الطريق إلى الله

الطريق الى الله*

لابد لكل مسلم من تأهيل عالٍ يجعله حقيقاً بالانتساب إلى الله، والخلود في رحمته. ونفسه هي موضع التزكية والترقية، وهو يستطيع رياضتها بما شرع الله من طاعات وحدود، وبما رسم من آداب ومعالم حتى تبلغ الشأو والمراد، وليس لطريق الكمال نهاية يقف لديها المسلم، فهو ما بقِيَ حياً مكلف بالأمر والنهي مطالب بالنظر في نفسه، فلعل فضلة شر بقيت يجب استئصالها، أو نشأت من جديد يجب أن يمحوها.

  ولو أنه أمِن تسرب الكبائر والصغائر إلى نفسه، ووثق من ارتداد الوساوس الآثمة عنه فإن حقوق الله عليه -من تعبد محض – تبقى في عنقه ما بقي فيه نفس يتردد حتى يلقى الله، وهو ذاكر شاكر، مستسلم الفؤاد والجوارح ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢، ١٦٣].

  والطريق إلى الله تعبير لطيف عن جهود المسلم في تصفية نفسه، وترضية ربه، والتحول عن مواطن الغفلة والركود إلى مواطن الذكر والحركة. ومراحل الطريق تتمثل فيما يحرزه المرء من نجاح وهو يتخلص من خلة رديئة، أو مسلك عابث، ويتحلى بخلق كريم وسيرة جادة.

الطريق سير في ميادين النفوس، وجهته الله، وعدته صالح الأخلاق والأعمال. ومع هذه العدة التي يقوم المسلم بها، رجاء حار في التوفيق الإلهي الذي يسدد الخطأ ويبارك في القليل، ذلك أن الله وعد المقبلين عليه بإقبال أعظم ﴿مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ [النمل: 89]. والسائر لو وكل إلى جهده وحده غلبته وعثاء الطريق فمشى ببطء أو انقطع بعد لأي، ومن ثم فإن تعويل السائرين ينبغي أن يكون على الإمداد الإلهي أضعاف ما يكون على الجهد المبذول.

 ألا ترى الفلاح يبذر الحب ويروي الأرض وينظر بعد ذلك إلى بركات السماء، وهو مدرك أن جهده المحدود لا قيمة له ما لم يلحظه الله بعنايته. إن هذه العناية قد تفاوت بين جهدين متساويين فتجعل نتاج هذا عشرة عشرة أضعاف ذاك.

*****

التوبة

 وهي أول مراحل الطريق بل هي المدخل المفضي إليه.

والتوبة كلمة شائعة على الألسنة حتى لكأن شيوعها ابتذلها وأطفأ سناها الكريم، ومع أن دلالة الكلمة تجعلها أخطر من أن يجازف بها. فمن الهزل العجاب أن تدور على الألسنة دون تيقظ وإدراك. وجمهور البشر محتاج إلى التوبة، فما أكثر الذين يرديهم طيش الغرائز، وقلة التجربة، واضطراب اليقين.

وإذا استثنينا الأنبياء فأغلب بني آدم تعرضوا لخطايا سيئة وأخطار لا حصر لها. أما الأنبياء فإنهم قيادات روحية وفكرية اصطفاها الله من النشأة الأولى وتخيرها من معادن أرقى، فهم ليسوا على غرارنا، وإن كانوا من تراب الأرض مثلنا.

وقد قال الله لرسوله عليه السلام ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ﴾ [هود: ۱۱۲] أي: أن الذين اتبعوه جاءوا إليه تائبين. والتوبة جهد لابد أن يقوم كل إنسان به، ولن يغنى عنك أحد أبداً في أدائه. فإذا اتسخ ثوبك فلن ينظفه أن يغسل جيرانك ثيابهم، وإذا زاغ فكرك فلن يصلحه إلا أن يهتدى هو إلى الصواب. ﴿مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء: ١٥]. فالخطأ في حق الله لا يداويه إلا اعتذار المخطئ نفسه. فلو اعتذر عنه أهل الأرض جميعاً، وفي مقدمتهم النبيون، وبقيَ هو على عوج نفسه فلن يقبل عنه اعتذار ولن ينفعه استغفار.

لابد أن يجثو المذنب في ساحة الرحمن ثم يهتف من أعماق قلبه: ﴿وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ ليؤمل – بعد ـ في مغفرة الله ورحمته. وعلى كل إنسان ساء فعله واضطربت حاله أن يسارع إلى ربه، متعهداً نفسه بالرعاية والتأديب، مقبلاً على شأنه بالترتيب والتهذيب حتى يستطيع النجاة مما وقع فيه. وانتهاز اليوم أفضل من انتظار الغد، بل إن كنت في الصباح فلا ترقب الأصيل. لا تعلق بناء حياتك على أمنية يلدها الغيب، فإن هذا الإرجاء لن يعود عليك بخیر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)[1].

ثم إن كل تأخير لإنفاذ منهاج تجدد به حياتك وتصلح به أعمالك لا يعنى إلا إطالة الفترة التي تبغي الخلاص منها، وبقاءك مهزومًا أمام نوازع الهوى والتفريط. بل قد يكون ذلك طريقاً إلى انحدار أشد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الليل والنهار مطيتان فأحسنوا السير عليهما الى الآخرة، واحذروا التسويف، فإن الموت يأتي بغتة، ولا يغترن أحدكم بحلم الله عز وجل، فإن الجنة والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله”. ثم قرأ: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8].

ما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين، وأن يرسل نظرات ناقدة في جوانبها ليتعرف عيوبها وآفاتها، وأن يرسم السياسات القصيرة المدى والطويلة المدى ليتخلص من هذه الهنات التي تزرى به، ألا تستحق النفس بعد كل مرحلة تقطعها من الحياة أن نعيد النظر فيما أصابها من غُنم أو غُرم؟ وأن نرجع إليها توازنها واعتدالها كلما رجتها الأزمات؟

إن الإنسان أحوج الخلائق إلى التنقيب في أرجاء نفسه، وتعهد حياته الخاصة والعامة بما يصونها من العلل والتفكك، ذلك أن الكيان العاطفي والعقلي للإنسان قلما يبقى متماسك اللبنات مع حدة الاحتكاك بصنوف الشهوات وضروب المغريات، فإذا تُرك لعوامل الهدم تنال منه عندئذ تنفرط المشاعر العاطفية والعقلية كما تنفرط حبات العقد إذا انقطع سلكه، وهذا شأن ﴿مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: ۲۸] كما يقول الله عز وجل. وكلمة (فرط) هذه ينبغي أن نتأمل فيها، فالعامة عندنا يسمون حبات العنب الساقطة من عنقودها أو حبات البلح الساقطة من عرجونها (فرطاً). والنفس الإنسانية إذا تقطعت أواصرها ولم يربطها نظام ينسق شئونها ويركز قواها أصبحت مشاعرها وأفكارها كهذه الحبات المنفرطة السائبة لا خير فيها ولا حركة لها.

إن صوت الحق يهتف في كل مكان ليهتدي الحائرون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيُعطى؟ هل من داع فيُستجاب له؟ هل من مستغفر فيُغفر له؟ حتى ينفجر الفجر”[2]. وفي رواية: “أقرب ما يكون العبد من الرب في جوف الليل”[3]، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعات فكن.

إذن إن التوبة والعودة الى الله تتطلب أن يجدد الإنسان نفسه، وأن يعيد تنظيم حياته، وأن يستأنف مع ربه علاقة أفضل وعملاً أكمل وعهداً يُجري على فمه هذا الدعاء (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)[4].

* مدارج التوبة:

وأهل الطاعة محتاجون إلى التوبة كما يحتاج إليها أهل الذنوب. ومن ظن منهم أنه ليس عنده ما يتوب منه، أو ظن أنه مستغن عن المتاب فقد زل. والتوبة يتطلبها هؤلاء من عدة جهات:

أولاً– من الخلل الذي يقع في الطاعات نفسها، فقلما يأتي الإنسان بالعبادات المطلوبة مبرأة من كل عيب. وإن العبد لينظر في صلاته أو في تلاوته كتاب الله مثلا، فيرى أن ضبابَا من الغفلة اعترضه في أونات كثيرة وهو يصلى أو يقرأ. من أجل ذلك التقصير المستمر شرع الاستغفار في أعقاب الصلوات ثلاث مرات.

ثانياً– ظن البعض بأن هذه الطاعات هي منتهى حق الله عليه، وأنه بأدائها قد فرغت ذمتهم، ودفعوا لله ثمن نعمه، وثمن جنته!! وبعض ذوي الطاعات ينتابهم شيء من البلادة وتحجر القلب ارتكانًا إلى أشكال العبادات التي فعلوها وربما نزلوا بهذه الأوهام والأدواء إلى درك لم ينزل إليه بعض المخطئين.

ثالثاً- وصنوف العبادات التي طولب المؤمنون بها كثيرة. ومن الناس من يفتح له في ناحية لا يستطيعها غيره لاستعداد زودته الأقدار به من قبل، وليس في هذا حرج. إنما الحرج في أن يستكثر الإنسان من عبادة ما على حين يجب عليه التوسع في غيرها وتوجيه فضول نشاطه إليها.

فالغني الذي يستكثر من الصلوات ويقتصد في الصدقات والنفقات يجب أن يتوب من هذا المسلك. والعالم البليغ الذي يصوم الإثنين والخميس، ويلوذ بالصمت أو بالإيجاز في مواطن الزجر والنصح يجب أن يتوب من هذا المسلك. إن بعض الناس يؤثر عبادة على أخرى لأنها أدنى إلى هواه، وأقرب إلى السلامة، والدين أحكم في تعاليمه وأدق في موازينه مما يتوهم هؤلاء.

رابعاً- وحراسة الطاعة بعد أدائها من شتى الآفات ضرورة، كحراسة الزرع من الديدان والأعراض التي تجتاحه. والرجل الذي يعطى ثم يمتن، أو يطلب بعطائه الصدارة بين الناس، رجل يحبط بهذا المسلك عمله ويضيع أجره.

*****

العفة والقناعة

هذا العنوان أحب إليَ وأقرب إلى لسان الشريعة من عنوان (الزهد والفقر). فالعفة تعني القدرة على ضبط النفس، أو قدرة المحروم على حكم إرادته، فهي فضيلة إيجابية حية، أما الزهد فربما اقترب في مدلوله وفي نتيجته من هذا المعنى، إلا أنه أدنى إلى السلبية والاستكانة. وقد رأيت الشارع استعمل كلمة العفة في نصوص كثيرة صحيحة، أما كلمة الزهد فترى أنها لم تجيء في حديث صحيح.

عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ الأمانة، وصدق الحديث، وحسن الخليقة، وعفة في طعمة)[5]. وفي الحديث (من يستعفف يعفه الله)[6].

وقد قال تعالى لأولياء اليتامى: ﴿ومَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكل بالمعروف﴾ [النساء: ٦].

وقال للعزاب: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ [النور: ٣٣].

وفي الرضا بالواقع، وحسن استغلاله، ورد السخط على الأقدار يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الذكر الخفي، وخير العيش ما يكفي)[7]. وفي الحديث (يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، فإن ما قل وكفى خيرٌ مما كثر وألهى)[8].

وظاهر من التأمل في الآثار الأخيرة أنها تحارب رذائل الشره والطمع، والتبرم بالميسور، والبخل في وجوه الحق. إن اشتهاء الدنيا يكاد يختلط بدماء الناس، ويخرج بهم عن جادة الاعتدال والحكمة، والإنسان مجادل في تسويغ شهواته، وبسط حاجاته، وتحقير ما عنده وإعلان التمرد عليه. والدين يهذب هذه الطباع، ويدرب البشر على فضائل العفة والقناعة. وبديهي أن العفاف لا ينافي الإثراء من وجوه الخير، وأن القناعة لا تنافي السعي إلى حالة أفضل.

وإن كانت الدنيا إنما تُطلب وتُستحب وسيلة لما بعدها، وقنطرة لمثوبة الله جل وعلا، فإن طالبها يجب أن يلتزم القوانين التي شرعها مَن تُطلب الدنيا لأجله. وقد روى عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الدنيا حلوة خضرة فمن أخذها بحقها بورك له فيها، ورب متخوض فيما اشتهت نفسه ليس له يوم القيامة إلا النار)[9].

إن هناك آداباً لامتلاك الحياة يجب أن تدرس بدقة، إن الناس قد ترتكس أخلاقهم فيرون أن ما تيسر أخذه لا يصح أن يتركوه مهما كانت وسائله، وهذه بهيمية مقبوحة. فالرجل الشريف لا يبنى كيانه إلا بالطرق الشريفة. ولكن الملحوظ أن مطالب الدنيا قد تكتسح أحيانًا الواجبات المفروضة، وتصرف الناس عن الله والمآل إليه وذاك ما يعالجه الدين بشتى الأساليب.

 ومن ترهيب الناس عن هذه الحال ما رواه زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله يقول: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة)[10].

 وفي القرآن الكريم ما يجمع أطراف الحقيقة بإيجاز وحسم، قال تعالى في طلاب الدنيا الذين كرسوا أوقاتهم ونشاطهم لها دون سواها: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [هود: ١٦،١٥].

في أرجاء العالم نسمع صياحاً حول رفع مستوى المعيشة للفقراء، ورفع مستوى المعيشة هدف إنساني لا ريب فيه. فالفقر عاهة مؤذية، وعورة بادية. ونحن نشد أزر المكافحين في هذه السبيل لکي نضع آصار البؤس عن البائسين.

إلا أننا نتساءل: ثم ماذا بعد أن يغتنى الناس من فقر، ويترفهوا من خشونة؟ هل الغاية التي ينتهي إليها جهاد المصلحين أن يعيش الناس فوق هذا الثرى يأكلون الطعام ويسمعون الأغاني ويطلبون المُتع ويستخدمون آخر ما أنتجت الحضارة من أدوات الترويح والتنعيم؟ أما إعدادهم للدار الآخرة فصِفر أو قليل لا يذكر.

إن انتهاء العالم إلى هذا المصير في تفكيره وشعوره ما هو الا سكرة زائغة عن الحق وتبعاته. هذه الدنيا التي اشتهيت لذاتها ولم يحسب فيها حساب الآخرة ولم يعرف فيها حق الله، هي التي لعنها الإسلام وحقرها وحقر أصحابها معها. ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ [الأحقاف: ٢٠]. والإسلام إنما يستنكر السرور الجاحد المستغرق في العاجلة دون سواها. وهو إذا كان قد نعى في الآية السابقة على الكافرين إذهابهم طيباتهم في حياتهم الدنيا فليس معنى هذا أنه حرم الطيبات على المؤمنين، كيف؟ وهو ما أحل لهم إلا هذه الطيبات (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أحل لكم الطيبات..) [المائدة: ٤]. إن المأخذ على الكافرين أنهم لا يعرفون لله حقاً في هذه الحياة، يطعمون رزقه ولا يشكرون فضله، ويحيون في ملكه وينكرون وجوده. وعندما يذيقهم العذاب الأليم تقول الآية الكريمة: ﴿ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ [غافر: ٧٥].

إن عظمة الإيمان ليست في أنه يجرد أصحابه من الدنيا، إن عظمة الإيمان أنه يتيح لأصحابه امتلاك ما يشاءون؛ على أن يكون ذلك في أيديهم لا في قلوبهم.

وفي مجال الترقي قد تكون الحرب سجالًا بين المرء وهواه، يستقيم حيناً ويتعثر حينًا آخر. والمرء في المراحل الأولى من هذه المجاهدات يلقى نوازعه وجهًا لوجه فإذا انتصر عليها أحس لذة الظفر نورًا يشرق على روحه ويتخلل شعاب قلبه. وفي هذه الحال يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الصدقات أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تحب الغنى وتخشى الفقر)[11].

*****

الصبر

إن حياة الدعة والطراوة تقتل المواهب، وتطمر الملكات. والإنسان يتحرك ويتكشف معدنه ويغزر إنتاجه كلما أحس خطر المعارضين أو صدمات الشدائد، كأن أسرار الحياة الكامنة فيه يستثيرها التهديد فتتحفز للدفاع عن نفسها، فتندفع إلى الأمام ناشطة آمله. ومعادن العظماء إنما تبرق وسط الأنواء التي تكتنفها، فكأن هذه الأنواء رياح تنفخ في ضرامها فيتوهج، ولو تُرك وحده لكان وشيك الانطفاء.

ومن حكمة الله البالغة أنه لم يدع البشر يحيون في بيئة تعطيهم خيرها منحًا بل استحياهم في بيئة تفرض الكفاح فرضاً، ولا تعطى الثمار إلا بعد غراس. وهذا الجهد المبذول من مصلحة الحياة نفسها لتبقى وتزدهر، ومن مصلحة الأحياء أنفسهم ليبلغوا تمامهم.

وتصبير النفس على صعوبة العيش وإرهاق الواجب وإغراء الهوى يحتاج إلى عزم وقوة، وللعرب في هذا الأفق آداب رفيعة، استوحوها من تجاربهم ومن أشواقهم إلى العزة، وهم يرون أن الركوع للشدائد لا جدوى منه إلا الذلة التي منها يأنفون، فعلى المرء أن يواجه ما يكره بجلد، آملا أن تنقشع الغمة وهو ثابت الخلق نقى الصفحة.

والصبر رياضة نفسية مشوبة بالذكر ابتغاءً لوجه الله. فالمؤمن يرى أن القدر الأعلى من وراء الأحداث التي تنوبه، ومن ثم فهو في شدته يظل قوي الصلة بربه، يدعوه ويرجوه ويستسلم له ويتحمل ما يتحمل لأن الله شاء، ومشيئته موضع التسليم والإعزاز.

الصبر لله روح الإيمان، ومناط الثواب الجزيل الذي يصب الله صباً على مَن ابتلي وسلم لله أمره: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب).

وقد بلغ من فضل الله على المؤمنين به أن فتح لهم باب الأمل في واسع مغفرته إذا صدقوا الصبر في عناء ليلة واحدة. فعن الحسن –يرفعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم- “إن الله ليكفر عن المؤمن خطاياه كلها بحمى ليلة”.[12]

والذي يتبادر الى الأذهان أن الصبر يستحب لمواجهة المآسي والآلام فقط، غير أن عمل الصبر في النفس إبقاؤها في مجال الاعتدال والتؤدة والبصر. وإذا كانت الضراء تُخرج الناس عن وعيهم حيناً، فإن السراء تُخرج الناس من وعيهم أحياناً. ولاتصال النعمة سكرة تدفع بعض الضعفاء الى ما لا يليق من بطر وجهل.

من أجل ذلك أوجب الإسلام الصبر على المسلم في حاليه من خير وشر ونفع وضر. قال تعالى ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [هود: 9-11].

*****

الشكر

هل معنى الكلام عن الصبر أن الإنسان يعيش في حلقات متصلة من الآلام لا يتاج معها إلا إلى المواساة والتعزية؟. لا، فالحياة الإنسانية أضوأ من ذلك وأرحب، فما أغزر النعم التي تنهمر على الناس ليلهم ونهارهم من المهد إلى اللحد، وهي نعم لو قدروها قدرها، أو أحسنوا استغلالها لملأت قلوبهم بالحمد، وأطلقت السنتهم بالثناء.

بل لو غلغلنا البصر في التكاليف التي تستدعى الصبر لاستبان لنا أنها إلى النعمة أدنى منها إلى المحنة. فالمحرمات المحظورة، والواجبات المطلوبة، والأعباء المفروضة، والآلام العارضة، تلك جميعاً مدارج للكمال الإنساني، وحصانات للفطرة السماوية أن تتلوث أو تستمرئ الحضيض.

أما رب العالمين فهو يعطى ولا يأخذ، وهو يطعم ولا يطعم، وهو يجير ولا يجار عليه. ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ١٤].

والقرآن الكريم في شتى سوره أحصى أصول النعم، وذكر أمثلة شتى لما غمر الناس منها، وارتقب من أصحاب الضمائر الحية أن يشكروا صاحبها، وأن يعرفوا حقه فيها، بعد ما بسطها بأروع أسلوب. وفي القرآن الكريم سورة باسم الرحمن عدت جملة من نعم الدنيا والآخرة؛ وفي ثنايا هذا العد الموقظ المذكر توجه للإنس والجن بهذا السؤال. ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ [الرحمن: ١٣]. توجه إليهم عشرات المرات، يحمل التقريع بقدر ما يحمل التذكير إن شكر الله على أنعمه حق، ولكن ما أكثر النعم وأقل الشاكرين.

والكلمة الشائعة في الترجمة عن شكر الإنسان لربه هي الحمد، والحمد كلمة تعنى ـ مع الشكرـ الثناء على الله، وتمجيد ذاته، ومن ثم كانت أرجح وأذيع. والمهم أن يرددها المسلم وهو شاعر بالمنة والجميل، مقر من أعماقه بأن الله مصدر ما اندفق عليه من خير، وأهل ما صعد إليه من شكر. ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَن يذكر أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾ [الفرقان: ٦٢].

وقد أمر الله الناس أن يشكروه لأن قلة الشكر خسة يجب التنزه عنها، إنك لو أطعمت امرأ شهراً أو شهرين، أو قضيت عنه دَينا أو دَينين، ثم تجهم لك وأعرض عنك لرأيت أن فراغ الحياة من مثله واجب. فما ظنك بمَن خلق من عدم، وأطعم وستر، وأغدق وأمد الأعوام بعد الأعوام؟ عندما يرى عبده قد حاز كل هذه النعم ثم عادى مسديها؟ ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٦٣، ٦٤]. إن الله أمر الناس أن يشكروه لأن الكنود نذالة، ولأن الإصرار عليه يجعل حق صاحبه في الحياة الكريمة صفرا، ولأنه ما يليق بإنسان أن يستقبل فضل مولاه بكرة وأصيلا ثم يدير له ظهره ويتولى عن إجابة أمره.

إن الأمر بالشكر طريق كمال ينبغي أن يسير الناس فيه بهمة وقدرة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٢]، والإقرار بالجميل وركون الفؤاد إلى صانعه يجعل المرء أهلا للمزيد، لأن النعمة تثمر فيه كما يثمر الماء في الأرض الخصبة، ولذلك لا يضن عليها بالقليل والكثير، أما الأرض السبخة فإن انعدام الأمل في ريها يجعل إرسال الماء إليها عبثاً، ولذلك يقطع عنها قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧].

ونحن نجد في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مظاهر الشكر وآيات الحمد لله رب العالمين ما يثير الدهشة، وما يسرى في القلوب شوقا ورقة.

كان إذا استيقظ من النوم يقول: (الحمد لله الذي رد على روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره)

وكان إذا انتهى من الطعام يقول: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين)

وكان إذا لبس ثوباً جديداً يقول :(الحمد لله الذي كساني هذا ورزقني إياه من غير حول منى ولا قوة).

وكان إذا عاد من سفر يقول :(آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون.)

وفي الصحيح أن رسول الله عليه السلام قال: (أتحبون أيها الناس أن تجتهدوا في الدعاء؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)[13]

وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم حتى ترِم قدماه، فقيل له أي رسول الله، أتصنع هذا وقد جاءك من الله أن قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً)[14].

ويجب الالتفات إلى أن إبليس قد آلى على نفسه يوم أُخرج من الجنة أن يصرف بني آدم عن الذكر والشكر، فقال: ﴿لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 16، 17].

وقد أهاب الله تعالى بخلقه ألا يردوا فيض نعمه حتى لا يُحرموا منها، فما أقل الذين يعترفون بالفضل ويشعرون بالجميل: ﴿وقليلٌ من عبادي الشكور﴾ [سبأ: 13].

*****

الخوف

  الخوف من الله عاطفة تنبع من حسن معرفته وكمال العلم به، فهو شعور واضح بجلال الخلاق العليم، وما ينبغي إكنانه له من مهابة وإعظام. وكيف لا يخشى جبار السماوات والأرض الذي بيده ملكوت كل شيء، والذي لا تماسك شيء إلا بإيجاده وإمداده، والذي لا يعترض غضبه شيء إذا أعلن غضبه على أحد ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًاً إِنْ أَرَادَ أَن يهلك المسيح ابن مريم وأمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ [المائدة: ١٧].

  إن الإنسان عادة يشعر بانتفاء ذاته أمام مَن تبهره عظمتهم، وهذا ما يسميه علماء النفس الشعور السلبي بالذات، وهو شعور يشتبك مع انفعالات نفسية أخرى، فيكون عواطف الإعجاب، والتهيب. وأحق مَن يقف البشر بساحته وهم مفعمون بالخضوع والاستكانة والزلفي والاستجداء هو الله جل شأنه الذي ترجع إليه أمورهم كلها، ﴿أمن هذا الذي هو جندٌ لكم ينصركم من دون الرحمن إن الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، أَمَّنْ هَذَا الذي يرزقكم إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُوا فِي عُتُوٍ وَنُفُوْرٍ﴾ [الملك: ۲۰، ۲۱].

من عرف الله معرفة اليقين انمحت من نفسه كل آثار الجرأة والبرود وساورته بين الحين والحين مشاعر الوجل والحذر. وهي مشاعر لا يستغنى عنها حي في حكم نفسه وضبط سلوكه. ثم هي الباعث الدائم على استرضاء الله، وفعل ما أمر وترك ما نهى ﴿إن الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُم خير البرية. جَزَاؤُهُم عند ربهم جنات تجرى من تحتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ورضوا عنه ذلك لِمَنْ خَشَى رَبَّهُ﴾ [البينة: 7، 8].

 والخوف من الله عاطفة تدل على شرف النفس، ويقظة الحس، وامتلاك الزمام في الساعات الحرجة، وإنه لرجل جدير بكل احترام ومثوبة هذا الذي يستمكن مما يشتهي ثم يمتنع عنه لا لشيء إلا لأن الله يراه. هذا المسلك يدل على إيمان بالله عميق، وعلى أن ذلك الإيمان يقظان ليؤدي واجبه كالديدبان الحارس، وعلى أنه لما استثيرت النفس نهض إليها، وفرض وجوده وحده فحسم نوازع الشر.

ولذلك جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله، يوم لا ظل إلا ظله (… ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله.

إن مخافة الله بترك ما حرم هي الأساس الأعظم في تكوين الشخص الشريف المأمون.

ومن الخطأ حسبان الخوف وحده هو الحاجز عن الشر والدافع إلى الخير، فقد يترك المؤمن المعصية حياء من المنعم، أو رجاءً ما عنده، أو شعوراً نفسياً وعقلياً بدمامتها، أو حباً غالباً لله الذي أمر ونهى. والمؤمنون ليسوا سواء في هذه البواعث، بل المؤمن الفذ تختلف أحواله في استقبال ما يعرض له، فقد يفعل الشيء أو يتركه بدافع الرغبة حيناً وبدافع الرهبة حينًا، وبدوافع أخرى حينًا آخر. إلا أن الخوف يكاد يكون العامل الحاسم في كثير من المواقف القلقة، والعاصم المنجى عن ثوران بعض الغرائز العنيفة وجماحها الشديد.

ومن ثم كان الخوف من الله ركنًا في الإيمان به ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عليهم آياته زادتهم إيمانًا) [الأنفال: ٢]

*****

الرجاء

الرجاء في الله تعالى وحسن الظن به، إنما يُقبلان إذا أقترنا بالعمل الواجب، وصحبهما الإسراع في حق الله تعالى والسهر على مرضاته. أما مع البطالة والاسترخاء فلا مكان لرجاء ولا موضع لحسن الظن. تدبر قوله تعالى يصف من ترشحهم أعمالهم لرضاه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٨]. إيمان وهجرة وجهاد، تلك هي التي يرجو أصحابها فضل الله تعالى. أما الريبة والقعود والراحة فلا تبلغ أملاً، ولا تنتج إلا شرًا.

وتدبر قوله تعالى يحصى أنواعاً أخرى من البر، هي التي تؤهل لحسن القبول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تبور، لِيُوَقِيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُور﴾ [فاطر: ٢٩، 30].

تلاوة القرآن يعنى إحياء تعاليمه وإعزاز شرائعه، والنفقة التي تسد ثغرات المجتمع ما علن منها وما خفي، والإقبال على الصلوات الجامعة إقبالًا يعلى ذكر الله تعالى في الحياة ويجعل الهتاف باسمه وحده شارة الأمة، تلك هي أسباب الرجاء الحق، وتأميل النصر والتمكين والنعماء.

  وللناس – بطبيعتهم البشرية – أخطاء تبدر منهم، ويسيئون بها إلى أنفسهم وغيرهم، وربما جرت غضب الله عليهم، إلا أنهم إذا أحسوا سوئها وتضرعوا إلى الله تعالى أن يفك عنهم إصرها، كان للرجاء في غفران الله تعالى موضع.

 إن هذا الرجاء الحار لا يجوز أن يفارق المؤمن في أي لحظة من حياته، سواء كان قوى الساعد يضرب في الأرض ببأس، أو وهو يولي ظهره للحياة ويضع قدمه على عتبة الآخرة قادماً إلى الله تعالى.

 عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وإني أخاف ذنوبي. فقال رسول الله ﷺ: (لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف)[15].

إذن فالعبد المجتهد في الطاعات المتجنب للمعاصي، حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة وما تمام النعمة إلا دخول الجنة.

*****

التوكل

 التوكل شعور بهيمنة الله على الحياة، وبأن حركاتها وسكناتها محكومة بحوله وقوته لا يمكن أن تند منه أو تبعد عنه. واستقرار هذا الشعور في القلب يجعل صلة الإنسان بربه عميقة، وركونه إليه بادياً.

إن هناك أشياء كثيرة لا يتم مراد الإنسان إلا بتوفيرها جميعاً، وهذا التجميع والتنسيق لا تحكمهما مشيئة بشر، ونحن المؤمنون لا نرد ذلك إلى حظوظ عمياء بل إلى مشيئة الخالق الكبير، المهيمن على كل شيء ﴿إِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [هود: ١٢٣].

من أجل ذلك كثرت الأوامر في الكتاب والسنة بالتوكل على الله جل وعلا، لأن التوكل دلالة علم بالله وصفاته وما ينبغي له. وفيه بصيرة من العبد بالحدود التي تعمل في نطاقها قدرته وإرادته، وبالمدى الواسع الذي تتصرف فيه الإرادة العليا والقدرة العليا.

  والمتوكل بهذه اليقظة الفكرية والنفسية أهل لأن يظفر برعاية الله وتوفيقه ومحبته ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتوكلين﴾ [آل عمران: ١٥٩]، ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ علَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قدْرًا﴾ [الطلاق: ٣]. أي أن الله يكفي من لاذ به واعتمد عليه، وهو – سبحانه ـ يستحيل أن يفوته ما يريد، فهو بالغ أمره لا محالة. ومن الجهل بالله وصفاته أن يتوقع أحد الخذلان والضياع مع ارتباطه بالله. وقد جاء في القرآن الكريم تساؤل غريب يكشف وجه الحق في هذه القضية ﴿أَلَيس الله بكاف عبده وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دونه، ومن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُضِلَّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزِ ذِي انتِقَامٍ﴾ [الزمر: ٣٦ – ٣٨].

   والتوكل كلمة مظلومة، فهذه التعابير التي يقصد بها إشاعة الثقة في أرجاء النفس الإنسانية حتى لا تضرع وتجزع انقلبت دلالاتها في بعض النفوس ففهمت منها ما لا يجوز أن يُفهم، فهمت منها أن السعي باطل، وأن السكون دين. من أجل ذلك أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي الذي سأله: أتركها وأتوكل أم أعقلها وأتوكل – يعنى ناقته ــ؟ فقال عليه السلام: أعقلها وتوكل.

 ونبه الله المجاهدين – إذا ضمتهم جنبات الميدان ـ أن يكون انتباههم حاداً وتيقظهم بالغاً ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثَبَاتِ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا﴾ [النساء: ٧١].

وقبل أن يأمر الله نبيه بالتوكل عليه في قوله: ﴿اعْبُدُهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هود: ۱۲۳] قبل ذلك مباشرة قال: ﴿وَقُل لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ [هود: ۱۲۱، ۱۲۲]ٍ. فالأمر بالتوكل جاء بعد إعلان عن عمل موصول وصبر طويل.

والتوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد كل الوسائل المقررة في عالم الشهادة، إيمان بالله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من واجبات. والتوكل يجيء صدقًا وسكينة في موضعه الحق، ولنضرب لذلك الأمثال:

طلب الرزق غريزة لدى الأحياء كلهم ما إن تَبدو تباشير الصباح حتى يستعد الفلاحون والتجار والصناع وأصحاب الحرف للدخول في كفاح طويل أو قصير كي يحرز كل امرئ قوته وقوت أسرته. وهذا الكفاح محك قاس للأخلاق، فإن اللهفة على تأمين المعايش قد تلجئ أصحابها إلى التلون أو الكذب والحيف. وربما وجدْت الضعاف يتملقون الأقوياء، والصغار يذوبون في الكبار. والإسلام يرفض أن يكون الكدح وراء الرزق مزلقة لهذه الآثام كلها، ومن ثم فهو يطلب بصرامة أن يكون الارتزاق من أبواب الحلال المحض، وألا يلجأ مسلم أبداً إلى غش أو ذل أو ضيم ليجتلب به ما يشاء، فالوسائل التي حددها الشارع هي وحدها الأسباب الشريفة التي يقوم بها ثم يقف عندها مرتقباً في ثقة ما تتمخض عنه من نتائج. والتزام التقوى هو منطق الإسلام، وهو منطق منتج لا عقيم، قال تعالى: ﴿ومن يتقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُو حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٢، ٣].

والتقوى هنا رعاية الشرف في التكسب، والاستقامة في الطلب، فإن إلحاح الرغبة في طلب الكفاف أو في طلب الثراء قد يدفع إلى اللؤم والعوج. وحجزاً للنفوس عن هذه المهاوي يقول رسول الله ﷺ: (لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته). إن الشعور بصحبة الله هو المؤنس في هذه الوحشة، وهو المشجع في هذه الرهبة، وذاك معنى التوكل في تلك المواقف. وأساس هذا الثبات والرجاء أن مرد الأمور على تطاول الزمن إلى الله، وأن ليس أمام أهل الإيمان إلا التعويل على الله والتأميل فيه، والتوكل على غير الله قصير العمر، أو عديم الجدوى، أما التعلق بالله فهو ارتباط بالمصدر الدائم للخير، ولذلك قال تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾.

*****

الحب

  إذا صحت محبة الله في قلب امرئ فقد تبوأ قمة الكمال، وتهيأ لفضل من الله جزيل. إن نشوء هذه العاطفة ونماءها يسبقها اصطفاء خاص، والشعور بحب الله ليس متاحاً لكل إنسان إنه سمو يتخير الله له من يشاء، ولذلك ختمت الآية الكريمة بهذا التذييل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَد مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بقوم يحبهم ويُحِبُّونَهُ أذلة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: ٥٤].

إنها منة تسيل من عين الجود قبل أن تكون كسباً تتجه إليه الإرادة.

من حقك أن تسأل: كيف ذلك؟ أليس هذا الكلام مما يقعد الهمم ويبذر اليأس؟

ونجيب: كلا، والأمر يحتاج إلى زيادة إيضاح. إن المواهب الإنسانية الرفيعة لا تنشأ أصلاً من كسب الإنسان، بل لابد أن يسبقها استعداد فطري يولد المرء به، ولا يد له فيه. وجمهور العباقرة والممتازين ترجع عظمتهم ابتداء إلى أصالة في معادنهم الفكرية والنفسية لا توجد في غيرهم، ثم يتعهدون هذه الطبائع الفذة بما يبلغ بها الغاية. ويمكن أن ينضاف إلى الغرائز الأولى تفاوت عناصر البيئة، فرب بيئة أخمدت ما في النفوس من وقدات ملتهمة وأهالت عليها التراب، ورب بيئة نفخت في هذه النفوس ما يهيج ضرامها ويرفع شعلتها.

إن التأهيل للنعيم المقيم لابد له من يقين وصلاح وجهاد، وذلك كله تلده بيئة دون أخرى، من أجل ذلك وصف الله التوفيق للإيمان بأنه فضل فقال: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: ٢١]. إن صدقة الغنى عمل مشكور يدخر له يوم القيامة، بيد أن الفضل الأول لمن أغناه فأقدره على النفقة في سبيله. فكسب العبد بيده أو قصده بقلبه لا ينسيان منة الوهاب الكبير، ولذلك ننسب لله الفضل في كثير من الأعمال التي نقوم بها عن اختيار محض.

وعاطفة الحب الإلهي إذا انقذفت في فؤاد مؤمن فإن الله هو الذي أولى هذا شرف. وأفاء تلك النعمة، حقًا إنه – تبارك اسمه – لا يضيع زلفى متودد إليه؛ ولكنه يمنح وده من شاء صدقة منه على مَن اصطفى من عباده.

وبديهي أن الله يعطي من تعرض لعطائه، ويضع الخير في الأيدي الممدودة إليه. أما من أدبر وتولى؛ فلا شيء له إلا الطرد والهوان.

ومحبة الله تنغرس في قلوب العارفين به. والمعرفة كما تكون عن جهد الإنسان في الفكر، والذكر، والتأمل، والتنزيه، تكون فيما يكشفه الحق عن عظمة الذات وجمالها لبصائر المتعلقين به، وعلى قدر هذا الانكشاف يكون الإعظام والحب والتفاني.

وجمهور البشر لهم أشياء يحبونها ويتعلقون بها، وانعطاف الإنسان نحو شيء معين بدافع الغريزة أو العادة لا شيء فيه ما دام في إطار الحدود المشروعة. ولكن لا يجوز أن يمتلك هذا الميل زمام الإنسان، فمن أحب الله لم يؤثر عليه شيئًا. فعندما تتنافس المشاعر المختلفة في الاستيلاء على زمام المرء وتحديد وجهته، يجب أن تنهزم كل عاطفة أخرى، وأن يرجح جانب الله رجحاناً حاسماً.

ونحن في الحياة العادية نشهد كثيرين يتعلقون بمبادئ وأشخاص وأشياء مختلفة، ويؤَثِر هذا التعلق في طريقة إنفاقهم لأوقاتهم، وبنائهم لحياتهم، وإصدارهم للأحكام الخاصة والعامة.

وعاطفة المرء نحو ربه تتحدد قيمتها في هذا المعترك النفسي البعيد المدى. فالمفروض أن حب المسلم لربه أربى من أي عاطفة أخرى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾ [البقرة: 165].

ويظهر ذلك جلياً عندما يصطدم في نفس المرء شعوران متناقضان، فقد تجيش في قلبه رغبة القعود في بيته مع ولده وأهله، وقد يهتف به نداء الواجب أن يدع ذلك كله وينطلق إلى ميدان الجهاد مضحياً بنفسه ورغباته. ومصير الإيمان مرتبط بنتيجة هذا الصراع العاطفي، فإن غلبت محبة الله، ورجحت كفة أمره فبها ونعمت، والا فالهزيمة فسق عن أمر الله ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: ٢٤].

والواقع أن محبة الإنسان للكثير من الأشياء هي التي تصده عن الكثير من الواجبات خصوصاً إذا غلبت الرغبة على فكره وغطت على بصيرته، فإنه يفقد اتزانه فيما يصدر من أحكام، وفيما يصدر عنه من أعمال، بل إنه قد يهبط إلى مراتب الطفولة – وهو المسن – لأن الطفل لا تسيطر على تصرفاته إلا شهواته.

وكم من رجل أرداه حبه للمال أو للثناء أو للراحة بين أهله وعشيرته إذ يقصر هذا الحب خطوه إلى معالي الأمور، ويغريه بالقعود عن نصرة الحق بالنفس والمال. ولذلك كانت نفس الإنسان – إذا آثر الحياة لها – عدوه المخوف، وكان ولده وزوجه أعداء له كذلك، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُم﴾ [التغابن: ١٤]. ثم قال محذراً من الركون إلى القعود: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عظيم﴾ [التغابن: ١٥].

 ومقتضى حب الله عز وجل؛ أن يطيع الإنسان أمره؛ ويدع نهيه، ويحرص على رضاه، وكلما ربت هذه العاطفة فعل الإنسان الكثير لله دون أن يحس تعباً، لأن ما غمر فؤاده من شعور يهون عليه المشاق.

 ودعوى الحب مع التفريط في الحقوق، ومع الاستهانة باتباع الرسول دعوى منكرة، فإن من أحب الله تأسي برسوله واستظل بلوائه، واقتفي في الدقيق والجليل أثره، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: ٣١].

إن المحب ينفذ ما يطلبه منه حبيبه، بل هو يتشهى أمرًا منه ليسارع إلى تأديته بشوق ورغبة. وإن الله أهل لكل حب، وأنه أولى بتعلق القلب من حب المرء لوالده وولده ونفسه التي بين جنبيه.

إن الذين استنارت سرائرهم بصدق المعرفة فهم يتلمحون ما في الصفات العليا من عظمة وشمول، وما يصدر عنها من عجائب في الأرض والسماء، فيعطفون نحو ربهم وملء نفوسهم الاعجاب والإعزاز والود.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  منقول بتصرف من كتاب:
محمد الغزالي (2001). الجانب العاطفي من الإسلام: بحث في الخلق والسلوك والتصوف. ط. 5. الإسكندرية: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع. ص ص. 138: 225.

[1] أخرجه مسلم

[2]  مسلم.

 الترمذي[3]

[4]  البخاري

[5]  أحمد

[6]  البخاري

[7]  ابن حبان

[8] الطبراني

[9]  الطبراني

[10]  ابن ماجه

[11]  البخاري

[12] ابن أبي الدنيا

[13]  الحاكم

[14]  ابن خزيمة

[15] الترمذي

عن محمد الغزالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.