السنن الإلهية بين الوعد والتحقق
نحو فهم عملي مركب
د. شريف عبد الرحمن سيف النصر*
تمهيد:
تمثل السنن الإلهية مكونًا أساسيًا في التصور الإسلامي للكون والمجتمع. فهي ليست مجرد قواعد أخلاقية أو أحكامًا فقهية وإنما هي نظام محكم يوجه حركة التاريخ وسير المجتمعات، ضمن شروط وموانع وسياقات.
غير أنه كثيرًا ما يساء فهم السنن، من قِبل المؤمنين بها، فيُظن بها الجبر أو الحتمية، أو يُختزل فهمها في إطار التنبؤ وسَوق التوقعات، بعيدًا عن الفاعلية والعمل والفهم المركب.
إن الفهم العملي المركّب للسنن من أهم ما ينبغي التنبه له، خصوصًا في زمن الأزمات الكبرى، كحال العدوان على غزة أو غيرها من مظاهر الظلم والاستكبار التي نعيشها في وقتنا الحالي، والتي تدفع البعض إلى تبنّي تصورات/توقعات، إن لم تكن ساذجة فهي غير مكتملة، عن انتقام إلهي وشيك أو نصر حتمي لا يتطلب شروطًا، ولا تسبقه مقدمات.
إن إيجابية السنن الإلهية لا تتناسب مع مقدار الإيمان العاطفي أو قوة اليقين بصدقها فقط، وإنما أيضًا مع مدى استيعاب طبيعتها ومدى الإلمام بالسياقات والتفاصيل التي تعمل ضمنها، ومع السعي الإنساني الذي يستلهم معاني الفاعلية والقدرة على التأثير، وذلك كله في إطار من الثقة في حكمة الله تعالى وقدرته وعدله في إدارة الكون. أما الانتظار السلبي لتحقق سنن نصر المؤمنين وهلاك الظالمين، بمعزل عن الوعي بهذه المعاني، فقد يفضي إلى نوع من الخذلان أو اليأس أو سوء الظن بالله تعالى، وهو الأمر الذي يشدد الشرع في النهي عنه.
تهدف هذه الورقة إلى معالجة الموضوعات السابقة، عبر تقديم قراءة عملية مركبة للسنن، على نحو يجعل منها بوصلة للفعل، ولبنة في إطار الفهم السليم لطبيعتها.
********
مقدمة:
يتصور البعض أن السنن هي وسيلة المؤمن للتنبؤ بالمستقبل وتوقع مجرياته، وذلك عبر إسقاط هذه السنن على الواقع، عند أي انطباق جزئي لشروطها على مجريات أحداثه. غير أن هذا الفهم المبسط الذي يمارسه البعض — ثقة منهم بالسنن وما تحمله من وعد إلهي لا يتخلف— لا ينفذ إلى حقيقة السنن وحقيقة المطلوب من المؤمن إزائها. فمن جهة إن بنية السنن وطريقة انطباقها على الأحداث لا تتسق وهذا الفهم المبسط والمختزل لطبيعة السنن، ومن جهة أخرى فإن “السعي الإنساني” جزء لا يتجزأ من كافة السنن التي تتعلق بالاجتماع البشري، كما أن سؤال الفاعلية هو مكون أساسي ضمن خطة عمل وتحقق السنن الإلهية.
باختصار إن السنن الإلهية لا يصح أن تُختزل إلى مجرد نبوءات حتمية وآلية، وفق فهم مُسَطح لطبيعتها أو للطريقة التي تعمل بها في التاريخ. وهذا المعنى هو ما نعرض له بنوع من التفصيل في الفقرات التالية:
- الفهم المركب للسنن
ليست السنن معادلات رياضية يمكن حلها على نحو آلي، وليست نبوءات حتمية تنطبق من دون مقدمات، وإنما هي أنساق تعمل في إطار شروط وسياقات وتستدعي نوعًا من الفهم المركب لمضامينها، وللطرق المحتملة لتحققها.
على سبيل المثال عندما تُحدثنا الآيات عن سنن إهلاك الظالمين، كما في قوله تعالى ﴿وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102]، فإن هذا لا يعني أن الهلاك سيقع تلقائيًا عند ظهور أي ظلم، بل تُبيّن أن الظلم، في جوهره، هو طريق للهلاك، لكن وقوع هذا الهلاك فعليًا مشروطٌ بتوفر جملة من العوامل، والسياقات الاجتماعية والبشرية المعقدة والمتداخلة.
فالسنن لا تعمل في فراغ، وإنما في إطار جملة من تفاصيل الواقع التي تتعلق بعوامل متعددة منها مثلاً مدى إصرار الظالمين على ظلمهم، ومدى غياب المحاولات الجادة للإصلاح من قبل المحيطين بهم (هل لا يزال في المجتمع مَن يدافع عن الحق فيمنع الله به تحقق الهلاك الكامل؟ أم أن المجتمع قد خلا ممن يدعون إلى الحق والعدل؟) وما إذا كان الطغيان قد بلغ حدًا يغلق كل أبواب التوبة والاستدراك (هل استُوفيت كل شروط الهلاك فعلًا؟ أم هل لا تزال هناك إمكانية للإصلاح والتدارك؟) إلى غير ذلك من التفاصيل التي يمكن استدعاؤها.
من ناحية أخرى، لا تعمل السنن الإلهية في الواقع معزولة عن بعضها البعض، بل تعمل السنن عادة ضمن منظومة مترابطة ومتداخلة، فسنة التمكين تتقاطع عادة مع سنة الابتلاء. فالله سبحانه لا يمكِّن لعباده إلا بعد صبر ومصابرة وتحقق لشروط داخلية، يكون الابتلاء فيها أداة للتمحيص والإعداد. “أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴿آل عمران١٤٢﴾. كما أن سنة إهلاك الظالمين، تتقاطع مع سنة الإمهال؛ “وَأُمْلِي لَهُم ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ” ﴿الأعراف ١٨٣﴾، وهذا التداخل يعني أن الظلم يمكن أن يدوم لوقت (يطول أو يقصر)، وأن الظالم قد يُملَى له لإقامة الحجة عليه، أو للاستدراج إلى ما يُحتم هلاكه “سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ” ﴿القلم ٤٤﴾. كما أن السنن تلمح دومًا إلى أن النصر ليس عاقبة لليأس أو العجلة “فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا” ﴿مريم ٨٤﴾، وإنما هو عاقبة للصبر والأخذ بالأسباب “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” ﴿آل عمران ٢٠٠﴾.[1]
إن الفهم السطحي للسنن يحمل في طياته مخاطر عدة؛ إذ قد يقود إلى اليأس إذا تأخر النصر، أو إلى الغرور والرضا الزائف إذا تحقق إنجاز جزئي. بل إن هذا الفهم السطحي قد يُفضي في نهاية المطاف إلى سوء الظن بالله تعالى، أو إلى اتهام الدين ذاته بالعجز عن تفسير الواقع أو التأثير فيه. في المقابل، فإن الفهم المركب للسنن – بما يتضمنه من وعي بالشروط والموانع وسير الأحداث في سياقاتها المتشابكة – يمنح الإنسان صلة أعمق بالواقع، ويغرس في قلبه أملًا راسخًا نابعًا من الإدراك الواعي لحكمة الله في تدبير شؤون الخلق، لا من مجرد الأمنيات العابرة.
من هنا لا يفترض بالمؤمن أن يتعجل في إسقاط السنن على الواقع، وكأنها حتميات مغلقة، وإنما عليه أن يسعى إلى فهمها بعمق، وأن يتعامل معها بوعي، ضمن شروطها، وذلك بحسبان هذا الفهم الواعي يحمي من الغرور المعرفي، ويُبعد عن تصورات الجبر أو اليأس، ويؤسس لإمكانية القيام بعمل إصلاحي منضبط بالسنن الربانية، وهو ما نتناوله في النقطة التالية.
- الفهم العملي للسنن:
على خلاف السنن الكونية التي ربما لا تتأثر مباشرة بأفعال البشر (فالشمس تشرق سواء أراد البشر أم لم يريدوا، والأرض تدور سواء أحسن البشر أم أساءوا).[2] ترتبط المنظومات الاجتماعية بسلوك الإنسان ومواقفه، وتجري تفاصيلها على أساس من اختياراته وأفعاله. ففي هذا النوع من السنن ثمة دور أساسي للسعي البشري، يمكن النظر إليه بوصفه شرطًا لتحقق السنة. فسنن مثل (النصر، النجاة، أو السقوط، والعذاب) لا تتحقق إلا إذا قام الإنسان بما يقتضيها. بعبارة أخرى تشتمل السنة في بنيتها على أدوار ينبغي أن يقوم بها البشر أنفسهم لكي تسري في حقهم، كما في قوله تعالى “لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ” ﴿إبراهيم ٧﴾.
والفاعلية الإنسانية في إطار السنن هي فاعلية حقيقية، ولكنها مشروطة، بمعنى أن الإنسان في إطار السنن الاجتماعية فاعل على الحقيقة، لكن فاعليته ليست مطلقة، بل مشروطة بالقوانين الإلهية. فالله تعالى جعل لقرارات البشر أثرًاً في مصيرهم، على نحو يربط الأثر بالمؤثر، والسبب بالمسبب، وعليه يبقى الإنسان حرًا في أن يختار (الإيمان – الإصلاح – الفساد – العدوان)، ولكن عواقب اختياره تبقى محكومة بسنن الله.
هذا التوازن بين العواقب الحتمية والفاعلية البشرية يُعد أمرًا بالغ الأهمية، لأنه يُحقق التكامل بين مفهومي القدر والاختيار. فالعاقبة المحددة تمثّل مظهرًا من مظاهر “قدَر الله” الذي لا يتبدل، بينما تمثّل الفاعلية البشرية مجال المسؤولية والتكليف التي يمارس الإنسان في إطارها اختياراته ويُحاسب عليها.
- سنة الإصلاح في مقابل سنة الإهلاك:
على سبيل المثال في السنن التي تتعلق بالوعد الإلهي بإهلاك الظالمين لا ينبغي أن يُفهم وعد الله هنا باعتباره دعوة للانتظار السلبي، بل باعتباره دعوة للفعل والسعي، مع التوكل على الله سبحانه والثقة في وعده. فالسنن الإلهية — مرة أخرى— ليست حتميات تاريخية تقع بلا مقدمات، وإنما هي قوانين مشروطة، وأحد شروطها متعلق بالفعل والسعي الإنساني.
ولا تكمن مسؤولية المؤمن فقط في الإيمان بالسنن التي تتوعد الظالمين بالهلاك، ولا في الإيمان بسوء عاقبة الظلم، وإنما في العمل الإيجابي لمنعه (إن كان هذا الظلم يقع ضمن نطاق القدرة على دفعه) عبر الإصلاح، والدعوة، والمقاومة، والصبر، أو بالعمل الإيجابي لاستحقاق النصرة (إذا كان الظلم يقع خارج نطاق القدرة على دفعه) على نحو يساهم في توفير ظروف وسياقات ومقدمات تحقق السنة، وعلى نحو يجعل من السنن أداة فاعلة للتغيير لا مجرد وسيلة للتوقع أو التنبؤ.
فعندما يكون مجتمع ما متلبسًا بالعديد من مظاهر الظلم، التي تستدعي توقع وقوع الهلاك به، فإن ما يُنتظر من المؤمن في هذه الحالة لا أن ينبري لممارسة التنبؤ السلبي بحتمية وقوع العقوبة، ولا أن يتصدى لتهديد الآخرين باقتراب موعد حلول الهلاك بمستحقيه، ولكن أن يبادر هو إلى محاولة الإصلاح الذي يستدفع العاقبة السيئة، بدلًا من استدعائها، وذلك استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: 117]، فالإصلاح في هذه الحالة ليس مجرد اختيار شخصي، وإنما هو فِعل مندوب إليه، لأنه لا مصلحة من استعجال الهلاك، وإنما المصلحة كل المصلحة في الحيلولة دون وقوعه.
فسنة الإهلاك لا تصيب الذين ظلموا على سبيل الحصر ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال ٢٥]، وإنما قد تطال أيضًا من امتنع عن السعي في محاولة دفع الظلم، أو درء أسبابه بالإصلاح. وهنا لا معنى لأن يمارس الفرد التوقع البارد بوقوع العقوبة، أو أن يُبشر بقرب تحقق سنة الإهلاك، على أمل أن تحل بالآخرين، دون أن تتطرق إليه بأذى.
الفهم العملي للسنن الإلهية يقتضي في هذه الحالة المبادرة إلى المواجهة العملية للظلم، بأن يكون الإنسان شاهدًا بأفعاله على بطلانه، لا شريكًا بصمته في إقراره، فالصمت عن الظلم يُعدّ مشاركة ضمنية في صناعة شروط العقوبة. أما التبرؤ من الظلم، المشتمل على محاولة الإصلاح بالعمل على تغييره، فهو مساهمة في تحقق النجاة. بهذا الفهم، تكون السنن محرّكًا للعمل، لا ذريعة للتقاعس وانتظار المصير المحتوم.
- السنن وسيلة للتثبيت، لا التثبيط:
وحتى حين يقع بالمؤمنين نوع من الظلم الذي لا طاقة لهم على دفعه، فإنه لا مناص أيضًا من استنفاد الوسع في السعي لدفع هذا الظلم، بدلا من انتظار تحقق السنة الإلهية التي تنتقم من الظالم وتنتصر للمظلومين. فعندما يتحدث القرآن عن هلاك الظالمين، فإنه لا يخاطب بهذه البشرى جماعة من اليائسين المنتظرين لنزول العذاب بظالميهم، بل يخاطب “المؤمنين الفاعلين” الذين يحتاجون في إطار سعيهم (في مواجهة الظلم والظالمين) إلى تثبيت وبصيرة. فقول الله تعالى ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [النحل: 36]، وقوله عز من قائل ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا﴾ [آل عمران: 137]، ليس دعوةً للانتظار السلبي، بل توجيهٌ حركي للاستلهام من السنن، والتبصر بمسار التاريخ، وتحويل ذلك إلى وعي يُغذّي العمل لا يزهد فيه.
بعبارة أخرى إن القرآن حين يسرد مصائر الظالمين، فإنما يقصد بذلك إيقاظ الوعي السنني لدى المؤمن، ليعلم أن لله في خلقه عادات لا تتخلّف، وأن حركة التاريخ تسير ضمن منظومة إلهية عادلة، وأن النصر أو الهلاك لا يقعان مصادفة، بل تبعًا لأسباب تُؤخذ أو تُهمَل. ومن هنا، فإن السنن القرآنية تُستدعى للتحرك لا للجمود، وللتثبيت لا للانتظار، وللإصلاح لا للركون إلى الأمر الواقع.
إن الفهم العملي للسنن لا يتمثل في انتظار لحظة التمكين (والشكوى من تأخرها)، وإنما في بذل الجهد في محاولة تحقيق الشروط المؤدية إليها، هذا الفهم العملي إذا ما طبق على السنن المستقبلية، كالوعد بإهلاك الظالمين أو نصر المؤمنين، يقود إلى أن السنن ليست مجرد نبوءات تُسقط على الواقع بشكل سلبي، بل هي في جوهرها دعوة للفعل الأخلاقي والسعي العملي والتفاعل مع مجريات الحياة. السنن بعبارة أخرى لا تتضمن انتظار النتائج دون عمل، بل تفترض انخراطًا بشريًا واعيًا ومسؤولًا في صياغة الواقع وفق مقاصد الشرع. وذلك ضمن محاور أساسية منها:
- بناء الشخصية المؤمنة المدركة لرسالتها وغايتها في الحياة، المستوفية لمقومات الإيمان والصلاح، إذ لا يتحقق وعد النصر أو النجاة أو الفوز إلا بتحقيق شرطي الإيمان والعمل الصالح.
- الإيجابية في مقاومة الظلم، بالأفعال القصدية التي تستهدف نصرة الحق عبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبر السعي في إصلاح المؤسسات وهياكل العمل العام، جنبًا إلى جنب مع ممارسة الأفعال التعبدية، واعتبار أن هذا السعي هو من جنس الأفعال التعبدية.
- فهم “السنن” وعدم استعجالها أو حتى إسقاطها على تفاصيل الواقع دون تدبر، والتحرر من وهْم أن السنن تعمل بمجرد التمني، واستبداله بفهم دقيق لشروطها وسياقاتها، والتأسيس للقيم الجماعية التي تحفظ وحدة المجتمع وتماسكه، وتحقق إصلاح من الداخل، بنفس قدر الاعتناء بمقاومة خطر العدو المتربص من الخارج. بهذا التوازن، يتحول الوعد الإلهي بالتمكين إلى مشروع حضاري واقعي، لا مجرد حلم مؤجل.
هذا ويتمثل الفهم العملي للسنن أول ما يتمثل في الفهم الواعي والفعل المسؤول، والتخطيط المنهجي، والالتزام الأخلاقي، على النحو الذي يربط بين الثقة في الوعد الرباني، والفقه عنه سبحانه، والقيام بالواجب الإنساني ضمن حركة واحدة متكاملة. فالسنن الإلهية ليست مجرد توقعات ترسم، وإنما منهج يُتّبع، ولهذا فإن “الفهم العملي للسنن” يتضمن استثمار السنن لفهم الواقع، وتوجيه الفعل الإنساني خلاله عبر مساحات شتى، منها:
- مساحة العمل البحثي: عبر دراسة الواقع من خلال “المداخل المفاهيمية للسنن. فمدخل السنن يمنح المرء أدوات لتفسير الواقع وفهمه على أساس منها. فإزاء الظواهر الواقعية، مثل ضعف الأمة وتفككها، وتكالب الأمم عليها، يمكن استدعاء السنن، والتساؤل عن موقع العدل في الأمة، ومدى انتشار الفساد فيها، وموقع القيم منها، ومدى تغلّب الهوى على الحق. العمل البحثي هنا يتمثّل في تحليل الواقع من مدخل القواعد المطردة، لا من مداخل العاطفة أو الهوى الشخصي.
- مساحة العمل الحركي: بمعنى الأخذ بسنن التغيير والتمكين، على اعتبار أن هذه السنن تأتي في قمة هرم السنن. فالله سبحانه يقول ﴿لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]. والقرآن الكريم يربط بوضوح بين “التمكين في الأرض” وبين تحقق مجموعة من الشروط الإيمانية والسلوكية والاجتماعية، حيث لا يكون التمكين نتيجة اعتباطية، أو زرع بلا غرس، بل ثمرة لاستيفاء مقتضيات ربانية واضحة، منها الإيمان، وتحقيق العدل، وإقامة الشعائر. يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ…﴾ [الحج: 41].
- مساحة العمل القلبي: بتحصيل ما يرتبط بالقلب من أعمال التزكية مثل اليقين، والرضا، والخوف، والرجاء، والتوكل، وغيرها من أعمال القلوب. فالأصل أن يتوجه الإنسان إلى إصلاح قلبه، قبل أن ينشغل بتقويم العالم من حوله. هذه الأفعال القلبية، وإن كانت خفيًّة، إلا أنها مقدمة أساسية للهداية الظاهرة. فالله سبحانه يجزي على النوايا الصادقة، حتى لو لم تُترجم إلى أفعال، كما في أفعال الرضا والصبر، فحين يعلم المرء أن الابتلاء سنة إلهية لا فرار منها، يصبح تسليمه نابعًا من فهم للواقع، وليس نوعًا من السلبية. وكذلك التوكل، حين يُفهم في ضوء الأخذ الأسباب، لا يكون استسلامًا، بل تفاعلًا عاقلًا مع القدر.
يتصل بالمعنى السابق أن السنن الإلهية لا تقتصر فقط على مظاهر النصر والتمكين، وإنما تشمل أيضًا معاني الابتلاء والتمحيص، والتي تُعد جزءًا أصيلًا من حركة التاريخ الإنساني، والتزكية الإلهية للمجتمعات والأفراد. يقول الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ…﴾ [البقرة: 214]، مما يدل على أن الابتلاء سنة ماضية، تمهّد للتمكين، وتكشف عن معادن الناس.
يقتضي الفهم العملي للسنن بهذا المعنى بناء الوعي بأهمية الصبر، وإعداد النفوس على تحمل تكاليف الإيمان. كما يقتضي العمل الجاد على تجنيب الأمة أوهام النصر السريع الذي لا يستند إلى شروط واقعية. بهذا الإعداد النفسي والاجتماعي، يتحول الابتلاء من تحدى إلى فرصة للتثبيت والاصطفاء، ومن لحظة انكسار إلى محطة لصقل الإرادة وتنقية الإيمان.
إن السعي في إطار السنن يتضمن أن يعي الإنسان أن أفعاله تقع ضمن سياق رباني منظم، لا عبث فيه ولا فوضى، وأن السنن تعطي نتائجها حين يتم الأخذ بأسبابها، وأن التقصير في ذلك السعي يستوجب الحساب، والصبر عليه يورث الأجر والتمكين. وبهذا الفهم، يتحول الإيمان بالسنن من أمنية نفس إلى جزء من حركة التاريخ التي تسير وفق مشيئة الله وعدله وحكمته.
هذا التصور المتوازن يلقى معارضة طرفين متقابلين: الأول هو الاتجاه الجبري الذي يسلب الإنسان أي فاعلية ويتعامل معه كمنفعل بالكامل، والثاني هو الاتجاه الوضعي الذي يُنكر فكرة وجود سنن ربانية ويُرجع كل ما يحدث في الكون إلى المصادفة أو إلى قوانين اجتماعية (مادية) صرفة لا علاقة لها بإرادة عليا أو نظام إلهي شامل.
وفي إزاء هذين التصورين المتطرفين، يأتي التصور الإيماني المستوعب لمعنى السنن، والذي يدرك أن ما توجه إليه السنن هو أن القيام بأفعال معينة يتحصل عنه بالضرورة نتائج معينة. أما ما لا توجه إليه فهو الانتظار الخامل المتطلع لتدخل السماء بمنطق “فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ” ﴿المائدة ٢٤﴾، وما على مثل هذا الفهم قامت السماوات والأرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ مساعد بقسم الحوسبة الاجتماعية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.
[1] يقول الطبري في تفسيره: وأصل “الاستدراج” اغترارُ المستدرَج بلطف من [استدرجه]، حيث يرى المستدرَج أن المستدرِج إليه محسنٌ، حتى يورِّطه مكروهًا. وَقِيلَ لِذِي النُّونِ: ما أقصى ما يخدع به العبد؟ قَالَ: بِالْأَلْطَافِ وَالْكَرَامَاتِ، لِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: “سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ” نُسْبِغُ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ وَنُنْسِيهِمُ الشُّكْرَ، وقَالَ الضَّحَّاكُ: كُلَّمَا جَدَّدُوا لَنَا مَعْصِيَةً جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَةً، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الِاسْتِدْرَاجُ أَنْ يَتَدَرَّجَ إِلَى الشَّيْءِ فِي خُفْيَةٍ قَلِيلًا قَلِيلًا فَلَا يُبَاغِتُ وَلَا يُجَاهِرُ،
[2] حتى السنن الكونية يمكن أن تتأثر وتنخرم بفعل أفعال بني آدم يقول تعالى “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” ﴿٤١﴾” فخروج الآيات الكونية عن اطرادها قد يمثل نوعا من التحذير لبني آدم، وتنبيها لهم على انحرافهم عن مقتضيات الاستخلاف التي ينبغي أن يتحملوا بها.