علم العمران الخلدوني

الصفحات التالية من كتاب علم العمران الخلدوني وأثر الرؤية الكونية التوحيدية في صياغته* لمؤلفه صالح بن طاهر مشوش**

علم العمران الخلدوني

إن اختيار ابن خلدون مصطلح ” العمران” اسما للعلم الذي أسّسه، زاد هذا الأخير أصالة وتوافقاً مع ما تقتضيه معايير الوحي في المعرفة.

ومن خلال استقراء شبه تام لنصوص “المقدمة”، تبين لنا أن استُعمال مفهوم “العمران” جاء على أوجه متعدّدة، وأخذ مواقع في السياقات المختلفة، إن الأوجه المتباينة والمتقاربة في الوقت ذاته التي استعمل فيها مفهوم “العمران” كمصطلح مفتاح لتفسير ظواهر عمرانية عدة، مثل: السياسة، والاقتصاد، والعلم، والتربية، والأخلاق، والعمارة قد منحت هذا المصطلح القوة الدلالية والمعرفية اللازمة لكسب أهمية لا تقل عن التي يتمتع بها مفهوم ” الإنسان”، الذي جعلناه الموضوع المحوري بما تقتضيه مرجعية النظرة الكونية التوحيدية.

ارتبط استخدام مفهوم “العمران” في “المقدمة” بمجموعة من القضايا المتمايزة في مادتها ودلالاتها وعلاقاتها ببعضها بعضاً، غير أنه يمكن تقسيمها حسب طبيعتها إلى: إيجابية، وأخرى سلبية. أما القضايا الإيجابية فهي التي تعبر عن الطبائع والأحوال الإيجابية مثل: الاستخلاف، والتمدّن، والعزّة، والكثرة، والتآنس، والصنائع والعلوم، والكسب، والمصلحة، والمحافظة، والحضارة، إلى غير ذلك من المفاهيم التي ارتبط بها في مواقع مختلفة من “المقدمة”. وإلى جانب هذه التحديدات الإيجابية يُوجد ما يقابلها من اللواحق السلبية مثل: التناقص، والتقلّب، والقلّة، والذّلة، والتوحّش، والعصابات، والتراجع، والتغلّب، والسكون، والخراب، والفساد، والتبدّل، والتصرّف، والحول، والتفاوت، والتّرف، والاختلال، والانتقال.

وإلى جانب هاتين الفئتين يمكن استخلاص صنف آخر من المفاهيم المجرّدة، ارتبط بمفهوم العمران، التي جعلت منه أداة معرفية استدلالية فعَّالة وشاملة، تدخل في التحليلات والتفسيرات النظرية للقضايا. وهذا البناء المفاهيمي الذي أعطاه ابن خلدون اهتماماً كبيراً، يمثّل إحدى الخطوات العملية التي تحقّق له مقصده في تحويل التاريخ إلى علم، وجعل قوانين العمران أداة تمحيص، وتتحقّق في وجود المطابقة بين الخبر أو ” القضية الخبرية” مع الواقع، لأنه يرى أنه معرفة العلم بطبائع العمران “هو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتي يُعْلَم أنّ ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع”[1]. وفي إطار الدلالة المعرفية التي اكتسبها مفهوم العمران في “المقدمة”، يمكن تعيين شبكة من المفاهيم المساعدة منها: الطبائع أو الطبيعة، والأحوال، والعوارض الذاتية، وعلل الكوائن، والأسباب، والشروط، ومبتدأ الأحوال، والمقدار، وهي كلّها مفاهيم فرعية تشكّل مع مفهوم العمران قضايا ومفاهيم أداتية تساعد على تشريح الظاهرة، لمعرفة كيفياتها، وممكنها، ومستحيلها، والثابت والمتغير والشروط التي أوجدتها، وعلاقتها بالظواهر الأخرى.

صنَّف ابن خلدون مفهوم “العمران” إلى ثلاثة أنماط من التجمعات البشرية تشمل: التجمع الطبيعي، والبدوي، والحضري، وأقام روابط شبه ضرورية في تحديد الأسبقية الزمنية في التحوّل والانتقال من نمط إلى آخر، كما هو واضح في تفسيره لنشأة الملك وتأسيس الدولة بوصفها كياناً سياسياً.

إن الخلفية الشرعية التي ميّزت التكوين العلمي لابن خلدون تشكل سبباً كافياً لطرح أسئلة حول علاقة مفاهيمه ومنهجه بمصادر الوحي، بل يعدّ طرحها من الأولويات المنهجية التي أسهمت في فتح مجالات جديدة تتجاوز التفسيرات التقليدية المادية والعلمانية. وهذه الخطوة تساعد الباحث على تفسير كثير من القضايا التي دار حولها الجدل، كمسألة “حداثة الفكر الخلدوني”، وصلاحية تفسيراته التي وضعها قبل ستمئة سنة في معالجة القضايا المطروحة في الوقت الراهن.

إن الدعوة إلى البحث في هذه العلاقة يستند إلى كون القوانين الثابتة واليقينية التي جعلها ابن خلدون خلاصات بحوث لا يمكن ردّها كلية إلى الملحوظات والتأملات،والاستقراءات التي قام بها، بل استند كثيراً إلى نصوص الوحي في اكتشاف تلك القوانين، والخلاصات، وتحديد صيغها، ومفاهيمها، وتفسير جوانبها التطبيقية من الحياة العملية. وهذه الاستفادة المباشرة من مصادر الوحي هي المتغير المستقل، الذي يجب الاعتماد عليه لتفسير صلاحية جزء كبير من القضايا التي فسرها ابن خلدون، ليس فقط على ضوء ما يمليه الواقع بمقتضى طبيعته، وأعراضه الذاتية وتقلّباته، بل كذلك في ضوء مصادر الوحي التي منحته خصائص الصدق، واليقين، والاستمرار.

إن تفسير جانب من جوانب القانون العلمي في نظريات ابن خلدون،يتوقف على استيعاب قضية أساسية تخصّ مصادر الوحي، وتتمثّل في دور “المصطلح القرآني” الذي بيّن عدد من الباحثين تميزه، بحكم انتمائه إلى لغة إلهية مختلفة عن الاستعمالات البشرية للمفردات اللغوية نفسها. وهذا ما ذهب إليه أبو القاسم حاج حمد (توفى 2005 م) حين أكّد أن المصطلح القرآني يتضمن معنى خاصاً مهيمناً، يحوّله مباشرة إلى ضابط يتحكم في العلاقات الدلالية التي تعطي النص بنيته اللغوية والمنطقية والفكرية، وهذا كان ممكناً؛ لأن طبيعة ” المصطلح القرآني” تتميّز بالهيمنة، والتميزّ، واليقين، والثّبات أو الاستقرار الدلالي، والشمول والتخصّص. فالقرآن الكريم كما أكّد أبو القاسم “ارتقى بكمالات التميز والتفرد في خصائص الكلمات، فما من كلمة إلا ولها معناها المحدّد الذي لا يتحمل – كنفسية العربي تماماً – أي تماثل أو تطابق مع كلمة أخرى، ومن هنا يصبح تفسير القرآن من أدق العمليات اللغوية الحضارية التي يعرفها تاريخ اللغات والثقافات في العالم. مامن كلمة إلا ولها دلالتها المتميزة ولو بدت مترادفة أو متشابهة”[2]. وثمة أدوات أخرى لسانية آلية مثل “البنية” في التركيب القرآني، و “القرينة”، و” العلاقات الملحوظة”، و”المسافة في النص” التي قام تمام حسّان بدراستها بالتفصيل، وهي كلها مفاهيم منهجية مساعدة في استخراج الكليات وتفسير العلاقات[3].

وملحوظات أخرى نجدها عند مالك بن نبي في كتابه “الظاهرة القرآنية” الصادر عام 1954، تتضمن إدخاله مفهوم  “الوحدة الدلالية” الذي لا يختلف كثيراً عن مفهوم السياق في تفسير معاني النصوص، لأنّه مبدأ يؤكدّ كذلك أن مفاهيم القرآن تشكل وحدات ونظماً دلالية متميّزة تستغرق في علاقاتها مجموعة من المفاهيم يتعذّر فهم معانيها الجزئية بمعزل عن الإطار الكلي المتناغم الذي توفّره لتلك الوحدة[4].

ظهرت كلمة “العمران” في القرآن بمشتقاتها المختلفة سبعاً وثلاثين مرة، بدلالات متنوّعة، وهي مفاهيم تشير إلى شرطين من شروط الفعل الإنساني: الأول: يمثّل “الزمن”، وهو المعنى الذي برز بوضوح ف الآيات الآتية: ” وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَبٍ ” [فاطر : 11]، (وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) [النحل: 70]، (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) [البقرة: 96]. أما الشرط الثاني، فيتمثّل في الجانب العملي من ” الفعل الإنساني” ذاته الذي وضّحه قوله تعالى: (وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) [الروم: 9]. إن الفعل الإنساني كما حدّده المجال الدلالي لمفهوم “العمران”، لم يكن مطلقاً، بل جاءت آية أخرى تقيده بتقديم نماذج كيفية لهذا الفعل، مثل ربط “العمارة” أو “التعمير” مباشر ة”بالمسجد” وهو مكان أداء الركن الأساسي من العبادة التي من أجلها خُلِقَ الإنسان، يقول الله تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) [التوبة: 18]، ويقول كذلك: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 158]. إضافة إلى هذه الإشارات التي تحدّد أوجه القيام بفعل “التعمير”، جاءت آية أخرى تشير إلى حدوث جنس الفعل “عَمرَ” في عالم الغيب الرحب، وبذلك تم ربطه بحقيقة غيبية تتمثّل في “البيت المعمور” الذي ذكر في الآية الكريمة (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) [الطور: 4]، والذي يحمل اسماً مشتقاً من الجذر “ع – م – ر” كذلك. وتشترك دلالات فعل “عمر” المختلفة المذكورة في القرآن في كونها صادرة عن “الأمر الإلهي” الذي يجعل مصدر فعل التعمير ومشروعيته هو الله وحده، والذي جاء في الآيتين: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم) [فاطر: 37]، وقوله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61]. ولقد عرض ملكاوي معاني مفهوم العمران في القرآن، وحصرها في أربع مسائل، وهي: حالة الحياة، والإقامة والسكني والبناء في مكان محدد، والعمران المادي، والعمران الفكري والثقافي[5].

فبما أن مفهوم “العمران” الذي اختاره ابن خلدون هو اسم للعلم الذي اكتشفه ووضع أسسه كان مصدره القرآن، فإنّه يصبح من غير السليم تفكيكه إلى تصوّرات مادية بحتة، كما حاولت كثير من الدراسات فعله. كما لايمكن إخضاعه لتلك الرؤى الكونية التي تغذّيها. إن لمفهوم العمران الخلدوني مناعة معرفية مكتسبة تميزّه بجذوره القرآنية، وتمنعه من التمييع وسوء التأويل. وهكذا تكون كلمة “العمران” في النص الخلدوني خاضعة لحقيقتين: الأولى تتمثّل في اتصالها من جانبها العلوي بالأمر الإلهي، والثانية تعلّقها من جانبها السلفي بالاستخلاف الذي محلّه الأرض[6] كما يمكن فهمه من قول ابن خلدون”… فانحسر الماء عن بعض جوانبها لما أراد الله تكوين الحيوانات فيها، وعمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرهاً[7].

وإذا كانت وظيفة علم العمران هي التحقّق من مطابقة القضايا للوقائع، فإن علم الاستخلاف غايته التحقق من مطابقة الأمر الوجودي للأمر الشرعي بتعبير ابن خلدون. فكل إنسان مخلوق هو مستعمر من قبل الله في الأرض، لكن لا يكون حتماً مستخلفاً إلا إذا كانت أفعاله وفق الهداية والوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وهكذا تتضح أهمية دلالة وأهمية ورود مسألة النبوة والوحي والاستخلاف، وغيرها من المباحث المتعلّقة بالغيبيات في “المقدمة”.

إضافة إلى كل من مفاهيم “العمران” و “الاستخلاف” التي تجد طريقها مباشرة إلى مصادر الوحي، فإن ابن خلدون وظّف مفهوماً آخر لا يقلّ أهمية، وهو “العبرة” أو “العبر”  الذي جعله عنواناً لكتابه في التاريخ، وهي الكلمة التي نجدها في القرآن على هيئة جمل مركّبة تضّم إليها عناصر دلالية جديدة مثل: “عبرة – أولي الأبصار” (آل عمران: 13)، “القصص – عبرة – أولي الألباب” (يوسف: 111)، “الليل / النهار – عبرة – أولي الأبصار”، (النور: 44)، “عبرة – الخشية” (النازعات: 26). ولا يخفى على أحد الفرق الكامن بين مفهوم “التاريخ” “والعبر” أو “علم التاريخ” و “علم العبر”، كما لا يمكن تجاهل الأسباب التي دفعت ابن خلدون إلى تسمية كتابه “العبر” وليس “التاريخ”، وإن كانت تسمية “العبر” لم تكن خاصّة به[8].

 وظائف علم العمران:

  1. الوظيفة الأصولية:

إن المهمة التي حدّدها ابن خلدون لعلم العمران تتمثّل في إنقاذ علم التاريخ من الثغرات المنهجية الناجمة عن الجهل، وعدم استيعاب المؤرخين طبيعة الخبر التاريخي في حقيقته وملابساته، إضافة إلى انتشار ممارسات أخرى مقصودة اتّخذها المؤرّخين وسيلة لتحقيق أغراضهم الشخصية بنقل وتمرير أخبار معينة وتمريرها دون تمحيص ونقد. إن إصلاح ابن خلدون منهجية علم التاريخ ضرورة، يمكن أن يشار إليه في هذا الشأن هو أن العلم بمثابة مركز المعلومات التي تغطبي مجالات شتى من حياة الأفراد والجماعات والأحوال التي تعيشها من “التوحش والتأنس والعصبيات، وأصناف التغلّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك، والدول، ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب، والمعاش، والعلوم، والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعه من الأحوال”[9]، وهي كلّها مواد تشكّل موضوع علم العمران، التي بمعرفتها تساعد النظم السياسية وغيرها لتحقيق رعاية مثلى للشعوب التي تخدمها، وبذلك تضمن استقرارها واستمرارها. وهذا ما أشار إليه أبو يعرب المرزوقي في ما سماه ب”وظيفتين إبستمولوجيتين” في تحديد موضوع علم العمران: الأولى تكمن في تعيين موضوع التاريخ وبيان حدوده ومحتواه. وأما الثانية، فتتمثّل في نقد الخبر التاريخي وتمحيصه[10]. وبالعودة إلى نصوص المقدّمة يتضّح أن الاتجاه العلمي النقدي المنظم الذي اعتبره ابن خلدون واحداً من بين الوظائف المعرفية الأساسية، التي وضع من أجلها علم العمران تمثل في خصيصتين: الأولى تمكن في تعيين موضوع التاريخ وبيان حدوده وأحتواه، وأما الثانية فهي تتمثّل في نقد الخبر التاريخي وتمحيصه[11].

لم يكن مقتصراً على “الخبر التاريخي” فقط كما ذكر المرزوقي، بل شملت أنواعاً أخرى من الأخبار والقضايا التي تنتمي إلى مجالات أخرى غير التاريخ. وفي هذه الحالة يكون علم العمران مؤهلاً وقادراً على تقديم إسهامات نوعية أخرى تجعله يتّخذ موقع “علم العلم”، التي يتولّى من خلالها نقد أسس العلوم الأخرى المجاورة، ونتائجها العلمية، وتطبيقاتها العملية. بمعنى آخر: إذا اعتبرنا أن الخبر هو قضية تحتمل الصدق والكذب، وأن هذه القضية ليست خبراً عن التاريخ، بل خبراً عن الطبيعة، أو الاجتماع، أو السياسة، أو الفن؛ بهذا التحول يصبح علم العمران علماً لعلوم أخرى متعدّدة، يملك القدرة على تقديم تفسيرات شاملة للقضايا الكبرى التي تتناولها هذه المعرفة المتخصّصة بالدراسة من جهة، ويكون مؤهلاً كذلك لتجريد أسسها في قوانين ومبادئ كلّية ثابتة تستمد صدقها من معارف الوحي(العلوم الشرعية او العلوم الإسلامية) من جهة ثانية.

بمباشرة هذه المهمة ذكر أبو يعرب المرزوقي أن ثّمة أربعة علوم مساعدة أسّسها ابن خلدون لتدعيم علم العمران، وهي تتمثّل في: علوم الإحياء الإنسانية، وعلوم المحيط الطبيعي الإنساني، وعلوم الثقافة الإنسانية، وعلوم المجتمع الإنساني[12]، وهي كلّها يمكن استنباطها مباشرة من “المقدمة”[13].

قد لا نوافق المرزوقي علي هذه التسميات التي تقارب إلى حدّ ما تسميات منبثقة من الفلسفة الغربية التي اتّسمت بروح لا دينية قوّية (Secularism)، لكن تبقى الحقيقة التي أشار إليها في وجود تلك العلوم المساعدة في النظرية المعرفية الخلدونية ذات أهمية كبيرة، مع ضرورة تأكيد أن العلوم المساعدة لا يمكن أن تكون معارف جديدة بأسماء جديدة كالتي اقترحها أبو يعرب، بل ينبغي أن تمثّل علوماً مستقرة داخل دائرة علوم الملّة.

إن الوظائف التي أسندها ابن خلدون لعلم العمران غير محصورة في التي أشار إليها المرزوقي فحسب، بل امتدّت إلى وظائف أصولية أخرى، وهي جمع أشتات العلوم والفوائد، وتنظيم شمل المعارف الشوارد، وإظهار الآيات الرّبانية كما وردت بالتسلسل في “المقدّمة”[14].

أما وصف الوظيفة الأولى فتتمثل في جمع أشتات العلوم، أو بناء علاقات استدلالية حين تُعامل مع المعطيات والمعارف قصد تنظيمها لخدمة الفكر، وتنمية قدراته في استيعاب شروط العمران البشري على نحو كلّيّ.

وهذا العمل إذا ما وحاولنا وضعه في نسقه التاريخي وجدنا أن المرحلة التي عاشها ابن خلدون تميّزت بتراكم عدد ضخم من المؤلّفات التي اتّسمت بالموسوعية، والتي غالباً ما تجمع المعلومات تحت نظام تخصّصي، يحاول وضع المعارف في أطر عملية تسهَّل على الناس العودة إليها، وهي على هيئة: (الطبقات)،و(كتب التاريخ والسير)، و(معاجم البلدان)، و(معاجم اللغة)، و(موسوعات في الطب)، إلى غير ذلك من الأشكال التي قدّمت خدمة جليلة في جمع المعلومات وتصنيفها بناءً على جنسها. ولكن العملية التي يقصدها ابن خلدون في هذا الإطار هي مرحلة أخرى من الجمع، وهي التي تربط بين أكثر من معرفة منظمة، وكأنها تجمع العلوم في توظيف منسَّق منهجي مركّب.

وهذا ما نجده بوضوح في علم العمران الذي حاول الاستفادة، ليس فقط من المعلومات المختلفة المتوافرة التي استطاع ابن خلدون الحصول عليها، بل كذلك من المناهج العلمية المستعملة في تلك العلوم المختلفة. بعبارة أخرى: إن من بين أهداف عملية الجمع في علم العمران توظيف عدة علوم تحت رؤية منهاجية واحدة، تعمل بوصفها مبادئ وقواعد كلية توجه الباحث في تصوراته الكلية، مستعيناً بما تقدّمه الرؤية التوحيدية التي تهيمن على كل جزئية معرفية وردت في “المقدمة”.

أما الوظيفة الثانية فتتمثل في تنظيم المعارف المختلفة تحت إطار نظري شامل يؤدي علم العمران فيه دور الناظم، وهي العملية التي تعكس القيمة الحقيقية للجمع الأصولي الذي انتهجه ابن خلدون؛ إذ إن الجمع التراكمي لا يعبّر إلاّ عن المرحلة الأولى التي أشرنا إليها سابقاً، إذ مفهوم “النّاظم”، الذي جاء في هذا السياق يعني استيعاباً أصولياً شاملاً للأفكار، يحاول فيها الفكر إيجاد منطق مشترك تخضع له القضايا المختلفة التي تقع تحت دائرة العلم الذي يخوض فيه، مع الاستفادة المنظّمة مما تحقق في العلوم الأخرى المقاربة وثبتت مصداقيتها العلمية. ونتيجة لأهمية هذا المفهوم حاول بعض المفكرين المسلمين، أمثال أبو القاسم حاج حمد، إحياء هذا المفهوم الأصولي في مركّب لفظي “الناظم المنهجي” بتوظيفه لتثبيت فلسفة المنهج في تحديد العلاقة بين الوحي والعلوم الإنسانية المختلفة[15].

  1. الوظيفة العقدية:

إن الوظيفة العقدية لعلم العمران تُسقط كل التأويلات المادية والعلمانية التي كثيراً ما روّجت لها المدارس الاستشراقية، وأتباعها من باحثين عرب، ألصقوا بها ألواناً من الفكر المادي، كالمادّية الجدلية، والنفعية، والوضعية، وغيرها من الفلسفات التي يقارن بها ابن خلدون بآباء هذه الاتجاهات الغربية وهي التي لا تعبّر إلا عن أصحابها وثقافتهم العلمية والحضارية. وثمة عبارات كثيرة – تزدحم بها نصوص “المقدّمة” – تحمل قيماً وتصورات عقائدية إسلامية مركبة في جذور المعرفة عند ابن خلدون، تمثل النور الخفي الذي صاحَبَ ابن خلدون في بحثه وتفكيره، وكل ما قدّمه من تفسيرات حول الإنسان والعمران. كما أنها شكلت الغاية في البيان حين لم يقصر ابن خلدون في ربط الإنسان والعمران والمعرفة بالوحدانية. وإثبات هذه العلاقة، وبيان وظيفتها في العمران البشري والمعرفة الإنسانية، وتُعدُّ من بين أهم إِنجازات ابن خلدون، وإن كانت هذه النظرة لم تخص ابن خلدون وحده، بل عرفها جلّ علماء المسلمين الذين يؤمنون إيماناً راسخاً بأن العلم ما هو إلا وسيلة للتّقرب إلى الله بمعرفة أسرار خلائقه، وآياته التي تتجلّى في كل مخلوقاته.

  1. الوظيفة العمرانية:

إن المعارف والنتائج التي يقّدمها علم العمران  ليست مجردة كالتي يسيطر عليها نسق الفلسفة اليونانية الذي انتقده ابن خلدون بشدّة في مناسبات عديدة في “المقدّمة”. إن علم العمران الخلدوني علم عملى ، يتوجّه إلى الواقع الذي يعيشه المسلم ليغيّره وفق مبادئ الوحي اليقينية الثابتة. وللتأكيد على هذا المقصد جعل ابن خلدون يوسع من نطاق نظرية “الحسبة” حين شمل نقده أصنافاً كثيرة من الناس داخل المجتمع الإسلامي، مثل الحكّام والعلماء والفقهاء. وظهور هذه النظرية في تفكير ابن خلدون يعدّ دليلاً واضحاً وقوياً على الوظيفة العملية التي يقوم بها علم العمران[16].

إن قراءة الدور الممكن لعلم العمران في حياة المسلم المعاصر وفهمه لم تنج من أثر الإيديولوجية العلمية الغالبة التي تتحكّم في سوق المصطلح وتحدّد طرق توظيفه. فبعض هذه المحاولات اعتبرت”المقدّمة”، بصفة مباشرة أو غير مباشرة، مصدراً لعلم اجتماع” الدول النامية” أو “المتخلّفة”؛ إذ يرى محمد أحمد الزعببي – على سبيل المثال – بأن الاستفادة من “المقدّمة” في هذا السياق يكون ممكناً إذا توفّرت شروط معينة، منها: استمرار البنيات الاجتماعية القروسطية التي هي أحد أبرز مظاهر التخلّف، وأن عالم ابن خلدون ما يزال موجوداً في بلدان العالم الثالث بدرجات متفاوتة، وأن ثّمة ظواهر حيّة تشكّل صلة بين هذا العصر وعصر ابن خلدون، تتمثّل – حسب رأي صاحب المقال – في: البداوة، والاقتصاد الرعوي، والقبلية الاجتماعية والاقتصادية، والملكية المشاعية، والقبلية العصبية، والعصبية الدينية، والعصبية الطائفية، إلى غير ذلك[17].

تجنّباً لنوع هذه القراءات الجزئية الضعيفة التي لا تحسن إلا عملية الهدم لما يمكن أن يستفاد منه في المجتمع، ينبغي التركيز على بيان الأدوار الإيجابية الممكنة لعلم العمران في مواجهة المشكلات والتحديات الراهنة التي تواجه المجتمع المسلم. وهذه العملية لا تكون على خلفية الاعتقاد بأن المجتمع المتخلف ينبغي أن يدرس بوسيلة متخلّفة ؛ أي علم العمران “المتخلّف” كما يفهم من تفسير محمد أحمد الزعبي، بل لأن علم العمران معرفة إسلامية أصيلة، بحكم نظرتها التوحيدية، تملك القدرة على التفسير وتعليل الظواهر الخاصّة بواقع العالم الإسلامي، مما لايمكن التأكّد من توفره في العلوم المستوردة. وخير دليل على هذا القول هو فشل المشاريع الإصلاحية المختلفة المستوردة لإصلاح المجتمعات الإسلامية.

في بيان هذه الوظائف يجب التنبيه على نقطة هامة، وهي إمكانية توسيع رقعة تخصّص هذا العلم بتطبيقه على مجالات لم تكن واضحة في الفترة التي كان ابن خلدون يؤسس قواعدها ويحدّد موضوعه. وإلى هذه الفكرة أشار ابن خلدون في دعوته التي أطلقها في الفقرة الأخيرة من “المقدّمة” إلى توسيع قضايا علم العمران ومجال تطبيقاته في قوله: ” ولعلّ من يأتي بعدنا، ممن يؤيّده الله بفكر صحيح وعلم مبين، يغوص في مسائله على أكثر مما كتبنا؛ فليس على مستنبط الفنّ إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم، وتنويع فصوله وما يُتكلّم فيه، والمتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئاً فشيئاً إلى أن يَكْمل”[18]

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* صالح بن طاهر مشُوش (2012). علم العمران الخلدوني وأثر الرؤية الكونية التوحيدية في صياغته: دراسة تحليلية للإنسان والمعرفة عند ابن خلدون. ط. 1. فيرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2012. ص ص. 126، 135- 137، 179، 185.

** صالح بن طاهر مشوش من مواليد أقمون بولاية بجاية بالجزائر، حصل على الماجستير والدكتوارة من الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيزا، وعلى الليسانس في الفلسفة من جامعة الجزائر فرع بوزريعة.

[1] ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: وافي، مرجع سابق، ج1، 330. ص 28.

[2] حاج حمد، محمد أبوالقاسم. العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، بيروت: دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 1996م، مج 1، ص 57.

[3] حسّان، تمّام. البيان في روائع القرآن، القاهرة: عالم الكتب، ط2، 200م، ج1؛ ج2.

[4] ابن نبي، مالك. الظاهرة القرآنية: نظرية جديدة في دراسات القرآن، القاهرة: مكتبة دار العروبة، 1961م.

[5] ملكاوي، فتحي حسن. “العمران في منظومة القيم الحاكمة” (كلمة التحرير)، إسلامية المعرفة، عدد 59 (شتاء 2010).

[6] في دراسته لمفهوم “الخليفة” عند المفسرين الأوائل (ابن عباس؛ مجاهد؛ وسفيان الثوري) “The term <<Khalifah>> in early execetical” literature خرج وداد القاضي بخمس دلالات رئيسة تشمل: الاتّباع، والاستدلال بعد التدمير أو الإنهاء، والإسكان والتعمير، والحكم. انظر:

  1. Conrad Lawrence (ed.), The Qur’an: Formativ Interpretation (Ashgate pub – lishing Company, 1999), pp.392 – 411.

[7] ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: وافي، مرجع سابق، ج1، ص 340.

[8] ظهرت كلمة “العبرة” عند المؤرخين الآخرين مثل الإمام الذهبي (1274 – 1348 م) في كتابه ” العبر في خبر من غبر”، الذي تناول سرد الأحداث، والوقائع التاريخية، وذكر وفيات الأعيان في كل سنة وما حدث فيها بداية من السيرة النبوية حتى نهاية عام 772ه.

[9] ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: وافئ، مرجع سابق، ج1، ص 328.

[10] المرزوقي، أبويعرب، الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر، ص 31 – 32.

[11] المرجع السابق، ص 31 – 32.

[12] المرجع السابق، ص 39.

[13] ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: وافئ، مرجع سابق، ج1، ص 320.

[14] المرجع السابق، ج1، ص 279.

[15] حاج حمد، أبو القاسم. العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة، بيروت: دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 1996م.

[16] قارن: ابن تيمية، الحسبة، ص61.

[17] الزعبي، محمد أحمد. حول الإرث السوسيولجي لابن خلدون: مدخل عام، سلسلة كتب المستقبل العربي (41)، الفكر الاجتماعي الخلدوني: المنهج والمفاهيم والأزمة المعرفية، بيروت: ط1، 2004 م، ص 34 – 36.

[18] ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: وافي، مرجع سابق، ج3، ص 1365.

عن صالح بن طاهر مشوش

شاهد أيضاً

التوحيد- التزكية- العمران: منظومة القيم العليا

أ. د. فتحي حسن ملكاوي

شتمل الرؤية الإسلامية على منظومة قيم عليا حاكمة مكونة من ثلاث قيم أساسية هي: التوحيد، والتزكية، والعمران؛ فالدين قائم على توحيد الله الخالق، وتزكية الإنسان المخلوق، لتمكنيه من حمل أمانة الخلافة في الكون، وعُمران هذا الكون وبناء الحضارة فيه.

المقدمة

تأليف: أ. فرانز روزنتال

ترجمة: أ. رحاب جمال بكري

المقدمة الأصلية لكتاب "التاريخ" لابن خلدون تقع في بضع صفحات قليلة، وكمعظم مؤلفات المسلمين التاريخية، تحتوي هذه الصفحات مديحا تاريخيا يعقبه نقاشا للأخطاء التي يقع فيها المؤرخون وأسبابها، موضحة بأمثلة تاريخية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.