التاريخية هل هي مدخل للاجتهاد في النص أم للخروج على النص…
نموذج نصر حامد أبو زيد وقضايا المرأة *
أ. د. أماني صالح**
تمثل قضية الاجتهاد في الشريعة الإسلامية موضوعا مصيريا في حياة المرأة في المجتمعات الإسلامية التي يمثل الإسلام فيها مكونا أساسيا من مكونات الثقافة وقاعدة للقبول والشرعية القانونية والاجتماعية. وقد برزت الحاجة للاجتهاد من وجود فجوة شاسعة بين واقع العصر بمعطياته المادية والاجتماعية والمعرفية وبين الحلول التي وضعها الفقهاء المجتهدون منذ مئات السنين ممثلة في أحكام فقهية استجابت لمشكلات وواقع عصرهم وعكست معارف ذلك العصر وثقافته.
تتعلق قضية الاجتهاد بالجوانب الاحتمالية الظنية من النصوص التي تحتاج إلى جهد بشري في الوصول إلى الحكم الشرعي وهي جوانب متسعة تبدأ من تأويل النص ، إلى تحديد دلالته ما بين العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والوجوب أو الندب أو الإباحة في الأمر، إلى استنباط الحكم فيما لا نص فيه بوسائل الاجتهاد المختلفة.. إن قضية الاجتهاد هي قضية منهجية بالدرجة الأولى ولكنها تستند إلى اقتراب ورؤية للحياة والعالم ، رؤية تتحرز من التقليد وتنظر للعالم كواقع متغير، وتؤمن بدور مهم للعقل في إعمال الدين في الواقع المعاش، وتميز بشكل واضح بين الثابت والمتغير وبين المطلق والنسبي.. والأمر الذي لا شك فيه أنه منذ أن تعرضت المنطقة العربية والإسلامية لرياح التغيير في كافة جوانب حياتها بما في ذلك وضعية المرأة ، ورغم بزوغ دعوة التجديد منذ اكثر من قرن إلا أن عملية إعادة فتح باب الاجتهاد تواجه تعثراً كبيراً ؛ فهي من جانب لم تعدُ بعض الجهود الفردية لفقهاء مجددين من أمثال الشيخ محمد عبده وخلفائه فيما بعد مثل عبد الحميد شلتوت، وعبد الوهاب خلاف، ومحمد الغزالي دون ان تنجح في تشكيل تيار عام في المجتمع يوازي حجم وخطورة المستحدثات العصرية التي تعصف بالمجتمع كله . بينما ظل التيار العام للثقافة الدينية تيار تقليدي لا يتعامل مع المستحدثات إلا بمنطق الاضطرار ورد الفعل البرجماتي ولا يقبل سوى تقليد وإعادة انتاج ما خطه السلف . في ظل هذه الأزمة وهذا التقاعس شهد المجتمع محاولات لملء الفجوة التي خلفها غياب منظورات دينامية ومبادرة للاجتهاد في النص وفقه الواقع ؛ بعض تلك الدعوات ينادي بمرجعية بديلة للشريعة وهي مرجعية ملزمة بحكم الظروف والواقع الدولي تتمثل في الاتفاقات والمواثيق الدولية بشأن المرأة ، وبعضها الآخر يدعو إلى اقترابات جديدة من النص الديني ومنهجيات بديلة للتعامل معه ومنها ما يمكن أن نسميه بالاقتراب التاريخي.
التاريخية والنص الديني:
في بحثه عن مدلول التاريخية وتطوره يقول المفكر المغربي محمد أركون أن مصطلح التاريخية يتعلق بصياغة علمية مستخدمة خصوصاً من قبل الفلاسفة الوجوديين للتحدث عن الامتياز الخاص الذي يمتلكه الإنسان في إنتاج سلسلة من الأحداث والمؤسسات والأشياء الثقافية التي تشكل بمجموعها مصير البشرية ” ، ويعرفها آلان تورين بصفتها “المقدرة التي يتمتع بها كل مجتمع في إنتاج حقله الاجتماعي والثقافي الخاص به ووسطه التاريخي الخاص به أيضا.[1] في هذا الإطار فإن الاقتراب التاريخي في التعامل مع النص إنما يعني أن النص إنما هو نتاج وتعبير عن المجتمع والثقافة التي نشأ في ظلها. ويترتب على هذا بالضرورة أن نطاق صلاحيته وملائمته إنما يكون محدودا بالإطار التاريخي والاجتماعي-الثقافي لهذا المجتمع بينما تكون للمجتمعات التاريخية الأخرى تعبيراتها التاريخية المتباينة.
التاريخية بهذا المعنى الذي لا يستثني أي منتج بشري تحمل إشكالية كبرى في التعامل مع النصوص الإسلامية تتعلق بالتمييز بين النص المنزل الذي تؤمن الجماعة المسلمة بشكل مطلق بمصدره الإلهي وثباته وإطلاقه وعدم المساس به، ويلحق بذلك – وإن بدرجة أقل ترجع لظنية السند- السنة النبوية ، بينما يقبل المنظور الإسلامي-نظريا على الأقل – نسبية وتغير ما دون ذلك من نصوص مثل التفسيرات والفقه وسائر علوم القرآن.. ولا مناص من القول هنا أن البحث عن أي منطقة التقاء بين النزعة التاريخية والإسلام إنما يتطلب إما تقييد مفهوم التاريخية ذاته أو الافتئات على المنظور الإسلامي للنص، أو الوصول إلى خيار فكري توفيقي ثالث يتبنى مفهوم انتقائي لكل من فلسفة التاريخية والنص في المنظور الإسلامي (مثلا تطبيق التاريخية على نصوص الفقه والتفسير دون القرآن والسنة).
لم تحمل النزعة التاريخية إشكالا نظريا مع الإسلام فحسب بل حملت كذلك إشكالا تاريخيا؛ فبرغم جدة المصطلح المرتبط بالفكر الوجودي إلا أن المفهوم الذي يعبر عنه ( أولوية البعد المادي والاجتماعي وتبعية المعرفي له) هو مفهوم قديم يستمد جذوره الأصيلة من مصادر فكرية أكثر قدماً مثل الماركسية التي كانت أول من أصًل لهذا الاقتراب نظرياً وفلسفياً في الفكر الإنساني المعاصر..كما يستمد كثيرا من روحه من التراث المادي الوضعي في الفكر الغربي الحديث. وبالإضافة لما سبق فقد واجه الإسلام مصدراً خاصا به لدعوى التاريخية هو الاستشراق الذي يحمل تاريخا حافلا من التوتر والشكوك المتبادلة الى حد العداء بين الطرفين. وقد دخل التيار الإسلامي منذ بدء ما يسمى بعصر النهضة في جدل عنيف مع التيارات الثلاثة السابقة التي شرعت في وجهه سلاح تاريخية الدعوة الإسلامية ونصها المقدس (القرآن).. مع مجيء الربع الأخير من القرن العشرين تجدد الصراع بين الإسلاميين والتيار العلماني بروافده الفكرية لأسباب عديدة منها: هزيمة المشروعات العلمانية التحديثية في المنطقة مع هزيمة التجربة الناصرية قوميا واقتصادياً، ومنها النمو القاعدي والازدهار الفكري للتيار الإسلامي خاصة في رافده السلفي المتشدد بوصفه البديل الطبيعي للمشروع القومي العلماني المنهزم.
في خضم هذا الجدل برزت ظاهرتان: الأولى نمو تيارات وسيطة تدعو إلى الاجتهاد والتجديد في المنظومة الإسلامية لمواجهة التحديات المعرفية والداخلية والخارجية التي تهدد الإسلام، لكن هذا التيار ووجه بالرفض من القطبين السابقين مما كرس طابع الاستقطاب في الساحة الفكرية والثقافية العربية. الظاهرة الثانية هي اتجاه رافد هام من التيار الفكري العلماني بتنويعاته المختلفة لدراسة وتفسير وتحليل ظاهرة الإحياء الإسلامي وتفكيك خطابها فأنتجوا زخماً ثرياً من التحليلات والكتابات النقدية والتفكيكية للخطاب الإسلامي المعاصر وللتراث الإسلامي غذى بدوره الجدل والصراع الفكري القائم.. لقد حمل هذا التيار في صراعه مع الإسلاميين شعار التاريخية منظوراً ومقترباً له من الإسلام، بيد انه انقسم إلى رافدين هامين : المدرسة المغربية وهي مدرسة ذات توجه فلسفي وأكاديمي خاضت مهمتها النقدية ولا تزال مستندة إلى تراث ثري من المفاهيم والأدوات النقدية والتفكيكية لتحليل الخطاب الإسلامي أمدتها بها المدرسة الفرنسية على وجه الخصوص(من رموزها الجابري، العروي، أركون، بنسلم حميش ، المرنيسي )، المدرسة الثانية هي المدرسة المصرية وهي مدرسة أيديولوجية ذات أصول يسارية وماركسية في الغالب وقد اتسم خطابها بنبرة صراعية أيديولوجية عالية بالنظر إلى احتدام الجدل الأيديولوجي والسياسي في الحياة السياسية والفكرية المصرية خلال الربع الخير من القرن العشرين ( من رموزها حسن حنفي ، عبد الكريم خليل ، سيد القمني ) ويعد نصر حامد أبو زيد من أهم رموزها بل هو يمثل بالفعل أيقونة هذا التيار في مصر.
لقد احتلت قضية المرأة مكانة محورية في هذا الجدل؛ فقد ترافق صعود ظاهرة الإحياء الإسلامي مع تحول نوعي لقضية المرأة بتبنيها كموضوع أساسي على أجندة المؤسسات الدولية خاصة الأمم المتحدة، وتبني الأمم المتحدة والدول الغربية اقترابا محددا من مشكلات المرأة مثل من وجهة نظرهم الحل الأمثل لمنظومة الاستضعاف والقهر التاريخي الذي تعاني منها ، كما سعت تلك المؤسسات إلى تعميم هذه المنظومة من خلال سلسلة من المؤتمرات والاتفاقات الدولية أهمها اتفاقية مناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة (أو السيداو). في المقابل احتلت قضية المرأة في الصراع الأيديولوجي العلماني- الإسلامي (خاصة لدى التيار الإسلامي الأصولي الأبرز) مكانة هامة ليس لكونها محور اهتمام أصيل في ذاتها وإنما كأداة للصراع وإثبات الحضور الاجتماعي في مواجهة الآخرين. في هذا السياق الذي التحم فيه الجدل بين العلمانيين والإسلاميين من جانب والجدل حول المرأة من جانب آخر برز المشروع الفكري لنصر حامد أبو زيد الذي يمثل أحد أهم رموز التيار العلماني في هذا الصراع وأحد أهم من تبنوا الاقتراب التاريخي في التعامل مع النصوص الإسلامية ، وهو من المعدودين الذين عنوا بالخروج من إطار السجال النظري إلى التطبيق وكان موضوع المرأة أهم تطبيقات اقترابه التاريخي من النص.
التاريخية ومشروع نصر حامد أبو زيد الفكري.
التاريخية هي عنوان وجوهر مشروع الدكتور نصر حامد أبو زيد الفكري. وهو يتميز عن سواه من الطروحات النقدية العلمانية للخطاب والفكر الإسلامي بسمتين هامتين ومتفردتين: الأولى إنه لا يتبنى النهج اليساري التقليدي في العمل على تقديم تفسير مادي لظاهرة كلية هي الدين الإسلامي كحركة تاريخية اجتماعية محاولا إثبات تبعيتها لعلاقات القوى الاجتماعية و النظام الاقتصادي ، وإنما يتجه إلى جزئيات ومناطق معينة في البنية الكلية للإسلام تحتل موقعا مفصلياً وتشكل أحيانا أكثر مكونات الإسلام حساسية وقداسة وعلى رأسها النص القرآني . وفي هذا السياق يعرف أبو زيد اقترابه هذا: “تاريخية القرآن ، وهو مفهوم لا يعني دائماً الزمانية بل يعني أننا ملزمون باستعادة السياق التاريخي لنزول القرآن من أجل أن نتفهم مستويات المعنى وآفاق الدلالة فنستطيع التمييز في مجال الأحكام والتشريعات بين مستويات لم ينتبه إليها أسلافنا”.[2] يتجه عمل أبو زيد إلى اختراق النص الديني بتاريخيته التي يصبح إثباتها مدخلا حاسماً لإثبات تاريخية الإسلام على نحو كامل.
السمة الثانية أن الدكتور أبو زيد يصنف عمله كنوع من الاجتهاد الإسلامي. أي انه لا يقع خارج الإسلام وضده بل هو نوع من التطوير والتجديد في بنية العلوم الإسلامية ( وليس في الخطاب الديني الإسلامي).
يقدم د. أبو زيد مشروعه تحت عنوان “إنتاج وعي تاريخي علمي بالنصوص الدينية “. وهو يرى أن هذا المشروع يندرج في سياق التيار التنويري النهضوي العلماني الذي بدأ في المنطقة العربية ومصر منذ نحو قرن، غير أنه يتجاوز اخفاقات التنويريين في التعامل مع الدين الإسلامي كأحد المحددات الثقافية في سياق النهضة ذلك الإخفاق الذي يرجعه للطبيعة الأيديولوجية لخطاب التنويريين المر الذي جعلهم يلجأون إلى الاستخدام النفعي الذرائعي للدين وللتراث.
ورغم ما سبق ينفي ابو زيد بشدة أن يكون مشروعه الذي يركز على بنية الدين الإسلامي بمكوناتها النصية المختلفة على وجه الخصوص –وفي قلبها القرآن- ضمن الخطاب الديني لأنه في اهتمامه بالنصوص الدينية – كما يقول- يتجاوز أطروحات الخطاب الديني ويعتمد منهجيات جديدة في التعامل مع النص الديني تتمثل في إنجازات العلوم اللغوية المعاصرة خاصة في مجال دراسة النصوص. [3]
يعتمد نصر أبو زيد في مشروعه على منهج بعينه تحيط به جملة أو -ترسانة- من التصورات والمفاهيم والمرجعيات التي يؤدي تطبيقها إلى نقل النص القرآني من الإطلاق إلى النسبية والتاريخية.. إن محور عمل أبو زيد ومنطلقه هو تعظيم البعد الإنساني النسبي في القرآن وتحجيم وتقليص البعد أو الجانب الإلهي فيه حتى يمكن في النهاية الحديث عن نسبية وتاريخية النصوص والأحكام.: ويمكن تلخيص المنهجية التي أنجز بها أبو زيد مهمته في العناصر التالية :
- يبدأ أبو زيد اقترابه من النص القرآني بقلبه على رأسه -إن جاز التعبير- فعلى خلاف التحليل والفهم السائد (في إطار ما يسميه الخطاب الديني) لا يبدأ أبو زيد من قائل النصوص (الله تعالى) كنقطة الانطلاق في فهم النص أو التعامل معه، وإنما نقطة الانطلاق ومحور الاهتمام في فهم النص وتحليله هو المتلقي أو الإنسان بكل ما يحيط به من واقع اجتماعي وتاريخي.[4] ويصم أبو زيد النهج الأول بأنه نهج ” لا تاريخي” كما أنه يحوي انحيازات ضمنية ومسكوت عنها هي تصورات عقائدية ومذهبية عن الطبيعة الإلهية والإنسانية والعلاقة بينهما ثم محاولة استنطاق النصوص الدينية بما يعبر عن هذا التصور. وهو تصور إنساني بتاريخي بطبعه ” يحاول الفكر الديني دائما أن يلبسه لباسا ميتافيزيقيا ليضفي عليه طابع الأبدية والسرمدية في آن واحد”[5].
ورغم الوجاهة الظاهرة لمنطق أبو زيد فإن هذا النقد بدوره ينطبق على تحليله من منظور عكسي ذلك ان تغييب قائل النص بما له من صفة خاصة (إلوهيته) والانحياز أو الاقتصار على المتلقي الإنساني بوصفه على حد قوله “البدء والمعاد” إنما يعني من طرف آخر تكريس وتأكيد البعد الإنساني والتاريخي للنص وتغييب البعد الأصلي فيه المرتبط بالتنزيل او الوحي.
وبرغم موقفه النقدي من التراث والنزعة العلمية التي يعتز بوصف منهجه بها والتي تنأى عن منظورات (الجوهر) والخوض في الغيبيات إلا ان أبو زيد لا يتوانى عن الاستعانة بالتراث ما أمكن في دعم موقفه وإثبات شرعيته. وهو يرى أن اقترابه في التعامل مع النص إنما يستند إلى نظرة معينة لـ”طبيعة القرآن” تتبنى مقولة المعتزلة في النظر إلى القرآن كمخلوق وحادث وليس قديما أو أزلي. ورغم أن أبو زيد يعيد استخدام المفهوم إلا انه بدوره يغير من محتواه كثيرا ليلائم أغراض استخدامه الجديد فالمفهوم الأصلي لم يعن سوى وصف القرآن على نحو يؤكد الوحدانية دون أن يمتد إلى دلالات الأحكام. إلا انه في منظور أبو زيد يكتسب معان عملية جديدة فحواها أن إيجاد القرآن وإنزاله ارتبط بحاجة البشر وتحقيقاً لمصالحهم.[6]
- إن مناط ووسيلة تأثير المتلقي” الإنساني على النص هو اللغة، وهي الركيزة الأساسية التي يعتمد عليها أبو زيد في تأكيد تاريخية وإنسانية النص. ويتدرج أبو زيد في شرح هذه العلاقة بين النص والواقع عبر اللغة . فيبدأ في أعماله الأولى بالتركيز على المسالك المطروقة لتلك العلاقة والتي ناقشها علماء السلف مثل المكي والمدني وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ مع إعطائها دلالات جديدة ،[7] لكنه لم يلبث في أعمال لاحقة أن يغادر تلك الحدود والمنهجيات المطروقة في علوم القرآن إلى الاندماج بدرجة أوثق مع مقولات ومنهجيات علوم النص والخطاب الحديثة ودفعها بقوة للتعامل المباشر والكثيف مع النص.
يرى أبو زيد ان البعد التاريخي للنصوص” لا ينصرف فحسب إلى ما تشير إليه كتابات السلف من تفاعل للنص مع الواقع عبر نقاط تماس مثل أسباب النزول أو علم الناسخ والمنسوخ وإنما عبر وعاء ضخم هو اللغة ومفاهيمها. ” إن النصوص الدينية –حسب أبو زيد- ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية بمعنى أنها تنتمي إلى بنية ثقافية محددة تم إنتاجها طبقا لقوانين تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي”.[8] حيث اللغة ليست وعاء فارغا بل تعبير عن وأداة للجماعة في إدراك العالم وتنظيمه ، وهذا ما عبر عنه أبو زيد بعبارته المثيرة للجدل ان القرآن منتج ثقافي.[9] فالقرآن وهو نص ديني ثابت من حيث منطوقه لكنه من حيث يتعرض له العقل الإنساني يصبح (مفهوما ) يفقد صفة الثبات ، إنه يتحرك وتتعدد دلالاته .إن الثبات من صفات المطلق والمقدس أما الإنساني فهو نسبي متغير . والقرآن مقدس من ناحية منطوقه لكنه يصبح مفهوما بالنسبي والمتغير أي من جهة الإنسان ويتحول إلى نص إنساني يتأنسن “[10]. والخلاصة إن أبو زيد الذي يقترب من القرآن عبر المتلقي ومفاهيمه ينطلق من القول بتاريخية المفاهيم واجتماعيتها ، وتاريخية اللغة التي صيغت بها النصوص لينتهي إلى تاريخية النص القرآني واجتماعيته . فالواقع التاريخي والاجتماعي هو المتغير المستقل وليس النصوص التي يرى أنها لا تحمل عناصر جوهرية ثابتة ، بل إن لكل قراءة –يعنى القراءات في أزمنة مختلفة أو من شخوص مختلفين- جوهرها الذي تكشفه في النص.[11]
وعبر هذا المدخل اللغوي يعتقد أبو زيد انه قدم الإثبات العلمي الأكبر الذي عجز عن تقديمه المفكرون العلمانيون السابقون بمعالجاتهم الأيديولوجية لإثبات أولوية الواقع الاجتماعي والتاريخي المتغير على مفهوم النص العلوي الثابت والجوهري ما عبر عنه بقوله: “الواقع إذن هو الأصل ولا سبيل لإهداره . من الواقع تكون النص ولغته وثقافته وصيغت مفاهيمه ومن خلال حركته بفعالية البشر تتجدد دلالته .فالواقع أولا والواقع ثانيا والواقع أخيرا. وإهدار الواقع لحساب نص جامد ثابت المعنى والدلالة يحول كليهما إلى أسطورة.[12]
لا يكتفي أبو زيد بنقد قدسية النص وتأكيد تاريخيته من خلال التحليل الداخلي وعلاقة النص بالمفهوم واللغة ، وإنما تمتد أعماله إلى التحليل التاريخي والسياقي لعلوم القرآن التي أسست للمفاهيم الأساسية حول النص ومنهجيات التعامل معه، ما يؤكد أن مشروع أبو زيد حول تاريخية الإسلام هو مشروع متكامل وكبير ويعد من أهم الأعمال المقدمة في هذا السياق . ويعد عمل أبو زيد حول الإمام الشافعي مناط هذا النقد السياقي لتأسيس علوم ومنهجيات القرآن ؛ ففي هذا الكتاب يوجه أبو زيد انتقادات شديدة لإسهامات الشافعي الذي يراه مسئولا عن كثير من المفاهيم المستقرة في التعامل مع النص القرآني، فهو يعتبره مسئولا عن تثبيت قدسية اللفظ القرآني وليس المعنى وحده ومن ثم إضفاء القدسية على اللغة العربية على القراءة القرشية كجزء جوهري من بنية النص”، كما يعتبره على صعيد آخر يتعلق بترتيب الأدلة الشرعية ( القرآن ن والسنة والإجماع والقياس مسئولاً عن ” تحويل اللانص إلى مجال النص وتدشينه نصاً لا يقل في قوته التشريعية وطاقته الدلالية عن النص الأساسي الأول القرآن”.[13] ويسهب أبو زيد في هذا العمل في شرح المضمون والانحياز الأيديولوجي (للعصبية العربية والقرشية ) الذي انطوت عليه إسهامات الشافعي المنهجية والعلمية الكبيرة والتي تأسست وأسست معها جوهر الانحياز في بنية علوم القرآن(حسب رأيه).
- لقد ارتبطت أطروحة نصر أبو زيد حول تاريخية النص الديني والقرآني بطرحه لمنهاجيات جديدة ومستحدثة في التأويل والاستنباط والاجتهاد. فأبو زيد الذي يرى النص القرآني نصا ثقافيا لغويا كسائر النصوص لا يرى أن ينفرد هذا النص بمنهجيات خاصة بل تنطبق عليها منهجيات تحليل النصوص التي أنتجتها علوم اللغة والألسنيات المعاصرة كما قدمها الفكر الغربي. يقول إن تاريخية النصوص “بمعنى أن دلالتها لا تنفك عن النظام اللغوي الثقافي الذي تعد جزءاً منه يجعل من اللغة ومحيطها الثقافي مرجع التفسير والتأويل.[14] ومن ثم يوجه نقدا للمنهجيات المتداولة في التراث الفقهي خاصة في التأويل والاستنباط؛ إذ يرى أن علوم القرآن واللغة والجرح والتعديل وغيرها المطروحة في إرث القدماء أضحت غير كافية أو مرضية. وأنه قد صار على المحدثين في ضوء التطور في علم الألسنيات والتحليل اللغوي وتحليل الخطاب أن يدلوا بدلوهم فيها من منظور آخر ووفق مفاهيم أخرى.
إن التحليل اللغوي هو المنهج الذي يتبناه أبو زيد جامعا بين علم البلاغة التقليدي ومباحث تحليل الخطاب وتحليل النصوص في إنجازاتها المعاصرة.
- اختار أبو زيد لبحوثه ليس فقط المنهج والاقتراب بل السياق كذلك. فقد حدد أبو زيد الموقع الفكري والأيديولوجي لمشروعه في إطار الجدل السياسي والفكري الدائر باعتباره جزءا وامتدادا لما يسمي بتيار التنوير في الحركة التاريخية والفكرية المصرية . وحسب أبو زيد فإن أحد محددات هذا التيار منذ مطلع عصر النهضة هو موقفه من الإسلام كمشروع سياسي اجتماعي ضمن المشروعات التي تناضل لإثبات مشرعيتها في صياغة الجانب الفكري لعملية النهضة. فهو يمثل التيار العلماني (الموصوف بالتنويري) الذي دخل منذ أكثر من قرن -ولا يزال- في صراع مع المشروع السياسي الإسلامي الذي يسميه بالخطاب الديني ، ذلك الصراع الذي يصفه بأنه “معركة شاملة تدور على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية “[15]
يفترق هذان التيارات عند العديد من القضايا الحاسمة في الحياة والفكر ، ومن أهم القضايا المثارة على الصعيد الفكري الموقف من الدين والنصوص الدينية؛ يصف أبو زيد موقف الخطاب الديني المناوئ بأنه تيار غيبي غارق في الخرافة والأسطورة، أما التيار التنويري الذي يرى أبو زيد نفسه امتدادا له والذي يضم رموزا مثل طه حسين وأمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله. فهو يقراء النصوص الدينية طبقا لآليات العقل الإنساني التاريخي”.[16].. لكن أبو زيد يضع مشروعه في مكانة متميزة داخل هذا التيار فهو يتدارك الإخفاق الذي لحق بالتنويريين نتيجة انزلاقهم في خضم ذلك الصراع الفكري باستخدام منهج السجال الأيديولوجي مما جعل الغلبة للخطاب الديني على الخطاب العقلاني..في المقابل يعد أبو زيد بمنهج جديد هو تحقيق “وعي علمي بطبيعة النصوص الدينية وبطرائق قراءتها وتأويلها”.[17]
أبو زيد مجتهدا .. منهجه في تجديد عملية التأويل والاستنباط:
يثير الدكتور نصر حامد أبو زيد حيرة القارئ بالعديد من التناقضات الجزئية والكلية في كتاباته يقع ضمنها هذا التناقض حول دور مشروعه، فأبو زيد الذي شدد في كتابه “نقد الخطاب الديني” على التناقض الحاسم بين مشروعه والخطاب الديني هو ذاته الذي أدرج نفسه ضمن تيار التجديد في التراث في كتابه” مفهوم النص” ولم يزد أبو زيد كثيرا عند وصفه لأهداف التجديد وجوهره عما يقوله الإصلاحيون والتوفيقيون الإسلاميون؛ فأهدافه هي مواجهة خطر ضياع الكيان الثقافي والتاريخي بالتبعية للآخر ، لأن العلم بحقيقة التراث والحضارة ومكوناتها يمكن أن يساعدنا على الصمود والتصدي والمقاومة”، وحين وصف مهمة التجديد حددها قائلا: ” إذا كنا لا نستطيع أن نتجاهل هذا التراث أو نسقطه جانبا فإننا بنفس القدر لا نستطيع أن نتقبله كما هو ، بل علينا أن نعيد صياغته فنطرح عنه ما هو غير ملائم لعصرنا ونؤكد فيه الجوانب الإيجابية ونجددها ونصوغها بلغة مناسبة لعصرنا. إنه التجديد الذي لا غناء عنه إذا كنا نريد أن نتجاوز أزمتنا الراهنة إنه التجديد الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة ويربط بين الوافد والموروث”.[18] وحدد أبو زيد نهج مشروعه التجديدي بالنقد العلمي للتراث الذي يقوم على تقديم “فهم (علمي) للأصول الموضوعية التي قام التراث على أساسها”.[19]محذرا من القيام بذلك على أساس أيديولوجي لأنه حسب رأيه لا يقل خطورة عن التقليد.
ويمضي أبو زيد خطوة أخرى أكبر في استعارة مفاهيم التراث والخطاب الديني التي رفضها بطرح نفسه كمجتهد في مجال التأويل والاستنباط من النص الديني وتقديم ما أسماه بمنهج اجتهادي جديد طرحه بشكل أكثر تكاملاً في كتابه “دوائر الخوف” . يسمي أبو زيد منهجه بـ”منهج القراءة السياقية ” وهو يقدمه كمنهج أكثر جدوى وفاعلية من المنهج الفقهي الاستنباطي التقليدي المعتمد على آلية القياس ونقل الحكم من الأصل إلى الفرع على أساس اتفاقهما في العلة. ويقوم هذا المنهج على ركنين : الأول هو السياق التاريخي الاجتماعي الخارجي للنصوص من جهة والثاني هو السياق الدلالي الداخلي للنصوص من جهة أخرى.. يقدم أبو زيد منهجه السياقي باعتباره تجديدا لمنهج علماء الأصول يمد نطاق مفهوم السياق من خارج حدوده القديمة (علم الناسخ والمنسوخ وعلم أسباب النزول ومنظومة علوم اللغة) إلى مجمل السياق التاريخي الاجتماعي لنزول الوحي بغرض التمييز في إطار الأحكام والتشريعات بين ما هو من إنشاء الوحي أصلا وما هو من العادات والأعراف الدينية والاجتماعية السابقة على الإسلام”.[20]
يعد أبو زيد الركن الثاني (الداخلي) للقراءة السياقية جوهر اجتهاده؛ حيث تقوم القراءة على التمييز بين “المعاني” والدلالات التاريخية المستنبطة من السياق من ناحية وبين “المغزى” الذي يدل عليه المعنى في السياق التاريخي –الاجتماعي للتفسير( أي في زمن المفسر) من ناحية أخرى.[21].
ويحدد الكاتب عدة مستويات للسياق فهناك السياق الكلي أو الاجتماعي التاريخي لعصر ما قبل الوحي وأهميته في اكتشاف تطور الدلالة داخل بنية النص. وهناك سياق ترتيب النزول (السياق التاريخي التتابعي للوحي) . وهناك سياق السرد (قصص أو وصف أحوال الأمم السابقة أو الرد على الطاعنين) وأهميته تمكين الدارس من التمييز بين ما ورد على سبيل التشريع وما ورد على سبيل المساجلة أو الوصف والتهديد والوعيد أو العبرة. والمستوى الرابع هو مستوى التركيب اللغوي.[22]
يثير منهج الاجتهاد الذي أبدعه د. أبو زيد العديد من الملاحظات الهامة:
أولها: وهو من المفارقات المثيرة أن يحرص الدكتور أبو زيد وقد ارتدى عباءة المجتهد على أن يحذو حذو المجتهدين من السلف في إكساب منهجه سمة التماسك وتحديد ضوابط من خلال التأكيد على تواصل هذا المنهج بجذور علم أصول الفقه وأدواته من جهة. ومن جهة أخرى أضاف أبو زيد ضابطاً هاماً يوازي ربط الفقهاء حكم الفرع بحكم الأصل عن طريق العلة كضمانة لمنع الانفكاك عن الأصل إلى طريق الهوى والضلال، فيشير إلى ضرورة “ارتباط المغزى بالمعنى ارتباطاً وثيقاً مثل ارتباط النتيجة بالسبب وألا يكون تعبيراً عن هوى المفسر ووثبا على المعنى أو إسقاطاً عليه”[23].
الثاني: إن تمييز د. أبو زيد بين المعنى -الذي يتمتع بقدر ملحوظ من الثبات النسبي على حد قوله- والمغزى المتحرك المتعدد بتعدد القراءات لا يعني إقرار أبو زيد بوجود ثابت مطلق ونسبي متغير، فالتاريخية لدى أبو زيد تتخلل كل عمليات التأويل سواء منها ما ارتبط بتخريج المعنى أو المغزى والفارق بينهما في الدرجة : فالمعنى وهو المفهوم المباشر لمنطوق النصوص ( والمتمتع بالثبات النسبي) هو ذو طابع تاريخي يتطلب تحليل البنية اللغوية للنص ( السياق اللغوي الداخلي) في إطار السياق الاجتماعي الخارجي .[24] بينما المغزى تاريخي متحرك ، يتحرك مع آفاق القراءة.[25]
قضية المرأة في فكر ومنهج أبو زيد..:
تمثل المرأة أحد الموضوعات التي أولاها د. نصر حامد أبو زيد اهتمامه بوصفها أحد معضلات قضية النهضة وأحد القضايا الكبرى والإشكالية في الفكر والفقه الإسلامي والخطاب الديني التي تثير بإلحاح موضوع بعث الاجتهاد وتدبر التحولات التاريخية والاجتماعية والثقافية واستيعابها في عمليات التأويل والاستنباط.. وقد احتلت قضية المرأة موقعا هاما في كتابات د. نصر حامد أبو زيد كموضوع تطبيقي يترجم فيه قضاياه النظرية والمنهاجية، وفي هذا الإطار خص أبو زيد الموضوع بكتابين هما “المرأة وخطاب الأزمة” و”دوائر الخوف”. في كتابه الأول اتسمت معالجة أبو زيد بطابع عام لا يتميز فيه عن خطاب سواه من العلمانيين. بينما يعتبر كتابه الأخير (دوائر الخوف) قفزة هامة بالنظر إلى ما تضمنه الكتاب من تطوير منهجه في التأويل و تطبيقه هذا المنهج واختبار صلاحيته في موضوع المرأة كأحد الموضوعات الملحة في أجندة التجديد والاجتهاد.
عني د. نصر أبو زيد في كتابيه بمناقشة ثلاثة موضوعات: أولها تفسير صعود قضية المرأة على سطح الجدال السياسي وفي خضم الصراع بين القوى والتيارات المختلفة في العصر الحديث خاصة العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. الثاني هو تحليل وتفسير خصيصة الإنحياز والتمييز ضد المرأة في بينة الثقافة العربية الإسلامية وفي أهم مكونات خطابها الديني ممثلا في علوم القرآن. الثالث تحليل موقف القرآن من المرأة وطرح إمكانيات بناء اجتهاد جديد انطلاقا من منهجه السياقي. وفيما يلي محاولة لإلقاء الضوء على الأبعاد الثلاثة لفكر أبو زيد لنخلص في النهاية إلى محاولة للإجابة على سؤال هام مؤداه: هل انتهى أبو زيد إلى ما وعد به من تقديم اجتهاد جديد في قراءة النص القرآني على أساس منهاجي يحدث نقلة نوعية في فهم القرآن وأحكامه خاصة على صعيد قضية المرأة ؟
أول ما يلفت النظر في مجمل تحليل أبو زيد مفارقة تتعلق باقترابه من موضوع المرأة. فالكاتب يشخص قضية المرأة كقضية اجتماعية يتحدد خلالها وضع المرأة بالعوامل الاجتماعية والتاريخية بناء على شروط وعلاقات الإنتاج. وهو من هذا المنطلق ينتقد منحى التيار الديني في تشخيص المشكلة كنتاج لعوامل أيديولوجية (فوقية) إ ذ يرى أن مناقشة قضية المرأة ( وهي القضية الاجتماعية بالدرجة الأولى) من منظور الدين والأخلاق يبدد أبعادها الحقيقية ويخفي تعمدا البعد الاقتصادي –الاجتماعي لها كما يُجَهل قصديا وضع علاقة المرأة بالرجل في سياقها الحقيقي وإطارها الفعلي. كما ان التأويلات التي يصفها بالنفعية الأيديولوجية للنصوص الدينية لن تؤدي إطلاقا إلى تغيير وضع المرأة.[26]
يبدو وجه المفارقة ان الدكتور أبو زيد لا يستخدم في موضوعاته الثلاثة ذلك التحليل الاقتصادي –الاجتماعي وتفعيل آلية شروط وعلاقات الإنتاج في التفسير بل يجنح أبو زيد وبشكل كامل إلى تبني تحليل ثقافي محض ينتهي به إلى توجه أيديولوجي وإن كان من منظور نقيض للخطاب الديني.
الخطاب الديني المعاصر وقضايا المرأة: سياق وخطاب الأزمة
يقف نصر حامد أبو زيد عند تاريخين مفصليين في التاريخ المصري والعربي المعاصر أعيد فيهما طرح قضية المرأة على أوسع نطاق ممكن ،واحتلت فيها قضية المرأة مكانا محوريا في سياق الصراع والجدل السياسي: التاريخ الأول هو مبدأ ظهور المرأة وسفورها عام 1919. هو يرى أن هذا الطرح يأتي ضمن موجة أو ردة فعل لمقاومة سياسات التفتيت والانقسام التي تبعها الاستعمار البريطاني من خلال مبدأ حماية الأقليات ، مثلها في ذلك مثل حركة التضامن الإسلامي- المسيحي على أسس وطنية والتي تجلت في مبدأ الدين لله والوطن للجميع . ويخلص أبو زيد إلى أن ثمة علاقة تزامنية قوية بين ظهور قضية المرأة وتعالي النزعة الطائفية الدينية حيث ارتبط هدم الوحدة الوطنية عضويا بالتمييز بين المرأة والرجل.
التحليل السياقي للخطاب الديني المعاصر (الأزمة والطائفية):
يشير أبو زيد إلى تاريخ آخر اعتلت فيه قضية المرأة مكانة متقدمة في الجدل السياسي هو ما بعد هزيمة 1967، ويسوق الكاتب العديد من التفسيرات ذات الصلة بعلم النفس الجماعي والتحولات الثقافية للجماعة المصرية: أولها حالة الأزمة التي أنتجت خطابها (خطاب الأزمة) ليحل محل خطاب النهضة ويؤشر للتراجع عن كل المنجزات التي تحققت في التاريخ العربي الحديث والمعاصر على كافة الأصعدة. فالأزمة التي ضربت المنطقة بوقوع هزيمة يونيو 1967 قد استمرت عبر توابعها الإقليمية مثل اجتياح بيروت وحرب الخليج الأولى، عاصفة الصحراء، ولم تقتصر الهزائم على الصعيد الإقليمي فحسب بل امتدت دوليا في شكل معايير مزدوجة يتبعها الغرب إزاء الشرق الإسلامي في فلسطين والبوسنة والهرسك وما صاحبها من مآس إنسانية. أنتجت تلك الأزمة المركبة تأثيرها الثقافي متمثلا في دخول العقل العربي في مراجعة لكل ما كان ثابتا ومتفقا عليه والتساؤل على كافة الأصعدة، واتسمت ردة الفعل أو الاستجابة الثقافية التي قدمها الواقع العربي لتلك التساؤلات بالتقوقع داخل طائفيات عرقية وقطرية ضيقة: “من شأنها أن تسجن الفرد –رجلا كان أو امرأة – داخل حدود انتماء ينفي الآخر أو يكاد”.[27] وقد حددت خصائص التفاعل الدولي حدود الأنا والآخر في إطار الخطاب الإسلامي الذي برز في إطار ما يعرف بظاهرة الإحياء الإسلامي أو الأصولية الإسلامية التي اتسم خطابها (أو خطاب الأزمة على حد قوله) بالبحث عن حلول جاهزة تمثلت في التراث الإسلامي وشعار الإسلام هو الحل. انعكس هذا البعد العنصري الطائفي على خطاب الأزمة المنتج حول المرأة بكل توجهاته حتى لدى دعاة المساواة والمشاركة؛ إذ قام مجمل الخطاب على افتراض ضمني بمركزية الرجل المذكر .[28] ولكن تظل خصيصة الطائفية والتمييز جلية كأعمق ما تكون في الخطاب الإسلامي الذي قام على الدعوة الصريحة القوية بعزل المرأة عن الحياة العامة والعودة بها إلى عصر الحريم. ويحلل أبو زيد الفارق بين الخطاب الإسلامي والخطاب المقابل الذي يسميه بخطاب النهضة (لاحظ المقابلة بين صفة الإسلامي والنهضة) بأن “الفارق بين خطاب النهضة وخطاب الإسلام المعاصر هو الفارق بين الجمع والتشتيت، بين مفهوم الوطن المعتمد على وحدة الأرض والتاريخ والمصالح المشتركة وبين مفهوم القبيلة المعتمد على وحدة الدم أو مفهوم الدين المعتمد على وحدة العقيدة .. وهذا الخطاب يعتصم بالتراث الذي صار رداء الهوية والخصوصية التي تعني التمايز . وموقف خطاب النهضة من التراث هو موقف التأمل والتساؤل والفحص ورفض التماهي معه أو مع أحد من تياراته واتجاهاته بعد إدراك تعدديته وتاريخيته”.[29] والطائفية[30] التي يجعل لها أبو زيد مكانة محورية في تحليله لخطاب الأزمة عموما ولبروز قضية المرأة ووضعية التمييز من جهة أخرى لها امتداداتها على الصعيد الفرد والجماعة والوطن ككل : فهي “تمارس تفتيتها لكل ما هو بناء ونظام حتى تصل إلى الفرد فتشطره إلى نصفين؛ إلى ذكر وأنثى في علاقة يهيمن فيها الذكر على الأنثى هيمنة تامة”[31] ..وتمتد إلى الصراع السياسي والفكري حيث انقسمت الساحة السياسية بين تياري الأصولية الإسلامية والتيار العلماني “،[32] وانحسر كل تيار في خندق لا يعترف بخطاب الآخر ولا يدخل في حوار مباشر معه”، كما امتدت تلك الحالة إلى الصعيد الوطني في صورة أحداث الفتنة الطائفية وبروز مشكلة الأقليات. والخلاصة أن أبو زيد يشخص السياق الاجتماعي الثقافي السياسي الذي برزت فيه قضية المرأة في الربع الأخير من القرن العشرين وحتى الآن في مصر والعالم العربي بأنه سياق من الأزمة الشاملة جوهره الطائفية والصراع الحاد الذي كان من الطبيعي أن يفرز خطابا طائفياً عن المرأة.
يفرد أبو زيد مساحة كبيرة في كتابه المرأة وخطاب الأزمة (الذي أعاد نشر مقالاته في دوائر الخوف) لتحليل موقف الخطاب الديني المعاصر من قضية المرأة ومقولاته؛ فالخطاب الديني المعاصر في تحليله هو رد فعل ذكوري لهزيمة يونيو 1967 “حين انجرحت الذات العربية الرجولية انجراحاً لم يجد دواؤه – ناهيك عن شفائه- حتى الآن ، وتعويضا عن العجز عن المواجهة والثأر لجأت الذات الجريحة للهروب إلى الماضي إلى هويتها الذاتية الأصلية ، إلى الرجولة في بقائها المتوهم” [33] وقد كان لذلك التوجه تجلياته على المستوى السياسي (التشرذم بدل الوحدة ، وعلى المستوى الاجتماعي (الطائفية بديلا عن القومية) وعلى مستوى الانتماء (حل الدين محل الوطن والمصالح المشتركة والتاريخ والجغرافيا) . وفي التحليل الأخير هو يرى الإحياء الديني هنا جزءا من ثلاثية التشرذم والطائفية والدين التي أنتجتها هزيمة يونيو ” ومن ينظم الثلاثة في تشكيلة واحدة فإنها لا تفرخ إلا الإرهاب”.[34] إنطلاقا من ذلك التصنيف للخطاب الديني (على إجماله دون تمييز) يمضي أبو زيد في وصف وتحليل خصائص الخطاب الديني المعاصر بشأن المرأة في عمل يمزج بين الوصف والتحامل والتشويه الذي لا يمكن تجاهله، فالخطاب الديني المعاصر إزاء المرأة يحمل السمات التالية:
- هو خطاب إرهابي يمارس كل صنوف الاعتداء ضد المرأة مادية ومعنوية وأولها آلية الإلغاء: ” وهي في حقيقتها عملية قتل واغتيال سواء بالنسبة للآخر غير المسلم أو بالنسبة للمرأة ” وهو يرى أن الحجاب هو رمز لهذا الإلغاء : ” إن حبس المرأة في زي الحجاب تجسيد رمزي للتغطية على عقلها ووجودها الاجتماعي ، هو عملية قتل شبيهة بعملية الانتحار الشعائري المؤقت المشار إليها في حداد المرأة المصرية”.[35]
- هو خطاب تمييزي عزلي محوره أن المرأة ليست مساوية للرجل أو نداً له بل إن وظيفتها الأولى هي طاعته. إنه خطاب يهدف إلى قهر الكائن الإنساني المسمى بالمرأة وإخضاعه لسطوة الرجل بعد أن يتم إفراغ وعي هذا الأخير من أي طاقة للفهم والتحليل أي بعد أن يتم تدريبه على الخضوع الذليل المفروض للنصوص”[36] وتتجلى سمات التمييز والعزل في أهم مقولات ذلك الخطاب وهي الدعوة إلى عودة المرأة للمنزل والحجاب والتخلي عن كل مكتسباتها التي حققتها باستثناءات محددة في مجالات بعينها تتصل بطبيعتها الأنثوية.
ويرى أنه يستوي في تلك النزعة التمييزية الخطاب الإسلامي المتطرف أو المعتدل فسواء بدأ أحدهما من مقولة أن المرأة عورة يجب تغطيتها أو بدأ الآخر من كون المرأة جوهرة ثمينة يجب حجبها فالمحصلة واحدة. وإذا كان الخطاب الديني المعتدل ينافس خطاب النهضة في ادعاء المساواة بين الرجل والمرأة على أساس نصوص المساواة في الثواب الأخروي المبني على الطاعة الدينية فحين تجابهه نصوص أخرى لا تفيد المساواة كالمواريث والشهادات وتعدد الزوجات يبدو موقف الخطاب تبريرا إلى حد كبير ( مستعينا بحجج مثل الفروق البيولوجية وعدم قدرة المرأة على تحمل الأعمال الشاقة ..) ويصبح هذا مدخلا لإنهاء قضية المساواة والقضاء عليها”[37]
- هو خطاب يزيف قضية المرأة حين يصر على مناقشتها من خلال مرجعية النصوص متجاهلا أنها قضية اجتماعية في الأساس .
- يعتمد الخطاب على النصوص الشاذة والاستثنائية ويلجأ إلى أضعف الحلقات الاجتماعية سعيا لنفي الإنسان ، وهو من هذه الوجهة يتعامل مع المرأة تعامله مع الأقليات الدينية الأخرى ، المسيحية خصوصا من منطلق مفهوم الإلغاء”[38]
- أنه خطاب متناقض فهو يستند إلى جانب مرجعية النصوص الدينية إلى مرجعية أخرى مسكوت عنها يناصبها العداء في العلن وهي مرجعية أوروبا المزدوجة : أوروبا العلم والنهضة والإنجاز من جهة وأوروبا العري والشذوذ والتفكك من جهة أخرى ،ويتعامل مع هذه المرجعية بشكل انتقائي.[39] لكنها حاضرة دائما كمرجعية للمقارنة والتقييم .إن حضور الأخر الغربي في هذا الخطاب يصل إلى درجة القمع ( مثلا تشخيص قضية المرأة بوصفها مؤامرة غربية استعمارية تستهدف الإسلام والمسلمين).[40]
- هو خطاب متخلف يكرس الأزمة بقدر ما يعكسها :فبينما “العالم مشغول بقضايا تتجاوز كثيرا مسائل تعليم المرأة وخروجها للعمل ومساواتها للرجل ومسئولياتها الاجتماعية ككائن بشري مستقل ليس قادرا فقط على المشاركة في اتخاذ القرار بل قادرا على القيادة والإنجاز، وفيما بدأت المرأة تتحرر من مسألة المطالبة بنديتها للرجل وتحاول التعبير عن هويتها المستقلة عن هوية الرجل والمساوية لها في نفس الوقت ، ما زلنا نحن مشغولين بمسألة مدى كفاءة المرأة وأهليتها للتمتع بحق الطلاق أو لاعتلاء منصة القضاء أو مدى أهليتها للمشاركة الفعلية المستقلة في الحياة السياسية”[41].
بعد توصيفه السابق لخصائص الخطاب الديني المعاصر حول المرأة والعناصر السياقية التي حددت ملامحه ، ووصف ملامح هذا الخطاب الذي يرى انه نبت في سياق يتسم بالأزمة والطائفية، يتجه أبو زيد إلى مسارين آخرين لتحليل جذور التمييز داخل الخطاب الديني المعاصر هما التحليل الثقافي لبنية التراث الذي يعد المرجعية الفكرية المباشرة للخطاب الديني المعاصر، ونقد منهجية التعامل مع المصادر الدينية لدى هذا التيار طارحا ما يراه منهجية بديلة أكثر جدوى.
الجذور الثقافية للتمييز في بنية التراث الإسلامي:
يرى أبو زيد أن هاجس إشكالية العودة إلى التراث كان ” وما يزال هو الهاجس المسيطر على مجمل الإجابات التي طرحت في الخطاب العربي على الأسئلة التي أثارتها الهزائم . وتشعبت من هذا الهاجس الأساسي والمحوري ثلاثة اتجاهات في التعامل مع التراث: أقوى تلك الاتجاهات – من المنظور الجماهيري والشعبي الاتجاه الإحيائي السلفي . وهو اتجاه يرى في التراث الديني الإسلامي بصفة خاصة مستودعا للحلول وتعبيراً عن الهوية الخاصة وتجسيداً لمشروع حضاري متميز . وهو وحده الكفيل بالخروج بالأمة من أزمتها الراهنة وتحقيق النهضة المأمولة . الاتجاه الثاني هو اتجاه القطيعة مع التراث وهو اتجاه يرى أن للتراث وجودا ضارا مسئولا عن بعض جوانب الأزمة الراهنة ويرى أن الحل يكمن في ضرورة تحليل هذا التراث أو تفكيكه سعيا لإحداث قطيعة معرفية تحررنا منه ومن تأثيراته الضارة.الاتجاه الثالث هو اتجاه تجديد التراث: وهو تيار تلفيقي، وإن كان يحاول أن يضفي على نفسه صفة التوفيق بين التراث والعصر عن طريق تجديد التراث بإعادة تأويله بما يحقق متطلبات العصر”.[42]
إنطلاقا من هذه الهيمنة للتراث على السجال الثقافي والفكري بين تيارات الخطاب العربي المعاصر، وقبوله شبه المطلق من قبل أقوى تلك الخطابات وأكثرها تأثيرا وهو الخطاب الديني، يتجه أبو زيد إلى تحليل ونقد موقف التراث من قضية المرأة ، فهو يراه أحد المصادر الرئيسية لتعميق اتجاه التمييز والقمع ضد المرأة في الخطاب العربي عموما والخطاب الديني على وجه الخصوص حيث سمة التمييز والتعصب ضد المرأة تعد أحد الخصائص المتوطنة والضاربة الجذور داخل بنية التراث الإسلامي وفي كل فروعه بما فيها علوم القرآن المختلفة.
يرى أبو زيد أن صورة المرأة في التراث والفكر الإسلامي تحمل ثلاث سمات : فهي أولاً المسئولة عن إخراج آدم من الجنة بعد تحالفها مع الشيطان. السمة الثانية هي سلبية المرأة و انفعاليتها مقابل فاعلية الذكر، أما السمة الثالثة فتتعلق بطبيعة علاقتها بالرجل فهي جزء” انفصل عن جسد آدم يحن إليه حنين الجزء لكل فارقه ، وهو بالنسبة لها الأصل الذي تتوق دائما للعودة إليه. تنعكس تلك الصورة في جميع منتجات التراث سواء بشكل غير مباشر أو بشكل غير مباشر من خلال مماهاة واستيعاب نموذج العلاقة كما هو الحال في نظرية ابن عربي عن وحدة الوجود التي يفيض أبو زيد في وصف علاقتها بهذا النموذج.[43]
وإذا كانت مجمل إنتاجات التراث العربي الإسلامي حملت انعكاسات وتجليات هذا المفهوم التمييزي ضد المرأة فإن بعض تلك العلوم والبنى الفكرية تعد مسئولة عن بناء هذا النموذج وتكريسه. ويشير أبو زيد على سبيل التخصيص إلى مسئولية اللغة العربية والتفسير في هذا المجال. فاللغة العربية على سبيل المثال تحمل في صميم بنيانها ما يسميه بنزعات ومواقف طائفية وعنصرية وتعصب لما هو عربي وما هو ذكر من خلال التمييز بين العرب والعجم (علامة نون التنوين وجعل العجمي في مكانة أدنى من حيث الفئة التصنيفية). واللغة لا تمارس هذه الطائفية العنصرية فقط ضد الأغيار ” بل ضد الأنثى من نفس الجنس أيضاً من خلال علاماتها سواء على صعيد التمييز (تاء التأنيث) أو إعطاء المؤنث فئة تصنيفية أدنى وجعله مساويا للإسم الأعجمي (منع تنوين إسم العلم المؤنث)، ويسمي أبو زيد موقف اللغة من المرأة وحكمها القيمي عليها بأيديولوجية اللغة وهي سمة غير “لازمة” بل لها امتداداتها الثقافية “على مستوى الخطاب السائد المعاصر حيث تعامل المرأة معاملة “الأقليات” من حيث الإصرار على حاجتها للدخول تحت حماية أو نفوذ الرجل” فيما أسماه بتحول أيديولوجية اللغة في بنيتها الأصلية لتصبح رؤية للعالم على مستوى الفكر.[44] ويشير أبو زيد إلى مغزى استمرار التمسك ببنية وقواعد اللغة العربية على هذا النحو دون إضافة أو اجتهاد من الأجيال اللاحقة للحد من ملامح العنصرية فيها بإيجاد ألفاظ محايدة للتعبير عن الأدوار المشتركة كما فعل أبناء لغات أخرى مما يعني تمسكاً من تلك الأجيال بالأيديولوجية التي تعبر عنها تلك اللغة.
يتحمل علم التفسير بدوره جانبا آخر لا يقل أهمية عن تكريس ثقافة التمييز والعداء ضد المرأة الأنثى في الثقافة العربية من خلال استعانته بالإسرائيليات وتسرب عناصر ثقافية غير إسلامية مثل اليهودية والمسيحية والوثنية التي كانت تهيمن على شعوب المنطقة قبل دخولهم الإسلام حيث أثرت بقوة في قراءة النصوص وتفسيرها ، بل عن بعض تلك العناصر دخل إلى مجال علوم الدين بطريقة منهجية ؛ من ذلك دور المسلمين من ذوي الأصول اليهودية في تفسير آي القرآن من منطلق ما لديهم واعتراف وقبول كبار العلماء الثقات لتلك المرويات (مثل تفسير الطبري) ما أثر على وضع وصورة المرأة في المخيال الإسلامي. ويمثل تبني الطرح التوراتي لقصة آدم وحواء ذات الأهمية المركزية في تحليل علاقة المرأة والرجل أبرز دليل على ذلك حيث انتقلت إلى علوم التفسير مع تلك الرواية مفاهيم ربط الغواية والخطيئة واللعنة بالمرأة بينما تحمل الرواية القرآنية لتلك القصة مضامين متناقضة ومنصفة للمرأة.[45]
إن أبو زيد بينما يحلل أصول التمييز في بُنى التراث العلمي للمسلمين إنما يضع عينه بشكل مستمر وحاسم على الخطاب الديني المعاصر باعتباره يتبنى إحياء التراث كما هو والتعامل غير النقدي معه ، لكنه في نفس الوقت ينفي مسئولية التراث جزئيا عن قبول تلك الأفكار في الخطاب الديني المعاصر كما ينفي مسئولية الدين أو الإسلام كليا عن ذلك : ” يمكن القول أن الإسلام لا علاقة له بتخلف وضع المرأة في بعض المجتمعات التي يدين أهلها بالإسلام”[46] فالخطاب الديني المعاصر في موضوع المرأة يعكس ظاهرة اجتماعية تاريخية هي ظاهرة التخلف الذي يتوسل لغة الدين أو لغة السياسة أو لغة الاجتماع والاقتصاد[47] . كما يشير في موضع آخر إلى الدور الانتقائي للثقافة السائدة في التعامل مع الدين ومقولاته ففي عصور التأخر والانحلال يتم إخفاء نصوص مثل “النساء شقائق الرجال” والتركيز على “ناقصات عقل ودين” ، بينما تحظى المرأة في عصور الازدهار في إطار نفس المرجعية الإسلامية بأوضاع جد متميزة ، كما كان الأمر في الأندلس في ظل الفقه المالكي. ويؤكد أبو زيد على دور التقاليد والأعراف والثقافة القبلية المغلقة في التعامل الانتقائي مع النصوص الدينية طبقاً لما يلائمها مثل البناء على مفهوم الكيد والطبيعة السيئة للمرأة وتعظيم وتعميم مبدأ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ” وهو مبدأ يعني جوهريا المحافظة على الحال كما هو مهما كان حجم التخلف إذا كانت الحركة وتحقيق المصلحة يحتمل مجرد احتمال أن تفضي إلى بعض المفاسد”.[48]
أبو زيد نحو منهج واجتهاد بديل، قضايا المرأة نموذجا:
لا تحتل قضية المرأة في منظومة أبو زيد الفكرية موقعا أصليا رغم تخصيصه كتابين عنها ، لكنها تعتبر تطبيقا مهما تتجسد فيه كل المآخذ والانتقادات التي يحملها على الثقافة العربية والفكر أو الخطاب الديني المعاصر وآليات إنتاجه للأفكار والقيم ، كذلك فإنه يستخدم قضية المرأة كمجال لترجمة وتطبيق فكره ومنهاجه البديل مما يجعلها نموذجا شديد الأهمية بالنسبة له لكن كانعكاس وإسقاط لقضايا اكبر وأكثر كلية وأصالة هي الجدال بين الفكر العلماني والديني. في هذا الإطار يقدم أبو زيد مشروعا متكاملا لتعامل أو اقتراب علماني بديل مع الدين ومع النص الديني تأويلا واستنباطا وتفعيلا في واقع الحياة عن الاقتراب الذي يتبناه الخطاب الديني . وقد قدمنا أعلاه جوانب هامة من هذا المشروع الفكري ومنها الجانب الأكثر أهمية وجدة في طرح أبو زيد وهو منهجه اللغوي في التأويل والاستنباط من النص الديني ، وبقي لنا المحك التطبيقي لهذا المنهج الذي يختبر جدواه وقيمته ومآلاته في الواقع والفكر وهو ما خص أبو زيد قضايا المرأة في الشريعة بتطبيقه.
يسبق أبو زيد تقديم مشروعه البديل بنقد الفكر والخطاب الديني ، وإذا كنا قد قدمنا ذلك في الأجزاء السابقة لهذه الورقة على صعيد المنطلقات الفكرية فإنه قد بقي الجانب المفصلي المتعلق بالجانب العملياتي.
يبني أبو زيد نقده لاقتراب الخطاب الديني من النص على التمييز بين مفاهيم مفتاحية هي الدين والعقيدة والشريعة والفقه. وهو يرى ان اقتراب الفقه الديني من النص يتسم بالسمات الاتية :
- الربط بين العقيدة والشريعة ، وجعل الشريعة مكونا جوهريا من مكونات الإيمان الديني بدونها لا يكتمل الإسلام. (وهنا يزعم الكاتب أن صاحب فكرة الربط هذه هو أبو الأعلى المودودي الذي كتب في سياق الصراع السياسي الطائفي في الهند عشية الاستقلال وأن هذه الرابطة التي أقامها بين العقيدة والشريعة إنما استهدفت تبرير المشروع السياسي للمسلمين الهنود في إقامة دولة مستقلة. ولم تلبث أن انتقلت تلك الفكرة إلى المنطقة العربية عن طريق كتابات سيد قطب).
- تعظيم وتضخيم جانب الشريعة (الأحكام) وهو جانب ثانوي وهامشي (لا يتعدى سدس القرآن) في مقابل العقيدة أو الإيمان وهو جوهر وبنية القرآن.
- الخلط بين الدين الذي يُعرٍفه بأنه ( القواعد والمبادئ الكلية الموحى بها من الله عز وجل) وبين الفقه (الاجتهادات البشرية لعلماء المسلمين في مختلف العصور والأرجاء في تنزيل المبادئ على الوقائع الفعلية).[49]
- تلاشي التمييز الذي يقيمه البعض نظرياً بين الشريعة والفقه عند التطبيق العملي لحساب الفقه بأصوله وفروعه وقياساته وحواشيه وشروحه. وترتب على ذلك على حد قوله أنه “حين يصبح الفقه شريعة واجبة التطبيق يصبح فقيه العصر أو بالأحرى دارس الفقه مرجعا للفتوى في كل شئ من مشكلات الحيض والنفاس إلى قضايا الديمقراطية”.[50]
انطلاقا من انتقاده السابق يطرح أبو زيد اجتهاده للتعامل مع النص خاصة في مجال الأحكام ، ويطبق ذلك على موضوع المرأة . منطلقا من مجموعة من التصنيفات أو التمييز المثير للجدل بين المفاهيم لعل أهمها ما أشار إليه في انتقاده السابق من ضرورة التمييز بين العقيدة والشريعة ، ووصف النصوص العقيدية أو الإيمانية بأنها نصوص أصلية في مقابل نصوص الأحكام (الشريعة) التي نظر إليها باعتبارها نصوصا فرعية أو ثانوية على حد تعبيره. أما قواعد وآليات ونتائج قراءته للنص فيمكن تلخيصها فيما يلي:
- إن منهج القراءة السياقية هو المخرج من المأزق التأويلي الذي ما يزال الفكر أسيرا له. وانه باستخدام منهجه المشار إليه حيث قام بتحليل النصوص المتعلقة بالمرأة وحقوقها في الخطاب القرآني تحليلا تاريخيا نقديا على حد وصفه فقد انتهى إلى أن كثيرا من الأحكام التي يستند إليها “المهاجمون للإسلام والثقافة العربية والإسلامية” في مسألة حقوق المرأة لم تكن تاريخيا من التشريعات التي أتى بها القرآن.[51]
- يرى أبو زيد أن الوصول إلى موقف الإسلام من مسألة حقوق الإنسان وحقوق المرأة خصوصا ” لابد أن يتم عبر عملية مقارنة تاريخية بين وضع حقوق المرأة قبل الإسلام وبين الحقوق الجديدة التي شرعها الإسلام، وبينهما (ما قبل وما بعد الإسلام) منطقة مشتركة تمثل منطقة الالتقاء بين القديم والجديد، يؤسس الجديد من خلالها قبوله المعرفي في وعي الناس الذين يخاطبهم الوحي . هذا التحليل للفروق بين جديد الرسالة وبين منطقة العبور الوسيطة هو ما يسمى بعملية استعادة المعنى الأصلي للخطاب من خلال إعادة زرعه في السياق التاريخي الذي فارقه منذ أربعة عشر قرنا حتى نوهم الناس أن كل ما ذكره القرآن عن المرأة تشريع وما هو بتشريع”[52]. وبعيدا عن لغة الغموض والإبهام التي يلجأ اليها أبو زيد أحيانا لتمرير بعض أفكاره الجريئة وغير المقبولة لدى قارئيه فإن المعنى المباشر للنص السابق هو ضرورة تعرف المؤول على تلك الأحكام التي ارتبطت بشكل أو آخر بأوضاع كانت سائدة لدى العرب في عصر الرسول ونظمتها الشريعة ، والنظر لتلك النصوص والأحكام باعتبارها ذات وظيفة تاريخية منقضية هي تأسيس الجديد من خلال قبوله المعرفي في وعي الناس الذين يخاطبهم الوحي” على حد قوله، وقد طبق الكاتب بالفعل ذلك على العديد من النصوص التي تخص المرأة مثل نصوص الميراث، والقوامة التي انتهى إلى أنها ( ليست تشريعا بقدر ما هي وصف لحال)[53] وتعدد الزوجات ( فهو تشريع مؤقت لمعالجة موقف طارئ نتج عن استشهاد كثير من الصحابة في الغزوات وتيتم كثير من النساء ،وهو عادة سابقة على الإسلام نظمها الإسلام وقيدها).
- يحاول أبو زيد أن يدعم رأيه السابق المبني على تعامل منهجي غير متفق عليه بوسائل إضافية مستعيناً بما طرحه كثيرون من المجتهدين من أصحاب الخطاب الديني الإصلاحي ممن أسماهم بالتلفيقيين من أسس للاجتهاد وعلى رأسها مقاصد التشريع. ولا يبدو أبو زيد في هذا الطرح متميزا على الإطلاق عن أصحاب هذا الخطاب الديني ذو المنحى الأيديولوجي الذي سبق ان تبرأ منه . في هذا الإطار ينطلق أبو زيد من مقولة أن المساواة بين الرجل والمرأة هي مقصد من مقاصد الخطاب القرآني مستدلا في ذلك على بتأكيد القرآن على المساواة في أصل الخلق (نفس واحدة) والمساواة في التكاليف الدينية وما يترتب عليها من ثواب وعقاب. ويزيد على ذلك أبو زيد بلغة فقهية قطعية بأن “النصوص الواردة بهذا الشان لا تحتمل تأويلا يتجاوز دلالتها المباشرة”. وبناء على ما سبق يصف أبو زيد النصوص التي تحتمل التمييز بأنها استثنائية أو ثانوية، وأنها وردت في مواضع سجالية أو وصفية وهي لا تدخل في نطاق التشريع.[54] ويعيد الكاتب الكرة مرورا على النصوص السابقة انطلاقا من هذا المعيار الجديد (مقصد التشريع): فحول القوامة يقول: “وليس تفضيل الرجال على النساء قدرا إلهيا مطلقا بقدر ما هو تقرير للواقع المطلوب تغييره تحقيقا للمساواة الأصلية . فالدرجة التي للرجال على النساء فرع على أصل”.[55] أما الميراث فمعنى النص ألا يعطى الذكر في الميراث أكثر من ضعف نصيب الأنثى وألا تعطى الأنثى أقل من نصف حظ الذكر ، وهذه الحدود تسمح للمجتهد بتقرير أن المساواة بين الذكر والأنثى لا تخالف حدود الله. وفي مجال تعدد الزوجات لا يجد أبو زيد ما يستعين به في دعم موقفه إلا اجتهادات وآراء الإمام محمد عبده إمام الخطاب الديني الإصلاحي ليفرد صفحات عديدة لآراء وحيثيات الإمام في ضرورة تقييد الحق المطلق للرجل في الطلاق ، والقول بالتطليق أمام القاضي وتقييد تعدد الزوجات بشرط الضرورة.[56]
- يؤدي القول بـ “الحدود التاريخية” للنص أو الحكم وتقييمه في إطار حالة المجتمع ما قبل نزول الوحي وربط فاعلية ومشروعية النص بهذا الإطار التاريخي إلى جعل المتغير المستقل في مشروعية وصلاحية النص ليس طبيعة النص ذاته أو مصدره الإلهي وإنما الواقع الاجتماعي على النحو الذي أفاض فيه أبو زيد من قبل وأشرنا إليه. وعلى ذلك فإن تغير الواقع الاجتماعي والثقافي يفضي تلقائيا إلى تغيير الأحكام في ضوء مقتضيات ومعايير الواقع الجديد : في هذا الإطار كانت دعوة أبو زيد لإبطال الأحكام الخاصة بالجزية باعتبار “التمسك بالدلالات الحرفية للنصوص في هذا المجال لا يتعارض مع مصلحة الجماعة فحسب ولكنه يضر بالكيان الوطني والقومي ضرارا بالغا”[57] كذلك إبطال النصوص الخاصة بالحسد والجن والشياطين وملك اليمين الخ . ويسري هذا بدوره على موضوع المرأة. فمن طرحه السابق يسقط أبو زيد أغلب الأحكام الخاصة بالمرأة والمستندة على نصوص صريحة لأسباب مختلفة جوهرها أولوية الواقع ومغايرة الواقع التاريخي الراهن عن زمن نزول الوحي. وهذه هي نفس القاعدة البسيطة التي يقوم عليها التوجه العلماني بكل أطيافه.إلا أن أبو زيد يقيم لها ما يشبه السند الشرعي من منطلق مفهوم الاجتهاد : “ليس من المقبول أن يقف الاجتهاد عند حدود المدى الذي وقف عنده الوحي وإلا انهارت دعوى الصلاحية لكل زمان ومكان من أساسها واتسعت الفجوة بين الواقع المتحرك وبين النصوص التي يتمسك الخطاب الديني المعاصر بحرفيتها”[58]
لكن أبو زيد يرى أن البديل الإنشائي أو الحلول لمشاكل المرأة بعد إسقاط أحكام الشرع غير الصالحة لن تكون حلا وضعيا بحتا خارج إطار الدين ، وإنما هو اجتهاد -بمعنى ما- يقع في حدود الشرع أو الدين من خلال استلهام توجهه العام أو (مغزاه) وليس معناه التاريخي القديم؛ يكون ذلك من خلال “ربط النصوص بواقعها وقياس مدى تطوير النص للواقع ورصد اتجاه هذا التطوير”[59]
كانت المناسبة الأهم التي طبق فيها أدوات اجتهاده الخاصة بالتمييز بين المعنى والمغزى والنصوص الأساسية والثانوية تتعلق بقضية ميراث المرأة (للذكر مثل حظ الأنثيين) قد تمت عبر خطوات غير منظمة وخلافية الى حد كبير: ملخصها
المعنى : فسره أبو زيد تفسيرا حرا لا يدل عليه المنطوق قوامه : ألا يعطى الذكر في الميراث أكثر من ضعف نصيب الأنثى وألا تعطى الأنثى أقل من نصف حظ الذكر.
المغزى أن المساواة مقصد من مقاصد التشريع ونصوص المساواة الإنسانية والدينية بين النساء والرجال نصوص قطعية . وعليه فإن هذه النصوص السابقة تسمح للمجتهد بتقرير أن المساواة بين الذكر والأنثى لا تخالف حدود الله.
الاجتهاد: على أساس ما سبق هو ضرورة التسوية بين الرجال والنساء في الميراث على أساس أن الواقع المعاصر يفرض ذلك وانه على حد تعبيره “ليس من المقبول أن يقف الاجتهاد عند حدود المدى الذي وقف عنده الوحي وإلا انهارت دعوى الصلاحية لكل زمان ومكان من أساسها واتسعت الفجوة بين الواقع المتحرك وبين النصوص التي يتمسك الخطاب الديني المعاصر بحرفيتها”
يقول أبو زيد في شرح تطبيق منهجه بخطواته تلك على قضية الميراث قضية الميراث إن المعنى المباشر يشير إلى ” أن النصوص الدينية لا تساوي بين الرجل والمرأة في الميراث فقط بل في جميع التشريعات وإن كانت تساوي بينهما في العمل والجزاء الدينيين”.[60] لكن اعتبار المغزى يدل على خلاف ذلك ” إن السياق التاريخي بالإضافة إلى دلالتي المعنى والمغزى يبين بجلاء أن الهدف القرآني من التشريع –البيان الذي يعصم من الضلال- هو تحديد نصيب الذكر الذي كان يحصل على كل شئ بوضع حد أقصى لما يمكن ان يحصل عليه لا يتجاوز ضعف نصيب الأنثى هذا مع فرض نصيب للأنثى التي لم تكن تحصل على أي شئ بحد أدنى لا يقل عن نصف نصيب الذكر . فالتحديد إذن هو وضع حد للفوضى والاستئثار بفرض نصيب للمحروم بهدف الاقتراب من تحقيق المساواة في أفق الحياة الاجتماعية . وكل اجتهاد في سبيل تحقيق هذه المساواة التي هي مقصد أصلي وهدف أسمى للحياة الدينية إنما هو اجتهاد مشروع ، أو لنقل هو اجتهاد في نفس اتجاه المقاصد الكلية للتشريعات . أما الاجتهاد المخالف للاتجاه المقاصدي أو التأويل الذي يقف على أفق اللحظة التاريخية للوحي فكلاهما في دائرة الخطأ المعرفي بصرف النظر عن النوايا الطيبة والإخلاص الإيماني . وعليه فإذا كانت حدود الله التي لا يجب أن نتعداها هي ألا نعطي الذكر من الميراث أكثر من ضعف الأنثى ، وألا نعطي الأنثى أقل من نصف حظ الذكر فإن هذه الحدود تسمح للمجتهد أن يقرر أن المساواة بين الذكر والأنثى لا تخالف حدود الله ..إن المساواة معناها أن التسوية بين الحد الأقصى للذكر والحد الأدنى للأنثى ليس فيها مخالفة لما حده الله. ومن البديهي أن تشمل تلك التسوية كل المجالات التي فهمت فهما قاصرا في الفقه الإسلامي إنطلاقا من تصور أن قيمة المرأة نصف قيمة الرجل قياسا على مسألة الميراث..نذكر من هذه المجالات الشهادة” أمام القضاء وحرمان المرأة من شغل بعض الوظائف التي تؤهلها لها إمكانياتها التعليمية مثل القضاء“.[61]
ملاحظات ختامية:
برغم الجهد الكبير الذي بذله أبو زيد لبناء منهج للتعامل مع النص الديني انتهى إلى اعتباره إضافة لعملية الاجتهاد وحلا لإشكاليات الركود والجمود التي يعاني منها الفكر العربي الإسلامي المعاصر من جراء احتكار الخطاب الديني التقليدي للتعامل مع مصدر أساسي للشرعية في هو النصوص الدينية. وبرغم العمل الذي بذله أبو زيد في معالجة النصوص القرآنية أو النصوص التأويلية وبناء علوم القرآن أو الخطابات الدينية ونقدها. إلا أن ثمة العديد من العوامل تبقي عمل أبو زيد خارج حدود النص وتمنع قبوله داخل عملية التجديد والاجتهاد التي سعى إليها ، يمكن تلخيص هذه العوامل في:
- الإطار الأيديولوجي للقراءة ..حدد د.نصر أبو زيد موقعه الفكري كأبعد ما يكون عن (الأيديولوجيا) التي يدينها كباحث علمي باعتبارها عاملا معوقا لإحداث نقلة نوعية في الفكر العربي.. وهو يصف منطلقه الفكري بأنه الوعي العلمي بالتراث الذي هو في جوهره متناقض مع الأيديولوجيا والتغني بالأمجاد والأسطورة. وبرغم شيوع الاعتقاد لدى الباحثين بأن التاريخية كمقترب هي ضد الأيديولوجيا لأنها ترفض الأساطير وتبحث عن أصولها الاجتماعية و”تتجاوز الاستخدام الثيولوجي والقومي وبشكل عام الايديولوجي للتاريخ”[62]، إلا أن خبرة أبو زيد تثبت عكس ذلك ؛ لقد استخدم أبو زيد في صراعه المحتدم مع الإسلاميين الاقتراب التاريخي كسلاح لضرب المنظور الإسلامي اللاتاريخي فانغمس حتى النخاع في صراع أيديولوجي أضحى هو المحدد الحقيقي لمشروعه الفكري.
فأبو زيد يرى الواقع الثقافي عبارة عن صراع محتم بين قطبين يقوم بفرز الأفكار وتصنيفها بينهما وهما: التيار الديني أو الخطاب الديني من جانب والخطاب التنويري النهضوي -الذي ينتمي إليه- والممتد من تخليص الإبريز لرفاعة الطهطاوي حتى خطاب زكي نجيب محمود في وضعيته المنطقية “.[63] ويدعو إلى تحرر الإنسان رجلا كان أم امرأة والاحتكام إلى العقل والواقع في شؤون المجتمع والطبيعة “[64]. ويؤكد أبو زيد الطابع الأيديولوجي لهذا التيار عندما يحدد أهم سماته بأنها موقفه الرافض لمشروعية شعار الإسلام هو الحل أي مشروع الإسلام السياسي بكل أبعاده وانعكاساته على التشريع وسياسات الدولة.[65]. يحمل أبو زيد في كافة كتاباته بضراوة على خصومه الفكريين (أصحاب الخطاب الإسلامي المعاصر )[66] حتى يمكن بقوة وضع كتاباته في طليعة المعارك والسجالات الفكرية بين التيارين ، فهو يصم الخطاب الديني بكل النواقص فهو تيار إرهابي، يكرس التخلف وهو تيار غير وطني تشتيتي طائفي (خاصة ضد المرأة والأقليات)و خطابه هو خطاب التمييز والكراهية للآخر الديني والثقافي والجنسي ، وهو خطاب ماضوي يتبنى اللاعقلانية في التعامل مع التراث ومع الآخر . و تتنامى نزعة العداء والخصومة الأيديولوجية لدى أبو زيد لتتخذ ظواهر غير علمية فمفهوم الأيديولوجية لدى تحليله في كتابات أبو زيد إنما يحمل مدلولا واحدا هو الخطاب الذي يحمل فكرا وتوجها دينيا فحسب ، ولعل هذا ما يحمله إلى الهجوم بشدة على الأيديولوجية رغم انخراطه حتى النخاع في صراعاتها. على الجانب الآخر فإن أبو زيد يميل في معاداته للفكر اللإسلامي المعاصر إلى عدم التمييز بين تياراته وأطيافه العديدة والمتباينة وإنما يلجأ إلى إدانة الجميع فتيار الوسط أو التيار التجديدي الذي يدعو إلى الاجتهاد من خلال التعامل النقدي مع التراث ما هو من وجهة نظره إلا تيارا تلفيقيا ينتهي في كثير من القضايا ومنها نظرته للمرأة إلى نفس نتائج الأصولية الإسلامية التي تمثل ذروة التشدد في الخطاب الإسلامي. وهو يرى أن الخلاف داخل التيار الديني (الإسلامي) بين المعتدلين والمتطرفين هو خلاف غير أصيل بل هو خلاف في الدرجة لا في النوع حيث أنهما لا يختلفان من حيث المنطلقات الفكرية أو الآليات وإنما تحركهما ثوابت واحدة.[67] بل إن أبو زيد ينتقد بشدة بعض الاتجاهات العلمانية التي تتعامل بموضوعية مع التيار الديني أو ترى فيه بعض جوانب إيجابية باعتباره تعبير حضاري عن رفض الهيمنة الأوروبية والأمريكية ويصم هذا الاتجاه باعتباره تيار مرتد من اليسار إلى اليمين يستدعي النقد لمشكلات وظروف تحوله.[68]
- مرجعيات أبو زيد : يحمل أي نظام فكري مرجعياته التي هي أحد المقومات الأساسية لبنائه وتحديد علاقات النظام الداخلية وترتيبه. وعلى هذا النحو فإن مشروع أبو زيد الفكري وخطابه يملك بدوره مرجعيات أساسية تلعب دورا هاما في بناء هذا المشروع ويمكن تحديد نوعين من المرجعيات حكمت هذا المشروع ووجهته: مرجعية فكرية وثقافية، ومرجعية علمية وأكاديمية.
حدد أبو زيد مرجعيته الفكرية أو الثقافية ورؤيته للمجتمع وللتطور التاريخي في العلمانية كما قدمتها الحضارة الأوروبية التي تمثل حلولها التاريخية لإشكاليات مثل العلاقة بين المرأة والرجل أو بين الدين والمجتمع إطارا مرجعيا. وقد حدد هذا الاقتراب المعرفي موقفه من الدين وفق النموذج الذي سارت عليه التجربة الأوروبية: ” ولا خلاف على أن الدين وليس الإسلام وحده يجب أن يكون عنصراً أساسيا في أي مشروع للنهضة ، والخلاف يتركز حول المقصود من الدين كما يطرح ويمارس بشكل أيديولوجي نفعي من جانب اليمين واليسار على السواء ، أم الدين بعد تحليله وفهمه وتأويله تأويلا علميا ينفي عنه الأسطورة ويستبقي ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية . وليست العلمانية في جوهرها سوى التأويل الحقيقي والفهم العلمي للدين وليست ما يروج له المبطلون من أنها الإلحاد الذي يفصل الدين عن المجتمع والحياة .. إن الخطاب الديني يخلط عن عمد وبوعي ماكر خبيث بين فصل الدولة عن الكنيسة أي فصل السلطة السياسية عن الدين وبين فصل الدين عن المجتمع والحياة . الفصل الأول ممكن و ضروري وقد حققته أوروبا بالفعل فخرجت من ظلام العصور الوسطى إلى رحاب العلم والتقدم والحرية . أما الفصل الثاني ، فصل الدين عن المجتمع والحياة فهو وهم يروج له الخطاب الديني في محاربته للعلمانية وليكرس اتهامه لها بالإلحاد”[69]. إن الدين كما يراه أبو زيد هو الدين بمفهومه المقبول والتاريخي حاليا في الواقع الأوروبي العلماني كمعتقد شخصي خاص.
تتجلى أولوية تلك المرجعية في تعامل أبو زيد مع النص ، فهو ينطلق من نسق القيم التي يؤمن بها في إطار منظومته الفكرية ، وتكون الخطوة التالية هي البحث عن تلك القيم أو محاولة إثباتها في النص فإن فشل النص في ذلك تم استبعاده بحجة تاريخيته فهو يرى : إن القيم التي تؤكد عليها منظومة العلمانية والحداثة تمثل القاعدة التي يحتكم إليها النص وليس العكس.[70] ولعل هذا النهج هو ما طبقه أبو زيد في التعامل مع قضية الجزية والمرأة إنطلاقا من واحدة من ثوابت المنظومة العلمانية التنويرية وهي المساواة بمعناها القانوني المباشر بين المرأة والرجل ، ومفهوم المواطنة.
على صعيد الاقتراب العلمي والمنهاجي : بينما يهاجم أبو زيد منحى الخطاب الديني في تبني مرجعية من خارج الواقع هي مرجعية النص والنظر إليها كمرجعية علوية خارج نطاق الواقع والتاريخ، والقول بثبات تلك المرجعية رغم وجود حجة قوية لذلك تتمثل في قناعة أو إيمان ذلك التيار بألوهية النص الديني والتي لا يناقشها أبو زيد أو يتحداها صراحة، فإن قراءة أبو زيد نفسه تكشف عن مرجعية عليا مسكوت عنها يتعامل معها أبو زيد كعنصر ثابت وعلوي فوق النصوص يكتسب قدسيته من ارتدائه لخاصية العلمية التي يصفها البعض بأنها كهنوت العصر. تتمثل هذه المرجعية في قواعد ومنهجيات علوم اللغة وتحليل الخطاب المعاصر كما وضعها باحثون ومفكرون مثل دى سوسير De Saussare وهيرش Hirsh . فهذه القواعد تشكل مرجعا نهائيا غير محل للجدل؛ تحكمت تعريفاتهم في تكييف وقراءة النص القرآني وتحديد علاقتها بقائلها وقارئها وسياقها الواقعي والاجتماعي وفهم وتحديد وتمييز دلالاتها ما بين مغزى ومعنى وخلافه، كل ذلك رغم ما يبدو لأول وهلة من عدم الملائمة في هذا التطبيق. وقد رفض أبو زيد منذ البداية الاعتراف بطبيعة أو وضعية خاصة للنص القرآني ،[71] على أساس : “أن النصوص دينية كانت أم بشرية محكومة بقوانين ثابتة ، والمصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين لأنها (أي النصوص) تأنسنت منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد”.[72] ويحدد أبو زيد تلك القوانين العليا للغة التي تخضع لها النصوص مثل “جدلية الثبات والتغير ؛ فالنصوص ثابتة في المنطوق متحركة متغيرة في المفهوم”.[73] إلى جانب جدلية الكشف والإخفاء في القراءات ..الخ .
- شبكة المفاهيم والأدوات: يمكن القول أن العديد من اللبنات و المفاهيم المحورية أو المفتاحية التي يقوم عليها تحليل أبو زيد هي مفاهيم وأدوات خلافية ومثيرة للجدل إلى حد كبير مما يثير خلافات عديدة في المقدمات قلما تؤدي لقبول النتائج. من ذلك ما سبق الإشارة إليه من تمييز في الأهمية بين العقيدة والشريعة أو بين المبادئ والنصوص الإيمانية من جانب والأحكام من جانب آخر ، واعتبار الثانية نصوصا ثانوية غير ملزمة باعتبارها وردت في سياق وصفي أو سجالى. من المحاور الأخرى الخلافية مثلا تقييده أو ربطه المعنى بالسياق الاجتماعي التاريخي للنزول مما يعني بشكل حاسم تحويل جانب غير محدود من القرآن إلى نصوص تاريخية مبقياً على ذلك الأثر الواهي للدلالة المعروف بالمغزى والذي يخضع لقراءات تاريخية متغيرة دائما. وحسب تحليل أبو زيد فإن القرآن لا يحتفظ بثوابت سوى أمرين أولهما منطوقه ( دون مفهومه أو مدلوله المتغير حسب الثقافة) والثاني هو معناه التاريخي المرتبط بزمن النزول . ومن أهم المفاهيم المثيرة للجدل والتي ينهض عليها نسق أبو زيد التحليلي تعريفه للقرآن كنص لغوي وما يترتب على هذا من اعتبار القرآن منتجا ثقافيا [74]حيث اللغة هي وعاء للثقافة. من تاك الجوانب الخلافية أيضا تمويه العلاقة بين النص القرآني وقائله إلى حد بتر هذه العلاقة مع التركيز بشكل كامل على المتلقي وثقافته كمدخل وحيد لتحليل النص. ويرتبط بما سبق تصنيف النص القرآني كنص أدبي “بالنظر إلى قدرته على إنتاج نظامه الدلالي وزخمه الكبير وقدرته على انتاج الدلالات.[75] والخلاصة أن شبكة المفاهيم التي يستخدمها أبو زيد ومجمل تلك التقنيات والمعالجات الجزئية التي تشكل في تركيبها وتآلفها النهائي بنية التحليل إنما تغمر النص القرآني من كل جوانبه وعناصره بقيم النسبية والتاريخية ليس فقط على صعيد البرهان والنتائج بل وقبل ذلك على صعيد المقدمات .
من المواضع الإشكالية الهامة في تحليل أبو زيد أدواته المنهاجية ، ولا نشير في هذا السياق إلى قواعد وأدوات التحليل اللغوي وتحليل الخطاب وإنما منهجه فيما يسميه اجتهاداً مما يضعه على صعيد المقارنة والنقاش مع وسائل الاجتهاد وقواعده في علم أصول الفقه.
يسعى أبو زيد من خلال استخدامه لمفهوم الاجتهاد الذي يقحمه على تحليله للنصوص أن يقدم عمله أو مشروعه الضخم بأنه لا يقتصر على مجرد عملية تفكيك ونقد البنى الإسلامية بدءا من القرآن وانتهاء بعلومه وبالخطابات الدينية الدائرة حول تلك البنى وإنما يكتسب هذا المشروع جانبا إنشائيا يهدف لتأسيس رؤى واقترابات بديلة عن تلك المطروقة في علوم التأويل والاستنباط للفقه والقواعد الفقهية وهو ما يعني أن أبو زيد يزج بنفسه إلى مجال جديد من السجال والصراع الذي سعى إليه وبادر به وإن كان ذو طابع علمي.
إن مفهوم وعملية الاجتهاد كما يطرحها أبو زيد رغم سذاجتها قياسا بتعقيدات مشروعه التفكيكي النقدي ( ربما لحداثة عهدها بالتطوير حيث طرحها في آخر كتبه دوائر الخوف)، ورغم سذاجتها كذلك قياسا بالطرح الفقهي والأصولي المتراكم عن الاجتهاد مفهوما وقواعداً وشروطا وآليات إلا أنه يمكن القول بأنها تمثل إجمالا المقابل أو الصورة العكسية لمفهوم الاجتهاد المعروف في الفقه الإسلاميى ؛
فالاجتهاد في المنظور الفقهي يبدأ من إلزامية النص ، وانه لا مساغ للاجتهاد فيما فيه نص صريح قطعي، مع الاتفاق على أن آيات الأحكام المفسرة التي تدل على المراد منها دلالة واضحة ولا تحتمل تأويلا لا مجال للاجتهاد فيها.[76] في المقابل فإن أبو زيد يصنف آيات الأحكام باعتبارها نصوصا ثانوية في مقابل النصوص الإيمانية والاعتقادية التي تمثل من وجهة نظره نصوصا أصلية.
على جانب آخر يرتبط الاجتهاد عضويا في المفهوم الفقهي الأصولي بالنص من خلال اعتبار الدليل جزءا أصيلا من تعريفه :”هو بذل الجهد في طلب الحكم الشرعي من دليل تفصيلي من الأدلة الشرعية”. وعلى هذا فإن الاجتهاد يتم وفق هذا المفهوم إما داخل النص (الاجتهاد في تأويل المعنى وبيان عمومه او خصوصه ، عمومه أو إطلاقه، إيجاب الأمر اوندبه أو خلافه) ، وقد يكون الاجتهاد انطلاقا من النص عن طريق القياس (تعدية حكم أصل منصوص على حكمه إلى فرع) و يدور الاجتهاد في إطار الفضاء الكلي للنص إجمالا عبر أدوات القياس والاستحسان والاستصحاب أو مراعاة العرف أو المصالح المرسلة في إطار من مقاصد الشارع ومبادئه العامة وسائر نصوصه التي بينت أحكاما.[77] في المقابل فإن مفهوم الاجتهاد الذي يطرحه أبو زيد هو اجتهاد خارج النص ، يتحرك موازياً للنص وخارجه من خلال تجميد المعنى والعمل على مفهوم المغزى الحر المتغير والذي يجعل للثقافة والأفكار والحلول الوضعية أو النابعة من المجتمع الكلمة الأولى . أو هو كما يسميه اجتهاد قائم على ديالكتيك صاعد من الواقع إلى النص.
- تهافت البناء البديل الذي قدمه أبو زيد : يمكن القول بأن الجهد الأساسي الذي قدمه مشروع أبو زيد للاقتراب من النص الديني هو جهد نقدي وتفكيكي يتمثل في تحليل ونقد مقولات أصحاب الخطاب الديني واسهامات علوم القرآن ورموزه خاصة في مجال الفقه وأخيرا في الاقتراب من النص القرآني نفسه من منظور نقدي تفكيكي لنفي إطلاقيته وثباته وإثبات نسبيته وارتباطه بالواقع. في هذا الإطار يعد جهد أبو زيد من أبرز وأخطر ما بذل جهد نقدي في إطار الفكر العلماني العربي المعاصر.
بيد أن الجانب البنائي الذي طوره أبو زيد لمنهجه متمثلا في تقديم ما يسمى باقتراب اجتهادي بديل لتأويل النص القرآني والاستنباط منه يعد بالفعل من أضعف اسهاماته وأكثرها تهافتاً. ففي كثير من الحالات التطبيقية بدا مفهومه للاجتهاد القائم على الانحياز الكامل للواقع وتهميش النص نوع من التغطية على نزعة وضعية حرة لا تكترث حقيقة بالنص وحدوده (أو حسب تعبيره بحدود المعنى)؛ يظهر ذلك جلياً في العديد من تطبيقاته ومنها اجتهاده في موضوع الجزية إذ لم يعدو عمله (المسمى اجتهادا) إلا إزاحة للنص جانبا دون اشتغال عليه حتى على صعيد ربط النص بالعلل والشروط التي تفتح الباب لاعتبار الواقع في التشريع ، وطرح في المقابل عدداً من الآراء والمواقف المسبقة التي تعبر عن الكاتب وثقافته وتبدو مجرد آراء مرسلة وتقديرات قابلة للخلاف خالية من البرهان ومن أي سند شرعي معتبر بل يقول ” التمسك الحرفي بدلالات النص ( يعني نص الجزية في سورة التوبة) يتعارض مع مصلحة الجماعة ويضر بالوطن ضررا بالغا، ويجذب المجتمع إلى الوراء إلى مرحلة تجاوزتها البشرية إلى عالم أفضل بني على المساواة والعدل، أو على أساس أن مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات قد استقر في المجتمع الإنساني بصرف النظر عن الدين أو اللون، [78]
على هذا النحو فإن ضعف النتائج التطبيقية لما أسماه أبو زيد بمنهجه الاجتهادي خاصة في مجال المرأة – والتي سبق أن أشرنا إليها في المتن -لتشير إلى أن منهجه في التعليل والاستنباط لا يختلف كثيرا عن العناصر الاستدلالية والمنطقية التقليدية التي يثيرها الكتاب والمفكرون العلمانيون (من اليسار او اليمين) الرافضون لمبدأ تطبيق الشريعة على حساب القانون الوضعي برغم ما بذله من جهد نظري في بناء هذا المنهج. إن ما يسميه أبو زيد اجتهادا لا يعدو في الحقيقة كونه اجتهادا وضعيا لا يرتبط بالنص إلا بحجة تأويلية واهية هي رصد اتجاه أو تطور موقف النصوص القرآنية في التشريع (أو مغزى تلك النصوص) والعمل على إكمال مهمته غير المكتملة. بل إن هذا البعد المنهاجي ذاته القائم على تثبيت وتقييد معنى النص تاريخيا وتجميده والحديث عن مغزى منطلق له يشير إليه الاتجاه العام للشرع يعد بذاته غير جديد -إلا في مصطلحاته وبنائه النظري- إذ أشار إليه عديد من الكتاب الماركسيين الذين أبدوا استعدادا لاحترام الدين في بعض جوانبه (كعقيدة فردية ومبادئ إنسانية عامة إيجابية لصالح سعادة الإنسان) مثل نوال السعداوي وسيد القمني[79] .
والواقع أن استقراء الجهد الإنشائي أو التأسيسي الذي بذله د. نصر حامد أبو زيد وتطبيقاته لا يعدو ان يكون من الناحية الوظيفية جزءا ملحقا بمشروعه النقدي التفكيكي من خلال استكمال دائرة تاريخية النص التي تبدأ من المفاهيم والاقترابات التحليلية وتنتهي بعملية التأويل والاستنباط من خلال اعتبار السياق الاجتماعي والتاريخي والثقافي جزءا جوهريا في تأويل النص . مما يعد خروجا عن النص لا اجتهادا فيه.
- والخلاصة التي ينتهي اليها البحث : أن قضية المرأة ومسائلها الإشكالية المرتبطة حتما بالاجتهاد في التأويل والاستنباط من النصوص الإسلامية لتقديم بدائل عن الاجتهادات الفقهية التقليدية التي وضعت في أطر زمانية واجتماعية مختلفة ، هذه المسائل الإشكالية التي تبدأ من تعريف المرأة وتحديد مكانتها الاجتماعية ودورها في الحياة الخاصة والعامة وموقعها في قضايا محورية مثل الشهادة والولاية و الطلاق والزواج والعمل العام الخ يمكن القول أنها لم تفد كثيرا من مشروع المفكر والباحث نصر حامد أبو زيد الذي خصها بكتابين له معتبرا أنها من أهم مجالات تطبيق وإثبات منهجه الجديد في الاقتراب والتعامل مع النص القرآني. فمشروع أبو زيد -المختلف عليه- في أهدافه وكلياته وجزئياته بما يخرجه عن نطاق الاجتهاد الشرعي المقبول إنما يصب في سياق عملية الاستقطاب والصراع السياسي والأيديولوجي بين الأصولييين والعلمانيين الذي يضر بقضايا المرأة وموقف الشرع منها أكثر مما يفيدها لأنه لا يفسح وسط أجوائه الاستقطابية الفرصة والمناخ الثقافي المناسب لحركة الاتجاهات المعتدلة والوسطية في تقديم رؤيتها الغائبة ومواصلة ما بدأه الإصلاحيون الأوائل منذ عهد الإمام محمد عبده من جهد تحتاجه المرأة العربية والمسلمة بشدة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* بحث منشور في: مراجعة في خطابات معاصرة حول المرأة: نحو منظور حضاري/ مجموعة من المؤلفين؛ تحرير أماني صالح؛ مراجعة أسامة أحمد مجاهد. الجيزة: برنامج حوار الحضارات. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. جامعة القاهرة، 2007.
** أستاذ العلوم السياسية بجامعة مصر الدولية .. ورئيس مجلس إدارة جمعية دراسات المرأة والحضارة.
[1] – محمد اركون، الفكر الإسلامي ..قراءة علمية ، ترجمة هاشم صالح ، بيروت: مركز لإنماء القومي ، 1987) ص 116.
[2] – نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة ، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الرابعة ، 2004، ص 11.
[3] – د. نصر حامد أبو زيد ،نقد الخطاب الديني ، القاهرة: دار سينا للنشر، 1992، ص 189.
[4] – المرجع السابق، ص 190.
[5] – المرجع السابق نفس الصفحة.
[6] – المرجع السابق، ص 192
[7] -تابع هذا الاتجاه في كتابه الشهير : نصر حامد أبوزيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن ، بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى،1990.
[8] – أبو زيد ، نقد الخطاب الديني، مرجع سابق ص 193.
[9] – أنظر نصر أبو زيد، مفهوم النص، مرجع سابق.
[10] – أبو زيد ، نقد الخطاب الديني، مرجع سابق، ص 93.
[11] – المرجع السابق، ص 83.
[12] -المرجع السابق، ص 99.
[13] – د. نصر حامد أبو زيد ، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية 0 القاهرة: دار سينا للنشر ، الطبعة الولى ، 1992) ص 8
[14] – المرجع السابق، ص 198.
[15] – أبو زيد، نقد الفكر الديني ،مرجع سابق، ص 8.
[16] – المرجع السابق، ص 8.
[17] – المرجع السابق ، ص 8
[18] – أبو زيد ، مفهوم النص، مرجع سابق، ص 16.
[19] – المرجع السابق، ص 17.
[20] – أبو زيد، دوائر الخوف، مرجع سابق، ص 202.
[21] – المرجع السابق ، ص ص 202-203
[22] – المرجع السابق، ص 203.
[23] – المرجع السابق، ص203.
[24] – المرجع السابق ، ص 217.
[25] – المرجع السابق، ص 218
[26] – أبو زيد، دوائر الخوف، مرجع سابق، ص 87.
[27] – أبو زيد، المرأة وخطاب الأزمة ، مرجع سابق، ص 44.
[28] – يرى أبو زيد ان هذا الخطاب يعكس بشكل ما احساسا بالتفوق الذكوري “فالمرأة حين تتساوى فإنها تتساوى بالرجل وحين يسمح لها بالمشاركة فإنها تشارك الرجل” . المرأة وخطاب الأزمة، ص 29.
[29] – المرجع السابق ص ص 48-49.
[30]– يعرف أبو زيد الطائفية أو الخطاب الطائفي العنصري بأنه حين تحدد علاقة ما بأنها بين طرفين متقابلين أو متعارضين ،ويلزم فيها ضرورة خضوع أحدهما للآخر أو استسلامه له ودخوله طائعا في منطقة نفوذه”. المرجع السابق، ص 21.
[31] – المرجع السابق، ص 45.
[32] – المرجع السابق ص 46.
[33] – المرجع السابق، ص 28
[34] – المرجع السابق ، نفس الصفحة.
[35] – أبو زيد، دوائر الخوف، مرجع سابق، ص 125
[36] -المرجع السابق، ص 121
[37] – المرجع السابق، ص ص 107-111.
[38] – المرجع السابق، ص 123-124.
[39] – المرجع السابق، ص 124.
[40] – أنظر المرجع السابق ص ص 97-99.
[41] – المرجع السابق، ص ص 182-183.
[42] – المرجع السابق، ص ص 193-194.
[43] – انظر، أبو زيد، المرأة وخطاب الأزمة، مرجع سابق، ص ص 25-26.
[44] – حول ثنائية التمييز والدونية التي تحكم علاقة اللغة بالمرأة أنظر: المرجع السابق، ص 22 وما بعدها. وأيضا دوائر الخوف، ص 30 وما بعدها.
[45] – حول ذلك انظر: أبو زيد، المرأة وخطاب الأزمة، مرجع سابق، ص 14، ص 36.
[46] – أبو زيد، دوائر الخوف، مرجع سابق، ص 224.
[47] – …..، المرأة وخطاب الأزمة، مرجع سابق، ص 29
[48]– المرجع السابق ،ص 27.
[49] – …..، دوائر الخوف، مرجع سابق، ص ص 186-187.
[50] – المرجع السابق، ص 193.
[51] – المرجع السابق، ص 206.
[52] – المرجع السابق، نفس الصفحة.
[53] – المرجع السابق، ص 214.
[54] – أنظر: المرجع السابق، ص ص 209-215.
[55] – المرجع السابق ص 214.
[56] – أنظر المرجع السابق، ص ص 218- 224.
[57] – أبو زيد، نقد الخطاب الديني، مرجع سابق، ص 205.
[58] – المرجع السابق، ص 106.
[59] – المرجع السابق، ص 105.
[60] -المرجع السابق، ص 220.
[61] – أبو زيد، دوائر الخوف، مرجع سابق، ص ص 233- 235.
[62] – أنظر هامش المترجم هاشم صالح في : محمد أركون، مرجع سابق، ص 139.
[63] – المرأة وخطاب الأزمة ، ص 46-47.
[64] – أبو زيد، دوائر الخوف، مرجع سابق،ص 94.
[65] – أبو زيد ،نقد الخطاب الديني، مرجع سابق، ص ص 5-7.
[66] – يعرفه بأنه الخطاب الذي يجعل من النصوص الدينية مرجعية أساسية في كل قضاياه”.دوائر ، الخوف، ص 106.
[67] – حول تلك القواسم المشتركة أنظر:أبو زيد، نقد الخطاب الديني، مرجع سابق، ص 14.
[68] – المرجع السابق، ص ص 5-7.
[69] – المرجع اسابق، ص 9.
[70] – أنظر فصل “الواقع الاجتماعي بعد مفقود في الخطاب الديني” ، في دوائر الخوف ، مرجع سابق، ص 125 وما بعدها.
[71] – ميز أركون وهو أحد أبرز رموز التاريخية في الفكر العربي المعاصر بين نوعين من الإسلام :الإسلام المثالي والإسلام التاريخي أو المعاش . ولم يتحدث أركون رغم علمانيته عن تاريخية الإسلام المثالي بل عن الوظيفة التاريخية لهذا الإسلام المثالي في الإسلامات السوسيولوجية المختلفة 0 أي القراءات والنماذج الإسلامية المعاشة”. أنظر: أركون، مرجع سابق، ص 116.
[72] – أبو زيد، نقد الخطاب الديني ،مرجع سابق، ص 84.
[73] – المرجع السابق ،نفس الصفحة.
[74] – يعرف أبو زيد النص كمنتج ثقافي بمعنى ” أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاماً”. مفهوم النص ، مرجع سابق، ص 24.
[75] – المرجع السابق.
[76] – أنظر: عبد الوهاب خلاف،علم أصول الفقه (القاهرة: مكتبة الدعوة الإسلامية- شباب الأزهر،الطبعة الثامنة، د.ت.) ص ص 216.
[77] – المرجع السابق، ص ص 216- 217.
[78] – نصر أبو زيد، دوائر الخوف، مرجع سابق، ص 130.
[79] – أنظر: سيد القمني ، الفاشيون والوطن، سلسلة كتاب نقد المنهج، 1999، ص ص 88-89. أنظر في ذلك موقفا مشابها من السعداوي في: د. نوال السعداوي، دراسات عن المرأة والرجل في المجتمع العربي (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1990، ص597، ص 839.