تجديد الخطاب الديني
جدل مستمر
أ. مهجة مشهور*
تجديد الخطاب الديني من المفاهيم التي صارت متداولة كثيرًا في السنوات الأخيرة، وهو مفهوم مهم، تحتاج إليه المجتمعات (المؤمنة) في كل مرحلة من مراحل تاريخها. المشكل أن كثيرًا ممن يرددون هذا المفهوم قد لا يعلمون حقيقة المقصود من ورائه. إذ هو وفقاً للبعض: الخروج من الخطاب السلفي التقليدي المرتبط بتقليد السلف دون مراعاة لتطور المجتمعات، لطرح نمط حياة أكثر عصرية ومدنية. ووفقاً للبعض الآخر فإن تجديد الخطاب الديني يعني أن يواكب الإسلام التطور الحادث في المجتمعات المعاصرة بحيث لا تكون ثمة فجوة بين الحداثة وتعاليم الإسلام. وهناك مَن يرى أن تجديد الخطاب الديني يجب أن ينصب على أسلوب الدعوة وليس على مضمون التعاليم الإسلامية.
مِن بين كل هذه الآراء يسترعي النظر ذلك الرأي الذي يرى ضرورة مواكبة الإسلام لتطورات العصر واختلاف المجتمعات. هذا الرأي متواجد بوضوح عند العديد من المفكرين ورجال الإعلام، وهو رأي فيه الكثير من الخطورة، لأنه يستبطن قناعة أن المجتمعات وتطورها هي العنصر الثابت، فيما الإسلام وتعاليمه هما العنصر المتغير، الذي يتحرك دائماً لخدمة تطور هذه المجتمعات.
ولكن تطور المجتمعات الذي يتغنى به المطالبون بهذا التجديد لا ينصرف فقط إلى مظاهر التطور في وسائل المواصلات من الدواب إلى السيارات، أو تطور التعليم من الكتاتيب إلى المدارس والجامعات، أو تطور المنظومة الصحية، أو غيرها مما ينقل المجتمعات نقلات ضخمة في بنيتها وفي نمط حياتها، ولكن هذا التطور يعني ضمن ما يعني -وبخاصةً في العقود الأخيرة- نقل القيم والأخلاق الغربية إلى مجتمعاتنا.
فأصبحت المادية هي المبدأ المهيمن على تصرفات الفرد في المجتمعات الإسلامية والعربية، وأصبح على قمة الهرم المجتمعي الأكثر ثراءً لا الأكثر علمًا أو الأكثر نفعًا في المجتمع. كما تم نقل الأفكار المتعلقة بالحرية الشخصية المطلقة غير المنضبطة، التي تسمح ضمن ما تسمح به بارتداء الملابس غير اللائقة، والانخراط في علاقات ما قبل الزواج، وتسمح للفرد بالتحول عن جنسه الذي ولد به، وقد تسمح بتعاطي المخدرات، أو تدعو للمثلية. كما أصبحت الفردية سلوكاً مقبولًا، حيث تقدم مصلحة الفرد على ما عداها، وكان من توابع ذلك انتشار ظاهرة التخلص من الآباء إلى دور للمسنين، والتململ من المسئوليات الأسرية من قبل الوالدين. ولا تتوقف القائمة عند هذا الحد فهذه الحرية الغربية تأتينا كل يوم بالجديد الذي يتصادم تمامًا مع الشرع الذي يدين به المجتمع.
كيف يمكن للشريعة الإسلامية أن تواجه كل هذا الخلل؟
قد يقول البعض إن كل هذه الانحرافات عُرِفت دائمًا على مر التاريخ. وهذا حقيقي، ولكن ما استجد في هذا الأمر أن هذه الانحرافات لم يعُد يُنظر إليها على أنها انحرافات، كما أن مقاومتها أصبحت تُنعت بالتخلف، أو بأنها نوع من الحجر على الحرية الشخصية. بل إن معظم وسائل الإعلام تتعامل مع هذه الانحرافات بالقبول أو تروج لها بوصفها أمرًا واقعًا يجب التعاطي معه.
إن تفعيل الشريعة الإسلامية لا يمكن أن يتحقق إلا في مجتمع صحي متوازن يتقبل أحكامها بيسر وسهولة. ودور الخطاب الديني في هذا المقام هو تهيئة المجتمع لهذا الأمر، وذلك من خلال الحفاظ على الإطار الأخلاقي للمجتمع ومقاومة الدعوات الهدامة المدمرة لاستقراره وتوازنه، والتي تريد نقل النموذج الغربي وإقحامه على مجتمعاتنا.
فإذا أخذنا تلك الدعوة المنادية بتطوير أحكام الميراث الإسلامي حتى يتساوى نصيب الأخ مع أخته، وذلك ضمن التصور الفردي الذي سبقت الإشارة إليه والذي لا يريد الرجل في إطاره أن ينهض بعبء تحمل مسئولية أخته ماديًا أو معنويًا، متحججًا بالمسئوليات الكثيرة التي تقع على عاتقه، أو بكونها تتعلم وتعمل وتكسب من المال مثله! هذه الصورة من العلاقات الإنسانية داخل الأسرة هي صورة غربية بامتياز، بعيدة كل البعد عما أمرت به الشريعة الإسلامية من أوامر تصلح لكل زمان ومكان. فالعلاقة التي تقوم عليها الأسرة المسلمة هي علاقات تكافلية تراحمية، دور الرجل فيها هو تحمل مسئولية الأخوات والوالدين ماديًا ومعنويًا تمامًا كما يتحمل مسئولية زوجته وأبنائه، وهذه علة تَميُزه عن أخته بضعف الميراث. من هنا فإن تهاون الرجل في القيام بقوامته في أسرته، وتمرد المرأة على زوجها بحجة مقاومة التسلط، والمطالبة بالمساواة، نتج عنه هذا الخلل الأسري الذي شجع نفراً من المتغربين على التجرؤ بالمطالبة بتعديل أحكام الشريعة.
وإذا أخذنا صورة المجتمع الذي يتبنى نموذج المرأة المتحررة، فإننا سنفهم لماذا يجد مثل هذا المجتمع صعوبة في تقبل الأمر بالحجاب، ولماذا يثور ضمن هذا المجتمع نقاش لا يتوقف عن فرضية الحجاب، وعن الفرق بينه وبين الاحتشام، وعن حرية المرأة في أن تلبس ما تشاء، لأننا “لسنا في العصور الوسطى”.
ويلاحظ في هذا الشأن ارتفاع أصوات مَن يتبنون هذا الطرح الغربي بكل مشاكله حتى إنهم صاروا يمارسون نوعًا من الترهيب إزاء من يخالفونهم من الفقهاء وغيرهم، مستخدمين في حقهم عبارات تتهمهم بالتخلف والرجعية، طالما لم يوافقونهم على ما يريدون.
وقد تفاقم هذا الأمر حتى صار معتادًا في مجتمعاتنا، فلا يكاد يمر يوم حتى نجد من يسعى لتمرير ألوان من الأفكار الهدامة، والتصورات المستوردة، سواء عبر الأفلام والدراما التليفزيونية، أو عبر البرامج والمنتديات الحوارية، وسواء تم هذا تحت شعار مسايرة العصر، أو حرية التعبير، فإن النتيجة النهائية عادة ما تتمثل في انتقال هذه الأفكار إلى دوائر مجتمعية متزايدة، بعد اكتسابها نوعًا من الشرعية المفتعلة تحت شعار تجديد الخطاب الديني.
والملفت للنظر حرص مَن ينقل هذه الأفكار على الحصول على موافقة أي من رجال الدين لتمرير فكرته، فالملاحظ أن قيم الحداثة المستوردة ما زالت تحتاج إلى صك ديني لإقناع (أو خداع) شعب يرى في الدين مرجعيته الأساسية.
هذه الأفكار والنماذج والسلوكيات المستوردة من الرؤية الغربية، والمضادة في كثير من تفاصيلها لمكونات النموذج الحضاري الإسلامي، عادة ما تولد عند الكثيرين غيرة على دينهم، وغضب على قيمهم قد يؤول في بعض الأحيان إلى إعادة إحياء أفكار التشدد. ولهذا فإن دور الخطاب الديني الجديد ليس مسايرة تطورات العصر الأخلاقية والسلوكية، ولكن توضيح موقف الشرع منها، ثم للأفراد بعد ذلك كامل الحرية في اختيار ما يرونه صالحًا لهم، مع تحملهم المسئولية عن اختيارهم أمام الله تعالى. بعبارة أخرى، لا يُنتظر من الخطاب الديني أن يسير على هوى المجتمع، أو أن يبرر للأفراد ميولهم، أو يمنحهم صكوكًا بصحة كل ما يأتونه من أفعال، وإنما أن يصحح دائمًا بوصلة هذا المجتمع، حتى لا تتشوه بنيته ورؤيته، وأن يبني مجتمعًا أخلاقيًا حرًا، يرفع لواء القيم، ويوجه إلى الدور الرسالي لهذه الأمة الاهتمام الذي يستحقه.
فمهمة الخطاب الديني منبثقة عن مهمة ودور هذه الأمة، وهذه الأمة ذات دور عمراني وحضاري، يفترض أن يُصدِّر للعالم نموذجًا لمجتمع يقوم على الأخلاق والقيم، مجتمعٍ يأخذ بيد الفقير وينتصف له، مجتمعٍ الضعيف فيه هو سيد الركب، مجتمع يؤكد معنى العمل النافع الذي يساهم في التنمية والعمران، ويدين العمل الطفيلي الذي يصرف الناس عن أمور دينهم ومعاشهم.
ما يحتاجه ملف تجديد الخطاب الديني هو أن يلتفت إلى جانبين:
أولاً– جانب الأسلوب: فالحياة اليوم أصبحت مليئة بالمشاكل الجزئية والأحداث المتلاحقة التي قد لا يملك الفرد القدرة على متابعتها، ولا تبين موقف الشرع منها بسهولة، وهنا فإن من تجديد الخطاب الديني أن يراعي هذه الحالة الجديدة، وأن يستثمر ما صار متاحًا من وسائل التواصل الاجتماعي بصورة عالية الكفاءة، وأن تأتي استجابته بالسرعة التي يتطلبها الواقع المجتمعي الجديد للوصول إلى الناس، وجذب اهتمامهم وإقناعهم بموقف الشرع من المستجدات الاجتماعية والثقافية، بالطريقة والوسيلة التي يجيدونها ويفهمونها، فنحن في عصر للوسيلة فيه قوة لا يستهان بها.
ثانياً- جانب المضمون: إن لكل مرحلة تاريخية أولوياتها، وعلى أساس أولويات عصرنا يجب وضع خريطة الخطاب الديني. فإذا كانت أبرز تحديات العصر الراهن هي هجمة الغرب بترسانته الإعلامية على عقل الإنسان المسلم، بغرض ترويضه وفق خصائص النسق الغربي، وإذا كانت هذه الهجمة هي وراء ظهور بعض اتجاهات التشدد، فإن الخطاب الديني المعاصر يجب أن يقدم الإطار الأخلاقي للشريعة الإسلامية، وفي نفس الوقت أن يؤكد على ثوابت هذا الدين الحنيف، بحيث يستثير وعي المجتمع لإدراك مخاطر الانصياع لبريق الأفكار الغربية، والانتباه إلى ما تحويه بعض الأفكار التي تبدو لأول وهلة بريئة من مزالق تنحرف بالمسلم عن الطريق القويم.
إن تجديد الخطاب الديني يجب ألا يخضع لأهواء الرأي العام وضغوطاته، كما يجب في نفس الوقت أن يتفاعل مع الواقع ومشكلاته، وأن يقدم لهذا المجتمع خطابًا وسطيًا قيميًا، يأخذ في الاعتبار أوضاع الحياة الجديدة، ويراعي لغة المجتمع المعاصر، ويرفع درجة وعي أفراده، ويلفت نظرهم إلى القضايا الأَولى بالاهتمام. إن الخطاب الجديد يجب أن يسعى لبناء تيار رئيسي معتدل وأخلاقي، مصداقاً لقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران١١٠)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مدير مركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وسكرتير تحرير مجلة المسلم المعاصر.