الحديث النبوي بين علماء الفقه وعلماء الحديث

الصفحات التالية من كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث* للشيخ محمد الغزالي**

الحديث النبوي بين علماء الفقه وعلماء الحديث

هناك طريقا واحدا لإرضاء الله سبحانه وتعالى ونيل محبته، هو اتباع محمد – صلى الله عليه وسلم – واقتفاء آثاره والسير على سنته لقوله تعالى: ” قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم…”[1].

وأمتنا، من تاريخ بعيد، تصون التراث النبوي ، وتحميه من الأوهام، وتعد الكذب على صاحب الرسالة طريق الخلود في النار، لأنه تزوير للدين وافتراء على الله لقوله صلى الله عليه وسلم: “إن كذبا علىّ ليس ككذب على أحد، من كذب علىّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”

وقد وضع علماء السنة خمسة شروط لقبول الأحاديث: ثلاثة منها في السند، واثنان في المتن:

  1. فلا بد في السند من راو واع يضبط ما يسمع، ويحكيه بعدئذ طبق الأصل..
  2. ومع هذا الوعى الذكىّ لابد من خلق متين وضمير يتقي الله ويرفض أى تخريف.
  3. وهاتان الصفتان يجب أن يطَرِدا في سلسلة الرواة، فإذا اختلتا في راو أو اضطربت إحداهما فإن الحديث يسقط عن درجة الصحة.

وننظر بعد السند المقبول إلى المتن الذى جاء به، أى إلى نصّ الحديث نفسه..

  1. فيجب ألا يكون شاذا.
  2. وألا تكون به علة قادحة.

والشذوذ أن يخالف الراوى الثقة من هو أوثق منه.. والعلة القادحة عيب يبصره المحققون في الحديث فيردونه به..

وهذه الشروط ضمان كاف لدقة النقل وقبول الآثار. بل لا أعرف في تاريخ الثقافة الإنسانية نظيرا لهذا التأصيل والتوثيق. والمهم هو إحسان التطبيق..!

وقد توفر للسنة المحمدية علماء أولو غيرة وتقوى بلغوا بها المدى. وكانت غربلتهم للأسانيد مثار الثناء والإعجاب. ثم انضم إليهم الفقهاء في ملاحظة المتون، واستبعاد الشاذ والمعلول..

ذلك أن الحكم بسلامة المتن يتطلب علما بالقرآن الكريم، وإحاطة بدلالاته القريبة والبعيدة، وعلما آخر بشتى المرويات المنقولة لإمكان الموازنة والترجيح بين بعضها البعض الآخر.

والواقع ان عمل الفقهاء متمم لعمل المحدثين، وحارس للسنة من أى خلل قد يتسلل إليها عن ذهول أو تساهل…

إن في السنة متواترا له حكم القرآن الكريم، وفيها الصحيح المشهور الذى يفسر العموم والمطلق في كتاب الله، وفيها حشد كبير من أحكام الفروع التى اشتغلت بها المذاهب الفقهية..

وقد يصحّ الحديث سندا ويضعف متنا بعد اكتشاف الفقهاء لعلة كامنة فيه.

وفي عصرنا ظهر فتيان سوء يتطاولون على أئمة الفقه باسم الدفاع عن الحديث النبوي، مع أن الفقهاء ما حادوا عن السنة، ولا استهانوا بحديث صحت نسبته وسلم متنه. وكل ما فعلوه أنهم اكتشفوا عللا في بعض المرويات فردوها – وفق المنهج العلمي المدروس – وأرشدوا الأمة إلى ماهو أصدق قيلا وأهدى سبيلا…

وهم بهذا المنهج يتأسون بالصحابة والتابعين. انظر موقف عائشة رضى الله عنها عندما سمعت حديث إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه! لقد أنكرته، وحلفت أن الرسول ما قاله، وقالت – بيانا لرفضها إياه – ” أين منكم قول الله سبحانه ” لاتزر وازرة وزر أخرى”[2].

إنها ترد ما يخالف القرآن بجرأة وثقة، ومع ذلك فإن هذا الحديث المرفوض من عائشة ما يزال مثبتا في الصحاح بل إن ” ابن سعد” في طبقاته الكبرى كرره في بضعة أسانيد!

والذي تؤكده عائشة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: إن الكافر يعذب ببكاء أهله عليه..

فعن ابن أبي مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان رضي الله عنه بمكة،  وجئنا لنشهدها وحضرها ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهما وإني لجالس بينهما…

فقال عبدالله بن عمر لعمرو بن عثمان: ألا تنهي النساء من البكاء؟ فإن رسول الله – صلى  الله عليه وسلم – قال ” إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه” قال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك.. فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة، فقالت: رحم الله عمر! والله ما حدث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله قال: ” إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه”.

وقالت: حسبكم القرآن ” ولا تزر وازرة وزر أخرى”.

وعندي أن ذلك المسلك الذى سلكته أم المؤمنين أساس لمحاكمة الصحاح إلى نصوص الكتاب الكريم، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه…

من أجل ذلك كان أئمة الفقه الإسلامي يقررون الأحكام وفق اجتهاد رحب، يعتمد على القرآن أولا، فإذا وجدوا في ركام المرويات ما يتسق معه قبلوه، وإلا فالقرآن أولى بالاتباع.

وحديث الآحاد يفقد صحته بالشذوذ والعلة القادحة، وإن صح سنده .. فأبو حنيفة يرى أن من قاتلنا من أفراد الكفار قاتلناه، فإن قتل فإلى حيث ألقت، أما من له ذمة وعهد فقاتله يقتص منه.

ومن ثم رفض حديث لا يقتل مسلم في كافر، مع صحة سنده، لأن المتن معلول بمخالفته للنص القرآنى “النفس بالنفس”[3] وقول الله بعد ذلك ” فاحكم بينهم بما أنزل الله”[4].

وقوله ” أفحكم الجاهلية يبغون”[5]؟

وعند التأمل نرى الفقه الحنفي أدنى إلى العدالة، وإلى مواثيق حقوق الإنسان، وإلى احترام النفس البشرية دون نظر إلى البياض والسواد، أو الحرية والعبودية، أو الكفر والإيمان.

لو قتل فيلسوف، كانس طريق، قتل فيه، فالنفس بالنفس..!!

وقاعدة التعامل مع مخالفينا في الدين ومشاركينا في المجتمع أن لهم ما لنا وعليهم ما علينا، فكيف يهدر دم قتيلهم؟

كل ما نحرص نحن عليه شدّ الانتباه إلى ألفاظ القرآن ومعانيه، فجملة غفيرة من أهل الحديث محجوبون عنها، مستغرقون في شئون أخرى تعجزهم عن تشرّب الوحي!!

والفقهاء المحققون إذا أرادوا بحث قضية ما، جمعوا كل ما جاء في شأنها من الكتاب والسنة، وحاكموا المظنون إلى المقطوع، وأحسنوا التنسيق بين شتى الأدلة…

أما اختطاف الحكم من حديث عابر، والإعراض عما ورد في الموضوع من آثار أخرى فليس عمل العلماء…

وقد كان الفقهاء على امتداد تاريخنا العلمى هم القادة الموثقين للأمة، الذين أسلمت لهم زمامها عن رضا وطمأنينة، وقنع أهل الحديث بتقديم ما يتناقلون من آثار كما تقدم مواد البناء للمهندس الذي يبني الدار، ويرفع الشرفات.

والواقع أن كلا الفريقين يحتاج إلى الآخر، فلا فقه بلا سنة و لا سنة بلا فقه، وعظمة الإسلام تتم بهذا التعاون.

والمحنة تقع في اغترار أحدهما بما عنده، وتزداد مع الإصرار وضعف البصيرة.

فلا فقه مع العجز عن فهم الكتاب ومع العجز عن فهم الحياة نفسها.. وبعض المشتغلين بالحديث يستوعر تدبر القرآن، ودراسة دلالاتة القريبة والبعيدة، ويستسهل سماع حديث ما ثم يختطف الحكم منه فيشقى البلاد والعباد.

قلنا: إنه لا خلاف بين المسلمين في العمل بما صحت نسبته لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفق أصول الاستدلال التى وضعها الأئمة، وانتهت إليها الأمة…

إنما ينشأ الخلاف حول صدق هذه النسبة أو بطلانها… وهو خلاف لابد من حسمه، ولابد من رفض الافتعال أو التكلف فيه…

فإذا استجمع الخبر المروى شروط الصحة المقررة بين العلماء فلا معنى لرفضه وإذا وقع خلاف محترم في توفر هذه الشروط أصبح في الأمر سعة، وأمكن وجود وجهات نظر شتى، ولا علاقة للخلاف هنا بكفر ولا إيمان، ولا بطاعة أو عصيان..

وقد وقع لى وأنا بالجزائر أن طالبا سألني: أصحيح أن موسى عليه السلام فقأ عين ملك الموت عندما جاء لقبض روحه، بعدما استوفى أجله؟ فقلت للطالب وأنا ضائق الصدر: وماذا يفيدك هذا الحديث؟ إنه لا يتصل بعقيدة، ولا يرتبط به عمل! والأمة الإسلامية اليوم تدور عليها الرحي، وخصومها طامعون في إخماد أنفاسهاّ! اشتغل بما هو أهم وأجدى!.

قال الطالب: أحببت أن أعرف هل الحديث صحيح أم لا؟ فقلت له متبرما: الحديث مروى عن أبي هريرة، وقد جادل البعض ف صحته.

وعدت لنفسي أفكر: إن الحديث صحيح السند، لكن متنه يثير الريبة، إذ يفيد أن موسى يكره الموت، ولا يحب لقاء الله بعدما انتهي أجله، وهذا المعنى مرفوض بالنسبة إلى الصالحين من عباد الله كما جاء في الحديث الآخر ” من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه”. فكيف بأنبياء الله؟ وكيف بواحد من أولى العزم؟. إن كراهيته للموت بعدما جاء مَلَكه أمر مستغرب! ثم هل الملائكة تعرض لهم العاهات التى تعرض للبشر من عمى أو عور؟ ذاك بعيد.

قلت: لعل متن الحديث معلول، وأيا ما كان الأمر فليس لدىّ ما يدفعني إلى إطالة الفكر فيه..

اتفق المحدثون أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ” لاتنكح الأَّيَّم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا: يارسول الله وكيف إذنها؟  قال: أن تسكت” وفي رواية: ” الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تُستَأمر، وإذنها سكوتها”!.

وعن ابن عباس رضى الله عنه أن جارية بكرا أتت النبىَّ – صلى الله عليه وسلم – فذكرت أن أباها زوَّجها وهي كارهة! فخيَّرها رسول الله”.

وفي رواية: ” أن فتاة على عائشة فقالت: إن أبي زوجنى من ابن أخيه يرفع بي خسيسته وأنا له كارهة! قالت عائشة: اجلسي حتى يأتى رسول الله ! فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها!

فقالت: يارسول الله، قد أجزت ما صنع أبى، ولكنى أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شئ!

ومع هذا فإن الشافعية والحنابلة أجازوا أن يجبر الأب ابنته البالغة على الزواج بمن تكره!!، ولا نرى وجهة النظر هذه إلا انسياقا مع تقاليد إهانة المرأة، وتحقير شخصيتها…

وقد ذكرنا أن الأحناف أعطوا المرأة حق ان تباشر عقدها إمضاء لظواهر القرآن.. ” ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا”[6]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* محمد الغزالي (1989). السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث. ط. 1. القاهرة: دار الشروق. ص ص. 14- 33.

** محمد الغزالي، عالم ومفكر إسلامي مصري، يعد أحد دعاة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، عُرف عنه تجديده في الفكر الإسلامي وكونه من “المناهضين للتشدد والغلو في الدين”، واشتهر بلقب أديب الدعوة.

[1] آل عمران: 31

[2] الأنعام: 164.

[3] المائدة: 45 – 48 – 50 .

[4] المصدر السابق.

[5] المصدر السابق.

[6] البقرة: 148

عن محمد الغزالي

شاهد أيضاً

سنن العمران البشري في السيرة النبوية

تأليف: د. عزيز البطيوي

عرض: أ. يارا عبد الجواد

يخوض الكاتب مغامرة بحثية جادة وضرورية، حيث يسعى من خلال صفحات هذا الكتاب إلى استنباط مجموعة من سنن العمران البشري من خلال القراءة التاريخية الدقيقة في جزئيات السيرة النبوية، ومن ثم الصياغة العلمية لهذه القواعد.

أصول المنهج المعرفي من القرآن والسنة

د. محمد أمزيان

يتعلق هذا البحث ببيان الأصول التي ينبني عليها المنهج المعرفي في الإسلام من خلال استقراء نصوص الوحي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.