الصوم

الصفحات التالية من كتاب “الصوم تربية وجهاد”* لمحمد عبدالله دراز**.

  1. شهر كريم:

واستدار الزمان.. وعاد شهر رمضان.. عاد إلينا بعد أن نسينا كثيرا، وبعد أن سبحنا في شؤون دنيانا سبحا طويلا.

عاد رمضان، وقدر لنا أن نعود معه لنشهد أيامه الغراء، ونحيي لياليه الزهراء..

  1. إستقبال رمضان:

أقبل. أقبل. أقبل هلال رمضان.

أقبل فإن عيوناً إلى الآفاق شاخصة تستشرف إلى رؤيتك، وإن قلوبنا حولها حائمة هائمة تترقب طلعتك.. ويقول العاذلون: ما بال قلبك هائما بهلال رمضان؟ وهل هو إلا هلال من أهله العام؟ وما دروا أنك إلى القلوب أعظم وحيا، وإن القلوب إلى وحيك أيقظ وعيا، وإن كانت آية الله في الأهلة تتكرر وتتجدد.

فلينظر الناظرون معي إلى هذا القوس النوراني في أول بزوغه. ألا يرون طرفيه كل واحد منهما يستقبل الآخر ويتجه إليه، ثم لينظروا إليه ليلة بعد ليلة. ألا يرون كلا الطرفين يقترب من صاحبه اقترابا ويسعى إليه سعيا وئيدا إلى أن يتعانقا ويلتحما .. أفلا يجدون في ذلك إيحاء علوياً أولا يسمعون منه نداء خفيا؟

أرأيتم كيف يتدانى طرفا الهلال ويتكامل خلقه حتى يصير بدرا كاملا؟ فكذلك فلتتواصل أطرافكم ولتتلاصق صفوفكم ولتتجمع قلوبكم ثم لتتحول فيكم هذه الوحدة الجامعة وحدة مانعة تصبحون بها يداً على من سواكم سلما لمن سالمكم وحربا على من عاداكم.

تلك معان قد يستوحيها المستوحى من كل هلال ولكن ترجمة آياتها وتعبير دلالاتها اقترنت في تاريخنا بشهر رمضان الذي فيه بدء الوحي، وفيه أنزل القرآن وفيه يوم بدر وفيه يوم الفتح وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.

  1. الصوم … والمعاني الإيجابية:

إن مافي الصوم من كبت وحرمان، ليس هدفه هذا الكبت والحرمان، وإنما الصوم وسيلة إلى غاية نبيلة.

إنه التدريب على السيادة والقيادة، قيادة النفس وضبط زمامها, وكفها عن أهوائها ونزواتها، بل إنه التسامي بتلك القيادة إلى أعلى مراتبها. فلقد كنت في بحبوحة الإفطار إنما تحمى جوفك عن تناول السحت والخبيث، فأصبحت في حظيرة الصوم تفطمه حتى عن الحلال الطيب. ولقد كنت بالأمس تكف لسانك عن الشتم والإيذاء، فأصبحت اليوم تصونه حتى عن رد الإساءة وعن إجابة التحريش والاستفزاز، “فإن خاصمك أحد أو شاتمك، لم تزر على أن تقول : (إنى صائم إنى صائم)” هكذا ملكت بالصوم زمامي شهوتك وغضبك .. وإنه لصبر يجر إلى صبر، ونصر يقود إلى نصر. فلئن كان الصوم قد علمك أن تصبر اليوم طائعا مختارا في وقت الأمن والرخاء، فأنت غدا أقدر على الصبر والمصابرة، في البأساء والضراء وحين البأس، ولئن كان الصوم قد علمك كيف تنتصر اليوم على نفسك، فلقد أصبحت به أجدر أن تنتصر غذا على عدوك. وتلك عاقبة التقوى، التي أراد الله أن يرشحك لها بالصيام.

إن هذا الهدف الذي صورناه وحددناه، إنما يقوم في منتصف الطريق، الذي رسمه الله للصائمين، وإن في نهاية هذا الطريق، هدفا آخر، بل أهدافا أخرى أهم وأعظم.

وفي الحق إنه لو كان كل ما يطلب من الصائم، هو أن يكف نفسه عن شهواتها وانفعالاتها، ولم يكن أمامه عمل إيجابي جديد يسد به هذا الفراغ، إذاً لكانت تجربة الصوم انتقاصا للطاقة العاملة من ناحية، دون إمداد لها من ناحية أخرى. وإذاً لكانت على حد تعبير العلماء ( تخلية) (بلا تحلية) أو تجارة مأمونة الخسارة، ولكنها ولا ربح فيها ولا غنيمة.

فهل شريعة الصوم في الإسلام هي تلك الصور العارية الجرداء؟ كلا إنها عبادة ذات شطرين وليس شطرها الأول إلا تمهيدا وإعدادا لشطرها الثاني. إنها شجرة جذعها الصبر، ولكن الله لا يريد للصائم أن يترك هذا الجذع قاحلا ماحلا، بل يريد أن ينبت على جوانبه أغصانا من الشكر، وأن يتوج هامته بأوراق وثمار من الذكر والفكر. وإن من تأمل كلمة التقوى التي عبّر بها القرآن الكريم في حكمة الصيام يجدها منطوية على هذين الشطرين.

فهي في شطرها الأول كف وإنتهاء وابتعاد واجتناب، لكنها في شطرها الثاني إقبال واقتراب، وإنشاء وبناء.

وإذاً فليس الشأن كل الشأن، في أن يغلق الصائم منافذ حسه، ويسكت صوت الهوى في نفسه، فذلك إنما يمثل إغلاق أبواب النيران، ولكن الشأن الأعظم في أن يكون إغلاق منافذ الحس، فتحا لمسالك الروح، وأن يكون إسكات صوت الهوى تمكينا لكلمة الحق والهدى. فتلك هي مفاتيح أبوا ب الجنان. ومن كان في شك من أن هذا الجانب الإيجابي، هو الهدف الأخير لشريعة الصوم، فليقرأ كتاب الله، يجد دلائله مثبوتة في تضاعيف آيات الصوم، وليطالع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد معالمه مبسوطة في هديه النبوي قولا وفعلا. والعجيب في هذا التوجيه، أن الإسلام لم يتركه دعوة مرسلة، بل وضع له مناهج معينة، ورسم له خططا مفصلة، ذلك أنه لما جعل شهر الصوم موسما لانطلاق الروح من عقالها، فتح فيه للأرواح بابين تتدفق منهما:

بابا إنسانيا وبابا ربانيا، فأما انطلاق الروح في رمضان من الباب الإنساني، فذلك أنه أرشدنا إلى أن يكون زهدنا في الطعام والشراب ليس قبضا وإمساكا بالحفظ والادخار، بل بسطا وسخاء بالبذل والإيثار. لاتسد أيها الصائم جوعتك، ولا تنقع غلتك، ولكن أطعم الجائع واسق الظمآن. وهذا هو الصوم كما فهمه إمامنا الأعظم صلوات الله وسلامه عليه. فقد “كان أجود ما يكون في رمضان، حتى إنه فيه أجود من الريح المرسلة”[1].

وما زكاة الفطر في آخر رمضان، إلا الحلقة الختامية, والمظهر العلني الجماعي لهذه الحركات النفسية الفردية،  التي تحولت فيها فضيلة الصبر، إلى فضيلة الشكر، إتباعا لإرشاد القرآن الكريم حين يقول  (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) البقرة – 185.

وأما انطلاق الروح في رمضان من الباب الرباني : فذلك أن الإسلام فتح فيه للطاعة مسالك مسلوكة، ورسم لها سبلا ذللا.

تسبيح وتحميد، تكبير وتمجيد. (وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) البقرة – 185. تضرع وابتهال، ودعاء وسؤال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) البقرة – 186 ركوع وسجود، قيام وتشمير ونهوض : “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”[2] وما الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، إلا ناهية الشوط في هذا السير، إقبالا على الله وانقطاعا بالكلية إليه : (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) البقرة – 187.

ألا وإن ذروة الأمر وسنامه في الجانب الرباني، إنما هو مناجاة الله بكلامه، وفي مدارسة كتابه، كما كان يفعل الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم من البشر، والرسول المصطفى من الملائكة، إذ كانا يتدرسان القرآن في رمضان في كل عام. ولأمر ما نوه الله بهذه الصلة الوثيقة بين رمضان وبين القرآن، وجعلها أولى المناقب والمزايا التي اختص بها هذا الشهر المعظم فقال جلت حكمته: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) البقرة – 185 فكان ذلك إيماءا لنا بأن نجعل حظ رمضان من القرآن أوفر الحظوظ.

وإذا كان من شأن الأمم الحية التي تعنى بتاريخها وأمجادها أن تبتهج وتحتفل بذكرى مولد دستورها، فلم يكن بدعا من الأمر أن يجعل الإسلام شعار رمضان هو الاحتفال بمولد دستوره السماوي، الذي ختم الله به الشرائع، وأتم به مكارم الأخلاق.

ألا وإن أفضل أسلوب عرفه الناس في الاحتفال بعيد الدستور هو أن يجعل يوم ذكراه يوم تجديد لعهد الولاء له، وتأكيد للحرص عليه والاستمساك به… فكذلك فليكن احتفالنا بشهر رمضان احتفالا بالقرآن الذي أنزل فيه، تعبدا بتلاوته وسماعه، واستظهارا لآياته، وتفقها في معانيه، وتأدبا بآدابه، واتباعا لأحكامه.

  1. الصوم .. والمظهر الجماعي:

يمتاز الصوم بأنه لا يخص فردا دون فرد، ولا فئة دون فئة, كشأن النوافل والكفارات، أنه لم يترك لأحد الخيرة في تحديد بدايته ونهايته، ولا في جمعه وتفريقه متى تشاء وبقدر ماشاء، ولكنه جعل ضريبة الوفاء على الأمة جمعاء، في موسم معين من العام، وفي مقدار معين من الأيام، وفي وقت واحد، وفي نسق واحد.

هذا الطابع الاقتراني الشامل يكفي وحده للدلالة على أن هذه الفريضة السامية لا يراد منها أن تكون مجرد رياضة روحية تصل بين العبد وربه فحسب، ولا مجرد تجربة إنسانية من التعاطف والتراحم في حالات  فردية متفرقة، ولكنه يراد أن تكون في الوقت نفسه حلقة اتصال بين الأمة كلها وأن تكون رباطا من الرحمة بين المؤمنين، تصهرهم جميعا في قالب واحد، وفي جسد واحد.

على ان فريضة الصوم ليست في هذا بدعا بين فرائض الإسلام الكبرى، وشعائره العملية العظمى. فكلها لو تأملنا تتمثل فيها هذه الطبيعة الثنائية، الروحية الجماعية. حتى إن الشعائر ذات الطابع الروحي البارز، كالصلاة والحج، قد أمدتها الشريعة بعناصر، وأحاطتها بمظاهر، وقيدتها بشرائط، تجعل جانبها الاجتماعي لا يقل شرفا وخطرا عن جانبها الروحي.

هذه قواعد الإسلام ودعائمه الكبرى : جعل الله كل واحدة منها قطبا ذا طرفين، طرف يربط المؤمنه بربه، وطرف يربطه بإخوانه المؤمنين، ثم جعل كل واحدة منها ينبوعا لمحبتين، لايكمل الإيمان إلا بهما مجتمعتين : المحبة لله، والمحبة في الله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* محمد عبد الله دراز (2007). الصوم تربية وجهاد/ تحقيق أحمد مصطفى فضيلة؛ تقديم حسنين محمد مخلوف. القاهرة: دار القلم للنشر والتوزيع.

** محمد عبدالله دراز (1312 – 1377 هـ / 1894 – 1958 م) كان الشيخ دراز إماما من أئمة الوسطية الإسلامية السمحة. حصل الشيخ محمد عبدالله دراز على الدكتوراة من جامعة السوربون بباريس عام 1947 برسالة بعنوان “La Morale du Coran”  والتي ترجمت إلى العربي بعنوان “دستور الأخلاق في القرآن”. وعمل أستاذًا للدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر.

[1] حديث متفق عليه، رواه البخاري، كتاب الصوم – باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

[2] حديث متفق عليه: رواه البخاري، كتاب الإيمان – باب صوم رمضان إحتسابا من الإيمان، ورواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها – باب الترغيب في قيام ومضان وهو التروايح

عن محمد عبد الله دراز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.