الموضة وتنميط الجمال الإنساني

الموضة وتنميط الجمال الإنساني

أ. يارا عبد الجواد*

المقدمة

لقد شهد التاريخ الإنساني بمختلف مراحله تباينا بين المجتمعات بل حتى داخل المجتمع الواحد في تصوراته عن الجمال وفي التعبير عنه، وفي هذا الإطار اختلفت الأذواق وتنوعت، وتجلى هذا التنوع في مساحات عديدة لعل من أهمها ما يختص بالأزياء، نظرا لكون الزي هو الواجهة التي يظهر بها الإنسان وبه يعبر عن ذوقه  الجمالي الخاص، بل والأهم من ذلك أنه يعكس هويته بشكل أو بآخر نظرا لارتباط الزي بالقيم الأخلاقية والأعراف الاجتماعية، ومن ثم يعتبر عاكسا بدوره لخصوصية ثقافية وحضارية معينة، وعلى الرغم من هذه الحقيقة المتجلية عبر التاريخ إلا أن العصر الحديث بحملاته الاستعمارية وغزوه الثقافي حمل للإنسان مفاجآت جديدة فيما يخص هذا المكون الثقافي الهام، ليجد الإنسان نفسه أمام موجة من الهيمنة الثقافية يقودها الإنسان الغربي ترسم للعالم أجمع معاييرا موحدة للجمال وتشكل مزاجه الثقافي، بل وتصطدم بقيمه الأخلاقية والاجتماعية في ظل عملية تنميط وتوحيد استخدمت فيها آليات مختلفة لتطفو على السطح ظاهرة الموضة، وهى وإن كانت تطول مجالات عديدة في الحياة إلا أننا سنسلط الضوء في هذا المقال على موضة الأزياء لننظر في ماهيتها ونسعى للإجابة على مجموعة من الأسئلة التي تتعلق بتطورها التاريخي وخصائصها واصطدامها بالقيم الإنسانية المشتركة بل والخصوصيات الحضارية، وذلك في ظل الإمبريالية الثقافية التي حملها الغرب للعالم ومازالت تجلياتها مستمرة.

1- نشأة ظاهرة الموضة وتطورها التاريخى

يقول جيل ليبوفتسكى الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسى -على عكس ما يظنه الكثيرون من أن الموضة ظاهرة مجتمعية قديمة صاحبت جميع المجتمعات- ” أنه طوال الجزء الأكبر من تاريخ الإنسانية عاشت المجتمعات دون أن تعرف الألعاب المتقلبة للأهواء الطائشة، فمجتمعات الأسلاف قد فرضت قاعدة الثبات في كل مكان، وتكرارية النماذج الموروثة من الماضي والمحافظة المتزمتة في الكيفية التي يكون عليها الأفراد وكيف يكون مظهرهم”، وفي هذا السياق يؤكد جيل لبيوتفسكى في كتابه “مملكة الموضة” أن الموضة لم تكن مصاحبة لكل العصور ولا تواجدت في كل الحضارات، وإنما هي جاءت كظاهرة استثنائية مصاحبة لميلاد العالم الغربى الحديث وتطوره، وذلك حينما أصبح التجديد في الشكل قيمة حضارية وقاعدة ولم يعد استثناء كما كان في السابق، ومن هنا ولدت الموضة بتحولاتها وتغيراتها وشطحاتها التي لا تتوقف أو بالأحرى التي تقوم على التجديد المستمر[1].

لا تقتصر الموضة في طبيعتها كظاهرة على الزي، حيث تأثرت قطاعات كثيرة آخرى بها مثل عالم الأثاث وقطع الديكور واللغة والأذواق والأفكار وأسلوب المعيشة وغيرها، وهو ما يظهر اليوم بجلاء خاصة على المنصات الرقمية ومواقع التواصل الإجتماعى، ولكن ظل المظهر والزي خاصة منذ القرن التاسع عشر والقرن العشرين هو الفضاء الأكثر تجسيدا لها حيث ابتكاراته أكثر تسارعا وأكثر استعراضية[2].

لقد أعلت المجتمعات القديمة من شأن احترام الماضي الجماعى، فالمجتمعات القديمة لم تكن تسمح بتقديس الابتكارات، ولم يكن لديها ولع بالتفردات ولم تلهث وراء كل جديد لمجرد أنه جديد، بل على العكس كانت تسعى للمحافظة على الأزياء التراثية والتقليدية للجماعة لأنها كانت تعد مسَها وتدميرها هو في حقيقته محوا وتجريفا للهوية.

وقد شهدت أوروبا تطورا كبيرا منذ منتصف القرن الرابع عشر، حيث ظهر نمط جديد من الزي يهيمن ويفرض نفسه بشكل مفاجئ على الطبقة الأرستقراطية في المجتمعات الأوروبية، فبدلا من الرداء الطويل الواسع الذى كانت ترتديه النساء لقرون طويلة سيظهر رداء طويل وضيق وأكثر كشفا للجسد، وبدأت التعديلات المتلاحقة على الأزياء وتشكلت الموضة وعلى أساسها سيتم تصنيف أفراد المجتمع، فالبعض مندمج محتفى به والبعض الآخر مستبعد ومهمش، فكل من يتبع صيحات التغيرات في الأزياء يستحق شرف الانتماء للمجتمع أما الآخرون فيتم وصمهم بالتخلف وعدم مواكبة الركب. واعتبارا من هذه الفترة ستتوالى التغييرات وستصبح تنويعات المظهر أكثر انتشارا وأكثر اعتباطية، فلم يعد التغير ظاهرة غريبة طارئة ونادرة بل أصبح قاعدة دائمة خاصة في الطبقات الراقية، وستعد الموضة إحدى مكونات الحياة المدنية.

ويفسر ليبوتفسكي انتشار الموضة في طبقات المجتمع بأن الصعود الاقتصادى لطبقة التجار الجدد (البرجوازية) هو الذى حفًز تقليدهم لحياة الأثرياء وأزيائهم، ومن ثم سمح لظاهرة الموضة بالانتشار، وهو الأمر نفسه الذى يفسر الاهتمام الكبير للأفراد من الطبقات الوسطى في المجتمعات العربية والإسلامية لاتباع صيحات الموضة، حيث يذهب هربرت سبنسر إلى أن “الطبقات الفقيرة تقلد الطبقة الراقية في ماذا يلبسون وكيف يبدون بحثا عن التقدير الإجتماعى”، وبهذا المنطق أيضا ساهمت الحملات الاستعمارية الغربية التي اجتاحت كثير من بلدان العالم في القرن العشرين في ترسيخ الموضة كنظام اجتماعى، حيث جرت عملية تغريب لثقافات الشعوب المستعمرة انطلاقا من فرضية تفوق الإنسان الغربى. ففى الهند على سبيل المثال أراد البريطانيون تحت مسمى “civilizing mission” أن يغيروا ملامح الشعب الهندى بأن يجعلوه أكثر تحضرا وفقا للمعايير الأوروبية، ويعد تغيير الزي المحلى باعتباره أحد مكونات الثقافة وتقليد الزي الأوروبي الذي يرمز للتقدم والمعاصرة أحد تجليات ذلك[3].

وتطور الأمر حتى كانت الثورة الحقيقية في عالم الأزياء وظهور ما يسمى بالملابس الجاهزة، فمنذ خمسينات القرن العشرين انتشرت فروع المحلات الكبرى والماركات في جميع أنحاء العالم، ومن ثم بدأت المجتمعات تشهد ظهور قوي للمشاهير والممثلين والمطربين وما يعرف الآن بالفاشونيستا ليشكلوا بدورهم شكل المجال العام في مجتمعات عصور الموضة. وفي هذا السياق يقول “زيجمونت باومان” في كتابه “الحداثة السائلة” أن النمط القديم للمجال العام الذي كان يسمح للناس بمناقشة قضاياهم قد اختفى وأن المجال الخاص وحياة المشاهير وآخر صيحات الموضة أصبحت تحتل المجال العام[4].

2- فلسفة الموضة

وفى سياق فهم طبيعة الموضة كظاهرة يقول (Gabriel de Tarde) أن  هناك مبدآن يحكمان أزمنة الموضة وهما: حب التغيير و التأثر بالمعاصرين، ولقد انتشر هذان المبدآن حتى فرضا الاحتفاء بمعايير الحاضر الاجتماعي في مقابل ازدراء موروث الأسلاف، فالموضة ذات طبيعة راديكالية تاريخية تؤسس نظاما اجتماعيا منعتقا من سيطرة الماضي ومن احترام القديم في مقابل تعظيم الحاضر وتقديره، وذلك في ظل تضخيم كل ما هو غريب ومختلف، من هنا نشأ عصر يتسم بالولع بكل ما هو حديث انطلاقا من ولعه بالغرب، وفي هذا الإطار نجد أن الموضة أنشأت وضعية لم تكن مسبوقة في العصور السابقة، إذ أن في العصور التي سبقت ظهور الموضة كان التغيير في المظهر الخارجي عبارة عن متغير يضاف إلى مستقر، أى أنه قائم على مبدأ احترام السياق العام للملبس المعروف بواسطة العادات، حيث كانت تضاف بعض الإضافات التزينية البسيطة في إطار لا يخرج عن العرف المجتمعى، أما مع الموضة لم تعد هناك لمسات تضاف إلى المستقر، بل بات الأمر قائم على الاختراع، أى إعادة تعريف أشكال الملبس بالكامل في التفاصيل والخطوط الرئيسة ايضا، إذ أن الموضة يحكمها منطق الاستعراضية ومن ثم لا تنفصل عن المبالغة والإفراط والجرأة[5].

وبناء على هذا لم تتوقف الموضة منذ ظهورها عن الاصطدام بالمعايير الجمالية والأخلاقية والدينية للمجتمعات، فلقد شهد القرن الرابع عشر والخامس عشر في أوروبا نقدا واستنكارا عنيفا من قبل الأساقفة في الكنيسة ضد قلة الاحتشام، حيث كانت ملابس النساء الأوروبيات في السابق ملابس محتشمة، فكان الثوب الطويل (Stola) الذي يصل إلى القَدم، طويل الكم إلى الساعد، واستمرت ملابس المرأة الغربية على نفس النمط حتى نهاية العصور الوسطى، ثم جاءت الثورتان الفرنسية والصناعية ليشكلا نقطة تحول في شكل ملابس المرأة الغربية، تحديداً مع خروج المرأة من البيت للعمل بالمصانع بأعدادٍ كبيرة.

 ويمكننا القول أن هناك اصطدام حقيقى بين ما جاءت به الموضة الغربية من معايير جمالية وبين أحد المبادئ الفطرية الأخلاقية، حيث الغياب شبه التام لقيمة الحشمة كخلق أساسي ينشأ عليه الإنسان منذ طفولته، وفي هذا السياق يقول الدكتور سلطان العميري أن العقل الغربي توجه مع حركة التنوير والتى أرخت بظلالها على ظاهرة الموضة  إلى تقديس العقل الإنساني والإعلاء من قدراته وجعله الميزان الذي يحكم من خلاله على كل شيء، واعتقد الغرب أن القدرة العقلية الإنسانية يمكنها أن تصل إلى الرشاد في كل الميادين الحياتية من غير توجيه من أي مصدر آخر خارج الإنسانية ذاتها، ولما كانت مصلحة الإنسان المادي هي في تحصيل أكبر قدرٍ ممكن من المتعة والرفاهة في الدنيا، تبدلت ثقافة اللباس لتتماشى مع هذه المصلحة، فالخلق الذي كان من بقايا الدين لم يعد له مكان في مجتمعاتهم وثقافتهم الغالبة على العالم[6].

إن ظاهرة الموضة بأشكالها المختلفة تعبر عن تشويه للمقدس وللقيمة، وفي هذا الصدد يقول ليبوفتسكى “إن الإعلاء من ممارسات الطيش وموضة الأزياء لا يمكن أن يفتعل إلا بسبب فرض معايير جديدة تشوه التقديس للأخلاق، ولا ينفصل ذلك عن ضياع الشعور التدريجى بالقيم البطولية وبالأخلاق الدينية، فإعلاء الموضة يعنى انتصار التمتع الشخصى وانتصار ذوق الغواية على المجد”، فالتقديس الحديث للموضة ينبع من الانتقاص السائد للقيم الإنسانية ومن هنا تتشوه قيم الجمال بجوهرها الأخلاقي في مقابل إعلاء قيم الغواية[7].

3- الموضة وتنميط المزاج العالمى

على صعيد النظر لموقع الموضة من هيمنة الثقافة الغربية على العالم، نجد أن تاريخ الموضة يعد تاريخا غربيا بامتياز، حتى أن لفظة “موضة” هي ترجمة لكلمة Mode الفرنسية، والتي تترجم لـ “fashion” بالإنجليزية، وفي هذا السياق يقول عالم الاجتماع جورج سيميل مفرقا بين لفظة “fashion” و “costume”   بأن الأولى أي الموضة تشير إلى المجتمع الأوروبي المثقف، بينما الثانية والتي تعنى “الزي” تستخدم للإشارة إلى المجتمعات الأخرى حيث الأزياء المحلية التقليدية. هذه الرؤية الغربية ترسم الغرب في صورة المتقدم المتحضر حيث تتواجد الموضة في إشارة للجديد والمعاصر، أما المجتمعات الأخرى “غير الغربية” فمازالت تعيش على القديم والموروث في إشارة إلى أن القديم رمزا للتخلف. إن هذه المفارقة وهذا المنطق الغربى غير المبرر ساد وهيمن حتى أصبح مبررا يشرعن لهيمنة الذوق الغربى على العالم، حيث جعل الغرب من ذوقه الخاص وثقافته معنى التحضر والتقدم الاجتماعى والاقتصادى أيضا[8].

وانطلاقا من هذه الرؤية الإمبريالية المتعالية يهيمن الغرب على العالم برؤيته المادية العلمانية، فمنذ اوائل الثمانينات انتجت الشركات العابرة للحدود (transnational corporations)  والتكنولوجيا الإلكترونية ووسائل الإعلام الإلكترونية شبكة مترابطة تغطي العالم، حيث قامت هذه القوى بهيكلة عميقة للاقتصاد العالمي والثقافة العالمية والحياة اليومية الفردية في ظل ما يعرف بالعولمة، والتى أرخت بظلالها على عالم الأزياء وصناعة الموضة التي لا تنفك عن عجلة الاقتصاد الرأسمالى المهيمن، فمن خلال احتواء المجلات وأفلام هوليوود على أحدث صيحات الموضة، ضمن محتوى يحمل مكونات الثقافة الغربية، يشكل العالم الغربى ما أطلقت عليه سوزان كيسر النمط العالمي  أو “global style”، ويدخل في هذا تنميط الجمال والأناقة ضمن مجموعة موحدة من المعايير تشكل المزاج العالمي، وفي هذا الإطار نجد المراكز التجارية في جميع أنحاء العالم توفر نفس الماركات وتقوم ببيع نفس قطع الملابس[9].

وفى هذا السياق يؤطر المسيري في كتابه “العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة” نظريا لعملية التنميط الغربى، والتى تقوم على توحيد المقاييس، مبينا للأسباب التي تقف وراءها، فيقول “لعل من أهم أسباب التنميط ظهور الدولة العلمانية المركزية التي تحاول قدر طاقتها ترشيد الواقع الاجتماعى والإنسانى حتى يمكنها التحكم فيه والتخطيط له وتوجيهه وتوظيفه لصالحها، أى حوسلته، وعملية الترشيد هذه في جوهرها عملية تنميط، إذ بدونها يصبح الواقع الاجتماعى والإنسانى متنوعا مركبا غير متجانس لا يمكن إخضاعة لعمليات الحوسلة”، والحوسلة -كما يعرفها المسيرى- هى تحويل الشئ/ الإنسان إلى وسيلة تستخدم لتحقيق مصالح معينة، ومن ثم فعملية التنميط تهدف إلى تيسير حوسلة الإنسان أى تحويله إلى وسيلة لتحقيق مصالح الاقتصاد العالمى ومتطلباته.

وبالنظر إلى عالم الموضة نجد أن عملية التنميط تظهر في الإذعان التام لما يصدر عن مصممو الأزياء والماركات العالمية، فإن قالوا أن الموضة هذا العام هو ارتداء الملابس القصيرة سارع الجميع بالتقصير، وإن قالوا طويلا قام الجميع بتطويل ملابسهم،[10] ووسائل هذا التنميط تختلف وتتعدد، و لعل من أهمها اختراق محتوى الإعلام الغربي للمجتمعات والثقافات في جميع أنحاء العالم، مما جعل توحيد لمقاييس الجمال والمظهر المثالي تهيمن على المجتمعات غير الغربية ليصبح هناك نوعا من القبول العالمى للمعايير الغربية للجمال، تطغى على ما كانت عليه المجتمعات من قبل، حيث اختلاف معايير الجمال وأشكال الثياب بين ثقافة وأخرى، ومن هنا نشأت الهوة بين ما عليه الأفراد وما يجب أن يكونوا عليه حسب المعيار الغربى المثالى للجمال فجعل ذلك الأفراد في حالة ضغط مستمر، فهم يقارنون أنفسهم بأيقونات الموضة والجمال التي يروج لها المجتمع الغربي ويمثلها عارضي الأزياء والفنانين المنتمون معظمهم إلى الغرب، وبهذا الضغط المستمر نحو وهم الجمال المثالى تنشأ حالة من التماثل بين المجتمعات، فالكل يسعى لنفس الشكل  في ظل عملية تنميط للجمال المثالي، فيصبح الجميع متشابهون فيما يسعوا إليه، وإن لم يصلوا له فهم يدورون في عجلة مستمرة من الاستهلاك، فنموذج الجسد النحيف والأنف الصغير والوجه الرفيع  المعبر عن الملامح الغربية أصبح يشكل ملامح الجمال النسائي في العالم الذى به يتشكل المزاج العام، وبناء عليه أصبح الكثير يسعون بكل الوسائل للوصول إلى هذا الشكل عن طريق عمليات التجميل والتنحيف وغيرها.

وبناء على هذا فالموضة كظاهرة خاضعة للشركات والماركات العالمية، ترسخ تسليع الإنسان عامة والنساء خاصة، بجعله خاضعا للشركات العالمية المتحكمة في أسواق العالم والتي تفرض شكلا موحدا من الجمال الحديث الذى تنتمى معاييره إلى بيوت الأزياء في أوروبا وأميركا، ويتحكم بتلك المعايير مجموعة من مصمموا الأزياء طائشو الأهواء، يشوهون الجمال الإنسانى بجعله نمطا واحدا يختفى فيه جوهر الإنسان وحقيقته تحت مظهر الملابس اللامعة، فالموضة وفقا لآلية عملها تسحق الإنسان وتلغى قيمته وتجعله ملحقا بمجموعة من الماركات التجارية[11]. ومن ثم يفقد المعاني الإنسانية المرتبطة بالغائية والأهداف غير المادية ويفقد كذلك حريته في الاختيار.

وفى هذا الصدد أجريت دراسة طُلب فيها من مجموعة من الفتيات تحديد صورة ذهنية مثالية للجمال، عرضت نسبة كبيرة من الفتيات المشاركات في الدراسة المشاهير الأمريكيين كأمثلة. وفي دراسة أخرى أجريت حول الشخصيات المختارة لأغلفة عدد من المجلات العالمية خلال 36 شهرا ظهرت فيها نماذج محددة عدة مرات في هذه المنشورات في العديد من البلدان، مثل جينيفر لوبيز وكيت موس وكيت هدسون وفيكتوريا بيكهام ومادونا، مما يدل على أن مظهر هؤلاء الذين تتباين جنسياتهم بين أمريكا الشمالية وأوروبا هو ما يشكل أجندة الموضة في فترة معينة[12].

4الموضة والنهم الاستهلاكي:

على صعيد آخر لا يمكن إغفال العلاقة بين الموضة والنظام الرأسمالى العالمى الذى يقوم على الاستهلاك، فالموضة بطبيعتها، القائمة على التغير والتجديد، تناسب نهم الاستهلاكية التي يتطلبه السوق الرأسمالية العالمية، التي تتحكم بها مجموعة من الشركات الكبرى والتى تشكل ما سماه المسيرى بالإمبريالية النفسية، حيث أنها تعمل على وعي الإنسان ووجدانه بتوسيع شهوته وتوليد حالة من القلق وعدم الرضا الداخلي التي يتصور أنه لن يستطيع تجاوزها إلا باقتناء سلع بعينها، وهذا ما يظهر بجلاء في صناعة الأزياء والموضة حيث التطلع الدائم لجديد الموضة -بغض النظر عن معاييرها الأخلاقية- التي تصور بأنها أحدث صيحات الجمال وفقا لمعايير ألبسها الغرب صفة العالمية[13].

وفى هذا الإطار يذكر المسيرى ما قاله ماركوز عن المجتمعات الاستهلاكية فيقول “أنها تتسم بهيمنة المؤسسات الرأسمالية على عملية الإنتاج والتوزيع، بل صياغة رغبات الناس وتطلعاتهم وأحلامهم، فهي تنجح في خلق طبيعة ثانية مشوهة لدى الإنسان، إذ يتركز اهتمامه على وظيفته التي يضطلع بها وتتركز أحلامه على السلع، ويرى ذاته باعتباره منتجا مستهلكا فحسب، دون أدنى إحساس بأية غائية كبرى أو هدف أعظم، ويرى أن تحقق ذاته إنما يكمن في حصوله على السلع، ويتم إشباع كل رغبات الإنسان داخل مجال السلع هذا، حتى يصبح الإنسان أحادى البعد تماما (متسلعا متشيئا)، مرتبطا تماما بسوق السلع، حدوده لا تتجاوز عالم السوق والسلع”[14].

وهنا يذهب ماركوز إلى أن الديباجات الفردية التي تستخدمها الإعلانات قناع ماكر يخبئ عملية فرض الأنماط الاستهلاكية الجمعية، التي توحى للمستهلك أن يقلد الآخرين وأن يتبع الموضة وآخر الصيحات، فكأن الفردية هنا قناع لعملية ترشيد كاملة لباطن الإنسان، تدخل في روعه أن هذا الحلم حلمه وحده، وأن هذه السلعة سبيله الشخصى الوحيد لتحقيق ذاته، مع أنها في واقع الأمر وسيلة تجعل تطلعاته وأحلامه مثل تطلعات الآخرين وأحلامهم، وبذلك تستمر الآلة الاستهلاكية في الدوران[15].

وهذا بلا شك جعل للموضة مساهمة كبيرة في تقويض حرية الاختيار لدى الأفراد الذين يدورون في عجلة الاستعراض الاستهلاكي بلا توقف، فالموضة تقوم بمنحهم حرية مزيفة مشروطة بما تفرضه الشركات العالمية وصناع الأزياء، وفي هذا السياق أصبحت الدعاية تشكل الوعي الجمعي للجماهير، وانتهجت الشركات سياسة الإعلانات التي توحد الرغبات والأذواق، حيث تعمل على منح المتلقي شعورا بأن لديه القدرة على اتخاذ قرارا حرا ولكن من بين ما تتيحه الشركات فقط، فهو لا يستطيع ارتداء ملابس موضة قد انقضت لأن ذلك سيعرضه للنبذ المجتمعي، ومن ثم عليه أن يختار من بين الموضة المتاحة الآن فقط، وفي هذا السياق استخدمت الدعاية كافة الوسائل لإقناع الفرد أنه حر في اختياره وانتهجت في ذلك سياسة الإغراء بمنتجات بعينها بدلًا من التوجيه الآلي[16].

وفى هذا الإطار حولت الموضة المجتمعات إلى مسارح استعراضية، فالموضة ترتبط بمتعة الرؤية وبمتعة أن يكون الفرد محل أنظار الجميع، لعله بذلك يحقق شيئا من ذاتيته الضائعة،[17] وهنا يذهب الدكتور مصطفى حجازي في كتابه “التخلف الاجتماعي: سيكولوجية الإنسان المقهور” إلى أن الكثير من التصرفات الاستعراضية التي تشيع في البلدان النامية تهدف بالتحديد إلى التستر على عقدة عار التخلف خصوصا بالاستعراض الاستهلاكي، إن إنسان العالم المتخلف هو أسير المظاهر مهما كانت سطحيتها مادامت تخدم غرض التستر على عاره الذاتي”[18].

الخاتمة

يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة ” أن المغلوب مولع أبدا بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده” وهذا مما يدعم ما طرحناه سابقا، حيث اعتبر ابن خلدون أن الأمة المهزومة تقلد وتتبع الأمة الغالبة التي هزمتها أو احتلتها، وعلل ذلك بقوله: “والسبب في ذلك أن النفس أبدًا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي وإنما هو لكمال الغالب” ،فالسبب في تلك الانهزامية النفسية والاقتداء بالأمة الغالبة هو ظن المغلوب أن الكمال مع الغالب، وهذا ما نراه في أحوال الأمة الإسلامية التي لم تسلم من تحقق ذلك القانون السنني والمجتمعى،[19]  ولا شك أن مظاهر التغريب الثقافي المتجلية بقوة في مجتمعاتننا العربية والإسلامية المعاصر، من اتباع صيحات موضة وتبنى معايير الجمال الغربى الذى اكتسب صفة العالمية يمثل نوعا من الانهزامية والتقليد، فالثقافة الغربية الغالبة تهيمن بكل مكوناتها على العالم بأسلوب المعيشة والمأكل والمشرب والملبس، فالزي ليس مجرد قطعة من قماش ترتدى فهو يحمل رمزية دالة على ثقافة وهوية صاحبها، ومن ثم فإن هناك علاقة بين ارتداء ملابس الآخر وبين التحلي بقيمه التي تحملها ملابسه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  باحثة في العلوم السياسية.

[1] جيل ليبوفتسكي، مملكة الموضة زوال متجدد: الموضة ومصيرها في المجتمعات الغربية، ترجمة: دينا مندور، العدد 2947، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2017).

[2] جيل ليبوفتسكى، مملكة الموضة زوال متجدد، مرجع سابق.

[3] Heena Gulabchande, in a globalized world of fashion production and consumption is everybody dressing the same?, University of creative arts, April 2018.

[4] إبراهيم هلال، لاهثون وراء الموضة هل نحن احرار حقا، الجزيرة، 25 فبراير 2018، متاح على الرابط التالى:

https://www.aljazeera.net/midan/intellect/sociology/2018

[5] جيل بيوتفسكى، مملكة الموضة زوال متجدد، مرجع سابق.

[6]  تسنيم راجح، لباس المرأة الغربية بين انتزاع الحياء وغياب الحشمة، السبيل، 13 أغسطس 2020، متاح على الرابط التالى:

https://al-sabeel.net

[7] إبراهيم هلال، الفاشونيستا الإسلامى الموضة بما لا يخالف شرع الله، الجزيرة ، مرجع سابق.

[8] Heena Gulabchande, in a globalized world of fashion production and consumption is everybody dressing the same, Op. cit.

[9] Leslie Rabin, Globalization and the Fashion Industry, Love to know fashion history, November 2017, available on:

https://fashion-history.lovetoknow.com/fashion-clothing-industry/globalization-fashion-industry

[10] عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية العلمانية الشاملة، دار الشروق، 2002.

[11] إبراهيم هلال، الفاشونيستا الإسلامى الموضة بما لا يخالف شرع الله، الجزيرة ، 5 مارس 2021، متاح على الرابط التالى:

https://www.aljazeera.net/midan/intellect/sociology/2018/3/5

[12] Yan Yan, the globalization of beauty how is ideal beauty influenced by globally published fashion and beauty magazines, Journal of Intercultural Communication Research, May 2014.

[13] عبدالوهاب المسيرى، قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى، مرجع سابق.

[14] عبدالوهاب المسيرى، العلمانية الجزئية العلمانية الشاملة، مرجع سابق.

[15] عبدالوهاب المسيرى، العلمانية الجزئية العلمانية الشاملة، مرجع سابق

[16]أحمد رأفت، ديمقراطية الموضة: للشمولية وجهٌ آخر، 8 فبراير 2018، متاح على الرابط التالى:

https://www.ida2at.com/fashion-democracy-another-inclusive-face/   

[17] إبراهيم هلال، لاهثون وراء الموضة هل نحن احرار حقا، الجزيرة، مرجع سابق

[18] مصطفى حجازى، التخلف الإجتماعى:سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافى العربى، 2005.

[19] عبدالوهاب احمد، انهزامية بالسكر، السبيل، 17 سبتمبر 2021، متاح على الرابط التالى:

https://al-sabeel.net/%D8%A7%D9%86%D9%87%D8%B2%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8F%D9%83%D9%91%D9%8E%D8%B1/

عن يارا عبد الجواد

شاهد أيضاً

الجمال بين الرؤية الإسلامية والعولمة

أ. د. زياد خليل الدغامين

تعد مواجهة التحديات التي تهدف إلى طمس الهوية الإسلامية، ومسخ قيمها، والعبث بمفاهيمها الدينية والثقافية من الضرورات الملحة التي تفرض نفسها على واقع الأمة.

في علم الاقتصاد الإسلامي: صياغة إسلامية لجوانب من دالة المصلحة الاجتماعية ونظرية سلوك المستهلكين

د. محمد أنس الزرقا

لقد كان هناك كم هائل من الكتابات في الخمس والعشرين سنة الماضية بالنسبة للمجالات الاقتصادية الواسعة للنظام الإسلامي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.