لسان حضارة القرآن

الصفحات التالية من كتاب لسان حضارة القرآن* لمحمد الأوراغي**

إن حفظ الأمم والشعوب للهويات الخاصة لضروري للإبقاء على التدافع الحضاري. وليست الهيمنة الثقافية من مبادئ حضارة القرآن لقوله جل جلاله: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم” (هود-118-119). وتعتبر اللغة من المقومات الضرورية لحفظ الهوية من التلاشي والاندثار، والضامن للاستمرار الحضاري والاستقرار الاجتماعي.  

وقد تحولت اللغة العربية إلى لغة حضارية ولم تبق لغة قومية مذ اختارها الله عز وجل وعاء لكلامه، وأداة لتبليغ رسالته إلى الخلق. وبالعربية دوَّن المسلمون حضارة القرآن، وهي، بلا شك، أعظم حضارة في عصرها، ومنطلق الإنسان المعاصر في بناء حضارته الحالية. وبالعربية يستمر تواصل الأجيال، ويتأتى للخلف الاستفادة من ثقافة السلف. وبغير العربية ينقطع التواصل الحضاري، ويختفي أضخم تراث بشري، وينقطع العمل بحضارة القرآن.

واليوم تتواجد اللغة العربية في مرمى الصراع الحضاري الهادف إلى استئصال المنطلق القاعدي للحضارة الإسلامية، ولا سبيل لهذا الاستئصال سوى تعميق الهوة المعرفية بين الإسلام والمسلمين حتى الانسلاخ التام. ومن الوسائل المستخدمة لتحقيق هذا الغرض:

  • دعوى «قصور العربية عن مسايرة مستحدثات العصر التي أصبحت واقعًا يصفونه بسفساف الكلام الخالي من أيِّ حس علمي. وقد دبًج منه الدكتور محمد معموري الشيء الكثير نقتطع منه النماذج التالية: «إن اللغة العربية الفصحى لغة معقدة وغامضة… وإن أبرز مظاهر تعقيد اللغة العربية يتمثل في طابعها غير المحدد… يجب الوعي إذن بأن اللغة العربية هي حقيقة غامضة ومجردة… وهي في الواقع لغة غامضة صعبة التحديد… اللغة الفصحى نظام لغوي محدد بشكل سيئ، ويتضمن جوانب هامة غير محددة، إنها خليط معقد»[1]. بل يذهب د. معموري مع غيره إلى أن العربية مصدر إخفاقات العالم العربي في ميدان التعليم وفي باقي المجالات الحيوية، وأن الحل في نظر هؤلاء يبدأ بوعي العرب «بعماهم اللغوي» وإقلاعهم عن تمسكهم الأيديولوجي بلغتهم العربية، ثم الشروع في توظيف اللهجات القٌطرية في التعليم وفي سائر القطاعات. وهكذا يتجدد بث الحياة في فكرة استبدال اللهجات المحلية باللغة العربية كي تظل نشيطة في استقطاب ذوي الغفلة أو النفوس الضعيفة. وبتنامى عدد المناهضين للعربية وتناقص المنتصرين لها يزداد حالها سوءًا؛ فلا معجُمها يعرف ثراء في المفردات، ولا «أهلها» تتحسن معرفتهم بالقواعد.
  • تنحية اللغة العربية في وطنها من مختلف الميادين الحيوية لتعويضها بإحدى اللغات الأوروبية. فكان حظ العربية من التعليم قليلاً. ويكفي من شواهد الإثبات على هذه الظاهرة المستهجنة إلقاء نظرة خاطفة على لغات التدريس في جامعات الوطن العربي ومعاهده العليا، ولغات التوظيف في الغالبية العظمة من مؤسساته الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
  • الاستخدام السييء للغة العربية في مجال الإعلام الموجه إلى العموم؛ ويظهر بصورة واضحة في:

(أ) ضعف مستوى المهنية والاحتراف في قسم الإعلام بالعربية بالقياس إلى مثله باللغات الأخرى، تكفي المقارنة بين المنشورات العربية في نفس البلد والمنشورات بالحرف اللاتيني لاستخلاص نفس الملاحظة، وكذلك حال العروض الترفيهية والتثقيفية والإشهارية.

(ب) نزول المستوى اللغوي لمعظم الإعلاميين العاملين بالعربية، وله أكثر من سبب؛ منها أن متعدد الألسن أولى من مجيد العربية، وأن المتعلم بالعربية في معهد محلي يحسب دون المتخرج من معهد غربي وتعلم المهنة بلغة أوروبية.

  • تزيين وجه المدينة العربية بزينة الحرف اللاتيني بنسب متفاوتة في القطر والعصر. ففي زماننا تبدو مدنٌ في وطن العربية مرتبطةً مظهريًا بحضارة الحرف اللاتيني أكثر من ارتباطها بحضارة الحرف القرآني. يشهد لذلك سيطرة الحرف اللاتيني على لوحات الإشهار المنتصبة في أركان المدينة، وعلى واجهات الغالبية العظمى من مؤسسات القطاع الخاص، إذ صارت في الآونة الأخيرة تقتصر على حمل أسماء بالأجنبي خُطت بالحرف اللاتيني لا غير. وقلت التي تجمع بين الحرفين، ويكاد المقتصر على الحرف القرآني ينعدم. ولا شك في تعبير وجه المدينة عن المسافة التي يتخذها أهلها الفاعلون من هذه اللغة أو تلك، إذ لا شيء يقع صدفة فيما يخص مقومات الهوية.
  • تنشيط النهج المؤدي إلى استبدال اللغة الأوروبية باللهجات العربية، وذلك بإنزال بعضها إلى قاعدة الهرم الاجتماعي في وطن العربية. ويحصل أولاً بترسيخ الاعتقاد بأن المتحدث بالعربية الفصحى قديم متجاوز إذا لم يُنعت بالتزمت، والمتحدث باللهجة المحلية عامي متخلف، بينما المتحدث بمصطلحات أجنبية ولو بلسان هجين فهو مثقف متحضر.
  • تصاعد وتيرة الحرب الحضارية الحالية للتنفير من العقيدة الإسلامية وإفقاد العربية مشروعية التعلق بها. فلما عجز الحاقدون على الدين عن هدم أركانه في أصولها من القرآن الكريم والسنة الشريفة وفكر الصلحاء من الأمة خرًقوا ثقافةً إسلامية موازية لإطفاء نور الحنيفية، فتمت لهم فكرة أن الإسلام والمسلمين أضحوا مصدرًا للشر في العالم، كما كانت الشيوعية في عهدها قبل سقوط جدار برلين. حتى إذا استوت الفكرة عقيدة في أذهان ضعاف النفوس من أبناء الأمة انتفى لديهم كل مبرر للتمسك باللغة العربية. فلا هي ذات مردود جيد في سوق اللغات، ولا الجهل بها يفوت منفعة، كما أن العلم بها لا يرفع درجة.

من حق لغة القرآن على أهل الإسلام

مما جاء في المبحث السالف ومن الإصغاء إلى الكثير من الأصوات المتصاعدة تنبيهًا على ما يحاك للعربية في وقتنا الراهن من مؤامرات، نستخلص أن اللغة العربية مصابة حاليًا بالهمل إذ تركت وشأنها من غير الرعاية الواجبة في حقها. والهمل في مجال اللغات داؤها إذا أصابها أفناها. فلا شيء يُفني اللغات أكثر من الإهمال، ولا شيء يحييها أكثر من الاستعمال. وتصاب اللغات بآفة الهُمال بتضافر عناصر ثلاثة:

أ) أن يتقلص باستمرار العدد الفعلي للناطقين بها بصرف النظر عن عددهم الافتراضي.

ب) أن تتناقص مجالات التواصل بها بسبب لهجاتهم ولغات أجنبية تنافسها.

ج) أن تُترك سائبة من غير قوانين زجرية تحميها من تطاول المستخفين بثوابت الهوية لكل أمة.

وكل تأخير في معالجة آفة الهَمَل الذي أصاب العربية بحدة في عصر الهيمنة خاصة سيؤدي لا محالة إلى دخول هذه اللغة في طور الانقراض. ويبدأ استشفاء العربية من «الهُمال اللغوي» بتغيير ركام من العقائد الفاسدة التي ترسخت في نفوس أهلها عبر:

1) خلع عقيدة اليأس المشفوعة بقولهم «اتسع الخرق على الراقع»، والقاضية، بناء على ما عليه أهل العربية والإسلام اليوم، باستحالة أن تتصدر لغات العالم في مستقبل قريب أو بعيد، وكلاهما يُبني من الآن. وكل نافٍ لإمكان قيام مستقبل للعربية، بحجة أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، فهو مدافعٌ الآن عن انقراضها بما تحمل.

2) نزع عقيدة التواكل المنهي عنها بذمه عز وجل للقائلين”فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون”[2]، وعليه كل من لم يشارك قومه في حماية لغتهم ولو بتعلمها فهو غير مبال بمصير المقومات الأساسية لحضارتهم. وليس للأمة عندئذٍ أن تبالي بوجوده بينهم، وإلا كانت في خدمته وهو في خدمة غيرها.

3) التجرد من عادة تبرئة النفس واتخاذ الغير مِشجبًا تُعلًق عليه كل مفسدة، وكأنه ليس لأهل العربية دخل فيما أصاب معجمها من الفقر بعد غنى، وحل بأصواتها الآن من الاستعصاء على اللسان والاستهجان في الآذان بعد أن جرت من قبلُ فصيحة على الشفاه، وذَلَت بها ألسنة القراء في كل زمان. والحق أن ذا الخبل من جراء التداخل اللغوي لم يكن ليرى في تركيب العربية إلا الإبهام، وفي قواعد صرفها إلا سوء الانتظام وكثرة الخلل.

4) التخلص من الميل الشديد إلى الانكفاء على الذات بدعوى أن لكل واحد شأنًا يغنيه عن الاهتمام بشؤون أمته، وأن للعربية ربًا يحميها من عواقب الدس ويمنعها من الزوال[3]. وأن رعاية المنفعة الشخصية أولى من رد المفسدة عن الأمة إذا وقع تعارض بينهما، وأن المحافظة على النفس والمال والأهل والمركز لا يمنع الاستقواء بخصوم الأمة عليها أو على بعضها.

5) الإقلاع عن الاقتناع بالشائع من الأقوال والأفكار التي تصادف هوى في النفس وتنقض حقًا في الشرع، كالاقتناع بصدق النافين لوجود الأمة الإسلامية والعربية بدعوى عدم تحققها في الواقع، والحق عز وجل يقول {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[4]. ومن جملة ما يترتب عنه انتفاء الداعي إلى لزوم «الجماعة»، واعتياد العمل بالرأي الحافظ لمنفعة «المجموعة» وإن أضر بالباقي. ويوافقه الإصرار على التمسك بقولهم: «إن في الاختلاف رحمة» والعمل بمقتضاه، ورب العزة ينهي عن الاختلاف بقوله {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}[5] التي توجب الأخذ بأسباب الألفة وترك أسباب الفرقة، وإلا دخل أهل الملة في شقاق بعيد ليس له جامع. واختلاف الألسنة واحد من أهم أسباب الفرقة، لأن كل لسان في الحقيقة إنسان مغاير لإنسان أي لسان آخر.

إن تحسين وضع الأمة أو القوم والمجتمع اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا وأمنيًا ولسانيًا يشترط البدء بتغيير ما في النفوس من رذائل الصفات والمعتقدات الفاسدة كالتي سردنا ونحوها مما لم نذكر، وتعويضها بأضدادها من فضائل الخصال. واستبدال الخصال لا يحدث تلقائيًا وصدفة، وليس من اختصاص واحدٍ أو جماعة معينة، وإنما يكون أولاً بتدبير محكم من كل واحد مع كل جمع. وثانيًا بالعمل غير المنقطع على تحقيقه بالتنشئة في مؤسسات التربية والتعليم، وبإعطاء القدوة في الأسرة وفي غيرها من خلايا المجتمع وأجهزته. وثالثًا باتخاذ الأمر بتأخير أراذل الناس عن أفاضلهم قاعدة للتحفيز ومعيارًا للانتقاء والمفاضلة بين الأكفاء مهنيًا ومعرفيًا. ورابعًا بإنزال المعرفة على قدر الافتقار؛ فلا تنشئة بالأقوال والأعمال على خلافها، ولا إتيان بأعمال على خلاف وجهها المحدد علميًا، ولا عِلم والعمل بخلافه، أو ليس الغاية منه العمل.

ما كان وسيلة لمعرفة واجبة فمعرفته واجبة

بحمل الإنسان للأمانة اختيارًا وجب على كل قوم وجوب مصلحة أن يحفظوا لغاتهم حفظ باقي المقومات لكيانهم. أما اللغة العربية فقد فقدت الانتساب إلى قومها مذ اختارها الله عز وجل لكلامه في القرآن الكريم، وزاد رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم فعبًر بها عن سنته الموجهة إلى المسلمين، فصارت بذلك لسان حضارة القرآن بدليل وجودها حيث يوجد الإسلام في أي ركن على الأرض. وهكذا انقسمت اللغات البشرية إلى «لغات قومية»، و«لغات حضارية». الأولى ديوان تجربة بشرية فيما يخص نمطًا ممكنًا من العيش على الأرض. والثانية تحمل شرعًا إلهيًا يُنمِّطُ الحياة الدنيا العاجلة ويُهيِّئ الحياة الأخرى الآجلة. والعربية من الصنف الثاني لانفرادها بحمل القرآن الكريم والسنة المطهرة، فكانت لغة كل مسلم، أيًا كانت لغته القومية. فمن اختار لنفسه شرع الله لتنميط حياته وإعداد ما بعد مماته لا تُمكِّنه لغته القومية من معرفة ما يجب عمله في باب العبادة المنجزة بالفعل اللغوي والتدبُّر الذهني، وهو باب كبير. كما لا تُمكنه من الانصهار التام في حضارة القرآن المدونة أصلاً بالعربية.

اللغة العربية حق على الناطق معرفتها

إن الناطق بالشهادتين إنجازًا واعتقادًا ناطق بالعربية اقتدارًا واقتضاءًا، لأن الله قد عبًد خلقه بالعلم وليس بالتقليد، وجعل شرعه في العربية، فصار من اللازم على كل مسلم في «مرتبة الناطق»[6] أن يتهافت على حفظ هذه اللغة مجاهدًا؛ إذ هي الوسيلة لأداء عباداتٍ على الوجه المطلوب، والمفتاح للانصهار في إحدى الحضارات الكبرى التي عرفها التاريخ، والأداة الناجعة للتعامل الاقتصادي والتقارب السياسي مع دول تعد بالعشرات، وللتواصل الثقافي مع كتلة بشرية تعد بمئات الملايين، وهي إحدى اللغات الستة الرئيسية المتداولة في معظم المنظمات السياسية الدولية.

وتعتبر العربية، بحكم تخصصنا في اللسانيات المقارنة[7]، أبسط اللغات البشرية خلافًا لما أشاع عنها الاستشراق القديم والاستغراب الجديد المتشكل حديثًا من لسانيين عرب انبهروا بالغرب وسعوا إلى الانصهار في ثقافته والانسلاخ من ثقافة السلف. وهي أيضًا بحكم الخبرة المهنية[8]، من أسهل اللغات اكتسابًا بشرط ألا يتخذ النحو العربي القديم واسطة إليها، وإلا تحوًل تعليم اللغة إلى تلقين أقوال النحاة عنها بما فيها من الخلافات الواسعة. وقد أثبتنا في بحث سابق[9] أن ما قدمه نحاتنا حتى الآن من أوصاف للغة العربية يعقد عملية اكتساب ما هو بسيط في حد ذاته.

فضلاً عما يوفره اكتساب العربية من الاقتصاد في الجهد لبساطتها ومن المنافع الكثيرة لارتباطها بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولتداولها في عالم زاخر بالخيرات المادية والطاقات البشرية واستعمالها في أعلى المنظمات الدولية، فإن لاحتكاكها باللغات القومية للشعوب الإسلامية أثرًا حسنًا في الاتجاهين. إذ تتبادل المفردات فيغتني معجم اللغتين الحضارية والقومية. وفي هذا الباب عددٌ كبير من الدراسات القديمة والحديثة لحصر المفردات التي دخلت إلى العربية من لغات أخرى، أو لإثبات أثر العربية في غيرها[10]. ومن مزايا هذا التفاعل أن لغات الكثير من الشعوب الإسلامية دخلت طور الكتابة لأول مرة بواسطة الحرف القرآني، بل أثبتت دراسات لغوية حديثة أن النسق الصرفي والتركيبي تحسن في لغات بسد ما به من الثغرات لما احتكت بالعربية، ومن ذلك اللغة الإسبانية التي تفاعلت مع العربية في الأندلس، كما جاء على لسان أحد المتخصصين: «إن فضل العربية على الإسبانية في تطورها فضل مزدوج؛ فمن جهةٍ نجد الجانب المادي الذي يكمن في الألفاظ والمصطلحات والأنساق البنيوية العربية، ومن جهة أخرى كانت العربية بمثابة الحافز الذي جعل الإسبانية تبحث عن صيغٍ وأدواتٍ تمكنها من التعبير عن مفاهيم جديدة. فالعربية إذاً كانت كتلك المرآة التي أظهرت للإسبانية جوانب نقصها فعملت على تداركها»[11].

ومن الثوابت التاريخية أن اللغة العربية لم تدخل أبدًا مع أية لغة قومية احتكت بها في علاقة قوة، أو صراع استئصالي، حتى ولو كانت لغة قبلية في ركن من وطن الإسلام. وهو ما حصل بينها وبين الأمازيغيات لغات الكثير من القبائل الصغيرة المتناثرة في رقعة واسعة من وطن الإسلام[12]. بل حرصت العربية على استمرار لغات الأمصار حيةً، فقاسمتها وظائف التواصل القطاعي، وأمدت الشفويً منها بالحرف القرآني فأصبحت لغة مكتوبة، ونقلت إليها بالترجمة كتبًا من الفقه الإسلامي ليعرف الأمازيغي بلغته شرع الله فيقلع عن أزارفه الوثنية. وبهذا الأسلوب ساعدت لغات المسلمين الفتية على البقاء والاستمرار قرونًا عديدة. ولم تدخل مع إحداها في صراع استئصالي إلا بإرادة من الحركة البربرية المصنوعة حديثًا في باريس لمناهضة العربية وثقافتها الإسلامية ومناصرة الفرنسية وثقافتها النصرانية في ثوبها العلماني الجديد، مع تغليف كل ذلك بمشروعية إحياء الهوية الأمازيغية لغةً وثقافةً.

إن معرفة لسان حضارة القرآن لا يُبرر فقط بما سرد من المنافع، لأنه يتيح أيضًا إمكانية الاطلاع على إرثٍ فكري متنوع الحقول، متماسك البناء، متميز «الأُنموذج»[13] يمكن استثماره من لدن العلماء لإقامة نظريات إيمانية بشروط هذا العصر تغطي كل التخصصات الدقيقة وفي مختلف المجالات العلمية وتطبيقاتها الميدانية.

حيوية اللغة

يُتحدث في اللسانيات الاجتماعية التي تعني تبادل التأثير بين البنيتين اللغوية والبشرية عن حيوية اللغة إذا استجابت لثلاثة شروط:

الأول: شرط داخلي يخص اللغة في حد ذاتها، وتكون منها بالاستجابة إذا كان الحرص من الجميع على:

(أ) الفصل بين ما ينتمي من اللغة العربية إلى تاريخها وما ينتمي منها إلى حاضرها.

(ب) الإثراء المتنامي لمعجمها بالمفردات العامة والمصطلحات الخاصة، مع الدقة في صياغة معاني الأولى ومفاهيم الثانية، وإتقان تركيبها في الخطاب. يضاف إلى ذلك إخلاؤه من المفردات المرتبطة ببيئة منقرضة دون إهمالها في قاموس تاريخي.

(ج) تهذيب نطائق اللغة بصقل أجراسها حتى يخف التلفظ بها على اللسان وتنتشي بسماعها الآذان.

(د) ترك المكررات المعجمية والصرفية والتركيبية في المدونة التاريخية للغة العربية.

الثاني التوظيف التام للغة العربية:

(أ) بأن يتواصل بها في أوطانها كل الناشئين في بيئتها.

(ب) بأن يستغرق التواصل بها كل القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ونحوها، مهما كثرت التفريعات منها ودقت التخصصات.

الثالث شرطٌ يرتبط باللغة من جهة المستعمل المنتظر؛ ويتحقق باكتساب العربية لناطقين جدد بها من غير أن تفقد بعضًا من أهلها الناشئين في بيئتها. وهذا الشرط في متناول اليد بسبب التزايد المستمر للراغبين في اكتساب اللغة العربية من الملايين المؤلفة من المسلمين الناطقين نشأة بغير العربية.

وبغير تضافر الشروط الثلاثة، لشدة ترابطها وتكاملها، تفقد اللغة العربية وكل لغة حيويتها، ويتسارع إليها الوهن ويتعاظم على مر العقود. حتى إذا استشرى الداء في أوصالها فإما أن يتداركها أهلها بتغيير ما في نفوسهم نحوها وإما الدخول في طور الغيبوبة المنتهي بالانقراض، شأنها في ذلك شأن كل عضو يفني بالإهمال ويحيى بالاستعمال.

تبسيط وصف العربية فرض كفاية

أكثر أهل اللغة مساءلة عنها هم حملة علمها ممن تفرغ لدراستها وتلقى عوضًا من الاشتغال بوصفها. وإن أول حق اللغة على اللساني المتخصص في دراستها لهو الصدق في كل ما يعد به ويُعاهد عليه.

وإذا كان لكل شيء آفة فإن آفة علم اللغة فضلاً عن النسيان تفريخ «اللسانيين» غير المأمونين وتراجع أهل الثبت والأمانة والاستقامة في وسط المشتغلين بالمعرفة اللغوية تحصيلاً وتطويرًا.

قد لا يستساغ حاليًا في وسط اللسانيين وغيرهم ما ألفه السلف قديمًا من تصنيف لأهل العلم في كل ميدان إلى طبقات، وتجميعهم في مراتب بحسب منازلهم العلمية في تخصصاتهم الدقيقة[14]. ولا يستهجن هذا العمل إلا متمسك بشعار “من تناظرت شهاداتهم الجامعية تساوت مراتبهم العلمية،” ومنكِرٌ للتفاوت الطبيعي لهمم النفوس في إحكام العلم وإتقان المعرفة المتناسب مع التفاوت الخِلقي في الملكات الذهنية. ولما هُجرت المقاييس المعرفية «أُخذ العلم عمن لا يعلم ولا يفقه ولا يُحس، يُفهِم الناس ما لا يفهم ويعلمهم عند نفسه وهو لا يعلم، يتقلد كل علم ويدعيه، ويرى كل إفك ويحكيه، يجهل ويرى نفسه عالمًا، ويعيب من كان من العيب سالمًا»[15]. ولن يستقيم أمر العربية وخاصَّةُ أهلها المشتغلين بدراستها لا يَصْدُقُونَها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* محمد الأوراغي (2010). لسان حضارة القرآن. ط. 1. الجزائر العاصمة: منشورات الاختلاف. 248ص.

** باحث لغوي وناقد أدبي مغربي.

[1] للوقوف على المزيد من النماذج أعلاه أنظر التعقيب الذي نشرناه بعنوان «التبعية اللغوية أساس التخلف الشمولي» في الملحق الثقافي من جريدة العلم ليوم السبت 11 نوفمبر 2000 ردًا على سلسلة من المقالات التي أعدها الدكتور محمد معموري بتمويل من البنك العالمي، ونشرها في جريدة العلم صيف 2000. ومعموري هذا باحث تونسي وأستاذ بجامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية.

[2] سورة المائدة، الآية: 24.

[3] لعل استحضار سياق العبارة أعلاه يوضح القصد أكثر. فقد جاء في سيرة ابن إسحاق أن عبد المطلب بن هاشم، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، أتى ملك اليمن أبا يكسوم أبرهة بن الأشرم وهو على رأس جيشه في مشارف مكة قاصدًا هدم الكعبة، ودخل عليه «فسأله أبو يكسوم ما حاجتك؟ فقال حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدمتك، فقال أبو يكسوم: والله لقد رأيتك فأعجبتني، ثم تكلمت فزهدت فيك. فقال له: ولم أيها الملك؟ قال: لأني جئت إلى بيت هو منعتكم من العرب وفضلكم في الناس، وشرفكم عليهم، ودينكم الذي تعبدون، فجئته لأكسره. فسألتك عن حاجتك، فكلمتني في إبلك، ولم تطلب إلى في بيتكم. فقال له عبد المطلب: أيها الملك إنما أكلمك في مالي، ولهذا البيت رب هو يمنعه، لست أنا منه في شيء، فراغ ذلك أبا يكسوم، وأمر برد إبل عبد المطلب عليه» انظر حديث الفيل في السيرة النبوية لمحمد بن إسحاق.

[4] سورة البقرة، الآية 143.

[5] سورة أل عمران، الآية 105.

[6] يكون الواحد في «مرتبة الناطق» إذا سقط عنه كل تكليف لغوي إلا تكليف الاكتساب؛ إذ اكتساب العربية فرض عين باللزوم لا يسقط عن مسلم أيًا كانت لغته القومية، ويكون في «مرتبة السائس» كل من يتولى تدبير شؤون الناس ضمنها الشأن اللغوي، وزاد على مرتبة الناطق بفرض تكليف لغوي مناسب. ويحتل «مرتبة الدارس» شخص تخصص في اللغة دراسة أو تدريسًا أو هما معًا، وزاد على مرتبة الناطق بفرض تكليف لغوي خاص.

[7] للمقارنة بين اللغات البشرية في مستوى المبادئ الأولية والقواعد النحوية وضعًا نظريات اللسانيات النسبية إطارًا للأنحاء النمطية ونشرناها في أعمال كثيرة منذ 1995، منها كتاب الوسائط اللغوية: 1. أفول اللسانيات الكلية، والوسائط اللغوية، 2. اللسانيات النسبية والأنحاء النمطية.

[8] يصح المثبت أعلاه إذا صدر عمن نشأ أصلاً في وسط غير عربي وتعلم العربية عن كبر، وتخصص جامعيًا في نحو العربية واللسانيات الحديثة، ومهنيًا في مجال تعليم اللغة العربية لأهلها وللناطقين بغيرها، فكان منه التأطير العلمي والتربوي لعدد كبير من الدورات التدريبية لتكوين المكونين في نفس المجال وفي الكثير من البلدان الإفريقية والآسيوية والأوربية، وذلك لفترة لا تقل عن ثلاثين سنة من البحث الأكاديمي والتطبيق الميداني..

[9] انظر كتابنا اللسانيات النسبية وتعليم اللغة العربية.

[10] انظر مثلاً مقال الدكتور عبد الوهاب عزام «صلات اللغة العربية واللغات الإسلامية»، المنشور في العدد 7/1956 من مجلة مجمع اللغة العربية.

[11] الدكتور الحسين أبو زينب، الترجمة بين العربية والإسبانية، مقال منشور في مجلة التاريخ العربي، العدد 2/ 1997.

[12] للمزيد من التفصيل راجع كتاب محمد الأوراغي، «التعدد اللغوي؛ انعكاساته على النسيج الاجتماعي»، من منشورات كلية الآداب جامعة محمد الخامس أكدال الرباط 2002.

[13] الأنموذج مستعمل هنا في مقابل paradigme وبمعناه الاصطلاحي لدى Thomas Samuel Kuhn كما جاء في كتابه المنشور سنة 1962 La structure des revolutions scientifiques.

[14] من جملة ما ألف قديمًا في الموضوع كتاب «طبقات النحويين واللغويين» لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي الأندلسي، وكتاب «مراتب النحويين» لأبي الطيب اللغوي، وكتاب «بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة» لجلال الدين السيوطي، ومنه مقدمة الأزهري لمعجمه «تهذيب اللغة» إذ بدأ بتصنيف المعجمين بناءً على كفاءتهم العلمية في هذا المجال، ورتًبهم في أربع طبقات. في صدر الأولى ذكر الخليل بن أحمد صاحب معجم العين. ومن جملة ما وصفه به قوله: «وكان من أعلم الناس بألفاظ العرب ونوادر كلامهم وفصيح أشعارهم وسائر أمثالهم»، ومن الطبقة الرابعة ابن دريد مؤلف كتاب «جمهرة اللغة»، وقد قال فيه وفي علمه: «وممن ألف في عصرنا الكتب فوسم بافتعال العربية وتوليد الألفاظ التي ليس لها أصول وإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامهم أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد صاحب كتاب الجمهرة» انظر مقدمة التهذيب.

[15] أبو الطيب اللغوي مراتب النحويين، ص19.

عن محمد الأوراغي

شاهد أيضاً

اللغة والإبداع والتعليم

تأليف: أ. د. مختار الغوث

عرض: أ.تقى محمد يوسف

يشير المؤلف إلى العلاقة الوطيدة بين اللغة والإبداع؛ فالإبداع لا يتأتى إلا من خلال استيعاب العلوم، ولكي يتم استيعاب العلوم بشكل تام لا بد من فقه اللغة التي يتم التعلم بها.

اللغة هوية

تأليف: أ. د. مختار الغوث

عرض: أ. أحمد محمد علي

ترتبط الفكرة العامة للكتاب باللغة العربية وتحديات العصر، نظرًا لارتباط الأمم بلغاتها، وكونها مفاتيح عقولهم، ومستودع تواريخها وثقافتها، ومرآة لعلومها وأفكارها وهويتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.