الزوجية وتوزيع المسئولية الاجتماعية*
أ. د. أماني صالح**
لا تمثل الزوجية في القرآن محض مفهوم مجرد، وإنما يشيِد الخطاب القرآني منظومة كاملة لهذه العلاقة من منظور اجتماعي تاريخي. وحيث إن الارتباط والتكامل الوظيفي هو أبرز سمات الزوجية فإن هذه السمة تضفي أبعادها بل تصبغ- ملامح المنظومة القرآنية لعلاقات النوع التاريخية.. ونود هنا أن نلفت الانتباه إلى نقطة مهمة تتعلق بمدلول (التاريخي) في القرآن؛ فالتاريخية في الخطاب القرآني المتعلق بالمعايير والنظم والأحكام لا تقتصر على حيز زمني بعينه بل تمتد لتسع التاريخ الإنساني كله الذي يشمله الخطاب الديني وقضاياه. ومن ثم فإن هذا الخطاب لا يراعي خصوصيات ومتغيرات مراحل وعصور بعينها بما يميزها عن غيرها من سمات تتعلق بتراتبات القوة والضعف وآليات التسخير أو التمكين بين البشر ومن ضمنها النوعان، بل يراعي جانب الثوابت المستقرة في الطبائع والعلاقات.
في هذا الإطار فإن قضية العلاقة بين النوعين (الرجل والمرأة) لا يتم تناولها في المنظور القرآني بشكل مستقل كهدف في ذاته، ولكن في إطار الرؤية الإسلامية الكلية لمسيرة الإنسان ورسالته (الأمانة والابتلاء). إن التعامل الوظيفي مع الجنسين قد عني بمسألة: كيف يمكن أن يسهم الجنسان / الزوجان في دفع هذه العملية قدمًا وضمانها؟ لقد أنيط بالمرأة بشكل طبيعي مندمج في خصائصها الجسدية الجزء الأكبر من وظيفة إعادة إنتاج النوع البشري من خلال الإنجاب. وتستوعب هذه الوظيفة بشكل عام جانبًا كبيرًا من جهد وطاقة هذا الجنس.. بل ولعصور طويلة، وفي ظل غياب تقنيات التحكم في الإنجاب، استوعبت هذه الوظيفة الجزء الأعظم من الحياة النشطة للمرأة، بحيث كان الامتناع عن القيام بها مرادفًا للامتناع عن الارتباط الاجتماعي بعلاقة زواجية مع الجنس الآخر.. أما الجنس الآخر الذي لم يقيض له سوى دور محدود (من حيث الكم لا الكيف) في أداء العمليات الطبيعية لإعادة الإنتاج والتكاثر فقد ألحقت به مهمة أخرى هي توفير الضمانات والمستلزمات المادية والبيئية اللازمة لإتمام هذه العملية (توفير الملجأ والمأكل والمشرب.. إلخ) هكذا تحقق مفهوم التكامل الوظيفي تاريخيًا في توزيع المسئوليات الاجتماعية بين الزوجين / الجنسين ما بين المرأة التي تولت مسئولية الإعالة البيولوجية / الاجتماعية للتكاثر والعمران البشري والرعاية المادية / الاجتماعية التي يتولاها الرجال.
وكما هو واضح فإن الدورين يتكاملان بقوة في أداء وظيفة النوع الإنساني في الاستمرار والتكاثر والعمران البشري، ويفتقر كل منهما للآخر بشدة؛ وفي التحليل الأخير لقد مثَل هذا التوزيع للمسئولية الاجتماعية بين النوعين / الزوجين عماد المنظومة الاجتماعية / التاريخية لعلاقات النوع من المنظور القرآني القائم على مفهوم الزوجية.
ونود هنا أن نشير إلى عدد من الملاحظات المهمة في شأن منظومة الزوجية في علاقة الرجل والمرأة:
أ. إن هذه المنظومة تعكس الحاجات والمشكلات والظروف التاريخية الممتدة امتداد البشرية لا شأن لها بمشكلات وتعقيدات وقيم عصر دون آخر. فهو تنظيم ينبع من نظرة تاريخية شمولية تتجاوز زمنًا معينًا وظرفية معينة. لقد مثلت – ولا تزال – قضية الإعالة المادية (الإنفاق) إحدى المشكلات الأساسية للمرأة في قيامها بوظيفة الإنجاب ورعاية أطفالها.
وقد حسم القرآن ذلك من منطلق توزيع الوظائف والمسئوليات وألزم الرجل بالإنفاق والإعالة بحيث صار هذا التوزيع مبدأ أساسيًا في التنظيم الاجتماعي الإسلامي لعلاقة الرجل والمرأة، بغض النظر عن الخصوصيات والاستثناءات الفردية أو الاستثناءات الجماعية لأجيال وعصور بعينها. وقد انعكس هذا التنظيم بشكل حاسم على جانب التشريع والأحكام الإسلامية.
ب. إن الرؤية القرآنية وإن أقرت هذا التوزيع للوظائف كمبدأ عام لعموم الظروف البشرية (حد أولي أو مبدئي) إلا أنها لم تفرضه كتقسيم جامد مغلق لا فكاك منه لمعرفة الخالق بتغير الواقع الاجتماعي والتاريخي للبشر كأمم وأفراد ولاحتمالات التوفيق بين الأدوار والوظائف المختلفة أو العجز عن القيام بها. ويستدل على تلك المرونة من العديد من الأحكام التطبيقية في مجال التشريع كتلك التي أجازت النفقة الطوعية للمرأة الموسرة.
ج. إن القرآن لم يلحق هذا التوزيع تراتبًا أو تمييزًا في القيمة بين المسئوليتين البيولوجية / الاجتماعية والاقتصادية / الاجتماعية في أداء وظيفة العمران. بل جعل أداء كل من الزوجين لدوره بشروطه التي دل عليها القرآن مناطًا لمنحه الصفة الإيجابية أو سلبها منه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} [الحجرات: 13].
ويبقى في ختام معالجة البعد الاجتماعي / التاريخي تساؤل مهم يتعلق بطبيعة منظومة الزوجية وهل هي منظومة معيارية أم واقعية؟.. لقد جرت العادة أن ينظر إلى البنى الدينية والعقائدية كمنظومات معيارية تعالج ما يجب أن يكون لا ما هو كائن وفق معايير مثالية.. وفي هذا الإطار اكتسبت المنظومات الفكرية المقابلة القائمة على رصد حركة الإنسان وتقنينها قيمتها الكبرى في التاريخ المعاصر باعتبارها تؤسس للحياة الإنسانية تنظيميًا وفكريًا وعلميًا وتشريعيًا وسياسيًا من داخلها وليس من أعلى. لكنها احتملت في شتى تجلياتها نواحي ضعف مهمة أبرزها الشطط والانتقائية في رصد خصائص وقواعد حركة الإنسان والتركيز على فكرة المتغير الوحيد أو الأهم التي تتنافى مع تعقيدات الوجود الإنساني. وقد مثل النظام المعرفي الغربي منذ عصر النهضة أهم تجسيدات هذا المنظور الإنسان الواقعي. وجاءت المعرفة النسوية المعاصرة كجزء من النظام المعرفي الغربي حاملة لتلك الصفات فأقامت دعائمها على التجارب التاريخية لقهر المرأة والتحيزات الذكورية للنظم الاجتماعية والمعرفية والقيمية السائدة، وحتمية الصراع بين الجنسين.
إن إمعان النظر في المنظومة القرآنية لعلاقات النوع (الزوجية) تشير إلى أن هذه المنظومة ليست معيارية – تتعلق بما يجب أن يكون – فحسب بل هي معيارية من جانب وتاريخية واقعية من جانب آخر؛ فالتكامل والتقسيم الوظيفي للأدوار نظام تاريخي اجتماعي سائد منذ عصور سحيقة في التاريخ الإنساني، وهو يستند إلى حقائق مادية واجتماعية مثل المقومات البيولوجية للمرأة، وعلاقة النوعين بالبيئة الاجتماعية الفيزيقية المحيطة (مثلًا ملاءمة القوة العضلية للرجل لأنماط الإنتاج في مجتمعات ما قبل الصناعة الحديثة).. إلخ. وفي عبارة واضحة فإن هذه المنظومة ليست مجرد أحكام نصية بل هي نمط تاريخي وواقعي.. إن المنظور القرآني لا يحمل أزمة التناقض بين المعياري والواقعي، بل هناك تناغم بين البعدين الذين يرتبطان بوشائج قوية مردها انتساب النص والواقع إلى خالق واحد، خلق سنن الكون والتاريخ والاجتماع البشري كما أنزل آيات الكتاب وأحكامه.. بل يمكن القول إن كلًا من المعياري والواقعي يتكاملان وظيفيًا في المنظور القرآني، فيصبح المعياري بمثابة دعم معنوي وإطار من القيم الضامنة والمحرضة على قيام كل من الزوجين بوظيفته على وجه أفضل وأكمل.
ورغم جمع المنظومة القرآنية بين البعدين الواقعي والمعياري فإن كلًا منهما يحتفظ بمقومات وقواعد حركته المستقلة، وهو مدار ابتلاء الناس بالطاعة. فالواقع يحتمل كثيرًا من التجاوزات الفردية والجماعية كما أن هذا الواقع بتجاوزاته يولد ثقافته ومعاييره: وقد كان التاريخ الاجتماعي العربي الإسلامي مصداقًا لذلك، فرغم نصوص وروح القرآن أنتج تاريخ المسلمين نماذج عديدة للقهر والظلم من ضمنها ما أنتجه من منظومة اجتماعية قائمة على قهر المرأة وما اقترن بها من أطر ثقافية تبرر وتشرع هذا القهر والتسلط.. وكرد فعل لذلك التاريخ وبتأثير الثقافة الغربية شهد التاريخ الإسلامي المعاصر حركة مضادة ومتمردة على مفهوم التوزيع النوعي للوظائف، تتبنى مفهوم الصراع وتنحو منحى تفكيكيًا للنظم الاجتماعية والمعرفية القائمة كأداة للتحرير.. يبقى القول: أن هذه المنظومات الحدية (ذكورية أو أنثوية) لا تملك -مهما استطال أمدها وعنفوانها- أن تحل محل المنظومة القرآنية أو تطويها (كما حاولت الثقافة الذكورية العاتية من خلال السيطرة على عمليات التفسير وإنتاج الفقه)، ذلك أن كلًا منهما يحوي في ذاته مقومات فنائه، إذ هو يقدم لمجتمع إنساني يقوم على أيديولوجية الجنس الواحد التي تستبعد أو تهمش النصف الآخر من المجتمع.. وتظل المنظومة القرآنية بتوازناتها الدقيقة مرجعًا للتقويم والإصلاح كما يقول عز من قائل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25].
البعد التنظيمي لعلاقات النوع (الزوجية) مؤسسة الأسرة كركيزة للتنظيم الاجتماعي:
تجسد إعمال مفهوم “الزوجية” (كمفهوم إنساني عام يشخص علاقات النوع) تجسدا عمليًا من خلال التنظيم الاجتماعي القائم على مؤسسة الأسرة، حيث تشكل الأسرة في المنظور الإسلامي (والديني بصفة عامة) ركيزة البنيان الاجتماعي.. في ظل تلك المؤسسة تترجم “الزوجية” من مفهوم عام إلى رابطة محددة بين أفراد معينين من خلال علاقة الزواج، كما تتجسد عمليًا مفاهيم التكامل الوظيفي والعمران والتكاثر، وتتأسس عملية توزيع أو تقسيم الوظائف الاجتماعية بين النوعين عبر منظومة محددة وملزمة من الحقوق والواجبات المترتبة على الزواج.
لقد تكفل الخالق بتوفير الدوافع الذاتية لهذا الارتباط الاجتماعي من خلال النزعات الفطرية الدافعة للاندماج كدوافع الجنس لدى النوعين / الزوجين ودوافع الأمومة، وحب الامتلاك، وحب الذرية.. إلخ. وبهذا تلتحم في بنية واحدة – هي بنية الأسرة – جماع العناصر الوجودية والتاريخية والتنظيمية والأبعاد الفيزيقية والاجتماعية والفطرية والنفسية والقيمية للخلق.. ولا غرو إذن أن احتلت منظومة الأسرة والزواج ما لها من أهمية كبرى في المنظور القرآني يمكن توضيحها في العناصر الثلاثة الأتية المستفادة من النص القرآني:
أ. إن الأسرة (ونظام الزواج) أحد أهم آليات الاندماج والترابط والتماسك في الجماعة البشرية الذي يعد أحد غايات وسنن الخالق في خلقه كما يدل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} [الحجرات: 13]، فالزواج هو آلية للتعارف والارتباط الاجتماعي ووسيلة للحد من الصراع وتناقض المصالح الناجم عن الشهوات والمطامع وحب الذات.
انعكست وظيفة “نظام الزواج” كآلية للتعارف والارتباط الاجتماعي في التقنينات القرآنية لتنظيم علاقة الزواج؛ لذلك يحرم النكاح حيثما فقد وظيفته، مثل تحريم الزواج بين الذكور والإناث من أوثق القرابات من الفروع والأصول، كنكاح الأمهات والأخوات والبنات وبنات الأخت والأخ والعمات والخالات وأمهات الرضاع وأخوات الرضاع وبنات الزوجة وزوجات الأبناء وأخوات الزوجة[1]، في حين لم يحرم ما وراء حدود تلك القرابات بما يعزز علاقات الارتباط المتباعدة أو التي تتخذ طريقها للتباعد، فحيثما انتفت حكمة التقريب والربط لوجودها الفعلي انتفت حكمة الزواج ذاته وقضي بتحريمه، وحيثما وجدت وجد وشرع. وفي نفس الإطار ولنفس غاية (دعم الترابط الاجتماعي والحد من عوامل الصراع والتفكيك والهدم) حرم السعي إلى المحصنات المرتبطات بعلاقات زواج أخرى.
إن وظيفة الزواج كآلية لدعم عناصر الارتباط والبناء والعمران الإنساني – الاجتماعي والحد من عوامل الصراع والشقاق والتفكك لتبرز في متابعة العديد من سياقات النص القرآني لعل أبرزها سورة النساء التي تبدأ بتناول أحكام الأسرة والزواج الحلال منها والمحرم (الذي يكرس الشقاق كالتطلع للمحرمات والسفاح.. إلخ) ليستتبع ذلك بسلسلة أخرى من الأحكام خارج نطاق الأسرة التي تحظر بدورها العديد من المعاملات المحرمة التي تشترك مع سابقتها من أحكام الزواجية في أثرها السلبي المحرك للعداوة والصراع والأحقاد الاجتماعية بين الناس (مثل أكل أموال الناس بالباطل والاعتداء على حقوق وممتلكات الآخرين ..إلخ).
ب. الأسرة كمحضن ملائم وأمثل لعملية التكاثر والإعمار البشري.. وهي إحدى الوظائف الأساسية للأسرة. وقد جعل الإسلام الأسرة البوتقة الاجتماعية الشرعية والمثلى لعملية التكاثر لأسباب عديدة:
أولها: أنها تضمن أن تتم عملية التكاثر في إطار منظم من الحقوق والالتزامات وفي ظل نظام معروف من الالتحاق والنسب.
وثانيها: أن مؤسسة الزواج توفر ضمانات لإتمام عملية التنشئة السوية للأجيال الجديدة وتوفر الحماية اللازمة لصغار الجنس البشري.
ثالثها: أنها تنظم عملية تقسيم المسئوليات الاجتماعية بين الزوجين للقيام بوظيفة التكاثر والاستمرار البشري على أساس ثنائية الدور البيولوجي والاقتصادي.. وقد أولى القرآن عناية بالغة بتحديد مسئولية الزوجين في عملية التنشئة سواء الدور البيولوجي / الاجتماعي للمرأة (الحمل والوضع والفصال والرضاع.. إلخ) أو الدور الاقتصادي الاجتماعي للرجل. فقد عني القرآن بشكل حاسم بتأكيد وظيفة الإعالة المادية التي يقوم بها الرجل إزاء زوجته وأسرته، وفرضها كميثاق غليظ والتزام لا فكاك منه على الرجل إزاء أسرته؛ فهو ملزم بنفقة الزواج (الصداق) والنفقة أثناء انعقاد رابطة الزوجية، وعند الطلاق (مؤخر الصداق) وفي العدة (الإنفاق على أولات الأحمال) وبعد الطلاق (المتعة وأجر الرضاعة ونفقة الحضانة)[2].
وشدد الذكر الحكيم على تأكيد حقوق المرأة إزاء زوجها في النفقة وحرمة الانتقاص من تلك الحقوق مما عده انتهاكًا لحدود الله: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [النساء: 20]. وترجمة للمسئولية الاقتصادية / الاجتماعية الملقاة على عاتق الرجال بالسعي والجهد للإنفاق وتوفير القاعدة المادية للحياة الاجتماعية يتسع تكليفهم بالإنفاق إلى إطار أوسع من الزوجة ليشمل التزام الأب تجاه أبنائه حتى بلوغهم، وإعالة الأمهات والأخوات والآباء القاعدين عن الكسب. بل لقد جعل هذا الدور مسوغًا لأحكام خاصة يختص بها الرجل مثل جواز تعدد الزوجات، فنجد أن النص القرآني قد جعل من توسيع مظلة الإنفاق والإعالة على ذوات الفاقة من النساء اليتيمات أو العائلات لليتامى مسوغًا لرخصة تعدد الزوجات. لقد جاء ذكر التعدد في سياق تناول أشد حالات الفاقة والاحتياج من جانب النساء اللاتي فقدن مصادر الإعالة الطبيعية (الزوج أو الأب).. ويبدو من منطوق الآية الكريمة في سورة النساء وكأن التعدد رهن بحالة إغاثة تلك الفئات، إذ يمثل الزواج آنذاك إطارًا شرعيًا للنفقة والإعالة بصورة تتسم بالاستدامة والإلزام بدل الإحسان والتصدق الذي لا يكون ملزمًا {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} [النساء: 3].
ج. الزواج كآلية لتنظيم إشباع الغرائز الطبيعية: خلق الله الإنسان مجبولًا على العديد من الغرائز الفطرية المتصلة باحتياجاته الجسدية أو النفسية، وعني الخطاب الديني بتنظيم تلك الغرائز -التي جُعلت من أشد ابتلاءات البشر- من خلال توجيهها إلى أطر معينة للإشباع بما يعظم من وظائفها الإيجابية (مثل الإعمار والترابط والتماسك) ويقلل من عواقبها السلبية مثل الصراع والهدم والتفكيك.. ومن أهم وأخطر تلك الغرائز الفطرية غريزة الجنس المتوطنة في الذكر والأنثى على حد سواء. لقد جعلت الغريزة الجنسية من أهم العوامل الذاتية الدافعة للارتباط بين الذكور والإناث. لكن المنظومة القرآنية ربطت بين قضاء هذه الغريزة والعديد من القيم والوظائف الاجتماعية مثل رهنها ببناء وحدة ارتباطية في المجتمع بما يؤمن مسئوليات محددة لأطرافها ويضمن حقوق تلك الأطراف ومستقبل النشء الناتج عن تلك العلاقة. بهذا جُعلت الأسرة هي الإطار المشروع الوحيد لغريزة الجنس لأنها وحدها التي تحقق مفهوم الممارسة الجنسية المسئولة اجتماعيًا وقانونيًا وأخلاقيًا وماديًا وتناسب الدور الخلافي للإنسان وتتفق وكونيته.
أثارت التشريعات القرآنية المتعلقة بمؤسسة الزواج، خاصة ما يتعلق باختلاف الأحكام والرخص والعزائم بين الرجال والنساء، أثارت العديد من التفسيرات النظرية التي قامت على مقولة التفرقة بين طبيعة النزعة الجنسية لدى الرجال والنساء. ومن أبرزها ذلك الرأي القائل بقوة النزعة الجنسية لدى الرجال بما يفسر أحكامًا مثل تعدد الزوجات وغيرها.. والواقع أنه رغم تطور العلوم فإنه ليبدو من الصعوبة بمكان الاحتكام إلى نتائج البحوث العلمية بشكل مطلق في هذا الصدد، فقد شهد العقدان الأخيران تضاربًا في النتائج المنشورة للبحوث العلمية التي بدت كأنها أصبحت مطية لمختلف القوى والاتجاهات الأيديولوجية الصاعدة، مثل النسوية الراديكالية التي تنفي وجود اتجاهات ثقافية أصيلة متمايزة على أساس التمايز البيولوجي الطبيعي لدى الجنسين، أو المثلية التي تميز بين الجنس والهوية الجنسية. وقد أفرز ذلك التسييس والتوظيف للعلم كثيرًا من اللبس الذي يحول دون الاطمئنان إلى أداة حديثة كالبحوث النفسية للجنسين في تفسير وفهم المعالجة القرآنية لبعض قضايا النوع. إزاء هذه المشكلة تبدو قراءة المنطق الداخلي للنص القرآني هي المدخل الأمثل؛ من الواضح أن النص القرآني يميز في تقديره بين دوافع (الزوجين / النوعين) للزواج: فهو يقر ضمنًا ومفهومًا بثقل كبير للعامل الجنسي عند الرجل كدافع للارتباط الزواجي، ويجعل هذا العامل من أهم الحقوق التي يحصل عليها الرجال من العلاقة الزواجية إذا نظرنا إليها كعقد للتبادل الاجتماعي {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً.. إلى آخر الآية} [النساء: 24] لكن الأمر من وجهة نظر الطرف الثاني في العقد يبدو جد مختلف وأكثر تعقيدًا؛ فالمرأة تنشد من العلاقة الزواجية إشباع جملة من الدوافع لا تمثل الغريزة الجنسية سوى إحداها، وقد عبَر القرآن الكريم عن مركب دوافع المرأة من وراء العلاقة الزواجية بمفهوم “الإحصان”. فالإحصان مفهوم يشير بمعناه العام إلى الحماية، ولا يعني ذلك فحسب الحماية الخارجية أو المفروضة من الخارج (مثل وجود إطار قانوني كالحرية القانونية – عكس الرق – أو الزواج وهما بعض دلالات الإحصان)[3] بل بدرجة أكبر توفر الحصانة الداخلية النفسية والأخلاقية للمرأة الموجبة للعفة كمعنى آخر مهم للإحصان. والإحصان بهذا المعنى هو أهم ما تحصل عليه المرأة وتنشده من علاقة الزواج ويتمثل في تأمين جملة الاحتياجات الغريزية والعاطفية والنفسية والمادية والاجتماعية للمرأة بما يحقق لها في النهاية معنى الإحصان. ويرتب هذا الاعتبار لدوافع الأنثى من الزواج نتائج مهمة على طبيعة التعاقد، فافتقاد المرأة لأي من تلك الحقوق كعجز الزوج عن الوفاء بواجباته، أو تغطيته احتياجاتها المادية الأساسية، أو اعتدائه على كرامتها إنما يخل بجوهر مفهوم الإحصان للمرأة وبحكمة الزواج لديها.. ولهذا فقد شدد القرآن الكريم على جملة من الحقوق النفسية والمادية للمرأة بحقها في ضمان الإنفاق عليها وعلى أسرتها الذي جعله إلزامًا مشددًا على الرجال {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} وينتهي بحقوقها المعنوية في حسن المعاشرة والمعاملة والعدل والإحسان والمعروف والمودة والسكن والرحمة. وقد شدد القرآن بدوره على تلك الحقوق التي توفي باحتياجات المرأة العاطفية الأساسية فجعلها في كثير من الآيات مناطًا للتقوى والفلاح في الآخرة. إن الزواج من الجانب التنظيمي يبدو عقدًا اجتماعيًا يستهدف تبادل ما يحتاجه الزوجان من الطرف الآخر بصورة تتسم بالشرعية والمسئولية.
لقد نظر القرآن للأسرة بوصفها ركيزة البناء الاجتماعي، وهي جماع تحقيق العديد من القيم والفضائل والوظائف الإسلامية على المستوى العملي لحياة الفرد والجماعة.. من هذا المنطلق أولى النص القرآني الأسرة عناية بالغة وخصها بجانب كبير من حمايته من خلال الكثير من الأحكام التفصيلية المتعلقة بجوانب التشريع والسلوك والأخلاق بما يحسن الإشارة إليه سريعًا:
– على الجانب التشريعي شدد القرآن على عدم التسرع في الطلاق ومواجهة عناصر الشقاق ومحاولة رأب الصدع بين الزوجين بكل الوسائل، بدءًا من مقاومة عوامل النفور النفسي الطارئة إلى مواجهة الخلافات الموضوعية بالاستعانة بمحكمين بما يعطي فرصًا لاستمرار الأسرة إذا خلصت النوايا وانتهاء بفرض أعباء مالية على الطرف الراغب في حل رابطة الزوجية كنفقات الطلاق المتعددة على الرجل والفداء على المرأة. بيد أن القرآن الكريم لم يصل تكريهه لنقض عرى البناء الأسري إلى حد التحريم والمنع لعلمه أن الطلاق يصير الحل الأفضل إذا استحكمت أسباب الشقاق وعوامل النفور.. من جوانب الحماية التشريعية أيضًا فرض عقوبات رادعة على العديد من السلوكيات الهادمة للزواج مثل الزنى ورمي المحصنات. فقد حرم التشريع القرآني بشدة العلاقات الموازية للزواج وتكوين الأسر مثل الزنا بوصفه نكاحًا خارج الإطار الشرعي بما يحمل من وفاء غير مسئول باحتياجات الغريزة تضيع معه حقوق أطراف أساسية في علاقة النكاح كالمرأة والطفل، وما ينطوي عليه من تغييب للبيئة الصالحة للتنشئة وضياع للأنساب، وافتقاد للوظيفة الاجتماعية للعلاقة بين الرجل والمرأة في دعم التماسك الاجتماعي من خلال علاقات النسب والصهر وما يثيره من أسباب التفكك والانحلال والهدم؛ يقول تعالى {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]. لكل ما سبق فرض التشريع القرآني عقوبات رادعة على علاقات المسافحة والزنا؛ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِين} [النور: 2]. من وسائل الحماية التشريعية الرادعة للأسرة تصدي الشارع للشائعات التي قد تحطم روابط الزواج بغير أدلة بما يجعل هذه المؤسسة بمنأى عن اللغو والعبث. وفي هذا الإطار جاءت العقوبة المشددة على رمي المحصنات[4]، والإجراءات الخاصة بالادعاء بالزنا بين الزوجين[5].
– على مستوى الآداب والسلوكيات حفلت الآيات القرآنية بطائفة من التوجيهات السلوكية المباشرة والتفصيلية لدفع الأذى عن الأسرة وإبعاد عوامل الهدم من خارجها وداخلها؛ من بين تلك الوصايا ما يحمي خصوصية الأسرة مثل جعل البيوت من الحرمات التي لا يجوز انتهاكها أو الاعتداء عليها[6]، وتأكيد معايير التزكية والفضيلة والعفاف من خلال دمجها في آداب السلوك اليومي والعام للرجال والنساء على حد سواء، مثل غض البصر وحفظ الفروج والحشمة وستر العورات والامتناع عن سلوك ينطوي على معنى الغواية، والتعفف لمن لا يجد نكاحًا.. إلخ؛ يقول تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] ويقول {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ.. حتى قوله تعالى – وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [النور: 31]. وامتدت العناية إلى بيان قواعد تزكية السلوك داخل حدود البيت وهو البيئة المكانية لعلاقات الأسرة مثل وضع الثياب واستئذان الخدم والأبناء قبل الدخول على الآباء في أوقات معلومة.. إلخ[7].
قضايا مهمة في مسألة النوع
يثير موضوع النوع في الدراسات المعاصرة العديد من المشكلات والقضايا المهمة، وقد عني البحث بتقصي موقف القرآن الكريم من ثلاث قضايا مهمة في هذا المجال هي: قضية المساواة والتمييز بين الزوجين / النوعين. ثم قضية التشكل الاجتماعي لعلاقات النوع. وأخيرًا نظرية التغيير في وضع المرأة ما بين مفهومي التحرير والإصلاح.
أولًا: قضية المساواة /التمييز بين الزوجين:
يمكن تلخيص رؤية القرآن الكريم في قضية المساواة / التمييز في شقين مترابطين:
أ. المساواة الكاملة في الدور والطبيعة الإنسانية والتكليف الوجودي (الأمانة والحساب والثواب والعقاب) أي التسوية في جوهر وغاية الوجود في المنظور الإسلامي..
ب. نظام من الاختلاف الجزئي والتوازن الإجمالي في الأدوار والحقوق الاجتماعية.
أ. المساواة الكاملة في الدور والطبيعة الإنسانية والتكليف الوجودي:
تنبع المساواة في الوضع الإنساني للزوجين -كما سبقت الإشارة – من وحدة النفس والأصل بين الخلق ومن واحدية التكليف والمهمة الإنسانية، ويشكل هذان العنصران معًا الأرضية الصلبة للتسوية النوعية في الإسلام.. لقد عبر القرآن بلا أدنى تمييز أو استثناء عن تلك المساواة على المستوى الوجودي في كل مراحله وأبعاده ابتداء من الأصل والنشأة {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 38 – 36]، مرورًا بالمهمة الإنسانية في الاختيار بين الكفر والإيمان، بين الشر والخير، وبين الله والشيطان وما يستتبعها من جزاء منتظر في الآخرة؛ يقول تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، ويقول {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم، يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَاب} [الحديد: 12-13]
عند هذا المستوى من المعالجة يحسن الإشارة لبعض قضايا عرضية أثارتها بعض الدراسات المعنية بقضية النوع كشبهات تتعلق بالتمييز القرآني ضد الإناث من الخلق.. من تلك الشبهات اللهجة الغاضبة والاستنكار الشديد الذي يتناول به القرآن الكريم أقاويل بعض الأقوام من الكافرين بأن الملائكة كانوا إناثًا في حين خصوا أنفسهم بالذكور؛ من ذلك قوله تعالى (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا) [الإسراء: 40]، وقوله {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 19 – 22] إن هذا النفي الغاضب والمتكرر يمكن فهمه خارج إطار الحساسية المفرطة للنزعة النسوية المعاصرة بتحليل أكثر موضوعية وأصالة للسياق القرآني.. فالنفي والاستنكار لا يدل على إهانة للأنوثة وإعلاء للذكورة قدر ما يشير إلى إعلاء واستمساك بقيمة عليا في المنظور الإسلامي هي الحق.. والحق في التحليل القرآني قد يشير إلى العدل في تخصيص القيم، ولكنه يشير في بعض استخدامه القرآني إلى معنى آخر هو “الحقيقة”. ويجيء استنكار القرآن لهذه الادعاءات (من جانب بعض الأقوام) التي بلغت في رواجها حد الأسطورة تأكيدًا واستمساكًا من القرآن بالحقيقة التي مؤداها أن الملائكة هم كائنات لا نوعية، ومن ثم فهي تأكيد لرفض أن يصبح الملأ الأعلى مجالًا لادعاءات وأهواء وظنون بشرية لا أساس لها من الحقيقة عند الخالق. وقد صرح الذكر القرآني في عديد من المواضع أن أساس رفضه واستنكاره إنما يجيء تمسكًا بالحقيقة؛ يقول في سورة النجم {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، وفي آية أخرى يقول {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنثَى، وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 27 – 28]، ومما يؤكد أسباب هذا الموقف القرآني من قضية طبيعة الملائكة ما نلاحظه في القرآن الكريم من موقف أشد وإنكار أعظم بشأن دعاوى أخرى لأقوام آخرين حول اتخاذ الله تعالى ولدًا. فهذا الادعاء الجسيم لا يصب فحسب في حقيقة الملأ الأعلى بل يمس حقيقة الذات الإلهية في وحدتها وكمالها. يقول {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا، أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا، وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا، إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:88-93]، فالقرآن في الحالتين إنما يدافع عن حقائق الغيب الكبرى التي لا ينبغي العبث بها وأخذها بالظن لأنها من جوهر الإيمان.. وهنا ينبغي الإشارة إلى قضية مهمة في المنهج مؤداها أن قراءة وفهم قضية النوع – وأي قضية أخرى – في إطار القرآن لا ينبغي أن تتم في إطار مقيد باقترابات ومفاهيم النوع، وإنما في إطار مفاهيم وإبستومولوجية القرآن ذاته التي تتجاوز النوع وغيره من القضايا الفرعية إلى منظومة أشمل تقودها مفاهيم عليا كالتوحيد والإيمان والعدل والحق.
يرتبط بموضوع المساواة الإنسانية شبهة أخرى تتعلق بمستوى آخر من مستويات الغيب هي قضية آدم وزوجه وإثم المعصية الأولى.. وبشكل مبدئي تتميز المعالجة القرآنية عن المعالجات الدينية السابقة في جوانب عدة منها: أن القرآن لم يجعل من مخالفة آدم وزوجه أوامر الخالق خطيئة بل معصية استحقت المغفرة عند صدق التوبة وذلك وفقًا للمعايير الإسلامية الخاصة بالكبائر والصغائر. الأمر الثاني وهو ما يعنينا في هذا المقام أن المعالجة القرآنية لم تلق بتبعة الغواية على عاتق زوج آدم بل على عاتق الشيطان مباشرة أما آدم وحواء فيتحملان وزر المعصية {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين} [البقرة: 36]، بل أن الآيات القرآنية قد حملت آدم المسئولية الأكبر في المعصية، حيث أغواه الشيطان بإثارة شهوته ومطامعه البشرية في الخلود والملك من وراء خالقه، وربما حملته الآيات مسئولية تشجيع زوجه على متابعته، فكان ذنبه أعظم دون أن يبرئها ذلك من مسئولية فعلها؛ يقول تعالى في سورة طه {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى، فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 120-121] فمعصية آدم التي بدأت باشتهاء الملك والخلد إثر وسوسة الشيطان وبفعل المعصية إنما تفوق معصية الفعل من زوجه ولعل هذا سر ندمه الأكبر ومسعاه الأشد في التوبة {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم} [البقرة: 37].
ب. منظومة التمايز (الاختلاف) الجزئي والتكافؤ الإجمالي في الحقوق والأدوار الاجتماعية:
إذا كان القرآن يقر مفهوم المساواة الكاملة في الدور الإنساني التكليفي لكلا الزوجين باعتبار هذا الدور (الابتلاء الدنيوي والحساب الأخروي) هو الدور الإنساني الأصلي والجوهري، فإن الوجود العرضي للإنسان في مسرح الابتلاء -متمثلًا واقعه النوعي والزماني والمكاني- يختلف ويتباين.. وفي حدود قضية النوع فإن منظومة الحقوق والواجبات والأدوار تتحدد في إطار توزيع الأدوار بين الزوجين على أساس تحمل الرجل مسئولية الإنفاق المادي في مقابل تحمل المرأة مسئولية الإنجاب البيولوجي كمسؤوليات أساسية تمثل الحد الأدنى الذي لا يجُب ما فوقه من مسئوليات اجتماعية أخرى. في إطار هذا التوزيع القاعدي والمبدئي للأدوار فإن الرؤية القرآنية تبتعد عن مفهوم المساواة القائم على التسويات والمشابهات الجزئية المباشرة في آحاد ومفردات الأدوار والحقوق والذي يقوم عليه الفكر الغربي المعاصر للمساواة، وإنما تصبح المساواة والتوازن هي المحصلة النهائية لمعادلة المسئوليات والحقوق الموزعة بين الزوجين… يتجلى المفهوم القرآني هذا في منظومته الحقوقية التي تقوم على قاعدتين أولهما: أن كل حق يمنح لطرف يقابله التزام، والثاني: أن كل مزية أو مكنة حقوقية ممنوحة لأحد الطرفين يقابلها ويوازيها مزية ومكنة للطرف الآخر، بحيث تصبح المساواة هي المحصلة الإجمالية للمنظومة الحقوقية وليست قاعدة توزيع الالتزامات والحقوق الجزئية.
في حقوق الأسرة:
يعرف الفقهاء الزواج في أثره المادي أنه “امتلاك بضع المرأة”، بمعنى أن عقد الزواج يرتب أن تصبح حقوق العلاقة الزوجية مقصورة على رجل بعينه وما يستتبع ذلك من ثبوت النسب له. في مقابل هذا الحق يترتب للمرأة حقوق مادية هي التزامات مقابلة على الرجل بالإنفاق عليها وعلى ولدها منه بدءًا من الصداق ومرورًا بنفقة الزوجية بخلاف حقوقها المعنوية في السكن والمودة والمعاشرة بالمعروف.
وإذا كان انعقاد الزواج وليد إرادة مشتركة بين الطرفين، فإن الأصل في تحديد مصير العلاقة الزواجية أيضًا أن يكون وليد الإرادة المشتركة، وعلى ذلك فإنه إذا مارس أي طرف إرادته المفردة من جانب واحد فعليه أن يتحمل ثمن قراره ويمنح الطرف الشريك التعويض المناسب؛ فإذا تم حل عقدة الزواج بمبادرة وإرادة منفردة من الرجل فعليه أن يتحمل دفع التزامات الطلاق للمرأة، أما إذا كان ابتدارًا من المرأة من خلال الفداء (وهو حق منصوص عليه في القرآن وأوضحته السنة بشكل عملي في وقائع المخالعة) فعلى المرأة بدورها أن تدفع ثمن قرارها لشريكها.. ومرة أخرى يتأكد التعادل والموازنة بين الزوجين في مسألة مهمة هي الربط الشرطي والعضوي بين البعدين المادي والمعنوي، الشكلي والقيمي للتصرفات في العلاقة الزواجية والأسرية، بحيث لا يصلح ممارسة الجانب المادي مجردًا عن بعده المعنوي وإلا فقد التصرف صحته وشرعيته. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد ربط القرآن المراجعة والإمساك خلال العدة بالمعروف والنهي عن قصد الضرر، ووصف الله تعالى هذا التصرف حين يفتقد بعده المعنوي بالاعتداء والظلم واتخاذ آيات الله هزوا.. وفي إطار هذا الربط جاء الأمر بالتقوى وعدم الإعضال لمنع زواج المطلقة[8].
إن المفارقة بين المنظورين الكلي والجزئي في مجال الحقوق تتجلى في قضية مهمة هي قضية الإرث، فبينما ينظر أنصار المنظور الجزئي في الحقوق إلى التشريع الإسلامي في الإرث باعتباره تمييزًا لصالح الرجل فإن أصحاب المنظور النسقي الإجمالي في الحقوق يرون العكس في إطار منظومة لا تضع الحقوق وحدها على كفة الميزان بل تضم إليها الالتزامات لإيجاد مقياس صحيح؛ إن تميز الرجل في نصيبه من الإرث (له مثل حظ الأنثيين في الإرث من الوالدين والنصف في مقابل الربع في إرث الزوجية) لا يعتبر ميزة في ظل مسئوليته غير المتهاوَن فيها بالإنفاق على زوجه وأبنائه (ووالديه وإخوته عند الحاجة) في حين يعتبر إرث المرأة حقًا خالصًا لها لا يداخله التزام تجاه الآخرين.
هذا التفكير النسقي الذي يقيم اعتبار المساواة كمحصلة نهائية لمنظومة الحقوق والواجبات، الأخذ والعطاء، المدخلات والمخرجات يبدو ناجعًا في فهم وتفسير قضايا أخرى معضلة مثل قضية النشوز. إن النشوز كقضية لا يمكن فهمها إلا في إطار نسق أكبر هي جزء منه، وهي المنظومة الخاصة بمواجهة عوامل تصدع الأسرة وانهيارها.
إشكال النشوز في منظومة الزوجية:
قدم القرآن الكريم في إطار عنايته بالأسرة منظومة كاملة لمعالجة أسباب انهيار هذه المؤسسة المحورية في بناء الجماعة. تقع هذه المنظومة في إطار مبدأ عام هو كراهة مبدأ الطلاق – دون تحريمه – ليصبح حلًا أخيرًا حين تستحيل العشرة الزواجية على شروطها الدينية – الإنسانية وأهمها السكن والمعروف.. وتعتمد منظومة القرآن على مواجهة أسباب الشقاق المختلفة التي تندرج في ثلاثة مستويات:
– الأسباب الذاتية: وأهمها العوامل النفسية التي تخص أحد الطرفين وتؤدي إلى النفور من الطرف الآخر وكراهيته. ولم يقلل القرآن الكريم من قدرها كما فعلت العديد من التشريعات الوضعية بمنهجها الشكلي التعسفي، وذلك لعلمه تعالى بنفس الإنسان ودخائله. ولكن نصح الباري المؤمنين بمقاومة أسباب ومشاعر الكره والنفور الداخلي والعمل على علاج أسبابها إبقاءً على عرى الأسرة، وحفَز المؤمنين على مواجهة ذلك {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. وكذا فعل الرسول (وقائع شكوى زينب بنت جحش من مشاعرها وحياتها مع زيد بن حارثة، وواقعة المخالعة المعروفة من زوجة ثابت بن قيس).. لكن القرآن والسنة النبوية قبلا عند استحكام الأمر أن يسعى الطرف المتضرر إلى الطلاق خلاصًا من حياة زوجية تحمل كثيرًا من المعاناة التي قد تؤدي إلى انتهاك حدود الله. بيد أن السعي المنفرد من قبل أحد طرفي علاقة الزواج إلى إنهاء هذه العلاقة دون ذنب من الطرف الآخر يجب أن يقترن بتعويض عادل يدفعه هذا الطرف لشريكه المضار (نفقة المتعة من الرجل، والفداء من المرأة المختلعة)[9].
– الخلافات الموضوعية: وقد تصدى القرآن الكريم لسبل مواجهتها وحلها في الآية الخامسة والثلاثين من سورة النساء {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}، وفيه يحتكم الطرفان إلى طرف أعلى وأكثر موضوعية وحرصًا عليهما لإنقاذ حياتهما الزوجية من الانهيار.
– النشوز: ويعد مفهوم النشوز من أخطر المعضلات في البحوث الخاصة بوضع المرأة في تشريعات الأسرة، لأنه يرتب أقسى حكم يخص المرأة هو التوجيه بالضرب، بل إنه يُعد حُكمًا فريدًا من نوعه لم يَرِد مثيله في القرآن لأي من صنوف العاصين. ويتسم مفهوم النشوز الذي يرتب هذا الحكم بالغموض، فالمصادر اللغوية غير مفيدة في تحديد المفهوم لاتساعه (النشز هو ما ارتفع من الأرض ويقال نشز وينشز إذا كان قاعدًا فنهض قائمًا)[10] أما المفهوم الذي يقدمه المفسرون فيتسم بدوره من ناحية بالضيق الناجم عن الانحياز، ومن ناحية أخرى بالاختلاف حول مدلوله؛ يقول القرطبي نشزت المرأة أي استصعبت على بعلها ونشز بعلها عليها إذا ضربها وجفاها. ويورد ابن كثير عن عبد الرحمن بن عوف النشوز مرادفًا للكراهية والنفور قائلًا إن المرأة الناشز هي “المرتفعة على زوجها التاركة لأمره المعرضة عنه المبغضة له[11]. في حين ينقل القرطبي عن المهلب النشوز كونه النفور الجنسي “إنما جوز ضرب النساء من أجل امتناعهن على أزواجهن في المباضعة واختلف في وجوب ضربها في الخدمة، والقياس يوجب أنه إذا جاز ضربها في المباضعة جاز ضربها في الخدمة الواجبة للزوج عليها بالمعروف”[12]. والواقع أن هذه الاجتهادات الخلافية – بخلاف انحيازاتها الثقافية البارزة – يعتورها عدة أمور على رأسها أن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام لا تؤيد أيا من تلك التفسيرات، وقد شهدت علاقاته مع أزواجه ما يجاوز تلك الحدود من الخلافات الزوجية إلا أنه لم يلجأ إلى الضرب مطلقَا مما يستبعد تفسير النشوز بالطاعة والمعصية بين الزوجين أو النفور الوقتي. إن البديل الأمثل أمامنا كباحثات ساعيات لمعرفة أمور ديننا في مسائل شديدة الخطورة لنا كنساء هو الرجوع إلى الكتاب ذاته؛ لقد ورد ما يخص نشوز المرأة في آية 34 من سورة النساء المعروفة بآية القوامة، ورد في معرض المقابلة بين صنفين من النساء هن “الصالحات” و”الناشزات”. وهذه المقابلة ذاتها تدل على معنى النشوز، إذ يصير في هذه الحالة مقابلًا للصلاح ومرادفًا للفساد، فكأن الناشزات هن المرادف للفاسدات.. ويصبح تعريف الناشزات هو عكس ما ورد من تعريف في الآية للصالحات. وتعرف الآية الكريمة الصالحات بأنهن: القانتات، الحافظات للغيب بما حفظ الله.. أما الحافظات للغيب ما حفظ الله فلا خلاف على معناها “من صيانة ما ينبغي صونه في غيبة أزواجهن من عرض ومال وولد”. وأما القانتات فتثير لبسًا في التفسير، غير أن تفسيرها يعد محوريًا في تحديد معنى النشوز بتفسيره الضيق (عدم طاعة المرأة لزوجها) حيث اتجه كثير من المفسرين إلى تفسير القانتات بأنهن “الطائعات لأزواجهن”. لكن الاستخدام القرآني للكلمة – مرة أخرى – لا يؤيد هذا الاتجاه التفسيري؛ لقد ورد لفظ القنوت ثلاث عشرة مرة في القرآن الكريم ودل في الأغلب الأعم على معنى شدة الخضوع والانقياد لله والمداومة عليه، حتي ليبدو أن استخدام هذا اللفظ معممًا – دون تخصيص – إنما يخص المقامات العليا من الإيمان والخضوع للخالق تعالى وحده، ولم يشرك البيان القرآني أحدًا في القنوت لله سوى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر مرات محدودة في تخصيص نادر لوجهة القنوت على سبيل الاستثناء. ويورد لسان العرب في معنى القنوت كلفظ عام: الخشوع والإقرار بالعبودية والقيام بالطاعة التي ليس معها معصية وقيل القيام[13]. كلها حالات تخص الخالق الواحد.
بناء على التعريف القرآني السابق لمعنى الصلاح المقابل للنشوز فإن النشوز يعرف بالمقابلة بأنه الفساد والخروج عن طاعة الله، وخيانة الزوج بالغيب فيما أمر الله به من حفظ للمال والعرض والولد. وهنا فإن {اللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} إنما تدل حسب هذا التعريف على اللاتي تخشى خيانتهن، أي أنها تنصرف بعبارة أخرى إلى مقدمات الخيانة للزوج في ماله وعرضه وولده في إطار استمرار العلاقة الزوجية دون إثارة من الزوجة لطلب الانفصال أو أخذ على الزوج ما يسبب الشقاق.. هي تدل إذن على حالة من الشذوذ والاعتداء الخطير من الزوجة على أسس الحياة الأسرية. ولعل هذا المعنى ما دل عليه الرسول عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع قوله في صحيح مسلم «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربًا غير مبرح… وعلى هذا يحمل ما رواه الترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ وقال ألا واستوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربًا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا ألا وإن لكم على نسائكم حقًا ولنسائكم عليكم حقًا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون، إلا وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن. قال هذا حديث حسن”([14]). وتتدرج إجراءات مواجهة هذا النشوز بتدرج الانغماس في الفعل (مقدمات الخيانة الزوجية) ليصبح الضرب غير المبرح هو الإجراء الأخير الرادع عن الانتقال إلى سقف الزنا وما ينطوي عليه من انتهاك صارخ لشرع الله وهدم للحياة الزوجية من خلال إثبات الزنا وإجراءات اللعان المعروفة. في إطار هذه الرؤية السياقية وعلى هذا النحو يمكن التعامل مع العديد من الأحكام القرآنية التي لا يمكن تفسيرها بمعزل عن كل المنظومة.
في المحصلة فقد أجمل القرآن الكريم قاعدته التشريعية النوعية في ختام مجموعة الآيات التي تناولت العلاقة بين النساء والرجال في سورة البقرة (الآيات من 220 إلى 242)؛ فبعد مجموعة من الأحكام (شرعت عدم جواز نكاح المسلمين بالمشركات والمسلمات بالمشركين، وبرأت النساء من النجاسة بالإشارة إلى الحيض، وفرضت حدودًا معينة في المعاشرة الزوجية كالإتيان من مواضع أقرها الله والتقديم لأنفسهم وتقوى الله في النساء، والتربص بعد الطلاق) أجمل البيان قاعدته القانونية العليا في العلاقة النوعية بين النساء والرجال بقوله {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيم} [البقرة: 228]. والقاعدة هذه تتكون من شقين، أولهما:التسوية في ميزان الالتزامات والحقوق بين الزوجين في علاقتهما الزواجية. والشق الثاني هو “المعروف” إشارة إلى الجانب المعنوي الأساسي في علاقة الزواج كبعد جوهري في هذه العلاقة***. الوجه المقابل للقاعدة هو الاستثناء المشار إليه بتميز الرجال عن النساء بدرجة واحدة لم يحددها النص القرآني. وقد اختلف الفقهاء في تحديدها إلا أنها مالوا إلى جعلها ليس مجرد درجة بل منظومة كاملة من الميزات تحت مقولة درجة القوامة التي قلبت قاعدة المساواة إلى قاعدة للتمييز، بيد أن السياق العام للآيات التي تشرع لقواعد الفرقة بين الزوجين ليشير إلى جزئية هذه الدرجة متمثلة في حق الرجل في إعمال الطلاق والمراجعة.. والله أعلم..
ومن العرض السابق يتجلى أن المنظومة الحقوقية للأسرة كما ينص عليها القرآن الكريم لا تحمل للعلاقات النوعية بين النساء والرجال من حيث ظاهر أو إمكانات النص التفسيرية معضلات جوهرية، وهي تدعم وضع المرأة كشريك فاعل وذي كرامة في الأسرة. بيد أن هذه المنظومة تتطلب جهدًا حقيقيًا وحثيثًا في الفقه والتفسير والاستنباط يتعين أن تسهم فيه المرأة بدور أساسي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المقالة كاملة منشورة في:
أماني صالح (2002). قضية النوع في القرآن: منظومة الزوجية بين قطبي الجندر والقوامة. المرأة والحضارة. ع. 3. ص ص. 17- 53.
** أستاذ العلوم السياسية بجامعة مصر الدولية .. ورئيس مجلس إدارة جمعية دراسات المرأة والحضارة.
[1] Gould, Carol c. (ed), Gender (Atlantic Highlands, NJ.: Humanities Press International, 1997), pp xvii-xviii.
[2] Linda Alcoff, Cultural Feminism versus Post structuralism: The Identity Crisis in Feminist Theory, in Signs, Spring 1988, p 415, p 416.
[3] انظر: فازة بن حديد، التنمية والنوع الاجتماعي: اطار نظري وعملي، ورقة مقدمة إلى الملتقى الدولية حول السكان والصحة الإنجابية وقضايا النوع الاجتماعي من منظور إسلامي (القاهرة: من 18 إلى 20 أكتوبر 2000) ص20.
[4] سورة الإخلاص.
[5] انظر الآية 23 من سورة النساء.
[6] للتعرف على تلك الأحكام والفروض انظر سورة الطلاق.
[7] انظر في التفسيرات المختلفة معاني الإحصان المتعددة الواردة في الآيتين 24 و25 من سورة النساء.
[8] النور: 23-24.
[9] النور: 6- 8.
[10] النور: 17- 18.
[11] النور، الآيات 58، 60، 61 من سورة البقرة.
[12] انظر الآيات 230 – 231 من سورة البقرة.
[13] انظر الآيات 229 – 231 من سورة البقرة.
[14] تفسير القرطبي، الجزء الخامس، ص171.
*** يمكن للقارئ الرجوع في هذا الموضوع إلى مقال هند مصطفى، الفضاء المعنوي لعلاقة الزوجية في القرآن الكريم.