العنوان: نحو تأصيل لفقه الحياة: الطفولة نموذجًا.
المؤلف: شريف عبد الرحمن، مدحت ماهر، منال يحيى، هبة مشهور، مهجة مشهور.
إشراف: علي جمعة.
الطبعة: ط. 1.
مكان النشر: القاهرة.
الناشر: نهضة مصر للنشر.
سنة النشر: 2011.
الوصف المادي: 238ص. ، 24 سم.
الترقيم الدولي الموحد: 6-1404-14-977.
في ظل المشكلات التي تواجهها الأمة الإسلامية اليوم وعلى رأسها مشكلة مستوى الخطاب الديني الذي لا ينهض باحتياجات الأفراد أو المجتمعات ولا يقوم بتوجيههم نحو واجبات الوقت ومساحات الفاعلية، فيجد الناس أنفسهم متخبطين غير قادرين على تفعيل نصوص الوحي في حياتهم اليومية رغم إيمانهم المجمل بالوحي، في ظل هذا كله يحاول هذا المشروع البحثي -الذي يمثل هذا الكتاب أحد أجزائه- تجسير الفجوة بين نصوص الوحي وبين الواقع. وانطلاقا من ضرورة تفعيل الوحي على كافة تفاصيل الحياة تقوم الدراسة بالرجوع إلى المصادر -القرآن والسنة- لا للقفز على جهود السابقين، بل لإكمال البناء وللكشف عن أدوات جديدة يمكن لها أن تفتح الباب أمام آفاق ومعانٍ جديدة نحتاجها اليوم للتعامل مع الواقع ومشكلاته.
ويرى المشروع في السيرة النبوية –تحديدا- إمكانات تنظيرية وتأصيلية تحتاج إلى الاهتمام بها واكتشافها. لذلك، يهدف المشروع إلى “تأصيل رؤية اجتهادية تتخذ من السيرة النبوية مرتكزا أساسيا لها، وتجتهد للوصول إلى القواعد والآليات التي كانت وراء تطبيق النص المطلق (القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة) على الحياة اليومية للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم”.
ويفرق المشروع بين الرؤية الاجتهادية التي يهدف إليها وبين المعالجة الفقهية السائدة؛ فالثانية أصبحت تتسم بغلبة المعايير الموضوعية الإجرائية عند تصديها للموضوعات المختلفة، كما تختزل العقلية المسلمة في ظاهر الأحكام من حلال وحرام ومندوب ومكروه ومباح دون استيعاب حقيقي للمعنى الذي تتضمنه هذه الأحكام و”الجوهر القيمي المطلوب إرساؤه، والأفق المقاصدي الواجب توخيه وتحقيقه من وراء الحكم”. أما الرؤية الاجتهادية التي أتى بها المشروع والتي تبلورت فيما أسماه أصحاب المشروع بـ”فقه الحياة” فيشمل خمسة عناصر يكمل بعضها بعضاً، وهي المقاصد، والقيم، والسنن، والغيب، والأحكام الشرعية، حيث تتضافر الأحكام الشرعية مع القيم والمقاصد والسنن لتخرج رؤيتنا للموضوع محل البحث متوازنة ومستوعبة لكل الأبعاد.
وقد تم اختيار موضوع الطفولة في هذه الدراسة باعتباره مجالاً محدداً للدراسة حيث تم تتبع كيفية قيام الرسول الكريم بإنزال القواعد الواردة في النص المطلق في موضوع الطفولة على الحياة اليومية بجزئياتها المختلفة، ومن هنا تم استخراج العناصر الخمسة التي مثلت طرح منهجي يمكن تفعيله بعد ذلك في كافة الموضوعات الحياتية.
وبناءً عليه، تم تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أقسام رئيسية؛ يتناول القسم الأول التصور القرآني للطفل من خلال استقصاء جميع الآيات التي تحدثت عن الطفل ووضع الآيات تحت عناوين مناسبة، ثم يقوم القسم الثاني باستقصاء الأحاديث الواردة في السيرة النبوية والتي انطوت على أحكام أو إشارات أو مواقف حياتية ذات صلة بموضوع الطفولة، من هذين القسمين توصل الكتاب إلى “نسق متكامل من المواقف والإشارات ترسم صورة حية لمنظومة الطفولة كما ينبغي أن تكون في حياة المجتمع المسلم، كما خلص إلى نظرية موضوعية قيمية قابلة للتفعيل في رصد أحوال الطفل بل علاقات إنسانية عديدة”. وبالتالي، ينتهي الكتاب بالقسم الثالث الذي يتناول الاستخلاصات المنهجية التي تم التوصل إليها ويبلورها في العناصر الخمسة لمنظومة فقه الحياة، ويضع ضوابط تشغيلها وتفعيلها، كما يذكر الثمار المنهجية والتربوية التي يمكن أن يؤدي إليها إعمال وتفعيل المنظومة في الموضوعات المختلفة.
وقد بدأنا هذا العرض المختصر للكتاب بما انتهى إليه المؤلفون؛ حيث ينقسم العرض إلى 6 أقسام بعناوين العناصر المكونة لمنظومة فقه الحياة وهي: الغيب، والفطرة، والقيم، والسنن، والمقاصد، والأحكام الشرعية؛ لنرى كيف يتناول كل عنصر موضوع الطفولة فيضئ فيه إضاءات لنخرج من العناصر كلها بصورة كلية عن الطفولة والتربية تراعي الفطرة والإيمان والتشريع.
أولا- الإيمان بالغيب:
الغيب هو المساحة غير المدركة بمجرد العقل والحواس التي توازي الواقع المشاهَد، ويتضمن الغيب العديد من المفاهيم الإسلامية التي يستحضرها المسلم في حياته اليومية مثل البركة والرزق والتوفيق الإلهي … التي تدخل في إطار قدرة الله وحكمته وقدره. وتتسع دائرة الغيب عند المسلم وتعتبر جزءا أساسيا من وجوده، لذلك تكون رؤيته مركبة تتعدى الإيمان بالواقع لتشمل الإيمان بالغيب وآثاره على الواقع. إذن يمكننا القول أن الإيمان بالغيب يؤثر في تصورات المسلم للوجود والحياة والمعرفة، مما يجعل نظرته للموضوعات المختلفة أكثر عمقاً وذات أبعاد أخرى مما لو اقتصر على ما هو ملموس ومشاهد حوله.
وتقسم الدراسة الغيب إلى قسمين رئيسيين: الغيب المطلق وهو ما لا يدركه الإنسان بالعقل أو الحس ولا يستطيع معرفته سوى من خلال الوحي الإلهي، فالحقائق الغيبية الكبرى مثل معرفتنا بالملائكة والروح وعلم الساعة لا يستطيع العقل إدراكها أو الاهتداء لها وحده، وبالتالي يحتاج إلى مصدر متعالٍ ليعرّفه بهذه الأمور الغيبية، مما يقتضي اعتماد الوحي كمصدر أصلي للمعرفة والأخلاق. والقسم الثاني هو الغيب النسبي وهو ما لا يدركه الإنسان بحواسه، لكنه يسعى من خلال البحث إلى تقليل مساحة هذا المجهول ونقله إلى مجال المعرفة البشرية باستخدام الأدوات التي أمده الله بها من سمع وبصر وفؤاد وغير ذلك.
ومن الضروري الإشارة إلى أن المفاهيم الغيبية الفاعلة في حياة المسلم -من مفاهيم البركة والرزق والتوفيق…- هي من المفاهيم الأساسية التي يتم استحضارها أثناء عملية الاجتهاد في فقه الحياة.
فالإيمان بالغيب واستحضاره يمكّن من السعي من أجل تحقيق مقاصد وقيم بعينها في إطار من التوكل واستيعاب محدودية علم وقدرة الإنسان مما يحول دون تجبره أو زهوه بقوة أو بنجاح. وهذه أبعاد وإمكانيات تستوعبها منظومة فقه الحياة جيداً على عكس المنظومات المادية. والغيب المُدرك في هذه المنظومة يمكن الانطلاق منه للحديث عن القيم المطلقة المتجاوزة والمقاصد الشرعية الكلية وغير ذلك من عناصر فقه الحياة الأخرى.
تجليات الغيب في موضوع الطفولة:
بالتطبيق على موضوع الطفولة، يمكن رؤية أركان الإيمان بالغيب كلها بوضوح في ممارسات الحياة اليومية للرسول صلى الله عليه وسلم. فالإيمان بالله تعالى يوضح العلاقة التي تجمع بين الوالد وولده، فالله وحده هو الخالق الرازق المدبر لهذا الطفل الضعيف، فلا يركن الوالدان إلى أنفسهما أو حولهما.
هذا الإيمان بالغيب -من إيمان بالله والملائكة والرسل والوحي واليوم الآخر- يضفي أبعاداً كبيرة على عقلية المربي أو الوالد في عملية تربيته، كما يضفي أبعاداً أخرى على تلك العلاقة التي تجمع بين الوالد وولده. وهذا من مقتضياته: الدعوة إلى الإيمان والحرص على إيصاله وتعليمه الأبناء؛ كما في وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام لأبنائهما “وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ”. ومن أولى أوليات تعليم الإيمان: الحرص على تعليم الأبناء القرآن الذي يعلّمهم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، لذلك تأتي تربية الأطفال على القرآن وبه ومنه ضرورية؛ بحيث يصبح من أهم غايات التربية إخراج طفل قرآني وإعداده ليكون لبنة في صرح جيل قرآني جديد مجدد للدنيا بالدين.
وتأتي المفاهيم الغيبية واضحة في القرآن والسنة، بل يدلنا الله على كيفية الوصول إلى النتائج الإيجابية المرجوة منها؛ فالبركة والرزق يُستجلبان بالدعاء وبالتعوذ من المكاره؛ كما قال زكريا عليه السلام “قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ”، فجاءه الرزق والولد؛ “فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ.“
ثانياً: الفطرة:
يرجع معنى الفطرة -المذكور في القرآن- إلى ثلاثة معانٍ رئيسية: الأول: هو الأصل العقدي الذي خلق الله تعالى الإنسان عليه، بحيث تصبح الفطرة هي الإسلام أو الإيمان، ويدل على ذلك قول الله تعالى “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ”. أما المعنى الثاني هو الفَطْر؛ أي أن الله تعالى خلق الإنسان على السوية الأصلية من الميل إلى الخير والانصراف عن الشر، ويدل على هذا المعنى آيات مثل قوله تعالى “إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ”. ويأتي المعنى الثالث للفطرة ليدل على خلق الله تعالى للسماء والأرض إبداعاً على غير مثال سابق.
وتتعامل هذه الدراسة مع المعنى الثاني للفطرة باعتبارها المكون الناتج عن خلق الإنسان على السوية. وتتكشف لهذه الفطرة خصائص، منها: اشتمالها على مكوني الثبات والتغير. فالثابت هو مجئ كل إنسان إلى هذه الحياة مُسوى على الفطرة؛ التي هي الدين القيم كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “كل مولود يولد على الفطرة”. أما المتغير فهو مدى الاستجابة لهذه الفطرة؛ أي مدى تفعيل الفطرة في حياته، وهذا قد يتغير بفعل عوامل خارجية كالمجتمع والأبوين كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”، وقد يتغير بعوامل داخلية من الاختيار والإرادة عند التكليف.
من هنا، يمكن رؤية دور الفطرة في بناء وتوجيه العلاقات بين الخالق ومخلوقيه؛ فالله تعالى فَطَر الإنسان فطْراً على السوية، وفطرةً على الميل إليه وإلى معرفته وطاعته سبحانه وتعالى. ومن الملاحظ أن الفطرة تأتي في القرآن بشكل مسلّم به، فلا يقوم القرآن بإثباتها أو البرهنة عليها، بل يتجاوز ذلك إلى استعمالها وتشغيلها وتذكير الإنسان بها حتى يلتزم بالتكاليف الشاقة.
تجليات الفطرة في مجال الطفولة:
هذا الطفل إنسان ضعيف لا يقدر على شيء، كما أنه لا يكتسب أفعاله عن عمد وكمال عقل، لذلك فهو محتاج إلى إمداد رباني ورعاية أبوية تحفظ هذه الفطرة التي خُلق عليها وترعاها. ومن أجل هذا، نجد الطفل محاطا بعلاقات فطرية وغريزية مع أبويه، فحب الولد فطرة ثابتة، فقد قال الله تعالى “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ”.
كما أن الحديث عن الفطرة يسمح لنا بمراعاة حاجيات الطفل الفطرية مثل حاجته للعب. وقد راعى الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحاجة الفطرية عند من حوله، كما فعل مع السيدة عائشة رضي الله عنها حين قالَ لها يومًا: ما هذا؟ قالَت: بَناتي، قال: ما هذا الَّذي في وسْطِهِنَّ؟ قالَت: فرسٌ. قال: ما هذا الَّذي علَيهِ؟ قالَت جَناحانِ، قال: فرَسٌ لها جَناحانِ؟ قالَت: أوَ ما سمِعتَ أنَّهُ كانَ لسُلَيمانَ بنَ داودَ خيلٌ لَها أجنِحَةٌ، فضحِكَ رسولُ اللهِ حتَّى بدَت نواجِذُهُ.
الفطرة تحرك وتتدافع مع مقتضيات الإيمان والتشريع: هذه العلاقة الفطرية بين الوالد وولده هي مسلمة في القرآن يتم استعمالها وتحريك نوازعها للإلزام بالتكاليف الشرعية أو التأكيد على مسائل الإيمان. فقد تم توظيف الفطرة كمحرك للأمر بنبذ الرياء وتحقيق الإخلاص في قوله تعالى “أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ”. وفي التأكيد على مسائل الإيمان تم توظيف العلاقة الفطرية في مثل قوله تعالى “فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين”.
وقد تتدافع هذه الفطرة مع مقتضيات التشريع والإيمان، فكما أن حب الطفل فطرة، فهو أيضا فتنة وابتلاء؛ “وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ”؛ فعمق المحبة الفطرية قد يحجب حقائق مهمة، بل قد يمنع من تأدية الواجبات، وفي هذا يشير الرسول صلى الله عليه وسلم أن “الولد مبخلة مجبنة”؛ أي أن الولد سبب لجبن وبخل والده الذي يخاف على نفسه وماله من أجل ابنه.
لذلك، فقد جاء الوحي بضبط آثار هذه الفطرة وبكشف حقائق الفطرة ومزيفاتها، ويظهر هذا أوضح ما يظهر في كثير من قصص الأنبياء -عليهم السلام- التي عبرت عن نماذج مختلفة ومتنوعة في العلاقات التي تجمع بين الوالد وولده. فرغم كون الحب بين الوالد وولده فطريا موافقا لهوى النفس، فإن من مقاصد الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه؛ حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا. وقد ظهر هذا التدافع بين الفطرة والإيمان في قصة نوح عليه السلام مع ابنه؛ “إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي” “إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ”.
ثالثاً: المقاصد:
المقاصد هي الأهداف المعتبرة شرعا والمراد تحقيقها في كل مجال من مجالات الحياة، وهي تمثل الغاية وراء الفعل. وللمقاصد اعتبارات عديدة؛ من أشهرها الكليات الخمسة وهي حفظ الدين والعقل والنفس والعرض والمال. ويمكن التعامل مع المقاصد على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع كمقصد حفظ الأمة مثلا. كما يمكن النظر للمقاصد باعتبار النتائج المرجوة؛ فالمقصد وراء أي فعل حضاري هو أحد أمرين: إما دفع الضرر، وإما جلب المصلحة.
وتكون معرفة مقاصد الشريعة والنظر من خلالها أمر ضروري لأي عملية اجتهاد، وكان العلماء واعين بأهمية الدور الذي تلعبه في عملية الاجتهاد واستنباط الأحكام، وقد نصوا على أن العلم بالمقاصد هي إحدى المعارف الرئيسية للمجتهد؛ فيقول الإمام الشاطبي: “لاستنباط أحكام الشريعة ركنين: أحدهما: علم لسان العرب، وثانيهما: علم أسرار الشريعة ومقاصدها”.
وفي منظومة فقه الحياة، تقع المقاصد في المقدمة؛ بحيث تتحرك باقي عناصر فقه الحياة نحو تحقيق هذه المقاصد، وبحيث تكون الأحكام الشرعية الجزئية متسقة مع المقاصد الكلية، ومن ثم تصبح المقاصد هي المعيار الاختباري لمدى سلامة السعي لتحقيق فعل العمران. إلا أنه من الضروري الانتباه إلى الدعاوى المنتشرة التي تستخدم مقاصد متوهمة تتوافق مع سلطة الثقافة الغالبة وتكون رهينة ضغط اللحظة الراهنة، فتعود على منظومة الفقه الإسلامي والأحكام الجزئية بالإبطال والإلغاء باسم روح الإسلام أو كلياته.
مقاصد تربية الطفل:
ويقترح مؤلفو الكتاب أن المقصد من تربية الطفل هو “الوصول به إلى الصورة المثلى في دينه وعقله ونفسه وحفظ ماله وكرامته لإعداد إنسان متكامل وبناء جيل جديد قادر على استلام عبء الاستخلاف من جيل سابق له”. وهذا المقصد يتبدى وراء القيم والأحكام المتعلقة بمجال الطفولة، فنجد مثلاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمح لهند امرأة أبي سفيان أن تأخذ من مال زوجها دون علمه لتحفظ نفسها وكرامة أبنائها قائلا لها “خذي أنتِ وبنوكِ ما يكفيكِ بالمعروف”.
ومما يقع من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيقا لهذا المقصد؛ تهيئة الطفل نفسيا وإعداده لتولي مواقع القيادة حسب قدراته وإمكانياته، وقد مارس النبي الكريم هذا الأسلوب مع العديد من الصحابة مثل الحسن بن علي حين قال “ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين”، ومثل عبد الله بن عباس الذي دعا له الرسول قائلا “اللهم فقهه في الدين”، فيتهيأ وجدان الصبيين وتتفاعل نفسيتهما مع كلام الرسول صلى الله عليه ويعملان على جعله واقعاً لهما.
رابعاً: السنن:
تشير السنن إلى القوانين الإلهية الحاكمة للفعل الإنساني، والتي يجدر بنا الوعي بها لأنها تمثل الإطار الذي يمكن للفعل البشري التحرك وِفقه. فإذا كنا نريد أن نجتهد في الأمور الحياتية ونصوّب رؤيتنا لها، نحتاج إلى استكشاف القوانين الربانية الفاعلة في كافة المجالات الحضارية، فبمقدار وعي الإنسان -والمجتمع- بالسنن وتفاعله معها وتفعيله لها، بمقدار ما يتلمس النتائج في المجالات المختلفة، وبمقدار ما يدرك مظاهر عدل الله تعالى وحكمته وعلمه ولطفه.
والسنن قسمتها الدراسة إلى قسمين رئيسيين: الأول: يشمل السنن الثابتة التي تجري على كل البشر بدون أي تدخل إرادي من قِبل الإنسان، مثل السنن الكونية والموت والحياة التي لا يستطيع الإنسان تغييرها أو التعامل معها إلا بالتسليم والصبر. أما القسم الثاني فيشمل السنن الشرطية المرتبطة بالفعل البشري على سبيل السبب والنتيجة، وهذه السنن يؤثر فيها الإنسان بمقدار وعيه وإرادته، مثل سنة التدافع؛ “وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض”، فهذا التدافع بين الناس هو ما يمنع من فساد الأرض.
والسنن المتضمنة في منظومة فقه الحياة هي السنن الشرطية المرتبطة بالفعل البشري في شكل سبب ونتيجة والتي تكون إرادة الإنسان جزءا منها، وقد تكون سننا اجتماعية أو نفسية أو تاريخية. ويمكن تقسيم هذه السنن إلى سنن عامة يشترك فيها كل البشر دون تمييز، وسنن خاصة تكون مرتبطة بجماعة أو مجال حضاري بعينه.
ومعرفة هذه السنن والوعي بها يكون من أجل تفعيلها بما يحقق فعالية السعي القائم على حقيقة التكليف والاختيار وربط الأسباب بالنتائج، مع الإيمان التام بالمشيئة الإلهية الحاكمة لهذه السنن والمصرفة لها. فاعتبار السنن في منظومة فقه الحياة يدفع إلى نهج التفكير السببي والمنهجي الذي يربط النتائج بالمقدمات ويعي حقيقة التكليف والاختيار دون إهمالٍ لدائرة الغيب.
تجليات السنن في الطفولة:
قام الكتاب بالبحث عن السنن المرتبطة بالطفل، وإن كان من الصعب استيعابها جميعا، إلا أنه أرشد إلى بعض السنن المرتبطة به مثل سنن الفساد وأثره على الطفل؛ والتي تشير إلى أهمية البيئة التي يعيش فيها الطفل، فالطفل لا يعيش منعزلا مع والديه بل ينشأ في مجتمع له ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية معينة كلها تؤثر في نشأته وفكره وسلوكه. فإذا كانت البيئة فاسدة، فلا بد أن تؤثر في الابن.
كما يمكن الإشارة إلى سنن الابتلاء بالأولاد والآباء؛ فتكرار النماذج التاريخية في القرآن التي ظهر فيها الميل إلى الافتتنان بالأبناء أو بالآباء يشير إلى غلبتها باعتبارها سنة غالبة لا حتمية، مع ذلك يجدر التنبه لها. فالقرآن ينبه إلى فتنة الأبناء بالآباء عن طريق اتباع ملة الآباء دون بينة؛ “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ”. كما ينبه إلى فتنة الآباء بالأبناء في العديد من الآيات مثل “كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ”.
خامساً: القيم:
القيم المقصود بها في فقه الحياة؛ مجموعة من المعاني الإنسانية العليا التي تتجلى في كل فعل أو قول للرسول صلى الله عليه وسلم، من هنا تشير الدراسة إلى ضرورة استحضار القيم في عملية الاجتهاد، حتى يكون اجتهادا متوازنا واعيا بالرؤية الإسلامية الكلية.
هذه القيم تمتاز بأنها مطلقة متجاوزة لأنها ربانية المصدر، وبالتالي فإنها متجاوزة للزمان والمكان ولا تسقط بالتقادم، فليست قيماً نسبية صادرة عن الإنسان المحدود. وهذا الإطلاق يمكن أن يحقق قاعدة للمشترك الإنساني النابع من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فليست قيماً خاصة بأناس معينين أو بزمان معين، بل يمكن تعميمها وإطلاقها.
ومن سمات القيم في الإسلام أيضاً أنها تظهر في الجانب التطبيقي على شكل تراتبي تختلف قمته حسب المجال محل الدراسة أو الاجتهاد، فكل مجال من مجالات الحياة له شبكة قيمية مختلفة الأولويات عن المجالات الأخرى، فأثناء دراسة موضوع ما من خلال منظومة فقه الحياة، من المهم استخراج القيمة الأكثر بروزاً من المواقف النبوية أو الآيات القرآنية التي تناولت هذا الموضوع؛ لأن هذه القيم العليا لها دور بالغ الأهمية في عملية الاجتهاد؛ فتكون أحياناً حاكمة على الحكم الفقهي نفسه، كما أن من المهم استنباطها إذا أردنا الوصول لرؤية كلية عن الموضوع محل الدراسة.
فإذا أخذنا مجال الاقتصاد -على سبيل المثال- نجد قيم الصدق والأمانة والحق بارزة بحيث تكون أوضح من غيرها. أما في مجال الطفولة، نجد قيمة الرحمة على رأس الأولويات القيمية من خلال تأمل المواقف والآيات المختلفة. وإذا انتقلنا إلى مجال نظام القيم السياسية، نجد العدالة على رأس الهرم القيمي، أما في مجال العبادات، فتبرز قيم الالتزام والتيسير.
تجليات القيم في الطفولة:
ففي مجال الطفولة تظهر الرحمة حاكمة في الأفعال اليومية؛ فنجد الرسول صلى الله عليه وسلم يتجوز في صلاته عند سماع بكاء طفل، أو ينتظر لعب الحسن والحسين على ظهره وهو ساجد فلا يمنعهما، رحمةً بهؤلاء الأطفال ومراعاةً لاحتياجاتهم من الحب والاهتمام.
ومحورية وأولوية قيمة الرحمة في التعامل مع الطفل نجدها في مشاهد عديدة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال الله تعالى عنه “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ”. فمن مظاهر رحمته عليه الصلاة والسلام: تقبيله واحتضانه لهم، ومداعبته إياهم كما فعل مع عمير، والدعاء لهم كما كان يدعو لأسامة بن زيد والحسن فيقول “اللهم أحبهما فإني أحبهما”، وغير ذلك من مظاهر رحمته عليه أفضل الصلاة والسلام. وهذه المشاهد كلها تعكس ضمنا التصور القرآني للطفل باعتباره مخلوق ضعيف لا حول له ولا قوة يحتاج إلى العطف والرحمة، كما تعكس أيضاً إعمال الفطرة وتزكيتها في التعامل مع الطفل، وتعكس إعمال الجانب الإيماني من خلال الدعاء للأطفال وإعدادهم لحمل الرسالة. كما أن هذه المشاهد تُظهر بوضوح كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل نصوص القرآن على الحياة المعيشة اليومية، فسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي بيان لكيفية تطبيق الوحي في الحياة اليومية حتى في أدق العلاقات كالعلاقة مع الأطفال، ومن هنا يمكن استخراج العديد من الطرق والوسائل بل والقواعد في كيفية تربية الأطفال والأبناء وتعليمهم دون الحاجة إلى برامج أو وسائل أو قواعد غريبة لا تستحضر عناصر الغيب والسنن والقيم والمقاصد، بل لديها تصور مختلف بالكلية عن هذا الإنسان وذاك الطفل.
بالإضافة إلى قيمة الرحمة المحورية، نجد غلبة قيم معينة على كل مرحلة من المراحل التي يمر بها الطفل؛ ففي مرحلة ما قبل التمييز تغلب قيم الرحمة والحنان مصحوبة بالزجر الهين، أما في مرحلة التمييز تغلب قيم المشاركة والمعايشة والتربية بالاصطحاب والتدريب على أفعال التكليف. ويدخل في هذا جملة من الأحاديث مثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم لعشر”، والعقاب هنا يهدف إلى الإصلاح والتوجيه لا مجرد إيقاع الأذى على الطفل.
سادساً: الأحكام الشرعية:
الأحكام الشرعية هي الإطار التشريعي الحاكم لفعل المسلم. وقد اهتمت المذاهب الإسلامية بالاجتهاد في هذه الأحكام، مما أدى إلى ظهور علم الفقه الذي اعتنى بتصنيف الأفعال بين حلال وحرام ومندوب ومكروه ومباح؛ فهو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية. ويشتمل فقه الأحكام على أحكام تضبط حياة الإنسان؛ منها ما هو منصوص عليه في الوحي بشكل مباشر، ومنها ما هو مستنبط وفق قواعد فقهية يسهل الاجتهاد في إطارها. ويمكن التمييز بين نوعين من الأحكام: نوع ثابت لا يتغير لا بحسب الزمان ولا المكان كوجوب الواجب وتحريم المحرم، أما النوع الثاني فيتغير وفق المصلحة زمانا ومكانا وحالا.
ويرى مؤلفو الدراسة أن هذا الفقه الحكمي الجزئي قد انسحب على كافة مجالات الحياة الإسلامية، وتحولت علاقات التراحم إلى علاقات تقاض جافة، وقد أضعف هذا من قدرات الاجتهاد الذي يُفترض أن يساير قضايا الواقع المتغير. ومن هنا، يرون الدور المهم الذي يلعبه فقه الحياة باعتباره فقهاً مكملاً للفقه الحكمي السائد اليوم؛ لأن فقه الحياة يسهم في إبراز أبعاد، منها: معالجة الجزئيات والحكم عليها من خلال كليات المنظومة، فيكون الحكم متسقاً مع القيم والمقاصد والسنن. كما أن فقه الحياة يُدخل القيمة باعتبارها أصلا في بناء الحكم الشرعي العملي.
وتعتبر الأحكام الشرعية في فقه الحياة السياج الواقي للاجتهاد والسعي، كما أنها تضبط عنصري الفطرة والإيمان؛ فالفطرة تدفع باتجاه الرشد والخير، والإيمان يوجه إلى التعلق بالله تعالى، لكن الإنسان قد يقع في معاركة بين فطرته وإيمانه وبين وساوس الشيطان وهوى النفس، فيحتاج إلى تشريع وأحكام تضبط له الأمور وتنير له الطريق في عبادته لربه في كل تفاصيل حياته.
الأحكام الشرعية المحيطة بالطفل:
وفي موضوع الطفولة، تأتي الآيات القرآنية المتعلقة بالأحكام الشرعية التي تتناول علاقات الوالد وما ولد في صورتين: الأولى تخص المكلفين في معاملتهم للأبناء، والثانية تخص الأبناء في تدربهم وتعلمهم ما يطيقون بشكل تدريجي.
فالوالدان مأموران ببعض التكاليف الخاصة بالطفل، إذ الطفل غير مكلف وغير قادر على حفظ نفسه وماله وعقله بنفسه. ومن ملامح ذلك: تكليف الوالدين بحفظ أبنائهم من كل صور الهلاك؛ حفظ أنفسهم ومالهم ودينهم. ومن التكاليف أيضاً: نسبة الأبناء لآبائهم، وتمييز المكفولين من غير ذوي الدم والرحم في الاسم، ورعايتهم في الرضاعة والنفقات، والرحمة بضعفهم، والجهاد في سبيل استنقاذ المستضعفين والمظلومين منهم.
وأما الأطفال فيتكلفون ما يطيقون كتدريب وتربية لهم، ويغلب أن يأتي التكليف لهم بشكل غير مباشر؛ أي من خلال وعظ الآباء لهم. لذلك، لا نجد في القرآن تكليفاً مباشراً للطفل.
وفي السيرة النبوية؛ يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى حقوق هذا الطفل الضعيف الذي لا حول له ولا قوة، كحقه في الحياة -على عكس عادات الجاهلية من وأد للبنات-، وحقه في إثبات نسب له، وحقه في الرضاعة، وحقه في النفقة. ومن حقوقه أيضا حقه في التسمي بالأسماء المباركة؛ فقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أسماء معينة يُسمى بها كأسماء الأنبياء وكعبد الله وعبد الرحمن، حتى أنه غيّر أسماء بعض الصحابة. فالاسم هو ركن أساسي في توصيف الطفل بين أقرانه، وفي الاسم الحسن ما يحفظ كرامة الطفل من استهزاء الآخرين ويزيد ثقته بذاته.
تشغيل منظومة فقه الحياة:
بعد استنباط هذه العناصر الخمسة من خلال دراسة موضوع الطفولة، يقدم الجزء الأخير من الدراسة منهجية لإعمال فقه الحياة على أي موضوع آخر. فمن أجل إعمال هذه المنظومة في البحث وفي السلوك من الضروري الالتزام بمعنى المنظومية الرابطة بين العناصر المختلفة، فلا يُكتفى بالتركيز على عنصر واحد، بل يتم التعامل مع العناصر أنها كلٌ متكامل، ويعتبر هذا هو الشرط الأساسي لتشغيل المنظومة.
وقد حددت الدراسة المراحل الآتية في تشغيل عناصر منظومة فقه الحياة:
-فقه الواقعة أو المسألة؛ ويكون هذا من خلال تحليل عناصرها الداخلية والوعي بالسياق الخارجي المؤثر فيها والمحيط بها، بهدف فهم المسألة محل النظر فهما عميقا.
-تحديد الحكم الفقهي المتعلق بالمسألة والأقوال المرتبطة بها.
-تحديد المقصد الشرعي الأكثر ارتباطا بالمسألة، وجعل هذا المقصد يقوم بتحديد الوجهة ووضع الحد. في هذه المرحلة يتم إدخال المقصد على الحكم الفقهي باعتباره موجهاً يتم الاختيار بين الأقوال على أساس الأقرب منها لحفظ هذا المقصد.
-تحديد القيمة العليا الحاكمة في المجال الذي تنتمي له المسألة، والكشف عن الحكم الذي يحقق هذه القيمة الإسلامية ورفض القول الذي يهدرها.
-وتأتي المرحلتان الأخيرتان باستحضار السنن الإلهية المتعلقة بالمسألة واستحضار الغيب.
وهكذا تتكون عقلية المسلم القادرة على ربط الشريعة بالحياة اليومية باتباع هذه الخطوات والتدرب عليها.
وتضع الدراسة بعض الضوابط لضبط عملية تشغيل المنظومة دون الوقوع في فخ السيولة:
-الضابط الأول: ضرورة استحضار جميع العناصر وأخذها كلها حتى تكون الصورة مكتملة.
-الضابط الثاني: ألا يعود فقه الحياة على فقه الأحكام بالإبطال أو التعطيل، كما أن فقه الأحكام ينبغي عليه ألا يرجع على عناصر فقه الحياة بالإغفال.
-الضابط الثالث: التأصيل من مرجعية إسلامية صافية؛ بمعنى استنباط مدلولات عناصر فقه الحياة من مرجعية إسلامية، مع الحذر من اشتباك المفاهيم والمصطلحات مع مرجعيات أخرى.
-الضابط الرابع: تناول عناصر القيم والمقاصد والسنن بمنهجية علمية عقائدية، لا بالاعتماد على مدلولات هلامية أو استعمالات جائرة لمفاهيم مثل المصلحة والحكمة والمقاصد.
وترى الدراسة أن فقه الحياة قد أعاد الاعتبار لما تم تصنيفه باعتباره فضائل نبوية ومستحبات مثالية ليس من باب التكليف الفقهي المستند الى حضور العلة، بل من باب المطلوب باسم المقصد والقيمة. ويعتبر هذا وجه بنائي تجديدي في فقه الحياة. فكثير من أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام تقع في هذا الباب ومن ثم يعد إغفالها إهدارا لمساحة تشريعية مهمة تحكمها المقاصد والقيم النبوية. فما أدرج في باب الفضائل إنما هي “مطلوبات تأسيسية”.
كذلك فإن إذا تشغيل عناصر فقه الحياة بهذه المنهجية قد يساعد على فهم العديد من الأحاديث والمواقف النبوية التي قد لا يسهل تفسيرها إذا أخذنا منطق التفسير الخطي البسيط. فإذا أردنا مثلا فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري عن أبي قتادة، قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها”. لفهم هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة التي تبتعد قليلا عن الحكم الشرعي المعتاد يجب أن نُعمل على تفعيل عناصر منظومة فقه الحياة. فنجد أن إدخال القيمة (قيمة الرحمة) على الحكم الشرعي أدى الى التخفيف من أحكام هيئة الصلاة.
يقدم فقه الحياة أيضاً أداة للاجتهاد النظري والحياتي؛ بحيث لا يتوقف المسلم عند سؤال الحلال والحرام الفقهي فقط، بينما مساحة كبيرة من الحياة تجري في الفواصل بينهما أي في المشتبهات. .
خاتمة وتوصيات
إذا كانت هذه العناصر مبثوثة بالفعل في واقع المسلمين كما في أذهانهم في العصور السابقة، يعيشون بها ويتحاكمون إليها ويفكرون من خلالها، فإن واقع المسلمين اليوم تفسخت فيه هذه العناصر ولم تعد مستحضرة في حياتهم اليومية، حتى أصبحت المسميات نفسها غير معروفة أو مفهومة. فقد كانت المؤسسات والشبكات الاجتماعية تغزل هذه العناصر وتبثها في كل مناحي الحياة حتى بدلالاتها لا بمسمياتها، أما اليوم فيندر أن توجد هذه العناصر في أي من المؤسسات أو البيئات التي يتعرض ويعيش فيها الفرد.
وإذا كنا نريد تفعيل هذه العناصر في الحياة اليومية حتى تصبح هذه العناصر الخمسة جزءا لا يتجزأ من عملية التفكير ومستبطنة في عقلية المسلم، تكمن البداية في تدبر وتأمل نصوص الوحي من قرآن وسنة والوقوف عند كل آية أو حديث أو فعل ومسائلته للخروج بالمقاصد والقيم المتضمنة والسنن التي تُعتبر قوانين سارية ومساحات الغيب الشاسعة التي لا تخلو آية أو حديث منها، والأهم من ذلك التأمل في مجموع الآيات أو الأحاديث الواردة في نفس الموضوع للخروج بقيم ومقاصد وسنن تشمل الصورة الكلية لا تقف عند التفاصيل الصغيرة فقط.
وبالعودة إلى موضوع الطفولة، يمكن الإفادة من منظومة فقه الحياة على مستويين:
الأول: المستوى النظري؛ حيث استخرجت المنظومة ملامح التربية والتنشئة من القرآن والسنة، وهو ما يسهل على الوالدين استحضار المعيار والنموذج في التربية، وهو ما يمثل بديلا عن مناهج التربية الحديثة التي وإن كانت تمد المهتمين بها بأدوات وخطوات واضحة تسهل من عملية التربية والتأديب، إلا أنها تنحي جانب الغيب بشكل تام، كما أنها تختلف في تصورها للعلاقة الفطرية بين الوالد والولد، ففي حين تكون العلاقة بين الوالد والولد في التصور الإسلامي علاقة تراحمية بالأساس، تكون العلاقة بين الوالد والولد في التصور الآخر علاقة تعاقدية تقوم على الفردانية وتعظيم “أنا” الوالد والطفل.
من جهة أخرى، يمكن الاستفادة -على المستوى النظري- من عناصر فقه الحياة لتفعيلها على موضوعات أخرى ملحة، وبالتالي تتبلور العناصر الخمسة ذاتها، وتصبح عقلية المسلم أكثر قدرة على التفكير بهذه العناصر في كافة المجالات والموضوعات، مما يعيد ربط عقلية المسلم اليوم بعقلية المسلمين الذين سبقوه وتُردم الفجوة التي أنتجتها الحداثة بين مسلم الحاضر ومسلم الماضي. فالفكرة مهما كانت صحيحة تحتاج إلى التفعيل سواء على المستوى النظري أو المستوى التطبيقي؛ لتظهر قيمتها الحقيقية ويستطيع الناس تلمس آثارها والاعتراف بأهميتها.
المستوى الثاني: المستوى الواقعي التطبيقي؛ ففي الكتاب إشارات مفيدة يجدر التنبه لها والعمل على تحويلها إلى واقع ملموس؛ مثل الإشارة في السنن إلى أهمية البيئة المحيطة بالطفل، مما يعني ضرورة السعي إلى صنع مجتمعات تربوية تحتضن الأبناء وتكون معينة للآباء في مهمتهم، بحيث لا يتم الاكتفاء فقط بالمدارس التي تركز على شق اكتساب المعلومات فقط، بل -وبصورة أشمل- يصبح من الضروري السعي لبناء مجتمع تراحمي حيث تكون الرحمة هي القيمة المحورية التي يتم التعامل مع الأبناء على أساسها.
وفي الحديث عن الإيمان بالغيب، كانت الإشارة إلى أهمية تربية الأطفال على القرآن وبه ومنه؛ علماً وعملاً وتخلقاً، وهذا يحتاج إلى العديد من الجهود المؤسسية والجماعية لتحويل هذه الفكرة إلى برامج تُنفذ وتشمل أكبر قدر ممكن من أطفال المجتمع ويغلب عليها طابع الاستدامة. وحتى المقصد من تربية الأطفال الذي تم اقتراحه يمكن الانطلاق منه في تصميم البرامج والقواعد والوسائل التربوية للأطفال، بحيث يصبح هذا المقصد هو المعيار والحاكم والرسالة في أي برنامج أو وسيلة يتم استحداثها لتربية الأطفال.
كما يمكن استعراض التحديات التي تواجه أطفال اليوم مثل تحدي وسائل التواصل الاجتماعي وانغماسهم في التفاهة وقلة المحاضن التربوية وقلة الوعي التربوي، ثم التفكير في حلول لهذه التحديات من خلال استحضار عناصر فقه الحياة. مثل هذا التفكير الذي يبني على مُخرجات عناصر فقه الحياة ويعمل على تحويلها إلى واقع ملموس في الحياة اليومية للأطفال هو ما يضمن أكبر استفادة ممكنة في حياة وواقع أطفال المسلمين.
عرض:
أ. تقى محمد يوسف*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحثة في العلوم السياسية.