أصالة الأفكار وفعاليتها

الصفحات التالية من كتاب “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”* لمالك بن نبي**

أصالة الأفكار وفعاليتها

فكرة أصلية لا يعني ذلك فعاليتها الدائمة. وفكرة فعالة ليست بالضرورة صحيحة. والخلط بين هذين الوجهين يؤدي إلى أحكام خاطئة، وتلحق أشد الضرر في تاريخ الأمم حينما يصبح هذا الخلط في أيدي المتخصصين في الصراع الفكري وسيلة لاغتصاب الضمائر.

إن الأصالة ذاتية وعينية وهي مستقلة عن التاريخ. والفكرة إذ تخرج إلى النور فهي : إما صحيحة أو باطلة. وحينما تكون صحيحة فإنها تحتفظ بأصالتها حتى آخر الزمان. ولكنها بالمقابل، يمكن أن تفقد فعاليتها وهي في طريقها؛ حتى ولو كانت صحيحة. فلفعالية الفكرة تاريخها الذي يبدأ مع لحظة (أرخميدس) حينما تأتي دفعتها الأصلية لتهز العالم، أو يعتقد فيها نقطة ارتكاز ضرورية لقلب ذلك العالم.

وبصفة عامة حين تبصر النور الأفكارأوالتي صنعت تاريخ العالم؛ فإنها دائما فعالة طالما أنها أثارت العواطف وشيدت شيئا أو هدمته، أنها اكتفت بقلب صفحة من صفحات التاريخ الإنساني. وليست هذه الأفكار بالضرورة صحيحة بأكملها

فالفكرة تكون صحيحة أو باطلة في المجال العقيدي والمنطق العلمي والاجتماعي لكن تاريخها لا يعتمد على خاصيتها الذاتية، بل يستند على تفجرها، على قدرتها داخل عالم ثقافي، وأخيرا على قوتها في الإطار العام الذي توجد فيه.

فمثلا فكرة الدورة الدموية هي فكرة طبيب عربي في القرن الثاني عشر الميلادي، هو: (ابن النفيس)[1]. لكنها لم تبدأ طريقها العلمي إلا مع الطبيب الإنكليزي (هارفي)[2] بعد أربعة قرون.

فالزمن الذي وجدت فيه هو الذي ألجأها إلى الاغتراب لتجد فرصها الفضلى للتطبيق فيما بعد. لكنها في النهاية قد ظلت أربعة قرون صحيحة وصادقة دون أن تكون فعالة، وهذا شأن كثير من الأفكار العلمية التي لاتصادف حين مجيئها إلى الدنيا لحظة (أرخميدس) إلا بعد زمن طويل.

إن نظرية امتداد العالم التي وضعها (لومتر Lemaitre)[3]عالم الرياضيات البلجيكي؛ لم تبدأ مجراها إلا مع (أينشتاين)[4] ونظرية الوراثة التي تعود إلى (مندل)[5] لم تحظ بلحظة (أرخميدس)، أي ساعة فعاليتها، إلاحين انطلاق مدرسة البيولوجيا الفرنسية والأمريكية في بداية القرن العشرين.

بالمقابل فالتاريخ يزخر بالأفكار التي ولدت باطلة، ليس فيها أصالة لكنها مع ذلك كان لها فعالية مدوية في أكثر الميادين تنوعا. وغالبا ما تكون هذه الأفكار محجبة مضطرة لحمل قناع الأصالة لتدخل التاريخ كلص يدخل منزلا بمفتاح مزيف؛ ف ( ليبنز Leibniz) [6] لم يكن فحسب رياضيا فذا، بل إنه قرأ دون شك (مكيافيلي)[7]، وفي تأملاته السياسية كان يوصي بإخفاء الدنيوي والنافع في ثوب المقدس؛ ذلك أن الفكرة إذا كانت فعالة في بعض الظروف فلأنها استطاعت أن تتمتع بخاصية القداسة عند أهل العصر.

لقد أودعت أوربة القرن التاسع عشر قدرها في ثلاث كلمات: العلم، التقدم، الحضارة. فكانت هذه أفكارا مقدسة سمحت لها أن ترسي داخل حدودها قواعد حضارة القرن العشرين، وأن تبسط خارج حدودها سلطتها على العالم.

وحتى قيام الحرب العالمية الأولى، لم تفلح أية ( هرطقة) ولم تتمكن أية معارضة من مواجهة هذه الأفكار.

لقد كانت فعالة! لافرق أصحيحة هي أم باطلة ، طالما كلُّ ينحني للقانون الأكثر فعالية والأقوى.

واليوم ماذا بعد الحربين العالميتين؟ لاأحد ينكر قوة هذه الأفكار في عالم الأشياء, لكن العالم كله اليوم وأوربة على الأخص تضع خصائص قدسية هذه الأفكار موضع بحث وتمحيص ..؛ حتى بعد الدقائق الخفاقة التي عاشتها الإنسانية جمعاء حين حط رواد الفضاء أرجلهم على سطح القمر[8].

وفي بداية العصر القرآني وحتى في أوج الحضارة الإسلامية كان يمكن لسوء نية أو لعمي في البصيرة إنكار أصالة الفكرة الإسلامية. وحتى أتباع الفكرة الإسلامية لم يكونوا بعد الفترة المحمدية متفقين في تنظيمها الفقهي، فكان منهم السنة والشيعة، والخوارج. لكن طابع الفكرة الإسلامية الآمر تزايد مع انتصارات السلطة السياسية، يعني فعاليتها. التي حددت ذلك المنطق العملي الذي استخدمه رسل عمر مع (رستم) قائد جيش الفرس عشية موقعة القادسية.

الانتصارات الباهرة التي أرست قواعد السلطة السياسية للامبراطورية الإسلامية قد نمَّت إذن منطق الفعالية. وهي في الوقت ذاته زادت من تعميق مفهوم أصالة الحقيقة الإسلامية في نفوس المسلمين، حتى إنه في عصر المأمون؛ وبينما كانت الحضارة تفيض على العالم بأنوارها التي كانت تسطع في بغداد وقرطبة، كان لايزال في الإمكان قبول أو إنكار أصالة الحقيقة الإسلامية، والتي كانت بالتالي موضوع مناقشة وجدل مع النصارى والصابئين في بلاط الخليفة وفي حضوره. إنما لم يكن باستطاعة أحد أن ينكر فعاليتها، من غير أن يكون محلا للسخرية. ثم امتدت القرون في تلك المرحلة الأفقية من التاريخ حيث لاتملك السمو أكثر من ذلك، إنما السير بعيدا إلى منحدر أفولها.

وفي هذا العصر حيث كانت الشمس في مغيبها كانت لاتزال العبقرية الإسلامية تخرج أروع الأعمال : الغزالي، وابن رشد.

وحينما أفلت الشمس في (بغداد) سطع فجر مزيف في (سمرقند) مع ملحمة (تيمورلنك)[9]. ولقد كان من أصالة الفكرة الإسلامية النافذة أن استمرت في كسب الأتباع، في إيمان شعوب بأكملها بالإسلام بعد سقوط القسطنطينية عام (1453)[10]. لكن فعاليتها ذهبت تخمد شيئا فشيئا طوال عصر ما بعد الموحدين، إلى اللحظة التي فيها دقت ساعة الاستعمار في العالم.

لقد بدأ الاحتكاك العنيف مع الحضارة الجديدة والضمير الإسلامي في أسوأ شروطه، فأوربة رجحت قيم الفعالية على قيم الأصالة في أسلوبها الاستعماري.

ومنذ ذلك الحين أضحى لعالمها الثقافي وجهان:

وجه يلتفت إلى ذاتها بأخلاقيته الخاصة به، ووجه يتلفت نحو العالم، وهمه الوحيد الفعالية. والنخبة المسلمة التي تكونت عبر الجامعات الأوروبية لم تر غير وجه واحد، أما وجهها الآخر فقد حجب عنها؛ كما يحجب وجه القمر الآخر عن سكان الأرض.

من هنا كان في تكوينها خلط يرثي له بين مظهرين متميزين لفكرة واحدة: أصالتها، وفعاليتها. وهذا الخلط في نفسية النخبة المسلمة الحاضرة : هو النواة التي حولها تتجمع سائر دسائس ومناورات الصراع الفكري.

والأساتذة الكبار الذين يمسكون بأسرار ووسائل هذا الصراع  يعرفون تماما كيف يستفيدون من هذا اللبس؛ حين يقابلون أمام أنظار شبابنا الجامعي بين أصالة الفكرة الإسلامية وفعاليتها.

ويصبح متوسط الدخل الفردي الحجة الأقوى في منطق الفعالية، والذي به يتوسلون لهدم أصالة الفكرة الإسلامية في عقل المثقف المسلم.

هذه الخدعة تستخدم اليوم بعمق؛ حتى في دراسات الشباب المثقف العربي، بتوجيه مباشر أو غير مباشر من قبل (الأساتذة) في الجامعات الأوروبية [11].

لكن اليقظة الإسلامية ليست بِنت الأمس. ففي القرن الماضي أثبت عبدالله النديم سفسطة منطق الفعالية؛ الذي يتوسل به المستعمرون الأوروبيون لإدخال مركب النقص في النفس الإسلامية عندما قال: “لو أنكم كنتم مثلنا لتصرفتهم كما نتصرف” [12]

وإذ يضع عبدالله النديم هذه العبارة البسيطة في فم أوربة؛ فإنه يذهب إلى أبعد من مجرد كشف الحيلة التي تقوم على المقابلة بين الفعالية والأصالة؛ والتي تلجأ إليها أوربة (في كل مرة تشرع في عمل تمليه التسلطية الاستعمارية المدنية أو التوسع الديني).

ويبقى الاعتقاد بأن العقول كانت أكثر صفاء زمن هذا الثوري الرائد؛ الذي واصل نقده فانتهى إلى نتيجة جديرة بتذكير الجيل الحاضر: ” وبهذا التصرف يهدف هؤلاء الغريبون إلى إبقاء الشرقي في قبضة الغربي بدافع الحاجة، والإبقاء على الشرق كحقل يجري فيه التنافس بين الأوروبيين”.

وبعد قرن من الزمان لا زالت هذه الفكرة راهنة ؛ خصوصا بعد تفاقم الصراع الإيديولوجي اليوم بإدخال تقنية القرن العشرين العالمية في أسلوبه، والوهن الذي أورثه التطور غير المراقب عبر هذا القرن في عالمنا الثقافي.

ففي زمن عبدالله النديم القلعة هوجمت من الخارج ، محتل أراد أن يحتل بأفكاره ليثبت عبر أسس إيديولوجية سلطته الاستعمارية.

أما اليوم فالمعركة من الداخل وبين جدران القلعة، بين أولئك الذين يريدون الدفاع عن القلعة والذين يريدون تسليمها إلى الأفكار الأجنبية.

وهنالك الكثير بين المثقفين المسلمين الذين يفتنون بالأشياء الجديدة، وبالتالي يسحرون بمنطق الفعالية، ولا يميزون بين حدود توافقها مع مهام مجتمع يريد أن ينهض دون أن يفقد هويته.

فهؤلاء المفكرون يخلطون بين أمرين : الانفتاح الكامل على رياح الفكر، وبين تسليم القلعة للمهاجمين كما يفعل الجيش الخائن.

هؤلاء الذين مردوا بإدمان على تقليد الآخرين ليس لديهم أي مفهوم عن ابتكار هذا الغير، ولا عن دوافع هذا الابتكار، عن تكاليفه في جميع المجالات التي يقلدونهم فيها، وكان الأجدر بهم أن يبتكروا هم أنفسهم وفق دوافعهم الخاصة بدل أن يقلدوا.

ويجب أن نلاحظ أن هذا التقليد ليس تقليدا لفعالية أي مجتمع دينامي، كما فعلت اليابان مثلا، ولكنه تقليد لقالب فلسفي يصبح دفعة واحدة منطقا معاديا للإسلام.

الحلبة التي ينبغي فيها الانتصار في صراع يفرض منطق الفعالية، فالفكرة الإسلامية لكي تقارع الأفكار الفعالة للمجتمعات المتحركة في القرن العشرين عليها أن تستعيد فعاليتها الخاصة، أي أن تأخذ مكانها من جديد وسط الأفكار التي تصنع التاريخ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مالك بن نبي (2002). مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي. ترجمة أحمد شعبو، بسام بركة؛ تقديم عمر مسقاوي. ط. 1. دمشق: دار الفكر، 2002. ص ص. 102 – 110.

** مالك بن نبي (1323هـ/ 1905- 1393هـ/ 1973م) مفكر جزائري، من أعلام الفكر الإسلامي،  وأحد رُوّاد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين.

[1] هو علي بن أبي الحزم القرشي، علاء الدين الملقب بابن النفيس، توفي مصر سنة (687 ه – 1288 م). له مؤلفات عديدة لايزال الكثير منها مخطوطا. كتب شرحا لكتاب (القانون) لابن سينا. وكان أول من وصف الدورة الدموية الصغرى(أو الدورة الدموية الرئوية)، وأول من أشار إلى الحويصلات الرئوية والشرايين التاجية.

[2] (وليم هارفي William Harvey) طبيب إنكليزي (1578 – 1657 م). علم التشريح والجراحه في (الكلية الملكية)، ثم أصبح الطبيب الخاص للملك. اكتشف – ولكن بعد ابن النفيس – الدورة الدموية الصغرى، وشرح عملية الدورة الدموية في جسم الإنسان (الدورة الدموية الصغرى، والدورة الدموية الكبرى).

[3] (جورج هنري لومتر George Henri Lemaiter) عالم فيزياء، وفلكي، وعالم رياضيات بلجيكي (1894 – 1966م). كان رائد نظرية الامتداد الديناميكي للمجرة.

[4] (ألبرت أينشتاين Albert Einstin) عالم فيزياء ألماني (1879 – 1955) حصل على الجنسية السويسرية سنة(1900)، وعلى الجنسية الأميركية سنة (1940). أحد أهم رجالات العلوم الحديثة. نال جائزة نوبل للفيزياء سنة ( 1921). له عدة نظريات رائد في الحركة الديناميكية، والأثر الفوتو – كهربائي، ونظرية النسبية.

[5] (يوهان مندل johann Mendel) عالم نبات، ورجل دين نمساوي ( 1822 – 1884م). أسس علم الوراثة، وتوصل إلى تهجين سلالات نقية من نبات الحمص.

[6] (فيلهلم غوتب لينز Wilk lm goltieb leiniz ) فيلسوف وعالم ألماني (1646 – 1716م(. له نظريات عديدة في الرياضيات، والدين، والتاريخ، والقانون، والمنطق، والفلسفة.

[7] (نيقولاس ماكيافيل Niccolo Machiavelli) رجل سياسة وفيلسوف إيطالي (1469 – 1527 م). صاحب كتاب (الأمير Lprince), (1531) الذي يتضمن نظرية سياسية عرفت فيما بعد بالماكيافيلية. وهي تقوم على الخداع ومحاولة الوصول إلى الغاية بجميع الوسائل، المشروعة منها وغير المشروعة، شعارها: الغاية تبرر الوسيلة.

[8] كانت أول رحلة فضائية وطئت فيها قدم إنسان سطح القمر في (21) تموز / يوليو من سنة (1969). وكان ذلك في رحلة (أبوللو 11) التي كان قائدها رائد الفضاء الأمريكي (نيل أرمسترونغ : المولود في ولاية أوهايو الأمريكية سنة 1930).

[9] تيمورلنك قائد مغولي، ولد في سمرقند سنة (1336)م. وتوفي في سنة (1363) انقض على منغوليا وأعلن نفسه ملكا. وفي سنة (1388) أعلن هدية للإسلام ونصب نفسه سلطانا مسلما وبدأ غزو آسيا الوسطى، إيران، والعراق، وسورية، وتركيا، فانتصر على بايزيد الأول في أنقرة سنة 1402م. هذا ويعد الغزو المغولي لبغداد الخطوة الأولى في أفول الحضارة الإسلامية وانحدارها.

[10] القسطنطينية – أو كما تدعى اليوم (استنبول) في تركيا – مدينة أنشأها الامبواطور الروماني قسطنطين الأول ( أو قسطنطين الأكبر) سنة (324 – 330)م. فتحها السلطان العثماني محمد الثاني ( 1451 – 1481 م)، وذلك في (29) أيار / مايو من سنة (1453)م. لقب بمحمد الفاتح لنجاحه في دخول هذه المدينة. وقد تابع بعد انتصاره هذا معارك عديدة، وقام بفتوحات كثيرة في أواسط أوربة ( مثل النمسا والمجر).

[11] انظر دراستنا ” إنتاج المستشرقين وتأثيره على الفكر الإسلامي الحديث” طبعة الجزائر (1967).

[12] Anouar Abdelmalek Anthologie de la litteratura I rabe contemporaine paris Ed, du Seuil p47,49

عن مالك بن نبي

شاهد أيضاً

الفلسفة – المنهج – الفكر “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

التباسات الحداثة

المعرفة المستدامة

مغامرة المنهج

في نقد التفكير

سؤال السيرة الفلسفية

علم “تجديد الصلة بالله”

د. عبد الرزاق بلعقروز

نحاول هنا تسليط الضوء على النواة المركزية التي راهن عليها مالك بن نبي من أجل استيفاء الشروط لدخول دورة حضارية جديدة، هذه النواة متعددة التسمية في برنامجه النقدي والتأسيسي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.