د. وائل حلاق: حوار حول مشروعه الفكري وقضاياه الكبرى

د. وائل حلاق

حوار حول مشروعه الفكري وقضاياه الكبرى*

يُعَد د. وائل حلاق واحدًا من أشهر وأهم المفكرين المَعنيِّين بالدراسات الإسلامية في وقتنا هذا، إذ لديه مشروع فكري ومعرفي رصين، يتناول في ثناياه أبرز القضايا الفكرية الإسلامية الكبرى، على اختلافها.

ود. حلاق، وُلِد بفلسطين عام 1955 لأسرة مسيحية، وحاز درجة الدكتوراه من جامعة واشنطن عام 1983، بأطروحة حول الشريعة الاسلامية، عنوانها: “هل سُدَّ بابُ الاجتهاد؟ – Was the Gate of Ijtihad Closed?”، ليلتحق بعدها بمعهد الدراسات الإسلامية بجامعة ماكجيل الكندية في عام 1985، أستاذًا مساعدًا للشريعة الإسلامية، ثم أستاذًا للعلوم الإنسانية والإسلامية بجامعة كولومبيا الأمريكية منذ عام 2009. ويعمل حلاق جاهدًا على تعزيز مشروعه الفكري واستكمال أركانه عبر مؤلفات مختلفة، تنوَّعت ما بين أكثر من ثمانين مقالًا علميًا، والعديد من الكتب، وقد تُرجِمَت العشرات من مقالاته، وجميع كتبه إلى لغاتٍ عديدة، أبرزها العربية والتركية، وكذا الإندونيسية، واليابانية، والفارسية، والعبرية، والألمانية، والفرنسية، والألبانية، والروسية، والبنغالية. ونتيجة لجهده البحثي المبتكر والرائد في العلوم الإنسانية والاجتماعية، حصل حلاق في عام 2021 على جائزة “TÜBA”، التي تمنحها الأكاديمية التركية للعلوم، كما حصل على جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية في عام 2024[1].

والحوار محل التناول هو نقاش استضافته قناة “حيرة” الثقافية على موقع “يوتيوب”، في نوفمبر 2022، ويستعرض فيه حلاق معالم مشروعه الفكري، ومقدارًا من خواطره ومسيرته العلمية والبحثية، وآفاقه المستقبلية، كما يسلّط الضوء على مجموعة من أهم أفكاره ونظرياته، كنقد الاستشراق، ونقد جذور الحداثة، وتقييم المشاريع الناقدة للحداثة، ومسألة الإسلام السياسي، ونظريته في الدولة المستحيلة، وتأمُّلاته حول الشريعة الإسلامية ونقاط قوتها، والعلاقة بين الشريعة والأخلاق، والبُعد الصوفي والعرفاني في الإسلام، وغيرها من الموضوعات المهمة.

مدخل أساسي

س: ما الذي حدا بك، وأنت من أسرة مسيحية إلى التخصُّص والتبحُّر في ثنايا الفكر الإسلامي، فقهًا وتاريخًا ومعرفة؟ هل هو مجرد بحث وانشغال أكاديمي محض، أم دراسة استشراقية، أم نوع من التماهي والتفاعل ورغبة في التحلِّي بأخلاق وقِيَم وحقائق وجدتها في التراث الإسلامي، وينتمي إلى إرث حضاري صنع ذاكرة الجغرافيا العربية والإسلامية؟

د. حلاق: لقد بدأت هذه الدراسة منذ وقتٍ طويل، ولم تكن لديَّ فكرة حينها عمَّا وصلتُ إليه اليوم من نتائج. وكنت في البداية أتطلع إلى دراسة القانون بإحدى كليات الحقوق، بيد أن ذلك الحلم سُرعان ما تلاشى نتيجة نشوب حرب أكتوبر 1973 بين عددٍ من الدول العربية وإسرائيل، وما اقترن بها من قيود سياسية، فدفعني ذلك إلى تغيير المسار نحو دراسة ما يتعلق بالشرق الأوسط من تاريخ وقضايا سياسية.. إلخ. ولكن حينما ذهبت إلى الولايات المتحدة الأمريكية في 1978 – 1979، حاولت أن أرجع إلى دراسة القانون في دراساتي العُليا، ولكن في ذهني التركيز على “الشريعة” كبديل للقانون. ومردُّ ذلك هو أنني كنت على اتصال بالأستاذ الفلسطيني فرحات زيادة، وكان محاميًا أكثر منه مفكرًا فيلسوفًا في التاريخ، فأقنعني بأنه يجب أن أَلِج موضوع الشريعة لأنه ستكون لها أهمية استراتيجية بشكل مبكر، بسبب أحداث الثورة الإيرانية في عام 1979.

وبالفعل، أثبتت الأيام بُعْد النظر المذهل لدى زيادة. إذ ألقت ظلال تلك الأحداث بقوة على المفكرين في أرجاء العالم الإسلامي، على الأقل من وجهة النظر الشرعية والقانونية، حيث أصبح الحقل الدراسي الذي شرعتُ فيه، وحتى دراسات التاريخ السني، متأثرًا بذلك التطور الشيعي الإيراني. وهكذا، بدأت في دراسة الشريعة كبديل لدراسة القانون. وكان أصول الفقه من أولى الموضوعات التي بدأت منها رغم صعوبته، وكلما خُضتُ في دراسته أكثر، تعلقتُ به أكثر فأكثر، فيما أخذَتْ تتوسَّع لديَّ الدائرة البحثية تدريجيًا، من أدب وعلم كلام وتصوُّف. وحينها اكتشفت أن هناك عالَمًا مدهِشًا يزخر بفلسفات وطرق في التفكير لا نعرفها، عالمًا عاش لأكثر من ألف عام في مجتمع عريق وثري بالتنوع والإبداع، ويمتد من الأندلس غربًا حتى الهند والصين شرقًا. وبدأت منذئذٍ بطرح أسئلة عن واقعنا الحاضر؛ كيف يمكن الاستفادة من هذا الإرث في عالمنا المعاصر؟ وكيف يمكن من خلاله بلورة أفكار تعطينا حلولاً وأساليب أفضل من تلك التي يصخب بها العالم الحداثي الراهن؟ والتي أدت – في الحقيقة – إلى ما نعيشه اليوم من أزمات؟.

  

س: كيف تشكَّلت لديك التحولات الفكرية خلال مسيرتك؟ وهل كانت مؤلفاتك متولِّدة عن تساؤلات قلقة وعميقة من رحم الحياة والخبرة المتراكمة أم شيء آخر؟ ما هي المنظومة الفكرية العامة لدى د. وائل حلاق؟ وهل هناك منطقة فارغة تسعى إلى ملئها في القادم من مؤلفات؟

د. حلاق: كانت لغتي الإنجليزية متواضعة للغاية في البداية، لذا استغرق الأمرُ مني بعض الوقت في القراءة واستيعاب ما أقرأه. ومع ذلك، شعرتُ بأن هناك خطأ ما في الطريقة التي يُقدَّم بها الإسلام في الغرب. في البداية وتقريبًا في السنوات العشر الأولى بعد أن بدأت مسيرتي المهنية كباحث، كانت القضية الأساسية الأولى، والمشكلة في آنٍ واحد، تتمحور حول الطريقة التي يتم بها تقديم الإسلام بشكل عام، والشريعة بشكل خاص، في الدراسات الغربية. وقد توازى ذلك مع ظهور العمل الضخم لإدوارد سعيد حول الاستشراق، في عام 1978، وهو العام الذي بدأتُ فيه دراستي العليا بجامعة واشنطن. إلا أن سعيد لم يتطرق الى الجانب القانوني مطلقًا، وكان ذلك محلاً لدهشتي، لأنه في قاموسي وفي طريقتي لرؤية وفهم العالم، فإن عالم القانون أساسيٌ لظهور الدولة، وكذلك لصعود الاستعمار؛ بحكم أن الاستعمار ناشيء من قِبَل دول بالأساس؛ فالدولة والاستعمار وجهان لعملة واحدة، وهما ظاهرتان مرتبطتان ببعضهما البعض بطرق عضوية ومتكاملة، وكانت تلك هي المشكلة الأولى.

وهكذا، وبتعمٌّق إدراكي تدريجي لخطأ كيفية تقديم الإسلام والشريعة في الغرب، خاصة فيما تُظهِره اللغة ذاتها التي يستخدمها المستشرقون لوصف الإسلام، فقد قرَّرت أنه حان الوقت ليأتي شخصٌ ما ويغير مناهج وأدبيات الشريعة الإسلامية في الأوساط الأكاديمية الغربية، وكان هذا هو طموحي الأكبر في الواقع، مع علمي بأنه سيستغرق حياتي بأكملها للوفاء به. وبحلول عام 2009 تقريبًا، أعتقد أن جانب الشريعة في مشروعي الكبير قد اكتمل إلى حدٍ ما، لكنه لم ينتهِ بعدُ دراسةً ومراجعةً، وهو أول مجال عمل أكاديمي لي على المستوى المهني، ويظل أحد أهم مجالات البحث والاهتمام لديّ.

ومن هنا، بدأت أطرح أسئلة لم يسألها الناس عادةً في هذا النوع من البيئة الأكاديمية، من قبيل ما هي مشاكل تمثيل الإسلام في الغرب؟ هذا بالتوازي مع رغبتي أيضًا في إنشاء سرد للإسلام يمكن أن يشكل في الواقع نقدًا للحداثة الغربية، وكذلك للحداثة بشكل عام في العالم اليوم، لأن الحداثة الآن ليست حكرًا على الشعوب الغربية وحدها. بالطبع إنهم هم منَ ابتكروها، ولكن اعتبارًا من بداية منتصف أو نهاية القرن العشرين، أي بحلول عام 1950، فإنها أصبحت ظاهرة عالمية بمعنىً ما. وأنا لا أقصد بذلك الذهاب إلى الجوانب السطحية للحداثة من أن الناس في جميع أنحاء العالم بدأوا في ارتداء الجينز أو بناء مراكز التسوق.. إلخ، ولكن أعني أن “الذات” الإنسانية منذ ذلك التاريخ قد شكَّلتها الحداثة على نطاق واسع، نفسيًا ومعرفيًا وعقليًا، بل وَرُوحيًا، إذا جاز التعبير، إذ من الصعب للغاية الحديث عن الجانب الروحاني للحداثة.

ولذا بدأت في طرح الأسئلة: كيف يمكن أن تساعدني دراستي للإسلام، التي استثمرتُ فيها ثلاثة عقود من عمري، في بناء المزيد من مراحل المعرفة التي تتعلق بالطريقة التي نعيش بها اليوم؟ لأنه في النهاية إذا لم يكن للمعرفة سبب وجيه لوجودها، فلا ينبغي التعامل معها، كما أنه ليست كل أشكال المعرفة صالحة للبناء عليها، فهناك العديد من أنواع المعرفة التي قد يُنفق فيها المرءُ عمرَه، ولكنها عديمة الفائدة تمامًا، ولا تخدم مصلحة أي شخص. ويدرك العديد من الأكاديميين هذا الأمر، غير أنهم لا يعلنون عنه كثيرًا، حيث يقضون جُلَّ حياتهم في الأوساط الأكاديمية يتقاضون رواتبهم ويعيشون حياة جيدة، بينما لا يقرأ أعمالَهم سوى عشرة أشخاص فقط في العالم. وهكذا سألت نفسي هذا السؤال أيضًا بحلول عام 2000 أو 2005؛ ما هي المعرفة؟ وما هي الحدود بين المعرفة الجيدة والمفيدة للإنسانية وتلك عديمة الفائدة؟ وكيف نضع تلك الحدود؟ وبالطبع قادني ذلك إلى طرح أسئلة أخرى لاحقًا، من قبيل: لماذا نتمسك بأشياء معينة، ونعتبرها أمرًا طبيعيًا ومُسَلمًا به؟ لكن معرفتي بالتراث الإسلامي ساعدتني على طرح الأسئلة الأكثر جوهرية، والتي يجد المرء نفسه مُرغمًا على التعاطي معها، مثل: لماذا لدينا أقسام مثل الأنثروبولوجيا والتاريخ والهندسة وإدارة الأعمال وغيرها في العالم الإسلامي وأجزاء أخرى من العالم، ومع ذلك لم يتطوَّر العالم الإسلامي؟ ومن ثمَّ، بدأت بدراسة التاريخ، بما يحمله من مشكلات. وإذا تحدثت عن الأنثروبولوجيا فلديها مجموعة أخرى من المشكلات… إلخ. وهكذا استمرت الدائرة في التوسع، وقلقي الرئيسي الآن هو أن هناك الكثير من الأشياء على طاولتي، ولست متأكدًا من قدرتي على معالجتها قبل تجاوُز هذه الحياة كجميع البشر.

محورية الأخلاق والتصوف في فهم الإسلام

س: الذي يقرأ إنتاجك المعرفي، يرى أن هناك محورية للبعد الأخلاقي، حتى الشريعة تتناولها من منظور أخلاقي، وكأنك تريد أن تقول إن الحداثة جرَّدت الإنسان من هذا البعد. وأريد أن أسألك هنا عن فحوى ذلك، جنبًا إلى جنب مع البُعد الصوفي والروحي والعرفاني في منظومة د. وائل حلاق. بإيجاز: ما الذي تمثله هذه الأبعاد لك في فهم الإسلام؟

د. حلاق: أنا أنظر إلى التصوف بشكل ميكروسكوبي أكثر تفحصًا، وبالطبع لا أتناوله من منظور مُسيَّس كما هو الحال اليوم، بل أنظر إليه كظاهرة انتشرت في العالم الإسلامي- خاصة بعد القرن الثالث من الهجرة (التاسع الميلادي)- وتمثل أداة تشرح لي التكوين الهيكلي للإسلام. والواقع أنه يمكنني أن أقضي حياتي كلها في دراسة التصوف الذي هو أمرٌ رائع للغاية. فعندما بدأت في دراسة الشريعة، ثم انتقلت من الشريعة إلى التصوف، وكذا إلى علم الكلام وروافد أخرى، أدركت أن التصوف هو الامتداد للشريعة في كل شيء تقريبًا، فهو يأخذ الشريعة إلى أعلى وأدنى إذا جاز التعبير، وفي الأعلى يربطها بالعالم الروحي والإلهي بطرق لم تكن الشريعة نفسها مهتمة بالتفصيل فيها، واكتفت على الأساسي منها. فالتصوف يُعطى نوعًا من التوضيح للشريعة من الأعلى. ثم على المستوى الاجتماعي، عزَّز التصوف الوجود الاجتماعي للشريعة، بل والوجود الاقتصادي، فلم يكن مسألة روحية فقط، وإنْ كان ذلك هو الجانب الأكثر أهمية حقًا. إذ إن ذلك الجانب معنيٌ أيضًا بتكوين الفرد وتأهيله نفسيًا لاستقبال واستيعاب وتطبيق الشريعة بشكل أفضل، فينشأ فردٌ مُؤهَّل ومُوجَّه تمامًا نحو الشريعة.

وعندما أنظر إلى الطريقة التي عمل بها الإسلام، أجد نفسي مدفوعًا إلى التطرق إلى فكرة المجالات المركزية وتلك الهامشية عند ميشيل فوكو وعالم الاجتماع الألماني ألفريد شميدت. فالمجالات المركزية هي مجالات تتمتع بقدر كبير من القوة داخل النظام، بينما المجالات الهامشية بمثابة مجالات داعمة لاستكمال الصورة، وهذا لا يعني أنها ليست مهمة، ولكنها هامشية بمعنى أنها ليست مركزية. إذا كنت سأبسط الصورة نوعًا ما وأرسم مخططًا معينًا لماهية الإسلام وكيف يعمل الإسلام، فسأقول إن المجالات المركزية للإسلام تتمثل في أمرَيْن اثنَيْن: الشريعة والتصوف. لأنه إذا نظرت إلى المجالات الأخرى، نجدها إما متضمنة في هذين المجالين أو أنها داعمة لهما. إذا أخذت على سبيل المثال “الأدب الإسلامي” بالمعنى التقليدي قبل القرن التاسع عشر، كان ركيزة لكل من الشريعة والتصوف، وكان أحد الطرق التي كان على كليهما، وخاصة التصوف، أن ينمِّيها ويصقلها ويستفيد منها. ولكن إذا أخذت علم اللاهوت بمعناه الشامل، على الرغم من أن علم اللاهوت قد أسس الدين، إلا أنه كان داعمًا للشريعة لأن الشريعة بحاجة إلى أن تكون مرتبطة بالعالم، الأمر لا يتعلق فقط بالعالم اليوم، فهي نظام عملي للغاية، تنظِّم المجتمع وتتكامل معه في نواحٍ عديدة. فالشريعة لا تهتم على سبيل المثال بأسس الدين على غرار علم اللاهوت، وعلوم القرآن، وأصول الدين وعلم الكلام، فهي كلها ليست جزءًا من مناقشة الشريعة، وإنما لها عملها الخاص بها بعيدًا عن الشريعة، بدءًا من مفهوم الوجود مرورًا بمفهوم النبوة فالإمامة، التي هي الأخيرة عادةً الفصل الأخير من كتب علم الكلام القديمة.

ومع ذلك، كان جميع ذلك ضروريًا لدعم الشريعة كمجال مركزي، ويأتي “التصوف” ليكملها كمجال مركزي تالي، وكلاهما تفاعَل جدليًا مع بعضهما البعض. أولئك الذين يعتقدون أن “التصوف” منفصل عن الإسلام، نقول لهم إن كل نظام فيه عناصر معتدلة وأخرى متطرفة، ومن الضروري أن يكون لديك دائمًا نظام عصبي مركزي، بينما هناك عناصر تقف على حواف وحدود هذا النظام، لكن هذا لا يعني أن النظام بأكمله يعمل بمنطق شخص واحد. على سبيل المثال، لا يمكننا الحكم على الشريعة من خلال ابن جرير الطبري مثلاً أو ابن العربي. كل ما أقوله هو أن مجال التصوف لا يجب الحكم عليه أو تصنيفه بشكل قاطع من منظور واحد، إنه مجال متعدد الأوجه للغاية، وله وظيفة معينة يجب أن يؤديها بقدر ما تتطلبه ضرورات الشريعة الإسلامية. لذا اهتممت به، وطرحت أسئلة مثل: ما دور الأخلاق والقانون هنا؟ كيف استطاعت الشريعة كنظام قانوني أن تشمل كافة المجالات الهامشية الأخرى؟.

العلاقة بين الفقه والأخلاق

س: هل تنوي أن تخصص دراسة مستقلة في هذا الموضوع، حيث يُقال دومًا “الشريعة والحقيقة”، “الظاهر والباطن” والتكامل الدائم بينهما، حيث ترتبط الممارسات والعبادات الظاهرية بعلاقة روحية خاصة بالله الخالق، وتنقله إلى مراحل من الإيمان والتقوى واليقين. وبالتالي، هل تفكر في هذا الأمر؟

د. حلاق: بالطبع هذا دفعني إلى دراسة التصوف كما قلت آنفًا، وأدركت أن الشريعة على الحقيقة “ثقافة” تدفعك للتحلِّي بالتصوف، وقد كتبت كتابًا عن هذا الموضوع وترجمته. فقد لجأت إلى فهم عمق وأبعاد هذه التجربة الفردية المتعلقة بالذات، ولذا بدأت في البحث في التصوف، وهذا هو السبب في أنني أجد التصوف ضروريًا للغاية لفهم هذه الشريعة. وكما قال الإمام الغزالي: إذا كنت لا تفهم المنطق فابتعد عن أصول الفقه لأنك لن تتمكن من إدارته. ونفس الشيء أود قوله عن التصوف والشريعة؛ “إذا كنت لا تعرف التصوف، فابتعد عن الشريعة لأنك لن تفهمها أبدًا”. وبالتالي فإن السبب الذي جعلني مهتمًا بالتصوف هو على وجه التحديد لاستكشاف تكوين الذاتية، وكيف تتشكل الذات البشرية من خلال تكنيك الذات، التي تتعلق بالتحلِّي بالأخلاق، التي تعد ضرورية بالفعل لظهور وظيفة أو عمل الشرع. ليس هذا فحسب، فالتصوف أيضاً ليس مجرد مشروع روحي، بل هو في الواقع أحد أفضل المجالات لدراسة ما معنى أن يكون لديك مفهوم إسلامي للعقلانية؛ إذ إن جميع أساتذة التصوف الكبار تقريبًا سعوا بعُمق إلى استكشاف فكرة العقل والعقلانية فيه. وهكذا إذا أراد المرء أن يفهم المفهوم الإسلامي للعقلانية “Rationality” فهو لا يمكنه الاستغناء عن التصوف.

ولكن الجزء المثير للاهتمام كما قلت من قبل أن المفهوم الصوفي للعقلانية يسمح بالبدء في التفكير لنقد الحداثة؛ لأن أزمة الحداثة إذا تم تحليلها بشكل صحيح وإذا فُهِمَت أبعادها العميقة، فسنصل الى أن الذات الحديثة “الحداثية” تبحث دائمًا عن شيء غير موجود لا يمكن التعبير عنه ولا يمكن رؤيته، شيء تتوق إليه وترغب في اكتشافه، ولكن الذات غير قادرة على الوقوف عليه، بسبب القيود الرمزية الجاثمة على أذهاننا وعقولنا. نميل في الواقع إلى أن نكون محدودين للغاية في تفكيرنا حول أهم شيء في حياتنا – أي “عقلنا”- لأن بدون العقل يتلاشى كل شيء، إذ أن العقل يؤثر في طبقات أنفسنا وأعماقها، ويسري على نحوٍ عجيب إلى الصدر والنفس والفؤاد والقلب، ومستويات القلب المختلفة ومقاماته، فهذه في الحقيقة هي “دوائر العقلانية”. لذا فإن التصوف ليس مفيدًا فقط لفهم الشريعة وكيفية عملها، ولكنه يشرح مفهوم العقل في الشريعة، ويمدنا بالأدوات النقدية للتعامل مع المفهوم الحديث للعقل والعقلانية. ولا يزال المجال مفتوحًا لسَبْر أغوار هذا المَعين، من قبيل استكشاف المفهوم الصوفي للعقل، وكيف يمكن مقارنته وتباينه مع المفهوم الحداثي للعقل. وأنا أتحدث عن العالم الحديث ككل كما عرَّفته وليس الغرب فقط.

وجديرٌ بالذكر في هذا الصدد أن علوم الإسلام جميعًا كانت مترابطة ومتكاملة مع بعضها البعض. قد يكون ذلك موجودًا في بعض الدوائر الحداثية، لكن ليس بالشكلٍ الخاص والمتميز الذي يقدمه الإسلام. فالمنظومة الإسلامية تشكَّلت – إذا جاز التعبير – عبر ترابط هذه العلوم ببعضها البعض. فعلم الحديث على سبيل المثال، يرتبط بأحد العلوم الغنية جدًا هو علم “الجرْح والتَّعديل”، ومن ثمَّ يرتبط بأخبار الرواة والأنثروبولوجيا. فيما يعتمد أصول الفقه على نقل الحديث الشريف، لوضع القواعد الأصولية لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها الصحيحة، وتلك الأدلة تعتمد في جزءٍ كبير منها على الأحاديث التي نقلها هؤلاء الرواة.. وهكذا. وبالتالي لدراسة الشريعة، لا بد من دراسة الكثير من المجالات والعلوم الأخرى المحيطة بها، والتي لا يمكن فهمها إلا بها، وفي مقدمتها التصوف.

تفوُّق الشريعة الإسلامية

س: بالطبع يتجلَّى هنا طبيعة تداخل الأبعاد المعرفية للإسلام من خلال مختلف هذه العلوم، ولكن ما هي أبرز نقاط القوة التي تتميز بها الشريعة الإسلامية، والتي يمكن أن تكون بديلاً للأنظمة الوضعية المعاصرة في يومنا هذا؟ خاصة وأن لديك رؤية تعتبر أن الشريعة الإسلامية خلال القرنين الأخيرين تغيرت تغيرًا جوهريًا، ونفهمها فهمًا حداثيًا؛ كونها حُوِّلَت إلى قوانين وضعية صارمة وجامدة ومعزولة عن سياقها المتكامل، وبعيدة ومجرَّدة عن بعدها الأخلاقي، ولكن عندما تُطرَح فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية بهذا السياق، تُواجَه بانتقادات أنها غير موافقة لحقوق الإنسان وكرامته، ومجموعة من المعايير الحديثة، وبعض الفتاوى لا تراعي العدالة وبها نوع من الطبقية والمذهبية والنظرة السيئة للآخر، ويُنظَر إلى الجهاد كأنه شبيه لمفهوم الاعتداء أو الظلم. ففي ظل هذه الأمور، كيف توصَّلت إلى مكامن الجمال والقوة في الشريعة الإسلامية؟

 د. حلاق: الشيء الأكثر لفتًا للانتباه في الشريعة قبل القرن التاسع عشر، وقبل أن يبدأ الاستعمار الغربي في تدميرها، هو أنها كانت نظامًا أخلاقيًا “Moral System” أنتج القانون كتعبير عن النظام الدنيوي “Worldly Order”. بعبارة أخرى، كانت الأسس التي قامت عليها الشريعة، والسياق الذي وُجِدَت فيه، “أخلاقية” أولاً، ثم استعانت بتقنيات القانون وآلياته من أجل التعبير عن هذه الأخلاق، بما نسمِّيه اليوم تنظيم النظام الاجتماعي. وكان الشيوخ والأئمة يعلِّمون الطلاب كيفية العيش بهذه المنظومة المتكاملة، وكيفية ممارستها في المجتمع؛ لأن الوظيفة الأساسية للشريعة، قبل كل شيء، هي تنظيم المجتمع. ولا تكمن أهمية الشريعة فقط في معرفة التاريخ الحقيقي للعالم الإسلامي، ولكن أيضًا لدراسته دراسة أكاديمية بعيدًا عن الحمولات السياسية والأهداف المغرضة التي ميزت أكثر المستشرقين. إذ كانت المرة الأولى التي تمت فيها دراسة الشريعة تاريخيًا كانت من قِبل المستشرقين، ولا نعرف شيئًا عنها إلا من خلال عيون المستشرقين القانونيين. لذا فإن المهمة الأولى تتمثل في الكشف عن تاريخنا الحقيقي، أي تاريخ المسلمين والعرب وغيرهم في العالم الإسلامي، الذين يريدون أن يفهموا ما كان عليه تاريخهم بالضبط قبل القرن التاسع عشر، دون الاعتماد على ما يقوله لنا المستشرقون الذين كان جزءٌ كبير منهم ضباطًا تابعين لجيوش الاحتلال، فكتبوه من وجهة نظرهم الخاصة. وحتى إذا لم يكن هؤلاء المستشرقون عسكريين، فهم لا يزالون نتاجًا لثقافة أخرى ومجتمع آخر وشكل آخر من الاهتمام، وسلّم آخر من الأولويات، وهكذا كتبوا تاريخ الشريعة من وجهة نظرهم الخاصة.

وبالنسبة لاستفسارك حول النقاط الإيجابية الرئيسية للشريعة، ولماذا دراسة الشريعة ذات صلة بمشروعي الأكاديمي الحالي؟ فأقول أولاً إننا بحاجة إلى دراستها من أجل استعادة تاريخنا الخاص بنا كما أشرت. وثانياً الكشف عن شيء نادر جدًا في الوقت الحاضر، وهو الطريقة التي عمل بها النظام القانوني الإسلامي داخل هيكل قيمي أخلاقي مترابط للغاية. فهناك تاريخ في أوروبا لا يدركه الناس جيدًا، وقد شرحت جزءًا منه في كتابِي “الدولة المستحيلة”، ولكن هناك الكثير مما يجب قوله عنه، وهو أنه في وقتٍ ما في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في أوروبا، بدأ ظهور حركات داعية إلى الفصل بين الأخلاق وكل شيء آخر، وقد بلغت ذروتها في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وقد تحقق لهم ما أرادوا، بل وفُرِضَت رؤيتهم على الآخرين، فأصبح ذلك التاريخ الجديد هو الطريقة التي بلورت تصورنا لعالم اليوم، وأضحى أمرًا طبيعيًا. لذا، [وبمنطق المقابلة] لا يمكننا التفكير، في الوقت الراهن، في أي رؤية أخرى سوى الشريعة الإسلامية التي تمنحنا نظامًا قانونيًا حيًا عمل بنجاح كبير، ليس فقط لمدة 1200 عامًا قبل الاستعمار، ولكن أيضًا في مناطق متفرقة من العالم، ومتنوعة للغاية عن بعضها البعض، إذ كانت هي النظام القانوني الذي عمل في إسبانيا الإسلامية، وشمال إفريقيا، وما نعتبره اليوم الشرق الأوسط، وكذا في العالم الإيراني الذي كان أكبر مساحةً من إيران الحالية، ومعظم الهند، وصولاً إلى غرب الصين وإندونيسيا وماليزيا. فكان ذلك التاريخ الطويل، قبل القرن التاسع عشر، مشبعًا بالشريعة الإسلامية، التي تكيَّفت مع كل هذه المجتمعات الغاية في التنوع والتعدد، ولكنها امتلكت في داخلها دائمًا عنصرًا أخلاقيًا. هذه هي الشريعة الإسلامية. ولذا فأنا مهتم بالجدلية والعلاقة بين القانون والأخلاق كنموذج عضوي متكامل، لذا علينا أولاً أن نفهم هذا التاريخ، ولكن أيضًا أن نطرح أسئلة حول الحاضر. وعلى هذا الأساس، أرى أن أهم ما يميز الشريعة الإسلامية هي قدرتها على مزج مفهومَي القانون والأخلاق معًا في قالب واحد، وهذا هو السبب في أنني أقول دائمًا إنه لا يوجد فرق بين القانون والأخلاق والشريعة الإسلامية. وهذا هو بالضبط ما حاولت شرحه في كتاب الشريعة الذي صدر عام 2009.

س: توظيفًا لهذه الرؤية التي لا تفرق بين الحكم الفقهي والأخلاق في الشريعة الإسلامية، هل بإمكانكم التفصيل نسبيًا في مفهوم الجهاد، خاصة في ظل التشويه الموجَّه له اليوم، وكذا الطلاق، ومسألة القوامة. كيف يمكن تفسير هذه المفاهيم؟

د. حلاق: لقد تطرَّقتُ إلى ذلك بالفعل، وحاولت شرحه في كتاب “الشريعة: النظرية والممارسة والتحولات”. وقد سعيتُ دائمًا إلى الوقوف على المَنْطِقِ الداخلي لـ “العدالة”، وكيف حدَّد الفقهاء والناس أولويات الحياة في المجتمع الإسلامي. لذا عندما نتحدث عن الجهاد، لا يمكننا عزله عن نطاقه الأوسع- تمامًا كالتصوف- فيجب فهمه دائمًا في سياق التحديات التي فُرِضَت على المسلمين، وعلى أنه جزء من المنظومة التشريعية التي وُجِّهَت إلى المسلمين منذ بداية “اللحظة القرآنية”، من قبيل دعوتهم إلى بذل قصارى جهدهم ليكونوا أفضل البشر، عبر المسارعة إلى كسب الحسنات والانخراط في أعمال الخير التي تؤدي إلى ذلك. أما بالنسبة للطلاق فيجب أن نتساءل كيف ننظر إليه ضمن تركيبة العوائل. المشكلة هي أن الباحث المعاصر حينما يدرس هذه القضايا ينسى هذه التركيبة وكيف كان هيكل الأسرة قبل القرن التاسع عشر، وينظر الى قوانين الطلاق والجهاد بنظرة حداثية، وهنا يحدث الشَّرخ والافتراق بين مفاهيم الشريعة قبل وبعد. ففيما يتعلق بالطلاق، فإن الانفصال بين الرجل وزوجته كان عملية معقدة، ومكلفًا جدًا للرجال، لذا لم يكن الطلاق في الواقع هو الأكثر شيوعًا وتكرارًا من الناحية الأنثروبولوجية.

بالمناسبة، لا يعرف الكثيرون أن في حالة الطلاق لم يكن للزوجات المسلمات بموجب الشريعة الإسلامية الحق فقط في المهر والمُؤخَّر وما شابه، بل كان لهن الحق كذلك في المطالبة برسوم عن حق العمل طوال فترة الزواج، وكذا الرضاعة. وهذه الحقوق لم تُرَاعَ عند سنّ قوانين الأسرة خلال القرن الماضي. فقد اختفت كل هذه الحقوق في قوانين الدولة الحديثة. لذا لا يمكن فصل قضية الطلاق عن الشريعة، حيث توجد بيئة داخلية لديها نظام اجتماعي متكامل، به ضوابط وتوازنات تحافظ على استمراريته واستدامته. وكان المجتمع أكثر تعقيدًا من مجتمعنا اليوم من نواحٍ عديدة؛ لأنه كان يتضمَّن العائلة الكبيرة التي تشتمل على الكثير من الأفراد، وكانت النفقات تشملهم جميعًا، بدايةً من الآباء والأمهات والأبناء والأعمام، وحتى العبيد الذين يعملون لدى العائلة. لذا كان نظامًا معقدًا يحتاج إلى التنقيب وسبْر أغواره اقتصاديًا واجتماعيًا كي نفهم كيفية انتشار العدالة في المجتمع الإسلامي. لذلك لا يمكن أن نقول فقط – بالفهم الحداثي – ما دام الرجل لديه القدرة على الطلاق، فإن المرأة هي الضحية. فالأمر أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير. وبالطبع كان هناك دائمًا أعضاء أقوياء وآخرين ضعفاء في المجتمع، لكن النظام كان يعمل دائمًا من أجل ضبط هذه الأشياء. وبمجرد أن بدأت الدول الحديثة فيما نسميه الآن إصلاح القانون، اختفت كل هذه التوازنات الاجتماعية داخل القانون الحديث وعلومه.

من ناحية أخرى كان القضاة والمفتون وطلاب العلم منخرطين دومًا في المجتمع وقضاياه، ولم يكونوا أبداً معزولين عنه ولا عن أعرافه. ولكن قلبت الحداثة كل هذا رأسًا على عقب. وكان هذا أحد الاختلافات بين نظامنا القانوني الحديث ونظام الشريعة الإسلامية. لقد كان الأخير نظامًا مساواتيًا للغاية، كما أنه استند أساسًا على المجتمع ونشأ في ظلَّه، ولم يكن نتاج عملية أو سلطة أو مركز سياسي ما. ففي القرون الإسلامية الأولى، كان هؤلاء الفقهاء والمفتين تجارًا وحرفيين، لديهم متاجرهم الخاصة، وأعمالهم العادية، حتى إنَّ حلقات الدرس كان بعضها يتم في تلك المتاجر، بجانب المساجد والبيوت. فقد حرص هؤلاء على تكريس أوقات فراغهم للتعلُّم والتعليم، ودرسوا التفسير والحديث وما له صلة بالشريعة واستخلصوا قواعدها، فكانت الشريعة قريبة جدًا من العلماء الذين تشرَّبوها وفقهوا ما فيها، وعلَّموها لأولادهم ولغيرهم كذلك. واستمر الحال كذلك تقريبًا حتى القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي، حيث لم يكن قد ظهر القانون كَحِرفة، بل كان الوضع مرتبطًا بمجموعة مُمارِسات من المسلمين الذين توصلوا إلى ما اعتقدوا أنه متطلب مهم جدًا في حياتهم كمسلمين، وهو قانون أو مجموعة قوانين تعكس كيف يجب أن يعيشوا الحياة الإسلامية. وهذا هو السبب في تأكيدي على أن الشريعة في جوهرها إنتاج اجتماعي، وليست إنتاجًا سياسيًا، كما يدَّعي البعض. لاحقًا، ومع ظهور المدرسة، بدأت تتدخَّل الإدارة السياسية، ولكن تدخُّلاً محدودًا، ولم يكن الأمر يتعلق بالسيطرة أو المناورة، ولكن كانت النخبة السياسية تحاول التعامل مع وجود الشريعة، وكذا المجتمع الذي كان في الواقع الأكثر هيمنة، حيث لم يكن سهلاً مثلاً أن يأتي أي حاكم في الإسلام ويقول: “سأضع قانوني الخاص، وأُنحِّي الشريعة جانبًا”، ولم يجرؤ أحدهم حتى على التفكير في مثل ذلك. والسبب الرئيسي في ذلك هو أن الشريعة كانت جزءًا لا يتجزَّأ من النسيج الاجتماعي، ونشأت في صميم الهياكل الداخلية للمجتمع، ولم تكن – من ثمَّ – هناك طريقة لعزلها عن المجتمع الإسلامي. وحتى اليوم، تلاحظ أن الأسر المسلمة إجمالاً لا تعتمد، على سبيل المثال، على القانون الرسمي لأداء العبادات، فالمسلم العادي يصلي ويصوم ويفعل سائر العبادات بطريقة نعتبرها مألوفة، رغم أنها تأتي في الواقع من الشريعة. بل إن المسيحيين، في فلسطين، يمارسون بعض عناصر الشريعة كثقافة تقليدية خاصة بهم.

الشريعة قبل وبعد زمن الحداثة

س: في أحد كتبك، تحدَّثت عن الهند نموذجًا تحت الاستعمار البريطاني، وأشرت فيه إلى أن الفقه تحوَّل آنذاك إلى مجرد قوانين أحوال شخصية، وأيضًا جرى تعميمه كـ “Code” قانوني، ما كبح جمح القضاة والمفتين في اجتهاداتهم الفردية، وكبح حالة التحليل الهرمينوطيقي المرن السيَّال للفقه، ومنع تطبيق الفتاوى بملاحظة السياقات المختلفة ورعاية الأعراف التي تعيش في ظل هذه المجتمعات، ويُعزَى ما ارتبط بذلك من جمود إلى انتصار الحداثة بقواها البيروقراطية والإدارية والعسكرية، ما أدى إلى “مَسْخ” الفقه، وتواري الشريعة التي عاشها المسلمون سابقًا. فعلى أي كيفيَّة ماتت الشريعة، وفق تعبيرك؟ وما الإشكال في وضعها في شكل نصوص قانونية؟

د. حلاق: الشريعة في المقام الأول هي نظام اجتماعي تأويلي “Socio-Hermeneutical System”، بمعنى أن الله خلقنا، وخلق واقعنا، وخلق كل شيء بما في ذلك قوانين تشغيل الكون … إلخ. وبالتالي فإن كل ما نقوم به من المفترض أن يتوافق مع الحكمة الإلهية. وهذا المنطق يدفع بالتالي للقول بأن الشريعة أخلاقية في جوهرها؛ لأن الله حين خلق العالم، خلقه بالعدل. والله معنا، ويسمعنا ويعرف أدق تفاصيلنا الحياتية، ولكننا لا نستطيع الحديث معه مباشرةً وجهًا لوجه. وبالتالي فإن وظيفة الفقيه المسلم هي محاولة معرفة الحكمة والإرادة الإلهية في موقفٍ ما، وذلك بالنظر إلى مختلف الآيات والعلامات المحيطة في المجتمع وأعرافه، وكذا الكون، دون الوقوف فقط عند كلمات الله المكتوبة. ومن المعروف في حقول الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا وغيرها أنه عندما تلجأ قبيلة أو جماعة ما إلى كتابة أعرافها وتقاليدها المبثوثة في مجتمعها، فإنها تأخذ طابعًا من الصَّرامة والجمود. لذا ما حدث في الواقع الإسلامي، وفي الهند تحديدًا، ومن ورائها مختلف البلدان العربية والإسلامية، هو تقنين الشريعة في إطار وضعي، دون أن يقترن ذلك بعملياته التأويلية (الهرمينوطيقية) والتفسيرية التي تسبق دائمًا الفصل في القضايا وتسبق الحكم النهائي للقانون في النظام الاجتماعي. وبالتالي عندما كان القاضي يحكم في حالات معينة، كان يحكم في ضوء عملية طويلة معقدة تعلَّمها في حلقات الدرس، بشكل منسجم مع الشريعة. فالفقه لم يأتِ من إرادة قانونية كمنتج جاهز ونهائي، بل هو عملية تفسيرية وتأويلية اجتهادية تستند إلى القرآن والسنة. ولكنها تأخذ في الحسبان أيضًا الكثير من العناصر والمتغيرات قبل إصدار الحكم النهائي للناس. كل هذا تم تدميره في القرن التاسع عشر، حينما صاغت الدولة الحديثة الفقه مجردًا من منظومته الاجتهادية وجيونولوجيته (بيئته المجتمعيَّة الخاصة). لذا، نحن لدينا فقط مظهر الشريعة، ولكن ليس الطريقة التي تعمل بها من الداخل.  

 

س: قد يُدعَى خلافًا لنظريتك أن تحويل الفقه إلى مجرد قوانين وتضمينه في دساتير هو أمر قد حصل قبل ظهور الدولة الحديثة وزمن الحداثة، وذلك على غرار المدوَّنات الفقهية لمختلف المذاهب الإسلامية في القرون الإسلامية الأولى، مثل كتاب الرسالة العملية أو الأحكام الشرعية، مُجرَّدًا من العقائد والأخلاق والعرفان. فمن ذلك الوقت كان هناك نوع من العزل للفقه، وظهور نوع من التخصصات.

د. حلاق: أظنك تشير إلى “المختصرات”، مثل مختصر الخليل وغيره، والتي ظهرت بجلاء بعد القرن الخامس الهجري. ولكن ليس ذلك نفسه هو الإرادة القانونية للدولة، ولا يشبه إطلاقًا القانون في ظل الدولة الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين. إذ كان المقصود منها ببساطة أن تكون وسيلة للتدريس والتعليم. وكان الأستاذ يُسهِب في شرح وبيان كل سطر منها، بحيث يربطها بجسد القانون ككل، وبالمنهجيات الاجتهادية والتحليلية للفتوى. فالأمر مختلف تمامًا.

س: تحدَّثت عن مفردة الطلاق، وكيف لا بد أن تُفهَم في سياقها الكامل، حتى لا يُسَاء فهمها. وقد يُقال إن الذي يتابع بعض الكتب الفقهية لبعض المذاهب، يجد أن مسألة النكاح على سبيل المثال جرى عرضها بعيدًا عن الأخلاق والرؤية الاجتماعية والتربوية أو القرآنية، ولكن تقترب في عرضها لمسألة بيع أو شراء، وحقوق وواجبات في الحدّ الأدنى، أمَّا لو قرأت لنفس المؤلِّف كتابًا في الأخلاق فتجده يتحدث عن الرحمة وحسن الخلق والمعاملة وغير ذلك. فما تعليقكم؟

د. حلاق: حسنًا مرة أخرى، من أجل فهم الطريقة التي كانت تعمل بها الشريعة، والسياق الذي يتم تفعيلها فيه، نحتاج إلى فهم المنطق الداخلي للمنظومة بكاملها. فقد كان النظام يعمل بافتراضات واعتبارات معينة، التي كانت حاضرةً في أذهانهم طوال الوقت. ثم نأتي نحن في القرن الحادي والعشرين لنصدر أحكامًا على أشخاص عاشوا قبل ألف عام قائلين إنهم كانوا غير أخلاقيين، ونحن لا نفهم حتى طريقة عيشهم، ولا نفهم أننا بحاجة إلى بذل جهد خاص في كل مرة من أجل فهم قضية واحدة فقط، وحينما نفهم اعتباراتهم وطريقة فهمهم للعالم ولمجتمعهم ومشاكله، وكيفية حلها، سندرك أنهم كانوا على قدر كبير من العقلانية والأخلاق، تمامًا كما نطمح نحن أن نكون اليوم. وإذا أردنا إدانتهم، فلنُدِن أنفسنا نحن أيضًا. لأننا نحكم عليهم بعد ألف عام من موتهم، وهم لا يستطيعون الدفاع أو بيان رؤيتهم وأحكامهم. ولو كنا منصفين وأخلاقيين ومؤرخين حقًا، فينبغي أن نبذل كل جهد لفهمهم، وأن نكون منصفين معهم.

س: من الواضح أن كتب الفقه حتى المتأخرة منها، تسير على نفس المنوال التقليدي، وقد يقول البعض بأن ذلك المسار لا يراعي التطورات والتغيرات المصاحبة للزمان، حتى إن قضية مثل العبيد والإماء لا تزال تتكرَّر في هذه الكتب دون تغيير، رغم أن هاتين القضيتين لم تعودا موجودَتَيْن على نحو ما كان في الماضي، ما يحمِل البعض على الاتهام بأن هذه الكتب لا تراعي الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان وما إلى ذلك.

د. حلاق: لا أعتقد أنني أتفق مع هذا الزَعْم. فالقول بأن الفقه والشريعة الإسلامية لا تتفق مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية هو وهم كبير، ولا يمكن لأي باحث جاد أن يدَّعي ذلك. لقد كان هذا هو اعتقاد الاستشراق منذ حوالي مئة عام، لكن أعتقد أنَّ الأمر اختلف في آخر 20 أو 30 عامًا لدى الباحثين المنصفين. لقد كان الفقه الإسلامي يتغيَّر ويواكب مختلف التغيرات دومًا. ولكن وتيرة التغيير السريعة للحداثة هي أمرٌ آخر. فحتى خلال جيل واحد لا يكون باستطاعتنا مسايرة التطورات. والشريعة لم تكن حاضرة وفاعلة خلال المائتي سنة الأخيرة، كي يتم اختبارها ومعرفة مدى مواكبتها للواقع أم لا، لقد تم تحييدها منذ عام 1850 تقريبًا، ولاحقًا تم إزاحتها وإقصاؤها إلى حدٍ كبير، فلم تكن النظام القانوني الحيوي المُطبَّق للمجتمع في بلدٍ ما أو آخر. فنحن لم ندع لها مجالاً كي تجرِّب نفسها، فكان طبيعيًا أن تكون خارج نطاق العمل.

الدولة الإسلامية .. مستحيلة؟

س: قد وصلنا إلى نقطة مفصلية وعميقة بحديثك عن مجموعة من المفردات المهمة، كـ “ثيولوجيا التقدم” والمصطلحات ودلالاتها، وأعتقد أن المجال المناسب لمناقشة ذلك هو كتابك الدولة المستحيلة، فلماذا تعتقد أن الدولة الإسلامية مستحيلة في زمن الحداثة؟ أين يكمن موقف التناقض والتنافي بين قيم الإسلام ومعنوياته وأخلاقه وشريعته، وبُنية الدولة الحديثة المعاصرة الحداثوية، كأنك تقول إن النقيضان لا يجتمعان، وأن الدولة الحديثة صناعة أوروبية في الفكرة والمصطلح والجوهر، وقامت على التسلط على الناس، بينما الإسلام والشريعة أمر اختياري وحر وينبع من إرادة الإنسان الحرة. فلماذا هي مستحيلة؟ خاصة وأن الدولة في النهاية هي كيان به نظام للشرطة والقضاء والحكم ومجلس نواب، وتمتزج مع كل مجتمع بحسب خصائصه المختلفة، فلماذا أنت مُصِرّ على الاستحالة؟

د. حلاق: لأن الحكم الإسلامي كان يُطبَّق بمنطق وتوقعات مختلفة تمامًا، والحداثة قد ابتعدت عنها تمامًا. هناك طرق متعددة يمكنني من خلالها أن أشرح عدم وجود أرضية مشتركة بين المنظومتَيْن. بتعبير آخر، لا يمكن للحكم الإسلامي أن يظهر في الحداثة، ما دامت عناصر قوى الحداثة تمضي بقوتها وفاعليتها الحالية. فالشريعة هي البنية التحتية للدولة الإسلامية. ولن أقول حتى “دولة”؛ لأنها مصطلح حداثي. فالشريعة كانت الأساس للحُكم الإسلامي “Islamic Governance”. والشريعة بطبيعتها تدور حول الحياة الطيبة للإنسان، وهذه الحياة الطيبة هي محور المنظومة. الفكرة هي تربية الفرد والبلوغ به أعلى درجات الأخلاق. بالطبع، لا يعني هذا أن كل الأفراد سيكونون متمتعين بالأخلاق الحسنة، ولا يعني أن المجتمع سيخلو من القتلة واللصوص والمجرمين، ولكن الفكرة هي السعي لتربية المجتمع بأفضل الطرق الأخلاقية. هذا ليس هدف الدولة الحديثة. فالدولة الحديثة مهووسة بالسياسة “Politics” والسياسي “Political”. السياسة كأداة للقوة والتحكم والسيطرة، والسياسي كمُسمَّى للحقبة الحداثية. فالطريقة التي نتعامل فيها مع ما هو سياسي، لا يتعلق فقط بدولة أو بنظام حُكم يدير الأفراد، بل هو عن التحكم والهيمنة على كل شيء. أنا أربط السياسي بـ “التعفُّن الطبيعي”، الذي ارتبط بتدمير الطبيعة والبيئة على مدى الخمسين عامًا الأخيرة. وهذه نتيجة مباشرة لما هو سياسي. فالدولة ليست مهتمة برعاية أي معيار أخلاقي باتجاه الإنسان؛ أيْ تنشئة أفراد يتحلَّوْن بأكبر قدر ممكن من الأخلاق، أو بالحفاظ على البيئة والطبيعة، المحيطات والماء ملوثة، وكل الطعام الآن ملوث، انتشار المشاكل العقلية والصحية، وانقراض السُلالات. كل ذلك نتيجة النهج الحداثي. فالمسألة مرتبطة بالطريقة التي اندمجنا فيها سياسيًا واجتماعيًا، وهذا كله مُسَيطَر عليه من قِبَل الدول الحديثة. فلا أحد بإمكانه القيام بشيء بعيدًا عن سلطتها أو دكتاتوريتها أو إملاءاتها.   

 إذا نظرت للحضارة الهندية والصينية الأقدم من الحضارة الإسلامية، نجد أنه لم يُقدِّم أحد فيها مفهوم الحُكم والسياسة بشكلٍ قد دمَّر كل الأمور من حوله، بما في ذلك أجسادنا. هذه الحالة تدق ناقوس الخطر بقوة، وكل إنسان مسؤول ومعنِي بالأجيال الجديدة.. كيف يمكن أن ننظر للأطفال الصغار؟ وأيّ عالَم سنتركه لهم إذا كنا مسؤولين عن ذلك الدمار؟ علينا أن نفكر بجدية حول تلك الآثار الطبيعية والصحية للسياسة. هذا ليس فقط عن المصانع والشركات التي تطلق المواد الضارة والسامة، بل هو عن عقول الناس الذين يحكمون. وهذه هي الدولة في الحقيقة. والشريعة كما أفهمها وخلال الفترة ما بين القرنين الثاني والثاني عشر الهجري (السابع والسابع عشر الميلادي)، حينما كانت هي الحاكمة والسائدة في المجتمعات الإسلامية لم تكن لتقبل بهذا الواقع الذي نعيشه أبدًا.

نقد جذور الحداثة

س: قد يثير البعض، على النقيض من سلبيات الحداثة المذكورة، أن الحداثة لها مزايا متعددة من بينها تركيزها على قضايا حقوق الإنسان والضمان الاجتماعي والتقدم الذي نراه، لماذا الكثير من العرب يركضون للالتحاق بالمراكز العلمية الغربية المرموقة، ويجدون هناك حفاوةً ومتسعًا لحياة كريمة، ووسائل التواصل كلها قرَّبت المسافات وعززت التواصل فيما بين البشر جميعًا، ولولا ذلك لما كنا لنتواصل سويًا اليوم بهذه السهولة؟ كما أنه رغم السلبيات التي عدَّدتها للحداثة، والتي تجئ على حساب البيئة والتلوث وخلافه وغياب النزعة الروحية والأخلاقية، إلا أن هناك عائلات مسلمة في الغرب تستطيع التوازن بين هذه الأشياء، وتسعى للحفاظ قدر الإمكان على دينها وحياتها؟ فكيف تقيِّمون هذه الإيجابيات؟ وهل من الإنصاف التنكُّر لذلك؟

د. حلاق: لقد أجبتَ بنفسك على هذه التساؤلات. السؤال هنا: ما هو ثمن هذه الإنجازات والإيجابيات ونقاط القوة للحداثة؟ نعم الحداثة أعطتنا شيئًا لم تعطنا إياه أي مرحلة سابقة في تاريخ البشرية. نحن ننعم بالراحة المادية بشكل لم يحظَ به أي مجتمع في التاريخ. اليوم حتى الفقراء لديهم بعض الأمور التي لم تحلم بها بعض الطبقات المتوسطة في المجتمعات السابقة. هذا أمر حاصل بالتأكيد. نعم هناك إنجازات وفوائد في النظام الأكاديمي والتكنولوجي وما شابه. هذا ما يعرفه كل أحد. ولكن ما الثمن الذي ندفعه للحصول على هذه الأمور؟ حينما تكبر قليلاً، تبدأ تجربة ذلك بنفسك. النظام الطبي مثلا في الدول الغربية، لا توجد حضارة أخرى في العالم وصلت إلى هذا المستوى من التعقيد والتقدم في العلاج، كما نحن عليه اليوم، لكن لو فكرت في سياق القرنين الأخيرين، وما حصل بعد الثورة الصناعية، ستدرك أن هذا التقدم الطبي هو عنصر ضروري مرتبط بمختلف إنجازات الحضارة الغربية الأخرى. لا أحتاج للتذكير بتاريخ اللقاحات والموضوع الذي أخذ اهتمامًا كبيرًا على مدى العامين الأخيرين. ولكن ستجد أن اللقاحات وغيرها اختُرِعَت وصارت متاحة حينما أقدمت أوروبا على مشروع استعماري ضخم، في نهاية القرن التاسع عشر بالأساس. النظام الطبي موجود كي يحافظ على الحلول المؤقتة للمشاكل التي أوجدتها الرأسمالية. كلما تطورت المؤسسة وتضخَّمت، زادت المشاكل الصحية. السرطان، تحتاج لكتاب كامل لذكر أنواع السرطان المختلفة. أمراض الجسد كثيرة لدرجة أنه صار لدينا العديد والعديد من التخصصات. هذه ليست فقط تعقيدات وتقدم حضارة معينة، بل هذا أمر ضروري للحفاظ على الإنتاج الرأسمالي. كثيرٌ من الناس مرتاحون، وهذه مشكلة الشعوب اليوم. الناس ينظرون إلى الإيجابيات، فتقول، حتى لو مرضنا، فإن النظام الطبي سيعالجنا. ولكن كيف ستتم رعايتنا – على هذا النحو – بالوقاية بدلاً من العلاج؟ كيف نحصل على أجساد وعقول سليمة؟ كيف تُداوِي العقل؟ البدن يمكن مداواته، ولكن معدل الأمراض العقلية في تزايد كبير. معدل الانتحار، الانتحار سيصبح مرضًا عالميًا بين الشباب، وهو أمرٌ مُحزن جدًا. كيف سنعالج المشاكل البيئية؟ نعم لدينا بعض الإنجازات، ولكن حتى حقوق الإنسان وغيرها، هي أجوبة وعلاجات للمشاكل التي أوجدتها الحداثة. أعترف أن هناك مشاكل مشتركة على امتداد التاريخ، ولا أقول إن الحداثة أوجدت كل المشاكل. ولكن التاريخ الإنساني، وإلى ما قبل مئة عام، لم يشهد تدميرًا للبيئة بهذا المستوى الهائل، لم يُدمِّر المجتمع والعائلة، لم يدمِّر الحالة العقلية والجسدية للإنسان، لم يدمِّر السلالات، نحن نفقد مئات السلالات يوميًا. إذا لم يكن هذا خطرًا، فلا أعرف ما هو الخطر. كيف يفخر الناس بما نحققه اليوم، حينما تقول لنا الإحصاءات أننا نعيش في وضع مأساوي.

الدولة الإسلامية في القرون الأولى

س: ما تقوله إن ثمن التقدم أعلى بكثير من ذلك التقدم. ولكن هل الدولة الإسلامية [المثالية] قبل زمن الحداثة كانت موجودة؟ أنت لديك بعض الكتابات التي تثني فيها على حقوق الأقليات في الدولة الأموية، ولكن قد يسأل أحدهم: لو نلاحظ الدول الإسلامية خصوصًا في القرون الإسلامية الأولى كالدولة الأموية والعباسية وغيرها، هي دول وراثية استبدادية، هناك ظاهرة علماء البلاط واستغلال وتوظيف القيم الدينية لصالح فئة السلطة التي كانت مترفة ومستغرقة في الخمور والقصور، وشكَّلوا نوعًا من الطبقية بينهم وبين بقية أطياف المجتمع، حتى تأتي الخلافات التي تحصل بين العلماء أنفسهم مثل خلق القرآن، وكذا بين الطوائف والأقليات مثل الشيعة الإثنى عشرية والإباضية وغيرها، والتي كانت مضطهدة، بينما كان لأهل الكتاب وغيرهم بعض الحقوق. وهذه القضايا المثيرة قد تدفع البعض إلى القول بأنه لا يريد أن يعود إلى الماضي، بإرثه ذلك؟ فكيف تنظر أنت إليها بوجه مُشْرِق هكذا؟

د. حلاق: كل ما ذكرتَه صحيح، أنا لا أنكره. ولكن في أي سياق ننظر إلى الأمور؟ هل هناك أي سياق سياسي لا تتحقق فيه هذه الأمور؟ إذا نظرت إلى التاريخ الأوروبي، فإنه كان أكثر دموية من التاريخ الإسلامي. كانت أوروبا في حروب كبرى متتالية، الإعدامات والخيانات كانت سائدة، إذا نظرت للتاريخ المعاصر، إذا تحدثنا عن القرن العشرين فقط. فلقد كان أكثر تدميرًا ومأساوية من كل القرون السابقة باتفاق كل المؤرخين. إذا نظرت إلى الإعدامات والاغتيالات التي ذكرتها للتو، كيف تقارنها بما حصل في الثورة الفرنسية أو الثورة الروسية البلشفية. كل التاريخ بداية من لينين وصولاً إلى تروتسكي وستالين وآخرين، كان دمويًا للغاية. كانوا يعدمون ويقتلون كل شيء يتحرك لمدة 20 سنة بعد الثورة. الأمر ذاته حصل في الثورة الفرنسية وثورة الاستقلال الأمريكية. فكل سياق سياسي لجميع الأمم، يتطلَّب دماءً بالبديهة. هذا ما ينبغي أن نتحدَّث عنه. سؤالك يقول إن التاريخ الإسلامي سلطوي وظالم وإجرامي. ولكن هذه هي القصة القديمة التي اخترعها الاستشراق من أجل شرعنة المشروع الاستعماري الذي قامت به الدول الغربية في المئة وخمسين سنة الماضية، منذ منتصف القرن التاسع عشر. وهذا الطرح لا يزال مستمرًا حاليًا إلى حد ما. أنا أرفض مفهوم القوة المطلقة الاستشراقي تمامًا. إذا تحدَّثنا عن بعض الحكام المسلمين المتغطرسين والمستبدين، فبالطبع أوافقك الرأي، فهناك دائمًا احتمال فساد وتجاوُز هذه السلطة أو تلك لحدودها. رأينا ذلك في الديمقراطيات الليبرالية دومًا. لاحظ ما تفعله أجهزة الاستخبارات السياسية من قبيل الاغتيالات وإسقاط الحكومات الأجنبية، وما إلى ذلك. كل ذلك يبين أن الديكتاتوريات قائمة في صلب الديمقراطيات الغربية، التي تعاني بالفعل أزمات دستورية حقيقية. أنا لا أعتقد أن القانون والفقه والنظام الدستوري في الإسلام، وأنا أبحث فيه منذ 50 عامًا تقريبًا، كان بنفس الطريقة التي يتصوَّرها المسلمون اليوم، وأقول ذلك للعالم الإسلامي، ومتحديًا أي شخص لمناقشتي. إذا قرأت التاريخ الإسلامي، فستُذعِن بأن الفهم المشهور والعام للتاريخ السياسي الإسلامي من قِبَل المسلمين المعاصرين، لا يساوي فِلسًا بالنسبة لي. إنهم لا يعرفون ذلك التاريخ جيدًا، بل يأخذونه كأطفال من أوروبا وتلامذة للاستشراق، بما يجعلهم مقلدين مع الإحساس بالحقارة والدُّونيَّة. بل الأبحاث الغربية المعاصرة، والتي تشمل بعض الباحثين المسلمين المبتدئين توصَّلوا إلى نتائج مغايرة تمامًا. وهؤلاء يجب أن نثق بهم أكثر لأنهم يُتعِبون أنفسهم بقراءة المصادر التاريخية، ويُشكِّلون آراءهم وتحليلاتهم بناءً على ما يقرؤون من تلك الحقب. المسلمون المعاصرون اليوم على وسائل التواصل الاجتماعي لا يعرفون شيئًا البتَّة حول هذا. نحن في بداية طريق اكتشاف ذلك، ونعرف شيئًا قليلاً عنه، وما نراه اليوم هو رواية تختلف تمامًا عن الرواية التي تبنَّاها الاستشراق. يجب أن يقوم المسلمون بذلك اليوم باستقلال وموضوعية وبعيدًا عن التأثير الكبير للاستشراق عليهم. يجب عليهم التخلص تمامًا من ذلك.

إننا لو نظرنا إلى الحُكم الإسلامي فقط إلى نهاية القرن الثامن عشر، فنجد أنه كان محلاً للفخر بسبب دور القانون. وهذه صورة مخالفة للنظرة السائدة لدى الناس؛ لأنهم تشرَّبوا طويلاً المزاعم الاستشراقية. بالإضافة إلى أنه لا يوجد ما يدعم الرؤية الاستشراقية للقوة المطلقة والتي تدَّعي أن كل الأبعاد السياسية للتاريخ الإسلامي كانت مستبدَّة ومتعجرفة وظالمة. فهذه نظرة لا بد وأن تُمحَى.

الإسلام السياسي

س: يثير بعض الباحثين، في سياق الدولة الإسلامية المستحيلة في زمن الحداثة، القضية المعروفة والظاهرة المنتشرة المتمثلة في “الإسلام السياسي”، سواء الشيعي أو السني. وقد ذكرتَ “الثورة الإيرانية” وتداعياتها الفكرية والسياسية، فكيف تحلل وتقيم النموذج الإيراني الذي حاولت إيران تقديمه نظريًا وتطبيقيًا؟ هل ترى أن هذا النموذج يحاول اختراق أطر الحداثة وتقديم نموذج مستقل نوعًا ما للإسلام؟ أم أنه دخل في الرحم المستحيل للحداثة وتورَّط فيه؟ وهل تنظر إلى تجربة الإسلام السياسي الإيراني بشكل مختلف عن الإسلام السياسي الإسلامي بشكل عام؟

د. حلاق: باختصار، أعتقد أن التجربة الإيرانية هي ليست إلا تجربة إسلامية حداثوية مع الدولة الحديثة. وهذا يجعل الأمور أكثر تعقيدًا من مجرد كونك دولة غربية حديثة تخضع للتطور منذ 400 سنة على الأقل. فإيران تريد أن يكون لديها حُكم إسلامي في ظل الدولة الحديثة. وكتابي “الدولة المستحيلة” قد يكون أنسب كتاب لتحليل التجربة أو المحاولة الإيرانية. إذ من المُحال أن تدَّعي تطبيق الحُكم الإسلامي مع الدولة الحديثة في نفس الوقت. تصوَّر أن الخميني نفسه قبل وفاته، أشار إلى أمر سياسي مهم جدًا، قائلاً لو احتاجت الدولة أن تلغي أحد أركان الإسلام (كالحج) فلا بأس. وبتعبير آخر، فإن الدولة مُقدَّمة على الدين. فما الفرق إذَنْ بين تصوره لدولته والدولة الحديثة. فالأخيرة تقلِّل من شأن الدين وتحصره في الأمر الشخصي للأفراد، ولذلك فإن مفهوم العلمانية، وعلى الأقل في الغرب، حلَّت الدولة الحديثة موضوع الدين راديكاليًا. وأعطت الدين شأنًا هامشيًا، وجعلته في النطاق الشخصي فقط. وأما الشأن العام فهو محكوم للدولة كنظام علماني. ما يحصل في إيران معقَّد جدًا، لأنك تحاول أن تجعل المربع مثلثًا، أو العكس. والواقع أنه لا يمكنك أن تضع الدين كأولوية أولى وأساسية في نظام الدولة الحديثة؛ لأن الدولة الحديثة نفسها قامت من أجل عزل الدين وإعطائه دورًا هامشيًا، بل أقل من ذلك بكثير. وبالتالي، فالمحاولة الإيرانية “محاولة مستحيلة”.

س: إذَن ما هو البديل عن الدولة الحديثة بكل إشكالياتها؟ هل أنت مع ما يقوله البعض من أن البديل يكون عبر وضع أولوية للقيم والأخلاق ومراعاة دور الأسرة وحقوق الإنسان والأقليات، وإيجاد نوع من التناغم بين الفرد والمجتمع، ضمن أُطُر الدولة الحديثة؟ أم أن لديك بديلاً آخر؟

د. حلاق: إذا أراد الطبيب أنْ يُداوِي مرضًا، فلابد أنْ يُشخِّصه أولاً. وبالتالي إذا لم تفهم ما هي المشكلة، فمن المحال أن تجد حلاً. في اعتقادي، أننا لم نفهم إلى الآن كيف تعمل الأمور، وإلى أي مسار من المشكلات تقودنا إليه الحداثة، سواء في الغرب أو العالم الإسلامي. ومن ثمَّ، نحتاج إلى إيجاد فهم جديد للحداثة والعصر الذي نعيش فيه، وننظر إليه نظرة ناقدة أكثر، بما في ذلك ربط الأمور ببعضها بشكل صحيح. التعليم الذي تلقَّيناه إلى الآن يصوِّر أن كل شيء نتعلمه منفصل ومنعزل عن بعضه البعض. نحن ندرس كيف تُدمَّر المحيطات، والعِلَل التي تدمِّر جوانب من كوكبنا، او الأمراض وما شاكل. ولكن لا تربط المادي باللامادي، ولا نفكر مثلاً أن المشكلة المرتبطة بتدمير المحيطات لا ترتبط فقط بالطرق التي تتصرَّف بها الشركات والمصانع والزراعة. ولعلَّ ينبغي أن نبدأ بالتفكير حتى حول الطريقة التي نفكر بها نحن، أي نوع من الكائنات نحن؟ كيف نفكر حقيقة؟ ليس حول المنطق والرياضيات، بل كيف نتصوَّر العالم الذي نعيشه؟ وكيف ينظر الإنسان العادي في عصر الحداثة، معرفيًا (إبستمولوجيًا)، إلى الطبيعة؟ وأنا لا أفصل المعرفي هنا عن الوجودي، فالاثنان مرتبطان تمامًا، في جميع المجالات، الأخلاقي واللاأخلاقي، الروحي واللاروحي، والمادي واللامادي. كل هذه الأمور ينبغي أن نلحظها في هذا السؤال لكي نعرف مَن نحن. قد نعرف أمورًا عن كل شيء، لكننا لا نعرف أنفسنا. ومثالاً على ذلك، أنه إذا شهد زوجان ما مشكلة، ووصلت إلى مرحلة الطلاق، فإنْ لم يعرف كل شخص ماهيته جيدًا وكيف يفكر بنفسه والآخرين، فلن يكون هناك حل، والطلاق سيحصل، والعائلة ستتشتت. ولكن لو فهم كل إنسان مَن هو، وأدرك نقائصه، وأنه ينبغي أن يعمل على نفسه أولاً، قبل أن يطلب من الآخرين ذلك، هنا قد تكون هناك فرصة للالتئام والتغلب على المشكلة. هذه هي الطريقة التي تعمل بها الحداثة، بحيث ننظر إلى كل شيء حولنا، دون النظر إلى أنفسنا. ويسألني الطلاب: ما الحل؟ هل في ترك شراء العلب البلاستيكية والأكل المُعلَّب؟ هذا ما يتصوَّرون أنه يحل مشاكل الحداثة، إذا أكلت طعامًا صحيًا فستحل المشكلات الصحية التي لديك… وهكذا. ولكن لا يدركون أن الحل في أن نفهم حقًا مَن نحن اليوم ومدى تحقق وَعْينا الذاتي بأنفسنا. كيف نفكِّر كَبَشَر؟ كيف نفكِّر بالعالم الذي حولنا؟ كي نفهم حقًا لمَ نقوم بتدميره. البعض يتصوَّر أن المشكلات تكمن في الحكومات والمؤسسات، ولكن ليس فينا نحن. والواقع أن معظم رؤساء الشركات الذين درسوا في جامعات كالتي يدرس فيها هؤلاء الطلاب الآن، لم يُوضَعُوا في موضع يَعُون فيه مَن هم؟ لأنهم إذا أدركوا ذاتَهم، فلن يقوموا الآن بما يقومون به من دمار وتخريب. إذا لاحظت الدمار من حولنا، فإنه مخجِلٌ جدًا. ومقتضى البداهة الأخلاقية أنه ينبغي للإنسان أن ينظر للمرآة كي يفهم طريقة نظرته للعالم.

بين الدراسة التراثية والمنهجيات الغربية

س: قد يكون من المهم هنا الاستفسار عن المنهجية الأكاديمية “Methodology” التي استعنت بها في أبحاثك على مدى نحو 50 عامًا، فأنت قد خالطت الغربيين ومؤسساتهم البحثية، وتعلَّمت كثيرًا من طرائقهم ومناهجهم البحثية أو الفكرية، فهل تتحسَّر مثلاً على عدم التحاقك بمؤسسات شرقية مُعتبَرة كالأزهر أو القيروان أو الزيتونة أو النجف أو قُمّ، والمعروفة بأساليبها التعليمية التقليدية لكتب التراث، في إطار أجواء أخلاقية ومجتمعية معيَّنة؟ فهل ترى أنك حُرِمت هذه الفرصة، باعتبارها كانت ستزوِّدك بنظارة أخرى للنظر إلى الأمور؟ السؤال الثاني: هل جزء كبير من أفكارك وإبداعك ناشئ من هذه المنهجية الغربية، خصوصًا في كتاب الشريعة، حيث قلت أن الفقهاء يُدرِّسون الشريعة كأمر مُعاش، ويقومون بإصدار الفتاوى للناس كي يطبّقوها، أمَّا أنت فتحاول النظر من أعلى وتحاول الوقوف على بعض النقاط وتعمل على صياغة منظومة متكاملة، فهل هذه النظرة كانت نِتاجًا لتعلُّمك المناهج الغربية؟

د. حلاق: بالطبع، قادتني دراستي إلى ما أنا عليه اليوم، ولكنها قد لا تكون على نحوٍ واحد فقط. ونعم، إنني أتحسَّر على أنني لم أحصل على فرصة كي أدرس في أماكن مثل الأزهر أو النجف أو قُمّ. كان ذلك ليكون مفيدًا ونعمة كبيرة. ولكنني حاولت منذ بداية مسيرتي العلمية أن أفهم تلك المواد العلمية قدر الإمكان، بدون أن أكون هناك. ومن ثمَّ، لم تكن دراستي مقتصرة على النصوص الغربية. وقد أدركت بالطبع أن هناك بعض القضايا التي لا أستطيع فهمها بدقة حيث بدأت بدراسة أصول الفقه، وأدركت أيضًا أني لم أتعلم المنطق، فخصَّصت خمس سنوات من حياتي لدراسته، ترجمت خلالها كتابًا لابن تيمية، مقاربًا إياه لأهم الكتب الفلسفية التي كانت بحوزتي، سواء لابن سينا أو السهروردي أو أرسطو، محاولاً فهم علم أصول الفقه كبقية الأصوليين. حينما كتب الآمدي كتاب “الإحكام في أصول الأحكام” كان ضليعًا في المنطق. وفعلت الشيء نفسه في علم الكلام واللغة والمنطق والتصوف والأدب، بحيث كنت أركِّز على أعمال هامَّة تعطيني بناءً عميقًا في دراسة الشريعة. ولستُ الوحيد الذي يفعل هكذا.

أمَّا عن المنهجيات الأكاديمية الغربية، فقد أعطتني بالطبع زاوية نقد معينة، باعتبارها معروفة بنظارتها النقدية، ودراسة تاريخية لكل شيء. فاستفدت من ذلك كثيرًا، ووجدت نفسي أقرأ كثيرًا حول المدارس المركزية، كمدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية أو عدة أصوات فلسفية أمريكية وكندية. بالطبع أعمالي نِتاج لكثير من الأمور من الشرق والغرب.

 

س: ماذا عن المعرفة الصوفية والروحانية؟ البعض يعتقد أن كل مفكر وكل عالم له رابطة خاصة مع الله حتى يحصل له نوع من النقاء والصفاء الذي ينوِّر له ذهنه ويجعل عقله مهيئًا أكثر للإلهامات واللطائف، فهل تؤمن بهذا النوع من المعرفة والتأمُّل أيضًا، وهل كان جُزءًا لديك من أدواتك المعرفية في مشروعك البحثي؟

د. حلاق: أعتقد أن التصوف أو العرفان ككل، كما كان فاعلاً وحاضِرًا في الحضارة الإسلامية بين القرنين التاسع والثالث عشر الميلاديين (الرابع والثامن الهجريين)، لم يكن شأنًا روحيًا فقط. نعم هو روحي من الناحية الباطنية بلا جدال، وهو متداخل – كما أشرتُ سلفًا – مع الشريعة، وليس مُتعارِضًا معها. التصوُّف ضَمِنَ العلاقة بين الإنسان والشأن الأخلاقي المتعالي. وأنا بالطبع غير مُنكِر لأهمية البُعد الروحي للتصوف، لأن كل إنسان يحتاجها. فضلاً عن ذلك، فالتصوُّف والعرفان منهجية بحث كذلك، بالنسبة لي. وحينما أتحدث عن مشكلات الحداثة، وأشير إلى أنه لا بد من فهم العلاقة والترابط بين الأشياء كلها، باعتبارها متصلة ببعضها البعض حقيقةً، فهذه فكرة أساسية في التصوّف، مُبيَّنة بأروع طريقة من قِبَل ابن عربي. ابن عربي كفيلسوف وعرفاني ومفكِّر، يقدِّم لنا منهجية بحث نحتاجها بشدة في الوقت الراهن؛ أيْ ما يسمِّيه البعض “ما بعد الحداثة”. ولا أتصور أبدًا – بالمناسبة – أننا في زمن ما بعد الحداثة، بل نحن لا نزال في نهايات زمن الحداثة. مفهوم ابن عربي حول فكرة “وحدة الوجود” يمكن أن يُترجَم إلى منهجية أكاديمية للبحث. وهذا ما نحتاجه الآن بشدة. إنها تفرض علينا أن نفكر في العلاقات البينية بين الإنسان والطبيعة من طرف، وبين كليهما والمستوى الأعلى (الكوني – الكوزمولوجي) من طرف آخر. إحدى مشكلات الحداثة أنها ضيَّعت وجهتها الكونية. الرؤية الكونية العلمية لا يمكن أن تسمَّى رؤية كونية أصلاً، إذ لن ننصف كلمة “الكوني”. والحداثة لا رؤية كونية لها، بهذا المعنى. أمَّا آلية التصوف والعرفان كمنهجية أكاديمية للاتصال والارتباط، تدفعنا للبحث عن مكانتنا في العالم. ليس فقط كيف ترتبط الأشياء ببعضها البعض فيما يتعلق بتدمير الطبيعة مثلاً، وكيف تؤثر البيئة على عقولنا. نحن لا نعرف، بل نفترض أن الأشياء منعزلة عن بعضها البعض، وكثير من المشاكل بعيدة عنا شخصيًا. والعالم كله ليس فيزيائيًا فقط، بل يضجُّ بالحياة، ولذلك فمملكة الحيوانات كلها ينبغي أن يُنظَر لها مع الإنسان كجسد واحد متصل، فإذا آذيت أحدهما سيشعر الآخر بأثر ذلك أيضًا.

س: لاحظتُ انفتاحك في مؤلفاتك على مختلف المذاهب الإسلامية، السنية والشيعية والإباضية وغيرها، فهل هذا مرتبط لديك بالرؤية العرفانية الكلية كذلك؟

د. حلاق: بالطبع، ما لم أناقش موضوعًا تفصيليًا متعلق بحجية هذا الحديث لدى مذهب معين، حيث سأكون حينها مضطرًا لأقتصر على الحديث السُّنِّي مثلاً. ولكن حينما أبحث خارج هذا السياق، فأنا منفتح بأكبر وأوسع قدر ممكن. كما أقول، هذه كلها جزء من التراث، وكل جزء منه يكمِّل الآخر.

 

رينيه جينو

س: وجدتُ في بعض كتبك إشادة ومدح بالمفكر الفرنسي عبد الواحد يحيى (رينيه جينو). فهل كان ذلك بسبب ما وجدته لديه من نقد شديد للحداثة، وحرصه في النهاية على الاستعانة بالرؤية الصوفية والعرفانية كذلك، أم أن لديك مقاربة أخرى ساهمت في ثنائك عليه.

د. حلاق: هناك سببان خلف دراستي لجينو، وإدراجي إيَّاه في كتابي “قصور الاستشراق”. الأول أنه مفكر عميق، فَهِمَ الحداثة أكثر من أغلب أساتذة الأكاديميا والفلسفة، ولذلك كانت بعض جوانب نظريته مهمة جدًا بالنسبة لي، كفكرة “المبادئ العليا” وخلودها، وأهمية الخلود. السبب الثاني هو الاعتقاد السائد بأن إدوارد سعيد هو الناقد الأول والأهم للاستشراق. وهذا ليس صحيح بالنسبة لي. وكلما فكرت بالموضوع، يقوى اعتقادي بأن سعيد تسبَّب بتأخرنا في نقد الاستشراق. لقد أعطى حلاً نقديًا لمشكلة الاستشراق، جعلت الناس أسارى لطريقته النقدية لمدة 40 عامًا، واستمروا بفعل ذلك. ولكن هذه الطريقة سطحية للغاية.

س: أنت تعتقد أن سعيد اكتفى بنقد البعد السياسي للاستشراق، ولكنه لم يتطرق للأبعاد الأخرى المرتبطة بالبنى الأعمق لهذه المسألة؟

د. حلاق: نعم، وكلما فكرت بالأمر، أشعر أنني أعطيته قيمة أكثر مما ينبغي، لسبب بسيط، وهو أن الكتاب صدر في أولى سنوات دراستي الجامعية في واشنطن، ولذا أثر الكتاب عليَّ في البدايات، بمعنى النظر إلى الأمور وفهم الاستشراق. ولكن تدريجيًا، وخصوصًا بعد عتبة عام 2000، لاحظتُ أن الكتاب لا يحتوي على عمق واسع. في المقابل، وجدت أن جينو كتب عدة كتب في عشرينيات القرن الماضي، أكثر غنىً وعُمقًا من كتاب “الاستشراق” لسعيد. ولكن لم يلتفت إليه أحد حينها. بل كان هناك مصري ماركسي “أنور عبد الملك” قد كتب أيضًا مقالة طويلة بعنوان “الاستشراق في أزمة”، كانت أعمق من كتاب سعيد، لكن تم إغفالها بسبب أسلوب كتابتها المعقد. لكن جينو الذي سبقهما قد أنجز بالفعل نقدًا أفضل للاستشراق، يفوق ما كُتِب بعد ثلاثينيات القرن الماضي، ولكن تم إقصاؤه – بل إعدامه فكريًا – لكونه “راديكاليًا وشديد اللهجة” في فكره. لذا، لا بد من إعادة إحياء جينو والاهتمام به، في هذا الوقت أكثر من أي وقتٍ آخر.

فضلاً عن ذلك كان جينو مُنبهِرًا بالعرفان، وكان يحمل رؤية عن الوجود والتجربة الإنسانية تتطلب أن يكون للإنسان مبادئ ثابتة لا تتغيَّر أبدًا. إذ لا يمكننا تغيير العالم كما نحب وفق قرارات تتغير كل عدة سنوات. نحن لسنا آلهة. كان يقول أن الدين المتعالي، والذي فهمه بشكل مجرَّد أكثر من الأفهام المتعارَفة للدين، يتطلَّب مجموعة من المبادئ العليا التي نعيش بها. وكان مفهومه عن الأخلاق أعمق بكثير عن فهم الفكر الأوروبي السائد في زمانه أو في القرون الأربعة الأخيرة.

الإنسان والأخلاق عند طه عبد الرحمن

س: لاحظتُ كذلك إعجابك الشديد بالإمام الغزالي، وخصوصًا كتابه “إحياء علوم الدين”، لاسيَّما الجزء المرتبط بالأخلاق والعرفان والتصوف كذلك، وكيف هو يدمج الفقه والأخلاق والظاهر والباطن والشريعة والحقيقة معًا، في حلَّة رائعة. ولكن السؤال الآن: لماذا لجأت في كتابك الأخير “إصلاح الحداثة” إلى تناول فكر أحد المعاصرين، وهو د. طه عبد الرحمن، على الرغم من أن قلبك يخفق علميًا نحو شخصيات تراثية كبيرة، فلماذا لم تختَر مثلاً ابن العربي، أو الرومي، أو الغزالي، أو العطَّار، أو الهروي صاحب منازل السائرين. فعبد الرحمن استقى كذلك من روحهم لنقد الحداثة. فما هي التقاطعات والتشابهات بينك وبين د. طه عبد الرحمن؟ والأسباب الخاصة لاختياره تحديدًا؟

د. حلاق: كنت أستطيع أن أتبع أسلوب المقاربة التاريخية لنقد الحداثة كما فعل عبد الرحمن. ولكن أردت أنْ أرتقي بالنقاش إلى مرحلة تتجاوزه. يُعَد عبد الرحمن جسرًا معرفيًا، وفيلسوفًا مُبدِعًا، أنجز أعمالاً هائلة، واستطاع أن يُسيِّل المعرفة الإسلامية بطريقة تمكِّننا أن نُحاوِر بها الحداثة. إذ من السهل أن تُقارِب مشكلات الحداثة من خلال صوت معاصر متكئ على التراث الإسلامي، بدلاً من أن تأتي بالغزالي وتجعله في حوار مع الحداثة، حيث سيكون المشروع حال ذلك محدودًا. عبد الرحمن أنجز بالفعل هذا العمل، ولكي أتجنَّب تقليده، أردت أن أنخرط معه اولاً كي يتضح الاختلاف بين أفكارنا، وأطرح الأسئلة الصعبة. لأنه لا يزال يعتقد أنه يمكن جعل الحداثة أخلاقية، وانا لا أتصوَّر أن فهمي للحداثة مُطابِق له. وهو لا يزال في سياق بعض المقاربات التي وُجِدَت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والتي لا بد أن يتخلَّص منها. فحينما انتقد الحداثة، كان لا بد أن يتحدَّث عن بديل الحداثة، لا إصلاح الحداثة. إذن هناك بعض القضايا التي أتفق فيها معه، لذلك أستفيد منه كي أقفز إلى المرحلة التالية، وهو ما بيَّنته في الفصل الاخير من كتابي “إصلاح الحداثة”. ذلك الفصل هو عبارة عن الخطة التي أنوي القيام بها، إذا تيسَّر لي ذلك في مساري العلمي.

ماذا تعني لك فلسطين؟ مع نقد معرفي للاستشراق

س: هل تشعر بالحنين إلى أرض فلسطين بعد كل هذه العقود منذ مغادرتك إياها، وكيف ترى كيان الاحتلال كنموذج جديد معبِّر عن ظلم الاستشراق؟

د. حلاق: لا حاجة للقول بأنني ترعرعت في فلسطين حتى عمر 23 عامًا تحت نير الاحتلال الإسرائيلي، بتعجرفه واستغلاله وسطوته. لديَّ مجموعة كبيرة من لوحاتي جميعها مرتبطة بالاستعمار، وتعبِّر عن شعوري ووجودي كفلسطيني. لا أعتقد أن دراسة السياسة وشؤونها محل شغفي، لأنها تتغيَّر دومًا، وذات تأثير محدود وأمد قصير. على الإنسان أن يثير أسئلة عميقة عن جذور المعرفة التي نفكر فيها، وننظر بها إلى العالم. وحينما درست الشريعة، قاربتها مباشرةً بشكلٍ يعالج هذه القضايا. لذا انظر أين قادتني هذه الدراسة: قادتني من دراسة تاريخية حول الشريعة إلى نقد الحداثة. هذا ليس صدفة؛ لأن نقد الحداثة ينتمي إلى نفس فكرة أن تكون مستعمِرًا. إذن هناك علاقة مباشرة – والحديث كان عن وحدة التجربة البشرية – بين تجربتي تحت الاحتلال الإسرائيلي والكتابة حول نقد الحداثة.

أنا أنظر للاستشراق كحقل مكمِّل للأكاديميا الغربية؛ فهو ليس إلا أحد تجلِّيات هذه الأكاديميا. هذا هو الفرق بين بحثي وبحث سعيد. فإنه كان ينظر للاستشراق كصوت معيَّن في الغرب، يتسم بالوقاحة تجاه المسلمين، والآسيويين، والأفارقة، وغيرهم. أتصوَّر أن الاستشراق لا يختلف عن أي حقل أكاديمي آخر. يمكنني استثناء بعض التخصصات المحدودة كالفنون والرسم والموسيقى مثلاً، فهذه لا يمكن أن تُحتوَى بشكل مباشر في مشروع الاستعمار والهيمنة. ولكن كل شيء آخر تم زجُّه وتوريطه، حتى على المستوى الإنساني، في هذا المشروع. حينما احتل الغرب العالم، لم يكن الأمر مقتصرًا على بعض السياسيين والعسكريين، بل امتد إلى كافة الشعوب والسكان. “القوة الطبيعية للشعب” كما يسمِّيه فوكو. كل الشعب ساهم في إيجاد الاستعمار، ولا يمكن إغفال ذلك. حتى الأدب الإنجليزي والتاريخ والهندسة والكيمياء كلها حقول ساهمت في نفس المشروع التدميري الذي حصل في القرنين الأخيرين. وإنْ لم يكن على نحو اللغة والكلمات التي لها تأثيرها الفعلي على الواقع، فهو من خلال صناعة الأسلحة وبناء الجسور، وتدمير الطبيعة وحفر الأراضي، وغيرها. كل حقل كان يمارس الاستعمار بشكل أو بآخر. وإنْ لم يكن ضد الأفارقة والآسيويين والآخرين، فإنه ضد الطبيعة والحيوانات. الأكاديميا المعاصرة لا يمكن تبرأتها بدعوى سمعتها الراقية حاليًا بأنها مركز العلم، بل إنها يجب أن تُسَاق إلى المحكمة وتُوضَع في قفص الاتهام، في حال كانت هناك محكمة عالمية حقيقية واقعية وموضوعية تحاسب على دمار العالم خلال القرنين الأخيرين.

وفي هذا السياق، أؤكد بالطبع أن الأكاديميا الإسرائيلية مُدَانَة؛ لأنها مُساهِمة بشكل مباشر في مشروع الاحتلال العسكري والعنف والبطش. كل طالب جامعي يهودي في إسرائيل كان يدرس الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية كي يلتحق بالجيش، ويحصل على رتبة خاصة فيه. فكل شيء في الاكاديميا كان يُغذِّي جهاز الاستخبارات أو الجيش الإسرائيلي، وكلاهما جزء من المشروع الاستعماري. لذلك درستُ إسرائيل لأنها كيان نموذجي للاستعمار، سواء في الدولة أو الأكاديميا، كما أنه هنا في الغرب يتم تغطية الأمور بحُجُب وطبقات متعددة؛ فليس من السهل مثلاً ملاحظة العلاقة بين العنف والطب، المعنِي بمداواة الناس. فكل دولة في العالم، خصوصًا إسرائيل، تستعين بالحقل الطبي في تعذيب سجنائها. الأطباء موجودون فقط للتأكد من عدم ظهور علامات التعذيب حينما يتم فحص السجناء من قِبَل المؤسسات الدولية، وكذلك للحيلولة دون موتهم، لاختبار أعلى درجة من العذاب التي يمكن التعذيب بها. فهذه هي المدرسة الطبية في إسرائيل. لذلك لا يمكن تبْرئَة الأكاديميا فيها من مشروع الاحتلال الاستيطاني.

اللغة والدلالات في فهم الدين

س: اخترتُ لك فقرة تعالج فيها موضوعات الشريعة والحداثة والاستشراق، ولكن من زاوية اللغة، ما يسلط الضوء على دورها في تشكيل ونحت المصطلحات وما تحمله من دلالات، كمصطلحات الدولة والإصلاح والقانون وغيرها؛ إذ تقول: “إنَّ نطاقًا مهماً من اللغة مُشبَّعًا أيديولوجيًا بحمولة مرهقة من المعاني المرموزة، ومثال ذلك مصطلح الإصلاح، وهو المصطلح المعياري المُختار لوصف التحولات التشريعية التي أُجرِيَت في العالم الإسلامي تحت تأثير الهيمنة الأوروبية المباشرة وغير المباشرة، إذ هو مصطلح يُفصِح عن موقف سياسي وأيديولوجي مُفصَّل بعناية، ويفترض بالضرورة أن ثمَّة عيوبًا في الشريعة تحتاج إلى التصحيح والتحديث”. فما هو دور اللغة من وجهة نظرك في مشروعك؟

د. حلاق: بالطبع، حينما أدرِّس مرحلة الدراسات العليا، نقرأ النصوص الإسلامية مباشرة، وليس الترجمات ولا المصادر الثانوية. أريد لطلابي أن يستقوا المعرفة من اَلتماسّ المباشر مع التراث الإسلامي نفسه. في التصوف، نقرأ لعلماء العرفان وصولاً للقرن التاسع الهجري فقط. في الشريعة، نقرأ الكتب الأصلية والمهمة حتى القرن الثاني عشر الهجري. أول ما نقوم به هو التركيز على المصطلحات والمفاهيم، لأنَّ الطريقة الوحيدة للولوج في ذلك العالم هو من خلال اللغة، والكلمات التي كتبها العلماء. ليس لنا تصوُّر عن نمط حياتهم، ناهيك عن المدن والفنون، إلا من خلال النصوص التي تركوها لنا. فالوَقْفُ، على سبيل المثال، لا يمكن معرفته إلا من خلال ما كتبوه، فالمباني ذاتها لا تخبرني هل هي وقف أم لا، ولا تعطيني معنى الوقف من الأساس. وحينما أقوم بالتفتيش عن ذلك في كتبهم، لا بد أن أتوقف عند كل كلمة، وأفهمها، ليس بالطريقة التي نفهمها ونقاربها اليوم، ولكن كما قصدها المؤلف ذاته. بل إنه لا يكفي في هذا السياق الرجوع فقط إلى المعاجم القديمة لمعرفة الكلمات كما كانت تبدو عليه قديمًا، بل أيضًا فهم معاني الكلمات فنيًا في سياق المصادر الأوسع والسياقات، والنقاشات الدائرة عندهم في تلك الحقبة. وكما ينطبق ذلك على مصطلح “الوقف”، ينطبق أيضًا على “العدل” و”الغنى” و”الظلم”، حيث لا يمكن أن تُفهَم من خلال الفهم العربي السائد اليوم. فـ”الغني” على سبيل المثال، وحتى القرن السابع عشر الميلادي، إنما تنطبق على الإنسان المستغنِي، أي مَن يمتلك المسكن والمأكل والملبس لنفسه وعائلته، وليس الثَّريّ أو مَن لديه الأموال الكثيرة كما نعرِّفه نحن اليوم، وكما يُعرِّفه بعض الباحثين المعاصرين المدَّعين معرفتهم بالتراث الإسلامي. فالمعنى لا شك يختلف اختلافًا جذريًا، ومن ثمَّ ستكون النتيجة مختلفة حتمًا. نفس الشي ينطبق على “العدل” و”الظلم”، بل إن هناك تعريفات ودلالات سابقة لهما، لا ندريها نحن اليوم، فمفهومنا اليوم لهما هو ترجمة للمصطلحات الغربية التي تشير إلى الاستبداد في القارة الأوروبية، وليس التجربة الإسلامية. لذا ينبغي العودة إلى فهم اللغة ذاتها لأنها مُركَّبة، ولا يمكن التفكير بدونها. فهي تصنعنا وتُشكِّلنا، وتتطلَّب منَّا اهتمامًا خاصًا.

نقد المسيري وباومان للحداثة

س: كيف ترى نقد د. عبد الوهاب المسيري وزيغمونت باومان للحداثة؟ هل هو نقدٌ عميق أم لديك تقييم آخر له؟

د. حلاق: أعتقد أن كليهما قدمَّ نقدًا هامًا للحداثة. ولدي تقدير كبير لهما. لكن الفرق بين بحوثهما وبحثي هو تركيزي على الجانب الأخلاقي في نقدي للحداثة. باومان أشار إلى أن مساوئ الحداثة ليست استثناءات، بل هي لُبَّ الحداثة، وأعتقد أن أهم كتبه هو “الحداثة والهولوكوست”؛ لأنه دحض فكرة أن الهولوكوست كان قرار رجل متهوِّر، بينما الحداثة رائعة وجميلة، وإنْ كانت لديها بعض العيوب كمختلف المنظومات. فقَلَبَ باومان المعادلة، وأكَّد أن العيب هي الأصل، وأن الهولوكوست هو مُعرِّف للحداثة. من جهة أخرى، قدَّم المسيري نقدًا رائعًا بكل الطرق، إلا أنه لم يُدخِل العنصر الأخلاقي في نقاشه. فقد بقي نقاشه فنيًا واحترافيًا، ولكنه لم يصل إلى جوهر المشكلة، بل والحل للمشكلة. وفي نظري تدور الأخلاق حول معرفة الحدود، ومعرفة متى يجب عليك أن تقف. فإذا لم نعرف حدودنا سنهلك. وبالتالي، لو لم تكن الأخلاق مشمولة في أي نقد للحداثة، فالنقد يكون مهمًا جدًا وضروريًا، لكنه قد لا يكون كافيًا.

س: تعريجًا على ذلك، هل تشعر أحيانًا بالتناقض من كونك تعيش في الولايات المتحدة، بمنظومتها وفضاءاتها الحداثية، وتبنِّيك في ذات الوقت لمشروع نقدي للحداثة؟

د. حلاق: لا يوجد تناقض أبدًا؛ فالطريقة الوحيدة لإصلاح أي منظومة هي أن يكون الإصلاح من الداخل. ولكل منظومة عيوبها الذاتية بالضرورة. وطريقتي هي التجوال بين هذه العيوب. وإن تناولت هذه العيوب من الخارج، فلن يسمعني أحد. ولذلك تركت جامعة ماكجيل الكندية، وجئت إلى جامعة كولومبيا، لكي أكون في وسط الأجواء الحداثية ولُبِّها، وأتناول عيوبها جيدًا، بالتوازي مع زملائي وطلابي. وهنا يستطيع المرء أن يُنجِز الأعمال بتأثير أكبر. نعم هو مسار بطيء وصعب، لكن ليس أمامي خيار آخر.

مشاريعٌ قادمة

س: ما هي مشاريعك الفكرية الحالية أو المستقبلية التي تخطط لها؟

د. حلاق: أعمل حاليًا على كتاب حول “الدستور الإسلامي بين النظرية والتطبيق”. كيف حكم المسلمون أنفسهم دستوريًا في القرون السابقة على الاستعمار. لا أتحدَّث فقط عن تطبيقات الأحكام، وكيف عملت المحاكم وما شابه، ولكن أتحدث عن كيفية تنظيم النظام الإسلامي لقواه ليُشكِّل نظام حُكم كامل. وأحاول أنْ أرى كيف عاش المسلمون وفق نظام دستوري بطريقة ما. فكل ما نعرفه الآن هو المفهوم الغربي للدستورية، مثل الفصل بين السلطات وخلافه، لكن علينا الحفر عميقًا في الأرشيف الإسلامي لاكتشاف النظام الدستوري الذي امتلكه المسلمون، وهذا هو هدف الكتاب.

والمشروع التالي إن شاء الله هو العودة إلى سؤال: مَن نحن؟ وكيف ينبغي أن نكون؟ استمرارًا لمشروع نقد الحداثة. هذا مشروع فلسفي، وقد يأخذ زاوية معينة. لكن هذه هي الفكرة مبدئيًا، لمواصلة كتبي الثلاثة السابقة حول الحداثة.

وأقول ختامًا، لا بد للأجيال الجديدة الصاعدة في أرجاء العالم الإسلامي أن تعتني بتاريخها بجدِّيَّة، والتفكير في كتابته من وجهة نظرهم، لا أنْ يُقلِّدوا الآخرين. بل يجب أن يدرسوا تاريخهم بالتزامن مع دراسة تاريخ أوروبا الذي يُشكِّل معرفتهم حاليًا. ينبغي أنْ يكونوا واعِين جدًا لكيفية تشكُّل معرفتهم، وبالتالي عليهم أنْ يكونوا مستقلين فكريًا. والأمر الأول في هذا المسار هو التفكير في النفس، حيث إن الحل لا يكمن في أن يكونوا ضحية للأدوات الغربية في الفهم. ما يعْلمه الغرب هو جيدٌ لأفراده، تجاوُزًا وليس مطلقًا. لكن كل مجتمع مختلف. بل في الغرب ذاته، حتى في العائلة ذاتها، كل فرد يختلف عن الآخر، وكل فرد يحمل رؤى وتصوُّرات عن العالم تختلف عن الآخر. بالمثل، يعيش المسلمون أنفسهم في مناطق مختلفة، وكل مجموعة لها أفكارها الخاصة، ولكن لا بد أن نُعِيد التفكير في معارفنا وتاريخنا، إلى جانب التأثيرات التي شكَّلت أذهاننا في القرنَيْن الأخيرَيْن بشكل متصاعد. فالاستقلال الفكري هو ما نحتاجه.

إعداد

أ. وليد محمد القاضي**

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* حوار مع د. وائل حلاق على قناة حيرة على موقع اليوتيوب حول المشروع الفكري للدكتور وائل حلاق، قدم الحوار وأداره أ. هادي اللواتي من سلطنة عمان. 

https://www.youtube.com/watch?v=2e-L9FkiM8w

[1] انظر سيرته على موقع جامعة كولومبيا على الرابط التالي:

https://mesaas.columbia.edu/faculty-directory/wael-hallaq/

** باحث دكتوراه في العلوم السياسية.

عن وليد القاضي

شاهد أيضاً

هل تدمر الحداثة العقل البشري؟

أ. منال يحيى شيمي

نندفع في عالمنا العربي والاسلامي بسرعة هائلة في طريق الحداثة، ويرى الكثيرون في طريقة الحياة الحديثة غاية يلهثون وراءها ويبذلون فيها أعمارهم...

النسوية: مراجعات ضرورية

أ. مهجة مشهور

 النسوية، ذلك التيار الفكري المعاصر الذي ارتفع صوته منذ عقود طويلة في كافة المحافل الفكرية والإعلامية والمعرفية والاجتماعية، كيف نفهمه كأفراد عاديين؟ وكيف نتعامل معه من أرضيتنا الإيمانية ومرجعيتنا الإسلامية؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.