الآثار الاجتماعية للسيبرانية: نحو رؤية مقاصدية “حلقة نقاشية”

عقد مركز خُطوة للتوثيق والدراسات يوم السبت 16/ 09/ 2023 حلقة نقاشية حول الورقة التي أعدها د. شريف عبد الرحمن بعنوان “الآثار الاجتماعية للسيبرانية: نحو رؤية مقاصدية” وقد شارك في هذه الحلقة كلٌ من:

  1. أ. د. أماني صالح.       أستاذ العلوم السياسية المتفرغ.
  2. أ. د. أميمة أبو بكر.     أستاذ الأدب الإنجليزي المتفرغ.
  3. د. مختار محسن.      أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية.
  4. د. هاني محمود حسن.   مدرس الشريعة الإسلامية، كلية الحقوق، جامعة عين شمس.
  5. أ. يارا عبد الجواد.   طالبة دراسات عليا في العلوم السياسية، وباحثة بمركز خُطوة للتوثيق والدراسات.
  6. أ. محمد الديب.     طالب دراسات عليا في العلوم السياسية.
  7. أ. وليد القاضي.     طالب دكتوراة في العلوم السياسية، وباحث بمركز خُطوة للتوثيق والدراسات.
  8. أ. تقى محمد.       طالبة ماجستير في العلوم السياسية، وباحثة بمركز خُطوة للتوثيق والدراسات.
  9. أ. مهجة مشهور.   مديرة مركز خُطوة للتوثيق والدراسات.
  10. أ. د. شريف عبد الرحمن. أستاذ العلوم السياسية المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.

وأدارت الحلقة الأستاذة منال يحيى شيمي. وفيما يلي ما دار من مناقشات حول موضوع الندوة:

أ. منال يحيي

لقاء اليوم لمناقشة الآثار الاجتماعية للسيبرانية من “رؤية مقاصدية”، فمجتمعاتنا الإسلامية تواجه تحديات كبيرة، ونحتاج للتفكير حول كيفية مواجهتها من خلال النقاش حول أبرز الموضوعات التي تتعلق بهذه التحديات، على أمل أن تتشكل فيما بعد مجالات بحثية جديدة حول هذه الموضوعات. وفي هذا الإطار نستهل حلقتنا النقاشية اليوم بالقيام بنوع من العصف الذهني حول هذا الموضوع، ونتمنى إن شاء الله أن يثير هذا الموضوع نقاشا ثريا. ومن الممكن خلال النقاش اقتراح مداخل واقترابات أخرى للموضوع، كالمدخل الفقهي في التعامل مع السيبرانية وتحدياتها، والمدخل الاجتماعي، والمدخل التاريخي، والمدخل الواقعي، ومناقشة كيف يصف كل منها الواقع والتحديات التي تشكلها السيبرانية.

نبدأ على بركة الله

د. شريف عبد الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم

أكرر الشكر لحضراتكم، والترحيب بكم في المركز، اليوم نحتاج أن نستمع للسادة الأستاذة الأفاضل، ونجلس منهم مجلس المتعلمين، فكما ذكرت أستاذة منال فإن الموضوع متعدد الأبعاد، ويستحق أن يتم تسليط الضوء عليه من زوايا مختلفة، وخصوصا أنه أصبح قضية حالة، نعايشها جميعا، ونعايش أثارها. فكرة تفاعل الإنسان مع التقانة، الاحتكاك الأزلي ما بين الإنسان وما صنعت يداه. هذا الأمر يبدو أنه يشكل تحديا قديما. كان أحد زملائي منذ فترة قد لفت نظري إلى قول الله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم في دعائه الشهير “وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۖ(إبراهيم 35:36).

فرغم أن “الصنم” منتج مصنوع، ووثن ظاهر الانحراف عن الاعتقاد السليم، إلا أنه تَطَلَّبَ من نبي بوزن نبي الله إبراهيم، خليل الرحمن، أن يدعو الله عز وجل أن يجنبه وبنيه عبادة هذا الوثن المصنوع. هل يمكن أن يُفتن الإنسان بما يصنع؟ أو هل يمكن أن يتحول المنتج المادي إلى مصدر إغواء؟ يبدو أن هذا حاصل بكثرة، وخصوصا أن المنتج المادي ليس منفصلا عمن صنعه، وتحديدا ليس منفصلا عن العقل الذي أكسبه قيمته، فهو بشكل من الأشكال يمثل امتدادا لهذا العقل، امتدادا متعينا ومتجسدا، فهو الفكرة وقد تحولت إلى كيان. ولهذا يصور كثير من باحثي وفلاسفة العلم “المنتج المادي” على أنه لغة ثانية يستخدمها العقل، أو لغة ثالثة إن جاز القول، في الإفصاح عن نفسه، فهم يتحدثون عن أن العقل يفصح عن نفسه بأشكال متعددة، فهناك اللغة، وهناك السلوك، وهناك المنتجات المادية، وعليه فإن المنتجات المادية تعد بشكل من الأشكال إحدى طرق تعبير العقل عن نفسه، وإحدى الطرق التي يتعين بها العقل، وهم يشبهون العلاقة ما بين المنتج وما بين العقل، بالعلاقة بين الجسد وبين النفس، فهي علاقة تلازم لا تنفك، بمعنى أن العقل يفصح عن نفسه من خلال هذا المنتج المادي فيترك فيه بصمة منه، وبعد ذلك تصبح هذه المنتجات حاملة لهذه البصمة العقلية، مما يجعلها قابلة لأن تغوي الآخرين.

هذا المعنى قابل للامتداد، تحول الأفكار إلى أشياء هو من الأمور التي أزعم أنها لم تأخذ حقها من الدراسة وخصوصا في عصرنا الحاضر الذي تحولت فيه الأشياء إلى مصدر حقيقي للغواية، وذلك بعيدا عن أي عبارة مجازية، فنحن الآن نعاني -على سبيل المثال- من فكرة إدمان الهواتف النقالة، وثمة تلازم لا ينفك ما بين الإنسان وحاسوبه الشخصي، وهناك ذلك الإحساس بالضياع الذي ينتاب الفرد إذا خرج من بيته وقد نسي الموبايل. إذن وصف الغواية لم يعد وصفا مجازيا، ونحن عندما نؤكده فإنا لا نتحدث بطريقة الشعراء عندما يهومون حول المعاني، ولكننا نتحدث بلغة البحث العلمي الذي يتحرى رصد الواقع كما هو، فنحن الآن نستشعر أننا مقيدون بهذه المنتجات، ولا نستطيع أن ننفك عنها بشكل أو بآخر.

المنتجات التقانية تترك تأثيراتها علينا، والأسوأ -وهذا أيضا من خصائص المرحلة التي نعيشها- أنها تترك أثارها بطريقة لا نفهمها. ففيما قبل ثورة التقانة، كانت منتجات العقل البشري، وكل ما ندعوه اختراعات، تأتي على شكل ملموس، وكان بالإمكان دوما التعامل معها بشكل تحليلي. والتحليل كما تعلمنا — نحن معشر الباحثين — مرادف للتفسير والفهم، على اعتبار أنه لم يكن ثمة تصور آخر لفهم الأشياء بدون تحليلها، فنحن نفكك الساعة لكي نفهم كيف يحرك كل ترس الترس الآخر، انتهاء بحركة العقارب للتعبير عن مرور الزمن، فكان المدخل التحليلي هو المدخل المنطقي والوحيد للفهم والتفسير. المشكل الآن أن ثمة صعوبات جمة تعترض تطبيق هذا المدخل التحليلي في التعامل مع معظم ما نتداوله من تقانات رقمية. فهذه التقانات الإلكترونية دخل في تركيبها -كما يفصح اسمها- ذلك الكائن السحري؛ الإلكترون، ذلك الكائن فائق الصغر الذي يتحرك دون أن نراه ودون أن نستطيع أن نتتبعه بشكل دقيق. ولهذا فإن قليلين من يستطيعون فهم ما الذي يحدث في المسافة الوسيطة بين الطرق على لوحة مفاتيح الحاسوب الشخصي، وبين ظهور ما يظهر على الشاشة من نتائج، ثمة عمليات إلكترونية مختلفة، وتدفقات من النبضات المتداخلة تحدث، وتنتهي بظهور نتيجة ما على الشاشة، نفس الشيء يحدث عند التعامل مع الهواتف النقالة ومع الإنترنت، ومع كل المنتجات الرقمية، حيث نفقد دائما طرف الخيط، ولا نستطيع أن نتخيل ما الذي يجري داخل هذه الآلات، لكي -على الاقل- نتخذ موقفا منه، فاذا كان الحكم على الأشياء فرعا عن تصورها، فنحن الآن نفقد السبيل لهذا التصور، فلا نستطيع أن نفهم ما الذي يجري بداخل هذه المنتجات التقانية لكي نستطيع أن نكيف طريقة تفاعلنا معها، أو أن نفهم الطريقة التي نتأثر من خلالها بها. ثمة صندوق أسود تحويه معظم هذه التقنيات الرقمية التي تشكل في مجموعها ما نسميه السيبرانية، ذلك المفهوم المظلة الذي أريد له أن يشتمل بداخله على كل مفردات هذه التقانة الرقمية، فكل ما ندعوه تقانة رقمية يمكن أن يمثل -بشكل من الأشكال- مكونا أو بعدا من أبعاد هذا المفهوم “مفهوم السيبرانية.”

هذا التداخل والتلاحم بين الإنسان والتقانة أغرى المنظرين في الغرب، وهم دائما أسرع منا في صك المفاهيم، أغراهم بأن ينحتوا مفهوما جديدا. فبعد أن صكوا مفهوم “السيبرانية”، نحتوا مفهوما آخر هو “السيبُرج” (cyborg) وهو مشتق من كلمتي السيبرانية (cyber) والكائن الحي (organism)، والقصد أنهم يعتقدون أن الكائنات الحية قد أصبحت، في جزء منها، مكونة من هذه التقانات الجديدة، فأصبح الإنسان كائنا ثنائي البعد، جزء من تكوينه طبيعي organism وحيوي وعضوي، والجزء الاخر تقاني ورقمي.

على المستوى المفاهيمي أيضا يمكننا أن نجد لمفهوم السيبُرج الماصدق الخاص به، فنحن الآن في تفكيرنا نعكس بشكل أو بآخر الطريقة التي تعمل بها الآلات، وأشهر من تناول هذه الفكرة هو “هربرت ماركيوز”، عَلَم المدرسة النقدية الشهير، عندما تحدث عن العقلانية الأداتية (Instrumental Rationalism)، وتحدث أنه بعد أن حكمت الحداثة بأحكامها صارت تصوغ الأفراد على مثال الآلة وتفرض على الأفراد عندما يعبرون عن كفاءتهم أن يعبروا عنها من خلال مهارات قابلة للتطبيق، (عندما يكتب أي شخص سيرته الذاتية الخاصة به لا يكتب أنه يتذوق الشعر أو يحب الأدب؛ لكن يكتب أنه يجيد استعمال الإكسيل ويجيد استعمال قواعد البيانات، إلى آخر هذه التفاصيل الإجرائية التي تعكس كفاءة في التعامل مع الآلة وواقعها ومفهومها ومنطقها)، ولذلك حذر “ماركيوز”، قائلا “احترسوا أنتم الآن تفكرون كالآلات، تقيِمون أنفسكم كالآلات، وتتعاملون مع الآخرين كالآلات، وما ذاك إلا لأن الدولة الحديثة وضعت تصورها للمواطن الصالح على أنه المواطن الذي يعمل كالآلة.”

هذا الطرح شديد الأهمية لماركيوز لم يأخذ حقه من البحث المتعمق، حيث نظر إليه من قبل النقاد على أنه يعبر عن وجهة نظر راديكالية تعادي الحداثة وتعادي الأفكار السائدة، ولكني أزعم على النقيض أن هذا الطرح كان بشكل أو بآخر تصوراً سابقا لعصره. ونحن الآن نعايشه بعد أن تفاقمت آثاره، لأن العقلانية الآن لم تعد مجرد عقلانية أداتيه فقط، ولكنها صارت “عقلانية رقمية”، فنحن نفكر الآن بطريقة تعكس الطريقة التي تعمل بهذه الآلات الرقمية.

وفي هذا الصدد أذكر أن أحد الزملاء تحدث في منتدى ثقافي حضرته منذ فترة قصيرة عن خوفه من الذكاء الاصطناعي، وكيف أن الأخير سوف يسيطر على البشر، وأن الآلة سوف يدب فيها الوعي إلى آخر هذه المعزوفة، وقد صارحته برأيي، والذي أكرره اليوم لحضراتكم؛ قائلا إن الآلة لن يدب فيها الوعي، ولكن الذي سيحدث أنها ستسلبنا قدرا كبيرا من وعينا، فنحن الآن نتخلى عن جزء من منطقنا البشري لصالح منطق الآلات، والمثل الذي أستشهد به هو الكتابة التنبؤية “predicted text” في الهواتف النقالة وما شابهها، فأنا الآن قد أتخلى عن قدرتي على صياغة جملة تعبر عن أفكاري،  مفضلا البديل الأسهل وهو الاختيار من الكلمات التي يقترحها الجهاز علي، وهذا أبسط شكل من أشكال التلاعب بالوعي البشري، فنحن الآن نعتمد –استسهالاً-على الكلمات التي تقفز أمامنا، لكي نصوغ من خلالها عباراتنا وأفكارنا.

شكل آخر من أشكال التلاعب في الوعي الذي تحدثه الأجهزة الرقمية في عقولنا هو ما يطلق على أحد أنواعه اسم الـ “Reels” أو المقاطع القصيرة التي تتتابع أمام عين المستخدم بلا منطق واضح، ولكن المستخدم رغم إنه لم يظهر في أي من المراحل اهتماما بمحتواها، إلا أنه لا يجد بأساً من أن يتتبعها واحدا بعد الآخر، ومقطعا مرئيا بعد الآخر، الأمر الذي يعمل على إعادة تشكيل عقله، وفقا لمجموعة خوارزميات معينة، تصنع وعيا بديلا لمن يطلع عليها، فأنا قد أكون غير مهتم بمحتوى الفيديو ولكن طالما أنه ظهر أمامي ويبدو مسليا، فلأشاهده، والغريب أن كثيرا من الناس -وأنا منهم- بعد أن يقضي نصف ساعة أو ساعة أو أكثر في رؤية هذه الفيديوهات القصيرة، ربما يخرج من هذه الرحلة البائسة مبتسما، فيحاول أن يتذكر لماذا هو مبتسم فلا يتذكر بالضبط، أو يخرج مبتئسا أو شاعرا بكآبة، وأيضا لا يتذكر ما الذي تسبب له في هذا الشعور، هنا حدث تلاعب في عقل الشخص ووعيه، وتم توجيهه باتجاه حالة شعورية معينة، دون أن يفهم على نحو تحليلي ما الذي أدى به إلى هذه الحالة.

هذه المقدمة، التي ليس فيها من معنى التعريف الشيء الكثير، تنقل الأجواء التي نفكر من خلالها في موضوع السيبرانية، تلك الحالة من التفاعل ما بين الإنسان وما صنعت يداه، والتي ترتد على الإنسان فتؤثر في وعيه وفي طريقته للتفكير وفي رؤيته للعالم وتفاعله مع الآخرين وفي قيمه وسلوكه. هذا ولم نعتد من الفقه وممثليه أن يقفوا في موقف رد الفعل أو المتفرج، فنحن دائما ما نتوقع من الفقه حالة من الاحتواء الاستباقي للواقع، بشكل شديد الضبط وشديد العمق وباستخدام أدوات شديدة الإحكام، والآن جل ما نريده أن نضع الأمور في نصابها الصحيح، لكي نعرف كيف يتم التعامل مع هذه الظاهرة وفقا لمنظومة الفهم الإسلامي، ووفقا لمنظومة الفقه والمقاصد، على نحو يوفر نوعا من الدعم والحماية النفسية والعصمة لمن يلِجون هذا العالم الافتراضي من أبناء وشباب هذه الأمة. ونحن نجلس اليوم في مجلس المتعلم منكم، من أجل أن نعرف ما عساه أن تكون ملامح هذا التعامل السديد إن شاء الله تعالى.

أشكر حضراتكم وآسف على الاطالة.

الآثار الاجتماعية للسيبرانية: حلقة نقاشية بمركز خُطوة للتوثيق والدراسات

أ. منال

قدم دكتور شريف التعريف، وذكر الكثير من التحديات التي نعيشها ونعانيها، وشدد في النهاية على ما نحتاجه من ضبط فقهي لهذه الظاهرة، لكي نتعامل معها بما يتوافق مع رؤيتنا الإسلامية، ويوفر لنا نوعا من العصمة. والآن نعطي الكلمة لدكتور هاني محمود.

د. هاني محمود

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله أشرف المرسلين وبعد، نشكر أسرة المركز على عقد هذه الندوة في هذا الموضوع الذي قلَّ مَن يتطرق إليه من هذه الزاوية، فأنا أحد أسباب معاناتي أنني بحثت عن دراسات سابقة تناولت قضية “السيبرانية” من منظور الفقه الإسلامي ولم أقف على واحدة. فهذه سابقة محمودة، لأن الموضوع على قدر كبير من التأثير ليس فقط على الصغار، بل أيضا الكبار قبل الصغار، ولعل الدكتور شريف أشار إلى شيء من هذا، فأعتقد أن هذا الموضوع يمثل مشكلة بحثية جديرة بأن تكون موضوعا للبحث الفقهي أيضا كما هي موضوع للبحث السياسي أو الاجتماعي. وهناك الكثير من الدراسات التي تتابعت في بحثها من المنظور السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، والآن نحاول تسليط الضوء عليها من المنظور الفقهي. بعد طول تفكير في المسألة كتبت شيئا، هو لا يزال أقرب إلى المقال منه إلى البحث أو الورقة البحثية، ركزت فيه على تأثير السيبرانية على الطفل والأسرة بشكل خاص.

قضية السيبرانية بها قدر كبير من التشعب، وقد وضعت الورقة بعنوان “الثقافة التكنولوجية للأسرة في عصر الذكاء الاصطناعي وأثرها على حقوق الطفل”، وركزت فيها على تأثير السيبرانية على الطفل وعلى قضية التماسك الأسري، وأعتقد أن ما أشار إليه الدكتور شريف ربما يغني عن أن أكرر عرض المشكلة. فيما يتعلق بربط القضية بالمنظور الفقهي أو منظور مقاصد الشريعة، تكلمت عن قضية السيولة الشبكية أو قضية الإغراق الرقمي، وفي الحقيقة فإن مسألة الذكاء الاصطناعي هي سلاح ذو حدين، لكني وضعت احترازا في البحث أنه ليس القصد أن نوجه مدافعنا إلى قضية السيبرانية والذكاء الاصطناعي من أجل بيان المفاسد والسلبيات والأضرار، ولكني أعتقد أن من أهم الفوائد البحثية أن نحاول استخلاص ما يمكن أن تقدمه السيبرانية أو ما يمكن أن يقدمه الذكاء الاصطناعي من فوائد أو منافع أو إيجابيات أو خدمة للدين أو خدمة للدعوة أو خدمة لرسالتنا وقضيتنا بشكل عام.

قدمت بشكل تمهيدي بالحديث عن مقاصد الشريعة، فهناك خمسة مقاصد شهيرة، وإن لم تكن المقاصد منحصرة فيها، ولكن هذه هي الخمسة الأشهر، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والعِرض والمال، وربما يكون من المناسب ترتيب البحث على أساس من هذه المقاصد، حيث تبين لي أن هناك نوعيات من الأضرار والآثار التي تعود من السيبرانية على الأسرة والطفل، فكل أثر من هذه الآثار يمس مقصدا من هذه المقاصد، فمثلاً حين يدخل الإنسان إلى العالم الافتراضي هل يظل محتفظاً بذات النفس الحقيقية التي تكون خارج هذا العالم، أم أن دخوله إلى العالم الافتراضي يمكن أن يجعل الإنسان وهو مبحر فيه له نفس أخرى أو نفس موازية، وحاولت أن أربط ذلك بمقصد حفظ النفس.

من ناحية أخرى فإن السلوكيات السيبرانية تنشئ جملة من التصرفات، فرأيت إنه ينبغي أن تُدرس في إطار مقصد حفظ الدين، وأيضا حفظ العِرض، مثلاً قضية “الترند”؛ عندما يبحث الإنسان عن الشهرة بأي ثمن هي من الأشياء التي استوقفتني، واعتبرت أن لها دلالة مهمة في هذا السياق، على سبيل المثال هناك ممثلة أصبحت شهيرة مؤخرا فقط بعدما حلقت شعر رأسها، فأصبحت تسيطر على “الترند”، طبعا يوجد هنا حكم شرعي، أنه لا يجوز للمرأة أن تحلق شعرها، لكن الذي استوقفني هو ردة فعل والدها على هذا الأمر، حيث قال “أنا راض عما قامت به ابنتي، وأنها فتاة ماهرة لأنها استطاعت أن تستحوذ على “الترند”، هذا الأمر استوقفني كثيراً، فما هو نوع العقيدة، وما هو نوع القيم الذي ينطلق منها، ويؤمن بها هذا الأب، وهو يعلق على أمر فعلته ابنته هو من منظور الدين وحتى من منظور القيم المجتمعية أمر شائن، ولكنه لم يتوقف عند كونه أمراً شائناً وإنما فكر بمنطق أن ابنته استطاعت أن تخطف الأبصار وأن تستحوذ على “الترند” لعدة أيام، فهذا هو مقياس نجاح البنت في نظر هذا الأب الذي يبدو أنه يحدثنا عن قيم جديدة. إذا ربطنا هذا بالقضية السيبرانية جاز لنا أن نتساءل ما نوع هذه القيم التي تجعل أب يفتخر بابنته لمجرد أنها نجحت أن تخطف “الترند”، وكيف تستخدم السيبرانية في الترويج لهذه القيم؟ حاولت دراسة هذه الظواهر في إطار مقصد حفظ الدين وأيضا في إطار مقصد حفظ العِرض، وقد استحضرت بعض القضايا التي ربما كانت قضايا تقليدية في علم التزكية الإسلامي أو علم الأخلاق الإسلامي مثل قضية الإخلاص، والزهد، وهناك حديث علماء التزكية عن كراهية الشهرة، هذه القضايا يمكن أن نتخذها إطارا تفسيرياً في دراسة أمثال هذه الظواهر. فهذه المباحث يمكن أن نخرج بها من إطار علم التصوف أو علم الأخلاق لنوظفها كمنظورات تفسيرية وتحليلية في القضايا الاجتماعية المعاصرة ومنها قضية السيبرانية وتأثيرها على الفرد، الطفل خاصة وعلى الأسرة عامة.

وقد استعرت بعض الاستعارات من الإمام الشاطبي، وهو الأساس في هذا الموضوع، ليس لأنه أول من كتب في المقاصد، ولكن لأنه أول من توسع فيها، وكتبها في شكل صياغة متكاملة أو أقرب إلى التكامل، كما توقفت عند تنظيرات الإمام الطاهر بن عاشور المقاصدية، لأنه تكلم عن مقاصد العائلة، وقال كلاما مهما، استفدت من بعضه، ولكن أهم قضية استعرتها من الطاهر بن عاشور هي قضية الفطرة، فحاولت أن أفكر كيف يمكن أن تمثل الفطرة منظوراً تحليلياً أو منظوراً تفسيريا، نتعامل به مع أمثال هذه الظواهر، لأني اعتبرت أنه إذا حاولنا أن نرتب الأضرار السيبرانية ترتيباً تصاعدياً فأعتقد أن أخطر هذه الأضرار هو ضرب مفهوم الفطرة. وبالعودة مرة أخرى إلى النموذج الكاشف للممثلة التي حلقت شعرها، في اعتقادي أن هذه الحالة هي حالة لحظة نماذجية بتعبير الدكتور المسيري، كيف يمكن أن تستخدم قضية السيبرانية في ضرب مفهوم الفطرة بشكل صارخ إلى حد أن تظهر امرأة في هذا المظهر القبيح ولا تبالي لمجرد أنها تريد أن تخطف “التريند”.

قدمت تمهيدا مطولا لقضية الفطرة محاولاً ربطها بهذا الأمر، بعد ذلك تكلمت عن قضية الزحف التقني على الأسرة مقارناً بين حالة ما يمكن أن نسميها “الأسرة ما قبل السيبرانية” و”الأسرة ما بعد السيبرانية”، وتكلمت عن نمط الأسرة الممتدة الذي كان سائدا، ثم نمط الأسرة النووية، معَّرفاً بكل منهما، وكيف أدت ما أسميته بالعولمة السيبرانية، التي اعتبرتها لحظة نماذجية من لحظات تغول العولمة، كيف أدت إلى تعزيز نمط الأسرة النووية، خصماً من رصيد الأسرة الممتدة التي كانت تدعم الإنسان بمجموعة من العلاقات، كل علاقة منها تشكل محضناً حامياً وحافزاً للإنسان.

قدمت أيضا مطلبا عن القيم الدينية والقيم الشبكية قراءة في ضوء مقصد حفظ الدين، وقد أشرت إلى الهوية الحقيقية والهوية الرقمية، وتساءلت هل تغلغُل وجود الإنسان في العالم السيبراني الذي يسمى بالعالم الافتراضي، هل يصنع له هوية أخرى موازية يمكن أن نسميها بالهوية الرقمية؟ وما علاقة هذا بمقصد حفظ النفس؟ بعد ذلك تكلمت عن الشبكية أو السيبرانية وصناعة الإنسان ذي البعد الواحد، كيف أن السيبرانية تسهم في تعزيز ما أسماه “هربرت ماركيوز” الإنسان ذو البعد الواحد أو حالة تسطيح العقل، وذلك من منظور مقصد حفظ العقل. وقد ذكرت علاقة الشبكات بتزييف الوعي، وأنواع تزييف الوعي التي تنجم عن الإغراق في العالم الهش وأكتفي بالإشارات التي قالها الدكتور شريف عن عملية التزييف. وقد أشرت إلى قضية المخادعات الشبكية أو المخادعات السيبرانية، ولم أقتصر على المستوى المقاصدي، ولكني حاولت أن أربط ما سبق ببعض التفاصيل والجزئيات الفقهية والشرعية مثل قضية الشائعات، وقضية التوثيق أو التثبت كمصطلح التوثيق أو التثبت الذي يطرح أساسا في علم مصطلح الحديث أو في علم مصطلح الفقه، ولكن كيف لنا أن نستفيد من قضية التوثيق أو التثبت في دراسة هذه الشائعات المتسلسلة؟ واتخذت من حالة الشائعات التي نُشرت عبر السيبرانية في جائحة كورونا نموذجا لكيف يمكن أن نكون أمام تسلسل أو متتالية من الشائعات تؤدي إلى غزو العقل بمجموعة من الخرافات على نحو يؤثر على مقصد حفظ العقل، وضربت أمثلة لبعض العقائد التي تم ترويجها في هذا الإطار، مثل عقيدة نهاية العالم التي تم ترويجها بقوة، وكيف يؤثر هذا على حالة العقل المسلم أو حالة العقل الإنساني بشكل عام.

ثم بعد ذلك انتقلت إلى العنوان التالي وهو مخاطر التكنولوجيا الرقمية على الأمان الشخصي والحق في الخصوصية، قراءة في مقصد حفظ العِرض، وذكرت أن حفظ العِرض قد تناولته بعض الدراسات المقاصدية في إطار قضية تحريم الزنا ومقدمات الزنا وما إلى ذلك، لكني اعتبرت أن حالات التفريط في الخصوصية سواء التفريط الطوعي أو التفريط القصري عن طريق الاستيلاء على بيانات المستخدمين وما إلى ذلك أن هذه القضية لها صلة وثيقة بقضية حفظ العِرض، ولا ينبغي أن نقتصر بحفظ العِرض على قضية الزنا وما يتعلق به.

اقفز الآن إلى العنوان التالي “المتصفح السلعة وضرورة المقاومة الأسرية قراءة على ضوء مقصد حفظ المال”، فهناك من يعتقد أن المتصفح يُستخدم في استهلاك السلع أو أنه يراد لهذا المتصفح أن يرى أكبر قدر من السلع من أجل إغرائه بشرائها، ولكني توصلت إلى أن المتصفح نفسه هو الذي يصبح سلعة على نحو ما، وقد استشهدت ببعض الدراسات وبعض المقولات مثل مقولة “إذا لم تكن تدفع ثمنا مقابل استهلاكك لشيء ما فاعلم أنك أنت السلعة”، فهذا المتصفح الذي لا يدفع ثمناً مادياً في مقابل الحصول على خدمة ما، لابد أن يكون هو نفسه سلعة بشكل من الأشكال، وقد حاولت الربط بين هذا الأمر وبين مقصد حفظ المال. ثم طرحت سؤالا ماذا علينا أن نفعل؟ قدمت بعض المفاهيم الإسلامية التي أعتقد أنها يمكن أن تكوّن شبكة مقاومة، مكونة من تمازج المقاصد والمفاهيم الإسلامية، مثل المفهوم الذي أسماه الدكتور سيف عبد الفتاح بالنموذج السُفني، وقدمت تحليلا مختصرا لحديث السفينة، وكيف يمكن أن يكون نموذجا مقاوما في هذا الإطار.

كما قدمت بعض المفاهيم التي تؤكد على أهمية حماية الأطفال، هذه الفئات المنسحقة سيبرانيًا والمتضررة أكثر من غيرها، وذكرت مفهوم “الروافد الآمنة”، بمعنى ضرورة أن يكون لنا بديل مستمد من مفاهيمنا وقيمنا وثقافتنا الإسلامية، وأن هذا البديل من المفروض أن نبثه بمحتوى سيبراني. وتكلمت عن مجهودات الدكتور عبد الوهاب المسيري والدكتور عبد الحميد أبو سليمان في “جزيرة البنائين”، وقد أسميتها بالنماذج الملهمة، وهناك أيضا رواية للدكتورة منى أبو الفضل، والأدب الإسلامي عموما زاخر بمثل كتابات نجيب الكيلاني وغيره.

أدعي أنه من المفروض أن نحوّل هذه الأعمال إلى محتوى رقمي وأن نحاول بقدر امكانياتنا المتواضعة أن نروج لها في هذا العالم الرقمي. كما تكلمت عن الرقابة الأسرية ومفهوم المشاركة الإيجابية، وضرورة أن يكون لدى الوالدين في نطاق الأسرة المعاصرة قدر من الثقافة الرقمية التي تؤهلهم للمشاركة الإيجابية لفهم هذا العالم والتفاعل مع الأطفال في إطار هذا العالم، وتكلمت عن مدخل لمقاومة الغزو الشبكي، وقد طرحت سؤالا مهما وهو ماذا لو كانت التكنولوجيا إسلامية؟ لأن البعض يقول: لو كنتم أنتم أيها المسلمون اخترعتم الطائرة أو السيارة هل كنتم ستجعلونها تقانة إسلامية، وأنا اعتقد والله أعلم أنه لو كانت التكنولوجيا إسلامية، كانت ستتخذ منحا آخر غير المنحى الذي اتخذته كداعم للرأسمالية والعولمة على حساب القيم. جزاكم الله خيرا والسلام عليكم ورحمة الله.

د. أماني صالح

فيما يتعلق بموضوع الأسرة، هل استعنت بأبحاث المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية والإحصاءات المتعلقة بمشكلات التنشئة أو بنسب الطلاق؟

د. هاني

استعنت ببعض الدراسات الاجتماعية التي اعتمدت على أمثال هذه الأبحاث، وهناك العديد من الدراسات الموجودة هنا في مركز خطوة.

د. أماني

الموضوع يحتاج أولاً إلى تحديد المشاكل الأسرية الناجمة عن السيبرانية، وبعد ذلك يمكن أن تُسكِنها في إطار نموذج المقاصد، لكني أعتقد أن تناول حضرتك نظري أكثر منه عملي ينبع من واقع الأسرة العربية أو المسلمة، والمشاكل التي تعانيها نتيجة لموضوع السيبرانية سواء في موضوع التنشئة أو في موضوع القيم الأسرية، سواء من ناحية الأبناء تجاه الآباء أو العكس، مثل موضوع التفسخ الأسري، موضوع الطلاق، إلى آخره، هذه جميعاً موضوعات تدعم البحث، بدلا من أن يقتصر بحثكم فقط على المفاهيم النظرية التي تفضلتم بطرحها..

أ. منال

ممكن في خلاصة الدراسة التي تقومون بها أن يتم إحياء بعض المفاهيم الإسلامية، والصراحة كنت أتمنى أن يكون هناك تركيز أكثر على كيفية تعامل الفقه مع السيبرانية. طبعا من الواضح أننا يمكن أن نستغرق دراسات كثيرة ووقتا طويلا في تشخيص الحالة التي نعانيها، ومن الممكن أن يساعدنا ذلك لفهم الظاهرة بمختلف أبعادها، وأن نُشرِحها تشريحا دقيقا، لكن يبقى الأهم أن نعرف كيف يمكن أن يتعامل الفقه مع هذا الباب، هل يمكن ان نرى في أبواب الفقه على غرار باب البيوع، وباب الزواج، بابا للسيبرانية؟ وهل يستحق هذا الموضوع أن نفرض له دراسات ومتخصصين وأبحاث في العالم السيبراني أو العالم الافتراضي.

د. أماني

حضرتك كأنك تطلبين من أهل الفتوى أن يفكروا في إنشاء قسم لهذا؟

أ. منال

أنا أدعو إلى أن نطور بابا فقهيا يتناول كيفية التعامل مع هذا الأمر؟ ليس فقط فيما يخص موضوعات الأسرة والطفل والأبوين، لكن نحتاج أن نعرف الشاب والفتاة كيف يتعاملون مع هذا العالم الجديد.

الآثار الاجتماعية للسيبرانية: حلقة نقاشية بمركز خُطوة للتوثيق والدراسات

د. أميمة أبو بكر

كلنا متفقين على هذا التشخيص، ولكن التركيز ينبغي أن يكون على فكرة التعامل، وما أقترحه أن يكون هناك تحديث في مجال الفقه، فمثلما هناك فقه للأولويات، لابد وأن يكون هناك فقه أو معرفة فقهية بهذا الموضوع، خاصة أننا لا نسأل هنا أسئلة تقليدية، ولكن نسأل عن تشوه قيم مرتبطة بموضوع جديد لم يسبق له مثيل، وهنا يثور سؤال هل التعامل يجب أن يتم على نحو فقهي وفكري ومعرفي ونظري، أم على أساس من خدمة أغراض الإفتاء، بمعنى أن يكون تعاملا مع موضوعات أرض الواقع؟ ما قاله الدكتور هاني على المستوى الأسري والفردي يخدم أغراض التعامل الفقهي الفكري القيمي الفلسفي النظري المعرفي، أي كل جوانب وأبعاد التعامل مع هذه الظاهرة. من ناحية أخرى، يمكن ان نتعامل مع قضايا أرض الواقع، مثل ظواهر تزييف الوعي وتسطيح المعرفة. كأكاديميين أكثر شيء يؤثر فينا سلبا هو تسطيح المعرفة، لأننا مدركون أن أي قضية لا يمكن تناولها على نحو سطحي.

هناك أيضا فكرة حجب المواقع، وهو إجراء تقوم به الدول والمؤسسات، فإذا كان هناك نوع من التحكم الرأسمالي العالمي في كل المجالات، فإن هناك نوع آخر من التحكم على مستوى الدولة القومية، التي تمارس نوعا من التحكم في نوعية المعرفة المتداولة أو المعروضة، هناك حجب للمواقع ورقابة، وهناك لجان لتشكيل أو تزييف الوعي وتشويهه.

ومع ذلك يمكن أن نفكر في الجانب الآخر من موضوع السيبرانية، وأنا هنا أقصد الإنترنت بصفة خاصة، وما يتيحه من تداول المعرفة، ومواقع المكتبات، ومواقع تداول الأبحاث، فهي في نفس الوقت تقدم لنا مساحة حرة غير خاضعة لقيود سياسية، أو مواءمات، أو لقيود مؤسساتية، بعبارة أخرى يمكن للسيبرانية أن تكون مساحة حرة لتداول المعرفة ولإنتاجها، وهي بهذا المعنى تقدم فرصة إيجابية.

باختصار يمكننا أن نفكر في السيبرانية كمساحة حرة ومساحة للمقاومة، كما هي مساحة للحجب والرقابة.

د. شريف

المخاوف بدأت تثار منذ فترة، وبدأ الباحثون يتحدثون عن قلقهم من تأميم الفضاء الرقمي، وتغول الدولة القومية على الفضاء الرقمي، الذي علينا النظر إليه في البداية على أنه يمكن أن يكون بمثابة مجال عام بديل وفضاء عام بديل. تصاعد هذه المخاوف أوحى للبعض أن ظاهرة السلطة تمثل قانونا حديديا لن تنجو منه حتى المجتمعات الافتراضية. وقد قمت بدراسة هذه الظاهرة على مستوى مجتمعات المعلومات الافتراضية مثل ويكيبيديا، وكنت أريد معرفة هل فعلا يوجد إمكانية لأن تنشأ ظاهرة اجتماعية وتستمر من دون معنى السلطة، بمعنى أن تدير مشاكلها الداخلية بآليات الانتظام الذاتي ولا تحتاج إلى هيراركيات سلطوية، أو آلية للتحكم. وقد اخترت ويكيبيديا، لأن القائمين عليها أكدوا قدرتهم على إنشاء مجتمع معلوماتي حر ودائم، وهم الآن بالفعل يحتفلون بعيد ميلادهم العشرين، بدون وجود مجلس إدارة أو رئيس للويكيبيديا كتعبير على أن مجتمعات الواقع الافتراضي قادرة على أن تستمر بدون هياكل سُلطة. ولكني قمت باختبار هذه المقولات في إطار ما يسمى بحروب التحرير، وهي الخلافات العميقة التي تنشأ بسبب وجود أكثر من سردية حول الحدث الواحد، حرب أكتوبر على سبيل المثال يوجد حولها سرديتان؛ السردية المصرية والسردية الاسرائيلية، عند اليهود حرب أكتوبر هي نصر يهودي حقيقي، ولكن عندنا الرواية معاكسة أي أن حرب أكتوبر هي نصر مصري خالص، إذن هناك سرديتان يتعلقان بوصف الواقع، وليس تحليله ولا تفسيره أو تقييمه، هذا الوصف المجرد تنشأ بسببه في بعض الأحيان أنواع من الخلافات، يطلق عليه “حروب التحرير”، وقد انتهيت في هذه الدراسة إلى أن المجتمعات الافتراضية قد تستعير ما يشبه هياكل السلطة، وخصوصا في حالات الخلاف المستعصية dead looks حيث تثور الحاجة إلى وجود حَكَم، يفرض عقوبات على طرف دون طرف، بمعنى أن السلطة تنبثق حتى في إطار المجتمعات التي تراهن على فكرة غياب السلطة، السلطة بهذا المعنى تبدو نوعا من القوانين الحديدية للتكوين الاجتماعي. هذه الظواهر الجدلية عادة ما لا يتم إلقاء الضوء عليها، ومجتمع الويكيبيديا يحاول أن يحيدها ويزعم أنها غير موجودة وغير مؤثرة، لكن عند البحث المدقق تظهر هذه الخلافات كحالات بارزة.

ما أقصد قوله إنه حتى الوصف المجرد يثير مشاكل، لأننا فيما يتعلق برؤيتنا للعالم لا نراه بنفس الطريقة، مما يجعلنا دائما نستحضر معنى (السلطة) التي تفصل ما بين المختلفين، وهذا ما يجعل الفضاء الافتراضي في حالة مقاومة مستمرة، لأنه يدعي إمكانية وجود مساحة بلا أي نوع من أنواع الهيراركية، وهو الأمر الذي يكذبه الواقع بشكل أو بآخر، والحرب بين الواقع والافتراضي حتى الآن سجال، بمعني أن الدولة القومية لم تفرض نفسها بشكل نهائي ومطلق، وكذلك أنصار الفكرة السيبرانية، مازالوا يحاولون تحقيق قيمهم.

التعليق الثاني فيما يتعلق بفقه السيبرانية، كما ذكرت الدكتورة أميمة، أعتقد أن الموضوع قد يحتاج تجديدا، فقريبا سنجد من يسأل في فقه البيانات الكبيرة، أو فقه الـBlock chain ، وقد وجدت في دوريات دول شرق آسيا مثل اندونيسيا وماليزيا من يتحدث عن حكم الوقف باستخدام “البيتكوين” أو العملات المشفرة، وتوجد هذه الأبحاث في دوريات مصنفة دوليا، أظن أن الفقه في حاجة إلى أن يستبق هذه التساؤلات لأنها ستثار عاجلا أم آجلا. في الغرب بحكم رفاهية الثروة ورفاهية الحداثة، بدأوا في مناقشة حوادث القتل في المجتمعات الافتراضية، ففي مجتمع الـ second life على سبيل المثال يتملك الأفراد ويبيعون ويشترون ويتزوجون ويمارسون الجرائم أيضا ثم يختصمون أمام القضاء المادي.

هذه الموضوعات قد تبدو الآن لنا على أنها بمثابة ترف فكري غير مقبول وغير متصور، لكن المجتمعات الافتراضية في الغرب أصبحت لها ذمة مالية، فالشخص يتملك في العالم الافتراضي، وينقل جزءا من ثروته التي يكتسبها في العالم الافتراضي إلى مرادف حقيقي في العالم المادي الواقعي، وبعض الأصول التي يتملكها الفرد في العالم الافتراضي يمكن أن يبيعها ويحول قيمتها لأصول عينية، ويتعامل بها في العالم الواقعي، ومثل هذه الممارسات بدأت تتواجد في عالمنا العربي والإسلامي، على نحو يفصح عن التداخل المطرد ما بين العالمين، وأظن أن الفقه سيحتك بتساؤلات تتعلق بهذه الموضوعات في القريب العاجل جدا.

د. مختار محسن

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه. في البداية أشكر دعوتكم المباركة. الورقة التي تقدمت بها تعتبر بذرة لبحث كنت أتردد في إجرائه منذ فترة، لكن الآن لا تردد، في الحقيقة المستوى الذي نُخاطَب به في دار الافتاء، يحتاج لخطوة قبله، بمعنى إنه عندما نتعامل مع المستفتي ونتلقى الأسئلة فلابد من خطوة قبل ذلك، وهي التصور والفهم والإدراك، ذلك أننا إذا أشرفنا على هذا العالم، وليس لدينا فهم صحيح أو إدراك صحيح سنصبح في وضعية غير سليمة، سنصبح مجرد رد فعل أمام الواقع، فإذا سمعنا رأيا يقول إن العملة الافتراضية فيها منافع، وأن هناك أبحاثا اقتصادية تؤيد هذا الرأي، ورأيا آخر يقول إن الدول يمكن أن تنهار جراء استخدامات هذه العملات، وهناك أبحاث تؤيد هذا الرأي، فنحن هنا قد لا نستطيع أن نتصور المشكلة، وبالتالي تصبح إجابتنا لا معنى لها، وهذه في الحقيقة مسئولية كبيرة، لذا فإننا عادة ما نقوم ببحث فقهي، تكون ثمرته هي الحكم بالحلال والحرام أو الأحكام الشرعية الخمسة؛ الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام. ولكن يسبق هذا البحث الفقهي التعامل مع المفاهيم وهي في حالتها السائلة، ثم صكها في مصطلحات لنستطيع فهمها، هذا ما نحتاج إلى أن نقف عنده قليلا قبل أن نحكم بالحل والحرمة.

القضية هي أننا على سبيل المثال أحيانا قد نُسئل عن العملة الافتراضية، (العملة الافتراضية لها فتوى بالفعل، في 2017، من دار الافتاء المصرية، وكانت بعدم تداولها)، ويجب أن أوضح أن الفتوى ليست حكماً مقطوعاً به جازماً لا يتغير ولا يتبدل. فالفتوى بخصوص العملة الافتراضية كانت بناء على قراءة للواقع في ذلك الوقت، استعانة بالمتخصصين، وقد يتغير الحال بعد خمس سنوات أو أكثر إذا تغير الواقع المصري أو تغير التعامل باستخدام هذه العملات، إلى آخره، فما حدث في 2017 أنه تم الخلوص إلى أن لهذه العملة خطورتها على التداول النقدي في السوق المصري، ويوجد بالفعل مواد في قانون البنك المركزي تمنع تداولها، ولكن ثمة تداول لها يأتي من خارج الدول أو على الإنترنت.

من هنا فإن الفتوى متغيرة، لأن المصالح متغيرة، وأحوال الناس متغيرة، ولكننا نحتاج إلى أن نملك قراءة مفاهيمية واضحة، ماذا تكون السيبرانية التي نتعامل معها وكيف تهددنا؟ وما التهديدات الصريحة التي تتقاطع مع القواعد الشرعية؟ تخلياً عن الإطالة على سيادتكم فهناك بعض القواعد الفقهية المتاحة نلخصها فيما يلي.

أولاً فكرة المرجعية فيما يخص الشأن الديني، فنحن يهددنا أمور منها تشتت المرجعية، فالفضاء السيبراني أسفر عما أسميناه بتشتت المرجعية، بمعنى إن البعض يبحث على موقع دار الإفتاء المصرية والبعض في إسلام ويب أو حتى مواقع داعش؟ ومن الممكن أن يقوم أحد الأفراد بعمل موقع يسميه موقع فتاوى الأزهر الشريف، ولكنه يكون بدون أي رقابة لأنه فضاء متاح. المتلقي العادي الذي لا يملك التمييز تثور لديه هذه الإشكالية، وهذا هو التشتت في المرجعية، فنجد من يرسل لنا على الواتساب فتوى يقول فيها لقد سمعت الشيخ فلان يقول كذا، وقد يكون الشيخ فلان لم يصدر عنه هذا أصلاً، مما أنشأ ظاهرة خطيرة جدا تُدعى تشتت المرجعية، فأصبح كثير من المسلمين لا يعرفون من يسألون، وقد تصدر فتوى عن دار الإفتاء في فترة معينة تقول كلاما معينا، وبعدها تصدر فتوى أخرى تقول كلاما مختلفا، فيتصور البعض إن دار الافتاء متناقضة، ولا يُفهم أن لهذه الفتوى سياق ولهذه سياق مختلف، المشكلة تكمن في أننا لا نملك الوعي، وهذه خطورة لابد أن نواجهها ونتعامل معها كل يوم، فيجب أن نؤكد أن فكرة الفتوى الأساسية أنها تصدر في أحوال معينة، وتصدر من متخصصين، وأنها قابلة لإعادة النظر وللتغيير، وأن هذا ليس تناقضا ولا تلاعبا بالدين، ولا أن من يقومون بذلك هم علماء السلطة كما يروج البعض، فالإفتاء مسألة علمية لها أبحاث مدروسة، تصل إلى حد الدراسات الاكاديمية.

هناك أيضًا ظاهرة فقدان المرجعية ففي حالات معينة، عندما نُسأل فإننا لا نملك معلومات، وبالتالي نسأل أستاذتنا الشيوخ، فيردون علينا بأن هذه المسألة بحاجة إلى بحث، وهذا حدث مع الإمام مالك، وهو من هو، حين سُئل عن أربعين مسألة في مجلسه، فأجاب في أربع مسائل، وقال في ست وثلاثين لا أدري، هل لا أدري معناها أن الفقه به مشكلة؟ طبعاً لا، فهناك مسائل تحتاج إلى بحث، ولابد أن نعرف أننا لسنا آلات تصدر فتاوى، كما قال الإمام أحمد “من سئل فأجاب عن كل شيء فاعلم أنه مجنون”، المسائل العلمية لابد وأن يكون بها بحث، ولابد أن يكون المجتمع مهيأ لفهم هذا، على سبيل المثال ممكن أذهب لطبيب فيقول لي انتظر حتى أراجع البيانات وأراجع التحاليل والإشاعات ثم أذكر لك فيها رأيا، فلابد من التأني. لكن للأسف السيبرانية فرضت على الناس ما نراه الآن، لذلك نبحث على جوجل، لم يعد لدى الناس الصبر لكي تقرأ وتتعلم، بل نحن نريد الحل حالاً، للأسف أصبح هذا لدى قطاع كبير من الناس في الشأن الديني وغير الشأن الديني، ولكني أتكلم عن الشأن الديني بشكل خاص، لابد من التنشئة الاجتماعية والتنشئة الدينية وأن تعاد المفاهيم الصحيحة، فهناك علم وهناك ترتيب وقواعد ومرجعية ثابتة لابد أن نرجع اليها، وإلا سيضيع أولادنا في خضم هذا العالم.

هناك وحدتان أنشئتا حديثاً للتعامل مع آثار السيبرانية وغيرها، الأولى هي وحدة حوار والغرض الأساسي منها التعامل مع من أُصيبوا بالمشكلات العقائدية والانحرافات الفكرية، سواء كان من جهة الإلحاد أو التطرف، فهناك من يرى أن القرآن تأليف بشري أو أن الاسلام ظلم المرأة، طبعًا قد تكون المشكلة مشكلة فكرية حقيقية، شاب ليس لديه ما يشغله، أو شاب تعليمه أجنبي، ويتصفح، فتظهر أمامه هذه المشكلات والإشكالات، فيتواصل مع دار الإفتاء المصرية عن طريق الموقع، فنحدد له جلسة مع متخصص، في الغالب العام تكون مشكلة نفسية.

وهناك مَن تُقابل مواقع تتكلم عن حقوق المرأة، فتقتنع بها وتثير لديها إشكالات، ثم تُلقي هذه المشاكل على المشايخ أو تواجه بها المجتمع أو السلطة. للتعامل مع الإلحاد أو التطرف أُنشئت وحدة حوار والحمد لله الآن ثمة دعم ضخم لها، ولكن ينقصها الدعاية الكافية التي سيتم تغطيتها في الآونة القريبة، وهناك أيضًا وحدة الإرشاد الأسري التي تعمل على حل المشكلات الأسرية بشكل عملي ويرأسها الدكتور عمرو الورداني ويحضر فيها يوميًا تقريبًا أستاذ من أساتذة علم الاجتماع أو علم النفس حسب المشكلة الموجودة، وكلهم متخصصين في التعامل مع المشكلات الأسرية اليومية، التي يرجع جزء كبير منها إلى الانفلات السيبراني.

هناك أيضًا فكرة يجب التحدث عنها وهي فكرة تشتت الهوية أو ارتباك الهوية أو كما يسمونها في علم النفس “ارتباك الهوية الجنسية”، فالبعض لا يعرف إذا ما كان ولدًا أو بنتًا، هو عند الولادة خلقه الله ولدًا ولكن أهله ربوه على إنه بنت، وهذه المشكلة موجودة كثيرًا، الإنترنت فتح المجال وهذه الحالات تناقش على إنها شيء عادي، فنقوم في الدار بمناقشته، وبيان أنه ليس له اختيار في ذلك، فهذه خلقة الله. إن لدينا نصوصًا صريحة لابد أن نُنَشئ أولادنا وشبابنا على أساس منها، لتعزيز هويتهم. فالمقابل لفكرة التشتت أو ارتباك الهوية هو الاعتزاز بالهوية، قال تعالى “وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا” ‎﴿النساء ٣٢﴾ ولكي ننشأ الجنسين على هذه القيم نحتاج وقتًا من الوالدين ومن المجتمع.

أيضًا هناك فكرة تلاشي الهوية خصوصًا الهوية الدينية، للأسف أجيال كثيرة نشأت بعيدة عن الوعي الديني وبعيدة عن القيم والأخلاق، والدين في الصورة الذهنية عند البعض هو مجرد أوامر ونواهي، افعل ولا تفعل. لذلك أفضل ألا نبدأ بقضية الحكم الفقهي، وإنما لابد من التعامل مع المفاهيم والموضوعات الفكرية.

الحكم الفقهي يكون في الآخر بعدما نستوعب الظواهر التي نريد أن نقف عندها، والمفاهيم الأساسية، مثلما ذكر الأستاذ الدكتور علي جمعة عن النموذج المعرفي الإسلامي الذي ننطلق منه في فهم هذا العالم. إن الله سبحانه وتعالى قال “وليس الذكر كالأنثى” هذه هوية، وهو خالقها كما هي، فيها موازين وفيها وظائف وفيها خصائص، والوظائف غير الخصائص، وكلاهما يتعلق بحقوق وواجبات، وعندما نخلط ما بينهم يحدث خلل في الموازين، وبالتالي يظهر في الفتاوى، فوجدنا حالات كتيرة يكون الرجل فيها لا يعمل، والمرأة هي التي تعمل للأسف، وهذا كثير في المجتمع، ليس هناك إحصاء لكن للأسف يزداد، المرأة التي سافر زوجها إلى الخارج فاستدعت هي فكرة الرجولة، وفكرة أنها تصبح صاحبة القرار إلى أن صارت هي فعلًا الرجل، وقد تصبح متسلطة على أولادها، هذا التبادل للأدوار أنشأ خللا.

نحتاج أن نُؤصل لهذه الظواهر في البداية، وأن نركز على التنشئة، وأن نرسخ المفاهيم الصحيحة الأصيلة، حتى نصل إلى المستهدف من أقرب طريق، أما إذا تركنا الأمور على حالها وبدأنا نحذر الناس منها بدون أن نتفاعل معها بأسلوب حقيقي فلن نصل لشيء. وقد أنشأنا فعليًا مواقع تتفاعل وتصنع حوارًا حقيقيًا مع الفئات المختلفة التي يعاني أفرادها من المشكلات الأسرية، والتي تعاني من المشكلات الدينية التي تسببت في مشاكل الإلحاد ومشاكل التطرف، وأصبح هناك حوار حقيقي، هنا قد نستطيع أن نجنب المجتمع الآثار السيئة بقدر الإمكان، ولكن هذا يتوقف على عوامل كتيرة ليست كلها بأيدينا، لكن على قدر الإمكان لتقم كل مؤسسة بدورها، ونحن كمؤسسة دينية قمنا بدورنا إلى حد ما، ولن نستطيع أن نقول إننا قمنا بكل شيء، ولكن بما في الإمكان.

هناك فكرة أخرى مهمة جدًا وهي ما سوف أختم بها، وهي أننا لابد أن نغذي في مقابل الانفصال الذي يحدث بسبب السيبرانية فكرة الاتصال والمصاحبة للأجيال الناشئة بشكل طبيعي حقيقي، لأننا لسنا جزر منعزلة، ولدينا حديث النبي عليه الصلاة والسلام: أن سيدنا جندب بن عبد الله قال “كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام فتيان حزاورة — أي في سن البلوغ أو أقل — فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً”، المصاحبة للوالدين أو المصاحبة للمعلم لابد أن تكون بشكل حقيقي وليس بشكل افتراضي، هذا ما سوف يقلل من آثار السيبرانية. في فترة كورونا حدثت طفرة في التعليم عن بُعد خاصة في القرآن، الأخلاق التي كانت تنتقل بالمصاحبة للأسف تختفي، جيل كامل تشكل بهذه الطريقة، هذه الأجيال للأسف أكثر برودة، ومشاعرها تعتبر مشاعر ليست حقيقية بل بلاستيكية، وكثير من أفكارهم وتوجهاتهم ومشاعرهم تجاه والديهم وتجاه الآخرين أصبحت مزيفة، نتيجة للاقتصار على التفاعلات السيبرانية، وهذا أثر بدوره على الفقه، كما أثار الدكتور هاني في حديثه عن الأسرة في المجتمع المعلوماتي، وكيف أن الأسرة النووية تتحول إلى لا-أسرة، كل فرد فيها يختار طريقه، سواء يعيش بمفرده، أو يعيش مع صديقه، إلخ، وهذا للأسف ما يروج له في القنوات السيبرانية.

من هنا، ومن وجهة نظري، فإن أكبر داعم للبعد عن هذه الأخطار هو الاتصال والمصاحبة الحقيقية، وليس الاكتفاء بالتواصل الافتراضي، فالسيبرانية لابد أن تكون مجرد بديل وليس الأصل في التعامل والتواصل العلمي والتواصل مع الأجيال.

شكراً جزيلاً لحضراتكم

الآثار الاجتماعية للسيبرانية: حلقة نقاشية بمركز خُطوة للتوثيق والدراسات

أ. مهجة مشهور

في وقت سابق قمنا بدراسة في مركز خطوة بعنوان “فقه الحياة”، كانت فكرتها الأساسية أنه بجانب الحلال والحرام والمندوب وباقي الأحكام الشرعية الفقهية اقترحنا معيار الاتساق أو عدم الاتساق مع الرؤية الإسلامية، بمعنى أنه يمكن أن توجد معاملات غير محرمة، ولكن القيام بها ينطوي على خلل معين، كما عندما يقوم شخص بإقراض شخص أخر، ويتعثر هذا الأخير في السداد، فيقوم الأول بمقاضاته، في الوقت الذي لا يستطيع فيه الثاني أن يوفيه حقه، من منظور فقهي ما قام به المقرض حلال، ولكنه غير متسق مع الرؤية التي تطالب بالنظرة في حال العسرة إلى الميسرة، فضلاً عن أمثلة أخرى كثيرة لم نجد تبويبًا لها ضمن منظومة الحلال والحرام والمندوب إلخ، فاقترحنا فكرة الاتساق وعدم الاتساق مع الرؤية الإسلامية، فهل يمكن استعمال هذا المدخل في موضوع السيبرانية، لأننا إذا أردنا أن نضع لها اطارًا فقهيًا فلن نجد ما نقيس عليه، أو ما يمكن أن نستدعيه من منظومة الفقه التقليدي، فالحاصل أن ثمة موضوعات جديدة تمامًا عن العقل البشري، تستدعي التفكير في بدائل جديدة.

د. مختار

طبعًا هذا الاقتراح في محله، وفكرة الاتساق وعدم الاتساق هي داخلة في صلب الكلام عن تفعيل النموذج المعرفي عند التعامل مع القضايا المختلفة، فقبل أن نبدأ في الحكم على الشيء يجب أن يكون لدينا رؤية شاملة بخصوصه، وبالتالي قد لا نحتاج إلى أن نصنفه فقط ضمن ثنائية الحلال والحرام، فالفقه ليس أبيضًا وأسود فقط. على سبيل المثال في الزواج خمسة أحكام فقهية، ما معنى خمسة أحكام؟ يعني أنه يجب أن نعرف ما هي ظروف الشخص، ثم نعرف إن كان الزواج واجب في حقه أم لا، ذلك أن الفقه هو الحياة، فالفقه عبارة عن منهج، ولدينا مئات الألوف من الكتب في كل المذاهب الفقهية، فهل نحن ملزمون بالعمل بما في كل هذه الكتب على اختلاف مذاهبها، بالطبع لا.

نحن نتعلم في الأزهر الفقه لكي نفهم ما الذي كان يفكر فيه الإمام الشافعي، وكيف كان يفكر أبو حنيفة، وكيف كان الإمام مالك يتعامل مع القضايا المختلفة، وبالتالي عند التعرض للواقع نقرر ما إذا كان هناك تطابق، أم أن الأمر يستدعي أن نغير هذه الفتوى أو هذا الحكم، وهذا لا يتعلق فقط بالتفكير النظري وإنما بالواقع أيضا.

الإمام القرافي، رضي الله عنه، في نص صريح وواضح يقول عن قضية أخذ العلم من الكتب، “فمن أخذ عن الكتب فقط ضل وأضل”، بمعنى إنه لابد وأن تراعي أعراف الناس، وهذا نص صريح في الفروق، فمن الواضح أن مجرد الاقتصار على الفقه والجمود عليه، والتمسك بفكرة معينة على نحو لا يحتمل إعادة النظر فيها هو ضد آليات الفقه نفسها، فالحكم في النهاية يصدر بعد المداولة، ولابد أن نتداول القضية مرة واتنين وثلاثة، وإلا سيصبح الإفتاء مجرد عمل آلي، ولهذا كان جزءًا من بحثي في الدكتوراه يدور حول مناهج الإفتاء وعلاقتها بالمقاصد الشرعية، وقد تناول آخر فصل فيها القضايا المعاصرة في الفتوى، مثل الذكاء الاصطناعي وهل يمكن أن يكون له دور في الفتوى، فتكلمت عن الذكاء الاصطناعي ، وإلى أين وصل؟ وما المتوقع منه؟ ثم طبقته على المجال الشرعي، ومجال الفتوى، وذكرت أنه مهما بلغ الذكاء الاصطناعي من قوة فلن يمكن أن يستعاض به عن الشيخ أو القائم بالفتوى، لأن هناك قدرًا كبيرًا تلعبه المشاعر الإنسانية في الإفتاء، فمجرد النظر في عين المستفتي يدل على ما إذا كان صادقًا أم لا، الأمر الذي يصنع فارقاً في الأسئلة التي يمكن توجيهها إليه، أما الآلة فلن تفهم ذلك، مهما بلغت، ومهما وصلت، ومهما حللت البيانات. أما الإضافة التي يمكن أن تحققها هذه الآلة فقد تكون في الموضوعات العلمية والعملية في الطب مثلاً. كذلك من الممكن أن يدخل الذكاء الاصطناعي إلى بعض المجالات الشرعية أو الإفتائية. وبالفعل فقد اتُخذت خطوات لمحاولة الوصول إلى ذلك، ولكنه سيقف عند خطوة التصوير والتكييف والحكم ولن يصل إلى حد تنزيل الحكم على الواقع. فتنزيل الحكم على الواقع لابد فيه من المفتي، “فاسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون.”

د. أماني

أفهم أن الفتوى لها علاقة بتطبيق الأحكام على حالات بعينها، ولكن ما تم طرحه هنا يمثل فكرة جديدة بالنسبة لي، وهو أن الفتوى منهج وليست مجرد استدعاء أحكام، فهل معنى هذا أن المفتي وهو يقدم الفتوى من الممكن أن يستنبط حكمًا جديدًا غير الأحكام الموجودة في الكتب الفقهية؟

د. مختار

هذه المساحة ليست كبيرة في الواقع، فنحن عندما ندرس الأبواب الفقهية المعروفة مثل العبادات والمعاملات إلى آخره، ندرس أيضا “قواعد الفقه” والتي هي ما وراء الفقه من أفكار كلية جامعة، مثل قاعدة الأمور بمقاصدها، والضرر يزال، إلخ، وكثيرًا ما نجد حالات فرعية ليست موجودة في كتب الفقه، لكني أستدعي هذه القاعدة التي هي جزء من المنهج، وأفتى على أساس منها، وبالتالي فإن المنهج الذي أعنيه يشير إلى معنى التكامل ما بين المصادر الأصيلة المعتمد عليها في الفتوى وهي الفقه وقواعد الفقه وكتب الفروق، فالفقه لا يتعلق فقط بالبحث عن القواعد العامة، أو المقولات العامة، أو عناصر التشابه بين الظواهر، ولكنه يبحث أيضًا في الفروق، أو عناصر الاختلاف بين الظواهر، ولذلك قيل إن الفقه “جمع وفَرق”، والفقيه هو الذي يستطيع أن يجمع بين المهارتين، مهارة استخدام القاعدة الفقهية العامة، ومهارة ملاحظة الفروق، وأن يفرق بين كل حالة وأخرى، وأن يلحظ فيما تختلف هذه الحالة عن تلك، وعدم القدرة على القيام بذلك يثير الكثير من المشاكل، لأن القضايا سوف تُعامل على أنها مجرد صور مستنسخة، وهذا غير متحقق في الواقع، هذا المنهج هو ما يصنع التطور الفقهي، وهذا التطور الفقهي ظل مستمرًا حتى القرن الثامن عشر، كلما ظهر شيء في المجتمع كلما كان هناك استدعاء لآليات الاجتهاد.

د. أماني

ألا تستدعي المستحدثات التي لم تكن قائمة من قبل مثل موضوع السيبرانية، ألا تستدعي مجالس فقهية، تقوم باستنباط حلول للمشاكل التي تطرحها هذه المستحدثات قبل أن يتم الإفتاء بشأنها، وهذا هو “التجديد الفقهي” الذي ندعو إليه، بمعنى إنشاء أبواب جديدة في الفقه.

د. مختار

لا يجوز الاستمرار في المجالس الفقهية ونحن لا ندرك الواقع، أو ليس لدينا مفاهيم صحيحة وواضحة وغير مشوهة وغير مشوشة. نحن بالفعل نجد في أثناء ممارسة الإفتاء بعض الأمثلة التي تتعامل مع ظواهر الواقع بنوع من السطحية والتحريم بحجة أن الأمر المستفتى عنه لم يرد في الكتاب والسنة، ولكي نتجنب هذه التجارب لابد أن يكون عندنا منظومة متكاملة للاجتهاد، بمعنى لابد من وجود الشخص المؤهل، ولابد أن يكون لديه مصادر المعرفة، الإمام الشافعي لكي يصل إلى المرتبة التي بلغها كان ينزل إلى الأسواق ويتعامل مع الوقائع، ويسمع للناس، ولا يكتفي بمعرفته النظرية. الآن مع وجود المؤسسة أصبحت المسألة موزعة على عدة جهات، فلدينا المرصد، وأيضًا مركز الإرشاد، ومركز الحوار، هذه المراكز تجزيء الفكرة، وهذا له نظير بالفعل في الفقه، واسمه تجزؤ الاجتهاد، فنحن لا نستطيع الإفتاء في كل الموضوعات أو الاجتهاد في كل القضايا، لذلك في دار الافتاء توجد لجنة خاصة بالمعاملات، ولجنة للأحوال الشخصية، ولجنة للعبادات، تبحث في المستجدات، مثل صندوق الذهب السيادي الذي طرح قبل فترة، فتبحث فيما هو صندوق الذهب السيادي، وما الدافع للاستثمار في الذهب، مثل هذا الأمر يحتاج إلى خبرة اقتصادية، وغيره من هذه الموضوعات المستحدثة.

أ. منال

ذكرتكم في كلمتكم أننا نحتاج قبل الإفتاء إلى أن يكون عندنا المعرفة والمعلومات، ولكني أرى أنكم قد بدأتم التعامل مع آثار السيبرانية من قبل أن تكون ثمة فرصة لدراستها والتعرف عليها، وتحليل ما يتم الإفتاء بشأنه.

د. مختار

الحياة ليست مجرد حقلاً أكاديمياً، ولذلك حتى مع وجود من يتعاملون مع الموضوعات على نحو مفاهيمي وفكري، فإن دورنا في دار الإفتاء هو دور المسعف، فنحن لا نستطيع أن نقول لمن يأتينا مستفتيًا انتظر حتى نؤصل فكرياً للموضوع، بل نحن نفتي ونبحث على نحو متوازي. ولدينا على سبيل المثال وحدة الإرشاد الأسري، وقد شارك أستاذنا الدكتور طريف الخولي – نائب رئيس جامعة بني سويف – في التعامل مع حالات من المشاكل الأسرية، وخرج بمصنف علمي، كتبه من واقع الحالات المثارة داخل هذه الوحدة، اسمه “كيف نتجنب الطلاق”، فنحن في البداية نصف ما يحدث ثم نطور فهمنا للظاهرة. أيضًا صدر قبل فترة عن دار الإفتاء فتوى بجواز “التسويق الشبكي” باعتباره بيع أو باعتباره تسويق لمنتجات حلال، وبعد ذلك اكتشفنا أن به حالات نصب، وإنها منظومة للاحتيال، ولا يزال البحث مستمر، ولا تزال المعلومات تتدفق، فنحن لا ندعي أن الظواهر اكتملت وتشكلت، وإنما لابد من حدوث تعديل للمسار وإعادة للنظر، هذا هو الشأن العلمي، المراجعة والبحث والاستمرار في المراجعة والبحث حتى نلقى الله، مع المحبرة إلى المقبرة.

د. شريف

أود أن أشير إلى أن أحد التوابع المحتملة للسيبرانية فيما يتعلق بالعلاقة بين الفرد والمؤسسة الدينية، قد يتمثل في حدوث نوع من التشكك أو الاهتزاز في مكانة المؤسسة في نفوس كثير من مرتادي هذا الفضاء. فما يمكن ملاحظته أن اختيار الأفراد الطوعي للجوء إلى المؤسسات الرسمية لاستفتائها بخصوص مسائل معينة من داخل هذا العالم الافتراضي أو السيبراني، يشهد تراجعًا، وذلك لأن أحد توابع انخراط الأفراد في العالم السيبراني هو ضعف الثقة في المؤسسات الرسمية بشكل عام.

بعبارة أخرى هناك نَفَس يساري قوي في العالم حاليًا، هذا النفَس اليساري يرفض فكرة السلطة والأبوية والمؤسسية وكل أشكال الهيراركية، ووفقًا له فإن أي سلطة هي عدو ضروري، ابتداء من سلطة الخالق سبحانه وتعالى نزولًا إلى سلطة الأب في البيت، مروراً بالسلطة الرسمية والمؤسساتية. هذا النفس اليساري كاسح، ويلقى قبولًا متزايدًا لدى الشباب في العالم العربي والإسلامي، كما يتم الترويج له في الإعلام والسينما، وهو نفسه النفس المسيطر على العالم السيبراني. من هنا فإن رجوع الشباب للدار للاستفتاء، أظن أنها مسألة وقت قبل أن تصبح جزء من التاريخ، ما لا يتم تدارك الأمر. وعليه فإن اعتماد الدار على أن هناك حالات فعلية تلجأ إليها طلبًا للفتوى، وأنه يمكن من خلال دراسة هذه الحالات الخروج بتنظير يتعلق بكيفية فهم السيبرانية والواقع الافتراضي وسلوكيات المتعاملين معه، أظن أن ذلك قد يكون رهاناً صالحاً لبعض الوقت، ولكنه ليس صالحاً لكل الوقت. وللتأكد من صدق هذا التوقع أرى أن تجرى إحصاءات عمرية للمترددين على الدار، وأزعم أنها سوف ترصد أن نسبة “الشباب” الذين يلجأون إلى دار الإفتاء مستفتيين تشهد انخفاضًا.

على سبيل المثل، وفي إطار مقصد حفظ الدين، أرى أن ثمة أهمية للنقاش حول فكرة التسول الإلكتروني عبر فيديوهات التيك توك وغيرها، حيث تنتشر ظاهرة، لا يريد منها أصحاب هذه الفيديوهات في حقيقة الأمر أكثر من استجلاب أموال المشاهدين، وقد أصبحت ثمة منصات للمساعدة في هذا الغرض، مثل منصة “باترون” وغيرها، أو عن طريق العمل بكل الطرق على زيادة المشاهدات، وزيادة الإعجابات، لضمان إعلانات أكثر على القناة. هذا النمط في بعض صوره، هو شكل من أشكال التسول، وأنا هنا أتساءل هل لجأ إلى دار الإفتاء من يسأل عن مدى حِل استخدام هذه الطرق في الحصول على الأموال، أم أن الشباب يؤكدون استقلاليتهم عن الرأي الديني بالشروع في هذه الأعمال من دون البحث عن سند شرعي لها؟

د. مختار

إن الفتاة التي لديها إشكالية مع الحجاب على سبيل المثال، تلجأ إلى المؤسسة الدينية، لماذا؟ لأنها تريد فعلاً أن تعرف رأي الدين فيما تفعله، إن الفطرة لا يمكن إلغاؤها، إنها الحقيقة التي وضعها الله في نفس كل إنسان، النور الباقي فيه، وهذا النور لن يغيب بحال من الأحوال، هناك طغيان للمادية؟ نعم، هناك طغيان لليسارية؟ نعم، لكن لو تعاملنا مع الإنسان على نحو تشاؤمي، لن نصل إلى شيء، إننا نتواصل مع أكبر قطاع يسعنا الوصول إليه، في كل يوم نحاول إيصال صوتنا في كل الأشكال، عبر الإفتاء العادي التقليدي، عبر المؤتمرات، عبر الكتيبات، عبر البرامج الأسبوعية التي يتم التواصل من خلالها مع الجمهور الذي نتعامل معه.

هناك من يسأل سؤالاً حقيقياً، وهناك من يسأل بلا هدف، كل هذا موجود، ولكن لا يزال عند الناس شيء داخلهم يحتاج إلى معرفة رأي الدين، بالتالي دورنا هو الاستفادة من وجود هذه الفطرة. ودار الإفتاء هي في النهاية جزء من كل، فهناك مشيخة الأزهر، وهناك وزارة الأوقاف، وهناك وزارة التربية والتعليم، وهناك المجتمع بأفراده ومؤسساته، فنحن أمام مشكلة اجتماعية ألقت بثقلها على كاهلنا جميعا، وبالتالي كل من يستطيع أن يدعم، وكل من يستطيع أن ينفع عليه أن يتقدم خطوة، واجبنا جميعًا أن نبذل الجهد. ونسأل الله سبحانه وتعالى القبول والنفع للناس، هذا ما نرجوه.

الآثار الاجتماعية للسيبرانية: حلقة نقاشية بمركز خُطوة للتوثيق والدراسات

د. هاني

كان هناك تقنية اشتهرت بها المدرسة الحنفية، تسمى بالفقه الافتراضي، والتي يمكن أن نعبر عنها بعبارة “ماذا لو”، أعتقد أننا نحتاج إلى إحياء هذه التقنية الآن لاستشراف مآلات الظاهرة السيبرانية، وقد أشرت إلى قضية فقه المآلات، وأهمية استشراف مآل الظاهرة، وأشار الدكتور مختار إلى كتاب الموجة الثالثة لتوفلر، والذي تعرّض لفكرة أن الأسرة النووية ستؤول إلى اللا أسرة، أعتقد أننا ينبغي أن نتتبع هذه المآلات وأن نسلط الضوء عليها.

د. أميمة

أريد أن أعقب على نقطة فرعية، وهي فكرة عدم الثقة في السلطة المؤسسية المرجعية المركزية في الشأن الديني، والبحث — ربما — عن منابر أخرى، أو ما أشار إليه الدكتور باسم تشتت المرجعية، هناك سبب آخر غير غلبة الخطاب اليساري الإلحادي، الذي يسخر من الدين بكل مظاهره، ويسخر من المؤسسات الدينية بكل أشكالها، هناك أسباب أخرى لعدم ثقة الشباب — بما فيهم المتدين المؤمن — في المؤسسات الدينية، وهي اقترابها من السلطة السياسية، وتجاهلها لقضايا أخرى تمس الشباب مثل قضايا الفقر والإفقار والعدالة الاجتماعية. ففي النهاية ليس كل من يتكلم عن العدالة الاجتماعية شيوعي، هذه العوامل يمكن أن نعزو إليها عدم ثقة الشباب المتدين في المؤسسة والبحث عن منابر لا تكون مسيسة بهذا المعنى.

د. أماني

أود في مستهل كلمتي ان أشكر د. شريف عبد الرحمن على ورقته التي تعد بحق نموذجًا قياسيًا يحتذى للإطار النظري لمشروع بحثي. أشكره أيضًا على تقديم تعريف واضح ومحدد للظاهرة السيبرانية بما يبدد أي لبس بين المشاركين في البحوث يتعلق بحدود الظاهرة ومكوناتها.

كما أثمن الاقتراب المقاصدي الذي اختاره د. شريف للتعامل مع الظاهرة السيبرانية شديدة التعقيد متعددة الأبعاد. فالاقتراب المقاصدي هو اقتراب منهاجي منفتح، محل اتفاق، يتميز بدروه بطابع المنظومة متعددة المستويات. في البداية أود أن ألفت الانتباه الي أن ظاهرة السيبرانية لا بد أن يتم تناولها من بعدين: الأول على مستوى الآلية أو التقنية وما تتسم به السيبرانية كوسيلة وأداة للتواصل والمعلوماتية، والبعد الثاني يتعلق بالمحتوى وتلك قضية أخرى.

أيضاً هناك مسألة أخرى تتعلق باقتراح الموضوعات، وهل سيكون رصد الظاهرة رصدًا واقعيًا أم معيارياً يتعلق بما يجب أن يكون؟ وأعتقد أن الاتجاه سيكون في الجمع بين الاثنين مع أهمية بعد ثالث وهو الاقتراب الاستشرافي، لأن السيبرانية هي قضية مستقبلية بالدرجة الأولى لا نرى منها حالياً سوى بدايات الطريق والقادم أكبر وأخطر.

في هذه المداخلة اسمحوا لي سأعلق على بعض الأبعاد المقاصدية في بحث قضية السيبرانية كما تناولتها الورقة، واقترح ضمن التناول بعض رؤوس الموضوعات التي أعتقد في أهمية إفراد أبحاث لها.

أولاً- في مقصد حفظ النفس

أثار الدكتور شريف في الورقة موضوع الهوية باعتبارها جزءاً من ذات الإنسان.. وكيف تثير السيبرانية قضايا خطيرة تتعلق بتزييف الهويات أو الهويات المزورة، والتي يترتب عليها ضياع مبدأ المسئولية الفردية عن الأقوال والأفعال، وإفساح مجال كبير أمام التبذل والإساءات والشائعات والنميمة التي تعد أهم مثالب السيبرانية، ناهيك عن إفساح المجال واسعاً أمام الصفحات والمجموعات اللاأخلاقية والإجرامية التي تجتذب أعداداً كبيرة من المنحرفين الذين يجدون في إخفاء الهوية التي يتيحها المجال السيبراني فرصة واسعة للتعبير عن أنفسهم، بل للتجمع وتشكيل شبكات لدعم أغراضهم الإجرامية والمنحرفة. الأمر الذي يثبت بحق قيمة المسئولية والجزاء الاجتماعي عن الفعل التي نشهدها في اقعنا الاجتماعي الحقيقي غير الافتراضي، وأهميتها في تحقيق سوية المجتمع. وقد أثار اهتمامي بحق سؤالك المعمق حول هل الهوية الشخصية منتج اجتماعي تدخلت في صناعته المؤسسات والهياكل الاجتماعية والاقتصادية، ولا يعبر عن الكنه الحقيقي المبطن للأفراد ومن ثم يسعى الفرد الى التخلص منها متى واتته الظروف؟ سؤال مهم يصلح عنوانًا لموضوع مقترح للبحث في قضية السيبرانية.

في الحقيقة يا دكتور شريف إن تناولكم لموضوع الهوية السيبرانية في الورقة إنما يركز على مفهوم الهوية الشخصية التقليدي كما عرفته البشرية منذ بدء الخليقة وحتى الآن، ولكن الفضاء السيبراني يطرح في الواقع منظورًا جديدًا للهوية يتعلق بالمستقبل، وربما هو الطرح الأكثر خطورة وهو موضوع “الهوية الافتراضية”.. إنها قضية ارتبطت بالحلم الغربي منذ الإغريق وحتى الآن.. حلم أن يصبح الإنسان خالقاً يحل محل الإله تارة عبر الروبوت وتارة عبر الواقع الافتراضي المعزز.. أو بمعنى آخر إيجاد واقع مواز للواقع الإنساني المادي على الأرض، ولهذا الواقع الذي صار الآن يتضمن مدناً ومبان معروضة للبيع ومتاحف وشوارع، ويحظى بإقبال المشترين على المحال المعروضة للبيع، وعلى التجول في متاحفه، بل وخلق فنونه الخاصة الإلكترونية، ويستضيف اجتماعات لمديري الشركات فيه الخ.. بل وهناك أنشطة عربية تتحرك في هذا المجال الافتراضي مثل الحديث عن حفل افتراضي لاثنين من كبار المغنيين العرب في اكتوبر ٢٠٢٣، بعض الدول تستخدم هذه الظاهرة بشكل إيجابي مثل الحديث عن تنظيم الأجهزة المسئولة عن الحج لرحلة حج افتراضية لتدريب الحجاج على الشعائر. لكن بعيدًا عن هذه الاستخدامات التقليدية يتنافس زعماء العالم الافتراضي الجديد (رؤساء جمهوريات العالم السيبراني مثل إيلون ماسك ومارك زوكربرج وآخرون) الى ما هو أبعد من ذلك.. إنه خلق الإنسان المناسب للعالم الافتراضي النامي. أو ما يسمى بالأفاتار. إنه الهوية الافتراضية أو الإنسان الافتراضي الذي يخطط ليصبح مستقلاً عن جذوره البشرية وارتباطاته الواقعية.

تمهيديا يتم حاليا إقناع المستخدمين باختيار أشكال رمزية تعبر عنهم وتستخدم كبروفايل. وقد بدأت الخطوة التالية الأخطر وهي تحويل تلك الرموز الى “شخصيات” من خلال بيانات تفصيلية للمستخدمين يتم تغذية الرمز فيتحول الى شخص افتراضي له ميوله وسماته وسلوكياته واتجاهاته، وها هي منصة إكس تعلن في ٢ سبتمبر ٢٠٢٣ عن “جمع بيانات المستخدمين لتشمل معلومات بيومترية (أي متعلقة بالخصائص الجسدية المميزة) من أجل تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي” انتهى الخبر. وفي هذا الإطار يتحدث البعض عن خطة لإكساب تلك الشخوص الافتراضية استقلالها عن جذورها البشرية من خلال تطور الخوارزميات وعبر استمرار حياتها بعد وفاة أصولها البشرية.. إنه سعى الإنسان الجامح نحو الخلود.. كما يدور الحديث عن منح الكيانات الافتراضية شخصية قانونية. فإذا موضوع الهوية السيبرانية هو موضوع أخطر من مجرد إخفاء الهوية الحقيقية، ويحتاج إلى متابعة وبحث في قضايا إنسانية وفلسفية كبرى لعل منها هل يعترف الدين بالكيان الافتراضي، والسلوك الافتراضي؟

ثانيا- في مقصد حفظ الدين

لفتتني في ورقة دكتور شريف عبارة تحتاج إلى إعادة نظر وهي قوله: كيف يتأتى للمرء المسلم أن يحتفظ بدينه بالتوقف عن الانغماس فيما لا يعنيه؟ أو الدخول في موضوعات لا ناقة له فيها ولا جمل!

والسؤال هو: ماهي الحدود بين ما يعني الإنسان المسلم المعاصر وما لا يعنيه في عالم صار قرية صغيرة شديدة التداخل بمعنى الكلمة؟ هل الحوار العنيف الدائر في الولايات المتحدة حول إيديولوجية الجندر ومناهج الثقافة الجنسية للأطفال تعنينا أم لا؟ هل التطورات الجديدة في عالم الذكاء الاصطناعي وقضايا الجراثيم المخلقة تعنينا أم لا؟ هل ما يحدث في الشبكة السوداء يعنينا أم لا؟

فيما يتعلق بالموضوعات في حفظ الدين اقترح مثلا موضوعًا عن الدور الكبير الذي تلعبه السيبرانية في نشر الدين الإسلامي خاصة من خلال مواقع المسلمين الجدد أو المواقع المعنية بهم. فالعديد من المسلمين الجدد خاصة في الغرب قد نذروا أنفسهم للدعوة انطلاقاً من الميزة النسبية التي يتمتعون بها في فهم العقلية والمجتمع الغربي، وأصبحت الأداة المفضلة لهم هي المواقع السيبرانية والصفحات الإلكترونية التي يبلون من خلالها بلاءً حسناً.. (أذكر على سبيل المثال لا الحصر شهيد بولسين، عبد الرحيم مكارثي، حمزة دن، بول وليامز theology blogging). وفي هذا المجال يتعين دراسة ملامح خطابهم والفرق بين هذا الخطاب وخطاب الدعاة التقليديين، ورصد تأثيرهم من خلال المتابعات والتعليقات، وتصنيفهم.. الخ

ثالثاً- في مقصد حفظ العرض

تحدث دكتور شريف في ورقته عن الارتباك والتشوش الحاصل بين مرتادي البيئة الرقمية عن حدود مساحات الحياة الخاصة والعامة. لقد طرح ذلك على ذهني فكرة أو تساؤل حول لو أن العالم الإسلامي قد عاد إليه الوعي المفقود واسترد المبادرة في رسم خطوط حياته فحاول أن يضع مسطرة للقيم والسلوك الإسلامي عبر الفضاء الرقمي.. مسطرة إسلامية واسعة الأفق تتعالى على المذاهب والأيديولوجيات وتقوم على القواسم المشتركة.. فما هي ملامح تلك المنظومة المعيارية وكيف يكون تأصيلها إسلاميًا؟ ذلك أيضًا يصلح أن يكون موضوعًا مقترحاً في الملف السيبراني.

هناك أيضًا قضية أخرى ملحة هي قضية حماية الأطفال والمراهقين، وهم فئة عمرية هشة جداً تمر بأضعف حالات الممانعة وأشد حالات التوتر والاختلاط النفسي والإدراكي، ولذلك فهي مستهدف أساسي لقوى الشر، من المنظور الإسلامي، خاصة بعد أن سيطرت هذه القوى على مراكز القوة والهيمنة الدولية من خلال اتجاهات اليسار الليبرالي الراديكالي، فأصبحت أيديولوجيته الجديدة هي تشريع الشذوذ الجنسي وإزالة الثقافة المعادية له من خلال نشر الثقافة الجنسية وثقافة التحول والمتحولين والشواذ عبر وسائل التعليم وعبر أدوات القانون والإعلام، وخاصة عبر استهداف الناشئة بهذه الثقافة لخلق أجيال جديدة متقبلة وغير ممانعة لتلك الاتجاهات.. ومع ما يبدو من نجاح لتلك السياسات في الغرب.. فالاتجاه يمضي إلى ما هو أضل سبيلا، وهو الاتجاه نحو تطبيع البيدوفيليا، وتحويلها من جريمة إلى ممارسة مشروعة، عبر آليات أصبحت مفهومة مثل خلق مصطلحات جديدة تخلو من كل التراث والخبرات السيئة، مثل مصطلح ” الميول الجنسية نحو صغار السن”.. واصطناع آراء علمية — كتلك التجارب والنظريات التي بثت إفكها لترويج المثلية والتحول الجنسي – حول طبيعية الرغبات الجنسية لدى الأطفال وحقهم في ممارستها.. مثل هذه الاتجاهات، التي تمثل من وجهة نظر إسلامية أعلى مراحل الشيطانية، تطرح قضايا عدة، ما يعنينا منها في ملفنا البحثي هذا بعض الموضوعات مثل:

قضية السياسة الحمائية من المواد السيبرانية الهادمة للمجتمع في ضوء التجارب السابقة مثل الصين، ملامح تلك السياسة، آليات تنفيذها عبر المؤسسات الإسلامية العابرة للدول، التحديات والمشكلات التقنية والسياسية لتطبيقها الخ.

مقترح آخر حول الدور الكبير الذي تقوم به الصفحات والقنوات السيبرانية في الدفاع عن الفطرة في الغرب وحماية الجاليات الإسلامية وقوى الممانعة غير الإسلامية من طغيان ثقافة التحول والجنسوية.

مقترح ثالث يتعلق بدور الفضاء السيبراني المفتوح في دعم الجريمة وترويجها سواء على المستوى الدولي من خلال صفحات ومجموعات المنحرفين (مثل تجمعات البيدفيليا والبورنوجرافي) بل والشبكات الخاصة لكل ما هو جريمة مثل ال black chain.

على المستوى المحلي هناك موضوع الجريمة، ومدى تأثرها بالعالم الرقمي. فمن خلال رصد وتحليل اتجاهات الجرائم في العديد من بلدان العالم الإسلامي خاصة الجرائم الأخلاقية نجد أن الشبكة الإلكترونية والصفحات الإباحية قاسمًا مشتركًا في كثير منها.

مقترحات أخرى تتعلق بأمراض مجتمعية مثل التفسخ الأسري وانفجار حالات الطلاق وسفاح المحارم وعقوق الوالدين وغيرها، والتي تعد الظاهرة السيبرانية شريكًا أساسيًا فيها في كثير من الأحيان.

رابعاً- في مقصد حفظ العقل

ما يهمني هو علاقة ذلك بما يمكن أن نطلق عليه “المعرفة السيبرانية” أو خصائص ونظرية المعرفة في ظل ثورة السيبرانية. أثار دكتور شريف في ورقته العديد من القضايا المهمة مثل مشكلة طوفان المعلومات وأثره على تشوش عقل المتلقي، ومثل طبيعة المتحدثين في الفضاء السيبراني بين التخصص والادعاء، وهناك قضية المعلومات المجتزأة، وما يتشكل عنها من وعي زائف غير متكامل، وأخيرًا قضية الإدمان العقلي للسيبرانية.

وما يعنيني هو أن أشير إلى بعض ما تفجره الثورة الرقمية السيبرانية من تأثيرات جامحة على طبيعة العقل والتفكير والإدراك، أو لنقل على العملية المعرفية الإنسانية. على مستوى العقل الفردي أعتقد أن السيبرانية قد أنتجت حالة من عدم التوازن بين مراحل العملية المعرفية للإنسان خاصة بين مرحلتي استقبال المعلومات “التي تشهد طفرة وكثافة هائلة، تفوق في كثير من الأحيان قدرة الإنسان على هضمها، وبين عملية تحليل المعلومات واستنباط الدلالات واستقراء التعميمات منها، والتي تعاني من تقهقر يخشى معه أن يؤدي إلى تدهور الإمكانيات البشرية على التحليل.. وقد نتج هذا التدهور عن أمرين أولهما فيضان المعلومات وتشتتها وتنوعها من جانب، والثاني هو تآكل الوقت المتاح للتفكر والتأمل والتحليل، والربط، والاستقراء، والبناء.

ثانياً وعلى المستوى المعرفي أيضًا هناك حالة متوهمة يتم الترويج لها وتضخيمها من التفاعلية بين المرسل والمتلقي للأفكار، لكن الواقع أن المتلقي يستقبل سرديات متكاملة البناء ورسائل جاهزة الأركان بدءًا من البرامج، والمحاضرات والقصص الخبرية، وانتهاءً برسائل الفيديو القصيرة التافهة. فهو لا يسهم في تشكيل تلك البنى، وما يشار إليه في صدد الحديث عن التفاعلية مثل التعليقات ليس في واقع الأمر تفاعلا، بل رد فعل يقع خارج عملية تشكيل السردية ولا يسهم في بنائها. ولفهم ذلك يمكن المقارنة بين هذه العملية ونموذج عملي لفكرة التفاعل الفكري، وهو نموذج جلسات العصف الذهني التي تقوم على التفاعل في بناء الافكار.

ثالثاً تطرح حركة الأفكار وآلياتها عبر الفضاء الرقمي نموذجاً للديمقراطية بأكثر أشكالها فجاجة، فهي وإن كانت تتيح لجميع الأصوات فرصة التعبير عن نفسها بشكل متساوي، إلا أنها تفتقر إلى ما تفترضه الديمقراطية الواقعية من آليات للفرز والتمييز. بل إن آليات فرز وانتخاب وتكرير الآراء فيها تتسم بالفساد مع طغيان معايير الكم على الكيف؛ حيث تقوم الغالبية قليلة الثقافة ضحلة الذوق بتصعيد المحتوى المبتذل من خلال كثافة المتابعات والمشاهدات بينما تنزوي النخبة الثقافية والأخلاقية والفكرية لقلة عددها.

رابعًا يدعي البعض إن العملية المعرفية من خلال الفضاء الرقمي تجري في إطار سوق حرة للمعلومات والآراء، والواقع أن هذا الأمر لا يحدث، ففي الغالب تنتهي السياحة الرقمية بين الأفكار الى حالة من التحزب والاستقطاب والتحوصل والانغلاق الفكري نتيجة طبيعة الآليات الرقمية ذاتها التي تعزز ما تعتقد أنه تفضيلات القارئ عبر ترشيح المزيد من تلك الاختيارات له من خلال الخوارزميات مما يدفع المستهلك الرقمي لمزيد من الانغماس داخل تلك الفكرة التي ربما اهتم بها قليلاً عن غيرها ربما بدافع الفضول ليس إلا… وشيئًا فشيئاً يجد الشخص نفسه محاطاً بمزيد من التفاصيل الخاصة بهذا الاتجاه والمستخدمين الآخرين المهتمين به، وشيئًا فشيئًا يصبح هذا الشخص محاصرًا بالفكرة أو ذلك التيار وأنصاره ويتقوقع داخل فقاعة فكرية، بل وقد يتوهم من كثرة ما يتم الدفع اليه بتفاصيلها ومؤيديها أنها الصدق والحقيقة الكاملة، ما يدفع به الى التحزب الايديولوجي. وفي الصورة العامة يؤدي ذلك الى حروب فكرية إلكترونية يظن كل حزب فيها أنه امتلك الحقيقة المطلقة.

أخيرًا هناك نقطة تتعلق بجدارة وجَودة المعرفية الرقمية التي تتأثر تأثرًا شديدًا بآلياتها. فالملاحظ أن المعرفة الرقمية تؤدي الى تعزيز المعرفة المسموعة والمرئية على حساب المعرفة المقروءة.. وهنا لا بد أن نطرح سؤالاً: الى أي حد يمكن طرح قضايا فلسفية وفكرية، بل وعلمية معمقة ومناقشتها بعمق عبر أدوات مسموعة ومقروءة؟ ثم كيف أثرت ثقافة المسموع والمرئي الرقمية على قدرة الفرد على التفاعل مع النص المكتوب؟ إن طبيعة الآليات الرقمية قد أدت إلى تعزيز النصوص القصيرة والقصيرة جدًا المباشرة، التي تتسم بطابع الإكليشه، والصيغة السطحية المبسطة، وفي المقابل لقد أدى طغيان النمط الرقمي هذا الى تراجع النصوص الطويلة المعمقة التي تتضمن علاقات مركبة من التفسير والتسبيب والشرح والإثبات التاريخي والمنطقي، ناهيك عن البنى الفكرية المجردة.

بعد هذا الطرح العام السريع لبعض خصائص المعرفية الرقمية. أود أن أناقش دكتور شريف عبد الرحمن في موضوع بعينه أرى أنه من المهم جدًا مراجعة تناوله في الورقة، وهو موضوع الألعاب الإلكترونية. ركز دكتور شريف على الآثار النفسية والعقلية للألعاب الإلكترونية مثل الاضطراب العقلي والانعزال الاجتماعي.. وأنا في حقيقة الأمر أوافق على هذا الطرح لأثر الألعاب الإلكترونية على الأفراد، لكني أري في الوقت نفسه أن هناك بعدًا آخر لقضية الألعاب الإلكترونية يتجاوز الفرد ويجرنا إلى السياسة ولعبة الأمم، مما قد لا يتصور الباحث صلته لأول وهلة بالألعاب المقدمة للأطفال والناشئة. فالمتابع لهذا المجال الذي تضخمت اقتصادياته بشدة يلاحظ كيف يختلط محتوى الرفاهية والتنافس في الألعاب بالقيم القومية والسياسية، والمثال الواضح مثلاً العديد من الألعاب التركية التي تمجد التاريخ العثماني والنزعة العسكرية التركية ودور العثمانية التركية في نشر الإسلام. ولذلك لم يكن مستغربًا الحديث عن الاستعانة بمراكز بحوث استراتيجية في وضع الأفكار العامة لتلك الالعاب. مثال آخر خطير يتعلق بلعبة إلكترونية مشهورة تُدعى “نداء الواجب”، وهي لعبة ذات مستويات متعددة تتعلق بالحروب والصراعات ويتم الإعداد لدخول مستوياتها بمعلومات مكثفة حول أنواع الأسلحة المستخدمة، وهي بالمناسبة أنواع حقيقية. في أحد المستويات المتقدمة لهذه اللعبة يدور الصراع بين مصر وأثيوبيا، حيث تفترض اللعبة أن سد النهضة الاثيوبي قد أدى إلى الجفاف والتصحر وتدهور الحياة في مصر، وأن صراعًا حربيًا نشأ بين البلدين، وانتهى بهزيمة مصر ودخول القوات الأثيوبية الغازية الى أراضيها وأَسرِها مسئولين مصريين، حتى تتدخل القوات الأمريكية لإنقاذهم.. ولا مجال للتعليق على المحتوى السياسي. وأخيرًا وليس آخراً كيف يمكن أن تؤثر الألعاب الإلكترونية ليس فقط على الترويج للأفكار السياسية، بل وعلى الصراعات السياسية الفعلية.. هناك نموذج يتعلق بلعبة “حرب الأبطال” التي ابتدعها المبرمج الميانماري كو كوت، بوصفه أحد المناهضين لانقلاب ١١ فبراير والداعمين لقوات الدفاع الشعبي المناهضة للمجلس العسكري في ميانمار. وبالإضافة الى المحتوى السياسي للعبة فهي كلعبة رائجة قد جلبت منذ إطلاقها في أوائل ٢٠٢٢ دخلاً يتجاوز ٥٠٠ ألف دولار، تخصص لتسليح وتمويل قوات الدفاع الشعبي في الحرب الأهلية الدائرة في ميانمار. الخلاصة إن موضوع الألعاب الإلكترونية هو موضوع مهم جدًا ووسيلة من وسائل الصراع السياسي إلى جانب تأثيراتها العامة على الصحة النفسية والعقلية للناشئة.

د. شريف

أتصور أن عالم الألعاب يمثل اليوم مرحلة ترفيه ما بعد السينما، فصناعة الوعي في البداية كانت تتم عن طريق دراما الأفلام، وقد قرأت في أحد الكتب الروسية أن سلسلة أفلام “جيمس بوند” كان مقصدها الأساسي هو تغيير العقلية الأمريكية تجاه الحليف السوفيتي، حيث أراد صناع السياسة الأمريكية أن يبرروا للشعب الأمريكي كيف أن هؤلاء الذين كانوا حلفائنا في الحرب العالمية الثانية ضد النازي، قد صاروا أعداءنا الذين قررنا أن نخوض ضدهم حرباً باردة، بل وأن نعتبرهم خصومنا الأزليين، فكانت إحدى أدوات تغيير العقلية الأمريكية هي اختلاق سلسلة جيمس بوند، ذلك العميل السري الذي تتمثل قضيته الأساسية في أن يتصدى لخطر السوفيت، وأن يجد حلًا لما يمثلونه من تهديدات، فالدراما كانت هي الأداة الأساسية في صناعة الوعي وفي تشكيل العقلية المستهدفة.

أظن أن موضوع السينما استنفد أغراضه، وأصبحت الميديا تعاني بشكل ما من وصولها لمرحلة التشبع، حيث يوجد فقر كبير في إنتاج سرديات أو قصص جديدة، وهذا واضح لمن يتابع الإنتاج السينمائي، أعني أنه بدأ الآن الرهان على المساحة السيبرانية، لأنها بشكل أو بآخر تحوي ذلك المعنى التفاعلي. فالآن الفيلم تحول إلى لعبة، يتم فيها المساهمة في تحريك الشخوص، وصناعة السيناريو، والمساهمة في الخط الدرامي.

ومن ثم فالألعاب تشكل مساحة لم يتحقق فيها الإشباع بالنسبة لجمهور المستهدفين بها، ولهذا فإن الاستثمارات ستضخ فيها بكميات كبيرة، تمامًا كما ضُخت استثمارات مهولة في هوليود من قبل لصناعة أفلام عن كل شيء ووفقاً لكل تصور ممكن، وكل سيناريو مقبول عقلاً أو غير مقبول عقلاً. المشكل أن مجتمع الباحثين عادة ما يكون بعيدًا عن عالم الألعاب، بحكم طبيعة اهتماماته، في الوقت الذي يحتاج فيه هذا العالم فعلياً إلى دراسات معمقة، أما الجمهور الأساسي المستهدف بهذه الصناعة، والمستخدم لها، فإنه عادة ما يكون بعيدًا عن أن يمارس أي نوع من أنواع البحث فيها، ومن ثم فإن التحدي الآن أن ينخرط الباحثون في هذا العالم لكي نفهم من يقود الأجيال الناشئة وإلى أين.

لدي أيضًا تعليق بسيط حول سلطة الخوارزميات، طبعًا هذا موضوع يثار حوله كثير من النقاش، وتوجد أبحاث كثيرة حول موضوع سلطة الخوارزميات، هل المعلومات تمثل سوقًا حرة أم لا؟ هذا الموضوع هو موضع جدلي، لأنه يطرح التساؤل: هل ثمة أسلوب آخر يمكن أن ترشح به الخوارزميات مواد جديدة للشخص المتعاطي مع العالم الرقمي، أفضل من أن تنظر في اختياراته الماضية وترشح له على أساسها؟ ولكن في الوقت نفسه ألا تثير هذه الطريقة مخاطر تقييد الفرد داخل خياراته السابقة، وهي الفكرة التي طرحت بأكثر من مسمى أشهرها فكرة “Digital Bubble” للتعبير عن الوضع الذي يجد فيه المرء نفسه أسيراً لفقاعة رقمية، لا يتعامل فيها الفرد مع الواقع الرقمي على اتساعه، وإنما يتعامل وفقاً لخوارزميات هذا العالم ضمن حيز محدود، يعاد من خلاله إنتاج المواد، وفقا للطريقة التي تم التعاطي من خلالها مع المواد سابقا.

أ. يارا عبد الجواد

حاولت تنظيم المدخلات السابقة في مجموعة أطر، الإطار الأول يتعلق بتصميم النموذج المعرفي الذي يقف وراء الفضاء السيبراني أو البنية التحتية، وما يتعلق بالخوارزميات، وفكرة السوق الحرة للأفكار، توحي السيبرانية بهذا، لأن طبيعتها التقنية بها نوع من الحرية، لكن تصميمها وبنيتها التحتية موجهة ومتحيزة ولها منظومة قيمية، فيجب أن نكون واعين جدًا لفكرة التحيز الخوارزمي. فعندما تتفاعل مع الفضاء بشكل ما، نجد اختلافًا تامًا للنتائج، فنجد أنفسنا في فقاعة معينة، مما يعني أن حريتي كإنسان تُخترق بشكل ما، على الأقل حريتي المعرفية.

أ. منال

هل يحدث هذا مهما كانت مصادر بحثك؟ بمعنى أن هذا يمكن أن يكون بسبب أننا لسنا منتجين للمعرفة أو غير منتجين لهذه التقنية نفسها؟

أ. يارا

أعتقد أن هذا هو السؤال الذي كان دكتور هاني يذكره: ماذا لو كانت التكنولوجيا إسلامية؟ فنحن نتكلم كرد فعل للمشكلات، وأيضاً نحن متأخرون في رد الفعل سواء على المستوى الفقهي أو على المستوى التحليلي وعلى كل المستويات، ولكن هناك مبادرات أن نسهم كمسلمين في تصميم منصات للتواصل الاجتماعي، على سبيل المثال تم إنشاء موقع اسمه “مسلم فيس” يعتبر مثل الفيس بوك لكن بضوابط إسلامية، ويستند لمنظومة إسلامية، هذا مثال للموضوعات التي طُرحت حول البنية التحتية للفضاء السيبراني ومشاكلها.

د. شريف

من حوالي عشر سنين في تركيا قاموا بإنشاء ما يسمى “عالم السلام”، وكان مقصودًا به أن يكون بديلًا للفيس بوك، ولكن فشل، فمن الممكن أن تدرس التجربة الحالية، بالنظر إلى أسباب فشل التجربة الماضية.

أ. يارا

ممكن لأسباب لها علاقة بالجانب المادي أو بالقوى المسيطرة على الفضاء السيبراني.

ثانياً: هناك الإشكاليات التي يثيرها الفضاء السيبراني، التي تمس الإنسانية بشكل عام، وتمس المسلم ضمن المشترك الإنساني عامة، كما في موضوعات مثل الإغراق المعلوماتي، وحرية الاختيار، والثقافة الرقمية، والهوية الرقمية، أي كل الموضوعات التي هي مبدئيًا تمس الإنسان قبل أن تمس العالم الإسلامي.

وهناك الموضوعات التي تمسنا كمسلمين، أو تناقض المنظومة القيمية لدينا، والمرتبطة بشكل ما بهيمنة المادية والترويج للاستهلاك، والتحيز الرقمي ضد المسلمين بشكل خاص أو ضد قضايا العالم الإسلامي أحياناً، كما نرى في الفيس بوك، فمن الممكن أن يحذف منشورًا ما بسبب كلمات معينة تتعلق على سبيل المثال بإسرائيل، أو ببعض الأقليات المسلمة المستضعفة في العالم، ممكن أيضًا أن يتم حظر أفكار ترفض المثلية، وهذا تحيز عام، ولكن هناك تحيز ضد المسلمين أو العالم الإسلامي وقضاياه. في هذا المستوى التحليلي أو النقدي المتعلق بالإشكاليات التي تمس الإنسانية بشكل عام أو العالم الإسلامي، يجب أن يكون معيارنا في الحكم معيارًا فقهيًا ومقاصديًا.

النقطة الأخيرة تتعلق بكيف نستطيع أن نستخدم الفضاء السيبراني بشكل إيجابي، كواقع موازي من الممكن أن يتجاوز قيود الواقع، ويتجاوز الحدود المكانية والزمانية، على سبيل المثال هناك فكرة “الأمة الافتراضية،” والتواصل ما بين أفراد الأمة، ونصرة المستضعفين من المسلمين في العالم. على المستوى المعرفي والبناء العلمي، نجد برامج فيها حفظ القرآن أو التعليم الشرعي أونلاين، من بلاد مختلفة، فمن الممكن أن أكون في مصر وأدرس على يد شيخ من بلد آخر، فكرة الاتصال عامة بين الأمة سواء على مستوى التفاعل أو النصرة أو حتى على المستوى المعرفي.

آخر الموضوعات ما يتعلق بالـ “المسلم الانفلونسرز،” أو “البلوجر المسلمين”، كظاهرة من الممكن تسكينها ضمن فكرة هل المغلوب مولع بتقليد الغالب؟ فكرة الانفلونسرز تعتمد على الترويج لنمط حياة مادي استهلاكي نوعًا ما، دخلته بعض المسلمات المحجبات، ويقومون من خلاله بنشر محتوى يماثل المحتوى الذي ينشره غير المسلمين. فهل هذه الفكرة (تلبيس المفاهيم الغربية شكلاً إسلاميًا)، متسقة مع المقاصد؟

د. مختار

هناك مسألة تتعلق بفقه المفاهيم وفقه النموذج المعرفي، كان الدكتور عبد الوهاب المسيري يشرح نموذج العلمانية الجزئية والشاملة، فحكى قصة، في جلسة قضاها في إحدى دول الخليج مع بعض أصدقائه المتدينين، وكانوا يشاهدون على التلفاز برنامجاً للمصارعة الحرة، وهو ما أثار اشمئزاز المسيري، فسأل صاحبه لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا هل كان سيقبل بهذه الرياضة، فأجابوه بالطبع لا، لأن الزي الذي يلبسه المتصارعون يكشف أفخاذهم، وهي عورة! هذه الفكرة تشرح الكيفية الي يتم بها اختزال الشريعة في الأحكام الفقهية الظاهرية، فيما يتم إغفال النموذج المعرفي الكامن، نفس الأمر ينطبق على نموذج “الانفلونسر الإسلامي” الذي يعكس فكرًا استهلاكيًا شرهًا، كلنا نستطيع أن نميز عواره، ولكننا رغم ذلك ننجرف باتجاهه، كبارًا وصغارًا. وعليه أقول إن الوقوف عند الحدود الفقهية فقط أحيانًا ما يكون مضللًا، وذلك إذا ما كان ثمة نموذج معرفي منغمس في المادية الغربية، يستوعبنا، ونحن نسأل عن الحلال والحرام وفق منظور بسيط.

أ. تقى محمد

أود أن أركز على فكرة بناء الوازع الداخلي لدى الفرد المسلم، وأعتقد أنه من الأفضل أن نراهن على التدين الفطري عند المسلم وعلى بناء الإنسان المسلم، ويحتاج الأمر إلى دعم النموذج المعرفي أو نمط التدين السائد لدى الأفراد، ذلك أن المعلومات العادية التي قد يكون الفرد قد تلقاها بشكل فوضوي خلال رحلة تعلمه في المدرسة، لا تمثل مدخلًا معرفيًا منظمًا يُعرِفه بدينه، وبالتالي عندما يواجه هذا الفرد العالم ليحقق مقاصد الشرع من حفظ الدين والعرض، إلخ، فإنه قد يواجه بعقبة أنه أساسًا لا يملك المعلومات الدينية العامة.

في هذا السياق نحتاج صياغة تصور عن مجتمع ما في دولة معينة، لأنه من الصعب جدًا التعامل مع العالم الإسلامي كله، فنبدأ بتحديد دولة مثلًا، لنرى التصورات الدينية لدى أفرادها كيف تكون، ومن هنا ننطلق لتحديد ما يحتاجه أفراد هذا المجتمع، حتى يصبح عندنا تصور لما نحتاج أن نوصله ولماذا، بمعني ما هي المعلومات الدينية أو المعرفة الدينية التي لابد وأن تتحقق عند الأفراد، بحيث يستطيعون التعامل مع العالم الرقمي وغيره. من هنا نبدأ بأن نعرف مستوى التدين، ثم نعزز القيم الدينية، وندخل النموذج المعرفي الإسلامي، بحيث يصبح الهدف الأساسي هو بناء الوازع الداخلي الفطري عند الفرد.

من الصعب على المسلم العادي، حتى لو كان متدينا، أن يلجأ إلى المؤسسات طلبا للفتوى عند كل مشكلة، وهذا ما يبرر من وجهة نظري الرهان على الوازع الداخلي لديه، وعلى فكرة “استفتِ قلبك”، ولكن ذلك يكون بعد إعطائه المعرفة الدينية الصحيحة، حتى تكون لديه القدرة على أن يميز ما بين الصواب والخطأ في الأشياء اليومية البسيطة التي يتعامل معها في العالم الرقمي.

نقطة ثانية أود أن أشير إليها تتعلق بأن الفقه سيظل صالحًا للتعامل مع القضايا المستحدثة، لأن الإنسان سيظل هو نفس الإنسان بمشاكله وعيوبه وخصائصه. هناك طريقة شاملة يمكن أن ننظر من خلالها للإنسان، فالله سبحانه وتعالى في القرآن تكلم عن الإنسان واصفًا إياه بأنه كنود (يَعُدُّ المصائبَ وينسى النِّعمَ فيلومُ ربَّه)، هناك أساسيات لن تتغير، وبناء على ما سبق سنظل بحاجة إلى الفقه، وسنظل بحاجة إلى ممارسة القياس، فالمشاكل الراهنة ليست مشاكل جديدة تمامًا، وإنما يوجد دائمًا أساس لقياسها على غيرها، ستظل مشاكل الإنسان متمحورة حول حب الشهوات، مثل شهوة الشهرة، شهوة حب التملك أو حب الظهور، كل هذه الاشياء ستظل موجودة وما قد يختلف هي الطرق التي تمارس من خلالها هذه الشهوات، بمعنى إنه في السابق كانت ثمة طرق للشهرة، الآن مازال حب الشهرة موجوداً، ولكن عبر وسائل العالم الرقمي، فالاختلاف إذن هو اختلاف شكلي.

هناك جانب آخر هو ضرورة الاهتمام بالتعليم، الذي يعمل على زيادة وعي المسلم سواء بالدين أو بالعالم الرقمي فيكون عنده معرفة بالعالم الرقمي، وأرى أن نبدأ بتنمية التفكير المنطقي والتفكير النقدي لدى الأبناء، بحيث يصبح لديهم الملكات التي يستطيعون أن يتعاملوا من خلالها مع العالم الرقمي بشكل أو بآخر. وذلك بالتركيز على تنمية المهارات والملكات وكيفية التعامل مع المشاكل الحياتية المختلفة، سواء في العالم الرقمي أو غيره.

ذكر دكتور شريف في البداية أننا لا نملك التصور الواضح عن الآلات التي نستخدمها، وللأسف لا يمكن معرفة مدى ما سوف نصل إليه من تصورات عن الآلة، فكرة الخوارزميات تحتوي على مدخلات لا يستطيع العقل العادي أن يتعامل معها أو يستوعبها. ولكن ما نحتاجه على الأقل هو معرفة أولية، فالفرد العادي لديه قناعة أنه لا يوجد أي تحيز في العالم السيبراني، ولا يرى أن الشركات الرقمية نفسها أو ملاكها لديهم تحيز. فنحتاج أن يكون لدينا معرفة بهذه الأمور.

د. هاني

يوجد دراسة بعنوان دليل الآباء إلى العالم السيبراني أو العالم الشبكي، تقول إن الفيس بوك تورط في حالات كثيرة من تسريب خصوصيات المستخدمين لجهات تستغلها ماليا، والفيس بوك نفسها تربحت من هذا، فأعتقد أن هذا رد على مقولة عدم التحيز. وعندما تكون ألعاب الأطفال تحمل الأجندة الجندرية وتحاول بثها بين الأطفال بشكل أو بآخر، أليس هذا تحيزا لهذه الاجندة؟

أ. تقى

هناك أمثلة كثيرة على موضوع التحيز، ولكن البعض يقول إن الفضاء السيبراني مفتوح لمن يتبنى الفكرة أو الفكرة المضادة، وحتى إذا كان ثمة تحيز في الخوارزميات، فسيتم تجاوزه في المستقبل.

هناك نقطة أخيرة وهي فكرة فلسفة الآلة أو القائمين على الآلة، نحن بحاجة إلى تحليل خطاب وأفكار مؤسسي الشركات الضخمة مثل فيسبوك وجوجل، لنعرف توجهاتهم المستقبلية، إيلون ماسك على سبيل المثال عنده من الغرور ما يجعله يفصح عن تفاصيل ما يضمره من أفكار في المستقبل، أظن أن هذا أمر مهم لاستشراف البدائل، حتى يصبح لدينا وعي وفهم بما ستؤول إليه الأمور.

أقترح أيضًا التفكير في تطوير “دليل للاستخدام”، لمعرفة الطريقة المثلى في التعامل مع المنصات الرقمية، وقد يتضمن مثل هذا الدليل نوعًا من النصائح حول كيفية التعامل مع هذه المنصات على نحو يقلل من تأثيرها علينا، وحول كيفية إمداداها بالبيانات على النحو الذي لا يؤثر في أمننا وخصوصيتنا. حيث نلحظ أن كثيرًا من هذه المنصات تتغذى على البيانات التي يولدها المستخدم، وربما تستخدم هذه البيانات في التأثير فيه لاحقاً.

د. شريف

كانت إحدى هذه المنصات قد قامت بتحدي مشهور منذ فترة، حيث تحدوا المستخدمين أن يضعوا صورهم وهم أطفال في مقابل صورهم بعدما كبروا، واتضح أن الغرض من هذا التحدي هو تعليم الآلة كيفية توقع أشكال الأشخاص بعدما يتقدم بهم العمر، أو كيفية استنتاج أن هذه صورة هذا الشخص، وكان هذا التحدي يطرح بشكل بريء، ولكن الحاصل أنه يتم إخفاء الغرض والطريقة التي يتم توظيف هذه المعلومات بها، الأمر الذي يصم هذه الأفعال بسمة التحيز بطريقة لا جدال فيها.

نقطة أخرى مهمة أن العديد من الأدبيات الغربية بدأت في الحديث عما يطلق عليه “الوضعية الرقمية” أو مرحلة “البيانات الضخمة”، حيث المتحدث هو الرقم وليس الموضوع، فمن خلال “”big data، يمكن أن نعرف من ذهب إلى أين؟ من أكل ماذا؟ من دخل المحل واشترى ماذا؟ فمن خلال هذه التقانة الجديدة نعرف كل شيء عن المجتمع من غير حتى سؤال الأشخاص. الأسوأ إنني لا أحتاج أن أعرف كيف يتم ذلك، وكأننا أصبحنا أمام أساس جديدة للمعرفة.

وما ذاك إلا لأن الأرقام لا تجيب على سؤال كيف؟ الأرقام تقيم علاقات ارتباطية، فهي تقول أن الشخص “س” من المرجح أن يتخلف عن سداد أقساط القرض من البنك، فإن حاول أن يشرع في أخذ قرض من البنك سيتم رفض طلبه لأن الـ “”big data تقول إنه لا يستطيع السداد. فيما قبل كانت البيانات الإحصائية يمكنها أن تصل إلى الاستخلاص نفسه، ولكنها قد تبرر ذلك بالقول إن هذا الشخص ينتمي إلى منطقة/شريحة يغلب على ساكنيها إنهم لا يسددون التزاماتهم في وقتها، ولكن في ظل البيانات الضخمة فإن التوقعات تصاغ على المستوى الفردي، فالفرد “س” لن يمكنه السداد، ومن يقدم هذا التنبؤ غير ملزم بذكر السبب؟ ففي البيانات الضخمة توجد توقعات ولا توجد تفسيرات، فالبيانات الضخمة تعطي تنبؤات بدون أي أساس عقلي، وهنا فإن ثمة جانب من فلسفة استخدام الأداة متحيز بلا شك، ودورنا كباحثين اجتماعيين، عندما نبحث في التفاصيل الكامنة أن نكتشف أن كثيرًا مما ينسب إلى العلم المنضبط الموضوعي، القائم على المشاهدة وجمع البيانات والتجربة به تحيز كامل، لأن التفسير كان جزء من مهام النشاط التنظيري العقلاني، والاستغناء عنه هو إضفاء لنوع من اللاعقلانية على الواقع.

أ. مهجة

بالنسبة لموقع التقانات الرقمية مع الفتوى، ألاحظ أن الـ “”big data بهذا المعنى في حالة تعارض مع الفتوى، لأنه يبدو لي أن الفتوى تركز أكثر على الحالات الفردية.

د. شريف

الواقع أن البيانات الكبيرة تراهن على الحالة الشخصية، أن “big data” هي تعكس مرحلة ما بعد التنظير، من يعملون في إطار هذا النوع من الأبحاث يؤكدون أنهم بغير حاجة إلى نظريات أو مقولات عامة من أي نوع وأنهم سيقدمون نوع من الـ “”micro targeting الذي يستهدف الشخص بعينه، فلا تكون ثمة حاجة لأن تكون هناك مقولة تسري على كل ساكني المكان، ولكن مقولة جزئية تخص كل فرد على حدة.

أ. تقى

ثمة فكرة تمت الاشارة اليها سابقاً، وهي فكرة المجتمع التراحمي وكيف نعيده إلى الواجهة، خصوصاً مع الصغار، الذين يجب أن نبحث لهم عن بدائل تعوضهم عن عالم الألعاب الرقمية، ولكن ما يزيد الأمر صعوبة أن المجتمع الحديث لا يقدر فكرة الأماكن العامة، فالخروج أصبح شيئًا صعبًا، وبخاصة في المدن، الأمر الذي يفرض على الجميع الإقامة في المنزل لفترات طويلة، ما يجعل الأطفال لديهم وقت طويل فيلجؤون إلى استخدام الأجهزة الرقمية، في مواجهة هذه الظاهرة، نحتاج إلى أن نعيد المجتمع التراحمي الذي ينطلق فيه الناس ويتفاعلون ويجدون متسعًا من التفاعلات المشبعة.

د. شريف

أحد توابع منظومة اللعب الرقمي هي فكرة ازدراء الواقع، فبالمقارنة مع عالم الألعاب الرقمية يبدو الواقع مكاناً مملاً، والطفل العادي اليوم لن يقتنع بأي لعبة بخلاف تلك التي توجد على هاتفه النقال، أو على جهازه الرقمي أيا كان، أما المجتمع الحقيقي بألعابه التقليدية، ومظاهر الاستمتاع التي كانت كافية لأجيالنا مثلاً، فهو مجتمع الملل من وجهة نظر الأجيال الأحدث.

أ. تقى

هناك أيضاً فكرة الكسب السريع أو الفوز السريع، التي تجعل الطفل يفقد صبره بسرعة، وعندما يواجه مشاكل في حياته الحقيقية لا يعرف كيف يتأنى في محاولة حلها، فالمشكلة لابد لها من حل سريع، وعليه فالألعاب تعلم قيم ومعاني معينة، منها العجلة وعدم القدرة على ممارسة الصبر، وعدم القدرة على التعامل مع المشاكل بما تستحقه من تؤدة.

د. شريف

الواقع نفسه يعمق هذا الإحساس، وبخاصة بعدما بدأت المؤسسات الرصينة بما فيها الجامعات والشركات والبنوك باستعارة ثقافة الألعاب لكي تجتذب المستهلك.

أ. محمد الديب

من الممكن أن نطلق على السيبرانية أنها نازلة، ليست من عند المسلمين، هي شيء من المجتمع الغربي، النقطة التي طرحها الدكتور هاني هل لو أن المسلمين هم الذي صنعوا التكنولوجيا كانوا سيصنعونها بهذا الشكل؟ أظن أن العقل المسلم لم يكن لينتج شيء مثل الفيس بوك الذي هو منصة تتيح لكل الناس التواصل في أي شيء وفي أي وقت، العقل المسلم يقيد هذا، إن السيبرانية جاءت ونحن في حالة من الفراغ الكامل في جميع مناحي الحياة، على مستوى التربية وعلى مستوى التعليم وفراغ على المستوى الديني والفقهي وما شابه ذلك، فمثلًا المجتمع المصري جاهز أن يستوعب الآن الأفكار الغربية، وهذه الأفكار تنتشر.

لدي نموذج من كتاب “مسامرات البنات” طبع سنة 1911م، الكتاب تربوي قصصي، قائم على فكرة التوجيه والوعظ التربوي في صورة قصص خاصة بالبنات، وأخلاق البنات، وبه جزء يضرب أمثلة ببعض سير النساء سواء من الحضارة الإسلامية أو الحضارة الغربية الحديثة، وقد فوجئت أيضًا أن نبوية موسى لها كتاب “المطالعة لمدارس البنات”، أيضاً يركز على نفس الموضوع، على الرغم أن نبوية موسى مصنفة أنها أحد رموز الاتجاه النسوي في مصر، هذه الموضوعات لا توجد في مصر في الوقت الحالي، المناهج التعليمية ليس بها أي تفرقة في أي مرحلة من مراحلها أو في أي محتوى تعليمي من محتوياتها ما بين البنات والأولاد حتى في المرحلة الجامعية.

مسألة الادمان الرقمي، تفاقمت في مرحلة كورونا، عندما فُقدت الأماكن التي كان يتردد عليها الأطفال مثل الحضانة أو ما شابه ذلك، وبدأ التعامل مع هذه الأجهزة مما اتخذ شكل الإدمان، المشكل أن المحتوى العربي والإسلامي الجيد محدود أما المحتوى الغربي فلا ينتهي، وخصوصاً الغربي المدبلج، وقد ظهر من فترة كرتون اسمه “أزمة هوية” أبطاله من الخيول من الإناث بينهم تنين صغير، يتساءل ذات مرة: لماذا أعيش هنا، أنا أريد أن أعيش وسط أمثالي؟ فينضم إلى أمثاله، ولكن لا يستطيع الاستمرار معهم، فيرجع إلى ما كان عليه، وينتهي الكرتون بجملة معناها إن الهوية هي مسألة وعي.

بالعودة إلى مسألة الفقه والفتوى، أراهن دائمًا على الفقه بمفهومه الواسع، وأن الفقه يستوعب الواقع ويفهمه ويحكم عليه ويوجهه ويفسره بل ويستشرفه، وهناك كتاب مهم يجب أن يدرس في كليات العلوم السياسية “غياث الأمم في التياث الظلم” للإمام الجويني، والذي يفترض مسائل متعلقة بالسياسة العامة والمسائل الجزئية، أشياء لم تحدث في القرن الخامس الهجري، فتكلم مثلاً عن شغور الزمان من الإمام، أي عندما لا يوجد إمام، ولا يوجد فقهاء شريعة، فماذا يفعل الناس؟ وهذه مسائل بها استشراف، هذا في عصر كان به نهضة حضارية تمثلت في الفقه. والفقه في حقيقته تيأأيعالج أصل المشكلة، وهذا دور الباحث الاجتماعي، الذي يجب أن يدرس المجتمع ويرفع الواقع.

واقع الإفتاء متأخر عن الواقع، ثمة مسائل متعلقة بالسيبرانية، مثل مسائل الزكاة بالبتكوين ومسألة الجهاد السيبراني هل يعد من أبواب الجهاد، ومسائل البيوع التي تكاد لا تنتهي، ومسائل الغرر والربا في الواقع السيبراني، إن كل يوم يشهد مسألة جديدة وبخاصة مع كثرة السلع وكثرة أشكال البيوع.

نهاية إن أمة الإسلام لا تعرف أين موقعها، ولا وجهتها، يسرى هذا فيما يتعلق موقف المسلمين من موضوع السيبرانية، نحتاج أن يكون هناك مسار مقاوم للسيبرانية التي غزت حياتنا، وليكن مثل تجربة الشناقطة، وهم ناس يسلكون مساراً علميًا، قد يمتد لخمس سنين أو حتى عشر سنين في حفظ كم رهيب من المتون والأبيات والنصوص، هذا مسار مقاوم، صحيح أنه قد لا يناسب البيئة المصرية، ولكنه مثال على مقاومة ثقافة السيبرانية.

فيما يخص حفظ المقاصد وحفظ العقل، لقد اختبرتها على المستوى الشخصي، ففكرة مواقع التواصل هي في الحقيقة تخرب العقل، بمعنى أنني لو فتحت الفيس بوك على مدار دقيقة سأجد خبر متعلق بما يحدث في ليبيا وهذا شيء مأساوي، وبعدها أحد اصدقائي تزوج وهذا شيء مبهج، وآخر يجعلني أضحك، جميعها مشاعر متضاربة في الوقت الواحد، مما يجعل الذهن غير قادر على الاستيعاب بعد فترة من ذلك. أنا أمثل يوم الشخص بكوب بداخله مكعبات صلبة وهي الأعمال التي يقوم بها في حياته، ومواقع التواصل مثل السائل الذي دخل على هذا الكوب في فراغات كثيرة، لأن الأشياء الصلبة لا تملأ الكوب كله، ولكن السائل يملأ الفراغات، وبعدها يبدأ في إذابة هذه الاشياء الصلبة، ففكرة المسار المقاوم للسيبرانية بشكل عام يجب أن يتم من خلال طرح أشياء لا سيما على المستوى العملي التعليمي أو على مستوى الأطفال. إن المدارس تقوم بتنظيم مناهج متعلقة بذلك، ولكن فكرة المبادرات الشخصية والفردية على مستوى تعليم الأطفال وما شابه ذلك فهذا شيء من الممكن أننا ندعو اليه وسنجد له فعلا مسارات تنطبق معها.

د. شريف:

من الممكن فهم ما تحدث عنه الأستاذ محمد الديب بربطه بموضوع هرمونات السعادة (الدوبامين)، حيث يربط البعض بين الفيديوهات القصيرة والجرعات الصغيرة من هذا الهرمون، والمقصود أن يصبح الشخص طوال الوقت مستهلك لهذه الجرعات وغير متشبع بها. وذلك لا يحدث عندما يطالع المرء عملاً أدبيًا أو رواية مثلًا، ففي هذه الخبرة يتحين المرء الوقت على مدار أسبوع أو أكثر ليصل للوقت المخصص لقراءة العمل الأدبي والاستمتاع به. تم استبدال هذا المفهوم بالجرعات الصغيرة التي لا تكاد تُشبع المرء، وبذلك يتم ضمان أن الفرد سيظل طوال الوقت متشوف للمزيد من هذه الفيديوهات، وكأنه يبحث عن الخبر الذي لا يأتي ابدا، والسر في جرعة الدوبامين الصغيرة التي لا تشبع، ولكنها تقيد الفرد بالمزيد من الجرعات، الموضوع إذن يحتوي على قدر من علم النفس، وكأن هناك نوع من اللعب السيكولوجي على الإنسان، لإيقاعه في إدمان هذا النوع من المنتج الرقمي، لذلك نقول إننا أمام ظاهرة تستحق التأمل كونها غير مألوفة فيما كنا نعرفه من أنماط الاستهلاك.

أ. مهجة

وعلى جانب آخر إن لم ينل الطفل حظه من التعامل مع الإنترنت فسيقال إننا نفصله عن مجتمعه ونجعله متخلف عن الآخرين وسيعتبر البعض أن في ذلك نوع من الأذى للطفل. ولهذا أرى أن تكون عملية التحجيم دون حرمان، حتى يصبح الطفل جزءًا من المجتمع السيبراني الذي لا فكاك من الانخراط فيه.

د. مختار

قد يكون العمل على إيجاد بدائل متنوعة بقدر الإمكان هو الحل والمسئولية ملقاة على عاتق الوالدين وهذا جهاد حقيقي.

أ. وليد القاضي

جلسة ممتعة، عن نفسي أنا مقاطع للفيس بوك من فترة كبيرة. أما بخصوص النشء فنحتاج إلى أن لا يسرفوا في استعمال التكنولوجيا حتى لا يتأثروا بجوانبها السلبية، ولكن هناك أيضًا جوانب إيجابية سواء على مستوى اكتساب اللغة أو اكتساب مهارات التعامل مع الغير. هناك بعض الألعاب لها خطورة كبيرة على الأطفال، ويجب مراقبتهم بشدة قدر الإمكان لحمايتهم من الأفكار المغلوطة التي تخالف ديننا وقيمنا، خاصة أن هذه الأفكار يتم تضمينها داخل الألعاب بصورة جذابة للطفل، وخصوصًا مع عدم وجود البديل المناسب لها، وحتى بعد المراقبة قد يعود الطفل مرة أخرى ويستخدم نفس البرامج التي تم منعه منها فيما سبق لعدم وجود البديل.

المواد الدينية والقومية بالمدارس غير مهتم بها، كما أن جعلها خارج المجموع الدراسي جعل النشء والأهل غير مهتمين بها رغم أهميتها، وللأسف هناك أيضًا الفراغ العلمي والمعرفي الذي يعاني منه أبناؤنا.

أ. منال

نحن لا نملك إعلامًا أو مؤسسات إبداعية تنتج أفلامًا أو ألعاباً، ونحن كباحثين علينا أن نناقش ما المفروض عمله لكي نواجه هذه المشكلة، وهناك جهات كثيرة يجب أن تقوم بدورها سواء على مستوى الإعلام أو على مستوى الفن أو على مستوى التعليم، والجميع متفق على أن التعليم شيء أساسي. أيضاً هناك الحاجة إلى المصاحبة فنحتاج نموذجًا للتعليم عن قرب، ودور المعلم كيف يقرأ شخصية المتلقي والمتعلم ويقدم مرجعية له، والمعلم نفسه يحتاج إعدادًا صحيحًا، فيجب أن يكون المعلم على قدر من الوعي بالسيبرانية وقدر من الوعي بالتحديات التي يواجهها.

ويجب أن نعرف أن هذا أحد سبل الحل أن نرجع بالتعليم إلى الإطار الذي يتم فيه تعليم الصغير وأيضًا الكبير، وكيف نعالج التعليم القاصر في المدارس باستخدام منصات بديلة، ولابد من العمل على إيجاد “دليل مستخدم” ليكون دليلا للمسلم في التعامل مع الفضاء السيبراني أو التحديات السيبرانية.

د. شريف

الاجراءات تأتي كمنتجات جانبية لعملية التفكير، ولقاء اليوم عندما ينشر على موقع المركز ويصبح مادة مقروءة، سوف يمثل نوعًا من التوثيق لحالة فكرية قد تلهم الآخرين ممن لديهم قدرات تفعيل، فعملية التفعيل دائمًا تأتي بعد عمليات التفكير، وعمليات التفكير إذا تمت بالعمق الكافي والتوسع المطلوب يمكن إن شاء الله أن تلهم فيما بعد من يَطلع عليها، لكي يستنبط منها إجراءات تفعيل، فما نسعى إليه في النهاية ليس نوعا من “عرض الرجل الواحد”.

د. أماني

من الممكن أن يطرح الموقع فكرة الحاجة إلى مساهمات بحثية لصياغة ما يسمى بدليل المسلم ويصبح نوعا من التفاعل المرجو.

أ. محمد

هناك العديد من المتهمين الذين يحللون كارتون الأطفال ويستخرجون منه المخالفات العقيدية، وهناك أيضًا مركز في السعودية مهتم بهذا الأمر ولديه ما يطلق عليه دليل الرقابة الذاتية للأطفال، وفكرة الخطاب التربوي الذي يجب على الآباء أن يطوروه هو من المسائل المهمة، أيضًا موضوع تطوير الدليل يعتبر من أهم الموضوعات.

أ. مهجة

من الموضوعات المهمة أيضًا للطفل فكرة البيئة الحاضنة، فيجب أن يوضع الأطفال في بيئة اجتماعية حقيقية، وأن يكون هناك مربين على مستوى من التربية الدينية والعقائدية يتصلوا بصفة دائمة بالنشء في إطار علاقة مترابطة، فهذا ما يمكن أن يشغل الطفل عن الاستخدام السيء للتكنولوجيا، فهذا أمر مهم جدا، أقصد التفاعل الإنساني الحقيقي مع وبين الأطفال.

د. شريف

من المهم فعلًا الرهان على الحقيقي، وعلى الإنسان، فإذا كان هناك من هو مقتنع أن كل التفاصيل الجديدة التي تجري حولنا؛ تدفع في اتجاهات معينة، تسلب الإنسان لقدراته، وتشوش وعيه، أو تدفعه إلى الزاوية، وتهمشه ليصبح مجرد مستخدم للآلة، وفي المقابل ذلك تمجد الآلة وذكائها، فإن دورنا أن نراهن على الحق (الإنسان، والقيم، والتربية بالتواصل والمعايشة، ودعم المرجعية الدينية … إلخ) كمخرج من هذا التحدي الكبير.

أ. منال

في النهاية نشكر الحضور على هذا التجمع الحميد، وإن شاء الله سيتم تفريغ الندوة ونشرها على موقع المركز، وسيقوم المركز بإنشاء مشروع متكامل حول نفس الموضوع، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الآثار الاجتماعية للسيبرانية: حلقة نقاشية بمركز خُطوة للتوثيق والدراسات  

عن مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

شاهد أيضاً

التدمير الخلاق: أبطال موجة الذكاء الاصطناعي وضحاياها

تأليف: أ. د. أيمن البوغانمي

عرض: أ. أحمد محمد علي

 يبدأ الكاتب بتسليط الضوء على التحولات التكنولوجية العميقة التي يشهدها العالم اليوم، والتي يصعب مقارنتها إلا بالثورتين الصناعيتين السابقتين.

المقتنيات الجديدة من معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.