عَقد مركز خُطوة للتوثيق والدراسات يوم السبت الموافق 02/ 03/ 2024 حلقة نقاشية حول الورقة التي أعدها الأستاذ الدكتور “شريف عبد الرحمن سيف النصر” الأستاذ المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، المعنونة بـ “الفقه والتنظير ضمن ثنائية الواحدية والتنوع”.
وقد أدار الجلسة د. مدحت ماهر الليثي “المدير التنفيذي لمركز الحضارة للدراسات والبحوث”.
السادة الحضور:
أ. أحمد رأفت طالب بكلية اقتصاد وعلوم سياسية، قسم علوم سياسية.
أ. د. أماني صالح أستاذ العلوم السياسية
أ. تقى محمد يوسف باحثة في مركز خطوة وطالبة ماجستير في كلية سياسة واقتصاد.
أ. محمد الديب باحث ماجستير في العلاقات الدولية.
أ. محمد محمود محمد الجزار طالب دكتوراة، ومعلق صوتي بشركة المتحدة.
أ. منال يحيى شيمي باحثة في العلوم السياسية، باحثة في مركز خطوة.
أ. مهجة مشهور مدير مركز خُطوة للتوثيق والدراسات.
د. هاني محمود مدرس في قسم الشريعة الإسلامية كلية الحقوق جامعة عين شمس.
أ. وليد القاضي باحث بمركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وباحث دكتوراه في العلوم السياسية.
وفيما يلي النص الكامل للحلقة النقاشية:
د. مدحت ماهر:
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نرحب بحضراتكم في هذا اللقاء العلمي الذي نسأل الله عز وجل في مطلعه أن يجعله علما نافعا وعملا صالحا متقبلا. بداية نتقدم بالشكر إلى مركز خطوة على هذه الخطوة المهمة، وأتشرف بان أكون مديرا لهذه الجلسة.
إن شاء الله لقاءنا اليوم حول ورقة بحثية أساسية أو تأسيسية وأيضا إثرائية في عالم الفقه والتنظير، وعنوانها كما تقدم يقع بين هذين العمودين الكبيرين الفقه والتنظير ضمن ثنائية الواحدية والتنوع. والموضوع يتضمن الكلام عن الفقه بالألف واللام، فنحن لا نتكلم عن باب فقهي ولا عن قضية فقهية أو مسألة، ولا نتكلم عن قضية أو مسألة في العلوم الاجتماعية أو في فلسفة العلم أو بالأخص في فلسفة المنهج إنما نتكلم عن فكرة التنظير، وليس عن نظرية معينة، ونتكلم عن مجال وعن أداة أو فكرة وممارسة أساسية في عالم العلم والإنتاج العلمي الأساسي؛ وهي ممارسة التنظير، فعند هذا المستوى فنحن نتكلم فيما يمكن أن يسمى المستوى الاستراتيجي للعلم، وإذا صح أن ما نتناوله يوميًا هو مستويات تكتيكية وجزئية، وإن صح أيضا أننا نتعرض للكليات، فنحن اليوم أمام كليات كبرى ، الفقه والتنظير، والدكتور شريف مشكورا في هذه الورقة التي حملت هموما وِهمّة، يناقش هموم تطور الفقه وهموم التنظير، كما يظهر هِمّة في طرح مجموعة من الأسئلة التي أعتقد أنها تنقلنا من مستوى أو مراحل تم العمل فيها على تأسيس فكرة التنظير في الفقه حديثا، في ممارسة أشكال من التنظير وإخراج نظريات فقهية، إلى مستوى آخر؛ وهو مستوى المراجعة على ذلك، والنظر في جدواه والنظر في تقييمه، وفيما ينبغي أن يسأل فيه، وبالأخص المناظرة بين ما قام به فقهاء العصر من تنظير، وبين المفهوم السائد في العلوم الاجتماعية (الحداثية) عن مفهوم للتنظير، هذه الإشكالية، التي سيعرض الدكتور شريف تفاصيلها، ثقيلة، ولكن أعتقد أنها تحتاج إلى إمعان النظر فيها، وأيضا إلى مواجهتها بعمل بحثي يجيب عن أكثر الأسئلة وبالأخص التسعة أسئلة الأخيرة اللي ختمت بها الورقة.
أنقل الكلمة للدكتور شريف لكي يعرض الأفكار التي وردت في الورقة وبالأخص، لكي ندير حولها حوارا نتمنى أن يكون نافعا وماتعا.
د. شريف عبد الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، “ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا”.
ليس هدفي في هذه الكلمة أن أُعيد طرح ما ورد في ورقة “الفقه والتنظير”، ولكني أبدأ بالحديث عن تفصيلة معينة أحب أن أشير إليها، بدأت في مرحلة عمرية مبكرة، فقد كنت ممن أدركوا عهد الراديو، والذي كان في رأيي وسيلة معرفية ليس لها مثيل، ولا يشاركنا فيها الآن من لم يعاصروا مثل هذه الوسيلة المعرفية المهمة، فالراديو كان مساحة للتخيل وبناء عالم افتراضي مبكر يتم فيه تصور المتحدثين وتخيل هيئتهم والتفاعل مع أفكارهم، وكانت أحد التقاليد المحمودة في البرامج الإذاعية القديمة، أنه كان يتم في بعض الاحيان إذاعة مناقشات مسجلة لرسائل الماجستير والدكتوراه، في إذاعة القرآن الكريم، وأيضًا في إذاعة البرنامج الثقافي، والتي كان اسمها قديما إذاعة البرنامج الثاني. كانت هناك مناقشة تذاع كل يوم اثنين، وكنت وقتها في المرحلة الإعدادية، وكانت تخلب عقلي تلك الحالة من الجدال والصراع حول الأفكار، لم أكن أستوعب كثيرا مما يقال، ولكن كان ثمة عنصر مشترك ومتكرر يترسخ في ذهني، ويتم الإشارة إليه في كل مناقشة تقريبًا، وهو تأكيد لجنة المناقشة على أن الطالب لم ينجح في توظيف الإطار النظري، أو لم ينجح في تفعيل النظرية التي وعد بتوظيفها، ولم يتقن استخدام المنهج. كانت هذه العبارات تتكرر بشكل لافت، وكان الباحثون يستسلمون أمامها، ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم هذا النقد بشكل مقنع. ظل هذا الأمر عالقا في ذهني، حتى بدأت مرحلة الدراسات الجامعية، ونويت ألا أقع في هذا الفخ، وأن يكون لدي إجابة إذا سئلت في يوم من الأيام كيف وظفت النظرية وكيف استعنت بالإطار النظري، وفيما أفادك المنهج؟ بدأت الدراسة وانتهت في الجامعة، ولكن لم أقض نهمي من هذا الأمر، فنويت أن يكون أول بحث أقوم به في مرحلة الدراسات العليا متعلقا بهذا الأمر تحديدًا، ما هي النظرية؟ وما هو المنظور؟ وما هو الإطار النظري؟ وما هو المنهج؟ وما هي المستويات المختلفة للبناء المنهاجي. وهكذا كانت رحلتي مع النظرية رحلة مبكرة. وكنت حريصًا على أن أبسط الأمور لنفسي، فاعتبرت “أن النظرية هي بناء فكري يلم شتات الواقع المبعثر” فإذا كان الإنسان كائنا معاديا للفوضى، فالنظرية هي الأداة التي تساعده في التغلب على هذه الفوضى، بتسكين ظواهر الواقع ضمن أطر مسبقة على نحو يجعل من هذا الواقع أمرا مفهوما، وكان هذا يستدعى أن أحدد لنفسي معنى الفهم نفسه، وكانت الاجابة التي توصلت إليها أن الفهم ما هو إلا اكتشاف العلاقات بين الظواهر، فالظواهر تظل غير مفهومة طالما بقيت مبعثرة لا رابط فيما بينها، فإذا وجدت هذه العلاقات أصبحت مفهومة. وظائف التنظير أيضا تعاملت معها على أنها تبدأ بوصف الظواهر، ثم تفسيرها، ثم محاولة توقع مساراتها المستقبلية؛ إذا كانت هذه الظواهر ديناميكية، أو تقييمها إذا ما كانت الظواهر استاتيكية. وكنت أُجري تجارب مع طلابي لاكتشف إذا كانوا قادرين على أن يفكروا بشكل نظري أم لا. وفي إحدى هذه التجارب، طلبت منهم أن يعلقوا فيما لا يزيد عن نصف صفحة على تمثال “نهضة مصر” الذي يقع أمام مدخل جامعة القاهرة، كيما أكتشف إذا ما كان الطلبة يستوفون الخطوات المنهجية في تفكيرهم وكتابتهم أم لا، بمعنى هل يقومون بالوصف والتفسير والتقييم أم لا. وكنت كثيرًا ما أجد من واقع التجربة أن معظم الطلبة والباحثين يقفزون مباشرة إلى مستوى التقييم، فيعبرون عن آرائهم في التمثال كتحفة فنية، أو — في المقابل — كتمثال يبعث على الكآبة والانقباض، من دون أن يمروا على خطوتيّ الوصف والتفسير.
وحتى من كان يقدم من الطلبة وصفًا للتمثال فإنه كان يقدم وصفا غير مطابق لحقيقة التمثال نفسه (كان كثير من الطلبة لا يستطيعون أن يصفوا وضعية يد المرأة الموجودة بجوار مجسم أبي الهول، فكانوا يتصورن أنها تضع إحدى يديها على رأس أبي الهول واليد الاخرى تمسك بها جرة أو ما شابه، ولم يلتفت أحد إلى أن المرأة المنحوتة، تقوم بنزع الوشاح من على رأسها، وهذا هو الوضع الذي أراد محمود مختار للتمثال أن يخلده وأن يشير إليه باسم النهضة، أي تحرر المرأة من حجابها، الذي اعتبره رمزا للجمود والتخلف والرجعية وما شابه!).
هذه التجارب كانت ذات دلالة مهمة بالنسبة لي، حيث تبينت كيف تؤدي النظرية إلى تحقيق الفهم، وكيف يؤدي غيابها إلى تعطيل القدرة على الفهم، وقد استدعى مني هذا الأمر بحثًا إضافيا، لأن النظرية تدَّعي أنها تقدم أدوات مساعدة على الفهم أو تقدم أسلوبًا لاكتساب المعرفة، فما الذي دفع العقل الإنساني إلى تطوير النظريات أصلاً.
كما نعلم جميعا هناك طريقتان لاكتساب المعرفة، طريقة الاستقراء والتجربة والحس، وطريقة الاستنباط وإعمال العقل. بعض المفكرين يستخدم مجاز النملة والعنكبوت للمقارنة بين الأسلوبين، فالنملة عندما تسعى لكسب قوتها فإنها تقوم بجمع ما أنتجه الآخرون، أما العنكبوت فعندما يسعى لكسب قوته فإنه ينتج شبكته من ذاته، فكأن العنكبوت استنباطي بهذا المعنى والنملة استقرائية! لأن النملة تجمع ما قدمه الآخرون وتنظمه، والعنكبوت استنباطي لأنه ينتج شبكته من داخله ومن جهده الخاصة. وفي مواجهة نمطي النملة والعنكبوت، كان فرانسيس بيكون يدعو الباحثين لأن يكونوا مثل النحلة، لأن النحلة تجمع الرحيق، ولكنها تُنتج العسل بعد ذلك، فكأن الباحث عليه أن يجمع ما بين الاستقراء والاستنباط.
انحصر النظر العلمي لوقت طويل في إطار هذه الثنائية، ثنائية التجريب والاستنباط، ولكن اكتسب التجريب سمعة أفضل مع الوقت، حتى أصبح معظم العلماء في إطار عصر النهضة وما بعده يفكرون بشكل تجريبي أو يثنون على التجريب حتى وإن كانوا لا يطبقونه حرفيا، إلى أن جاء الشخص الذي نعرفه جيدًا “ديفيد هيوم“ وألقى حجرًا في ماء التجريب الراكد، وصدم الجميع عندما صرح بأنه لا يوجد أي تلازم عقلي منطقي ضروري في العلاقات التجريبية، فإذا كان كل البجع الذي قابلناه في حياتنا أبيض اللون، فإن هذا لا يولد أي إلزام منطقي أو عقلي بأن كل البجع أبيض، كل ما هنالك أننا لم نقابل حتى الآن البجعة السوداء التي ربما توجد في مكان ما، وكأن فكرة اكتساب المعرفة أو إقامة الفهم، بناء على الاستقراء المتواصل بجمع المزيد من الشواهد، لا تثبت شيئًا، ففي النهاية، لا يوجد تلازم عقلي منطقي بأن يكون كل البجع أبيض اللون، لكون ما تم العثور عليه تجريبيًا واستقرائيًا حتى اللحظة هو بجع أبيض فقط.
تعليقات هيوم أفرزت حالة من الشكوكية، التي تطلبت من الباحثين أن يضيفوا إلى أبحاثهم التجريبية ما يشبه المدونة التفسيرية لما يقيمونه من علاقات، فإذا كان الفهم هو اكتشاف العلاقات، وإذا كان اكتشاف العلاقات لابد وأن يتم بشكل تجريبي، كما استقرت على ذلك أبستمولوجيا المعرفة أو نظرية المعرفة الحديثة، فإن إسهام هيوم يتمثل في ضرورة الرجوع خطوة، لفهم طبيعة التلازم المنطقي بين الاستقراء وما بين اليقين، كيف يمكن الادعاء بأنك قد اكتسبت معرفة لمجرد أنك راكمت المزيد والمزيد من الشواهد؟
منذ هذه اللحظة، كما أدّعي، أصبحت النظرية هي الكلمة السحرية، لأن النظرية، بعبارة وجيزة، هي المذكرة التفسيرية للإجابة عن تساؤل، لماذا أتصور أن الاطراد يولد معرفة؟ من هنا صار البحث العلمي هو محاولة الوقوف على الاطرادات ولكن وفق تفسيرات أو افتراضات نظرية، ولكن لماذا البحث عن الاطرادات؟ لأنه لا يوجد قانون للتعامل مع حالة منفردة، فالقوانين تتعامل مع الحالة التي تتكرر كلما توافرت ظروفها، فكلما قمنا بتسخين الحديد فإنه يتمدد، فالقوانين تتعامل مع الاطرادات. وإذا كان القانون يصف فدور النظرية في هذه الحالة هي أن تفسر، إذن الدور الأساسي للنظريات، والذي ظهرت من أجل أن تقوم به هو الدور التفسيري.
للمستشار البشري تعقيب مهم على كتاب محمد عابد الجابري في كتابه “نقد العقل الأخلاقي العربي،” والذي اتهم فيه الجابري العقل العربي بأنه لم ينجح في تطوير نظرية أخلاقية، وأنه عند البحث عن مظان هذه النظرية فإننا لا نجدها إلا متأخرا في كتابات ابن المقفع في كتاب “كليلة ودمنه”. أدهش هذا الاستخلاص المستشار طارق البشري، وكتب ردًا مهمًا على هذا الطرح ناقش فيه ادعاء الجابري “إن العرب لم ينجحوا في تطوير نظريات في المطلق ونظريات أخلاقية على وجه التحديد”، فبدأ بمناقشة الجابري في معنى النظرية، وثنّى بالتساؤل هل النظرية هي وصف أم وظيفة؟ وإذا كان الفقه الإسلامي قد خلا من هذا المفهوم، فهل لم تقم فيه مفاهيم فقهية أخرى بالأدوار الوظيفية للتنظير، وقدم البشري في هذا الرد اجتهادا مهما، كان ملهمًا جدًا بالنسبة لي.
عندها بدأت بالتفكير، هل بالفعل يمثل خلو التراث الفقهي من مفهوم التنظير سقطة أو نقطة ضعف تحتاج إلى التدارك أو إلى تطوير مقولات اعتذارية أو تبريرية؟ أم أن الفقه ربما لا يناسبه أن يكون تنظيريًا بهذا المعنى؟
مثلت قراءتي للمفكر الفلسطيني الأصل وائل حلاق بوابة للإجابة عن الأسئلة السابقة، فحلاق كان معنّيا بفكرة تطور الفقه الإسلامي، وعلى العكس من كثير من المتعلمين تعليمًا غربيًا، (حلاق مسيحي عربي ترقى في أكاديميات البحث العلمي الغربية)، كان حلاق شديد الانبهار بحالة التنوع الفقهي التي سادت التاريخ الإسلامي، وكان يعتبر أن فكرة جمع الآراء الفقهية في إطار منظومة واحدة تشبه المنظومات القانونية على نحو ما جرى مثلًا في مجلة “الأحكام العدلية” وما شابهها، كان يَعتبر أن هذا يعد من باب تضييق الواسع، وكان يعتقد أن الواقع البشري الإنساني المتنوع، الثرى، التدافعي، يلائمه أن يكون الفقه الذي يخاطبه ويوجهه ويضبط حركته فقهًا ثريًا متنوعًا متدافعًا. احتفى وائل حلاق على امتداد كتابه “الشريعة” بشكل شديد الإيجابية بثراء وتنوع الحالة الفقهية عبر التاريخ الاسلامي، وعندما بدأ هذا التاريخ ينحو ناحية صياغة المدونات القانونية، ولا نقول الفقهية، كانت هذه بداية الانسحاق أمام الحداثة، على اعتبار أن الحداثة بشكل أو بآخر هي تلك الفكرة الضجرة بالتنوع، فالمشروع الحداثي يعتبر أنه بالإمكان وضع البشر على خط إنتاج، تماما كما في أفكار التصنيع، والتصنيع هو ذلك المشروع الذي يولع بإنتاج السلع المتشابهة، ويعتبر أن السلعة المختلفة هي سلعة غير مطابقة للمواصفات، ومن ثم سلعة معيبة بالضرورة. اعتبر حلاق أن الحداثة نقلت هذا التصور التصنيعي إلى عالم البشر، وأصبح البشر أيضًا مطلوب أن يُنَمـَطُوا، وأن يكونوا على شاكلة السلع القياسية.
وكانت أدوات الحداثة في تحقيق هذا التصور متعددة، ومنها “النظرية” نفسها، هذا هو الادعاء الذي ادعيه في هذه الورقة: أن الحداثة ربما تكون طَورت “التنظير والنظريات” كمحاولة لضبط وتلخيص الواقع المتنوع من خلال مقولات ونظريات وعبارات مصمتة، هذا الطرح الحداثي، ربما يكون غير ملائم للواقع الإسلامي، الذي يناسبه أكثر أن يُمارس العقل المسلم نوعًا من الاجتهاد الذي يحاول الاقتراب من الحقيقة دون أن يدَّعي انه قد اقتنصها في إطار عبارة أو جملة أو مقولة، وربما يكون العقل الفقهي ميسرًا أكثر لأن يطور نوعًا من القواعد الفقهية التي توجه الواقع دون أن تدَّعي أنها تفسره (تفسيرا تاما)،
فالتفسير – وفق “المسيري” – هو نوع من الجموح العقلي الذي يدَّعي أنه قد ألم بأطراف الظاهرة جميعها وأصبح قادرًا على أن يتحكم بها، وهو بهذا المعنى يندرج ضمن خصائص العقل الحداثي الذي يمارس دائمًا نوعًا من الاستعلاء إزاء العالم، ويدَّعي أن العالم يمكن تفسيره أي يمكن الإحاطة به. يجدر القول إن عبد الوهاب المسيري في إطار ما كان يدعو إليه من تبَّنٍ للنموذج الرباني، كان منفتحًا على أفكار التنوع والاختلاف، وكان واعيًا – وإن لم يفرد مساحات كبيرة من عمله للتأصيل لهذه الفكرة – بفكرة التنوع التي كانت حاضرة بشكل كبير في إطار النموذج الرباني الذي كان يتحدث عنه.
إذن، في ضوء ثنائيات الواحدية والتنوع، وفي ظل حقيقة أن التنظير وليد سياق حضاري ربما يكون مختلفًا عن السياق الحضاري الإسلامي، هل يعد غياب التنظير بهذا المعنى أمرًا يحتاج إلى الاستدراك أو الاعتذار بشأنه، وخصوصًا أنه على أرض الواقع يحدث هذا بشكل أو بآخر؟ بعد خضوعنا لمبضع الاستشراق الذي تعامل مع تراثنا بشكل فيه نوع من الاستباحة. فإذا كان الاستشراق قد قدم المادة المعرفية إلى مؤسساتنا وإلى أكاديمياتنا وإلى معاهدنا العلمية، فهل صارت هذه المؤسسات والأكاديميات تعكس هذا الوعي الاستشراقي، الذي يضيق بالتنوع، ويضيق بكثرة المذاهب، وكثرة الآراء، وكثرة الفتاوي، وكثرة القواعد، ويريد أن يصب الواقع في شكل نظريات؟ هل استلهمت مؤسساتنا ذلك؟ الواقع يقول إن هذا ما قد حدث بشكل ما، والدليل هو ظهور ما يطلق عليه النظريات الفقهية.
إن أول ما يسترعي الانتباه عند الاطلاع على المحصول المتوافر مما يسمى بالنظريات الفقهية، أن من يكتبون فيها يدبجون الكثير من التوضيحات التي ترسم ملامح الاختلاف بينها وبين القواعد والأحكام الفقهية، فيما لا يبذلون جهدا مساويا لإظهار ملامح الاتفاق بينها وبين النظريات أصلًا.
ولقد كان الأولى أن يتم التساؤل في البداية فيم تقترب هذه النظريات الفقهية من معنى النظرية، وهل يصح أن توصف ابتداء بالنظريات، بالمعنى الذي ناقشناه فيما سبق؟ هل فيها ذلك النفس التفسيري المميز للتنظير؟ أو أنها مجرد بنى تصنيفية وتجميعية لمقولات فقهية مستقرة، وهل من المعتاد أن يقدم العقل الفقهي إنتاجا تفسيرًا، أم أن هذا مما يخرج عن نطاق اهتمامه؟ وهذا أيضًا من التساؤلات التي أطرحها في هذه الورقة، وإن كنت لا أملك لها جوابًا حتى الآن.
فالعقل الفقهي معني دائما بصياغة وتقديم الحكم العملي، أي الحكم الذي سيترتب عليه حركة وتفاعل في الواقع، وهو يبني هذا الحكم على أساس من تصور معين للواقع، على اعتبار أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فهل في المسافة ما بين الوصف والحكم يختفي التفسير؟
بعبارة أخرى هل التفسير ليس جزءًا من بنية العقل الفقهي؟ وهل التفسير به نفس حداثي يتضمن معنى الإمساك بجوهر الشيء وحقيقته؟ والفقه بحكم إنه ينبع عن عقل مجتهد، ينأى بنفسه عن أن يقدم تفسيرات “جوهرية” بهذا المعنى. وإذا خلا الفقه من المعنى التفسيري، فهل ليس للفقه ما يقوله ازاء تمدد المساحات الفكرية إلى مشارف الحِمى الفقهية إن جاز القول؟ مثلا؛ عندما يصدر كتاب مثل “الدولة المستحيلة”، أليس للفقهاء ما يقولونه حوله تفسيريا؟
وماذا أنتج الفقه تفسيريا بعد سلسلة كتب السياسة الشرعية للماوردي وابن تيمية، ألا يستحق الواقع أن تقدم بشأنه اجتهادات وتأصيلات تفسيرية، ولماذا ليس لدينا كتابات بوزن النظريات الغربية فيما يتعلق بنشأة الدولة، والعلاقة ما بين الحاكم والمحكوم، لماذا لا توجد نظرية إسلامية تفسر تدهور البيروقراطيات؟ لماذا لا يقدم الفقه تفسيرات لمثل هذه الظواهر التي هي جزء من الحياة كظاهرة الاستبداد؟ لماذا نرجع باستمرار إلى عبد الرحمن بن خلدون إذا أردنا أن نجد تفسيرًا لجوانب العمران والاجتماعي، أي تفسيرًا ينتقل من الأجزاء إلى المقولات الكلية؟ هل الفقه يعتبر (وقد يكون محقا في ذلك) أن المساحة (التفسيرية) لا تنتمي إليه؟ هل يزهد في أن يطور إنتاجًا بحثيًا ضمن هذه المساحة لأنها لا تتعلق مباشرة بمسألة الحكم على الشيء ولا بتصوره؟ هل ينحصر الإسهام الفقي في إطار دائرتي الوصف (أو التصور) والحكم؟ أم أن هناك جهدًا تفسيريًا موجودًا؟ هل هناك تفسيرات فقهية لظواهر مثل التضخم، والاحتكار، والأزمات الاقتصادية؟ أم أن النظرية الفقهية هي نظرية قبلية، تقدم الحل على نحو استباقي، أيا ما كان نوع المشاكل، (عندما أجريت بحثا أوليا في كتب الفقه الإسلامي عن إجابات للمشكلات الاقتصادية المعاصرة، وجدت معظم الاجابات قبلية، من نوع أن النظرية الاقتصادية الإسلامية تنهى عن الاكتناز، وتنهى عن الربا، وتنهى عن الاحتكار، وتنهى عن كذا….، كأنها تطرح نظرية قبلية تصلح للواقع، مهما كان نوع المشاكل التي سوف تظهر في إطاره، وليس نظريات بعدية، تتعامل مع النوازل تفسيريًا. طبعًا يمكن الاستدراك على هذا الكلام بالقول إن هناك رسائل وأبحاث للتعامل مع هذه الجزئيات، ولكن نحن نتحدث – كما أشار أخي د. مدحت – على مستوى التنظير الكلي، وليس على مستوى الاجتهادات أو المقولات الجزئية. فهل من حق الباحثين المسلمين أن يبدأوا في المطالبة بتطوير مثل هذا النوع من التنظير (بدلا من التنظير الفقهي القائم على التصنيف والتبويب والترتيب)؟ أم أن التنظير التفسيري – كما سبق القول – هو مما يختلف مع طبيعة الفقه؟ هذا سؤال ينبغي أن نحسمه مرة واحدة وإلى الأبد، ذلك لأنه إذا أمكن الادعاء بأن ما هو موجود من نظريات فقهية، لا يمت لمفهوم النظرية والتنظير بكثير شبه، وإذا كان التنظير يعنى بالأساس بالتفسير، فهل من المطلوب أن ينحو الفقه هذه الناحية أم لا.
هذا هو السياق الذي كُتبت فيه هذه الورقة. ربما توجد تفاصيل في الورقة لم أتعرض لها، ولكن أرجو أن يكون قد توفر لحضراتكم الوقت للاطلاع عليها، ومحاولة الاشتباك مع ما ورد فيها من أسئلة وتفاصيل. والله من وراء القصد والحمد لله رب العالمين، وشكرًا لحضراتكم.
د. مدحت: شكرًا د. شريف، كان العرض ممتعًا، وفيه روح، والموضوع في مستوى كلي، هذه طبيعة المناقشات فيه، ولكن الأجزاء المتعلقة بالواحدية والتنوع، والمناظرة ما بين مدخل الوحي ومدخل الحداثة، أعتقد أنها كانت تحتاج لمزيد من التنويه في كلمة حضرتك، وعمومًا فإن الورقة بها الكثير من التفاصيل، وأتمنى أن يكون الحضور قد طالعوها بشكل جيد، لأنها جديرة بنقاش قوي إن شاء الله عز وجل.
أ. مهجة مشهور
كنا نناقش هذا الموضوع كثيرًا داخل المركز قبل طرحه على حضراتكم في هذه الحلقة النقاشية، ولم أتفق مع دكتور شريف على أن تقتصر الورقة على التنظير الفقهي فقط، على أساس أنه انطلق من فكرة هل العقل المسلم عقل جزئي أم عقل كلي؟ واقترحت أن نقسم النظريات إلى ثلاث مستويات: النظريات العلمية البحتة وهي النظريات الطبيعية التي لا يُختلف عليها، التي يشترك فيها العقل المسلم وغير المسلم، وكان المسلمون قد شاركوا عبر التاريخ في اكتشاف الضوء واكتشاف الأرقام وغيره، وأسسوا نظريات في عدد من العلوم، وبالتالي فالعقل المسلم لم يكن في هذا المجال عقلًا جزئيًا. ثم النظريات المعرفية في المجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والنفسي وغيرها من علوم إنسانية واجتماعية، أرى أن هناك فراغ حقيقي في هذه المساحة لدينا كمسلمين مما جعلنا نلجأ إلى النظريات الغربية، واضطرت كل دولة أن تتبنى نظرية من النظريات السائدة، النظرية الليبرالية أو النظرية الاشتراكية، رغم عدم انتمائها إلى رؤيتنا الإسلامية أو قواعدنا وأصولنا. وهنا يجدر القول بأن التنظير في المجال المعرفي -الذي قام به الغرب – لا يمكن مقارنته بالتنظير في المجال الفقهي لدينا، فهم ليسوا متطابقين من حيث البنية والطرح، ولم يكن رد المستشار البشري كافيًا في هذا الإطار. فعلى سبيل المثال عندما قام “كينز” بوضع نظرية في المجال الاقتصادي والتزم بها العالم فترات طويلة، وقد أُدخل عليها عدة تعديلات، لكن تظل هناك نظرية رائدة قامت عليها اقتصاديات دول، وهذا يُقال أيضًا على الماركسية والاشتراكية. أما نحن فلدينا فراغ نتيجة أن القواعد الكلية لدينا في الوحي _والتي كان من الممكن أن يقوم على أساسها بناءً نظريًا متكاملًا_ لم يتم استغلالها الاستغلال الكافي بحيث يكون لدينا نظرية إسلامية يمكن أن تدير الدولة على أساسها نظامها الاقتصادي. وهنا تأتي فكرة التنوع، فكل دولة يمكن أن تكون لديها –وفق ظروفها الخاصة- المنظور الخاص بها في وضع نظريتها على أساس القواعد والرؤية الإسلامية. فلا ضرورة لوجود نظرية اقتصادية إسلامية واحدة يلتزم بها الجميع، وإنما التنوع يمكن أن يظهر من طبيعة كل بلد، إلا أنه يجب أن تكون هناك رؤية كلية منبثقة من النموذج المعرفي الإسلامي يتم التنظير على أساسها. وأخيرًا تأتي النظريات الفقهية، وتجدر الإشارة هنا أن الاقتصار على الجانب الفقهي عند الحديث عن التنظير في المجال الإسلامي أمرٌ غير معبر عن واقع العقل المسلم، فالنظريات الفقهية لها طبيعة خاصة وبالتالي فالتعميم انطلاقًا من المدخل الفقهي ليس معبرًا عن واقع العقل المسلم والعربي، كما أن الاقتصار على المدخل الفقهي في هذا المجال لن يسمح بالمقارنة مع التنظير الغربي الذي قامت على أساسه إشكالية الجابري. وهنا يطرأ سؤال مهم وهو مدى امتداد الفقه لتغطية الجزء المعرفي في الفكر الإسلامي؟ فخريجي كليات الاقتصاد لا يملكون من البضاعة الفقهية ما يمكِنهم من تقديم بناءً نظريًا أو رؤية كلية في المجال الاقتصادي. وكذلك الفقيه، فهو لا يجتمع لديه كل أصول المجال الاقتصادي لكي يستطيع أن يُنظِر في موضوعات متخصصة مثل التضخم وعلاجه أو الكساد أو غيرها. وشكرًا.
أ. محمد الديب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في البداية أرى أن هناك تفاصيل كثيرة في الورقة، فكنت أقرأ الورقة لكي أرتوي، ولكني أنهيتها وأنا لا زلت عطش. مسألة الواحدية والتعدد ومقارناتها بالحداثة والوحي تلك المسألة مهمة جدًا. وتعليقي كالآتي: في البداية تحدثنا عن الخطاب الفقهي، أرى أن يطول قليلًا تعريف الفقه وتحديده بعدة مداخل، وليس مجرد تعريف نظري أن “الفقه هو معرفة الأحكام”، ونحتاج أن نذكر مثالًا لنماذج شخصيات في عصور مختلفة، فبالتالي التحديد بشخصيات والتحديد الزمني والتحديد بمواضيع وقضايا مهم جدًا.
ما هو مفهوم الفقه؟ هل نتحدث عن المدونات الفقهية التي استقرت على مذاهب أربعة، وكل مذهب معروف كتبه الأساسية ومتونه? إننا يجب أن نُطيل النفَس في الفقه ومستوياته، هل “كتاب الأموال” لأبي عبيد القاسم يُدرج في الفقه أم لا؟ فهو لا يخرج عن نطاق الفقه بالمعنى الواسع. وأيضًا كتاب “السير الكبير” للشيباني فهذا كتاب في الفقه أم لا؟ “الأحكام السلطانية” هل هو كتاب في الفقه؟ إلخ …
عندما نتكلم عن وظيفة النظرية، وهل كان لدى المسلمين نظريات، أو بمعنى أدق هل قاموا بتفسير الواقع؟ هل التراث الإسلامي كان يسعى لتفسير الواقع الاجتماعي سواء على مستوى السلوكيات الفردية أو السلوكيات الجماعية? هل ممكن بهذا المعنى أن نذكر “إحياء علوم الدين” وأنه يناقش السلوكيات والدوافع على المستوى الفردي والمستوى الاجتماعي؟ هل “الغياثي” للإمام الجويني – وهو كتاب رفيع المستوى في باب السياسة الشرعية تعرض للواقع وناقش مشكلات لم تكن موجودة بعد – فهل هذا النموذج تحديدًا يمكن ان يُذكر كنوع من أنواع التنظير؟ وعلى المستوى العقدي هناك مثلًا كتاب “اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم” لابن تيمية، هل ممكن أن يمكن أن نصف هذا الكتاب بأنه على مستوى التنظير أم لا؟ إذ أنه يناقش سلوكيات وظواهر معينة والحكم عليها. وعلى المستوى الفردي هناك كتاب “معيد النِعم ومبيد النِقم”، فهو في مجمله يناقش مسألة الأخلاق والفساد الأخلاقي وآثاره على المجتمع. وإذا ذكرنا ابن خلدون هل يُدرج في الفقه أم لا؟ وهكذا يجب أن نذكر أمثلة على مستوى الشخصيات أو على مستوى القضايا.
هناك تساؤل آخر، أيهما أفقه، الأئمة الأربعة أم سيدنا أبو بكر وعمر بن الخطاب? الأئمة الأربعة نتج عنهم مذاهب وقد استقرت تلك المذاهب، لكن لو درسنا سيرة سيدنا أبو بكر أو سيدنا عمر وما كانوا يقومون به على جميع المستويات في حياة المسلمين – ليس على المستوى الفقهي فحسب – سيتسع المجال. لقد شعرت وأنا أطالع الورقة أننا نتكلم عن الفقه في مسائل الأحوال الشخصية ومسائل القضاء وما شابه ذلك فقط.
د. مدحت: هناك مجموعة من اللمحات ذُكرت في هذه المداخلة أعتقد أنها مهمة لمزيد من تحديد مفهوم الفقه، ويمكن أن يتم ذلك من خلال عدد من النماذج التي تطرح سؤال: هل الفقه بناء على هذه الشواهد شيئًا واحدًا؟ وهل هذه النماذج تعاملت مع التنظير، سواء التنظير الوصفي كما ذكر الدكتور شريف أو التنظير التفسيري كما هو معروف في العلوم الاجتماعية؟ هل هذه الكتب ممكن باختلافها وتنوعها أن تذكر شيء مختلف أو تنتهي إلى المقولة التعميمية؟
أ. أحمد رأفت
السلام عليك ورحمة الله وبركاته
أود أن اتحدث في البداية عن التنظير بالمعنى الذي ذكره أ. مدحت وكيفية صياغة نظرية؟ النظرية في أساسها هي رؤية فلسفية ورؤية لغاية الوجود، وتصورات حول ماهية الله والإنسان والعالم، من خلال هذه الرؤية المركزية يتم الانتقال إلى كل المستويات الجزئية لبنائها اتساقًا مع هذا المركز. صحيح أن الفقه يتعلق بأشياء جزئية، لكن يسبقها رؤية كلية للوجود، وهذا ما نتحدث عنه من حيث الأدلة، هذه الرؤية تُبنى على النصوص المقدسة سواء من القرآن الكريم أو من السنة، والإجماع، والرأي، والقياس. بالتالي الفقه عندما يتعامل مع أي قضية فهو يرجع لهذه المرجعية، فالتنظير لا يفسر الواقع فحسب، ولكنه أيضًا يحدد الاتجاه الذي يجب أن يسير اليه المجتمع، ويقدم تصورات للشكل الذي يجب أن يكون عليه هذا المجتمع. الفقه في الواقع هو معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد. أما تعريف المعرفة في الغرب، هي الإدراك الجازم للواقع وللحقيقة. ونحن كدارسين للعلوم الاجتماعية يجب أن نعلم بأن هذا التعريف غير مناسب لنا تمامًا كمسلمين، وتحتوي العلوم الشرعية على تعريفات أخرى للإدراك، أو للمعرفة. فالفقه هو أصلًا – كما ذكر إمام الحرمين – ظن، ولو لم يكن ظنًا لما كان فقهًا، والظن هو أكثر من خمسين بالمئة، فعندما نتحدث مع الفقيه ونذكر له أننا سنقوم بذلك، فيرد لأي درجة تعتقد كذا؟ فنرد أظن فهذا يعني أكثر من خمسين في المية، فاذا كان رده أشك فالشك يعني نسبة خمسين. خمسين، بمعنى أنه ليس مختلف تمامًا، من هنا فإننا نحتاج أن نعرف هل العقل الفقهي يتسع للتنظير? نعم من حيث الأصول، فعلم الأصول هو النظر في الأدلة من حيث استفادة الأحكام منها، لكن ما نحتاجه هو توسيع علم الأصول، ليس لإحكام وإثبات شيء أو نفيه عنه فقط، ولكن ليشمل إفادة التصورات، كيف نرجع بنفس الأدلة والأدوات العقلية لكن نوسع المنهج والمضمون مع التعامل مع النصوص المقدسة.
من جانب آخر، فإن جزء من عقلية الفقيه هو التفسير بلا شك، فمن قواعد الإمام الشافعي في فقهه، أن الأمور تتبع المقاصد، كمثال إن كان هناك من يُقصر الصلاة وهو يسافر عابثًا دون وجهة فلا يجوز له أن يُقصر، فبالتالي إن الحكم الفقهي لابد وأن يترتب على تفسير. ولكن لماذا لا يقدم الفقه تصورات عن المجتمع؟ هنا نتكلم عن غاية الفقيه؟ وما هي الغاية من الموضوع؟ مثلًا الفقهاء يقدسون فكرة حفظ دماء المسلمين، فعندما نذكر الثورة ولماذا تحدث فلن يقبل بها، لكن في نفس الوقت حينما نقدم له كباحثين للعلوم الاجتماعية الشكل المجتمعي الذي نظن أنه أكثر اتساقًا مع النظام الإسلامي سيكون حكمه أن هذا الأمر مستحب لكنه لن ينادي به، فيقول هذا الشكل حكمه قد يكون مندوب لكنه لن ينادي به.
أما الجزء المتعلق بالتنوع، فبالرجوع إلى المصادر المقدسة ومنها القرآن الكريم، فهناك مفهوم في غاية الأهمية أكثر استخدامًا عند الصوفية هو مفهوم التجلي، فإن “ابن عربي” يتحدث عن أن التجلي لا يكون واحدًا أبدًا، فالمصري مثلًا حينما يتعامل مع النص المقدس سيحصل على فهم غير ما سيحصل عليه الإندونيسي غير ما سيحصل عليه غيره، لأن التجلي مختلف، ويظهر بمظاهر مختلفة، لكن المصدر واحد والغاية واحدة، وهو الذي سيكون مقياس لأي اختلاف.
فإن وُجد شخص تربى على العلوم الفقهية لكنه غير مقتصر عليها، هل يستطيع أن يقدم تنظيرات متعلقة بالواقع الاجتماعي؟ وهنا يمكن أن أذكر مثالًا: محي الدين بن عربي في كتابه “التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية” استطاع أن يصنع حالة من التجريد بحيث أنه ينظر إلى الواقع فيقول إنه يستفيد منها خادم الملوك في خدمته ويستفيد منها الإنسان في حياته، فهو صنع تجريد لمجموعة من القيم استقاها من النص المقدس وبما يتسق مع العلوم الفقهية – رغم تعارض موقفه من الفقهاء – لكنه قال إننا نستطيع أن نقيس الواقع الاجتماعي ونحسنه بناء على هذا التجريد. إذن من الممكن، من خلال توسيع مجال الدلالة الفقهية وتحديد المعرفة وأدواتها، تحقيق مرة أخرى أن يرتبط الفقه بالتنظير. وشكرًا جزيلًا.
د. مدحت: شكرا لاستدعاء أصول الفقه لأنه مهم جدًا.
أ. وليد القاضي:
أعتقد أن الفقه لم يخلُ يومًا من التنظير، بل هو سمة أصيلة فيه، إذا أخذنا بمفهوم النظرية الموجود في الورقة بأنه “جملة من التصورات المؤلفة تأليفًا عقليًا، تهدف إلى ربط النتائج بالمقدمات”. وإذا كان ظاهر فقهنا التقليدي أنه يهتم بالفروع وبالجزئيات، دون النظريات العامة، فإن حقيقة الأمر، وكما أشارت الدراسة، أن الفقهاء والأصوليين بذلوا محاولات رائدة في مجال التنظير، تتمثل في كتاباتهم المنهجية في أصول الفقه، وفى مقاصد الشريعة، وفى عنايتهم بالقواعد الفقهية. وهذا يتوافق في نهاية المطاف مع القول بأن مفهوم النظرية لم يكن فقط حاضرًا بروحه، وإنما تمكَّن من تطوير “نظريات فقهية” فعلية؛ تقوم على “تصور مجرد جامع للقواعد العامة، الضابطة للأحكام الفرعية الجزئية”، وأن هذا التصور يقوم بالذهن، سواء من خلال الاستنباط بالتسلسل الفكري المنطقي، أو عبر استقراء الأحكام الفرعية الجزئية.
ثم إذا كانت النظرية في العالم الغربي تأخذ بعين الاعتبار الرغبة الحداثية في التحكم بالواقع، وتنحو ناحية التنميط، مع عدم استبعاد البُعد المادي، فأتصور أن الإسقاطات الحداثية تعسفية وأنانية، وتخدم في نهاية المطاف مصالح طائفة معينة من البشر، على عكس الوحي الذي يبتغى مصالح العباد كافة، خاصة وأن عملية التنميط مخالفة لسنة الاختلاف التي يجب احترامها وعدم تجاهلها. وحتى لو أخذنا جدلًا بمقولة أن سنن الواقع الاجتماعي تشير إلى أن ما يبدأ متنوعًا وتعدديًا لا بد وأن ينتهي أحاديًا ومحددًا، وذلك على اعتبار أن الاستقرار على شكل نهائي هو المآل الطبيعي لأي حالة أصلية من التفاعل والتنوع، فلو افترضنا ذلك، فكيف يمكن القول بتلاقي الفقه مع التنظير بالمعنى الغربي؟ فإذا التنظير الحداثي يهدف إلى السيطرة على الإنسان، فإن التنظير الفقهي يهدف إلى تحقيق مصالح الإنسان، وأخذ تغيرات الواقع في الحسبان، وهو أكثر مراعاةً واستيعابًا لحالات الإنسان وطباعه المتغيرة والمتنوعة. ثم إذا كان هدف التنظير، بصورته الغربية، تحقيق صورة نمطية مجردة وعامة، يتم على ضوئها فهم وتفسير الواقع، فإن العالم الغربي ذاته ما لبث أن نكث إلى التعددية والتنوع التي حاول تحجيمها، وذلك عن طريق الإيغال في التقسيم التخصصي العلمي، فأضحى يعج بعشرات النظريات التي قد تتضارب مع بعضها أحيانًا.
من جهةٍ أخرى، أتصور أن التنظير الفقهي يُعد أكثر اتساقًا مع طبيعة العلوم الاجتماعية، حيث من المعلوم أنه لا توجد نظريات تامة أو نهائية أو بإمكانها التنبؤ بالتصرفات البشرية. وإذا كان ما يشغل العقل المسلم هو احتواء الظواهر داخل أطر شرعية والحكم عليها وليس تفسيرها، مثل التضخم والاحتكار وغيرهما، كما ذكرت الدراسة، فذلك لأن الإسلام قدَّم الركائز الأساسية التي من المفترض، وينبغي، أن تكون عليها المجتمعات البشرية، مثل الرحمة والأمانة وتحريم الربا، وهذه الركائز – كما لا يخفى – ذات توظيف مزدوج ومصلحي في الغرب، ولا تُلزم مَن يشتغل بالتنظير هناك ضرورة الأخذ بها أو مراعاتها لدى تنفيذ عملية التنظير، وذلك على عكس ما يقوم به الفقهاء.
وفي هذا السياق، يكون من الجور ادعاء البعض بأن الجهود التنظيرية الفقهية والإسلامية متخلفة عن الجهود التنظيرية الغربية، خاصة وأنه يجب أن يكون حاضرًا في الذهن أن الأخيرة لن تقبل بحال أن يتفوق عليها غيرُها، وإلا كان ذلك نذيرًا بانهيار حضارتها التي عملت جاهدةً على فرض سيطرتها وإظهار تفوقها وتقدمها في ربوع الأرض. ومن ثمَّ، لم يجد المستشرقون بدًا من إضفاء صفة “التخلف” على الجهود الإسلامية ذات الصلة؛ في مسعى لتجهيل العقل المسلم. بل إن مقولة “صراع الحضارات” التي طرحها أحد المنظِّرين الغربيين (صامويل هنتنجتون) تؤكد مدى قوة الإسلام، الذي ستصطدم حضارته في نهاية المطاف مع الحضارة الغربية، ولا شك أن هذه القوة تنبني في العديد مِن أُسُسِها على قناعة دينية وجهود فكرية راسخة منذ القرن الأول للإسلام. وبناءً على ذلك، من الأجدى الكفُّ عن المساعي والمحاولات التبريرية التي يقوم بها بعض الفقهاء للتأكيد على أن للمسلمين إرثًا نظريًا ذا شأن، بل يجب أن ينصرف ذلك الجهد نحو سبل التجديد الممكنة في الفقه وغيره من العلوم الإسلامية.
هذا، وأعتقد أن الانبهار بالغرب، جعل كثيرين من العالم الإسلامي يُفتَن بالأفكار والنظريات الغربية، وبالتالي يبنى عليها، فأصبح الكثير من فكرنا بالتالي تابعًا بشكل أو بآخر للأفكار الغربية في نهاية الأمر، كما أن ذلك يخدم الغرب من جهة أخرى؛ حيث ينظر إلى ذلك باعتباره مظهرًا للفقر الإبداعي والتنظيري لدى المسلمين اليوم. كما أتصور أن حركة الترجمة من العربية إلى الإنجليزية أو الفرنسية وغيرها، ليست بذات القدر السريع من الترجمة من تلك اللغات إلى العربية، ما يُعني أن أفكارهم تنتشر بسرعة في المجالَيْن العربي والإسلامي، مقابل انتشار محدود للغاية للأعمال العربية والإسلامية في المجال الغربي.
ارتباطًا بمسألة التنوع والاختلاف بين المذاهب الإسلامية، وعمَّا إذا كانت مدخلًا للفرقة في الدين، فيمكن القول بأن مراعاة الحكمة الأصلية من الخلق قد تجيب عن ذلك؛ بمعنى أن الله تعالى قال في كتابه الكريم: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، وبالتالي كان قوله تعالى: “أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه”، وكذا: “واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تتفرقوا”، هو ما يجب على المؤمنين الالتزام به لتحقيق العبودية الحقة لله تعالى. وبالتالي، متى راعت التعددية الفقهية والمذهبية وغيرها هذه الحكمة، والتي تقتضي بالطبع الالتزام بما جاء بالكتاب والسنة المطهرة، فإنها لا بد أن تؤدي في نهايتها إلى تعزيز التمسك بالدين القويم، ويُفهَم – وفقًا لذلك – أن هذه التعددية هي فقط من باب التيسير في الدين، وليس أن تكون سببًا للفرقة.
فيما يتعلق بالتساؤل الخاص: هل ينبغي أن يلعب الفقه دومًا أدوارًا محافظة، أم أنه يمكن أن يمارس أدوارًا إصلاحية إزاء الواقع؟ أتصور أنها ليست محافظة بالمعنى الجامد، وإنما لا بد أن تأتي وفقًا لكتاب الله وسنة رسوله، كما يمكنه ممارسة هذه الأدوار الإصلاحية عبر ما يُسمَّى بـ “التجديد الفقهي” الذي يشتمل، من بين أمور أخرى، على الحاجة إلى تقديم اجتهادات في المسائل المستحدثة، وهو أمر أصبح مقبولًا في الحِس الإسلامي العام والعلمي، لأنه النتيجة الحتمية لقاعدة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، ومن هذا المعنى قولهم بعدم خلو عصر من مجتهد.
وفى هذا السياق ينبغي العمل على استكمال الجانب التنظيري في الدراسات الفقهية المعاصرة، أخذًا في الاعتبار هذه المسائل المستحدثة، وذلك، وفقًا لما ذكره علماء أجلاّء مثل محمد عمارة، وجمال الدين عطية، من أن ذلك يأتي:
- تحقيقًا للأغراض العلمية والتعليمية، في تيسير دراسة الأحكام الفرعية، بجمعها تحت قواعدها الفقهية، وربط هذه القواعد بالقواعد الكلية الأعلى منها.
- وكذا كون ذلك سببًا دعويًا، بمعنى أن الإسلام – وسط المعترك الفكري والأيديولوجي المعاصر – مُطالَب بتقديم الإسلام كمنظومة واحدة مترابطة المقدمات بالنتائج، تحكمها مقاصد محددة مبنية على عقيدة واضحة.
- وأيضًا كونه سببًا لتعزيز الاجتهاد والقضاء، وتسهيل مهمة المجتهدين والقضاة في سد الفراغات التشريعية، إذ إن نصوص الكتاب والسنة لا تغطي كامل مساحة النشاط الإنساني المتزايد دومًا، فنكون بحاجة إلى تغطية هذه الفراغات بالاعتماد على القواعد والنظريات المستنبطة أصلًا من الفروع والمقاصد، وتفصيل هذه المسألة أدخل في تجديد أصول الفقه منها في تجديد الفقه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د. مدحت: تناقش الورقة كيف يمكن أن يكون الفقه أكثر اشتباكًا مع التطورات في المنهجية العلمية، هل بأن يجدد نفسه من ذاته وكفى؟ أم يقدم نفسه وعينه على التطورات في مجال العلوم الاجتماعية وبالأخص في المستوى التنظيري؟ فنحن مؤمنين بديننا وقرآننا وسنتنا بأنها هي الحق الأعظم والخير الأعظم والعدل الأعظم، ولكن الفقهاء اختلفوا، وطالما اختلفوا إذن هناك درجات من الصحة والخطأ، من الصحة والأصح، فأثناء أدائنا هل نحتاج إلى مستوى من القولبة يشتبك مع الواقع بالتفسير؟ أم يكتفي كما قال الدكتور شريف بالوصف والتكييف والحكم؟ وبحضور الدكتور هاني سيتكلم عن الرباعية المعروفة للمفتي أو القاضي الذي يصف الواقعة ويكيّفها شرعيًا وينزل عليها الحكم، بعد أن يسكِنها في الباب الخاص بها، لكن أين التفسير؟ فنحن علينا جهد في أن نعرِف الوصف للمستفتي، أو للقاضي، أو للمدعي، أو ما إلى ذلك. ولكن هل يكفي الوصف؟ أم ينبغي معرفة التفسير، والتفسير درجات، تفسير جزئي، وهناك تفسير أكثر بنيوية وأوسع.. و … إلخ، هل هذا الجزء مطلوب؟ وهل عندما صغنا النظريات الفقهية تم تغطيته ومراعاته؟ نريد أن نشتبك عند هذا المستوى. أما مستوى فقهنا هل هو بخير أم لا فهو بخير والحمد لله وهو شرعنا بالأساس، ولكن درجة تفعيله في المجتمع يجب أن نشتغل عليها.
أعتقد أن الآراء ثرية، تضغط على الإطار المتعلق بالفقه والحداثة إلى أن تدخله في الفقه نفسه.
د. أماني صالح
أشكر مركز خطوة على دعوتي للمشاركة في مناقشة هذه الورقة المهمة للأستاذ الدكتور شريف عبد الرحمن وما تطرحه من موضوع إشكالي مهم أعتقد انه يترجم واحدًا من هموم مسلمي هذا العصر في تعاملهم مع تراثهم الفقهي العظيم انطلاقًا من زمانهم وقضاياه. وأرجو أن يستمر هذا الاتجاه من انتقاء الموضوعات التي تحقق غاية ورسالة “مركز خطوة”. وتتلخص ملاحظاتي على الورقة وموضوعها الإشكالي وهو “الفقه والتنظير” في النقاط التالية:
أولا: إن المتابع لمنهجية الفقه يلحظ أن هناك اتجاهًا عامًا من الفقه يتحرز من إطلاق الأفكار العامة أو التعميمات -التي تمثل النظريات أحد صورها- خشية الابتعاد عن النص وتلمسًا وحرصًا على الاتساق مع لفظ القرآن الكريم ما استطاع الفقيه أثناء قيامه باستنباط الحكم الشرعي لجلال وخطورة ما يقوم به وهو يستنبط حكمًا شرعيًا يحل حلالًا أو يحرم حرامًا، ومن ثم فهو يسعى للحد –ما استطاع – من المكون الفكري الشخصي في بناء الحكم.
هكذا تصور الفقيه أو تمنى.. ولعل هذا هو ما دعا الفقهاء إلى اتخاذ موقف مناهض رسميًا لعلم الكلام الذي يعتمد كثيرًا على الأفكار والتعميمات حتى ما ينتمي من ذلك العلم إلى أهل السنة والجماعة مثل فكر الأشاعرة.
ولكن السؤال المطروح هو: هل نجح الفقهاء فعلًا في الابتعاد عن التعميمات والتنظير لصالح “الأدلة التفصيلية” المستقاة من النصوص.. يمكن الرد على ذلك بمنتهى الأريحية، بالنفي وأستند في ذلك الرأي إلى ما سيلي من نقاط.
ثانيًا: أن الحديث عن التنظير لا يقودنا بالضرورة إلى النظرية، فالتنظير يتخذ أشكالًا ودرجات متفاوتة تتراوح بين: الحجاج والنقاش النظري الجدلي، وبين المقولات النظرية، وهناك المفاهيم، ثم هناك الافتراضات النظرية المسبقة غير المصرح بها والتي تحكم المنتج الفكري أو ما يسميه البعض بالنص الضمني أو المسبق، ثم هناك المنظور أو الاقتراب، وصولًا إلى النظرية.. وهنا يبرز سؤال: من يستطيع أن ينكر وجود العديد من تلك التجليات التنظيرية في عمل الفقهاء حتى وإن غاب مستوى النظرية؟. على سبيل المثال لقد حفل الفقه بالنقاش أو الحجاج النظري؛ والمتابع لفقه الإمامة مثلًا يذهل لمستوى النقاشات التي خاضها أئمة مثل الغزالي والجويني والباقلاني وأئمة المدرسة الخلدونية المالكية، ابن خلدون وابن الأزرق، حول شرط “القرشية” في الولاية وشرعيته وجدواه أمام شرط “الكفاءة”، وأصل قضية القرشية وتحليلها وعلاقتها بالعصبية والشوكة وبالمقاصد الشرعية، كذلك سقوط هذا الشرط الواقعي وما يثيره من نقاش حول علاقة النص بالعقل … إلخ
حفل الفقه كذلك بقواعد وتعميمات نظرية حكمت العمليات الجزئية للاستنباط والاجتهاد وأطَّرتها، مثل مقولة ترك الفتن والطاعة لولي الأمر الحاكمة في الفقه السياسي السني. وعلى المستوى المنهاجي عدت القواعد الفقهية التي أنتجها الأصوليون من أهم إنجازاتهم، وهي تعميمات وقواعد نظرية قائمة على الاستقراء حكمت عمليات الاستنباط والاجتهاد مثل “لا ضرر ولا ضرار”، “دفع الضرر مقدم على جلب المصلحة”، “الضرورات تبيح المحظورات”، “اليسر ورفع الحرج”، “سد الذرائع” الخ…
ثم هناك نظرية المقاصد العامة للتشريع والضرورات الخمس، وهي جهد عقلي تنظيري قام على استقراء الأحكام.. ومعلوم أن المقاصد لا توجد بنصها أو نظمها أو ترتيبها بشكل مباشر في الكتاب أو السنة فهي نوع من التدبر العقلي للقواعد والمقاصد الكامنة والتي يتوخاها الشارع.
ثالثًا: أنه كلما قلت النصوص الشرعية المباشرة والصريحة في موضوع من موضوعات الحياة كلما زادت مساحة الاجتهاد الفكري والتنظير في الإسهام الفقهي في هذا المجال، كما يتجلى في الفقه السياسي وقضية السلطة أو ما يعرف بفقه الإمامة. فالنصوص الواردة في القرآن الكريم والسنة المشرفة هي نصوص محدودة اتسع معها اجتهادات الفقهاء لتغطية هذا الجانب المهم من قضايا الأمة. ويكفي أن ننظر إلى مبحث “وجوب الإمامة” الذي يتصدر كافة كتب السياسة الشرعية والأحكام السلطانية، وهو مبحث نظري بامتياز يناقش مسألة لزوم وأهمية السلطة لنشوء الجماعة والقيام بوظائفها من منظور إسلامي. وقد ناقش أسس هذا الوجوب أو اللزوم لنصب الإمام وما إذا كانت شرعية أم عقلية أم الإثنين. والمثير أن هذا النقاش النظري قد شارك فيه حتى أكثر الفقهاء عناية بالنقل ورفضًا للفلسفة والكلام، مثل الإمام ابن تيمية في كتابه “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية”. وربما حرض طبيعة الموضوع السياسي وندرة النصوص فيه فقهاء آخرين إلى المضي قدمًا في البناء التنظيري إلى حد تطوير نظرية تفسيرية لقيام السلطة والدولة وانحلالها مثل الفقيه العلامة ابن خلدون ونظرية العصبية.
رابعًا: إن الحديث عن علاقة الفقه بالتنظير يحتم علينا فتح موضوع العلاقة بين الفقه وعلم الكلام، فرغم الموقف الرسمي للفقه والفقهاء من رفض علم الكلام حتى من جانب الكلاميين السنة باعتباره انجرار إلى موضوعات رأوها تضليلًا وتلبيسًا وتخليطًا يضر بسوية واستقامة الدين ومباشرة الأحكام، إلى حد أن عرف أحدهم (وهو المديني المتوفي 324 هجرية) أهل السنة بأنهم “مَن لا يخاصم أحدًا ويناظر ولا يتعلم الجدل والكلام في القدَر” فأخرج بذلك المتكلمة من أهل السنة. ورغم ذلك فقد جمع العديد من الفقهاء المقدرين بين الفقه وعلم الكلام مثل الغزالي والجويني، وجادل آخرون علماء الكلام في قضاياهم مثل الإمام ابن تيمية.
لقد قام علم الكلام الإسلامي على تنظير الرؤى والقواعد الأساسية في العقيدة الإسلامية. وبعض المذاهب مضت قُدُمًا نحو تطوير نظريات متكاملة؛ مثل نظرية الإمامة كأصل من أصول الدين عند الشيعة، ونظرية الأصول والأركان الخمس عند المعتزلة، وبعضها مثل أهل السنة اكتفى بولوج نقاشات نظرية وتطوير مقولات نظرية من باب الدفاع والرد على الآخرين وهؤلاء هم متكلمة السنة (مثل قضايا إثبات الصفات، وأن القرآن كلام الله وتعديل الصحابة جميعًا … إلى آخره).
والشاهد أنه في النموذجين – ورغم الفروق بينهما – فقد كان للتنظيرات المتعلقة بالعقيدة وأصول الدين إسقاطاتها على القضايا الفقهية للمذهب؛ ومنها في فقه أهل السنة مثل قضايا الناسخ والمنسوخ، ومن يحق له الاجتهاد، ومسائل الإجماع، وحكم الأمر في القرآن … إلخ
خامسًا: إن الحديث عن “نظرية فقهية” لا بد أن يقودنا إلى الحديث عن تنوع مفهوم النظرية. فهل يتوقع أن يقدم الفقه “نظرية تفسيرية” أم “نظرية معيارية” أم مزيج بين الاثنين؟ أظن أن الفقه باعتباره علم معني بالحِل والحرمة والمباح والمنكر لا ينتج إلا نظرية معيارية تتعلق بما يجب أن يكون (كسائر البنى النظرية القانونية). لكن تاريخ الفقه يشير إلى احتمال تسرب الواقع للبنية الفقهية من خلال مسائل الفتوى وفقه الواقع المتجدد (على نحو مثلًا طرح نموذج الكد والسعاية وشروط عقد الزواج في منظومة الحلول الفقهية لتعقيدات الواقع الاجتماعي والأسري وصيغه المتجددة). غير أن دخول الواقع إلى النظرية المعيارية يحمل معه مخاطر الانزلاق إلى ” التبريرية” على نحو ما شهده بالفعل الفقه السياسي الإسلامي في معالجاته التشريعية لظواهر “إمارة التغلب” و”إمامة المفضول” التي أنتجها واقع وتاريخ الخلافة.
سادسًا: هذه النقطة تتعلق بسؤال مهم ناقشه باستفاضة د. شريف عبد الرحمن في ورقته وهو: هل التنظير مهم للفقه؟ وما هي القيمة المضافة التي يمكن أن يقدمها للبنية الفقهية العظيمة للفقه الإسلامي؟ ثم ما هي المخاطر التي يحملها لها في طياته؟
أعتقد – من وجهة نظري المتواضعة – أن التنظير ضروري في الفقه الإسلامي، ولو بشكل أو مستوى من المستويات المشار اليها، خاصة ما يتعلق ببلورة منظور أو اقتراب – من خلال استقراء النصوص- يحكم التناول الشرعي لموضوع معين (مثل الأموال، الأسرة، علاقة المرأة والرجل، الحاكم والمحكوم … إلخ)، وذلك لأسباب عدة:
= لإزالة التشرذم والتناقض المرتبط بالاستنباط والقياس الجزئي للأحكام، دون ناظم اللهم الا العنوان (في باب كذا وكذا).
= لتفعيل القيم والقواعد الإسلامية العليا التي وردت في القرآن الكريم بوضوح (مثل قيم العدل والحق والمسئولية الإنسانية والاستقامة وحرية الإنسان والمساواة الإنسانية والخيرية والتزكية…)، تفعيلها في عملية استنباط الأحكام بحيث تصبح ذات فاعلية في توجيه عمليات التفسير والاجتهاد والاستنباط والقياس، وهو في نظري من ضرورات ولوازم تفعيل الشرع.
= لإيجاد قواعد للاسترشاد والتوجيه عند وجود أكثر من بديل محتمل مرجح في عمليات التفسير والاستنباط.
الحديث عن أهمية التعميم والتنظير لا بد أن يتعرض أيضًا لمخاطر التنظير (لأن كل تصرف لا بد أن يحمل معه مزايا ومخاطر يتعين استيعابها ومعالجتها). والمشكلة المحتومة في قضية التنظير هي “حتمية الخلاف” لأن استقراء أية نظرية حتى وإن بُنيت على نفس النصوص إنما ينطوي على مكون شخصي حتمي للمفكر الذي يقوم بعملية الاستقراء والتأصيل التي لا بد أن يتفاعل فيها النص مع رؤى المفكر المتأثرة بنشأته وبعوامل التاريخ والجغرافيا والثقافة والقيم والبنية الاجتماعية. ومن ثم لا بد أن تنتج رؤى مختلفة في النظريات الفقهية تختلف باختلاف المنظرين والمفكرين.
ومع ذلك يبقى السؤال هل خلا الفقه الملتصق بجزئيات الأحكام من الخلاف، وهل خلت تلك التأثيرات غير المنظورة للثقافة والواقع التاريخي والشخصي في توليد الحكم. إن كل اجتهاد ينطوي على استنباط، أو استقراء، أو قياس، أو فتوى لا بد أن يعكس بدرجة أو أخرى كل تلك التأثيرات الثقافية –الاجتماعية- التاريخية. ولعل هذا هو مناط التجديد ومعامل التمييز بين النص المقدس والاجتهاد البشري أيًا كان مستواه او درجته.
أشكر لكم سعة صدركم وأعتذر للإطالة.
د. هاني محمود:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أولًا أشكر المركز على إتاحة هذه الفرصة، أنا سعيد بفكرة الندوة وأتمنى أن تكون ندوة شهرية، لأننا أصبحنا نفتقد مثل هذه اللقاءات.
يعتبر هذا هو الوقت المناسب لهذه الورقة، لان هناك فراغ منهجي موجود على الساحة، ولذلك لن أنشغل كثيرًا بالدفاع، وإنما سأنشغل بالتعاطي مع الأسئلة الجادة التي طُرحت في الورقة، وأنا من إعجابي بالورقة قرأتها حرفًا حرفًا، وبعض المواضع قرأتها أكثر من مرة. وكعادة أستاذنا الدكتور شريف أنه من خلال العرض أثناء اللقاء عادة ما يضيف الجديد، أو الذي لا يكون منصوصًا عليه صراحة في الورقة. فأنا أتفق مع الدكتور شريف في جزئية أن الفقيه المعاصر، وأفضل أن أعبر بلفظ الفقيه لأني اعتقد أن المساحة التي ركز عليها الدكتور شريف هي مساحة الفقيه المعاصر أكثر من الفقه، لأن الفقه فيه محصول كثير. وأنا أستحضر هنا عبارة للمستشار البشري – عليه رحمة الله – أننا أنتجنا من الأفكار ما يكفي، وهذا أوان التفعيل. فمن حيث المحصول نحن لدينا محصول فقهي ثري جدًا، ولكن الإشكالية والمعضلة الأساسية الآن هي كيفية التفعيل، وهذه مساحة كلما فكر الإنسان فيها يشعر بالعجز والإحباط، فمتى سنشهد اللحظة التي نستطيع ان نُفَّعِل فيها كل هذا المحصول الثري؟ طبعًا هناك عقبات – لا تخفى على الحاضرين – تتعلق بمساحة ربما يكون جزء منها يرجع الينا أو إلى تقصيرنا، ولكن جزء مهم منها يرجع إلى أسباب خارجة عن إرادتنا. وأنا في تعليقي هنا أركز على تجاربي الشخصية التي تمس هذه المساحة، فلدي تجربتين.
التجربة الاولى: رسالتي في الدكتوراه، والتجربة الثانية: تدريس مادة النظريات الفقهية.
فيما يتعلق برسالة الدكتوراه التي كانت عن رسالة الإمام الشافعي في المنظور الاستشراقي. إلا أن الموضوع في بدايته كان عما لاحظته في قراءتي عن الأطروحات العلمانية أو الحداثية أو الاستشراقية في الشريعة وأصول الفقه، وكان المخطط في البداية أن أتناول شخصية من الشخصيات التي تعرضت لقضايا الشريعة وأصول الفقه من المنظور العلماني أو الحداثي أو الاستشراقي، وكنت قد نويت في البداية تناول شخصية “محمد شحرور”، فعلًا أعددت خطة بهذا الصدد، ولكن تم رفض هذه الخطة. وعزمت على أن أغيِّر دفة الموضوع، وكان الدكتور محمود عبد الرحمن هو مَن ناقشني في الماجستير، وكنت أتشاور معه لاهتمامه بهذه المساحة، فنصحني أن أظل في هذه المساحة مع تغيير موضوع البحث، فأخذت أُطالع حتى لاحظت ان هناك تركيز من المستشرقين والحداثيين على مناقشة الإمام الشافعي في كتاب “الرسالة”، فانشرح صدري لأن أتناول البحث من خلال هذا الموضوع، فكان موضوع البحث عن رسالة الإمام الشافعي في المنظور الاستشراقي، وكانت فرصة لي كي أُتم قراءة كتاب “الرسالة” وأُعيد اكتشاف وظائف أخرى لعلم أصول الفقه، وكذلك اكتشاف جوانب أخرى في شخصية أئمة الفقه ولا سيما الإمام الشافعي. فعلى سبيل المثال وجدت أن هناك باحثين غربيين يتعاملون مع الأئمة من أمثال الشافعي وابن تيمية لا على أنهم فقهاء فحسب، بل على أنهم فلاسفة، أو بتعبيرهم الذي نقله أمثال محمد عابد الجابري، أنهم إبستمولوجيين، فضلًا عن كونهم فقهاء، فهذه الصفة وُصِف بها الغزالي ووُصِف بها من قبله الشافعي، ووُصِف بها حتى الفقهاء الذين يُتهمون بالسلفية. ووجدت باحثين شرعيين مثل الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتاب “تمهيد إلى تاريخ الفلسفة الإسلامية”، يركز على هذه القضية، فهو يعتبر أن الفقه وأصول الفقه هي علوم فلسفية، وأننا إذا أردنا أن نقدم فلسفة إسلامية رصينة لا ينبغي أن نقتصر فقط على المباحث الفلسفية التقليدية أو المباحث الثلاثة الأنطولوجي، والإكسيولوجي، والأبستمولوجي، وإنما ينبغي أن نستخرج المناحي الفلسفية من أبواب الفقه، وكان يثمن بشدة على علم أصول الفقه وأيضا كتاب الرسالة للإمام الشافعي، وتابعه على ذلك تلميذه الدكتور مصطفى سامي النشار في كتاب “مناهج البحث عند مفكري الإسلام” وأفاض القول في بيان الصبغة الفلسفية لعلم أصول الفقه، حتى أنهم كانوا يرون أن علم أصول الفقه هو أفضل مُعَبِر عن ما يمكن تسميته بإستمولوجيا الإسلام. وهذه وجهة نظر قد يقبلها البعض وقد يرفضها البعض، لكني استشهد بها على للفت النظر إلى الجوانب الأخرى غير المطروقة بالنسبة لوظائف العلوم الإسلامية ومنها علم أصول الفقه، وفي ذلك الوقت كنت بدأت أهتم بمناشدات المتخصصين في الشريعة إلى ضرورة البحث في مسألة المساحة البينية بين علوم الشرع وعلوم الواقع، أو العلوم الاجتماعية، وكيف يمكن أن نستخرج من علوم الشرع منظورات تُفيد الباحثين في العلوم الاجتماعية، فشعرت أن هذه الوجهة في النظر إلى العلوم الشرعية يمكن أن تثري البحث في هذا الميدان. ومن هنا ممكن ان نتطرق إلى الصبغة التنظيرية للعلوم الشرعية ومنها علم أصول الفقه، فمن يتعامل مع علم أصول الفقه على أنه نظرية بوجه من الوجوه، أي نظرية تفسيرية، ليست تفسيرية بالمعنى الذي طالب به الدكتور شريف أن يكون للفقيه دور في تفسير الواقع، لكنها على الأقل تفسيرية من حيث إنها نظرية النص. هذا لا يعني أن علم الأصول منبت الصلة عن قضية فهم أو تفسير الواقع، لكن وظيفته الأساسية يجب أن تكون تفسير النص. إلا أن هذا لا يمنع من أن يكون للعلم وللفقه وللفقيه دور في تفسير الواقع، فهذه كانت نقطة جوهرية في طرح الدكتور شريف. فينبغي أن نفرق بين أمرين، الأمر الأول هو الوظيفة الأساسية للفقه، والأمر الثاني هو المساحات التي وجدنا بعض الفقهاء يتطرقون لها في سعيهم إلى الإصلاح. بمعنى أننا لو نظرنا إلى المبادئ العشرة والى وظيفة الفقه، أو فائدته أو ثمرته، نجد أنه ليس معنيًا اساسًا بتفسير الواقع، لأن الفقه حتى في أبسط تعريفاته هو معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، وبالتالي الصبغة التفسيرية للفقه هي منصبة اساسًا إلى تفسير النص وبيان الأحكام الشرعية. ولكن وجدنا من اشتباكات الفقهاء مع الواقع جهدًا تفسيريًا، هذا الجهد التفسيري ينصب أساسًا في أمرين، الأمر الأول هو تفسير أجزاء من النص من خلال تعليلات الأحكام الشرعية، والجزء الثاني هو تفسير أجزاء من الواقع من خلال بيان السببية. على سبيل المثال: نجد في تعليلات القرآن والسنة أو تعليلات الأحكام الشرعية بشكل عام إضاءات لمشكلات توجد في الواقع، مثل حينما ننظر إلى قوله تعالى: “كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم”، فهذا من ضمن التعليلات التي نص عليها القرآن الكريم فيما يتعلق بمسألة تقسيم الأموال، إن مثل هذه التعليلات يمكن أن تسهم في إضاءة بعض الظواهر وبعض المشكلات في الواقع. كذلك مساحة السببية حين يبين الفقيه بعض الروابط السببية التي أطلع عليها في النص، هذا يعني جهد تفسيري يمكن أن يقدمه الفقيه إذا ما أراد أن يكون له إسهام في مسألة تفسير الواقع. فعلى سبيل المثال نجد في بعض النصوص الشرعية ارتباط سببي بين ارتكاب بعض الذنوب وبين ظهور بعض المفاسد في الواقع، مثلًا في حديث عن النبي “ص” فيما معناه أن هناك خمس أشياء لو ظهروا تظهر خمس مفاسد، وما منعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، فإن طرح الفقيه لهذه العلاقات السببية يمكن ان يكشف جانبًا من تفسير بعض المفاسد التي تطرح في الواقع، فهناك مساحة السببية ومساحة بيان علل الأحكام التي تبلورت بعد ذلك في علم مقاصد الشريعة. إن تجلية هاتين المساحتين يمكن أن تجعل للفقيه جهدًا أكبر في مسألة تفسير الواقع. فالخلاصة من خلال تجربتي الأولى في بحث الدكتوراه أني وجدت العديد من الملامح التنظيرية في علم أصول الفقه، فأبواب الفقه لا تخلو من ترتيب نظري.
انتقل إلى التجربة الثانية وهي تجربة تدريس النظريات الفقهية. الشائع أن النظريات الفقهية التي عنيت بصياغة الفقه في شكل نظري والتي كتبها أمثال الشيخ “أبو زهرة” والشيخ “أحمد إبراهيم” والشيخ “على الخفيف” و”عبد الوهاب خلاف” و”مصطفى الزرقا” و”عبد الكريم زيدان” تعتبر قريبة من الذي ألفه طلاب القانون وطلاب العلوم الاجتماعية، فهم قاموا بعمل محاكاة للنظريات القانونية، وهذا أمر أنا لا أثبته ولا أنفيه، لكن من خلال تجربتي وجدت أن طريقة ترتيب النظريات الفقهية قريبة الصلة بترتيب أبواب الفقه وخاصة في المذهب الحنفي. فعند تدريس مادة الأحوال الشخصية، نجد أن الترتيب في طريقة التدريس يقارب بشكل كبير ترتيب كتب الفقه الحنفي. ويجب أن نلتفت إلى تجارب مثل مجلة “الأحكام العدلية” والتقنينات التي قام بها “قدري باشا”، فإن كتب النظريات الفقهية استفادت من هذا الجهد، كما قد تكون استفادت من محاكاة أسلوب القانونيين في صياغة النظريات الفقهية.
لقد طرح دكتور شريف سؤالًا مهمًا “هل يجب علينا كشرعيين أن نعرض معرفتنا بنفس القوالب التنظيرية التي اعتاد علماء القانون على طرح النظريات القانونية من خلالها؟” أقول وما المانع من أن نستفيد من هذا الشكل في تقريب المعرفة الفقهية إلى طلاب القانون والدراسات الاجتماعية، دون أن يعني هذا أن كل شيء على ما يرام وأننا قد فعلنا كل ما يلزم، وأننا لا نحتاج إلى شيء آخر.
تبقى بعض الإشارات السريعة أحب أن أطرحها في ختام هذه المداخلة. هناك ملامح مبكرة أود الإشارة اليها، ذات مرة في معرض الكتاب وجدت كتابًا بعنوان “نظرية العقد” فتخيلت أنه سوف يكون للشيخ “محمد أبو زهرة”، أو للشيخ “علي الخفيف” أو “عبد الوهاب خلاف”، ولكن الكتاب كان لابن تيمية، وبعد قراءة المقدمة وجدت أن هذا الكتاب هو جهد قام به الشيخ “محمد حامد الفقي” مؤسس جماعة أنصار السنة، ويبدو أنه مَن وضع هذا العنوان، فهو اندهش حين طالع مؤلفًا لابن تيمية عن أحكام العقود في البيع والشراء، فوجد أن كلام ابن تيمية يكاد يكون شبيهًا بما جرى عليه التأليف في نظرية العقد عند المتأخرين بما فيهم القانونيين. وهذا أثار لديّ سؤال، لماذا لا يكون القانونيون في صياغتهم لنظرية العقد قد تأثروا بالفقه الإسلامي؟ ولماذا نفترض أن الذين كتبوا في نظرية العقد عند الفقهاء هم الذين تأثروا بالقانونيين? لماذا لا يكون القانونيون – أمثال السنهوري – حين كتبوا في نظرية العقد قد تأثروا بالأوضاع التي كان عليها الفقهاء، خاصة وأن هناك كتاب آخر معنون “جواهر العقود” لأحد فقهاء الحنفية، يجمع فيه الأحكام المتعلقة بالعقد. إذن فهذه البواكير جديرة بأن ننظر اليها للإجابة على تساؤل هل الفقهاء هم الذين تأثروا بالقانونيين أم العكس؟ أم أن العلاقة متبادلة بمعنى أن هناك تأثير وتأثر.
طرحت الورقة أسئلة مثل: أليس للفقهاء ما يقولونه في كتاب مثل كتاب “الدولة المستحيلة”، وهذه أطروحات جديرة بالتعاطي معها، وأن تكون منطلقات مشروعات بحثية مشتركة تثري هذه المساحات البينية.
هل الفقيه مكلف بتفسير الواقع؟ أجبت على ذلك حين ذكرت أن مساحة العلل الشرعية ومساحة السببية يمكن ان تكون منطلقًا لكي يقدم الفقيه إسهامًا في تفسير الواقع، لكن تحميل الفقيه وحده المسئولية عن تفسير الواقع ربما لا يكون أمرًا غير منصف، لأن تفسير الواقع المعني به باحثون متعددون من تخصصات متعددة ربما يكون الفقيه أحدهم، فلو ابن تيمية أو الغزالي في حاجة إلى تفسير الواقع إلى مَن يلجؤون؟ وقد ذكر د. مدحت أنهم لم يكونوا محتاجين لأحد لأن الواقع كان بسيطًا، في حين أن الواقع الآن مركب ومعقد إلى أبعد الحدود.
د. شريف: أو أنهم كان لديهم عقلية مركبة بحيث استطاعوا أن يستوعبوا الواقع من زاوية الفقه ومن زاوية التفسير العملي.
د. أماني: أو أنهم كانوا يمارسون مسألة الفتوى، فهي تحركك نحو الواقع وتربطك بالفقه في آن واحد.
د. مدحت: من الذي يفسر الواقع؟ المفتي أم المستفتي؟ أم الاثنان؟ فقد جاءت امرأة لابن تيمية فقالت: زوجي يقول لي أنا زوجك فأصنع فيكي ما أشاء، فيسكنني بين قوم من المناجيس، ويغشى مجالسهم ويريدني أو يحملني على أن أغشى مجالسهم، فما قولك؟ قال: هذا يعاقب بعقوبتين أولًا: ليس للإنسان أن يقول أصنع في نفسي ما أشاء، فكيف يصنع في غيره هذا؟ إنما يصنع في نفسه وفي غيره ما شاء الله، ثم قال وهذا الرجل عُوقب بعقوبتين عقوبة في حق نفسه وعقوبة في حقه غيره، هنا من الذي رفع الواقع؟ المرأة.
جاءه سؤال آخر هو الذي رفع فيه الواقع، فقد جاءه سؤال: ما تقول في التتار الذين أتونا، يقاتلوننا ويقتلوننا ويقولون إنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ فكتب ثلاث صفحات في وصف حال التتار لكي يُخرِج فكرة الشهادة “ان لا إله الا الله” مع القتل، مع حال المرجعية، ومع تعاملهم مع القضاء، ومع وجود ما يسمى بـ “اليثق” عندهم. كيف كتب هذا ومن أين؟ قال مما يأتينا من الأخبار، ومما شهدناه منهم بأعيننا، ومما سمعناه منهم ومن الذين خالطوهم. فقد قام بدور الباحث.
فتوى أخرى قديمة للإمام مالك تعرف بفتوى موسى بن أعين والفقهاء السبعة، فيها كان النصارى تحت يد المسلمين ولما وقعوا تحت أيد غير المسلمين فهل ترد إليهم الجزية أو لا ترد؟ فهنا التحليل الذي تم في الواقع كان على يد الفقهاء، كان كل واحد يذكر الأخبار التي يعرفها، فمسألة الفتوى تحتاج إلى دراسة مَن الذي يرفع الواقع وكيف يرفعه؟
د. شريف: أعتقد أننا مستلهِمين نفَس حداثي ونحن نؤصل لهذه الفكرة، بمعني نظرية ثنائية الباحث والفقيه أو المثقف والفقيه، فنحن نتكلم في إطار (تصور مسكوت عنه) بأن الباحث ليس فقيهًا، رغم أن الفقه، حتى في إطار كل ما نشهده من تحولات، جزء من تكويننا العقلي والثقافي أو ينبغي أن يكون كذلك. يجب أن يكون النظر الفقهي جزء من عقل الباحث الاجتماعي، لا نريد أن نستلهم العقل الحداثي والتقسيمات الحداثية، وكأن هذه التقسيمات تقسيمات قدرية.
د. هاني: هناك مقولة إذا تأملناها ربما تكون ذات دلالات في هذا السياق “يحدث للناس أقضية بقدر ما يحدثون من الفجور” هذه المقولة يمكن أن تكون مفتاحًا لإضاءة بعض الأمور، بشأن التساؤلات التي نحن بصددها.
هناك بعض ملامح أخرى أود الاشارة اليها مثل طريقة الفقهاء في تبويب الكتب، مثلًا الإمام الناطفي له كتاب اسمه “جمل الاحكام” صنف فيه أبواب الفقه على أساس الأشخاص، فتجد فيه أحكام المجانين، أو أحكام السُكارة، أو أحكام العبيد، وهي كانت طريقة في التبويب الفقهي غير مألوفة، فهي مؤشرات لملامح تنظيرية لو أردنا أن نُحدث تجديدًا ما فيما يتعلق بمجال النظريات الفقهية.
مسألة ارتباط العقيدة بالفقه والأخلاق، هذا ملمح تنظيري مهم يمكن أن يجعل التنظير الإسلامي ذا سمة متفردة، لأن التنظيم القانوني لا يُعنى بقضية ربط القانون بالعقيدة والأخلاق كما هو الشأن في الفقه. وهناك لطيفة تذكر على سبيل الاستئناس، أن كتب الفقه الإسلامي عادة ما تُختم بباب العتق رجاء أن يعتق الله رقابنا ورقاب من قرأ هذا الكتاب من النار، فهي مسألة قد تبدو وعظية لكن تأتي في إطار أن الأحكام الفقهية قوية الصلة بمسألة العقيدة والأخلاق، وقد سُئل محمد بن الحسن الشيباني أن يصنف كتابًا في البيوع فصنف كتابًا في التصوف، فسُئل عن ذلك فقال: “مَن صحت معاملته مع الحق صحت معاملته مع الخلق”. هذا يبرز جوانب في شخصية الفقيه تجعل ما يكتبه متميزًا عن القوانين المجردة التي انتقدها أمثال وائل حلاق، والذي يتحدث في كتابه عن النظريات الفقهية عن أصول الفقه، فهو يعتقد أن علم أصول الفقه هو علم مولد للنظريات الفقهية.
د. شريف: وائل حلاق لا تظهر شخصيته المكتملة من خلال كتابه تطور الفقه، لكنه من خلال كتبه: الشريعة، وقصور الاستشراق، والدولة المستحيلة. ففي البدايات لم يكد يتميز أسلوبه عن الاستشراق التقليدي، فعندما كان يتحدث عن نشأة الفقه، والعوامل التي أثرت فيها، كان أسلوبه يثير لدى الباحث المتدين تحفظات عديدة، لكن هذا كان الأثر الاستشراقي الأول الذي لم يستطع أن يتخلص منه في المرحلة المبكرة من تكوينه.
د. هاني: بخصوص الصبغة الفلسفية لعلم أصول الفقه، قام البعض بعمل مقارنات بين المنطق الأرسطي والمنطق التشريعي كما يبدو عند الشافعي، فهذه مسألة جديرة بالالتفات اليها.
وأختم بأمثلة من علم تخريج الفروع على الأصول، فعلم تخريج الفروع على الأصول يربط النظرية بالتطبيقات وهو أقرب صلة بالواقع، ومن الامثلة أن “الإسناوي” والذي اشتهر بقضية تخريج الفروع على الأصول في كتاب “التمهيد” له كتاب آخر وهو “الكوكب الدري” يُخرج فيه الفروع الفقهية على المسائل النحوية، فيذكر مسائل اختلف فيها الفقهاء وسبب الخلاف يكون راجعًا إلى علم النحو. أما بخصوص مسألة التنوع فقد أشرت لرأي بعض الفقهاء في حكمة وجود الاختلاف بين الفقهاء؛ هل هو مكروه أم له فوائد ورحمة للأمة، وهناك كلام يتعلق بذلك للشعراني في كتاب “الميزان”. وجزاكم الله خيرًا.
أ. منال شيمي:
بسم الله الرحمن الرحيم
في البداية من الممكن أن يكون السبب في مثل هذه الحلقة أن عقلنا حداثي، وأننا نشأنا في ثقافة معينة، فلدينا ازدواجية النظام التعليمي، فنحن دائمًا ننظر إلى الفقيه أنه غير الباحث، أو غير المتخصص، وهي أزمة حديثة على العالم الإسلامي، انفصال العلوم لم يكن موجودًا في الحضارة الإسلامية، ففيما مضى كان من الطبيعي أن العالم المسلم والمفكر المسلم قد تشكَّل عقله بشكل أكثر تركيبًا وشمولًا لعدة مجالات بحيث لا يفصل علوم الدين عن علوم الدنيا، فقد ذكرت أ. مهجة في البداية أن هناك نظريات طبيعية أنتجها المسلمون، تتفق عليها جميع الثقافات بغض النظر عن الدين، لكني أرى أنه حتى هذه النظريات رغم انتمائها للعلم الطبيعي تكون مختلفة، لأن العقل المسلم بطبيعته حتى في مجال العلوم الطبيعية البحتة ينتج نظرية نتيجة رؤية كلية معينة للكون تختلف عن غيرها، قد لا تختلف النظريات في تفاصيلها ولكن يكون لها صبغة مختلفة وبصمة مختلفة على مستوى من المستويات، لأن العقل الذي أنتجها يؤمن بالوحي. فقضية انفصال العلوم الطبيعية عن العلوم الشرعية، والعلوم الإنسانية عن العلم الشرعي هي مسألة حديثة، يمكننا الرجوع خطوة للخلف حتى نتداركها، ومنها يمكن أن نحل جزءًا مهمًا من الأزمة، وهي هل غياب النظريات تقصير من الفقهاء؟ أم تقصير من الباحثين والمفكرين؟ وهل هذا جهد ينبغي أن يقوم به الفقيه أم جهد ينبغي أن يقوم به الباحثون والمفكرون.
هناك فراغ في المجتمع يجعلنا نحتاج أن نفهم سببه ونحدد موضعه؟ هل نسميه فراغ في مساحة التنظير، أم التفسير، أم مستوى أكثر جزئية؟ فنحن لا نتكلم على نظرية بمعنى الرؤية الكلية؟ نحن نتكلم على النظرية بمستوى آخر من التنظير ليست بهذا المستوى الكلي المختص به “الوحي”، فهذا المستوى من الرؤية مُعطى. لكن نتحدث عن نظرية في المستويات الأدنى من ذلك. صياغة الكليات المعطاة وحيًا وبلورتها في صورة أنساق بشرية نسبية متغيرة وقابلة للتعديل باختلاف الزمان والمكان.
د. شريف: لماذا لا يوجد نظرية استباقية للواقع توضح موقف الفقه الإسلامي التفسيري؟ ربما نحتاج أكثر أن نتحدث عن العقل السنني والتفكير السنني (ان شاء الله يكون هذا موضوع السمنار القادم)، نحتاج أن نفكر في إطار سنن الواقع وليس نظريات الواقع.
أثناء إعداد أحد البحوث وجدت أن كل النظريات لها النسخة “الما بعدية” الخاصة بها، بمعنى أن الواقع يتمخض عن نظرية ما اليوم وبعدها يُظهر الما-بعد مثل الحداثة Modernism”” ثم ما بعد الحداثة “Postmodernism”، الواقعية ثم ما بعد الواقعية، البنيوية ثم ما بعد البنيوية، وهكذا فالتنظير طوال الوقت يتحرك تحركا حثيثا. “توماس كون – Tomas Kohn” يقول إن التغير في الواقع هو الذي يقود التقدم في التنظير، وتقدم التنظير هو الذي يُكسب الحقل الذي ينتمي اليه صفة العلم. وكان دكتور “أحمد مستجير” يقول إن كل النظريات خاطئة، لأن كل النظريات لها مدة صلاحية معينة، لا تصح مقولاتها بعد أن تنتهي.
ولذلك عندما نحتفي بابن خلدون لا نفعل ذلك لإنه قدم مقولات مطلقة الصحة، ولكن لأنه قدم مقولات تفسيرية صالحة مرحليا، صلحت في وقته لكي تكون بمثابة سننا نظرية أو سننا مرحلية. فما الفرق ما بين السنة والنظرية؟ النظرية في النهاية تؤول إلى نظر عقلي بحت، ولكن السُنة تحاول أن تربط الأشياء بالأسس التفسيرية الكبرى أو المقولات المنبثقة عن “النسق المعرفي الإسلامي”، وفي النهاية تلتئم بشكل أو بآخر مع مقولات الوحي.
د. أماني: هذا الموضوع ضمن المشكلات الكبرى في العالم، وهي مشكلة الخلط ما بين السنن والنظريات. على سبيل المثال عندما نطرح نظرية داروين على أنها قاعدة من قواعد التطور الوجودي أو على أنها بمثابة قانون لتطور المخلوقات، هذا التلبيس ما بين القوانين التي يسير عليها الوجود وبين النظريات مسألة خطيرة جدًا.
د. شريف: من المعلوم أن القوانين تصف والنظريات تفسر، واستخدام المستويين بالتبادل يحمل إشكالا خطيرا. نظرا لاختلاف القوانين عن النظريات.
ما يمكن أن يُستخدم بالتبادل بنوع من السعة، هو النظريات والمنظورات، فرغم أن المنظورات أكثر سعة من النظريات، والنظريات أكثر تحديدا، إلا أن النظريات قد تعامل في بعض الأحيان معاملة المنظورات، لإضفاء نوع من الاستقرار على مقولاتها. (كالنظرية الواقعية في حقل العلاقات الدولية والتي تعامل من قبل البعض كمنظور).
ولكننا ذكرنا في المقدمة أن مشكلة التنظير أنه يصدر عن عقل حداثي، والعقل الحداثي يَعتبر أن الإنسان هو صورة للوجود، وأن الوجود صورة للعقل الإنساني، فالإنسان عندما ينظر إلى الكون من حوله، كأنه ينظر إلى مرآة، يرى فيها صورة عقله، ومن ثم فإن للإنسان أن يعتبر أن عقله مجهز وقادر على أن يستوعب معنى الوجود بأكمله، وأن يترجم هذا الوجود في عبارة أو جملة أو نظرية مصمتة. الماركسية على سبيل المثال قدمت مقولة ادعت أنها قادرة على أن تفسر الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة وكل شيء. والنسوية أيضا تفترض أن العالم بأكمله يمكن إعادة تفسيره من خلال مقولاتها حول الجندر وما يرتبط به من مفاهيم.
هذا هو ما ندعوه الصلف الحداثي. وهذا ما يوضح لنا (بشكل ما) لماذا غابت النظرية عن العقل الفقهي الذي لم يقتنع أن الوجود يمكن تلخيصه بهذه الطريقة المبسطة. المفسر الإسلامي أو الفقيه الإسلامي قدم “اجتهادات” تستلهم معنى السنن، ولا تدعي الإطلاق، وهي بهذا المعنى ليست قوانين (وفق الفهم الحداثي لمعنى القانون).
من هذا المنطلق نناقش إنتاج ابن خلدون على أنه اجتهادات سننية، فهو عندما يقول مثلا إن “المغلوب مولع بتقليد الغالب” فإن هذا يمثل أصل مطرد، ولكنه ليس مطلق، فلدينا في التاريخ شواهد تمثل استدراكات على هذا التصور الكلي، ففي أحيان كثيرة تشبه الغالب بالمغلوب وليس العكس، وذلك إذا كان المغلوب لديه مثلا نوع من التفوق الثقافي أو الحضاري أو القيمي على الغالب (بالمعنى العسكري). إذن في سياق التصور الإسلامي لا يعد التوصل إلى النظريات أمرا محبذا، وإنما التوصل إلى اجتهادات وإلى مقولات تقترب من معنى السنن، والسنن التي يمكن أن نتوصل إليها بالبحث ليست بطبيعة الحال من نوع السنن الإلهية التي لا تنخرم، ولكنها سنن اجتهادية.
على سبيل المثال، في حديث سابق قارنا بين التحولات في الضمير العالمي تجاه بني اسرائيل بالمقارنة مع التحول الذي حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم تجاه الأمة الإسلامية نفسها. عندما قال e: “يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، فقالوا: أوَ مِن قلة نحن يوم إذن يا رسول الله قال بل أنتم كثير ولكنكم كغثاء السيل”، ثم قال e، “وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ولينزعن المهابة من قلوب أعدائكم منكم” في هذا الحديث يبين النبي e أن تداعى الأمم يسبقه نوع من التحول النفسي؛ من الإكبار إلى الاستصغار، ومن المهابة إلى نقيض المهابة (ربما الاحتقار). هذا التحول ومن ثم هذا التداعي، يحمل معنى السنة المطردة، التي يمكن توظيفها في فهم واستشراف مسار التفاعلات المعاصرة، فنحن اليوم أمام ظرف حضاري يتحول فيه العالم من التعاطف مع الأمة اليهودية بفعل ما كان من ذكريات المحرقة وما سبق أن ساد أوربا والغرب من معاداة شديدة للسامية ولكل ما هو يهودي، إلى نوع من الكراهية شديدة والنفور من هذا الكيان الدموي العنصري. هذا التحول النفسي قد يكون مقدمة لتداعي (أو تخلي) أممي على/عن هذا الكيان ومن يمثله، أو على الأقل بتحول في موازين القوى الحالية، التي تعطي له الأفضلية على الآخرين.
هذا التصور ذو صبغة سننية، لأنه مستمد من نصوص الوحي، استنباطا، ورغم ذلك لا نستطيع أن نقدمه على أنه يمثل قانونًا أو نظرية محددة، بالمعنى الغربي، فهو تصور يحاول أن يستلهم معنى السنن النفسية؛ كيف أن التحولات الحضارية الكبرى عادة ما تُسبق بنوع من التحولات النفسية، فاذا تحولت النفوس باتجاه انكشاف المهابة وانكشاف غطاء التعاطف، إلى إحساس بالنفور والكراهية، فإن في هذا ما قد يكون علامة تحمل البشرى بحول الله تعالى. فالتحولات النفسية العالمية تجاه العدو الصهيوني يمكن أن نرصدها في إطار ما نسميه بالسنن النفسية، التي ليست بنظريات ولا قوانين.
أ. منال: هناك جزء كبير من الحضور قد اتفق على أن هناك فراغ منهجي، وممكن أن يكون لدى السُنة أكثر من الشيعة، فالشيعة طوروا نظريات في المجال السياسي مثلًا، فلدينا منظورات تقوم بالمهمات الأربع فهي تصف وتفسر وتقيّم وتوجه، فهي في النهاية تقوم بتوجيه واقع المجتمعات الإسلامية إلى ما هو أقرب من مراد الشرع الحكيم.
من جانب آخر، من يقوم بصياغة هذه الرؤى النظرية؟ فإذا تجاوزنا هذه الفجوة بين العلوم الاجتماعية والعلوم الشرعية، فان هذه مهمة المفكر الإسلامي، وليس بالضرورة أن نلصقها بالفقيه الجزئي المنوط به استخلاص الأحكام.
بشأن القلق من ثنائية التنوع والواحدية، فإن هذا التنوع قد أثار القلق قبل ذلك على مستوى القراءات والتفاسير، وليس الفقه وحده. وهنا يجب أن نستلهم روح الشرع، فلا هي الواحدية الحداثية ولا هو التنوع الذي أقلق كثير من السلف من اختلاف الأمة وتنازعها. في مراحل معينة اضطررنا إلى أن نضع النِقاط فوق الحروف في رسم المصحف، وأن نحدد عددًا من القراءات المعتمدة للقرآن الكريم، وأن نجمع القرآن. فنحن نحتاج الوسط بين التنوع والواحدية، ونحتاج إلى جهد في هذه المساحة، وأن يكون جهدًا تجميعيًا بحيث لا تخرج الأمور عن التيار العام للشريعة في كل مجال من المجالات. فلابد أن يكون هناك جهدًا فكريًا وتنظيريًا في حدود هذا التيار العام، لكيلا نصل للتنوع الذي على شاكلة ما بعد الحداثة فيؤدي لانفراط العقد، ولا نتقيد بالواحدية التي تقيد الشرع نفسه وتفقده مرونته. أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون هناك قدر من السعة، وأن تستوعب الشريعة جميع الاختلافات وتسع البشر كافة على اختلاف طباعهم وتنوعاتهم المختلفة. من هنا نحن نحتاج إلى رؤى عامة ليست مطلقة، ولكن قابلة للتعديل وقابلة للتغيير داخل الأطُر التي يقدمها الوحي أو يسمح بها. وشكرا جزيلًا..
د. أماني: قضية بناء منظور الاسلامي ليكون نموذجا للحياة والترويج له ليس فقط من أجل أن ينتظم الفقه، ولكن من أجل أن يُقبل ويُفعل في الحياة، فما مدى فاعلية الفقه الآن أو الاحكام الفقهية أو الاحكام الشرعية عند جيل من الشباب لا يستوعب منظورا اسلاميا؟ فلدينا جيل لا يستوعب فكرة أن الحياة ليست دنيا فقط، ولكنها آخرة أيضًا، المنظور المادي تم تبنيه وبلورته والترويج له بشتى السبل، كيف لهذا الجيل أن يتقبل قواعد فقهية ويلتزم بها ونصوص شرعية ويُسّير حياته على أساسها، فبناء المنظور مهم جدا ليس فقط عند الفقيه، ولكن لتفعيل الفقه في الواقع.
أ. تقى:
نحتاج في البداية معرفة إلى أي مدى وصل التنظير في الغرب؟ وهل أخرج نتائج جيدة في الواقع خاصة في الزمن الحاضر، أم أن فكرة التنظير نفسها تراجعت؟ لأن التنظير في الغرب لم يعُد في شكل نظريات كبرى، وأصبح هناك تناقض واضح، فإذا كان يعاب على الفقه أن له أحكامًا متناقضة، فإن التنظير الغربي به أشياء متناقضة حتى في النظرية الواحدة. على سبيل المثال قضية التعامل مع الأقليات حاليًا هي قضية مهمة جدًا في الغرب، فنجد التيارات المختلفة تذكر أشياء متناقضة، هل نستوعبهم، أم ندمجهم، أم نتركهم كما يريدون؟ وعند التعامل مع الاختلافات لا يصلوا إلى شيء لأن ليس لديهم المرجعية، ولكن كفقيه من الممكن أن يصل إلى أشياء متفق عليها على الأقل على المستوى الكلي، وبعدها يختلف في التفصيلات، ولكنهم في التنظير الغربي لا يملكون فكرة كبيرة ينطلقون منها ثم بعدها يختلفوا في التفاصيل، فبالتالي التنظير في الغرب في مأزق حتى حول فكرة التنظير نفسها. فيما سبق كان هناك نظريات كبرى ننطلق منها، ولكنها أدت إلى نتائج كارثية، لماذا نتحدث عن التنظير بشكل أننا نحتاج استلهامه والبحث فيه على الرغم من أن الغرب لم ينتج شيئًا جيدًا؟ وهذه فكرة التناقضات.
فكرة أخرى، التنظير الغربي كان له علاقة دائمة بالسلطة، هناك تفاعل ما بين النظريات والمنظرين ومستويات سلطة معينة، مثل أفكار “آدم سميث” التي تبنتها سلطة معينة قامت بتطبيق هذه الأفكار، ولكن أن تكون مجرد نظريات تُكتب وتظل حبيسة الأوراق فما الجدوى، هل علاقة الفقيه بمستويات السلطة سواء قديمًا أو الآن لها علاقة بما نتحدث عنه الآن؟
بخصوص التنظير في الفقه ولماذا لم نتحدث عنه بشكلٍ كافٍ، أرى أن القواعد الفقهية تُعتبر تنظير بقدر كبير، فهناك نوعٌ من التعميم خاصة عند الحديث عن الكليات، والقاعدة الفقهية تتفاعل مع الواقع بشكل كبير وتستوعبه، مثال أن “العادة محكمة” أو “المشقة تجلب التيسير”، وعندما يتم استيعاب هذه القواعد سواء من الفقيه أو من الإنسان العادي، يبدأ الانطلاق بشكل رشيد في تفاصيل الحياة.
ننتقل إلى نقطة أخرى هي أصول الفقه، فعند استيعابها نستطيع أن نخرِّج مسائل موجودة حاليًا ونتفاعل مع الواقع بقضاياه المستحدثة بناء على تلك الأصول، بالتالي نستطيع أن نصل إلى قاعدة لحكم جزئي انطلاقًا من نفس هذه الاصول.
فيما يتعلق بفكرة الفراغ المنهجي، وعند ربط كلام أ. منال بكلام د. أماني، هل الفراغ المنهجي أو عدم وجود نظريات كلية سبب عدم حضور الفقه بشكل قوي في حياتنا؟ أم عدم وجود اجتهادات حقيقية قادرة على استيعاب الواقع المعقد بشكل كبير؟ أم أنه جزء من مشكلة أكبر وهو انسحاب الشرع من حياتنا بسبب الحداثة أو بسبب غلبة المادية؟ أم لها أسباب أخرى، أم أن الموضوع مركب وممكن أن يوجد أكثر من مشكلة.
نحتاج إلى معرفة السبب الحقيقي لعدم فاعلية الفقه في الحياة اليومية، لكي نعلم هل لو قدمنا نظريات ستُحل المشكلة؟ أم هناك طريقة أخرى؟
عنصر آخر مهم، هو أننا من الممكن أن نعتبر أن الحضارة الإسلامية حضارة مبنية على نص، وبالتالي فإن الفقهاء والمحدثين والمفسرين ركزوا على التعامل مع النص وتفسير النص، وقد وصلوا إلى أشياء كثيرة، خصوصًا في كيفية تفسير النص والوصول لكليات، وحتى في التعامل مع النص وقواعده الخ، هل من الممكن أن تكون هذه مرحلة يجب أن تليها مرحلة أخرى وهي تفسير الواقع بعد الانتهاء من فهم النص والتفاعل معه وتفسيره.
د. شريف: الواقع ليس كائنا خاملا، وإنما من الممكن أن يتحول إلى كائن مفترس، يفترس الفقه، أو حتى يستأنسه، ويستأنس الفقهاء ويحيدهم، وقد نوه لذلك وائل حلاق، في كتابه الشريعة، وإلا فما الذي حدث للشريعة عندما تم تقنينها؟ فبعد أن اعتقد الجميع أنه قد أصبح لدينا مدونات قانونية للشريعة مثل مدونات القانونيين في الخارج، اكتشفنا في النهاية أن الموضوع كان مقصودًا به نوع من الاستئناس وتحييد التنوع لصالح رؤية أحادية. وعليه فإنه من المهم أن نتحدث عن حكم الشرع في قضايا الواقع، مع امتلاك القدرة على فهم وتفسير العمليات التي يشهدها هذا الواقع. فنتحدث عن حكم الشرع في البنوك مع امتلاك دراية/ فهم لما تقوم به البنوك، وأن نتحدث عن حكم الشرع في البيروقراطية مع امتلاك دراية وفهم للكيفية التي تترهل بها البيروقراطية، بحيث تنتهي بالأمور إلى عكسها، وهكذا.
أ. مهجة: ما ذكرته د. أماني عن المنظومة مهم جدًا، وأن العقيدة والأخلاق يجب أن تكون مكونًا أساسيًا قبل التطرق إلى الجزئيات الفقهية، لأن من لديه المنظور العقيدي لن يتدهور الواقع لديه بهذا الشكل. الإنسان يقوم بتصرف خطأ وبعدها يتجه للفقيه ليسمع رأيه في الحلال والحرام فإن كان لديه العقيدة والإيمان والأخلاق لن يتطور الواقع بعيدًا عن روح الشرع بهذا الشكل الحالي، فلو أن هناك نظرية تصوغ الشكل والحدود العامة، وأن تكون المعالم الأساسية واضحة من أجل تفعيل المنظور الذي قد يكون مفقود عند الأفراد، فلن يطغى الواقع بهذا الشكل.
د. أماني: التحدث عن سقوط السرديات الكبرى، وأنه لم يبق سوى سردية واحدة فقط، هي الإسلام، صحيح ومهم. وهذا يطرح تساؤل: لماذا لا يتجه التنظير إلى بناء وبلورة أبعاد هذه السردية؟ لأن الانسحاب لن يكون أثره فقط على الفقه، ولكن على الحياة كاملة.
د. شريف: عندما كان الطلبة يتظاهرون ويضربون كنتاكي بالحجارة، كنت أعلق بالقول إن الأولى من مواجهة مظاهر الحداثة في الخارج، أن يحاول الفرد أن يتبين مظاهر وأثر الحداثة في شخصه ويحاول أن يقتلعها، أقصد بذلك أن جزءا كبيرا من تكوين الشباب العقلي صنعته هوليود وصنعه الإعلام الأمريكي والسياسة الأمريكية، وهذا أمر أخاطب به نفسي، فأنا مشبع بهذا النسق المعرفي، وأتصرف على أساسه، وعلى المفكرين والأساتذة أن يساعدونا في إضاءة هذه المساحات داخلنا التي من الممكن أن تَخفى علينا.
كان الطبيعي في – إطار التعامل مع الأفكار – أن نزكي أزواجًا من المتغيرات على حساب أزواج أخرى، كنا دائمًا في إطار ثنائية الجزئية والكلية ننتصر إلى الكلية، وثنائية الرجعي والتقدمي ننتصر إلى التقدمي، وثنائية الغيبي والواقعي ننتصر للواقعي، ثنائية الاستنباط والاستقراء ننتصر إلى الاستقراء، كما لو كانت هذه الأمور هي من حكم الضرورة وينبغي أن تكون دائمًا في الصدارة.
عندما كتب “بيونج تشول هان” كتاب مجتمع الشفافية حدث للفرد نوع من التبصر، لماذا بالضرورة نكون مع الشفافية بهذا الشكل المطروح، هل هناك شيء كامن في طبيعة الشفافية يجعلها على حق؟ هل الخصوصية دائمًا شريرة؟ وبالمثل هل الجزئية دائمًا تعكس نوعا من الإعاقة؟ هل التفكير غير التقدمي بالضرورة به نوع من النقص؟ أرى أنه يجب على الفرد بين الحين والآخر أن يعيد النظر في هذه الثنائيات التي قد تكون ظالمة.
لم أكن معنيًا بالرد على الاتهام بأن العقل الإسلامي عقل جزئي، كنت أحاول أن أتتبع ملامح الصورة في الورقة ولم يكن يعنيني بالضرورة أن أثبت العكس، بل بالعكس كنت أرى أن هذا اللغم أو هذا الطُعم ينبغي ألا نبتلعه طوال الوقت، فأنا عندما يتهمني الآخر أسارع بأن أعتبر اتهامه وصف لحقائق الأمور فأبدأ بتبني الطرح الذي يقول: لا، نافيًا التهمة عن نفسي، لست رجعيًا أنا تقدمي بالضرورة، أنا لست جزئيًا أنا كلي بالضرورة. يجب أن نلتفت لهذا اللغم. قد يكون الوقت حان لكي نعيد الاعتبار إلى المفاهيم الجزئية لأن المفاهيم الجزئية تصدر عن عقل كلي، فعندما تَصدر عن الفقه الجزئي كل هذا الإحكام والشمول والاتساع المدهش للتفاصيل، فإن هذا يستبطن معنى كليًا، ويستشعره مَن يتحولون إلى الإسلام في الغرب، فهم يستوعبون هذا المعنى الكلي المستبطن في التفاصيل، عندما يدخل إنسان إلى المسجد فيجد طريقة انتظام الصفوف في الصلاة فيدخل في الدين، وعندما يرى المسلمين يتصافحون بعد انتهاء الصلاة فيدخل في الدين، وعندما يجد أن جاره المسلم يبتسم في وجهه بدون أي مصلحة فيدخل في الدين، إن تفاصيل الإسلام قد صيغت بشكل يستوعب المعنى الكلي حتى ولو لم يُسم.
من ناحية أخرى إن ما يحدث الآن في الإقليم من مشاكل سياسية كشفت لنا عن نوع من العجز وعدم الفاعلية وعدم القدرة على الحركة، هذا يرجع في قدر منه إلى أننا كليين، أو أننا نتصرف في إطار من التنظير السياسي، فقد درسنا العلوم السياسية، منظوراتها ونظرياتها، ولكننا عندما استدعى الأمر نوعًا من الحركة وجدنا أنفسنا غير قادرين على الحركة، إن التعامل الآن كان حري به أن يستدعي مرة أخرى النظرة الجزئية، لكي نعرف حكم من يبيت شبعانًا وجاره جائع، أو أن الشخص الذي يموت جوعًا تصبح ديته على من حوله، ربما يكون استدعاء النظر الفقهي الجزئي في هذه الحالة كان ليمثل مخرجًا من أزمة عجزت النظريات عن أن تتعامل معها، فالجزئية ليست عارا يجب أن نتحلل منه، بل بالعكس يجب استدعاؤه في المواقف اللازمة، مواقف الحركة، الفقه الذي يتحدث دائمًا عن الأحكام العملية، ما الذي ينبغي عليّ أن أقوم به؟ ربما يكون هذا هو واجب الوقت الآن. ماذا أخذنا من علماء السياسة مع احترامنا لهم، بماذا أفادونا الآن عندما يتوجه الينا الطلبة ويقولون كيف تفصحون عن هذا الوجه الغريب من عدم الفاعلية، وعدم القدرة على قيادة أجيال تنتظركم لكي تسمع الحكمة منكم في شكل كلمات، فيظهر أننا ليس لدينا بضاعة للتعامل مع أمر واقع، ولكن لدينا نظريات.
وكما ذكرت أ. تقى، فأنا أؤيد فكرة سقوط السرديات الكبرى، وبحكم التخصص أذكر أن كل ما يدور حاليًا حول فكرة إعادة الاعتبار مرة أخرى إلى البيانات “الداتا”، والتي هي تلك المادة الخام البسيطة المتواضعة التي تنتج في النهاية المعلومات، فكان من الطبيعي بمقارنة الجزئي والكلي أن نرفع القبعة للمعلومة، ونتعامل باستخفاف مع البيان، والآن النظرية التي تشغل العالم هي نظرية “big data”، حيث أنصارها يؤكدون أننا سوف نؤسس الحركة على ما تقودنا إليه البيانات الجزئية، وليس النظريات الكلية فقط، فكأن الواقع الآن يسير مرة أخرى باتجاه إعادة اعتبار الجزئي بجانب المقولة الكلية، فالمقولة الكلية لن تُخبرني كيف أتكلم، وكيف أرتب أفكاري، وكيف أستدعي أولوياتي، فربما تكون الجزئية هي من الأفكار التي هُضم حقها، وقد حان الوقت لكي يُعاد النظر فيها.
أ. محمد الديب: نحن نتعامل مع كلمة الفقيه على أنه شخص له معايير محددة ووحيدة، في حين أن في الفقه الإسلامي الفقهاء لهم مستويات متعددة. نحن نتحدث عن المجتهد داخل المذهب، و عن المقلد، هناك مَن يتحدث في الأحكام التفصيلية على المستوى العملي، وهناك مَن يتكلم عن القضايا الكبرى مثل الغزالي وابن تيمية، وهما شخصيتان كانت لهما تجربة في التعامل مع الواقع الاجتماعي، فالإمام الغزالي -كما أوضح تجربته “ماجد عرسان الكيلاني” في كتاب “هكذا ظهر جيل صلاح الدين” – انعزل عن المجتمع لأنه وجد أن الفساد الاجتماعي أساسه فساد أخلاقي، ومن ثم تكلم عن إحياء علوم الدين، لذلك فهو كتاب ليس سلوكيًا على المستوى الشخصي فقط، فانخفاض مستوى الإيمان أدى إلى الفساد والانهيار على مستوى المجتمع. كذلك ابن تيمية – وإن كان التحدي أيامه مختلفًا، فهو لم يتكلم على مستوى الأحكام فقط، وكما تكلم في العقيدة تكلم في أحكام الجهاد ولديه اتجاهات سلوكية. فمطالبة الفقيه وهو شخص له نمط محدد أن يتحدث في جميع المستويات أمر به مشقة، منهم مَن سيكون عنده القدرة ويكون لديه استيعاب للكليات ويتكلم في الجزئيات معًا، وهذا نادر، لكن الطبيعي أن الفقيه يتكلم في مستوى الجزئيات واستيعاب الكليات سوف يكون للعدد قليل من الأئمة. وشكرًا جزيلًا.
د. مدحت
بسم الله الرحمن الرحيم، نشكركم على هذه الجولة الممتعة من التفكير في هذا المستوى الصعب، في اشتراكي في هذه الورقة لدي أربع نقاط:
الأولى مسألة المفاهيم، وبالأخص المفاهيم الرئيسية، فهي تحتاج من أول الورقة أن يكون بها تحديد. فطوال الورقة لدينا مفهومين للتنظير، وحولهم بعض الهالات الدلالية، الأول هو مفهوم التنظير بمعنى إنتاج النظريات التفسيرية، ثم التنظير بمعنى إنتاج الكليات عن الواقع وهذا أوسع من التفسير، وهو مستوى التنظير بالمعنى العربي وهو ما أوردت له تعريفات عن الذين يعملون في النظريات الفقهية أو النظريات القانونية، فهي صناعة الكليات، بمعنى الكليات العامة المجردة الجامعة لأبواب من المسائل ومن القضايا الموجودة في كتب الفقه أو في كتب القانون.
ومفهوم الفقه نفسه، ما بين الفقه كما يفهمه المسلمون، والفقه كمادة في كليات الحقوق ويجري عليها التنظير. أما المفاهيم الثنائية والتي هي أعمدة في الورقة مثل الواحدية أو الأحادية، أحيانًا توصف بالأحادية لكن أكثرها الواحدية، ولكن الأحادية هي الأفضل، لأن الواحدية عندنا هي وصف لله عز وجل، أما الأحادية فهي أقرب للمعنى المقصود في الورقة. وهناك كلمة تستخدم في هذا المقام أكثر تعبيرًا وهي “الاختزال”، والتي تقابلها التعددية والتنوع، والتي أحيانًا تكون فوضى أو تكون تفكيكًا، هذه المجموعة من المفاهيم تحتاج تعريف قبلي وليس بعدي.
المفهومان الآخران اللذان يحتاجان أن يُراجعوا هما الوحي والحداثة، فالحداثة معروضة باعتبارها كلها شرًا، إلا أن هناك قدر من المعرفة البشرية ضخم ومشترك، فقد تعامل فقهاؤنا مع المشترك بشكل فيه أريحية أعلى من الذي نحن نراه، ربما لأنهم كانوا في حالة راحة حضارية وكانوا أقوياء، فهم يترجموا في دار الحكمة وبعدها يعيدوا الكتابة، حتى الترجمة كانوا يصبغوها بصبغتهم، فيجب حسم مسألة المفاهيم لأنها إن ظلت بشكلها مع المستوى الصعب للحديث في التنظير سوف يكون هناك ثقل.
الوحي أكثر استيعابًا للاختلاف من فكر المسلمين، فالإسلام أوسع من المسلمين، وحي الله عز وجل أوسع، وكثير مما أنتجه الغرب بعقولهم لو كنا مكانهم سنكون متفقين فيه، وكلمة التنظير في الإطار الإسلامي أوسع بكثير جدًا من الفقه، لأن التنظير في الفقه حذر، وعندما يخرج الفقيه عن دائرة الفقه يصبح أديبًا. وفي بناء علوم اجتماعية جديدة، نجد أن ابن خلدون اختار التاريخ، فدرس ما قدمه المؤرخون قبله وتفوق عليهم لكي يبني طرحه الجديد في “مقدمة المقدمة”، فتناول الفقيه وذكر “الماوردي” وقال ما أقوم به ليس ما أنجزته أنت، ثم بعده “الفارابي” وأسماه أصحاب السياسات المدنية، وأيضًا ذكر “الطرطوشي” صاحب سراج الملوك، وقال لقد حومت حول ما أريده لكنك لم تقع عليه لأنك اكتفيت بالجانب الأخلاقي ولم تنتقل إلى التحليل البرهاني للواقع، أو كما سماه “البرهان الوجودي”. فكان ظهور ابن خلدون في زمنه – وتقدير الله أن الأشياء تظهر في توقيتات معينة – لأن هناك قاعدة حاكمة للبشرية من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة وهي أن “الحاجة أم الاختراع”، وأن المسلمين لم يقوموا بشيء لأن الشرع يطلبه منهم في إطار فراغ وإنما “احتاجوا فاشتغلوا”. حدث هذا في الحديث، فعندما ظهرت الحاجة تطور علم الحديث ودوِّن بأشد درجات الضبط. وفي التفسير نفس الشيء.
فيما يتعلق بالفقه، لم يكن الموضوع إشكالي، فعندما نذكر الفقه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أول ما نزل القرآن نجد أنه ليس الفقه الذي نتحدث عنه الآن، لفظ الفقه في القرآن والسنة هو كل علوم الدين “ليتفقهوا في الدين”، “اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين”، “ومن يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين”، فلم يكن هناك كلمة الفقه بمعنى علم الأحكام الذي ينفصل عن علم العقيدة ويختلف عن علم السلوك أو الأخلاق. ولكن عندما كثرت المسائل، وهذه هي الحاجة، كان الصحابة يجاوبوا عليها ثم تلاميذهم، ولم يحتاجوا إلى التدوين، وعندما ظهر جيل منتصف القرن الثاني الهجري، ظهرت مدونات صغيرة، وبدأت تكبر حين احتاجها الوافدون من بلاد أخري، فبدأ تدوين كلام الإمام مالك أو غيره، وكان الإمام مالك نفسه يحتاج تدوين فقهه على شكل أدلته “الحديثية”. وقد كتب أصحاب وتلاميذ أبو حنيفة – قبل الإمام مالك – كلمة كلمة قالها، ثم – والأعظم – أنهم كانوا يكتبون كلامهم هم، فكان أبو يوسف يكتب: قال صاحبي… وأنا أقول … وعندما جاء محمد بن الحسن كتب: قال صاحبي …، وأنا أقول …، ثم الحسن بن زياد وغيره كتبوا بهذا النفَس الحواري. وهكذا بدأ عندنا قصة “العلم المكتوب”. ولكن أصل الحضارة الإسلامية في تسييرها للحياة لم يكن الفقه مكتوبًا، فالأمة لا تكتب ولا تحسب، فهذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، “نحن أمة أمية لا تقرأ ولا تحسب …”. وحتى العالَم نفسه أمي، كم شخص في العالم يقرأ علوم سياسية لكي يتكلم في السياسة؟ فالعلم الشفاهي غير الجانب الأكاديمي الذي نحصر به مقولة التنظير. هذا السياق يبين فاعلية العلم وأخذه وعطائه، ولمن يُنَظِر وأيضًا بأي كيفية. وعند ظهور القوالب والمدارس أصبح التنظير فعلًا أكثر تخصصية وأصبح يأخذ المعنى الحالي، بخلاف النداءات الحركية مثل “حامد ربيع”، أو تحويل ذلك إلى خطاب أو إلى رسالة، ولذلك كان الفقهاء يكتبون كتبًا لبعضهم البعض، وكانوا يكتبون الرسائل، “فالسياسة الشرعية” هي رسالة ليست مكتوبة للفقهاء، ولكنها مكتوبة للثقافة، و”الأحكام السلطانية” رسالة كما كُتب في أولها “كتبت هذا لمن وجبت طاعته واشتغل بأمر السياسة ليعرف مذاهب الفقهاء فيما له فيستوفيه وما عليه فيوفيه”. هذا غير كتاب “الحاوي” في الفقه للإمام الماوردي، الذي شرح فيه الفقه الشافعي. الشاهد أن هذا الفقه لم يكن هو المشكلة، ولكن المشكلة ظهرت في أواخر القرن الثاني الهجري وتم حلها سريعًا، وهي الاختلاف بين المذاهب بدون ضابط، فيرسل “عبد الرحمن بن مهدي” إلى الشافعي، ويقول له “اكتب لنا شيء يضبط هذا الاختلاف بين الناس”، ولابد أن ندرس هذه النقطة: كيف كُتب هذا الذي خرجت منه القواعد الفقهية والنظريات والتنظيرات وهو كتاب “الرسالة”؟ بمعنى بأي قلم كتب الإمام الشافعي؟ بالعقيدة، باللغة، بفهم كبير لمعاني القرآن وكليات القرآن؟ كتب بها جميعًا، وصار هذا هو مجال التنظير، فمن يريد أن ينظر في الفقه لا يذهب إلى الفقه، ولكن لأصول الفقه، فمنه خرجت المقولات والنقاشات النظرية كما ذكرت د. أماني و أ. وليد.
من ثم فالحاضر الغائب في هذه الورقة هو أصول الفقه وليس الفقه، لأننا ننشئ ثنائية ما بين الجزئي والكلي، بينما الكلي موجود، وسوف نُقيم مقارنة بين ما آل إليه التنظير في العلوم الغربية وبين ما تم في أصول الفقه؟ ما هي الأسئلة التي أجاب عنها وما علاقتها بالتفسير؟ وكما ذكر د. هاني، فالتفسير لديهم كان تفسير نص، ولم يكونوا معنيين بتفسير الواقع، ولكن قدموا تنظير لتفسير النص، وكان تنظيرًا كبيرًا احترمه القدماء والمعاصرون والمسلمون وغير المسلمين. وهنا سؤال أ. تقى: هل اشتغلوا في الواقع؟ فكانت إجابة د. أماني: أن الأدباء في هذا العصر لم يكتبوا في النص، وإنما كانوا يكتبون في الواقع. فلو بدأنا من الجاحظ وابن المقفع وغيره هم كانوا يكتبون عن أحوال الناس، والمؤرخون كانت أعينهم على أحوال الناس والملوك والصناعات والصنائع والعلوم، حتى أنهم ينظرون لحركة العلوم، وهذه نقطة مهمة عند ابن خلدون، فقد جمّع كل هذا، فهو لم يكتب عن السياسة فقط، وإنما كتب الباب الأول في أحوال العالم والعلم، والباب الثاني عن أحوال العمران، والباب الثالث في السياسة، والباب الرابع في المعايش، والباب الخامس في الصنائع، والباب السادس في التربية. هذه هي مجالات الحضارة التي كانت موجودة، والطريقة التي كتب بها كانت هي الطريقة التي ظهرت الحاجة اليها فكتب بها. ومن أروع الأشياء في تاريخ الإسلام هي تلك القدرية العظيمة في اختلاف المسلمين في كل شيء لكن اجتماعهم على الدين. مثلًا عند جمع القرآن ورغم اختلافهم في كل شيء إلا إنهم لم يختلفوا فيه، فلم يرِد الينا لا من مستشرق ولا من مستغرب أن هناك من عارض وقال إن عثمان رضي الله عنه دمر القرآن. وهكذا فإن اختلافهم مع الاجتماع على الدين كان نوع من أنواع الدلالة على أن الدين مُجمَع عليه.
كتاب “الأصول” هو الذي تطور من هذا التأسيس الكلي للإمام الشافعي إلى التأسيس المبوب لمن جاءوا بعده إلى فكرة القواعد والأصول، وهذا تطور تنظيري، لكن بالنسبة للعلوم الاجتماعية فهي أُدمجت في كتاب الفقه أولًا ثم فُصلت مع الاتصال بكتب الفقه، وهذا مثل الماوردي وصولًا لابن تيمية، لكن لم يكن الفقيه وحده هو الذي يكتب، فالأديب كتب، والمؤرخ كتب، وكان المؤرخ سردي وغير تمحيصي ولا يُستفاد مما كتبه إلا للمتعة العقلية والمعرفة غير الفعالة، حتى أتى ابن خلدون، ويجب أن يُقال مدرسة ابن خلدون، لأنه رُزق مباشرةً بتلاميذ ثم جيل ثم بهتت الدنيا حتى اختفت. ويظهر “الجبرتي” ويتأثر به “خير الدين التونسي” ثم تتجدد المدرسة من جديد حتى مدرسة المنظور الحضاري. وكان لابن خلدون تلميذ خطير هو “المقريزي” وهو إمبريقي في كتابه “إغاثة الامة بكشف الغمة” يبحث فيه ظاهرة المجاعات في تاريخ مصر، ويعد حوالي ستة وعشرين مجاعة ويحلل المجاعة تحليل بمؤشرات: ماذا يحدث في النيل؟ ماذا يحدث في الزرع؟ ماذا يحدث في الأسعار? ماذا يحدث في سياسات النقد؟.
الأمر الثاني هو علاقتنا بالغرب والحداثة، فهو أمر يحتاج إلى إعادة نظر، فالمسلمون عندما اصطدموا بالحداثة تذبذبوا بين الشرق والغرب. أعجبني من توجه ناحية الشرق، حيث يبدو أن الغرب على مدار التاريخ به فيروس. مثلًا نجد “البيروني” في القرن ما بين الرابع والخامس الهجري، درس الهند، وبدأ يكتب عن الهنود، ووجد أن الحديث عن هذا المجتمع ليس علميًا، فهو ليس قائم على مسموعات مباشرة أو على مشاهدات مباشرة ولا ترجمة كتبهم، فكأنه عالم اجتماعي أنثروبولوجي، فألف كتاب “تحقيق مال الهندي من مقولة مقبولة في العقل أو مرزولة”، فتكلم فيه عن أنه لا يوجد طريق لمعرفة المجتمعات إلا المشاهدة، والملاحظة، وتمحيص الأخبار، وإعادة قراءة الخطابات، وإحسان ترجمة النصوص، وكانت النتائج مبهرة. أولًا توصل إلى أن هذا المجتمع المستبشع في عقائده له أصول توحيدية، وأن كثيرًا مما تُرجم عنها تُرجم مشوهًا، ومع ذلك لا تزال عقائدهم فاسدة، لكن فيها ما هو مشترك وفيها ما يمكن تأويله، واستخلص منهم الفلك، والجبر، وسماه بأسمائهم ثم طور ونمَّى. وفي هذه الأثناء كان يضع نظريات رياضية، والتي كان يوظفها لصالح حساب مواقيت الصلاة، ومواقيت الحج والصيام، ولحساب المواريث، إذن ما أود قوله إن التعامل العملي الأريحي مع الأمر هو الذي يليق بهذا المستوى التنظيري. ولو كانوا قد وضعوا نظريات فقهية فماذا ستكون نتائجها؟ فبعد 100 سنة من التنظير الفقهي الحديث ماذا نجد؟.
بخصوص التنظير الغربي، أريد أن أنقل تجربتي، كنت أعمل في رسالة الدكتوراه وكان موضوعها في “القوة والمصلحة والأخلاق” وكانت الكلمة الجديدة هي الأخلاق. طرحت مفهوم الأخلاق في العلاقات الدولية فوجدت مجموعة رائعة من الكُتاب الذين راكموا في هذه المسألة، ولكنهم غير مشهورين، فمن الواضح أن التنظير الذي يصل إلينا ليس الجيد بالضرورة، بل هناك من الجيد ما يتم التعتيم عليه أو استبعاده. ومن خبرتي الأخيرة يبدو أن فكرة التنظير الكبيرة العميقة ينبغي أن نصلها بالواقع والتوظيف الغربي لكي نكتشف من أين يأتي هذا التنظير؟ وهل فعلًا هو من أجل أغراض خطيرة متعلقة بالحداثة والتنظير. ويجب أن نصلها أيضًا بالوضعية، فما بين التنظير والحداثة تأتي الوضعية والسلوكية، والسلوكية بالأخص، لأنها هي التي دمرت العقل الغربي بأن حصرته في أن ما تستطيع أن تقيسه هو فقط الذي يجب أن تدرسه، ومع ذلك فهي لازالت رائجة، فالتنظير الرائج في الغرب غير التنظير الذي يشتمل على المعياري والوصفي، وليس كله بالضرورة تفسيري، وهو جزء من الحداثة أو ما بعد حداثة، لكنه موجود، فلكي أقيِّم مشكلة مع التنظير بتعميمه، ينبغي أن أبصر التنوع في هذا التنظير.
عنصر أخير، الأمة ليست قائمة على الفقيه وحده وإن كان لابد أن تستند للفقيه باستمرار لكن ليس هو من يفسر الواقعة. لن يكون في مقدرة الفقيه الذي يدرس كل المواد الفقهية- حتى بعد تطوير الأزهر الحديث – أن يفسر الشأن الاجتماعي والعلم الاجتماعي بثقل. فلابد أن يلتقي علماء الاجتماع والسياسيين مع الأزهريين، من هنا تخرج نظرية أو أنصاف نظريات أو نقاشات نظرية، حتى تظهر النظريات التي تعيد توجيه المجتمع نحو دولة أفضل ومجتمع أكثر تماسكًا واقتصاد أكثر عدالة الخ.
في دراستي اكتشفت أنني أجهل ما يكتب إسلاميًا في العلوم الاجتماعية، هناك إنتاج ضخم من ماليزيا حتى المغرب لكننا لا نطلع عليه. فهناك مثلًا دراسات قيمة في معالجة الأزمة المالية بقيم إسلامية وبمقاصد إسلامية، باللغتين العربية والانجليزية، بها محاولة اشتباك مستصحب إسلاميته ومستصحب أدوات إسلامية فقهية وأصولية.
د. هاني: ذكرتني الأسئلة التي طرحها د. شريف ببعض الأطروحات الشبيهة السابقة التي قد عزمت على الاهتمام بها، مثل كتاب “ما لم يقُلْه الفقيه” للدكتورة أماني أبو الفضل، فقد طرحت بعض التساؤلات التي تعتقد أن الاجتهاد الفقهي المعاصر لا يستطيع الإجابة عنها، وهناك تجربة للدكتور علي جمعة في كتاب “أسئلة الأمريكان”. وهناك كتاب “مئة سؤال عن الإسلام” للشيخ الغزالي، وكان للمستشار طارق البشري بعض المساحات التي أشار اليها لم يتم تغطيتها فقهيًا بشكل كافٍ، منها أن طريقة عمل المؤسسات المعاصرة من الداخل تحتاج إلى إسهام فقهي رصين. وقد أشار د. شريف إلى نقطتين، نقطة تتعلق بضعف الأداء البيروقراطي وجنوح الموظفين إلى الرشوة والفساد، فقد تبلورت في ذهني فكرة من خلال هذا الخيط المتتابع من الأسئلة التي تطرح على العقل الفقهي المعاصر وهي أهمية عمل مسرد بهذه القضايا التي لم تُغط إلى الآن، وهذا المسرد يشتمل على مئة تساؤل وقضية من هذه القضايا، ثم يوجه الباحثين الشرعيين الجادين إلى الاشتباك مع هذه القضايا، بدلًا من تناول مسائل قُتلت بحثًا.
د. شريف: بخصوص موضوع العملات الإلكترونية، فالحاصل أن الفتاوى تسير حيثما سار الموقف الرسمي، ولكن الموضوع معقد جدًا، ويجب إثارة المناقشات حوله، فنحن لدينا طلبة علم شرعي يحتاجون أن يؤسَسوا ويلهَموا النَفَس التفسيري لتصبح لديهم الملَكَة التنظيرية، وهذه لن تتأتى بذكر الحكم مباشرةً، أو التكييف بناء على مصلحة عامة مبهمة، فهناك واقع يتغير. وفي النهاية فإن النظر التفسيري لا غنى عنه، صحيح أن العقل الفقهي قد يزهد في هذا النظر التفسيري لكون التفسيرات عادة ما لا تكون مكتملة، أو لكون النظر التفسيري يعكس في بعض الأحيان نوعا من التعالم، ولكن، حتى لو أطلقنا على ما نطلبه “اجتهادا” وليس “تنظيرا”، فإننا سنجد أننا مأمورون بالنظر “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق”، فأين النظريات الإسلامية التي تشرح وجهة النظر الإسلامية من مسألة بدأ الخلق، وأين الطرح الإسلامي المناظر لنظريات الانفجار الكبير أو الداروينية؟ وأين النظريات التي تترجم الأمر القرآني المباشر بالنظر في كيفية بدء الخلق؟
فيما يتعلق بالموقف من الحداثة، أتفق مع أخي مدحت في أن الموضوع يحتاج إلى نوع من الأريحية، لكن المشكلة في الحداثة أن ميراثها في معظمه يتمخض عن “نفي الإنسان”، وتجريده من المعنى بشكل أو بآخر. فقد بدأت بالنهضة، وهي حالة الاستفاقة، كإنسان استيقظ وقرر العودة لاستئناف دوره الحضاري، وبعد ذلك مارس الإصلاح الديني ليحطم المؤسسات التي تعوق هذه الحالة التحررية، ويقاوم الاستلاب الذي أوقعته فيه الكنيسة، بعد ذلك بدأ التنوير الذي أُعيد فيه العقل إلى مكانته التي يستحقها، وبعدها دخلنا طور الثورة الصناعية التي أبدلت الأنساق المعرفية السائدة تمامًا، وأصبح الإنسان يفكر وفقها بأنساق قريبة من أنساق الآلات، ثم لُخص كل هذا في اسم الحداثة التي اعتذرت عن دراسة الإنسان من حيث هو إنسان لغياب الأدوات الكافية لدراسته، ولكنها في النهاية قامت بتحليله وتفكيكه واستبعاده. تماما كما فعلت السلوكية، التي بدأت بطرح لطيف ومهذب، مفاده أننا ليس لدينا الأدوات الكافية لدراسة النفس، ولكننا نستطيع أن ندرس السلوك. ولكن بعدها خلصوا أنه لا توجد نفس أصلا، وكل ما لدينا هو السلوك. وهكذا، دائمًا ما يتم تحييد الحقيقي والمتجاوز والجوهري، والاستعاضة عنه بالعرضي والظاهري والمادي، وعليه فإننا نقيم الحداثة في إطار ما نعرفه عنها، ولا نتقول عليها شيئا من خارجها.
أما فيما يتعلق النظريات، وما إذا كان لابد أن تكون نظريات أبدية؟ فقد أشرنا إلى أن النظرية بطبيعتها مرحلية، والنظريات لا توضع لكي تكون موجودة إلى الأبد، ولكنها بطبيعة الحال لا تصرح بذلك. فالنظرية تشبه عقد الزواج، الذي يمكن أن ينتهي، ولكن إذا نُص على توقيته في أثناء عقده يفسد. فالنظرية لا تُصرِح في البداية أنها سوف تكون نظرية مرحلية، وإنما تُطرح على أنها نوع من الزواج الأبدي، ولا يُنص في متنها على أنها سوف تنتهي صلاحيتها بعد فترة ما، ولكن الواقع أنه يمكن أن تنتهي صلاحيتها، كما يمكن أن ينتهي الزواج. ومن ثم إذا أردنا أن نفكر في التنظير الفقهي، فلن يكون من حسن السياسة أن نقول مسبقًا أن ما يقدمه من نظريات هو من نوع النظريات المؤقتة، لأن الناقد سوف يأتي في أي لحظة، ويقول: حسنا لقد حان أوان انتهاء هذه النظرية أو تلك، فهي لم تعُد صالحة، ومن ثم يطالب بسحبها من نطاق التفسير، وربما يكون هذا بغير وجه حق.
فيما يتعلق بكون النظرية متعددة المنظور، بمعنى أن تستوعب المقولة التفسيرية التي تنطق بها وتستوعب مقولات تفسيرية أخرى، فإن هذا يمكن أن يفرغ التنظير من معناه، لأن التنظير بطبيعته لابد أن يراعي عنصر التبسيط. وهناك مقطع فيديو شهير لـ “جون ميرشايمر”، وهو أحد كبار منظري العلاقات الدولية في العالم، وُجِه اليه سؤال عما إذا كان ما يحدث الآن في غزة قد يجعله يعيد النظر في النظرية الواقعية، حيث إننا الآن أمام حالة تقوم فيها دولة (أمريكا) بانتهاج سياسة خارجية ليست مبنية على أساس من مصلحتها القومية، وإنما هي آخذة في التورط فيما لا يفيدها، بسبب دعمها المطلق الذي تقدمه لإسرائيل. وافق “ميرشايمر” على منطق السؤال، ولكنه اعترض على أنه يستدعي إعادة النظر في مقولات النظرية الواقعية، وقال “إن الواقعية كأي نظرية أخرى لم تطرح لكي تكون نظرية تستوعب الواقع بنسبة 100%، ولكنها تفسر نسبة وتعجز عن تفسير نسبة أخرى”. ولا يستدعي هذا من الواقعيين أن يعيدوا تطوير نظريتهم، لأن إعادة تطوير النظرية على نحو مستمر وفقًا “لميرشايمر” يخرجها عن العمل.
وهذا نفس ما كان قد قاله “جوزيف ناي” عندما ناقش فكرة التنظير في مجال العلوم الاجتماعية، حيث افترض أن معظم النظريات تشبه الساعات المتوقفة، التي تدل على التوقيت السليم، ولكن مرتين فقط خلال اليوم، بمعنى إن النظرية تطرح مقولة، والمقولة هذه تفسر بعض أوضاع الواقع، ولكنها في الحقيقة لا تستطيع أن تستوعب كل تفاصيل الواقع.
من هنا نصل إلى أن الإنتاج الفقهي يتعين أن يظل إنتاجًا اجتهاديًا وليس تنظيرا، بالمعنى الذي تناقشنا حوله، وألا نخجل من فكرة الجزئية، التي يتهم بها البعض الفقه، وأن ينتقل الشغف من معنى النظريات إلى معنى المقولات التي يمكن البرهنة عليها أو يمكن الرهان عليها، لأن النظرية لا تستطيع أن تستوعب الواقع وكل الاستدراكات التي تحيط به، لأنه مليء بالاستدراكات في حقيقة الأمر.
وكان “فوكوياما” يقول: “إذا كنا نفسر السلوك الاقتصادي بأنه ينبع من رغبة الفرد في تحقيق المنفعة الاقتصادية، وجاء البعض ورأي أن هناك عوامل أخرى تتحكم في السلوك الاقتصادي لدى الأفراد مثل الإيثار أو الكرم أو الطمع، يقول فوكوياما “إذا دافع مطورو النظرية الاقتصادية عن نظريتهم بالقول إن معنى المنفعة يشمل كل هذه العوامل، فإن هذا يسقط نظريتهم تمامًا، فالتوسع في تفسير معنى المنفعة بهذه الدرجة يعنى أن النظرية لن تصبح بعد ذلك قادرة على تقديم مقولات محددة تفسر الواقع وتتنبأ بسلوك الأفراد أو توجه السياسات على النحو الذي ينبغي أن تقوم به النظريات”.
د. أماني: وهذا يعني أنه ممكن للنظرية ألا تُقدح، ولكن تولِّد نظرية أخرى، وهذا ينطبق على النظريات التي نشأت أو نمت في إطار أصول الفقه. بمعنى مثلًا أن المقاصد ليست كل شيء، ولكن قد توجد بجوارها أشياء، العلل شيء وبعدها هناك مقاصد وبعدها قد توجد أشياء وهكذا.
د. شريف: ولذلك احتفى “وائل حلاق” بالتنوع الفقهي وبالحالة الفقهية التي تتضمن طوال الوقت تلاقحًا مستمرًا مع الواقع. هذه الحالة من التنوع الفقهي هي نفسها التي ينظر إليها النقاد الحَدَاثيون أو المستشرقون بنوع من الازدراء، معتبرين إياها بمثابة دليل على عدم القدرة على النضج القانوني، وعدم القدرة على سبك الآراء الفقهية المتعددة ضمن مدونة قانونية محددة تضم عقوبات رادعة وأنظمة يستطيع الشخص الذي يجلس في موقع القانوني أو القاضي أن يحكم بها.
وهذا لأن الحداثة في النهاية تقوم على أساس من فكرة تقسيم العمل، وتقسيم الوظائف، وهذه الأفكار تتسق مع فكرة القانون، فالقاضي، لا يشترط فيه أن يكون مجتهدًا، وإنما هو شخص ينظر في مدونة قانونية ما ويحكم بمقتضاها. كأن القاضي بهذا المعنى هو شخص يجلس على خط إنتاج، ينتج من خلاله أحكاما قانونية، وكما أن العامل العادي الذي يُنتج جزءًا قد لا يستطيع تصور علاقته بالمنتج النهائي، فإن القاضي في إطار منظومة الحَدَاثة قد ينطق بحكم، ولا يستطيع بالضرورة أن يسكِّنه في إطار منظومة العدالة، وليس ذلك حال الفقيه المجتهد الذي يفترض فيه أن يستلهم الكلي وهو ينطق بالجزئي.. وجزاكم الله خيرا.
د. مدحت: نشكر جميع الحضور ونختم اللقاء.
للاطلاع على ورقة عمل الحلقة النقاشية اصغط هنا