الرسول –عليه الصلاة والسلام- كيف يعيش المسلم حياته بالكرم والصدق والأمانة والعدل والتواضع والسماحة والرفق وغيرها من الخصال والأخلاق الراقية. فقال –عليه السلام- في الكرم: (من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)[2].  وقال في الصدق: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقاً. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)[3]. وقال في الأمانة: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخُن من خانك)[4]. و(من غشنا فليس منا)[5]. وقال في العدل: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)[6]. وقال في التواضع: (إن الله أوحى إليَ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)[7]. وقال في السماحة: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)[8].

هذه الأحاديث وغيرها ترجمها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في سيرته العطرة، على نحو يؤكد على محورية الأخلاق في حياة المسلم.

القيم الأخلاقية كإطار لفعل المسلم  

وتفرق الرؤية الإسلامية بين الأخلاق التي يجب أن يتحلى بها المسلم –كما سبق وأوضحنا- وبين صفات يجب أن يتصف بها “فعل المؤمن” في سعيه في الحياة. تلك الصفات التي تصبغ الأفعال بصبغة قيمية تميزها عن الرؤية الغربية وتجعلها مختلفًة عن أبجديات ومنطق الرؤية المعرفية المادية. كما أن اجتماع أفراد المجتمع على تحقيق هذه القيم في أفعالهم توجِد بالضرورة مجتمعاً متميزاً أخلاقياً، مجتمع يسود فيه التراحم والإخاء ويبعد عن أسباب القلق والصراع. وأخيراً فإن هذه المفاهيم القيمية تحقق في أفعال المسلم شرط انتمائه للرؤية الإسلامية، ومن هذه المفاهيم الاعتدال والمعروف والإحسان.

ويُلاحَظ في هذه المفاهيم أنها مفاهيم مركبة غنية دلاليًا، فهي لا تعطي معنى مباشرًا واحدًا، ولكنها تعطي مجموعة من المعاني المتسقة وغير المتنافرة. ويلاحظ في هذه المفاهيم كذلك أنها تشير إلى معاني سارية في أي فعل التي يجب أن تتوافر فيه، بحيث يؤدي انتزاعها من هذا الفعل إلى عدم الاتساق مع الرؤية الإسلامية، ما يعني انحراف هذا الفعل ناحية رؤى أخرى قد لا يتوافر فيها هذا الإطار القيمي الحاضن. ومن هنا نرى إلزامية العمل بهذه المفاهيم في إطار كل فعل أو علاقة إنسانية. هذا وتجدر الإشارة إلى أن هذه المفاهيم الإطارية هي مفاهيم تقديرية بمعنى أن إنزالها على الواقع يختلف باختلاف الزمان والمكان، وباختلاف الأشخاص والأحوال.

أولاً- مفهوم الاعتدال:

الاعتدال لفظ مشتق من العدل، وهو ما قام في النفوس أنه مستقيم، والاعتدال توسط بين حالين في كم أو كيف، وكل ما تَناسَب فقد اعتدل، كقولهم جسم معتدل بين الطول والقصر[9]. فالاعتدال هو الوسطية وعدم التطرف، هو الميزان الذي يزن به الفرد تصرفاته حتى لا يقع في تفريط أو إفراط. والاعتدال عكس الجنوح والتمادي والانفعال والعنف، كما أنه عكس التفريط والتنازل والانسحاب. هو قيمة محورية في الرؤية الإسلامية يجب على الفرد الالتزام بها في كافة مناحي الحياة، في العبادة وفي العمل وفي الإنفاق وفي العلاقات الإنسانية …

وقد جاء الحديث الشريف مؤكداً على هذه القيمة في العبادة: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من رسول الله، فقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً. وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أُفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)[10].

ونرى الرؤية الإسلامية تؤكد على مفهوم الاعتدال في كل شيء، بل في أدق الأشياء، فالاعتدال يكون حتى في مشية الإنسان وفي صوته: {واقصد في مشيك واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} (لقمان 19)، و”اقصد في مشيك” يعني توسط فيه بين الإسراع والبطء، و”اغضض من صوتك” أي انقص منه واخفضه.

والاعتدال يكون في استخدام نعم الله جميعا قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كُلُوا واشرَبوا والبَسوا في غيرِ إسرافٍ ولا مَخيلةٍ[11]، ومر رسول الله –صلى الله عليه وسلم – بسعد وهو يتوضأ، فقال له “لا تسرف، فقال: يا رسول الله أوفي الماء إسراف، قال نعم وإن كنت على نهر جار”[12].

ويتحقق الاعتدال أيضاً بين النوم واليقظة، والراحة والعمل. والاعتدال يكون حتى في الصفات الحميدة، فعلى سبيل المثال إذا كان التسامح هو القدرة على العفو عن الناس، وعدم رد الإساءة بالإساءة والتماس العذر للمخطئ، إلا أن هذا لا يعني التفريط في الحق والتساهل مع الباطل أو الضلال، وهذا هو الاعتدال في التسامح.   

والاعتدال موقف قيمي من المال أو من “المادي” بوجه عام، فالاعتدال كقيمة عليا في المنظور الإسلامي هو التوازن بين المادة والروح، عنصري الكيان الإنساني، ولذا فهو مفهوم مظلة يلزم الحرص على تحقيقه والالتزام به في كافة المعاملات والقرارات الحياتية. فلا تجاوز لأحدهما على الآخر، ولكنه التوازن والتكامل بينهما.

ويتحقق الاعتدال في الإنفاق –على سبيل المثال- حينما ينفق المسلم دون إسراف أو بخل، بحيث لا يتحول إنفاقه إلى تبذير مدمر للحياة، ولا ادخاره إلى اكتناز وبخل مرهق. {الَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان- 67).

والاعتدال في الإنفاق أمر تقديري يعتمد على ميزان شخصي، فنجد الآيات الكريمة تحذر من الإسراف ومن الاكتناز دون الإشارة إلى حدود الإنفاق الذي مَن تجاوزه يقع في إثم التبذير والإسراف، أو حدود الادخار الذي مَن تجاوزه يقع في إثم البخل، فهذان الأمران مرتبطان بالزمان والمكان والعُرف، فهما نسبيان متحركان من بيئة إلى أخرى ومن زمنٍ إلى آخر، فما كان تحسينيًا بالأمس قد يصبح اليوم من ضروريات الإنفاق، وما هو ضروري في مجتمع قد يكون ترفاً في مجتمع آخر، ولذا جاءت الآيات تحذيرية منذرة فقط:

{يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأعراف-31).

{ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً} (الإسراء-29).

{…ولا تبذر تبذيراً، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا} (الإسراء-26،27).   

وإهمال مفهوم الاعتدال في التمتع بنعم الله تعالى يؤدي بالضرورة إلى الاستسلام للشهوات والرغبات، وهنا تطرح الرؤية الإسلامية مفهوم “السبع أمعاء”، فقد جاء في الحديث الشريف “إن المؤمن يشرب في معيّ واحد والكافر[13] يشرب في سبعة أمعاء”[14]، ذلك أن من يأكل أو يشرب أو يستهلك السلع بمقتضى الشهوة والشره يأكل في سبعة أمعاء، أي يسرف في الأكل أو الشرب أو الاستهلاك كأنه يفعل ذلك لسبعة أشخاص، أما من يأكل باعتدال واقتصاد ويقاوم شهوته في الاستهلاك المفرط المبالغ فيه فهذا الفرد يأكل في معيّ واحد، فيتجنب كل الآثار السلبية المادية منها والصحية الناجمة عن الإفراط والمبالغة في التمتع بما وهبنا الله تعالى من النعم.

ويعتبر الترف مفهومًا مضادًا لقيمة الاعتدال. وقد جاءت التربية النبوية لصحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مؤكدة على خطورة الترف على المؤمن، فالترف مفسد للفطرة ومُلهٍ عن ذكرالله تعالى، ويجب على المؤمن الاحتراز من تأثير التنعم الزائد على رسوخ الإيمان في القلب، علمًا بأن هذا السلوك يجب الاحتراز منه حتى ممن ليسوا أصلًا من الأغنياء المترفين.  فنجد في الحديث الشريف “أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال يا رسول الله لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة”[15]. و”أُهدى إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فروج حرير فلبسه فصلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعًا شديدًا كالكاره له وقال لا ينبغي هذا للمتقين”[16].

وكأن للترف كيمياء خاصة تعمل على القلب وتؤثر فيه سلبًا، كيمياء مفسدة تُلهي عن مكارم الأخلاق، فجاءت التربية النبوية للتنبيه على خطورته على المسلم مهما كان إيمانه وتقواه، فالتنعم الزائد مهما كان جزئيًا مدخل من مداخل الشيطان للإنسان.

 ومن هذا المنطلق فإن مفهوم “الاعتدال” مفهوم تأسيسي في الرؤية الإسلامية، في الوقت الذي يُفتقد في الرؤى المادية الأخرى، بل إننا نجده في كثير من الأحيان يتصادم مع الاتجاهات الاقتصادية الحديثة التي تحث الفرد وتدفعه دفعاً لمزيد من الاستهلاك المادي ومزيد من اقتناء ما لا حاجة له إليه، بل وخلق مزيد من الحاجات غير الحقيقية لصالح الكيانات الاقتصادية الإنتاجية الكبرى.

ثانياً- مفهوم المعروف:

“المعروف” مفهوم تأسيسي آخر، يتميز بسعته الكبيرة وقابليته للشحن الدلالي بحسب ظروف الزمان والمكان، وواجبات الوقت المستجدة، فهو منفتح دلاليًا على معاني الدين والدنيا[17]، ويحمل هذا المفهوم العديد من المعاني التي يمكن إجمالها فيما يلي:

– هو كل فعل يعرف حسنه بالعقل أو النقل، والمعروف ضد المنكر، وهو ما تعرفه النفس من الخير وتستحسنه وتطمئن اليه[18].

– وهو أيضًا الجود أي إسم ما تبذله وتسديه.

– وأخيرًا هو العُرف الشائع في مجتمع بعينه في زمان بعينه، فقاعدة “المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً” تعني أن ما جرى به العُرف بين الناس مُعتبر طالما أنه لا يتعارض مع نص شرعي.

والمعروف في القرآن الكريم لفظ “مظلة” يتضمن معاني الدين المختلفة، العقدية منها والأخلاقية، فهو التوحيد والإيمان والتزام الأوامر واجتناب النواهي والحث على الفضائل.. {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران-110). فالمعروف يعني جميع أعمال الخير التي دل عليها الشرع أو العقل، فهو مصطلح يعمل على حصر ما لا يمكن حصره من معاني الخير، وهو رسالة الأمة تجاه كل البشر.

وقد أكد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على أهمية المعروف في التوازن المجتمعي، هذه القيمة التي ترفع أي عمل طيب ليكون صدقة يؤجر عليها الفرد: “كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقي أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك”[19].

 أما على المستوى الاقتصادي فيعد “المعروف” مفهومًا مركبًا يؤسس إطاراً قيمياً لكل علاقة اقتصادية بين طرفين، فإذا كان المعروف هو كل فعل أو قول يستحسنه العقل والشرع ويحدده العُرف الشائع في مجتمع ما في زمان ما، فهو بهذا التعريف يصبغ الرؤية الاقتصادية الإسلامية بأبعادها الأخلاقية والإنسانية، ويمنحها إطارًا معنويًا يؤطر كل فعل اقتصادي، بحيث إذا ما تم نزعه عنه فَقَد هذا الفعل روحه ووقوده.

والمعروف ليس ترفاً أو أمراً مضافاً، ولكنه مكون معرفي تأسيسي للرؤية الاقتصادية الإسلامية. فهذا التلازم بين الفعل الاقتصادي وقيمة المعروف نابع من استحضار الرؤية الإسلامية للآثار الاجتماعية للفعل الاقتصادي والعلاقات المادية، فالعلاقات المجتمعية القائمة على المعروف يُرفع منها كل أسباب الشقاق أو الصراع بين أفراد المجتمع الواحد، حتى في تلك العلاقات المنضبطة ماديًا وحسابيًا كالميراث أو البيع والشراء.

{وإذا حضر القِسمة أولوا القُربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً} (النساء – 8). فلا حق شرعي لليتامى والمساكين في المال الذي يتم قسمته بين الورثة، ولكن هناك حق أخلاقي إنساني يؤلف القلوب ويقوي الأواصر المجتمعية بين فئات المجتمع الواحد.

{ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً} (النساء- 5). فرغم الواجب الشرعي في حفظ الأموال من تبديد السفهاء لها إلا أنه لا يستقيم الجمع بين الحرمان وجفاء القول، فيجب أن يُرفَق هذا الفعل بقول معروف لين يهدىء من الشعور السلبي لدى هذا الإنسان.

بالتأمل في هذه الآيات الكريمة وغيرها نلاحظ محورية مفهوم “المعروف” في العلاقات المجتمعية، فهو وصف ملازم للنشاط الإيجابي للإنسان المسلم، فلا يكفي أداء ما أمر به الله تعالى من إعطاء الصدقات أو مراعاة أموال اليتيم أو غيرها من العلاقات المادية بين طرفين، ولكن يجب أن يصاحب هذا “قول معروف” أي إشاعة شعور من الراحة والرضا لدى من يأخذ. وبمقدار تغليف العمل الاقتصادي بهذه القيمة الإنسانية بمقدار قبول الله تعالى لهذا العمل. {قول معروف ومغفرة خيرٌ من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم} (البقرة – 263).

كما نجد أن المعروف أمر تقديري قيمي، مسؤول عنه صاحب الشأن وحده، فهو معنى مجاوز للتقديرات المحددة الدقيقة، وبالتالي فهو خاضع للعُرف الشائع كما هو خاضع لمدى الحرص على حق الآخر لدى كل طرف من أطراف العلاقة الإنسانية.  (قالت هند أم معاوية لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن أبا سفيان رجل شحيح فهل عليَ جناح أن آخذ من ماله سراً، قال خذي أنتِ وبنوك ما يكفيك بالمعروف)[20].

ونجد في آيات القرآن الكريم صورة كاملة لشكل العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة سواء في حالة الزواج أو الطلاق، هذه الصورة يظللها المعروف كقيمة حاكمة. فبين الزوج والزوجة: {… ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف…} (البقرة-228). {وعاشروهن بالمعروف…} (النساء-19)، وحق المرأة على زوجها في حالة الطلاق حيث تكون النفوس ثائرة والإساءة بينهما واردة: {أمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} (البقرة-231) {… ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين} (البقرة -236). {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (البقرة-233). وحق اليتامى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف…} (النساء- 6).

هذا هو الإطار والمعنى القيمي الحاكم في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في الإسلام، لا يستقيم فهم البناء المجتمعي على المستويين الاقتصادي والاجتماعي بدونه. فالمعروف كمفهوم كلي ومجرد مكوِن أساسي لكل فعل أو قول، يضفي شرعية أخلاقية تميز التجربة الاجتماعية الإسلامية، فهو واجب عيني وفعل حضاري تتميز به هذه الرؤية.

ثالثاً- مفهوم الإحسان:

الإحسان لغة هو الإخلاص ومراقبة الله تعالى وحسن الطاعة، وهو ضد الإساءة[21]. وهو الإتقان في العمل. والإحسان أن يعطي الإنسان أكثر مما عليه، ويأخذ أقل مما له، فهو زائد على العدل[22]. وتحري الإحسان أمر ضروري في كل عمل وفي كل علاقة إنسانية، كون هذا العمل وهذه العلاقة أمر يبتغي بها الإنسان رضا الله تعالى. {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} (البقرة-195). 

وإذا كان “المعروف” قيمة مضافة مصاحبة لكل فعل فإن الإحسان جزء لا يتجزأ من هذا الفعل، فهو قيمة منشئة للفعل وليست مصاحبة له. ولذا فالإحسان في الفعل والعمل أي الإخلاص فيه وإتقانه ومراقبة الله تعالى عند أدائه قيمة منشئة لهذا الفعل وهذا العمل. والإحسان في العمل واجب، وهو بمعنى القيام بالحقوق الواجبة على أكمل وجه، حتى إن الإحسان يأتي في أمر لا يتصور فيه الإحسان “إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته”[23].

والإحسان لا يكون فقط في أعمال الجوارح، ولكن أيضًا في أعمال القلوب وفي العبادات، فقد عرَف رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الإحسان في العبادة بقوله (… أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك …)[24]، أي أن تكون العبادة بخشوع وإخلاص وفراغ البال عما سواها، كما جاء في قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- للمسيء في صلاته “ارجع فصلِ فإنك لم تصلِ”[25]. وفي الحديث الشريف: (مَن توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده ..)[26]. وفي إخراج الزكاة جاءت الآية الكريمة: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم …} (البقرة-267)، أي من أفضل ما تملكون.   

إذن، فالإحسان قيمة مصاحبة لفعل الفرد في كل عبادته ومعاملاته الاجتماعية منها والاقتصادية، لا تستقيم هذه الأفعال إذا لم تكن قائمة عليها. (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)[27].

وللإحسان دوائر كثيرة:

  • الإحسان إلى النفس: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم…} (الإسراء-7).
  • الإحسان إلى الوالدين: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} (الإسراء-23).
  • الإحسان إلى الأقارب سواء أكانت قرابة نسب أم قرابة جوار: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً} (البقرة- 83).
  • الإحسان في دائرة الحياة: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين} (الأعراف-56).

من ناحية أخرى فإن العلاقات الإنسانية قائمة إما على الإحسان والفضل وإما على الحقوق والواجبات. والرؤية الإسلامية تحافظ على الحقوق والواجبات بين الناس، بل إن أطول سورة في القرآن الكريم جاءت في توثيق الدين بين المتداينين. إلا أن آيتين قبل هذه الآية الكريمة نجد فيها {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم} (البقرة-280).

والإحسان كمصطلح له مشتقات لغوية متعددة: المحسنون- الحسنى- أحسنوا- أحسن- حسنا- حسنة- بالتي هي أحسن- وغيرها، وقد جاء هذا المصطلح في القرآن الكريم أقل قليلًا من 200 مرة، مما يعطي تصورًا عن المساحة التي تحتلها هذه القيمة في الرؤية الإسلامية، فالإخلاص في العمل المؤدي إلى الإتقان، والعطاء المتجاوز للحسابات الدقيقة من الأخلاقيات الأساسية للمسلم، وقد جاء وصف المكانة المتميزة للمحسنين عند الله تعالى للحث على التحلي بهذه القيمة المتفردة، مثل: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} (الأعراف- 56).

 وقد جاء مفهوم {بالتي هي أحسن} -وهو مفهوم مركب من مفهوم الإحسان- في سبع آيات قرآنية، ونجد أن أحسن هو إسم تفضيل، والأصل في أسلوب التفضيل في اللغة أن يأتي بين طرفين، كقول: “الصلاة خير من النوم”، وأما ما يأتي من أسماء التفضيل من غير مفضول، فهو من البلاغة بما يجعل الفاضل أفضل من أي شيء سواه، وهو ما يمهد للسعي للتفاضل[28]، ويعطي للمصطلح معنى متحرك، فالوصول إلى الحسن يدفع إلى ما هو أحسن منه باستمرار. ونجد أن الآيات الكريمة تدعو إلى تحري ما هو أحسن وعدم الوقوف عند الحسن.

{ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (فصلت- 34). أي إدفع السيئة بأحسن ما يمكن دفعها به، فادفع بالحق باطلهم وبالحلم جهلهم وبالعفو إساءتهم. هذا مفهوم قيمي بنائي للحضارة الإسلامية قائم على مبدأ “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”[29].

{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن…} (الإسراء – 53). فالقول يجب ألا يكون صادقًا وصحيحًا فقط، بل يجب أن يكون قولاً ليناً جامعاً حكيماً أي أن يكون “الأحسن”.

أما على المستوى المادي، فقد جاء هذا المصطلح في إطار التعامل مع مال اليتامى {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده …} (الأنعام – 152)، (الإسراء-34). فالعلاقة هنا بين مسؤول عن المال في موقف قوي، ليس هناك مَن يردعه إذا أراد إساءة التصرف في مال اليتيم، أمام المسؤول عنه فهو في موقف ضعيف من جانبين، فهو طفل صغير من ناحية، وهو يتيم ليس لديه من يدافع به عن حقوقه، والدعوة هنا ليست دعوة حفظ فقط بتحريم أكل مال هذا اليتيم ظلمًا كما جاءت في آيات كريمة أخرى، إنما الدعوة هنا دعوة بنائية من خلال التعامل مع هذا المال بالتي هي أحسن، أي أحسن ما يمكن أن يُفعل بهذا المال، أي اتباع الأسباب والوسائل التي تؤدي إلى حفظه وتنميته وتثميره، والعمل على الإنفاق منه على تربية هذا اليتيم وتعليمه بما يصلح به حياته وآخرته، وقد أوضح حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيفية التعامل مع مال اليتيم بالتي هي أحسن: “ألا من ولي يتيمًا له مال، فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة”[30].

إذن فمسؤولية ولي أمر هذا اليتيم ليست مسؤولية سلبية تقف عند مجرد حفظ المال وعدم المساس به، ولكن هذه المسؤولية تتجاوز الحفظ إلى استثمار هذا المال وتنميته بما يسمح بتسليمه إلى هذا اليتيم -عندما يبلغ أشده- مضاعفًا، والملاحظ أن ولي الأمر على مال اليتيم هو وحده المسؤول عن اختياراته وحسن استثماره لهذا المال، فالرقيب الوحيد على هذا الأمر هو الله تعالى، وقرارات ولي الأمر لا يمكن الحكم عليها بالحل والحرمة طالما أنه لا يعتدي على مال اليتيم ظلمًا. وهنا نجد أن مصطلح “الأحسن” مفهوم تقديري وحاكم على قرارات الفرد أمام مسؤولياته.

ويمكن أن نقوم هنا بتجريد فئة “اليتيم” إلى كل من هو في حالة ضعف أوعدم قدرة، والدعوة للمسؤول عنهم أن يسعى إلى مساندتهم في ضعفهم بالصورة الأحسن والأفضل، فالفقير والمسكين والغارم والمريض وابن السبيل كل أولئك في موقف ضعف دائم أو مؤقت ويحتاجون إلى مساندة ودعم ولي الأمر في البلاد.

الاعتدال والمعروف والإحسان، ثلاثة مفاهيم مؤسسة للرؤية الإسلامية في كل المجالات المعرفية والسلوكية.

” مفاهيم ميزان” تختبر مدى اتساق الفعل مع الرؤية الإسلامية أو عدم اتساقها معها.

“مفاهيم قيمية مطلقة” تقدم رؤية للفعل مغايرة عن الأفعال المنتمية إلى نسق القيم النفعية المادية.

“مفاهيم تقديرية” على الفرد وحده أن يراجع نفسه في مدى تحقيقه لها في حياته الشخصية أو على المستوى المجتمعي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مدير مركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وسكرتير تحرير مجلة المسلم المعاصر.

[1] رواه الترمذي من حديث أبي الدرداء.

[2] أخرجه البخاري من حديث أبي شريح العدوي.

[3] أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود.

[4] أخرجه البيهقي من حديث أبي هريرة.

[5] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.

[6] أخرجه البخاري، من حديث عائشة أم المؤمنين.

[7] أخرجه مسلم، من حديث عياض بن حمار.

[8] أخرجه البخاري، من حديث جابر بن عبد الله.

[9] ابن منظور (2003). مج. 6. مصدر سابق. ص. 125.

[10] أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك

[11] أخرجه الصنعاني.

[12] أخرجه ابن حجر من حديث عبد الله بن عمر

[13] معنى الكفر في هذا الحديث ليس معنى عقدي، ولكنه جاء الكفر هنا بمعنى كفر النعمة.

[14] صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن عمر.

[15] صحيح البخاري، من حديث عبد الله بن عمر.

[16] صحيح البخاري، من حديث عقبة بن عامر.

[17] امحمد حبرون (2015). مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة (مساهمة في تأصيل الحداثة السياسية). ط. 2. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ص. 110.

[18] ابن منظور (2003). مج. 6. مصدر سابق.

[19] سنن الترمذي، من حديث جابر بن عبد الله

[20] صحيح البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

[21] ابن منظور (2003). مج. 2. مصدر سابق. ص. 451.

[22] محمد عمارة (1993). مصدر سابق. ص. 34.

[23] صحيح مسلم، من حديث شداد بن أوس..

[24] صحيح البخاري.  من حديث أبي هريرة.

[25] رواه البخاري من حديث أبي هريرة.

[26] رواه مسلم، من حديث عثمان بن عفان

[27] رواه البوصيري، من حديث أم المؤمنين عائشة.

[28] مصطفى جابر العلواني (2015). منطلقات الفكر السياسي الإسلامي في تفنيد ادعاءات المستشرقين بشأن الإسلام. مجلة المسلم المعاصر. (157 – 158).

[29] مسند أحمد، من حديث أبي هريرة.

[30] سنن الترمذي.، من رواية جد عمرو بن شعيب.

عن مهجة مشهور

شاهد أيضاً

في تحيزات المصطلح الصهيوني

أ. د. عبد الوهاب المسيري

حاول الخطاب السياسي العربي أن يتعامل مع الظاهرة الصهيونية في تفردها وعموميتها، فقد كانت بالفعل ظاهرة جديدة كل الجدة على الشعب العربي سواء في فلسطين أم خارجها.

مونديال قطر 2022 في مواجهة اللابديل الغربي

أ. يارا عبد الجواد

هو الأكثر إثارة للجدل، لم يكن الأمر في مونديال قطر مجرد مساحات خضراء يتجاذب أطرافها الكرة بقدر ما كانوا يتجاذبون القيم والأفكار ويتعارفون فيما بينهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.