الشر السائل

العنوان: الشر السائل: العيش مع اللابديل.

المؤلف: زيجومنت باومان، ليونيداس دونسكيس.

ترجمة: حجاج أبو جبر.

تقديم: هبة رءوف عزت.

مكان النشر: بيروت.

الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

تاريخ النشر: 2018.

الوصف المادي: 207 ص.، 24 سم.

الترقيم الدولي الموحد: 3-165-431-614-978.

زيجمونت باومان (1925- 2017) عالم اجتماع بولندي وبروفيسور علم الاجتماع في جامعة ليدز.

قام باومان بتقديم طرح جديد لمفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، فعبَر عن الحداثة (وهي مرحلة سيادة العقل) بمصطلح “الحداثة الصلبة”، وعبَر عن مرحلة ما بعد الحداثة (وهي مرحلة تفكك المفاهيم الصلبة والتحرر من كل الحقائق والمفاهيم والمقدسات) بمصطلح الحداثة السائلة.

ويعتبر الكتاب الذي بين أيدينا واحدًا من مجموعة من تسعة كتب هم: الحداثة السائلة- الأخلاق في عصر الحداثة السائلة- الحياة السائلة- الثقافة السائلة- الحب السائل، عن هشاشة الروابط الإنسانية- الأزمنة السائلة، العيش في زمن اللايقين- الخوف السائل- المراقبة السائلة.

ويأتي هذا الكتاب في صورة مناقشة تدور بين زيجومنت باومان وليونيداس دونسكيس حول طبيعة الشر السائل وظواهره وتجلياته، حيث ينتقل المؤلفان في ثنايا حديثهم بين موضوع وآخر بشكل غير معنون، ولكنه أشبه بِطَرق أبواب وإثارة لقضايا هامة، حتى لو لم يتم التفصيل بعمق في كل قضية على حدا.

 يسلط الكتاب الضوء على طبيعة الشر السائل  وسماته -في مقابل الشر الصلب- في عصر سائل لا يعرف مراكز صلبة بل سِمَته التشرذم والتفكك والفردية، والعيش تحت مظلة اللابديل وحتمية العيش تحت سطوة الرأسمالية العالمية وطغيان الاقتصاد، ومن ثم فهو يناقش صور الشر المنتشرة في حياتنا اليومية على اختلافها في إطار منظومة استهلاكية، وسيادة الاعتقاد بغياب البدائل، وتزييف الوعي ضمن آليات القوة الناعمة والصناعة الإعلامية وبضائعها الفاسدة التى غدت صور العنف وقصصه أكثرها رواجًا وانتشارًا مما أدى إلى خلق حالة من تسكين الشر في التفاصيل اليومية إلى أن يبلغ حد الاعتياد، ليتم التطبيع مع الشر في مقابل ضياع القيم والأخلاق.

يفتتح الكتاب بثلاث مقدمات الأولى للمترجم والثانية لأستاذة العلوم السياسية الدكتورة هبة رؤوف عزت، والثالثة لمؤلفى الكتاب زيجومنت باومان وليونيداس دونسكيس، وينقسم الكتاب إلى تمهيد وأربعة فصول.

الفصل الأول: الاحتفاء بالنزعة غير الشخصية.

الفصل الثاني: من عالم فرانز كافكا إلى عالم جورج أورويل: الحرب هى السلام والسلام هو الحرب.

الفصل الثالث: أين وفاء الحداثة بوعودها الكبرى التى قطعتها على نفسها؟.

الفصل الرابع: أشباح الأسلاف المنسيين؟ مراجعة للنزعة المانوية.

عن الشر السائل وفكرة اللابديل:

تحت هذا العنوان يبدأ الحوار بين باومان ودونسكيس في محاولتهما لاستجلاء سمات ومسارات الشر السائل في مجتمعاتنا اليوم المحكومة بالمنظومة الرأسمالية الاستهلاكية، حيث يبدأ الكتاب في تحليل نظري فلسفي برَد الشر في تصوره المعاصر إلى أفكار مذهب المانوية، الذي ذهب إلى اعتبار الشر طبيعة وليس طارئًا، وأنه يُصلح ما رآه خللًا في المسيحية، فالمسيحيون يرون الشر نقيصة يمكن التغلب عليها، بينما يرى المانويون الخير والشر متوازيين ومتصارعين على الدوام. ومن هنا ينطلق الكتاب ليرى افتراضات المانوية في مشهد الحداثة، فإذا كان الإنسان هو وعاء الخير والشر معًا، فإن الشر يغدو طبيعيًا ولا حاجة لبذل أية مجهود في إصلاحه، ومن هنا تغدو النفعية والبراجماتية انعكاسًا لتصالح الإنسان مع نفسه كما تمكنه من التحكم في أقداره، وهو ما وعدت به الحداثة، ولكنها عجزت عن تحقيقه، وهو العجز الذي سيقف عليه الكتاب في الفصل الثالث.

وهنا يطرح دونسكيس السؤال الأهم الذي يدور حوله الكتاب وهو: ماذا يعني مفهوم الشر السائل؟:

 إن الشر السائل يرتدى ثوب الخير والشر معًا، على عكس ما نسميه الشر الصلب القائم على رؤية اجتماعية ترى الأمور من خلال اللونين الأبيض والأسود، فيمكن بسهولة تحديد ماهية الشر في واقعنا الاجتماعي والسياسي، فهو يتسم بالتركيز والتكثيف والتمركز. أما الشر السائل فهو يعرض نفسه على أنه تقدم الحياة المحايد والمتجرد من الأهواء، وكأنه السرعة غير المسبوقة للحياة والتغير الاجتماعى بما ينطوى عليه من نسيان وفقدان للذاكرة الأخلاقية، كما أن الشر السائل يرتدى عباءة غياب البدائل وتحول المواطن الى مجرد مستهلك. والشر السائل لا تدركه الأبصار، بل يتوارى عن الأنظار ويخفي طبيعته، فهو يتمتع بقدرة رهيبة على ارتداء أقنعة فعالة، وعلى حشد الهواجس والرغبات الإنسانية في خدمته تحت دعاوى زائفة، ولكنها دعاوى يصعب دحضها وإثبات زيفها. ويعتبر الشر السيال إحدى القوة الناعمة التي توظف الإغواء بدلًا من الإكراه، وعلى الالتفاف على العوائق التي قد تعترض طريقه، وهذه القدرة تزيد صعوبة المقاومة الفعالة للشر السائل، فقد توغل الشر في نسيج الحياة اليومية.

ثم ينطلق الكتاب ليفصل في سمات الشر السائل وتجلياته، فإحدى تجليات الشر السائل تتمثل في التقاء الليبرالية الجديدة مع بيروقراطية الدولة، وقد نتج عن هذا الالتقاء طغيان للنزعة الإدارية في معالجة الأمور في مقابل نفي دور العلوم الإنسانية وانخفاض مستوى الفكر والإحساس والمعرفة، كما نتج عن ذلك أيضًا طغيان أشكال الحتمية والقدرية المتمركزة حول السوق والتي لا تترك مجالًا للتفكير النقدي ومن ثم التفكير في أي بديل، فسيولة الشر تعبر عن واقع تغيب فيه الأحلام والبدائل واليوتوبيات وانفصال الخيال عن الواقع وسيادة الخوف والهلع، فالأمر الواقع هو المبدأ المتحكم في عالم اليوم.

يدعو منطق الشر الصلب إلى غزو العالم لفرض القواعد الجديدة للعبة، أما الشر السائل فليس له شكل، بل يغير أشكاله طوال الوقت ويتلاعب بالقيم والفضائل ومسمياتها، ويتجلى ذلك في مفهوم الحرية على سبيل المثال، فحرية الفرد اليوم تنحصر في وقوعه تحت سطوة الاستهلاك وعلى الرغم من ذلك فإنه يتصور أن لديه حرية الاختيار. فالاهتمام بتحقيق مزيد من المال للحصول على مزيد من المشتريات أصبح وصفة عالمية للسعادة والرضا بالحياة، والفلسفة المهيمنة التي تحظى بأوفر حظ من التأييد العابر للطبقات والثقافات. وصارت الحرية اليوم تنحصر في الوجاهة الاستهلاكية، وفقدت الارتباط بأهم شيء ألا وهو الإيمان بأننا يمكن أن نغير شيئًا في هذا العالم.

وعلى الصعيد السياسي نجد أن الإمبريالية تعبر عن صلابة الشر وصلابة الحداثة، أما اليوم فإن ضرب اقتصاد مجتمعات بعينها من خلال إثارة أكبر قدر من الفوضى وعدم الأمان ومن ثم ظهور الإرهاب هو تجلي وانعكاس لسيولة الشر.

وفى ظل هذه المناقشة المفتوحة يأتي باومان ليسلط  الضوء على التكنولوجيا والشبكات الاجتماعية باعتبارها مظهر من مظاهر سيولة الشر، فالساحة الرقمية وما تحمله من آليات اختراق الخصوصية بل وجعل المستخدمين يكشفون عن بياناتهم الشخصية بأنفسهم، حيث صار للبشر ولع بالاستعراض، ووجود كل فرد في حالة لا تسمح له بإخفاء أى شيء عن أجهزة الدولة، وفي المقابل تستفيد الدولة من هذه البيانات لمزيد من السيطرة، فالفيسبوك على سبيل المثال يجسد ظاهرة “افعل الأمر بنفسك” أرنا اسرارك واكشف عن هويتك بنفسك وبإرادتك الحرة، وتظهر هنا قضية غياب الخصوصية، فولع الأفراد بالظهور والاستعراض جعلهم يدفعون خصوصيتهم ثمنًا لذلك، ومن ثم فالدولة والأجهزة الاستخباراتية لم تعد في حاجة إلى ممارسة أي نوع من الإرغام على الناس للكشف عن تفاصيل حياتهم، وهنا يعود الكتاب مرة آخرى لقضية الحرية الغائبة، فالأفراد اليوم لا يستطيعون الخروج من هيمنة التكنولوجيا وشبكات التواصل التى صارت تحتم على الأفراد شكل من أشكال الاجتماع الإنسانى لا يستطيع الفرد أن يعيش خارجه وإلا سيفقد اتصاله بالكثير من المحيطين به.

فى هذا السياق ينتقل المؤلفان إلى نقطة محورية تتعلق بالتحكم والسيطرة السياسية التي صارت سهلة بالنسبة للحكومات بفعل التكنولوجيا، فعن طريق ما لديهم من بيانات يستطيعون اصطناع حاجات الناس ومعايير سعادتهم والتحكم في خيالهم، وهذا ما يسميه الكتاب بـ “الشمولية الناعمة” فهناك شكل محكم من تزييف الوعي والخيال، ولكنه يرتدى عباءة الديمقراطية الليبرالية.

واستكمالًا لأشكال الشرور القابعة تحت مظلة التكنولوجيا يشير الكتاب إلى مسألة صناعة الخوف، فالإنترنت صار مكانًا مثاليًا لخلق ثقافة الخوف والإثارة الممنهجة للذعر والهلع. في ظل تلك الثقافة تتحول الضحالة الى ميزة لا نقيصة، فواقع الأمر أن ثقافة الخوف هي ثقافة الضحالة، ولكن الضحالة تسمى هنا خطًا باسم “القدرة على التكيف” و”المرونة”.

وفى هذ الإطار يسوق المؤلف مفهوم”الحياة عديمة القيمة”، ذلك المفهوم الذي يشير إلى قطاعات من سكان العالم يتم التعامل معهم بدونية، فمآسيهم ومعاناتهم لا حق لها في أن تصبح أخبارًا هامة وعاجلة، في ظل حالة من الانتقائية العالمية التي ترى أن موت شخص واحد إنما هو مأساة، في حين أن موت ملايين الناس هو مجرد عملية إحصائية. فالصراع بين العمى الأخلاقي والقدرة على رؤية الآخرين باعتبارهم كائنات أخلاقية لا وحدات إحصائية إنما هو صراع بين الرحمة واللامبالاة، وتلك الأخيرة هي علامة تدل على الدمار الأخلاقي والمرض الاجتماعي.

ينتقل باومان بالحديث نحو تأريخ بداية النزعة الحداثية السائلة للشر، حيث يرى أنها بدأت بسقوط جدار برلين وسقوط المعسكر الشيوعي ومن ثم سيطرة الرأسمالية والليبرالية الجديدة، وفي هذا السياق يقول باومان “إن سقوط جدار برلين قد فتح أراضي كانت محظورة أمام شبح الليبرالية الجديدة، وأوحى بفكرة نهاية التاريخ وانتشارها على طريقة فوكوياما، وهكذا فإن المنتصر، الليبرالية الجديدة، وجد نفسه وحيدًا في كوكب الأرض، من دون تحدٍ، ومن دون اضطرار إلى بذل جهد كبير في السيطرة على بدائله، أو احتوائها أو تغييرها” ، ومن هنا حيث اكتمال عولمة العالم يبنى باومان تصوراته عن الشر السائل انطلاقًا من فكرة اللابديل، وهذا يتمثل في تجريد الإنسانية من أحلامها ومشروعاتها البديلة، ومن قوى الرفض والممانعة، وتقبل الامتثال والخضوع للمفاهيم والقيم السائدة والمستقرة.

هذا الجزء الابتدائي يعتبر صورة عامة عن فكرة الشر السائل وتوضيح لمفاهيم ترتبط به، وهو في رأيي الجزء الأهم من الكتاب الذي لو قرأه القارئ بتمعن لكفاه، ثم تتوالى الفصول في تفاصيل وإسقاطات بعضها تاريخي سياسي وبعضها أدبي وبعضها الآخر اجتماعي.

الفصل الأول: الاحتفاء بالنزعة غير الشخصية

يبدأ المؤلفان حوارهما بالعودة إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث يطرحان سؤالًا عما يعرف بسياسة الذنب، أي تلك السياسة التي تبنتها أوروبا لتتوب عن ماضيها السيئ، ليأتي التساؤل من المؤلفين حول مدى ارتباط هذه السياسة حقيقة بالحس الأخلاقي؟ أم أنها كما قال الفيلسوف الفرنسي باسكال بروكنز: “أنها يمكن أن تكون أداة أيديولوجية لإسكات المعسكر المضاد أو شيطنة النخب السياسية غير المحبوبة”.

 ثم ينتقل المؤلفان إلى توضيح الفارق بين السياسة الأوروبية والسياسة الروسية، فالأولي تتبع سياسة القوة الناعمة والثانية راديكالية وحشية، ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أن التجربة الروسية ستكون حاضرة بقوة في استدعاءات المؤلفين واسقاطاتهم عن الشر السائل، فسيولة الشر تظهر في السياق الحداثي الأوروبي الغربي كما تظهر أيضًا في روسيا، حتى لو اختلفت السياسة الحاكمة بين السياسة الروسية الوحشية الهوبزية وبين السياسة الأوروبية الناعمة.

يبدأ المؤلفان في خوض رحلة تفسيرية فلسفية للشر الكامن في الممارسات السياسية، فيناقشون فكرة الضمير وفقدان الذاكرة الأخلاقية للجماهير بفعل النظم الحاكمة، ومن ثم تجريد الإنسان من القدرة على نقد نفسه ونقد العالم من حوله، ثم ينتقلان لمناقشة فكرة الانتقائية في الإحساس والعناية الإنسانية، فالبشر أصبحوا يتعاطفون مع من هم داخل دوائر مصالحهم أما ما سوى ذلك فلا عاطفة ولا إحساس وهذا ما يمكن وصفه بآلية انفصال القيمة عن الأخلاق، وفي هذا السياق يستدعى المؤلفان أعمالًا أدبية لشكسبير وجورج أورويل وغيرهم تعكس هذه الأفكار.

ينتقل الحوار بين المؤلفين إلى مناقشة إحدى نقاط التحول من الحداثة الصلبة إلى الحداثة السائلة ومن ثم من الشر الصلب إلى الشر السائل في الإطار السياسي وفي طبيعة عمل الدولة وسيادتها ومؤسساتها، وهى نقطة انتقال المجتمعات من الكيان السياسي الجامع إلى الاحتفاء بالنزعات الفردية، ومن مجتمع المنتجين إلى مجتمع المستهلكين، ومن مجتمع الضبط والانضباط إلى مجتمع نزع القيود، ومن جيوش التجنيد العام والتعبئة الشاملة إلى أدوات البرمجة الحربية والطائرات والصواريخ الذكية، وأخيرًا هيمنة النزعة الفردية وانتقال مهمة حل المشكلات الاجتماعية من الدولة إلى الأفراد، حيث تم سحب مهمات الدولة ونقلها إلى التنافس الحر بين قوى السوق، مما يؤدى إلى تقويض الروابط الإنسانية بفعل سطوة النزعة الفردية، ويصبح الأفراد يستمدون مرجعيتهم من أنفسهم وتصبح المصلحة والمنفعة الشخصية هما محركات السلوك الإنساني. وهنا يؤكد المؤلفان على أن الشر السائل هو عبارة عن إذابة للشر الصلب الذي تمثل في الكاردينالات والأمراء الطغاة الذي سحقوا المجتمعات البشرية، فبدلًا من أن يكون الشر مركزًا ومصادره معروفة صار منتشرًا وعشوائيًا مما يزيد من صعوبة مقاومته. كما يشير المؤلفان الى أن الشر السائل في السياسة يأخذ صورة تدمير النظام الأخلاقي الكوني، فتحدث حالة من فقدان الذاكرة والحس الأخلاقي فيتم رفض قيمة الإنسان وكرامته، وذاكرته وقوى التراحم والترابط.

وهنا يقف المؤلفان على مجموعة من ظواهر وتجليات الشر السائل، أولًا ظاهرة “غسل الدماغ” تلك الظاهرة التي تتجلى بوضوح في الدعاية والإعلانات التجارية المنتمية بطبيعتها إلى القوة الناعمة، وتعد الشبكة العنكبوتية ميدانها الرئيسي في الوقت الراهن، وتتمثل أداتها الرئيسية في اللوغاريتمات التي تسمح بالسلطات المهيمنة الإبحار عبر عدد هائل من البيانات واستنتاج نتائج قابلة للتنفيذ تتعلق بهوية الأفراد وذلك لتحقيق عدة أهداف مثل “إرغامنا أو إغوائنا بإنفاق أموالنا أو حشدنا لقضايا ليست من اختيارنا”، وتكمن المشكلة الأساسية في ظاهرة غسل الدماغ أن هذه النقمة تقدم على أنها نعمة، فاستهداف الوعي يسمى مراقبة بهدف الحفاظ على أمن المراقَبين، ومن ثم يحصل لها قبولًا جماعيًا.

يذهب المؤلفان لظاهرة أخرى، وهي ظاهرة العنف السائل الناشئة عن الإرهاب والعنف العشوائي ومشاهد القتل، والتي باتت من أكثر البضائع رواجًا على الشاشات، ليعيدان الأمر إلى مشكلة الفقر الناجم عن ظلم المجتمعات الرأسمالية وليس صعود الأصولية الدينية كما يصور اليوم.

وفى هذا الإطار يناقش المؤلفان قضية مهمة من قضايا الشر السائل والتي تتعلق بسلامة كوكب الأرض جراء التعامل مع موارده الطبيعة على أنها وسائل لتحقيق غايات متمركزة حول البشر، فالمنطق التكنولوجي المادي الذي يستنزف موارد الكوكب الطبيعية تحت مسمى التقدم يلغي أي قيمة جوهرية تتمتع بها الطبيعة في ذاتها مما يزيد من إفسادها، وهذا هو أحد مظاهر سيولة الشر.

ثم يتعرض المؤلفان لقضية جوهرية أخرى ألا وهي قضية “انتفاء الاستجابة الأخلاقية،” تلك القضية التي تعبر عن التحييد القيمي لا سيما التقييم بالمعنى الديني والأخلاقي للأفعال والأفكار التي نتعرض لها.

ولعل آخر ما يتعرض له هذا الفصل أن سمات سيولة الشر التي نوقشت مثل التحرر من القيود والانتشار والخصخصة لا يمكن فصلها عن النزعة اللاشخصية العقلانية التي تمثل جوهر الحداثة والرأسمالية، وفي هذا السياق ينتقل المؤلفان إلى استدعاء أمثلة واقعية عن فكرة أو كما يسمونه ” شبح اللابديل” المرتبط بسيولة الشر وهنا يستدعى دونسكيس دول البلطيق وشرق أوروبا ومسيرتها بعد انهيار الإتحاد السوفيتي في محاولة اللحاق بنموذج الليبرالية الجديدة الأوروبي كبديل وحيد للخروج من أزمتها.

الفصل الثاني: من عالم فرانز كافكا إلى عالم جورج أورويل

 يناقش المؤلفان في هذا الفصل مسألة استغلال وتضليل الرأي العام والتلاعب بالعقول، فعلى سبيل المثال قد يتم إقناع الجماهير بضرورة الحرب، بل قد يصل الأمر إلى أن يرغبها الجماهير بفعل آليات الإقناع المستخدمة وافتعال بعض الأزمات التي توحي لهم بذلك.

ثم يطرح باومان الحوار السؤال التالي: “هل كل هذه الأشكال والطرق من التلاعب بالعقول وغسل الدماغ والتدجين يمكن أن تستخدمها الأنظمة الدكتاتورية والأنظمة الإجرامية بطريقة أكثر نجاحًا من الديمقراطيات وما تمتلكه من أساليب التسويق والدعاية وأجهزتها؟ لا يجيب باومان على هذا السؤال بنفي أو إثبات وإنما ببيان الفرق بين القوة الناعمة التي تستخدمها الديمقراطيات والقوة الخشنة المستخدمة من قبل الأنظمة الديكتاتورية، مؤكدًا أن في النهاية النتيجة واحدة في النظامين.

ثم ينتقل دونسكيس في استطراد طويل الى أمثلة لأعمال أدبية وسينمائية تجسد صور الشر السياسي بين أوروبا الغربية التي تمثل النظام الرأسمالي والقوة الناعمة والاتحاد السوفيتي وروسيا اليوم التي تتبنى القوة الخشنة، وسلط الضوء على عالم الروائي فرانز كافكا الذي يعرض في نظره الشر الصلب، لينتقل إلى الشر السائل الذي يظهر في أعمال جورج أورويل، وفي هذا السياق يبين باومان أن المسح السياسي الذي عرضه دونسكيس للنمطين -التكنوقراطية التي ترتدي عباءة الديمقراطية في الغرب، والدول الكاشفة عن ديكتاتوريتها ورغبتها الانتقامية مثل روسيا- يلتقيان في تشجيع الحتمية الاجتماعية والقدرية السياسية، ففي رأي باومان ليس أحدهما أحسن حالًا من الآخر فكلاهما يفرض شبح اللابديل.

الفصل الثالث: أين وفاء الحداثة بالوعود الكبرى التى قطعتها على نفسها؟

يسعى هذا الفصل للإجابة عن سؤال أين نحن الآن من وعود الحداثة؟ ليبدأ في إجابته التحليلية التفسيرية لواقع العالم اليوم بمناقشة فكرة الحقيقة وماهيتها في ظل نموذج “الأداتية الحديثة” الذي يتمثل في تجنيب الفضائل والقيم على حساب ما يتحقق في الواقع، فمعيار النجاح فيه هو ما يتحقق عمليًا في الواقع، فالطاغية الذي يحقق مركزية الدولة وينجح في تصفية خصومه يصبح الأب المؤسس لأمته، وإذا حاول مستبد آخر أن يفعل الشئ نفسه ولكنه فشل ينهال عليه احتقار العالم وينساه التاريخ، وهنا يكون العار والخزى غير مرتبطان برفض الفضيلة ولا بقبول الرذيلة وإنما بفقدان القوة والمعاناة من الهزيمة. وهنا يسلط المؤلفان الضوء على قضية الخيانة تحديدًا مؤكدين على أنه في عالم يغيب فيه الإخلاص عن مركز شخصية الفرد ويختفي كقوة جامعة لهوية الإنسان فإن الخيانة تصبح عنصر من عناصر العقل الأداتي وفضيلة اللحظة، فهي تعبير عن الإنسان البراجماتي والأداتي المنفصل عن جوهره الإنساني.

ويتعرض المؤلفان هنا الى مفهوم الكراهية، وفي ظل طرحهم تكون الكراهية هي الخوف الواقعي من شخص أو مجموعة أشخاص يثار حولهم الحيرة والقلق، ويجري الارتقاء بهم الى مرتبة الاهتمام العام من خلال التقارير الإعلامية المغرضة أو الصحف المثيرة ونظريات المؤامرة، فنجد الخوف والكراهية من الإسلام والمسلمين والخوف والكراهية من المهاجرين وغيرهم.     

وفى سياق الإجابة عن السؤال المطروح من قبل المؤلفان، فإنهما لا يجيبان عنه وإنما يستدعون أوروبا الشرقية والغربية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين كنموذج للقياس، حيث يبينون كيف سعت دول أوروبا الشرقية تقليد نموذج أوروبا الغربي ثم بدا لها أن النموذج في الواقع ينافي ذلك النموذج المتخيل الذي وعدت به الحداثة. وفي هذا السياق يستكمل المؤلفان عرض صور الشر الكامنة في ثنايا النموذج الغربي الحداثي.

وهنا يشيران إلى القومية باعتبارها تجلى للحتمية السياسية ونموذج أوحد لشكل الدولة وفقًا للدولة الحداثية، حيث يتم مناقشة كيف ساهمت القومية في الكثير من المآسي التاريخية وقوضت من حرية الأفراد تحت مفهوم السيادة، وكما هى العادة يتم استدعاء المثال الروسي قديمًا وحديثًا ودول شرق أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفيتى ومناقشة وضعهم بعد سقوط الإمبراطوريات وظهور الدولة القومية ومحاولتهم اللحاق بالتحديث الأوروبى، وهنا يناقش المؤلفان مسألة اضطراب الهوية بالنسبة لهم.

ثم ينتقل المؤلفان للوقوف على انعكاس وتجلي آخر من تجليات الحداثة وشرورها وهي ظاهرة تحويل البشر إلى عوامل إنتاج وتسميتهم “موارد بشرية” حيث يتم نفي فردية وقيمة الإنسان بإخضاعه إلى قوة وأنظمة ضخمة، كما يظهر في مسوح الرأي العام والشبكات التكنوقراطية للتسويق والسياسة.

وبعد هذه المناقشة يعود المؤلفان مرة أخرى لسؤال وفاء الحداثة بوعودها الكبرى من حراك وحرية حركة وحرية اختيار وعالم بلا حدود يسمح فيه لجميع الدول أن تكتسب القوة سواء كانت سياسية أو اقتصادية، ليتضح أن هذه الوعود لم تتحقق، فالدولة القومية قوضت حرية الأفراد وحرية الحركة، وأدى توحش العالم الحديث والعمى الأخلاقى الى انحطاط قيمة الإنسان وتحويله الى بضائع استهلاكية يجري استخدامها والتخلص منها في سلة المهملات، وتحول العالم إلى دول قوية تزداد قوة ودول ضعيفة تزداد ضعفًا.

وينهي المؤلفان هذا الفصل بذكر استراتيجية مضادة للشر السائل قائمة على نقاط أربع: “لا لاقتصاد الإقصاء، لا للعبادة الجديدة للمال، لا لمنظومة مالية تحكم ولا تخدم، لا للظلم الذي يولد العنف”. فكما قال بوراوي: “في عالم يجري فيه تصوير الأسواق على أنها الحل للمشكلات جميعها، فإن مقاومة أيديولوجيا هيمنة السوق هي خطوة أولية مهمة لأية حركة مضادة فعالة”.

الفصل الرابع: أشباح الأسلاف المنسيين مراجعة للنزعة المانوية

يتناول هذا الفصل ثقافة الحتمية التي تتسم بها الحداثة في مواجهة ثقافة الإبداع الإنساني، ويستشهد المؤلفان في هذا السياق بأعمال سينمائية وروائية تبين هذه المفارقة. ويستكمل باومان المناقشة بالانتقال إلى طرح بعض الأمثلة لفشل الليبرالية في التعامل مع تحديات الواقع، فيذكر على سبيل المثال مسألة التعددية الثقافية وأنواعها مبينًا أن هناك تعددية طبيعية وتعددية مصنوعة، مشيرًا إلى أن ستانلي فيش يميز بين نوعين من التعددية المصنوعة هما التعددية الأنيقة والتعددية القوية، فأنصار التعددية الأنيقة يكِنون احترامًا سطحيًا لغيرهم من الثقافات، وهو احترام يسحبونه إذا ما وجدوا ان ممارسات ثقافة بعينها غير عقلانية من وجهة نظرهم. أما أنصار التعددية القوية فهم يقدرون الاختلاف في ذاته ويكِنون احترامًا عميقًا لكل الثقافات. وهنا يبين باومان أن التعددية المصنوعة بنوعيها تعاني من خلل كبير، فالتعددية الأنيقة مخادعة والتعددية القوية تفصل القيم والمعايير في حكمها، ومن ثم تقبل أى ممارسة ثقافية مهما كانت غير أخلاقية وغير مناسبة.

ينتقل المؤلفان في مناقشتهم إلى ما تم ذكره في بداية الكتاب من محاولة تفسير النموذج الحداثي بثقافته الحتمية والقدرية وسمته الأساسية “اللابديل” بالمانوية التى أسقطت عن كاهل الإنسان فكرة الاختيار وذلك بالقضاء على فكرة وجود الخير والشر، وهنا نجد اللابديل يتخفى في رداء الاختيار العقلاني وزيادة الربح وقوى السوق الحرة المعظمة للذة مع الحياد القيمي والمعياري الذي يلغى ثنائية الخير والشر.

ففي عالم اليوم يظهر اعتقاد “بأن ليس هناك من بدائل للمنطق السياسي المعاصر ولا لطغيان الاقتصاد، ولا لتوجهات العلم والتكنولوجيا، ولا للعلاقة بين الطبيعة والإنسان”.

وفي الختام تجدر بنا الإشارة إلى أنه على الرغم من إلحاد زيجمونت باومان وانعكاس إلحاده وعدم إيمانه بخالق وإله واحد مطلق على تحليله، إلا أن اسئلته التى يطرحها وتحليلاته تفيدنا نحن المسلمين حيث تتسع نظرتنا التحليلية من جهة ومن جهة أخرى –وهي الأهم- يقودنا هذا التيه الذي يتحدث عنه الكتاب وشبح اللابديل الذي يخيم على عالمنا إلى زيادة التمسك بديننا ومركزيته الصلبة والمطلقة والثابتة ويدفعنا للمزيد من الاجتهاد في تقديم البديل.

عرض:

أ. يارا عبد الجواد*

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  باحثة في العلوم السياسية.

عن يارا عبد الجواد

شاهد أيضاً

الفلسفة – المنهج – الفكر “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

التباسات الحداثة

المعرفة المستدامة

مغامرة المنهج

في نقد التفكير

سؤال السيرة الفلسفية

التاريخ الإسلامي “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

الحضارة العربية الإسلامية وعوامل تأخرها

إعادة ترسيم الشرق الأوسط العثماني

لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.