البيئة الثقافية للصناعة والتقنية*
أ. د. ممدوح عبد الحميد فهمي**
أولًا: مقدمة شخصية
لا أستطيع أن أبدأ هذا البحث قبل أن أُعرِّف القارئ بنفسي وبعلاقتي بموضوع البحث. ولدت في الجيزة وتلقيت تعليمي الجامعي في هندسة الطيران وفي الرياضيات في جامعة القاهرة في الستينيات. كنت إذن متوحدًا مع مشروع التنمية الصناعية الذي تبنته دولة مصر لدعم نضالها السياسي ضد الهيمنة الاستعمارية، ولتأسيس شرعيتها بإشباع تطلعات الجماهير إلى رفاهية استهلاكية على النمط الغربي الأوروبي. كان الحلم الوطني القومي يتمثل في اللحاق بالغرب ومشابهته ومحاولة مناطحته. الوسيلة؟ نقل التكنولوجيا.
وهكذا كنت واحدًا من ناقلي التكنولوجيا. سافرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لأتعلم علومها وأتقن مناهجها، وتخصصت في منهج النماذج الرياضية – العددية، وطبقته هناك في فهم وتحليل عدة نظم هندسية. وعدت إلى مصر في السبعينيات، وبنية طيبة حاولت تطبيق ما تعلمته، وفوجئت بعدم ملاءمة النظم الهندسية في مصر لمناهج التحليل الغربية.
أنجزت عدة بحوث حاولت فيها اعتساف الواقع ليلائم رموز المنهج. لكن العقم التطبيقي لتلك الأبحاث جعلني أتوقف بعد سبع سنوات. أخذت أراجع القضية برمتها، أتساءل وأتناقش مع زملاء وأصدقاء لي عن الخلل، هل هو سياسي؟ هل هو منهجي معرفي؟ هل هو حضاري؟ وخلال عملية التأمل والقراءة والحوار والكتابة بدأت تتبلور المعاني، بل بدأت نقطة تحول في فكري. ألحظ هنا ثلاثة محاور للتحول بالنسبة لي:
أولها تحول من الانشغال بدراسات (وأفكار وفلسفات وتوجهات وإنجازات…) العالم الغربي إلى دراسات العالم الإسلامي. التحول من اعتبار الغير، الغربي، مركز الإشعاع الحضاري وكنز الخير الفكري والنور العلمي إلى اعتبار الذات، الإسلامية، هي المركز المشع حضارة، الكنز الممتلئ إمكانات.
ثانيها التحولات هو التحول من التعلق بالصناعات الثقيلة بمؤسساتها المركزية وهياكلها الرأسية ومعاييرها التكنوقراطية إلى الصناعات الخفيفة بلجانها الشعبية وهياكلها التعاونية الأفقية ومعاييرها الاجتماعية الإصلاحية. تحول من التنمية الصناعية الفوقية القسرية الحكومية إلى التنمية الصناعية التحتية التلقائية الجماهيرية.
ثالثها محاور التحول هي الإمكانات الذاتية لوطننا العربي، إمكانات أرضنا وأنهارنا، إمكانات شعوبنا وقبائلنا وعائلاتنا. وأن ننظر إلى وطننا العربي على أنه كنز من الإمكانات الغنية، وأن ندرسها في محبة ونحفظها في إحسان وننميها في ثقة. ياله من تحول! من التحديق الشديد في إمكانات الغربي البعيد والإعجاب المشبوه بعلومه وحضارته ورموز مدنيته. من كل هذا إلى التدبر الودود في حفظ وتنمية إمكانات العربي القريب.
هذا هو التحول العظيم بفضل الله الخبير العظيم.
ثانيًا: تمهيد موضوعي:
أبدأ هنا بتقديم فهمي للمصطلحات الأساسية؛ ليمكن للقارئ تقييم الزاوية التي أرى بها موضوع البحث.
القيم: هي معايير التفاضل بين الأشياء، أو البشر، أو الأنشطة، أو هي الأوزان النسبية التي تحدد درجة اهتمامنا أو تعلقنا بشيء، قيمة الشيء إذن هي مقدار ما نحن مستعدون لإنفاقه في سبيل الحصول عليه. وأعم وصف لمادة الإنفاق هو الطاقة الحيوية، وهذه تأخذ شكل المال، والوقت، والجهد، والعواطف، والأفكار.. مثلًا أعلى الأشياء في سلم القيم هو ما نحن مستعدون أن نبذل أي شيء في سبيل نيله. تقول الأم مثلًا: في سبيل أطفالي أفعل أي شيء. يقول الوطني: في سبيل حرية بلدي أبذل كل غال. يقول العالِم: في سبيل الحقيقة أسهر الليالي. ويقول الله تعالى في وصف الذي طغى: إنه (آثر الحياة الدنيا) (النازعات: 38). القيم إذن هي محددات القرار أو الاختيار في حياتنا، سلم قيمنا هو سلم أولوياتنا. أيهما أعلى قيمة عندنا: الدخل أم الجودة، جهد العمل أم متعة الراحة، المركزية الرأسية أم اللامركزية التعاونية، التنافس أم التراحم، الأخذ أم العطاء؟
الثقافة: ثقافة أي جماعة هي مجموع ما في نفوس أبنائها من معتقدات قوية، وقيم حاكمة، وتصورات، وجودية. ثقافة الجماعة هي حياتنا الباطنية المحدِدة لأسلوبها في البقاء والنمو، الغزو والقعود. الثقافة هي ضمير الجماعة وروحها المحركة، وميزان اختياراتها، والسر وراء استجابتها للتحديات.
وثقافة الجماعة تجد وسائل كثيرة لتصور آراؤها وتحيزاتها وتفضيلاتها.. مثل الفنون والأمثال الشعبية والأساطير. مثل أبطالها ونجومها ومُثلها العليا، مثل كتابات مثقفيها وأغاني عامتها. وهي كيان حي، به ثوابت الخبرة التاريخية وظروف الجغرافيا، وبه متغيرات التحديات والأحلام المعاصرة. جزء منها موروث من الأسلاف وجزء منها دخيل من الغزاة، وجزء ثالث إبداع ذاتي حاضر.
الحضارة: هي مجموع الأنشطة البشرية والفعاليات الاجتماعية والمؤسسات السياسية والآليات الاقتصادية التي تشكل مكونات جماعة بشرية معينة في إقليم وعصر محددين. هي الاختيارات ذاتها وقد تجسدت في أعمال ومساعي وتدافعات وممارسات. وروح الحضارة هي الثقافة، أما جسمها فهو المدنية. هي المدن والطرق والمباني والآلات والكتب والمصانع والمزارع والأسواق ودور اللهو. وتتكون الحضارة من مجموعة من القدرات الذاتية: قدرة علمية، قدرة تنظيمية، قدرة فنية، قدرة تكنولوجية، قدرة تأليفية… إلخ.
العلم: هو نشاط بشري هدفه اكتشاف سنن الله في الكون وفي الآفاق وفي الأنفس.. هو مجموعة من الأساليب المنظمة لتفسير حركة الأشياء وتحولاتها.. الاستنباط، الاستقراء، التجريب والملاحظة والنمذجة، والتأمل والحدس والخيال، كلها بعض من المناهج التي يستخدمها العلماء للنفاذ إلى كنه أو حقيقة الأشياء وتكوين صورة مدركة نافعة لنا.
التقنية: تقنية أي عمل هي أسلوب أدائه، هي طريقة إتمامه.. تقنيات الإنتاج هي طرق الإنتاج، فنتحدث عن تقنية سباكة صمام، تقنية لحام البلاستيك، تقنية خرط الجريد، تقنية كسوة الحوائط بالقيشاني، تقنية تعليم الصم الكتابة، تقنية الري بالتنقيط…
التكنولوجيا: هي علم التقنيات: قدرة ذاتية على تعديل وتحسين تقنيات موجودة أو إبداع تقنيات جديدة. هي قدرة حضارية موصولة بمجموع القدرات الحضارية الأخرى؛ لذا فما أصعب أن تُنقل من مجتمع إلى آخر. التكنولوجيا قديمة قِدم العمران البشري، مرتبطة بقدرة تأمل العملية الإنتاجية والتفكير المثابر المنظم في تحسينها وفق إطار قيم الجماعة.
تتكون من أربع فعاليات:1- استيعاب 2- تشغيل 3- تطويع 4- إبداع. كلٌ منها تمثل تفاعلًا جدليًا بين الجماعة وواقعها الطبيعي والاقتصادي يهدف إلى تشكيل الواقع ليكون أكثر ملاءمة للجماعة.
العدد والآلات: مستلزمات النشاط الإنتاجي. هي أدوات تنفيذ التقنيات في تفاعلها لتشكيل الواقع.
الصناعة: هي المؤسسة الاجتماعية التي تنظم استخدام المواد الخام، والأموال، والخبرات التكنولوجية، والتقنيات المكتسبة، والعدد والآلات المتاحة، في نسق موجه إلى إنتاج سلعة محددة. هذه السلع قد تكون آلات وأجهزة، وقد تكون تقنيات وأفكارًا.
والصناعة أنواع: استخراجية، تجهيزية، تحويلية، تشكيلية، هذا تقسيم من ناحية طبيعة التقنيات وارتباطها بالخامات فيها. هناك تقسيم آخر بحسب درجة تعقيد التقنيات وكثافة حجم المال وكبر حجم هيكل العمالة، وهنا تكون الصناعة ثقيلة أو خفيفة.. وترتبط الصناعة الثقيلة عادة بكثافة رأس المال وتعقيد التقنيات وتكنوقراطية الإدارة. أما الصناعة الخفيفة فترتبط ببساطة الآلات ومحلية التقنيات ومرونة الإدارة وتعاونيتها.
التنمية: حركة اجتماعية بزخم حضاري تجاه زيادة درجة تحقق غايات الجماعة. هي قد تكون تنمية اقتصادية تجاه زيادة كمية الإنتاج، الدخل، الرفاهية، أو تكون تنمية اجتماعية تجاه زيادة الترابط الاجتماعي والتواصل بين أنساقه الحية، أو تكون تنمية تعليمية، علمية فنية… تجاه زيادة كفاءة وعدد المتعلمين، كمية البحوث العلمية وجودتها، وفرة الأعمال الفنية وتنوعها… إلخ.
والتنمية نوعان: قسرية مفروضة من مستعمر غالب أو حاكم مستبد، تمزق روابط المجتمع وتشوهه، أو ذاتية نابعة من البنية الحضارية للجماعة، مجددة للذات من داخلها.
ثالثًا: صياغة مسألة الثقافة والتنمية:
1- المشكلة: أسئلة عن الواقع الحاضر
ما سر تدني قيمة إتقان العمل؟ ما سر احتقارنا للعمل اليدوي؟ ما سر خوفنا من إصلاح العدد والآلات وإهمالنا تعلم صيانتها؟ ما سر وجود آلات ضخمة جديدة في صناديق لم تُفتح، وأخرى قديمة لم تُكهن؟ هل نعرف قدراتنا التكنولوجيا الموروثة؟ هل راعيناها حقها؟ هل نرى له قيمة أو فائدة؟ هل نعرف تاريخ وطننا الصناعي والتقني؟ هل نعرف لِم قامت صناعات ولِم انهارت أخرى؟ هل نعرف سر انفصال التعليم، حتى الفني الصناعي، حتى الهندسي الجامعي، عن احتياجات الصناعة الحكومية والأهلية؟ هل نعرف سبب ضمور قيمتَي التدريب والصيانة، وشبه غياب قيمتَي التطوير والتحسين؟ ما سر غفلتنا عن خطر هاوية الخمود التكنولوجي في بلادنا؟ ما سر عدم اكتراثنا بأن نكون مستوردين مستهلكين فقط؟ ما سر هذا التعود على التفرج والانبهار بالمبدع المنتج الغربي؟.
وما هو هذا التخليط، فيبدو كأننا فقدنا ملكة التمييز بين ما ينفعنا وما يضرنا.. قدرة مكافأة المحسن وعقاب المسيء؟ لِم نبدُ كأننا نفعل العكس فنحب من يستغلنا ونعجب بمن يتسلط علينا؟ وما هذا الغياب لأي ذاكرة تاريخية، فيبدأ كل جيل، بل كل مسؤول، من الصفر ودون أي اعتبار ولا استفادة بدروس من سبقوه؟ وهل نحن حقًا صوتيون كلاميون، نقول ما لا نفعل، نوصي بما لا ننوي عمله، نشرع قوانين لا ننوي احترامها، ننشئ مؤسسات ورَقية؟
لِم يبد أننا نتظاهر بأننا نحيا، ونعمل، ونغير، ونقرر، بينما نحن حقيقة في واد آخر؟ ما سر ثقتنا العميقة في الغرب، نستثمر أموالنا في بنوكه وشركاته ونستشيره في قراراتنا وتوجهاتنا، بل وقد نستعين بجيوشه لحمايتنا؟ ما سر ميلنا للحفظ والترديد لكلام البعيدين عنا، سواء كانوا أسلافنا البعيدين زمانًا أم غزاتنا البعيدين مكانًا؟
وما سر ازورارنا عن الإنصات لبعضنا البعض، عن الحديث الصادق الحميم مع القريب المعاصر المجاور المشترك معنا في المصير؟
ما سر هذا الشغف بالجديد الجاهز المعلب والنفور من الموجود أمامنا الذي يحتاج إلى بعض التجديد والتحسين ليتألق ويعمل ويفيد؟
كيف حدث أننا لا نفكر في مصطلحات: العصرية، العقلانية، التكنولوجيا، العلم، والحداثة، والتقدم، إلا ونستدعي الغرب لأذهاننا؟ كيف حدث أننا لا نقول كلمة بيئتنا، نفوسنا، ميراثنا، ماضينا إلا وتقفز لأذهاننا كلمات الجمود، والخرافة والتخلف، والتدهور؟ ما سر غياب فضيلة الجهاد من نفوسنا، ونسياننا أن الحضارة الإسلامية لن تُبني من تلقاء نفسها، ولا بمنحة من الظالمين، إنما تبنى بالجهاد؟
ب- الحل: أسئلة عن المستقبل المنشود:
كيف نسأل الأسئلة الصحيحة؟ كيف نحدد قائمة الأهداف الحقة؟ كيف نوطن القيم الحضارية الدافعة إلى أن نكون فاعلين اقتصاديًا؟ كيف نؤصل في نفوسنا حب الاستقلال ومقت التبعية؟ كيف نعرف حاجاتنا الأساسية (ونميزها عن الثانوية) والجوهرية ونميزها عن الزائفة؟ كيف تكون حاجاتنا مرتبطة بذواتنا الحضارية العليا؟ كيف تكون أشواقنا الحقيقية معروفة لنا مصوغة أمامنا محركة وملهمة؟ كيف نفهم أن الأمة هي نحن، والوطن هو مجموعنا جميعًا، الفقراء والأغنياء، الشعب والحكام، العامة والصفوة، وأن أي استبعاد لأي منا هو إنقاص لإمكانياتنا؟ كيف ندرك أن التنمية لا تكون إلا ذاتية متدفقة، محكومة غاياتها بمعاييرنا نحن؟ كيف نحس أن الانقياد لغير الله هو صراط العذاب الأليم؟ كيف نثق بنفوسنا التكنولوجية – التقنية ونصدق أننا لسنا، ولم نكن يومًا، محدثي تكنولوجيا؟ كيف نعرف تاريخنا التكنولوجي بحلقاته الموصولة بأنساقنا الاجتماعية الحية؟ كيف تصبح كلمة المعاصرة معناها أن نكون بحق المعاصرين، أحرارًا في بناء نهضتنا الخاصة بنا، المحكومة بقيمنا نحن، المحققة لغاياتنا نحن؟ كيف نفهم أن الإبداع العلمي، التكنولوجي، التنظيمي، هو ضرورة بقاء، هو صراط وحيد، هو الممكن الصحيح في آن واحد؟
كيف نفقه واقعنا بطريقة المحب الذي يرى قوى وكنوزًا ومزايا محبوبة؟ كيف نختلف مع بعضنا البعض اختلاف المحبين، يرون ما يجمعهم، يحسون بالفضل بينهم، يتذكرون أجمل ذكرياتهم، ويوقنون بوحدة مصيرهم؟ كيف نحب أنفسنا فنتحرك بها نحو غاياتنا الحضارية في رفق وتدرج ودود؟ كيف نصبر في ذروة غضبنا على ماضينا فلا نمزق عرى روابطنا ولا ننسى فضل أجدادنا؟ وكيف نتطهر من الشك في أننا حقًا مستخلفون من الرحمن على أرضنا، وأنه بتكليفنا أن نبني فوقها حضارة عربية إسلامية إنما يكلفنا بقدر سعة نفوسنا؟ وكيف يصبح الهمّ الحضاري في مستوى الأعمال الصالحات التي تقربنا من الله؟ كيف نفهم الإنفاق في سبيل الله، فهمًا يربطه بالإسهام الحضاري، ببناء ما ينفع أهلنا وما يُصلح أرضنا؟ كيف تتكامل ولاءاتنا، من النفس إلى الأسرة فالعائلة فالقبيلة فالوطن فالأمة؟ كيف نوقن أن سريان رحيق الحياة الحضارية مشروط بالتوطين الإسلامي لقيمنا؟ كيف نعلم أن الصناعة والتقنية والتكنولوجيا هي تعبيرات عن كيان حضاري متكامل عضويًا في حركته للارتقاء والإحسان؟ كيف نجمع بين القراءتين: قراءة كتاب السنن الكونية والأسباب البشرية وقراءة الشريعة الإلهية جمعًا يقيمنا على الصراط العزيز الحميد؟
رابعًا: التكنولوجيا الملائمة
شهدنا القرنين الماضيين ونحن نطرح المسألة التكنولوجية طرحا منقوصًا، فمنذ محمد علي في مصر والبدائل المتاحة هي ثلاثة:
- تكرار الموروث التقني أي جمود تكنولوجي.. كل جيل يكرر الجيل السابق عليه.
- التغيير القسري بتبني حكومة وطنية مهمة زرع تقنيات مستوردة بآلاتها وعددها وخبرائها في التربة المحلية، وكبت كل الاستجابات الاجتماعية المعارضة لاتجاه التغيير، وعدم الاكتراث بالتمزقات العميقة في الأنساق الاجتماعية المرتبطة بالتقنيات المحلية المستبدلة.
- الإلحاق القهري بقيام حكومة استعمارية بتحوير التقنيات المحلية وما يرتبط بها من استخدام للخامات ونسق للتدريب وسوق إشباع الحاجات الأساسية، إلى تقنيات ملحقة بتقنيات مركزية في البلد المستعمر، وبالتالي يتم تحوير كل أنساق التعليم والتدريب وسوق الخامات وأنماط الاستهلاك بحيث يصبح المجتمع كله تقنيًا وتكنولوجيًا تابعًا للمركز ملحقًا به دائرًا في فلكه.
يتشابه البديلان الثاني والثالث ويختلفان، أما التشابه ففي أن الأنساق المحلية المرتبطة بالتقنيات الموروثة تمزق أو تشوه.. وبالتالي تقطع الروابط الممكنة والكامنة بينها وبين جوهر الذات الحضارية. أما الاختلاف فهو أن النسق البديل يكون تابعًا للحكومة الوطنية في الثاني، وتابعًا للحكومة الاستعمارية في الثالث. وفي الحالتين تتوارى المبادرات الأهلية والإبداعات المحلية، إذ يقوم التصنيع القسري على عناصر تهمش المجتمعات المحلية. فهي تعلي من قيمة التمويل وتتبنى المشروعات كثيفة رأس المال، وتعلي من شأن الآلات والعدد والأجهزة المستوردة الحديثة، الجاهزة، المتقدمة! هي تزين كل ما ينقص المجتمع، وتستنكر ما يحوزه من ممكنات تقنية ومزايا تنظيمية. وواضح أن كل هذا يتم بغزو ثقافي لصميم الذاكرة الجماعية ولمكونات الذات الحضارية.
إننا في بحثنا عن رقي وازدهار الصناعة والتقنية في وطننا العربي يجب أن ندرك طبيعة العلاقات السببية بينها وبين بقية المتغيرات والعوامل كي يكون بناؤنا مؤسسًا على قواعد راسخة في كيان أمتنا. إن منظومة هذه العلاقات يمكن تمثيلها في شكل (1).
وسنقدم فيما يلي ملخصات لمتطلبات كل حلقة أو مستوى بادئين من أدناها:
1- التغيرات التكنولوجية: المطلوب هو التكنولوجيا الملائمة التي تدرك التكنولوجيا كمتغير حضاري متصل بالنسيج الاجتماعي كله ويكون غايته صيانة ودعم ورقي هذا النسيج.
هي إذن قدرة موجهة نحو استغلال الخامات المحلية بأسلوب يُحَسِن من البيئة الطبيعية وبمساعدة الأهالي، بإمكاناتهم المحلية الموروثة وما يحوزونه من قدرات مكتسبة في إحداث تغيير يُحسِن من نمط حياتهم وفق قيمهم. التكنولوجيا الملائمة تستفيد من أنساق العلاقات الاجتماعية وتنسجم معها في إبداع تقنيات جديدة أو تجديد تقنيات موجودة تشبع الحاجات الأساسية الحقيقية للأهالي.
2- التنمية الصناعية: المطلوب أن تكون جزءًا من تنمية ذاتية وشاملة تقوم على الحافز المعنوي الموصول بالتكوين الثقافي والعقيدة الدينية. منظوماتها شعبية، بالناس وللناس. تقوم على الاكتفاء بالذات والثقة الحضارية فيها والاعتماد على ما تحوزه من إمكانات. هي موصولة بالتنمية: اجتماعية وفردية وطبيعية أيضًا.
3- العلاقات الخارجية: المطلوب ترتيب علاقاتنا بهم وفق علاقتنا بذاتنا فنتعاون مع مَن يُحسن إلى ذاتنا الحضارية ونجاهد مَن يسئ إليها. ولذا تكون الأولوية للأقرب عن الأبعد. تكون الأولوية للتعاون بين الأقطار العربية، للتكامل بين الدول الإسلامية، للتضامن بين الدول الإفريقية. هؤلاء أولى من الأغيار البعيدة مثل الدول الغربية، ليس فقط لأنهم أبعد مكانًا، وإنما لأنهم أكثر اختلافًا عنا، قيمًا، وثقافة، وحضارة، وعقيدة. أن نؤمن بأن الاعتماد الجماعي على النفس، بأن نفتح أسواقنا وتتحاور حكومتنا وتتعاون شعوبنا، هو طريقنا جميعًا إلى الاستقلال والنهضة.
4- القيادة السياسية: المطلوب هو إرادة التحرر من الهيمنة. وإدراك أن التكنولوجيا الملائمة هي طريق التحرير لكل المنتجين الشرفاء. وهي تقييد فقط للطفيليين من السماسرة والمترفين وللمؤسسات الاستعمارية التي تريدنا زبائن دائمين أي توابع دائمين.
5- الحركة الحضارية: المطلوب هو الاختيار الحر للخصوصية الحضارية، خصوصية الأصول: أصالة الدوافع القومية والرغبات الوطنية والحاجات الاجتماعية، وخصوصية الغايات: الإسلام لله وعبادته والاستقامة على صراطه. وخصوصية الوسائل: العدل، التكافل بين المؤسسات والتراحم بين الأفراد، الإحسان في العمل، الإصلاح في الأرض.
6- المدركات الثقافية: المطلوب القيم التي تزين رعاية أمانة استخلاف الله لنا في الأرض، قيم تملؤنا ثقة بأنفسنا الحضارية مبنية على ثراء تاريخنا التقني والعلمي والفني والحضاري، وبما نحوزه من إمكانات. أن نحب أنفسنا، أن نحب بيئتنا وأرضنا ونحسن التعامل معها ونقبل على معرفتها في قسط ودأب وصبر.
7- المعتقدات الدينية: المطلوب جهاد الخوف من الظالمين وجهاد الإعجاب بالمجرمين، وأن يتأصل الجهاد الحضاري عملًا صالحًا نتقرب به إلى الرحمن.
خامسًا: البيئة الثقافية: مكوناتها مؤثراتها وعلاقتها
بحور البيئة الثقافية مَواجة عاصفة لأنها تتعلق بالفرد وبكل الأنساق الجماعية التي تربط عُرى الجماعة، تتعلق بالعقائد وبالقيم، بالميول والتوجهات، بالعادات والأعراف، بالتصورات والأفكار. هي القوى التي تفسر ميول العامة وتحيزاتها، وعاداتها في التعاون وتقاليدها في التخاصم، ما يحركها ويشعل حماسها. وهي أيضًا التي تصوغ النخبة وتفسر أساليبها في التشاور، واتخاذ القرارات، واستجاباتها للأخطار، والتحديات.
وفي عصرنا شكلت وسائل الإعلام وسائط التواصل والتشكيل الثقافي لكل من النخبة والعامة، خصوصًا فيما يتصل بالحياة العامة الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية والاجتماعية أي الحضارية. وأصبح نجوم هذه الوسائل الإعلامية هم ذوي التأثير الأعلى صوتًا في آراء وتوجهات الجماعة الحضارية. والناس في كل زمان على دين ملوكهم وتفضيلات نجومهم. إنما في عصرنا وفي وطننا العربي تُشكل هذه القضية مشكلة مزمنة، تتبدي في عجز النخبة عن قيادة العامة وانفصالهما وتبادلهما السخرية والأفكار وقلة الاكتراث، وهذا يوقعها معًا في الانقياد للنخبة الغربية بما يهدد الجهد الحضاري القومي بالعقم وقلة الفعالية. لو حاولنا تحليل البيئة الثقافية إلى مكوناتها الأصلية يمكن أن نجد أنها سبع مكونات:
- عقيدة دينية تعبدية تتصل بالعلاقة بالله واليوم الآخر.
- قواعد وأصول تشريعية تنظم المعاملات الشخصية والاجتماعية.
- قيم أخلاقية تنظم العلاقات الشخصية وتضبط السلوك الاجتماعي.
- قيم حضارية تنظم الحياة الاقتصادية، والسياسية، والعلمية، والتقنية.
- تصورات وذكريات وأفكار عن ماضي الذات الجماعية.
- عادات وتقاليد وأعراف لحاضر الذات الجماعية.
- ميول ورغبات وتوجهات عن مستقبل الذات الجماعية.
وهذه المكونات تتأثر، في وطننا العربي، بخمسة مؤثرات:
1-الذات الشخصية: الطباع والمواهب والنشأة الأسرية والتربية الجنسية، ثم نوع المهنة ونمط الارتزاق ومستوى الثروة وعمر الفرد. فنجد أن ثقافة المهندس غير ثقافة التاجر، وثقافة الغني غير ثقافة الفقير، وثقافة المرأة غير ثقافة الرجل، وثقافة الشاب غير ثقافة الكهل… إلخ.
2- الذات الدينية: الإسلام كعقيدة تعبدية: الإسلام كشريعة معاملات. الإسلام كمصدر للقيم الأخلاقية والحضارية. الإسلام كمنهج وكطريق. تتفاوت تأثيرات هذه الجوانب والقسمات بتفاوت العصور. فمثلًا نلحظ أن عصور التقدم والنهضة شهدت الإسلام بتأثيرات كل جوانبه، أما عصور القعود والخمود فقد شهدت الإسلام يؤثر بجانبه كعقيدة تعبدية فقط، أو قد يزيد تأثيره كشريعة معاملات.
3- الذات القومية: اللغة العربية وآدابها. الوطن العربي وميراث تفاعلاته الحضارية التاريخية. المكونات القَبَلية، والعرقية والحضرية، والبدوية.
4- الذات الوطنية: التكوين العرقي السلالي. ميراث التفاعلات التاريخية وخبرتها. العلاقة بالأرض والنهر، والبحر، والجبال، والصحراء. الحكومة وهيكلها ووسائل إعلامها وخبرة علاقتها بالشعب.
ومؤثرات الذات الوطنية على الثقافة هائل لارتباطها المباشر بأسس البقاء وأساليب مواجهة تحدياته. ولهذا فثقافة عرب الشام غير ثقافة عرب شمال إفريقيا، وثقافة أهل مدينة دمشق غير ثقافة أهل سهول كردفان، وثقافة قبائل الجبال اليمنية غير ثقافة قرى الدلتا المصرية غير ثقافة واحات الصحراء الليبية.
5- الأغيار الغربية: تشكل مؤثرات الأغيار الغربية ثلاثة انماط من خلال شكل تفاعلها مع البيئة الثقافية بمكوناتها السبعة..
أ- أغيار غربية استعمارية: حكومات ومؤسسات وجيوش.
ب- أغيار غربية قيادية: حكومات ومؤسسات ووسائل إعلام.
جـ- اغيار غربية تعاونية: أفراد ومؤسسات.
سادسًا: الانفصام الثقافي
يمكننا الآن إلقاء الضوء على عوامل تشكل وعينا وقيمنا وتوجهاتنا. فنقوم بتقسيم المكون الثقافي إلى جزأين أو مجموعتين:
1- المكون أو الكيان الشخصي: العقيدة التعبدية – القيم الأخلاقية – قواعد المعاملات التشريعية – ذكريات الماضي: تتعلق بالحياة العائلية والشخصية والجنسية.
2- المكون أو الكيان الحضاري: قيم حضارية – توجهات مستقبلية – أعراف حاضرة تتعلق بالجوانب السياسية، العلمية، الفكرية، التعليمية، المؤسسية، المهنية، الإعلامية، التقنية، الصناعية، المدنية.. في حياة الجماعة، ونلاحظ أن الصورة الحاضرة تعكس استقطابًا مذهلًا ومرعبًا.. إذ يبدو أن بيئتنا الثقافية تعكس انفصام وعينا الثقافي على النحو التالي:
1- الكيان الشخصي الخاص يتحدد بالعلاقة بالأسلاف والذات الدينية.
2- الكيان الحضاري العام يتحدد بالعلاقة بالحكام والأغيار الغربية.
وفيما يلي تصوير وصفي تفصيلي لهذا الانفصام:
1- العلاقة بالأغيار الغربية:
أسس محمد على باشا في سنوات حكمه لمصر تقاليد العلاقة الوثيقة بين الكيان الحضاري والغرب والحكم، عندما جعل أساس بناء دولة حديثة هو: هيئة استشارية فرنسية، إداريون جراكسة، مبعوثون إلى فرنسا. بدأت العلاقة بالتقليد والاقتباس من نظم التعليم، المصانع الحربية، تقنيات زراعية وصناعية وعسكرية. وأساس التوجه هو أن البدائل الحضارية اثنان لا ثالث لهما:
- الموروث الإسلامي من المماليك أو العثمانيين. وهذا منتِج للخمود والضعف كما دللت على ذلك هزيمة المماليك وتقاعس العثمانيين أمام الحملة الفرنسية لغزو مصر.
- الوافد الغربي من الخبراء والعلوم، والصناعات، والمعدات، والأسلحة. وهذه النخبة، بعد تعلمها واستيعابها، منتجة للقوة والازدهار.
لاحظ أن هذا الطرح لم يكن شعبيًا، وإنما كان حكوميًا فوقيًا، وهكذا كان النهوض قسريًا مرغمًا. إنها السلطة الوطنية المسلمة التي كانت الحامل والمُرَوج والمزين لطلائع الحضارة الغربية ورموزها الثقافية وأدواتها التمدنية. وهي سلطة مستقلة سياسيًا عن الغرب مناطحة له في نفوذه مقاومة له في مستعمراته. ومثل محمد علي كان الخديوي إسماعيل والرئيس عبد الناصر.
إلام أدى هذا المزج بين الاستقلال السياسي والتبعية الحضارية؟ لقد خلق في نفوسنا جدارًا عاليًا حال بيننا وبين التمركز في أنفسنا؛ إذ أن مركزنا الحضاري ظل دومًا محتلًا بهؤلاء الأغيار الغربيين، بأفكارهم وبنوكهم وخبرائهم وعلمائهم، وسلعهم وتقنياتهم وفنونهم. أصبحنا نرى أنفسنا عبر نظارة رؤيتهم لنا، نصور حياتنا بألفاظهم وتعبيراتهم، نسمى مشكلاتنا بصياغتهم، نعبر عن آمالنا برموزهم.
توغل الغرب فينا فجعلنا (برضانا) التابع المستهلِك له. تراه في كافة جوانب حياتنا، الجماهير الشعبية تستهلك سلعة وتقلد موضاته، والصفوة المثقفة تتبنى مناهجه وتروج لقيمه ورؤاه. في كلمة واحدة: أصبح للغرب المرجعية الحضارية في بلادنا.
قد تتساءل: وماذا عن عصور التبعية السياسية؟ والجواب أن الإلحاق الحضاري يشتد ويتعمق في أثنائها حتى تصبح شعوبنا مقتنعة بأن نفعها ومصلحتها أن تتبع هذا القائد القوي، وأن تتأسى بهذا المتحضر الراقي. وعبر قرنين تراوحت فيهما على بلادنا عهود الاستقلال والاحتلال العسكري، ظلت الهيمنة الحضارية في ازدياد مثابر مستمر حتى أصبحنا الآن نؤمن بأن الرجل الغربي هو السوبرمان المتفوق، وأن العربي هو الغلبان المتدني الذي ينبغي – من أجل مصلحته – أن يطيع القائد ويتلقى منه المساعدات والقروض والمنح، سواء كانت أفكارًا أم دساتير، أسلحة أم تقنيات، أموالًا أم مفتشين وخبراء.. وأصبح لسان حالنا يقول: أيها الغرب أنت مصدر الخير والثروة فارزقنا وانفعنا، أنت مصدر العلم والحكمة فانصحنا واهدنا، انت مالك القمح والتكنولوجيا، وأنت مالك البوارج والصواريخ، أنت حامينا ونعم النصير.
لقد تمثلت بيئة التبعية – تقنيًا واقتصاديًا – في العقدين الأخيرين في فلسفة وممارسة للتنمية الصناعية قوامها:
– استثمار عائدات النفط العربية في بنوك الغرب ومؤسساته الاستثمارية.
– اقتراض البلاد العربية الفقيرة من بنوك الغرب بفوائد ربوية رهيبة.
وهكذا أصبحت أموال العرب الأغنياء رهينة في بورصات الغرب.. وأصبحت اقتصاديات العرب الفقراء أسيرة لديون الغرب. وكل من الفريقين أخذ مقابل الأموال مشاريع (صناعية أو خدمية أو بنية أساسية) تسليم مفتاح، صممها وأبدعها وأنتجها الغرب. وما على العرب إلا الاستعمال والتشغيل. حتى الصيانة لا يستطيعونها لأنهم لا يعلمون ما بداخل الصناديق الجاهزة. وكل علبة تكنولوجية جاهزة كانت مقابل قطعة من الاستقلال التقني، مقابل الحق الطبيعي في الإبداع التكنولوجي.
كيف ظلمنا أنفسنا هذا الظلم؟ كيف ضعف إحساسنا بالإسلام كمرجع حضاري، كملهم ومحرك لسعينا للتمدن والعمران وإصلاح الأرض؟ للإجابة دعنا ننظر إلى علاقاتنا بالأسلاف.
2- العلاقة بالأسلاف والذات الدينية
كيف حدث الاستقطاب والانفصام الذي جعل علاقتنا بالتراث الإسلامي تقتصر على فقه الإرث والأحوال الشخصية والعبادات؟ ما هي الوقائع والأسباب التاريخية التي جعلت الفقه الإسلامي هو فقه الفروض التعبدية للكيان الشخصي الخاص، وانْسَته أن يكون أيضًا فقه الفروض الحضارية: فروض الجهاد لتأدية أمانة استخلاف الله لنا في وطننا، والاجتهاد لنكون شهداء على الناس، وفروض عمل الصالحات الحضارية، والأمر بالمعروف الحضاري والنهي عن المنكرات الحضارية؟
الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى مجلدات، وما نحاوله هنا هو مجرد الإشارة. إن البداية كانت الفتنة الكبرى سنة 40 هجرية، وتحول الخلافة الراشدة إلى مُلك عضوض، إلى دولة أموية أساس الشرعية السياسية فيها منقطع الصلة بالإسلام.
منذئذ توالت الدولة الإسلامية: عباسية، أموية، أندلسية، طولونية، إخشيدية، فاطمية، أيوبية، مملوكية، صفوية، غزنوية، عثمانية. ومع كل عصر تنفصم عرى ارتباط أحد مقومات الحضارة بالإسلام الحنيف.
ففي الدولة الأموية والعصر العباسي الأول (41 هـ – 214 هـ) اقتصر الانفصام على الجانب السياسي الداخلي، غياب الشورى والمشاركة والمساءلة الشعبية. ثم شهد العصر العباسي الثاني (250 هـ – 490 هـ) وما عاصره من الدولة الطولونية والإخشيدية والفاطمية والأندلسية، انفصام الجوانب الأدبية والفنية عن الإسلام. ثم بدأ عصر الحروب الصليبية والغزوات المغولية التتارية وما عاصرها من الدول الأيوبية والمملوكية البحرية ثم البرجية في مصر، والسلجوقية والغزنوية والصفوية في تركيا وإيران وشرق آسيا (500 هـ – 800 هـ) وفيه اتسع الخرق ليشمل انفصال الجوانب العلمية والفكرية والتعليمية والمهنية عن الإسلام الحنيف. ثم جاء العصر العثماني (857 هـ – 1205 هـ) ليشهد اكتمال الخمود الحضاري بانفصام الجوانب المدنية – التنظيمية والصناعية – التقنية عن الإسلام الحنيف. وهكذا كان المشهد الحضاري، الذي شهده نابليون في غزوة مصر وسجله علماء حملته في كتاب وصف مصر.
وما فعله الغرب بكياننا الحضاري في القرنين الأخيرين (1205هـ – 1412 هـ) ذو شقين:
أول الشقين قطع الصلة التي تصل غصن الكيان الحضاري بالجذور الإسلامية. والثاني حقن هذا الكيان بأمصال غربية تحوله تمامًا إلى ملحق بالحضارة الغربية. لقد قُدم لنا الإشكال على أنه اختيار بين تبعيتَين: إما تبعية مقلِدة ملحقة بالدولة العثمانية المستبدة الجامدة حضاريًا، أو تبعية مقلِدة ملحقة بالدول الغربية الحرة الناهضة حضاريًا.
ونسِيَ مَن روجوا لهذا الاختيار أن نهضة أوروبا لم تقم على نبذ الأصول، على العكس، هي قامت بإعادة الارتباط مع الأصول الإغريقية الرومانية.. والنهضة الأوروبية لم ترفض المسيحية كدين، انما رفضت السلطة الدينية، أي هيمنة الكنيسة على الحياة الحضارية المدنية. وهي تتلمذت على الحضارة الإسلامية ونهلت من كنوزها العلمية والطبية والتقنية.
إن سُنن النهضة الحضارية سُنن إلهية ينهض بها من يتبعها، سواء كانت النهضة هي للحضارة الإسلامية أم الغربية أم الصينية أم اليابانية. وليس من هذه السنن التبعية لحضارة أجنبية والدوران في فلكها والاستمداد من الفتات الذي تلقيه. إن الوسيلة جزء من الغاية، ولهذا فلا يمكن أن تكون غاية بناء حضارة إسلامية مستقلة مبدعة قوية متحققة بوسيلة التبعية والاقتراض والاستهلاك والترديد لحضارة أجنبية، وذلك لسببين:
1- أن الحضارة الغربية أجنبية، أي أن جذورها أجنبية، ولهذا فهمها حسُنت نيتها في العطاء ومهما حسُن اجتهادنا في الأخذ، تظل عاجزة عن تغذية فروعنا الحضارية.
إن غاية ما يمكن هو الحقن والتلقيح، أما التغذية الشاحنة المستمرة فلا يمكن أن تكون إلا من أصول عقيدتنا الإسلامية.
2- أن الحضارة الغربية مختلفة عنا جوهريًا في نظرتها للوجود والكون؛ إذ أنها قائمة على أن الوجود هو الدنيا والموت هو العدم، وبالتالي فغايتنا تعظيم المتاع الدنيوي (قوة المال، جاه السلطة، راحة الرفاهية، لذة الإثارة الحسية…) وهي أظهرت كفاءة وقدرة في سبيل تحقيق هذه الغاية… وقدراتها التقنية التكنولوجية جزء من هذا..
سابعًا: البديل الصحيح وأنساق الانتماء الاجتماعي
إن البديل الصحيح يبدأ من معرفة هوية حضارتنا. إنها حضارة ترى الوجود فصلين: دار عمل وابتلاء وحياة قصيرة، ودار جزاء في حياة أبدية. ولذا فغايتها تعظيم الثواب في الحياة الآخرة. وإلى هذه الغاية يكون جهدها وسعيها، بالعمل الصالح، والجهاد النافع، والعدل، والإحسان، والصبر، والإيمان.
الحضارة بأسرها وسيلة لعبادة الله، الصناعة والتقنية، والقتال والتنمية، والإبداع العلمي والتكنولوجي، هي وسائلنا للاستقامة على صراط العزيز الحميد.
ونحن لا نصل إلى هذه الغاية باستبدال التبعية للغرب المعاصرين بالتبعية للأسلاف الغابرين. إنما نصل بأن نجتهد كما اجتهد أصلح وأتقى أسلافنا، أن نواجه تحديات زماننا كما واجهوا تحديات زمانهم، بالعدل والقسط، والجهاد والبر، بتدبر سنن الله في الكون، وطاعة شرع الله في القرآن.
من حق كل جيل أن يتصل بالقرآن مباشرة، وأن يستلهم السنة النبوية دون وساطة، وأن يُعمل عقله مجتهدًا في ربط الكيان الحضاري في العمران والتقنية والسياسة والاقتصاد بالذات الوطنية، العربية والدينية.. من حق كل جيل أن يكون له ميزانه الخاص في بعثه التراث وفي اختياره الصالح المجدي منه في مواجهة إشكالات واقعه ومتطلبات نهضته.
إن صميم الإيمان بأن الإسلام دين كل البشر في كل العصور وفي كل الأقطار والأقاليم والبيئات يدلنا على الصراط الحضاري المستقيم، إنه صراط المجاهدة الأخلاقية والاجتهاد الثقافي والجهاد الحضاري، يقوم به كل جيل في كل جماعة في كل إقليم في كل عصر.
وهذه المنظومة المكونة من البشر (الجيل) والمكان (الإقليم) والزمان (العصر) تسمى البنية الاجتماعية، وهي دائمًا تتكون من أنساق للانتماء تتسع وتكبر بادئة من أصغر الدوائر: الفرد. ودوائرها تضم الأسرة فالعائلة فالعشيرة فالقبيلة أو القرية أو الحي، وتتسع لتشمل المدينة فالمحافظة (الإقليم) فالقطر، وتمتد للقوم فالشعب فالإنسانية كلها. فالإنجليزي مثلًا إقليمه ويلز، وقُطره انجلترا، وقومه الأنجلو ساكسون، وأمته الأوروبيون والأمريكان من كاليفورنيا حتى سيبيريا. والمصري مثلًا إقليمه شمال الصعيد (محافظة الفيوم مثلًا)، وقطره مصر، وقومه العرب من العراق حتى المغرب، وأمته المسلمون من إندونيسيا حتى نيجيريا.
والمسألة ليست هي تعدد دوائر الانتماء. إنما هي العلاقة البناءة المثرية بينها. فإن وضعين يمكن أن يؤثرا بالسلب على حيوية البنية الاجتماعية: أولهما أن تتصادم هذه الانتماءات فتتفرق القوى في هذه النزاعات، وأمثلة ذلك تصادم الأكراد والعرب، أو السنة والشيعة، أو القوميين والإسلاميين، أو الوطنيين ضد القوميين. وثانيهما أن تتفاصل هذه الانتماءات وتنعزل عن بعضها البعض، وتتقطع بينها الروابط، فيصبح مثلًا انتماء الفرد لأسرته النووية فاصلًا له عن الانتماء لعائلته الممتدة، مثلما يحدث في المدن العربية الضخمة، أو يكون انتماء الفرد لعائلته الممتدة فاصلًا له عن الانتماء لمدينته….
والقوة الموحدة الرابطة لهذه الانتماءات هي قوة ترتيبها في سلم قيمي واحد تؤدي فيه كل دائرة للتي تليها.. وللغرب نمطان في هذا الترتيب:
النمط الليبرالي الرأسمالي: الأضيق والأخص هو الأعلى المهيمن. فالنفس أولًا ثم الأسرة، ثم العائلة، ثم القوم، ثم الأمة، أي أن أسرتي – مثلًا – أولى بي من عائلتي، وكلاهما أولى بي من قومي.. وهكذا.
النمط الشمولي الاشتراكي: الأوسع والأشمل هو الأعلى المهيمن، فالأمة أولًا ثم القوم، ثم الوطن، ثم العائلة، ثم الأسرة. أي أن وطني – مثلا – أولى بي من عائلتي، وكلاهما أولى بي من أسرتي..
وواضح أننا في تاريخنا الحديث تراوحت أربطتنا بين النمطين.. ففي عصر عبد الناصر مثلا كانت الأمة العربية أولا، ثم مصر. وفي عصر السادات انعكس السلم، لتصبح مصر أولا، ثم الأمة العربية..
والسؤال الآن هو ما هو النمط الإسلامي؟
واجتهادنا أن الإسلام حذر من اتباع كل من النمطين؛ لأن في اتباعه وحده طغيانًا، طغيان الخصوصية الفردية في الأول، وطغيان الشمولية الجماعية في الثاني، لأن الحق ليس بالضرورة دائمًا مع أحدهما. ففي مجال التحذير من النمط الخصوصي الفردي.. ينهانا الإسلام عن اتباع أهوائنا الفردية {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (طه: 16)، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ}) الجاثية: 23)، أو عن جعل أقاربنا أولى بنا من الانتماء إلى الله {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: 24). إنما الأعلى والمهيمن هو الله وحده. كل الأنساق مهما ضاقت واقتربت… مخلوقات خاضعة.. تهتدي فقط إن أطاعت الله.
وفي مجال التحذير من النمط الشمولي الجماعي، يحدثنا القرآن الكريم عن أقوام بكاملهم ضلوا.. مثل قوم عاد، وقوم لوط، وقوم نوح، وقوم فرعون.. والحق كان في جانب أفراد، لوط، نوح، ومؤمن آل فرعون. ويمتلئ القرآن بالتحذيرات من اتباع الآباء إن ضلوا. والرسول بقتاله قبيلته قريشًا الكافرة أعطانا نموذج الإسلام.. وهو أن الأعلى المهيمن هو الله وحده..
وكل هذه الأنساق ودوائر الانتماء متساوية في خضوعها للحق، أي لا هيمنة ولا أولوية للوطن مثلا على العائلة بحكم السعة والشمول، ولا هيمنة ولا أولوية للأسرة مثلا على الأمة بحكم القرب والخصوصية، إنما الهيمنة لله وحده، رب الأسرة ورب الأمة، رب النفس ورب العشيرة. وتتحقق الصلة بين هذه الأنساق والدوائر بولائها لله وطاعتها له وسعيها لرضاه… إنها تتواصل عبر تمسكها بعروة الله الوثقى واعتصامها بحبل الله وحده. حينئذ يجعلها الله بنعمته إخوانًا في الإسلام، تتعاون على البر التقوى وتتواصى بالحق والصبر.
ثامنًا: العلاقة بين البيئة الثقافية والتنمية الصناعية
لا تؤثر البيئة الثقافية في التنمية الصناعية مباشرة، ولكن عبر آليات المؤسسات السياسية وأنساق الانتماء الاجتماعي والهياكل الاقتصادية الفاعلة. ولكي نكتشف مواطن الخلل والنقص دعنا أولًا نضع تصورًا للعلاقة الصحيحة والتي هي في رأينا لو اكتملت لأنتجت تكنولوجيا ملائمة تتوافر فيها الشروط الخمسة التالية:
- مشبعة للحاجات الاقتصادية الحقيقية، محققة للغايات الحضارية.
- مجددة محَّسِنة للكيان الاجتماعي، ومستفيدة من إمكاناته، وموظفة لفعالياته.
- مستقلة في تدبيرها للموارد، ومعتمدة على خامات محلية، وتقنيات ذاتية.
- موصولة بالأصول الحضارية وخبرات التراث التقني.
- محكومة في اختياراتها وتوجهاتها بقيم الإسلام العليا: القسط والبر والاستقامة، والشورى والتراحم، والعدل والإحسان، والصبر والتوكل.
مواطن الخلل في البيئة الثقافية
(1) ضعف العقيدة الدينية: إيثار الحياة الدنيا – الجهل بآيات الله في القرآن الكريم وفي الكون أو الإعراض عن بعضها – الشرك (خشية المستبدين أو الطمع فيما عند المستعمرين) – القعود عن الجهاد الحضاري – التخاذل عن القيام بالشهود الحضاري.
(2) انفصام الذاكرة الجماعية عن موروثها الحضاري وخبراتها التقنية وتاريخها الجهادي وعِبر ماضيها ودروسه.
(3) الاغتراب عن الذات وإحلال ذات الأغيار بدلها. كأن تقلق الأمة على ما يقلق مستعمريها، أو يتحيز قوم ضد من يعادي غاصب أرضهم.
(4) العمى عن كنوز الوطن، وموارده الطبيعية وثروته البشرية والجهل بخصوصية تكوينه النفسي وتحيزاته الحضارية.
(5) تبَني قيم متنافرة مع ميول الشخصية الحضارية، مثلا: تبني قيمة الموضوعية التشتتية الباردة في شعب يتميز بالوجدانية التشخيصية الدافئة.
(6) غياب قيمة الإحسان في أداء الأمانات، في القيام بالأعمال. وذلك استتبع ضمور الاهتمام بالدأب على التدريب المهاري والحسي، وتغيب قيم تمجد التجريب والمحاولة والمبادرة والمثابرة على المحاولة.
(7) غياب قيمة تعلي من شأن الهمة الحضارية، وسعة وشمول الأحلام المستقبلية، وتشجع التخيل الطَموح المؤمن.
مواطن الخلل في التنمية الصناعية
(1) الجمود التقني: ويعنى خمود القوى الإبداعية، فيميل كل جيل إلى تكرار أفكار وممارسات وتقنيات الجيل الذي سبقه. مثلًا جمود تقنية الحرث (وآلاتها فأس ومحراث) والري (وآلاتها ساقية وشادوف) عبر عصور ممتدة. تقنية أواني الفخار، أقفاص الجريد..
(2) التغيير بالاستيراد: استيراد نظم الإنتاج، آلات الورش، قوالب الصب؛ تقنيات الإنتاج، التصميمات والرسومات، برامج التشغيل وقواعد الصيانة… إلخ. والأمثلة كثيرة في صناعة السيارات والتليفزيونات، وغيرها حيث يكون استيراد نظام الإنتاج ومعداته هو الطريقة الوحيدة للتغيير.
كل من الجمود التقني والتغيير بالاستيراد وجهان لعملة واحدة، هي غياب التجدد الذاتي، غياب القوة الذاتية الدافعة للتحسين لتطوير الموجود من داخله.
(3) غياب رؤية لخطة تنمية ذاتية شاملة.
(4) استخدام تقنيات ملوِثة للبيئة مفرطة في الموارد، أو نظم إنتاج تمزق روابط الأنساق الاجتماعية.
(5) غيبة المساءلة والتقييم والمراجعة والمتابعة.
تاسعًا: نحو نموذج إسلامي للنهضة الحضارية
إن الذي نبتغيه هو مشروع للتنمية الصناعية في وطننا العربي يكون مكونًا عضويًا من تنمية ذاتية شاملة كافة جوانب الارتقاء الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وهذه التنمية ذاتية، بمعنى أنها نتيجة لسعى جماعي لكافة قوى الأمة لتحقيق ذاتها الحضارية.
أ- الشروط والخصوم
المشروع بهذا التعريف له ثلاثة شروط، أعمدة تؤسسه، وثلاثة خصوم، يمكن أن تهدمه.
الشرط الأول هو الاستقلال الملهم للتجدد من الذات الحضارية تجاه غايات تختارها وترتضيها ووفق منطقها وقيمها وتحيزاتها وخصوصية تكوينها البشرى. الزخم هنا مصدره الذات وكنوز خبراتها التاريخية وثرواتها الطبيعية ورسوخ ثقتها في أن اعتمادها على ما وهبها الله كافٍ ليغنيها عن التواكل على الآخرين.
وخصم هذا الشرط إذن هو الشك في الذات وفي صحة توجهاتها وقوة وثراء تكوينها. هذا الشك يجعلها قابلة للخضوع للهيمنة الحضارية الغربية.
والشرط الثاني هو حرية المواطنين وحقهم في الشورى وواجبهم في المشاركة. في هذا المناخ تشتعل الرغبة في التحسين التقني والكشف العلمي والابتكار التكنولوجي.
وخصم هذا الشرط هو الاستبداد الفكري، والطغيان الهيكلي الحكومي وقابلية أنساقنا الاجتماعية للانضغاط تحت وطأته فتقعد عن واجبها في المشاركة، وساعتها تخمد قوى التجدد والإبداع والاجتهاد الذي أمرنا الله به.
والشرط الثالث هو الاعتصام جميعًا، نحن الأفراد والأسر والعائلات والشعوب العربية، بحبل الله المتين.
وعندئذ يجعلنا الله بنعمته إخوانًا في الإسلام نتآزر اقتصاديًا على البر، ونتعاون حضاريًا على التقوى، ونتضامن سياسيًا على العدل، ونتواصى ثقافيًا بالصبر وبالحق. اعتماد جماعي على النفس العربية الإسلامية التي تجمعنا، انفتاح نفوسنا الشخصية وتحاورها في صدق يصفي نزاعاتنا ويركب تناقضاتنا في كل يوحده إسلامنا جميعًا لله الواحد.
وخصم هذا الشرط هو النعرات القبلية، والقروح المذهبية، والأطماع الحدودية، والتعصبات الطائفية، والتفاخرات الشعوبية. هو تناسى ما جمعنا وما يجمعنا الآن، هو التحلل من مواثيق عهودنا في الجوار والأخوة والتضامن، هو التنكر للفضل بيننا، هو أن نتبع أهوائنا، ونقطع روابط أرحامنا.
ب- الجهاد الحضاري
هذه المهمة التاريخية هي أمانة في عنق جيلنا يحاسبنا الله إن قعدنا عنها أو أخرناها. هذه المهمة تحتاج منا إلى مجاهدة وجهاد واجتهاد.
فأما المجاهدة فهي لما في قلوبنا من انبهار بالغرب وإعجاب بحضارته، مجاهدة لما في عقولنا من توهم لعالمية طريق الغرب وإنسانيته، وبالتالي لصلاحية أسلوبه وغاياته لنا، مجاهدة لما في إرادتنا من ميل إلى الانقياد لتوجيهات الغرب والسعي إلى إرضائه. نحتاج أيضًا إلى مجاهدة لما في نفوسنا من اعتياد الاستضعاف لمن طغى وتجبر منا، مجاهدة لتقاليدنا في ممالأة المجرمين الأقوياء ومداهنة الفاسقين الأغنياء، نحتاج إلى أن نجاهد ميولنا للتنازع والتحاسد والتباغض.
وأما الاجتهاد فهو من أجل إيصال الواقع الأدنى الحاضر للعرب بالمثال الأعلى للحضارة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين. اجتهاد يتطلب فقهًا متجددًا بلغة ورموز وتحديات عصرنا، نحتاج إلى اجتهاد يلهم الحاضر الواقعي الإنساني النسبي بالديني الإلهي المطلق.
ولا يفعل هذا إلا من عرفهما معًا واجبهما معًا ورغب حقًا في وصلهما. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. هو عرف مجتمعه في مكة وفي المدينة، بتكويناتهما القبلية وتقاليدهما الاجتماعية وأسسهما الاقتصادية، ثم غير نفوس الناس وجدد مقومات المجتمع بالدين والهدى والقيم الإسلامية. والرسول فعل هذا برحمة من الله، فكان بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا. لم يحطم كل الروابط ولم يحقر كل الأسس. إنما حطم الأوهام والأصنام فقط. وأبقى على كل خير ومعروف ووجهه إلى الفلاح الفردي والاجتماعي.
وكل جيل من أجيال المسلمين التي تلت وفاة النبي واجه نفس التحدي، وتحدي إصلاح الدنيا بالدين، وبناء الحضارة بالإسلام. نجحت أجيال وأخفقت أخرى. وانعكس هذا في فقه كل جيل للقرآن والسنة وتفسيره لهما، وتركيزه على قضاياهما، نجحت الأجيال التي رأت في القرآن والسنة جانبيهما: الحضاري المشرِع للذات الجماعية، والشخصي المشرِع للذات الفردية. وإن استشارتنا لفقه تلك الأجيال يمكن أن يفيدنا.
لكن لنعلم أن الابتلاء هو لنا نحن. والمسئولية في بناء الحضارة الإسلامية هنا والآن مسئوليتنا نحن؛ ولذا يجب أن نجتهد نحن في تفسير القرآن والسنة تفسيرًا يعبر عن رؤانا الحاضرة لواقعنا الحاضر بتحدياته الحاضرة وممكناته الحاضرة. إن المعاصرة هي هذا الحضور. فلا هي الانتماء إلى الأغراب المعاصرين الذين يشاركوننا الآن: العصر، ولكن يختلفون معنا في الهنا: المكان. ولا تكون المعاصرة بالانتماء إلى الأقارب الأقدمين الذي يشاركوننا الهنا: المكان، لكن لم ولن يشاركونا في تحديات العصر وعلمه وممكناته.
نحن -مسلمي هذا الزمان- أمامنا البديل الذي لم يخفق قط. لن تتوطن قدراتنا التكنولوجية إلا بأن تؤصل بقيمنا الإسلامية. أن يستقر في شغاف قلوبنا الإيمان الراسخ بأن الصراط الصحيح الوحيد للنهضة والقوة والتمدن والشهود الحضاري هو صراط العزيز الحميد.
ولهذا فلا نسمى الغاية التي صراطها هو صراط الرحمن بأسماء الغرب: (الحداثة، التقدم، المعاصرة… إلخ)، إنما نسميها كما سماها الله في كتابه. حضارة الصدق والحق، حضارة العلم والحكمة، حضارة البر والتقوى، والعدل والإحسان، حضارة أمة المتقين.
نحتاج إلى أن نجتهد في أسلمة مناهجنا العلمية، أساليبنا الأدبية، نظمنا البنكية، أنساقنا الإدارية، وسائلنا الإعلامية.
نحتاج إلى أن نؤصل تعبيرات مثل الإبداع، الانتماء، التقدم، العمل، الإنتاج، فنربط، مثلًا، بين الإبداع والتفكر في خلق السماوات والأرض، بين الانتماء وإيتاء ذوي القربى، بين التقدم والسير على الصرط المستقيم، بين العمل المنتج والعمل الصالح، بين المسئولية والحساب.
إن الاستفادة النافعة من الغرب تكون بأن نرى كيف طبق سنن النهوض واتصل بجذوره الحضارية، فنتصل نحن أيضًا بجذورنا. والاستفادة النافعة من السلف الصالح ليست في اقتباس مضمون اجتهادهم، انما هي في محاكاة منهج اجتهادهم، منهج تمسكهم بالقرآن والسنة، منهج تدبرهم لآيات الله. أن نجتهد كما اجتهدوا في تأصيل استجابتنا نحن لأمر الله لنا، أن نكون خلفاء صالحين في أراضينا وأنهارنا، وقرانا وواحاتنا.
ج – الغاية العليا
نحن لا نريد أن نبني إمبراطورية عربية تناطح إمبراطوريات الغرب وتشابهها، لها نفس مؤسساتها الربوية المستغلة للشعوب الجائعة، أو نفس مؤسساتها العسكرية المتسلطة على المستضعفين في الأرض، أو نفس صناعاتها المدمرة للبيئة. لا ليس ما نريده هو استعادة خلافة إسلامية جوهرها مُلك عضوض مستبد مخلد إلى الأرض، نحن لا نريد الإسلام كواجهة ولافتة لحضارة محجوبة عن الله.
إن الإسلام هو الغاية، والحضارة هي الوسيلة، نحن نريد الحضارة من أجل أن نكون من المسلمين المفلحين. غايتنا هي عبادة الله، وما العلم والتكنولوجيا إلا وسائل للعبادة، وسائل للطاعة. إن معايير استخدامنا الوسائل الحضارية وتوجيهها تكون دومًا خاضعة لهيمنة غايتنا الوجودية العليا: أن ننال رضوان الله.
لن تكون حضارتنا إسلامية حقًا إلا إذا كنا نعمل الصالحات الحضارية رغبة في رضوان الله. فلا نحسن صناعاتنا مثلا لنزداد علوًا في الأرض، إنما لنكون خير أمة أخرجت للناس. نكون أهل العدل والقسط، وأمة البر والتقوى. إن دورنا، بل أمانة استخلافنا هو أن نكون شهداء على الناس، نقود البشرية بالقدوة الإيمانية، بالوسطية الإسلامية، بمكارم الأخلاق، بالخضوع للحق، والاستقامة على الصراط، نقودها في سعيها لثواب الآخرة.
علينا أن نعتبر بتجاربنا في النهضة والتي خلت من هذه الغاية الإسلامية الحاكمة، تجارب محمد على والخديوي إسماعيل، عبد الناصر وصدام حسين. هذه تجارب ركزت على سنن التقدم المادية، على التحديث تمثلا بمَن أتقنوا هذه السنن وهم الغربيون. وشهدت هذه التجارب ليس فقط تمثلا بالغرب في الوسائل (نظم التعليم ومناهجه، نظم الإنتاج وتقنياته، وآلاته) وإنما أيضًا في الغايات (الرفاهية، الراحة، الوفرة، اللذة، العلو..) لقد حققت تلك التجارب استقلالًا سياسيًا وتحسنًا اقتصاديًا، ولكنها لم تستمر وانكفأت بسرعة.
السبب أنها كانت تابعة قيميًا للغرب. فالذي يميز أي حضارة هو معيارهم الحاكم، فرقانها الذي تميز به شعوبها بين الحق والباطل وبين الرشد والغي، ويا ويل الشعوب التي تستمد هذا الفرقان من كبرائها أو من أسلافها أو من غزاتها أو من أنفسها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* البحث منشور سابقًا في مجلة المسلم المعاصر:
ممدوح عبد الحميد فهمي (1998). البيئة الثقافية للصناعة والتقنية. مجلة المسلم المعاصر. 86. ص ص. 69- 100.
** أستاذ بكلية الهندسة – جامعة القاهرة.