رسالة في الطريق إلى ثقافتنا

العنوان: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا.

المؤلف: محمود شاكر (أبو فهر).

مكان النشر: القاهرة.

الناشر: مطبعة المدني.

سنة النشر: 1987.

الوصف المادي: 192 ص. ، 24 سم.

رغم مرور أكثر من 45 سنةٍ على صدور كتاب “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” والذي يُعد مقدمةً لكتاب “المتنبي”، إلا أنه مازال إلى اليوم حاضرًا ومستحضرًا في حياتنا الثقافية، ذلك أن محمود شاكر -كالجراح الماهر- استطاع أن ينفُذ إلى أعماق التحديات والمخاطر التي اعترضت طريق النهضة والإصلاح في عالمنا العربي والإسلامي والتي لم تزل موجودة إلى اليوم. فحريٌّ بهذا الكتاب أن يُقرأ ويُناقش ويُحلل ويُنقد حتى لا ننسى مواطن الزلل وأسباب الخطأ، ونقوم هنا بعرض أهم أفكار الكتاب والتوسع في بعض جزئياتها آملين أن تكون هذه خطوة لها ما بعدها مع هذا الكتاب.

التعريف بمحمود محمد شاكر وتجربته الحياتية:

وُلد محمود محمد شاكر في مدينة الإسكندرية بمصر عام  1909 م في أسرة علمٍ ودين؛ فأبوه محمد شاكر كان من أبرز علماء مصر وقتها، وشقيقه الأكبر هو أحمد محمد شاكر الذي ولي منصب وكيل الأزهر ثم أصبح قاضيًا كما اشتغل بتحقيق كتب السنة ونشرها مثل سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد. وقد كان لأبيه وأخيه أكبر الأثر في تكوين محمود شاكر الثقافي والفكري في سنٍ مبكرة، بالإضافة إلى مشايخه وأساتذته من أمثال الشيخ سيد بن علي المرصفي.

وقد قدّم محمود شاكر إنتاجًا علميًا غزيرًا غطى مجالات مختلفة من الأدب والفكر والثقافة، فكان من الأعمال التي ألفها: “المتنبي”، و”أباطيل وأسمار”، و”نمط صعب ونمط مخيف”، والعديد من المقالات التي جُمعت في كتاب بعنوان “جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر” وغيرها من الكتب والقصائد والتحقيقات.[1]

“كل ما هو حي يكابد ويعاني، لكنّ الإنسان وحده هو الذي يضفي على الكبد والمعاناة معنى ما، وهذا هو الفرق”.[2] وقد بدأت معاناة محمود شاكر في وقت مبكر من حياته، حيث حصلت له هزة عنيفة عندما كان طالبًا جامعيًّا في السابعة عشر من عمره. فحينما كان يستمع إلى أستاذه طه حسين وهو يلقي محاضراته في الشعر الجاهلي، وجد أن كل ما قاله أستاذه في تلك المحاضرات لم يكن سوى سطوًا على مقالة المستشرق مرجليوث. وكان محمود شاكر حائرًا بين أن يكتم هذه الحقيقة حتى لا ينتقص من أستاذه وبين أن يعلنها بين الطلاب والأساتذة. وبعدها، قرر أخيراً أن يناقش أستاذه في المحاضرات ويرد عليه ما قال ويذيع حقيقة ذلك السطو، ولكن “طال الصراع غير المتكافئ بيني وبين الدكتور طه زمانًا، إلى أن جاء اليوم الذي عزمت فيه على أن أفارق مصر كلها -لا الجامعة وحدهاـ غير مبال بإتمام دراستي الجامعية، طالبًا للعزلة، حتى أستبين لنفسي وجه الحق في “قضية الشعر الجاهلي”، بعد أن صارت عندي قضية متشعبة كل التشعب”.[3]

وكانت هذه مرحلة فارقة في حياته جعلته يدرك مدى فساد الحياة الأدبية والفكرية والثقافية التي يعيش فيها العالم العربي والإسلامي، وهكذا كان السؤال الرئيسي الذي يجيب عنه محمود شاكر في الرسالة هو: لماذا فسدت حياتنا الأدبية والثقافية؟ وقامت الإجابة على خطوتين؛ الخطوة الأولى: تبيان أن هذا الفساد راجع إلى استخدام وتبني مناهج مستوردة بعيدة كل البعد عن ثقافتنا، وهذا من خلال بيان منهجه هو في قراءاته وكتاباته وبيان تعريفه للمنهج، ثم الخطوة الثانية: إيضاح أسباب تبني هذه المناهج المستوردة وقبولها في عالمنا العربي من خلال سرد تاريخي طويل يركز فيه بشكلٍ خاص على الاستشراق وخطره.

منهج التذوق:

ظل محمود شاكر عشر سنواتٍ في حيرة وشكوك بدأت شرارتها من قضية الشعر الجاهلي التي أثيرت في الجامعة والتي ترك الجامعة ومصر كلها بسببها. وفي هذه الأثناء، بدأ يتلمس الطريق بحثًا عن الحقيقة في هذه القضية، ولذلك قرر أن يعيد قراءة كل ما وقع تحت يده من الشعر العربي. وفي رحلة قراءته، وجد لنفسه منهجًا في تذوق الشعر وقراءته، من خلال قراءة متأنية متأملة تقف عند كل لفظ ومعنى. ويشرح محمود شاكر طريقته ومنهجه في التذوق قائلًا: “كأني أقلبهما -كل لفظ ومعنى- بعقلي، وأروزهما[4] بقلبي، وأجسهما جساً ببصري وبصيرتي، وكأني أريد أن أتحسسهما بيدي…وأسمع دبيب الحياة الخفي فيهما بأذني، ثم أتذوقهما تذوقاً بعقلي وبصيرتي وأناملي وأنفي وسمعي ولساني، كأني أطلب فيهما خبيئاً قد أخفاه الشاعر الماكر بفنه وبراعته”[5]

وبعد ذلك، توسع محمود شاكر في تطبيق منهجه هذا على قراءاته الأخرى في التفاسير وكتب علوم القرآن وكتب الحديث وشروحها وكتب الفقه وأصول الفقه والملل وكتب الأدب والبلاغة والنحو وكتب التاريخ، يحاول أثناء قراءته لهذه الكتب أن يعرف ما يقصد إليه الكتّاب والعلماء من كلامهم، وأن يبحث عن المعاني الخفية التي كانوا يرمون إليها في كتبهم. فهدفه من هذا التذوق: أن يستنطق النص الذي أمامه ليستنبط منه الدفائن ويستخرج منه الأسرار ويزيل الظلام عما غمض منه، ولا يتأتى هذا إلا بقراءة النص مرةً تلو أخرى والصبر والتثبت من معاني ألفاظ اللغة ودلالاتها الظاهرة والخفية.

وهذا المنهج في التذوق هو نفسه الذي اتبعه محمود شاكر في جميع ما ألف وكتب، إلا أنه لما وجد الناس قد أشكل عليهم أمر منهجه ولم يقفوا عليه قرر أن يبينه للناس في هذه الرسالة. ويؤكد محمود شاكر أن هذا المنهج في النظر والتذوق ليس من ابتداعه، بل قد سبقه إليه الأئمة الأعلام قبله في كتاباتهم وسجالاتهم، وهذا المنهج في التذوق هو الذي مكّن لازدهار ثقافتهم وحضارتهم وفَرَض وجودهم بين الأمم.

لذلك يعتبر محمود شاكر التذوقَ أساس الحضارة ولبها، ففصّل في (أباطيل وأسمار) قائلًا: “كل حضارةٍ بالغة تفقد دقة التذوق، تفقد معها أسباب بقائها، والتذوق ليس قِوامًا للآداب والفنون وحدها، بل هو أيضًا قوام لكل علم وصناعة، على اختلاف بابات ذلك كله وتباين أنواعه وضروبه… فحسن التذوق يعني سلامة العقل، والنفس والقلب من الآفات، فهو لب الحضارة وقوامها، لأنه أيضًا قوام الإنسان العاقل المدرك الذي تقوم به الحضارة”.[6]

وهذا المنهج في التذوق الذي يقدّمه لنا محمود شاكر والذي يمكن تطبيقه على أي علمٍ أو فن هو الطريق الوحيد لاستشفاف واستخراج أصول “الثقافة المتكاملة” التي عاشت فيها الأمة لقرونٍ طويلة قبل أن تفسد حياتنا الأدبية وقبل أن تنقطع صلتنا بها،[7] لذلك فإن الجسر الموصل إلى ثقافتنا وتراثنا هو إعادة إحياء منهج التذوق في كل مقروء أو مسموع أو مرئي.

المنهج وما قبل المنهج:

يرى محمود شاكر أن الغموض الذي أحاط بلفظ “المنهج” قد أدى إلى خلطٍ كبير في فهم الآداب وتفسيرها، حتى انعكس هذا على فهم وتصوير أحداث الواقع وأفكاره.

ولفظ المنهج عند محمود شاكر لا يقصد به المنهج الذي اصطلح عليه الناس كالمنهج الوصفي والتحليلي وغيرهما، بل يقصد به “ما قبل المنهج”؛ أي الأساس الذي لا يقوم المنهج إلا به. وهذا المنهج -أو ما قبل المنهج- ينقسم عند شاكر إلى شطرين: شطر في تناول المادة، وشطر في معالجة التطبيق.[8]

فشطر المادة يتطلب من الباحث أو الدارس جمع المادة من مظانها، ثم تصنيف مجموع ما وصل إليه، ثم تحليل أجزاء هذا المجموع تحليلًا دقيقًا، كل هذا حتى يستطيع الدارس أن يميز بين ما هو زيف وبين ما هو صحيح بشكل جلي واضح. وأما شطر التطبيق فيستلزم ترتيب المادة بعد استبعاد الزيف فيها وتمحيص الصحيح، وفي هذا الترتيب يجب أن يحرص الدارس على أن يضع كل حقيقةٍ في موضعها.

ويفصّل محمود شاكر في بيان الأسباب التي تجعل الدارس أو النازل في ميدان ما قبل المنهج قادرًا على معاناة المنهج؛ فيقول أن دارس المنهج الذي سيدرس أدب أو تراث شخص ينبغي أن يكون مطيقًا لقراءة جميع ما كتب، وأن يكون مدركًا أن هذه النصوص تتضمن ألفاظًاً دالة على المعاني، وهذه الألفاظ المُستخدمة اختلفت وتطورت عبر الزمن، فدلالة الألفاظ عند الشخص الذي كتبها ربما تختلف عن دلالتها اليوم، ولذلك يقتضي هذا أن يكون الدارس قد خبر آداب اللغة السابقة لعهد من يدرسه، وكل هذا لا يتأتى إلا بالتنبه وحسن التمييز والتدبر والصبر وامتلاك الأدوات.[9]

كما يشير إلى أننا نجد بوادر شطري المنهج وآثارهما منذ عهد علماء الصحابة ومفتيهم من أمثال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، ثم زاد الأمر وضوحاً أكثر مع علماء التابعين أمثال الحسن البصري وسعيد بن المسيب… وهكذا ظل الأمر يتبين أكثر فأكثر مع كل عصر حتى القرن الحادي عشر الهجري، لكن بعدها فقدنا كل اتصال بالمنهج حتى فسدت حياتنا الثقافية والفكرية والأدبية!

وهكذا، فإن “ما قبل المنهج” الذي أشار إليه محمود شاكر هو أصل أصيل في كل أمة وكل ثقافة، ولابد أن يُعمل به سواء في العلوم البحتة كالكيمياء والجبر أو في آداب اللسان كالتاريخ وعلوم الدين والأدب.

الإنسان؛ ذاك الصندوق المغلق:

يرى محمود شاكر أن الإنسان “صندوق مغلق، فيه من الطبائع والغرائز والأهواء المتنازعة بين الخير والشر، وفيه أيضاً من القوة والضعف، مقادير مختلفة لا تكاد تُضبط أحوالها وآثارها”. لذلك يرى محمود شاكر -على عكس أستاذه طه حسين- أن الإنسان لا يستطيع أن يكون موضوعيًا تمامًا عند دراسته لأي موضوع، بل إن نَفْس الدارس أو الباحث تتدخل في شطري المنهج من خلال بعض المداخل.

ففي العلوم البحتة، تتدخل نفس الباحث في شطر الجمع أو شطر التطبيق من طريق أهوائه ومنازعه التي يملك ضبطها أو لا يملكه، فحتى في العلوم البحتة قد تفشل الموضوعية أو تصبح صعبة المنال بسبب تطلعات وأهواء الباحث الشخصية مما قد يؤدي بالباحث إلى التلاعب بالبيانات أو التجارب حتى يصل للنتيجة المنشودة.[10]

أما في آداب اللسان والتي تدخل فيها العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية؛ فتتدخل نفس الباحث في شطري المنهج من خلال ثلاثة مداخل هي: مدخل اللغة، ومدخل الثقافة، ومدخل الأهواء، وهي على التفصيل التالي:

فاللغة هي بوابة الفهم والبيان، وتدخل أثناء الجمع والتطبيق إما بسبب قصور الباحث عن الإحاطة بها وبأسرارها فيؤثر ذلك على جمعه للمادة أو على ترتيبه وتمحيصه لها، أو بسبب تمام إحاطته باللغة مما ينعكس على جمعه وتمحيصه للمادة وقدرته على فهم مقاصد المؤلف.

أما الثقافة فهي أصل كل أمة وجيل، وهي “تراثه بعيد الجذور في تاريخه المنحدر مع أجياله ينقله خلف عن سلف. وهذا التراث مكون من أفكار ومبادئ يحملها أفراد الشعب على اختلاف طبقاتهم وطبائعهم، في زمن ما من حياتهم، ومن تطبيق هذه الأفكار والمبادئ حتى تصبح أسلوباً لحياة المجتمع المكون من هؤلاء الأفراد”.[11] فهذه الأفكار والمبادئ لابد أن يؤمن بها المرء بعقله وقلبه ثم يعمل بها حتى تصبح أسلوب حياة بالنسبة له، ثم ينتمي إليها بعقله وقلبه، وبقدر إدراك المرء لأسرار هذه الثقافة بقدر انعكاس ذلك على شطري المنهج (الجمع والتطبيق).

وأما الأهواء التي تسري داخل النفس في خفاء، فإنها تزين للباحث أمر التمويه والخداع والمكر ليصل لمراده، فيصبح جمع المادة وتمحيصها وسائل للوصول لنتيجةٍ مستقرةٍ في نفسه من البداية، ثم هو يوهم قارئه أنه قد استوعب شطري المنهج ويُخفي بتمويهه من المادة ما قد يُبطل ادعاءاته.

ولا يستطيع أحدٌ أن يتجرد من سطوة اللغة أو الثقافة أو الأهواء بشكل كامل، لكن ضعف استيعاب اللغة وأسرارها أو عدم تشرب الثقافة إيمانًا وعملًا وانتماءً أو اتباع الهوى، كل هذا أو بعضه يؤدي إلى فساد ما قبل المنهج “حتى يصبح ركامًا من الأضاليل، وحتى تفسد حياتنا الأدبية”. مع ذلك، فإن الذي يعصم الباحث من مخاطر قصور إدراك اللغة أو مخاطر الأهواء هو “الثقافة” التي يتشربها المرء حتى تصبح جزءًا من كيانه يؤمن بها وينتمي إليها، فالأمر يتعلق بنفس النازل الى ميدان “ما قبل المنهج”، وهو  أصل أخلاقي قبل كل شيء، وإغفال هذا الأصل الأخلاقي يجعل قضية المنهج وما قبل المنهج فوضى مبعثرة لا يتبين فيها حق من باطل، ولا صدق من كذب، ولا صواب من خطأ. ورأس كل ثقافة هو “الدين” بمعناه الواسع، “وبقدر شمول هذا “الدين” لجميع ما يكبح جموح النفس الإنسانية ويحجزها عن أن تزيغ عن الفطرة السوية … تكون قوة العواصم التي تعصم صاحبها من كل عيبٍ قادح في مسيرة “ما قبل المنهج””.[12]

تاريخٌ طويل في صفحاتٍ قليلة:

منذ قضية الشعر الجاهلي، يشعر محمود شاكر بفساد الحياة الأدبية والمناهج الأدبية الموجودة في وقته، ولذلك أراد محمود شاكر الإجابة عن سؤال ألح عليه وأرقه طويلًا وهو: لماذا فسدت حياتنا الأدبية، وبالتبعية حياتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية؟

في محاولته للإجابة على هذا السؤال؛ قلّب محمود شاكر صفحات التاريخ البعيد متأكدًا أن هذا الفساد لم يظهر هكذا فجأة، بل إن جذوره ربما تمتد إلى عشرات القرون السابقة. لذلك، بدأ محمود شاكر في سرد تاريخي اهتم فيه بأمرين؛ الأول: تتبع الصراع بين الإسلام والمسيحية الشمالية مؤكداً أن هذا التصادم الذي حدث بيننا وبين الثقافة الأوروبية هو الذي يفسر لنا سبب الفساد الذي ملأ ثقافتنا وحياتنا الأدبية. والثاني: ربط الأحداث ببعضها مقتنعاً أن كل حدثٍ يرتبط بما بعده وما قبله ولا يمكن عزل الأحداث عن بعضها، بل هي أقرب للسلسلة التي يسلّم فيها السابق للاحق، والخيط الناظم الذي يفسر هذه الأحداث ويسلم أحدها للآخر هو الاستشراق.

فكان أول تصادم بين الإسلام والمسيحية في أوروبا عند مجئ الإسلام وانتشاره في الشام ومصر وشمال إفريقية التي كانت تحت سلطان الكنائس المسيحية. ففي أقل من ثمانين سنة، تقوض سلطان المسيحية على هذه الرقعة الواسعة، بل الأعجب من ذلك أن انبهرت الجماهير الغفيرة في هذه الرقعة بالإسلام ودخلت فيه طوعًا بلا إكراه. وظلت الدولة البيزنطية في الشمال تحاول اختراق العالم الإسلامي من أجل استرداد ما ضاع منها، لكنها لم تستطع طوال أربعة قرون، حتى جاءت الحروب الصليبية التي استمرت قرنين كاملين (1096-1291 م) استطاع خلالها جيش أوروبا الاستيلاء على الشام وإنشاء الممالك ليقيم بها رعايا أوروبا، ومرةً أخرى، خالط رعايا أوروبا المسلمين وتعرفوا على ثقافتهم وحضارتهم ففُتنوا بها وتأثروا.

ثم تقاطعت الطرق بين أوروبا والعالم الإسلامي مرةً أخرى عند دخول محمد الفاتح للقسطنطينية عام 1453 م، فكان هذا الفتح هو الشرارة التي أيقظت أوروبا من غفلتها، فنهضت تحرض كل رعاياها ضد المسلمين، أما مِن جانب المسلمين فكان هذا الفتح هو بداية الخمول والغفلة حتى أدت نشوة الانتصار إلى الركون والكسل.

ويلخص محمود شاكر الصراع بين المسيحية الشمالية والإسلام في 4 مراحل: الأولى تمثلت في صراع الغضب لهزيمة المسيحية في الشام في بداية انتشار الإسلام. والثانية كانت صراع الغضب المشحون بالكراهية الذي حاول اختراق العالم الإسلامي فلم يستطع طيلة قرنين. والثالثة كانت صراع الغضب المكظوم بعد فشل الحملات الصليبية والذي انتهى بمحاولات أوروبا إصلاح الخلل لديها، كل ذلك كان في القرون الوسطى. أما المرحلة الأخيرة والتي أخرجت أوروبا من ظلمات القرون الوسطى إلى أنوار قرون الحداثة تمثلت في صراع الغضب المتوقد بعد فتح القسطنطينية، هذا الغضب الممزوج بالبغضاء والحقد هو الذي أوقد الإصرار في قلوب الأوروبيين والمثابرة على تحصيل العلم لأنهم أيقنوا أن العلم هو بوابتهم للخروج من الظلام الذي كانوا فيه وأنه هو سر قوة الحضارة الإسلامية؛ فقد كان كل مدد اليقظة الأوروبية مأخوذًا من علوم المسلمين. وتأمل اهتمام محمود شاكر بمشاعر الغضب والبغضاء (الأهواء) التي سرت في أوروبا من زمن بعيد والتي دفعتها دائمًا للتحرك والعمل واليقظة!

رحلة الاستشراق:

بعد تاريخ طويل من حربٍ اعتمدت فيها المسيحية الشمالية على السلاح لكنها لم تجنِ منه شيئًا يُذكر، وعى عقلاء أوروبا أنه لا سبيل إلى النهوض إلا بالعلم، وفطنوا إلى أنه لا سبيل لتحصيل العلم إلا بالاعتماد على علوم المسلمين، ولذلك تيقنوا من ضرورة معرفتهم بلسان العرب لأنه بوابتهم إلى علوم المسلمين، وبدأوا بالفعل يتعلمون اللسان العربي ويتوجهون إلى ديار الإسلام.

ويرى محمود شاكر أن هذه الرحلات المتوجهة إلى ديار الإسلام جاءت على مرحلتين وهما اللتين أسماهما: “النأنأة الأولى للاستشراق”، و”النأنأة الثانية للاستشراق”. والنأنأة الأولى للاستشراق بدأت بعد إخفاق الحروب الصليبية وقامت على أفراد قلائل مثل روجر بيكون (1214 – 1294 م) الذي توجه للعرب المسلمين ليتعلم منهم فيعلّم غيره، ومثل توما الإكويني (1225 – 1274 م) الذي أراد إصلاح خلل المسيحية حتى يمنع قومه من الانبهار بالمسلمين. أما النأنأة الثانية للاستشراق فقد كانت عند بداية اليقظة الأوروبية، وهي التي بُعث فيها الكثيرون إلى ديار الإسلام  ليحصّلوا كل ما يستطيعون من علوم ومعارف وكتب، ثم يعودون لإمداد “علماء اليقظة” بكل ما حصلوا عليه من كتب ومعارف، وأيضا إمداد الرهبان والملوك بكل ما علموا من أحوال ديار الإسلام.

ومنذ هذا الوقت، نشأت -في رأي شاكر- طبقة المستشرقين الذين كان عليهم العبء الأعظم في سبيل يقظة أوروبا، وبفضل المعلومات التي بذلها المستشرقون لملوك أوروبا ورهبانها تكونت طبقة الساسة (أو رجال الاستعمار) الناقمين على الإسلام والمسلمين والهادفين للظفر بكنوز ديار الإسلام، كما تكونت طائفة أخرى عُرفت برجال التبشير. وهكذا، أصبح لدينا ثلاثة أذرع متعاونة وهي الاستشراق والاستعمار والتبشير، وإن كان أخطرهم هو الاستشراق بسبب علاقته المباشرة بفساد حياتنا الأدبية والاجتماعية. 

وقد كان هدف المستشرقين الأول هو رسم صورة للثقافة العربية الإسلامية تكون مقنعةً وموَّجهةً للقارئ والمثقف الأوربي حتى يحمي عقله وقلبه من التأثر أو الانبهار بحضارة المسلمين أو ثقافتهم عند مخالطتهم وجمع ما لديهم. وجوهر هذه الصورة التي رسمها المستشرقون هو أن العرب المسلمين هم قوم بداة جهال، جاءهم رجل ادعى أنه نبي، ولفق لهم ديانة من اليهودية والنصرانية، فصدقوه واتبعوه، وأضحوا ينشرون هذه الديانة في بلدان أخرى يفتحونها بسيوفهم حتى دانت لهم بعض الأمم وقامت لهم ثقافة وحضارة مسلوبة وملفقة من ثقافات أخرى من الفرس واليونان، وهذه الحضارة ما هي إلى إحدى حضارات القرون الوسطى المظلمة. ومن الواضح أن هذه الصورة التي امتلأت بها كتب الاستشراق ودراساته  “كُتبت لهدفٍ معين، في زمان معين، وبأسلوب معين، لا يُراد به الوصول إلى الحقيقة المجرّدة، بل الوصول الموفق إلى حماية عقل هذا الأوربي المثقف”.

وتتقاطع رؤية محمود شاكر للاستشراق مع رؤية إدوارد سعيد له التي أبانها في كتابه “الاستشراق” في بعض المواضع؛ حيث يؤكد سعيد أيضًا أن الاستشراق قد رسم صورةً معينة للشرق وحبسه فيها، تقوم هذه الصورة على أن الإسلام هو رمز للرعب، وهي موجهة بالأساس للأوروبي حتى لا يشعر بالرهبة من هذا “الشرقي”. وهذه الصورة المرسومة عن الشرق عمدت إلى تناول الشرق -الذي يتسم بالتنوع الهائل- بنوع من التبسيط والاختزال حتى تتكون في ذهن الأوروبي صورة منتظمة واضحة -مغلوطة- عن هذا الشرقي.[13] لذلك، أدان سعيد الدراسات الاستشراقية أنها تمارس “شرقنة الشرق”، بمعنى إسباغ صفات متخيلة بالشرق الموجود في الحقيقة.[14]

والحق أن محمود شاكر يُحمّل الاستشراق كثيرًا من الفساد الذي آلت إليه حياتنا الأدبية، بل يتهمه بأنه كان متربصًا على الدوام ومخترقًا لنا على الدوام، يعرف كل ما يحصل في عالمنا الإسلامي ويستغل أدنى فرصة للتدخل والتأليب والخداع. فحقيقة الاختراق واضحة في مظاهر كثيرة، أما درجة هذا الاختراق وعمقه فتحتاج إلى تتبعٍ ودراسةٍ وتحليل عميقين. ويرى محمود شاكر أن الاستشراق كان خفيًّا ومتغلغلًا، حيث كان المستشرقون “يجوبون دار الإسلام من أطرافها إلى قلبها، يلاقون الخاصة من العلماء، ويخالطون عامة المثقفين والدهماء…ولبسوا لجمهرة المسلمين كل زي”.[15] 

إذن، قام الاستشراق بمهمتين رئيسيتين: الأولى: الذهاب إلى ديار الإسلام وجمع أكبر قدر من المعلومات عن المسلمين لمعرفة واقعهم وإيصال هذه المعلومات لرجال الاستعمار ورجال التبشير، والثانية: رسم صورةٍ معينة عن الإسلام والمسلمين في مخيلة عامة الشعب تحميهم من الانبهار بالمسلمين إذا ما اختلطوا بهم في يومٍ ما لجمع المعلومات أو الكنوز أو غير ذلك.

المستشرق وما قبل المنهج:

يقوم محمود شاكر بتحديد مدى تحقيق المستشرق للشروط الثلاثة (اللغة، الثقافة، الأهواء) ليعرف إذا كان هذا المستشرق مؤهلًا لنزول ميدان “ما قبل المنهج”. أما اللغة؛ فالمستشرق رجل أعجمي ناشئ في لسان قومه ثم هو يتعلم اللغة العربية على كِبَر، فمهما بلغ من الإحاطة باللغة فإنه لن يستطيع أن يتجاوز طبقة العوام -من العرب- الذين لا يُعتد بقولهم في ميدان المنهج وما قبل المنهج. وأما الثقافة؛ فالمستشرق قد تشرّب ثقافته هو وانتمى إليها مذ كان صغيرا، لذلك فإن شرط الثقافة العربية ممتنع على المستشرق وبعيد عنه كل البعد، فالثقافة العربية غريبة عليه، كما أنه لا يؤمن بها ولا ينتمي إليها، فمن الصعب أن يتذوقها أو يحيط بأسرارها. وأما الأهواء فواضحةٌ كل الوضوح، لأن المستشرق لم يحمله على النظر إلى ثقافةٍ أخرى غير ثقافته سوى مشاعر الغضب والبغضاء تجاه المسلمين، ومشاعر الشوق إلى حيازة كنوز هؤلاء المسلمين، ولذلك دفعه هواه إلى رسم صورةٍ بعيدة كل البعد عن الحقيقة.

ولا يستغرب محمود شاكر مما فعله المستشرقون من رسم هذه الصورة المغلوطة عن المسلمين من أجل أن يحفظوا شعوبهم من الانبهار بحضارة العرب والمسلمين، بل يجده منطقيًا ومتفهما، لكنه يستغرب ويستهجن تماما أن هذا الكلام تقبله بعض العرب ورأوه جديراً بالاحترام والتقدير والدراسة والتدريس!

فمحمود شاكر كثيراً ما يؤكد أن دراسات المستشرقين لا يمكن وصفها بالعلمية، لأن المستشرقين لم يحاولوا الوصول إلى الحقيقة من خلال دراساتهم ومناهجهم، بل قاموا بتصميم ورسم الحقيقة التي يريدون وألبسوها ثوب “العلمية”. لذلك، يتعجب من أولئك العرب الذين تلقفوا كتابات المستشرقين واعتبروها دراسات علمية يمكن الاعتماد عليها، ثم أخذوا يبثونها في طلابهم في الجامعات وغيرها، فهم بذلك قد عموا عن إدراك هدف المستشرقين من رسم صورةٍ معينة موجهة بالأساس للغرب ليحفظوا نفوسهم من الانبهار بالشرق، كما عموا عن إدراك مدى بُعد هؤلاء المستشرقين عن الثقافة والعلوم العربية والإسلامية والذي يظهر في قصورهم عن فهم ثقافة المسلمين وواقعهم. وهذا ما وقع فيه طه حسين حين تلقف كلام مارجليوث وأخذ يبثه في محاضراته لطلابه من العرب على أنه كلام علمي ذو منهجية واضحة.

النهضة في عالمنا العربي والإسلامي:

بعد فتح المسلمين للقسطنطينية، سرت في ديار الإسلام نشوة الانتصار التي أورثت السكون والدعة، بينما دخلت أوروبا في عزيمة لترد عن نفسها تلك الهزيمة، وبدأت أساطيل أوروبا تطوّق ديار الإسلام من الشمال، وهكذا ظلت ديار الإسلام تضعف شيئاً فشيئا.

ولكن، وبعد قرنين من فتح القسطنطينية، شعر بعض الرجال بالخطر المتربص بأمتهم، فتيقظوا وهبّوا لمواجهة هذا الخطر بلا تنسيق بينهم وحاولوا إصلاح الخلل الواقع في دار الإسلام؛ سواء كان الخلل في اللغة أو في العقيدة أو في علوم الدين أو علوم الحضارة. وهكذا، حاول هؤلاء الرجال البدء بعملية الإصلاح ليدخلوا أمتهم في “عصر النهضة” في الفترة من منتصف القرن الـ17 م إلى أوائل القرن الـ19 م. من هؤلاء الرجال: البغدادي والجبرتي الكبير في مصر، الزبيدي في الهند ومصر، محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، والشوكاني في اليمن. فكان اهتمام البغدادي موجهًا للغة حيث “ألف ما ألف ليرد على الأمة قدرتها على “التذوق”، تذوق اللغة والشعر والأدب وعلوم العربية”. أما الجبرتي الكبير فكان تركيزه على علوم الحضارة حتى أصبح إماماً عالماً في أكثر الصناعات والهندسة والكيمياء والفلك وغيرها، وقد كان يحضر إليه طلاب من الإفرنج ليتعلموا منه ثم يعودون إلى بلادهم فينشروا ذاك العلم. وكان إصلاح محمد بن عبد الوهاب في الجانب العقدي، حيث حرص على مكافحة البدع والعقائد التي تخالف ما كان عليه السلف من عقيدة التوحيد. أما الزبيدي فقد قام ببعث التراث اللغوي والديني وعلوم العربية وعلوم الإسلام. وأخيراً استهدف الشوكاني إحياء عقيدة السلف وحرم “التقليد” في الدين، وحطم الفرقة زالتنابذ الذي أدى الى اختلاف الفِرق بالعصبية.

ويرى محمود شاكر أن هؤلاء الخمسة كانوا سيقومون بإصلاح ونهضة حقيقية شاملة لولا أن الاستشراق قد تيقظ لبوادر هذه النهضة وحاول وأدها، فقد كان المستشرقون مدركين أن “الفرق بيننا وبينهم -وقتها- كان خطوةً واحدة تُستدرك بالهمة والصبر والدأب والتصميم لا أكثر، بل أكبر من ذلك، فإن اليقظة الأوربية كانت بعد في أول الطريق وتتكئ اتكاءً شديدًا على ما كان عندنا من العلم المسطور في كتبنا … وعلى العلم الحي الذي عند أهل دار الإسلام”.

الحملة الفرنسية وما بعدها:

وهكذا، فقد تنبه الاستشراق لبوادر اليقظة في العالم العربي وسارع في وأدها. لذلك أسرع مستشرقو إنجلترا إلى السواحل الشرقية لجزيرة العرب لإحباط يقظة محمد بن عبد الوهاب بالمكر والدهاء. وأما مستشرقو فرنسا فقد حذروا القائد نابليون من اليقظة الموجودة في مصر، فسمع نابليون نذير الاستشراق ورأى أن الوقت قد حان لاختراق مصر من أجل إحباط اليقظة التي بدت ملامحها على يد الجبرتي الكبير والبغدادي والزبيدي.

وقد كان الاستشراق هو الذراع الأيمن لنابليون يمده بالمعلومات والنصائح والتوجيهات كما يقول محمود شاكر. لذلك، عندما قام نابليون بإنشاء ديوان القاهرة ذَكَر أسماء مشايخ بأعيانهم ليتكون منهم هذا الديوان، لم يكن اختياره للمشايخ عشوائيا، بل كان مبنياً على دراسة قام بها الاستشراق وأعوانه، وكان نابليون يظن أن تدجين بعض مشايخ الأزهر في الديوان -كما أشار عليه المستشرق فانتور- كافٍ لتهدئة الشعب كله والسيطرة عليه، إلا أن تدجينهم لم يمنع ثورة القاهرة أن تقوم على يد الشعب وطلبة العلم الذين يعلمون أن طاعة كبار المشايخ واجبة عليهم فيما هو طاعة لله ولرسوله فقط.

وأمر آخر ظهر فيه مكر الاستشراق وخبثه هو قيام مستشرقو الحملة بالسطو على كتب المسلمين الموجودة في القاهرة، وغايتهم الأولى في ذلك هي القضاء على أسباب اليقظة التي ظهرت في مصر. “ودليل السرقة قائم بين أعيننا إلى هذا اليوم، يصيح شاهدًا على نفسه بالسطو على ذخائرنا التي يمنون علينا بعد ذلك، في حياتنا هذه الأدبية الفاسدة: أنهم حفظوها لنا، ونشروا لنا نفائسها. دليل السرقة قائم في جميع مكتبات أوروبا، صغيرها وكبيرها، في فرنسا وإنجلترا وهولندة …”.[16] وقد كانت أعينهم مصوبة تجاه كتب علوم الحضارة ابتداءً ثم كتب التاريخ ثم كتب الآداب كلها!

وبعد عودة نابليون إلى فرنسا وتسليم مقاليد الأمور إلى القائد كليبر، أرسل نابليون لكليبر رسالة جاء فيها: “اجتهد في جمع 500 أو 600 شخص من المماليك، حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفرهم إلى فرنسا…فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا، يُحجزون مدة سنة أو سنتين، يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية، ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولما يعودون إلى مصر، يكون لنا منهم حزب يضم إليه غيرهم”. 

ثم جاء محمد علي:

بعد فشل الحملة الفرنسية على مصر، ظلت مصر في حالةٍ من عدم الاستقرار بسبب غياب القيادة الراشدة، حتى استقر رأي المشايخ والقادة على إسناد أمر البلاد إلى محمد علي -والذي كان مبعوثًا بجيش صغير إلى مصر في أواخر الحملة الفرنسية- لما رأوا منه من ذكاء ونباهة وزهد في الحكم، لكنه كان جاهلًا لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولم يتعلم شيئا من العلوم.

ولما استلم مقاليد الحكم في مصر عام 1805 م، لم يتركه قناصل الدول الأوروبية -والذين يمثلون الاستشراق في صورته السياسية ويراقبون الوضع الجديد في مصر عن قرب-؛ فقام القناصل يخوّفون محمد علي من تأثير المشايخ والقادة على الشعب، حتى أذعن لهم محمد علي وبدأ بالتخلص فعلًا من المشايخ والقادة الذين كانوا السبب في توليه الحكم وعلى رأسهم عمر مكرم.

ثم ظهر الاستشراق مرةً أخرى حينما كان يخوّف محمد علي من اليقظة التي بدت في جزيرة العرب على يد محمد بن عبد الوهاب، حتى استجاب محمد علي ليخوض حربًا انتهت بنصره ووأد حركة محمد بن عبد الوهاب.  

حتى البعثات العلمية التي كانت تُرسل إلى أوربا في عهد محمد علي لم تكن فكرته هو، بل كانت نابعة أيضاً من القناصل الذين أغروه بإرسال البعثات لما فيها من استفادة وتعلم للصنائع.

وعندما رأى المسيو جومار الفرنسي هذه البعثات التي كانت تُرسل إلى دول أوروبية مختلفة، أسرع يحث القناصل الفرنسية على إغراء محمد علي بإرسال بعثات كبيرة إلى فرنسا تكون تحت إشرافه لينفذ من خلالها المشروع الذي تمناه نابليون وبينه في رسالته لكليبر. وبالفعل، تم إقناع محمد علي الذي أرسل بعثات كبيرة من الشباب المصري إلى فرنسا بين عامي 1826 إلى 1847 م. لكن الخطر الحقيقي أنهم “كانوا شباباً صغار، ليس في عقولهم ولا قلوبهم إلا القليل الذي لا يُغني من “الثقافة المتكاملة” التي عاشت فيها أمتهم قرونًا متطاولة”.[17]

وكانت أول بعثة إلى فرنسا عام 1826 م وعلى رأسها رفاعة الطهطاوي الذي كان في الخامسة والعشرين من عمره ولم يكن قد بلغ شأنًا بعد في “الثقافة المتكاملة” التي تكونت لدى الأمة طوال 13 قرنًا. وقد أظهر رفاعة الطهطاوي اجتهادًا وحبًا للعلم لفت نظر المسيو جومار الذي أسلمه لبعض المستشرقين ليعلّموه أفكارهم، وكان على رأسهم المستشرق سلفستر دي ساسي. وفي غضون 3 سنوات، كان قد درس هناك التاريخ والفلسفة والآداب الفرنسية، وقرأ كتابات فولتير وروسو ومونتسكيو. ثم عاد رفاعة الطهطاوي إلى مصر لينشئ “مدرسة الألسن” التي يُدرس فيها أغلب العلوم، لكن لم يكن هو ولا غيره من المصريين مؤهلاً لتدريس هذه العلوم، فاضطر رفاعة الطهطاوي الى طلب العون من الأجانب والمستشرقين الذين قدموا بالفعل “ليثقفوا” 150 طالبًا. وبهذه المدرسة، حدث صدع كبير وانقطاع في ثقافة الأمة؛ حيث أصبح لدينا مصدرين متباينين للثقافة: الأزهر من جهة، ومدرسة الألسن من جهة أخرى، يختلف كلٌ منهما في المنهج والمعلمين.

واستمر الأمر على هذا المنوال بعد موت محمد علي، فأبناؤه ظلوا في قبضة الاستشراق، والفجوة ظلت تتسع بين تعليم الأزهر وتعليم المدارس الأخرى حتى انقطعت الأواصر عن أصول “الثقافة المتكاملة” وبالتالي انقطعت العلاقات مع تراثنا وحضارتنا.

الاستشراق الإنجليزي:

مضت السنوات على هذا الحال حتى جاء الاحتلال الإنجليزي عام 1882 م ليتم محو آثار الاستشراق الفرنسي التي كانت موجودة في مصر واستبدالها بآثار جديدة من صُنع الاستشراق الإنجليزي. ففي مجال التعليم، قام الاستشراق الإنجليزي بتدمير كل المدارس التي أنشأها الفرنسيون في مصر، ثم أسند أمر التعليم إلى قسيس مبشر يدعى دانلوب -وتظهر هنا العلاقة بين الاستشراق والاستعمار والتبشير بشكل جلي-، فقام دانلوب بوضع “أسس التفريغ الكامل لطلبة المدارس المصرية، أي تفريغ الطلبة من ماضيها المتدفق في دمائها مرتبطًاً بالعربية والإسلام ومهد إلى ملئه بماضٍ آخر بائد في القِدم والغموض”[18]، فاستبدل دانلوب الثقافة العربية الإسلامية بالثقافة الفرعونية ليكون الطلبة في حيرةٍ بين الانتماء إلى هذه الثقافة أو تلك. ولم تكن الثقافة هي الوحيدة المستهدفة من قِبل دانلوب، بل قد استهدف أيضًا اللغة، فعمل على جعل اللغة الإنجليزية هي السائدة في التعليم كله وبالتالي إهمال اللغة العربية في المدارس حتى تكاد تصبح لغة غريبة على أبنائها![19]

وهكذا، فإن خطوات التفريغ تبدأ بتفريغ الأجيال التام من ماضيهم وآدابهم ولغتهم، حتى إذا حصل الفراغ داخل نفوسهم وقلوبهم وعقولهم سَهُل ملء هذا الفراغ بعلوم وآداب ولغة الغزاة الأجانب.

كل شيء يبدو معكوسًا:   

في أثناء السرد التاريخي الذي قام به محمود شاكر، ظل يؤكد أن حياتنا الأدبية الفاسدة هذه تسبب لنا الغبش في الرؤية حتى نرى كل شيء بشكل خاطئ. فهناك بعض المثقفين والباحثين الذين تأثروا بالرؤى الاستشراقية حتى انعكس هذا على كتاباتهم ورؤيتهم للأحداث.

ويورد محمود شاكر بعض الكتّاب الذين تحدثوا عن الحملة الفرنسية على أنها حاملة لواء النهضة والتنوير في مصر، من هؤلاء على سبيل المثال: عبد الرحمن الرافعي صاحب كتاب “تاريخ الحركة القومية”، فقد فسّر كل ما فعلته الحملة الفرنسية على أنه سبب النهضة والتقدم في مصر. وهكذا أصبح التدمير الذي سببته الحملة الفرنسية في مصر هو في عين الحياة الأدبية الفاسدة “رسول الحضارة الذي جاء ليخرجنا من ظلمات الجهل إلى عصر النور والتنوير”!  

ويؤكد محمود شاكر على ضرورة عدم الانخداع بزخرف القول من المصطلحات البراقة المزينة من خارجها، الخاوية من كل معنى ودلالة من داخلها. فهناك بعض الألفاظ التي تتكرر في حياتنا الأدبية كثيرًا لكنها في الحقيقة مليئة بالوهم والإيهام ولا تسير بنا إلا في طريق المهالك، هذه الألفاظ مثل “الجديد والقديم”، و”الأصالة والمعاصرة”، و”التخلف والتحضر”، و”التقدم”، و”الثقافة العالمية”، و”الحضارة العالمية” وغيرها من الألفاظ التي لا تعكس تصورًا منتظمًا.

فمثلًا قولهم “ثقافة عالمية” هو تدليس كبير لأنه لا يمكن لأي ثقافة أن تكون ثقافة عالمية يشترك فيها كل البشر على اختلاف لغاتهم وأوطانهم ومللهم، فإن “لكل ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال مُنتزع من الدين الذي تدين به لا محالة”. وأما قولهم “الجديد والقديم” ففيه ميل واضح لرفض القديم دون معرفةٍ واضحة بحقيقة هذا القديم، كما فيه إعجاب شديد بالجديد دون أن يكون لهذا الجديد أي إضافة أو تميز عن القديم.[20] وأما التجديد فليس هو قطع كل صلةٍ بالماضي والتراث، وإنما هو “حركة دائبة في داخل كل ثقافة متكاملة، يتولاها الذين يتحركون في داخلها حركة دائبة، عمادها الخبرة والتذوق والإحساس المرهف بالخطر”.[21]

في الختام:

يقول محمود شاكر في مقالٍ له: “لا أعلم نكبة نزلت بالشرق العربي والإسلامي بلداً بلداً كانت أفحش أثرًا وأشأم عاقبة من نكبة النسيان والغفلة. لقد نسينا نسياناً تاماً أن العالم كما هو في الواقع الذي نشهده بالليل والنهار، قد انقسم قسمين: قسم من الأقوياء، يقع الصراع بين قواه حتى يبلغ الحرب العالمية المدمرة، وهو إنما يصطرع ويقاتل، على القسم الثاني من العالم، وهو الضعفاء”.[22] ويرى بول كونرتون أن النسيان الثقافي هو سمة عامة لعصر الحداثة وما بعده، كما أنه أصبح مشكلة إنسانية في كثير من المجتمعات.[23]

عرض

 أ. تقى محمد يوسف

باحثة في العلوم السياسية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] جميل أحمد الدهيسات. “منهج التذوق عند محمود محمد شاكر: دراسة تطبيقية على كتابه المتنبي”. رسالة ماجستير. (جامعة أم درمان الإسلامية، 1999). صـ9-28

[2] علي عزت بيجوفيتش. هروبي إلى الحرية. (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2017). صـ41

[3] محمود محمد شاكر. المتنبي. (القاهرة: مكتبة الخانجي، ). صـ17

4- أي أزِنهما مختبراً

[5] محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق الى ثقافتنا. (القاهرة: مكتبة الخانجي. 2006) ص6

[6] محمود محمد شاكر. أباطيل وأسمار. (القاهرة: مكتبة الخانجي، 2005). صـ109

[7] أحمد وجيه. “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، المجلس الأول، مجالس إحياء الفكر”. يوتيوب. 1:29:19. https://www.youtube.com/watch?v=fy5Lrj1EMXQ

[8] شاكر. أباطيل وأسمار. صـ19

[9] المرجع السابق. صـ20

[10] للمزيد: يمكن مراجعة كتاب خونة الحقيقة.

[11] محمود محمد شاكر. جمهرة مقالات محمود محمد شاكر. (القاهرة: مكتبة الخانجي، 2008). صـ1082

[12] شاكر. رسالة في الطريق. صـ31

[13] إدوارد سعيد. الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق. (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2006). صـ131، 132

[14] إبراهيم السكران. مآلات الخطاب المدني. (مركز تفكر للبحوث والدراسات، 2014). صـ116

[15] شاكر. رسالة في الطريق. صـ85

[16] شاكر. رسالة في الطريق. صـ97

[17] السابق. صـ141

[18] السابق. صـ148

[19] شاكر. أباطيل وأسمار. صـ204

[20] شاكر. رسالة في الطريق. صـ155

[21] السابق. صـ158

[22] شاكر. جمهرة المقالات. صـ947

[23] بول كونرتون. كيف يغزو النسيان ذاكرة الحداثة. (القاهرة: المركز القومي للترحمة، 2016). صـ195، 196.

عن تقى محمد يوسف

شاهد أيضاً

تساؤلات حول علاقة الفقه والتنظير ضمن ثنائية الواحدية والتنوع

أ. د. شريف عبد الرحمن سيف النصر

للنظرية مكانتها الخاصة من العلم الحديث؛ فهي الإطار الفكري الذي يربط بين الوقائع، والمفاهيم، والفروض. والتنظير — بحكم اشتقاق الكلمة سواء من اليونانية أو العربية — يعنى التأمل والنظر في الواقع وما يحويه من ظواهر وتفاصيل.

الاستشراق والمستشرقون “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

الاستشراق الطليعي

المستشرقون ومصارد التشريع الإسلامي

محاورة الاستشراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.