العنوان باللغة العربية: من الأخلاق إلى الميتافيزيقا: المضامين الإيمانية لالتزاماتنا الأخلاقية.
العنوان باللغة الإنجليزية: From Morality to Metaphysics
المؤلف: أنجوس ريتشي. Angus Ritchie
ترجمة: خليل زيدان
الناشر: مركز دلائل
تاريخ النشر: الطبعة الأولى- 2021
مع صعود النظرة المادية الاختزالية لتفسير الأخلاق والتي تعمل على فرض النسبية الأخلاقية، يظهر تناقض واضح عند استخدام مرجعية أخلاقية موضوعية عند الحكم على الجرائم الأخلاقية، ومن هنا ينطلق المؤلف لربط هذه المرجعية بالدين ووجود الإله. فريتشي يقوم بتقديم حجته الإيمانية على وجود الخالق انطلاقاً من الثغرة الميتافيزيقية المتمثلة في عجز التفسير المادي للأخلاق عن تقديم تفسير شامل ومحكم لنشأة الأخلاق، والتي لا يسدها إلا الدين والاعتراف بوجود الغرض والغاية في الكون.
وينقسم الكتاب الى ثلاثة أجزاء، كل جزء مكون من عدة فصول.
مقدمة:
يبين ريتشي في هذا الكتاب أن الإيمان بالله يفسر قدرة الإنسان على الإدراك الأخلاقي بشكل أفضل من مختلف التفسيرات العلمانية. ويزعم أن التفسيرات التي تفترض غاية أو قصدًا في الكون وحدها قادرة على تفسير التزامنا الأخلاقي الما- قبل فلسفي (الفطري) بالحقيقة الأخلاقية الموضوعية.
تُبنى الحجة الأساسية في الكتاب على هذا الادعاء الأول، حيث يرى أن علينا تقديم تفسير لقدراتنا الإدراكية فيما يخص الحقيقة الأخلاقية. ويدّعي أن علم الأحياء التطوري غير قادر على تقديم التفسير المطلوب؛ ونتيجة لذلك، فإن كل التفسيرات الفلسفية العلمانية تضطر إما إلى التخلي عن الموضوعية الأخلاقية، أو إلى جعل قدرة الإنسان على المعرفة الأخلاقية أمرًا غير قابل للتفسير.
فهي تقع في فجوة تفسيرية لا يمكن سدها وهذه الفجوة تكمن في عجزها عن الإجابة على السؤال التالي:
“كيف للبشر النامين في كون فيزيائي هو نفسه لم يتشكل بأي قوة غرضية، أن يكون لديهم القدرة على إدراك المبادئ الأخلاقية الموضوعية؟
ويُعرض هذا الطرح من خلال مناقشات مع عدد واسع من الفلاسفة الأخلاقيين. ويختتم الكتاب بالقول إن التفسيرات التي تنظر إلى الكون باعتباره غائي (مثل الثيولوجيا والأفلاطونية) وحدها القادرة على تفسير المعرفة الأخلاقية لدى البشر. ومن بين هذه التفسيرات، يدافع الكتاب عن الإيمان بالإله بوصفه التفسير الأكثر إرضاءً وفهمًا لقدرتنا على إدراك الحقيقة الأخلاقية.
الجزء الأول
الفجوة التفسيرية تنفتح
الفصل الأول: الفجوة التفسيرية
يسعى ريتشي من خلال هذا الفصل إلى الدفاع عن التزامنا ما قبل الفلسفي بالموضوعية الأخلاقية. وهو يُعد مقدمة أساسية للحجة الرئيسية، ويعد هذا الفصل بمثابة مخطط عام للاعتبارات التي سيتبناها ريتشي لصالح دفاعه عن الموضوعية الأخلاقية.
يدافع ريتشي في هذا الفصل عن ادعائين متميزين: الأول هو أن جميع البشر، في تأملهم العملي، يسعون للاقتراب من حقيقة تتجاوز مشاعرهم أو أعراف ثقافتهم. أما الادعاء الثاني، فهو أن هذا السعي ليس عبثًا؛ أي أن لدى البشر قدرة ما على مواءمة معتقداتهم بشكل جيد مع تلك الحقيقة الأخلاقية، عندما يسعون إليها بصدق وتأنٍ. وفي هذا السياق يستند الفصل إلى حجج قدمها ديفيد إينوك، ورونالد دوركين، وروجر كريسب، ويناقش الحجة المضادة للواقعية الأخلاقية التي طرحها جون ماكي.
في الجزء الأول من الفصل يتحدى ريتشي التيار المعارض الذي يشكك في موضوعية الأخلاق حيث يطلق عليه “التيار الاختزالي”، وتتمثل حجته التي يتحدى بها في أنه حتى المتشككين أخلاقياً ملتزمون بالرأي القائل إن هناك مبادئ موضوعية للتفكير النظري.
ويبدأ في هذا الإطار بمناقشة إحدى الحجج المضادة للموضوعية والتي تبناها جون ماكي في كتابه “الأخلاق: اختراع الصواب والخطأ”، حيث يعتبر ماكي أن كل الموضوعيين الأخلاقيين ملتزمون بنوع ما من المذهب الحدسي، ويعزز ماكي اعتراضاته بفكرة الخلاف الأخلاقي الحاصل بين الأفراد وبين الثقافات.
في المقابل يبدأ ريتشي في الرد على جون ماكي وكل من يتبنى اعتراضات مشابهة، بأن البشر ملتزمون بوجود مبادئ موضوعية أخرى للتفكيرتحمل نفس الخصائص الإبستمولوجية والأنطولوجية للمبادئ الأخلاقية، إذن ما وجه إنكار أن المبادئ الأخلاقية أيضاً مبادئ موضوعية.
ينتقل ريتشي للنظر في الاعتراض الآخر الذي يستند إليه التيار الاختزالي والمتعلق بوجود اختلاف في الأحكام الأخلاقية، حيث يجادل ريتشي بأنه حتى في حالات الاختلاف يكون هناك اتفاق أعمق مما هو ظاهر. ويضرب هنا مثال على تلك القضايا المتنازع عليها أخلاقياً في عصرنا مثل جواز الإجهاض والقتل الرحيم، ويبين أنه من خلال النظر إلى هذه القضايا بعمق نجد أنها تتضمن الاتفاق على قيمة الحياة، وهذا يعني أن قتل إنسان آخر يتطلب تبريراً معيناً، حيث يخلص ريتشي إلى أن قدراً كبيراً من الخلاف الأخلاقي لا يتعلق بالمبادئ الأخلاقية الأساسية بل بتطبيقها في الحالات المتنازع عليها. وهذا بالطبع يعزز من حجته المدافعة عن موضوعية الأخلاق.
في الجزء الثاني من الفصل يرى ريتشي أن التزام البشر بالقيم الأخلاقية يشبه التزامهم بالقواعد التي تجعل التفكير المنطقي أو العلمي ممكنًا. فكما أن البشر لا يستطيعون التفكير العلمي دون الإيمان بمبادئ موضوعية ضرورية قبلية (مثل مبدأ عدم التناقض)، كذلك لا يمكننا التفكير الأخلاقي دون الإيمان بأن هناك “معايير أخلاقية حقيقية” نحاول اكتشافها، وهذا يظهر في الممارسة أكثر مما يظهر داخل غرف النقاش النظري.
في الجزء الأخير من الفصل يوضح ريتشي أنه في هذا الكتاب سوف يستخدم كلمة “أخلاقي” بنطاق واسع، حيث يشير من خلالها إلى كل علل الفعل التي تنبع من وجود قيمة أو إلزام موضوعي، ومن ثم فإنه عندما يزعم أن هناك مبادئ أخلاقية موضوعية فإنه يُعني أن هناك حقيقة تتعلق بالكيفية الواجبة للإنسان للتصرف تجاه الآخرين، أو كيف يكون لديه علة للتصرف تجاههم، وهذه العلل والإلتزامات لا تنبع من المنفعة وإنما من معيار فوقي، أما المنفعة فقد تأتي نتيجة لهذا الاهتمام في النهاية.
وبناءاً على هذا التحديد الواسع للأخلاق يبين ريتشي أن التخلي عن الاعتقاد أن هذه المعايير موضوعية سيكون له تأُثير كبير على ممارساتنا التفكرية.
يعود ريتشي مرة أخرى لجون ماكي حيث يبين عدمية نظرية الخطأ التي تبناها والتي تقوم على فرضين أساسيين:
1- أن جميع الادعاءات الأخلاقية خاطئة لأن الأخلاق مبنية على المعتقدات.
2- نسبية الأحكام الأخلاقية.
يدلي ريتشي بحجته من خلال مثالين فكريين مستعارين من دفاع روجر كريسب عن المسؤولية الأخلاقية، ويوضح ريتشي أن الحجة التي قدمها كريسب تسلط الضوء على العدمية المتأصلة في نظرية الخطأ لماكي لأنها توضح بما لا يدع مجالاً للإنكار ان هناك عللاً للفعل تتجاوز تفضيلاتنا الشخصية وأعرافنا الثقافية.
في ختام الفصل يؤكد ريتشي أن المعيار الذي حاول أن يصل إليه من خلال هذا الفصل أن الأخلاق أكبر من أن تكون مجرد اختراع بشري تتغير مع العواطف والأعراف الثقافية، وهذا هو المعيار الذي سوف يستخدمه في الجزء الثاني من الكتاب لتقييم النظريات العلمانية المختلفة للأخلاق.
فالحجة المركزية الذي يجادل عنها ريتشي في هذا الكتاب هو أن كل النظريات العلمانية تؤدي إلى خلق فجوة تفسيرية لأنها تعجز في النهاية – مع تحييدها للتفسير الديني- عن تفسير كيف اكتسب الإنسان القدرات المولدة والمقيمة للاعتقادات.
الفصل الثاني
الفجوة تنفتح :التطور وقدرتنا على المعرفة الأخلاقية
في هذا الفصل، يبدأ ريتشي في طرح إحدى أهم الإشكاليات التي تواجه المدافعين عن موضوعية الأخلاق ضمن إطار علماني صرف، ألا وهي “الفجوة التفسيرية” بين المنشأ التطوري لقدراتنا المعرفية وبين ادعائنا القدرة على معرفة حقائق أخلاقية موضوعية ومستقلة عن ذواتنا.
يبدأ ريتشي بإعادة تأكيد موقفه من الموضوعية الأخلاقية، والذي يفترض وجود نظام أخلاقي حقيقي ومطلق، مستقل عن التصورات البشرية، ويُشكّل معيارًا تقاس به صحة الأحكام الأخلاقية. هذا الموقف يقدمه ريتشي من خلال الإشارة إلى أطروحتين للموضوعية الأخلاقية:
– أن هناك حقائق أخلاقية قائمة في ذاتها.
– أن الحُكم الأخلاقي يكون صحيحًا فقط إذا طابق هذه الحقائق.
بعد ذلك، يسلط الضوء على المفارقة التي تنشأ حين نحاول التوفيق بين هذا الموقف الموضوعي وبين الافتراضات الأساسية لنظرية التطور الداروينية التي تفسر نشوء وتطور قدراتنا المعرفية.
فبحسب نظرية التطور، لا تتطور الوظائف الإدراكية والمعرفية للإنسان من أجل اكتساب “الحقيقة” في ذاتها، بل من أجل تعزيز فرص البقاء والتكاثر. وبالتالي، فإن الاعتقادات التي تساعد على النجاة، حتى وإن لم تكن صادقة أخلاقياً، فإنها تحظى بالانتقاء وتعزز استمرارية النوع، وهنا تكمن المشكلة التي يمكن صياغتها كالتالي: إذا كانت معتقداتنا الأخلاقية قد نشأت وتطورت بهذه الطريقة، فما الذي يضمن أنها تقربنا من النظام الأخلاقي الموضوعي الذي نفترض وجوده؟ أي، ما الذي يربط بين المنفعة البيولوجية والصدق الأخلاقي؟
وفي هذا السياق، يقبل ريتشي – من باب الجدل – بما تقرره بعض الرؤى العلمانية، من أن الإدراك البشري للحقائق المتعلقة بالعالم المادي أو بمبادئ التفكير النظري يمكن تفسيره دون الحاجة إلى افتراض وجود قوة غرضية أو فاعل يتعمد توجيه هذا الإدراك.
ويذهب ريتشي إلى أن نظرية التطور قد تكون بالفعل قادرة على تفسير كيفية تطور قدرة البشر على تبنّي معتقدات دقيقة بشأن السمات الأساسية للواقع الفيزيائي ومبادئ التفكير العقلي، حتى لو اعتبرنا أن هذه المبادئ والحقائق قائمة بذاتها، أي أنها لا تعتمد على مشاعرنا أو معتقداتنا أو الأعراف الاجتماعية.
لكن عندما يتعلق الأمر بالمعتقدات التقييمية (مثل المعتقدات الأخلاقية)، فإن الأمور تصبح أكثر تعقيدًا؛ إذ يبدو أن هناك انفصالًا بين دقة هذه المعتقدات وقدرتها على تعزيز فرص البقاء، وهو ما يخلق “الفجوة التفسيرية”. يوضح ريتشي أن القوى التطورية – أي الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي – قد تُنتج معتقدات أخلاقية مفيدة للبقاء والتكاثر، لكن لا يوجد ما يضمن أن تكون هذه المعتقدات متوافقة مع “الحقيقة الأخلاقية”، بدلًا من أن تكون ببساطة نافعة من منظور تطوري.
وبناءاً على ذلك نجد أن هناك الكثير من القيم الأخلاقية لا تزيد من البقاء والتكاثر والسرور الذين هم مطلب المنظور التطوري، ومن ناحية آخرى نجد أن أي نظام قيمي قائم فقط على البقاء والتكاثر والسرور يؤدي إلى نتائج غير أخلاقية.
ويستدعي ريتشي هنا بعض التفسيرات التي يقدمها من يسميهم “بالتطوريين الأخلاقيين” للأخلاق، ومنهم على سبيل المثال إدوراد ويلسون الذي يرى أن البشر قد وصلوا الآن إلى مستوى التفكير الواعي في مسائل الأخلاق، حيث بإمكانهم الآن اختيار مجموعة من المعايير أكثر إنسانية من المعايير التي يولدها الانتخاب الطبيعي وحده. وكذلك ريتشارد دوكينز الذي يزعم أن القدرة البشرية على التفكير الأخلاقي يمكن أن تنبثق من الانتخاب الطبيعي ثم الاعتماد على نفسها. وفي هذا السياق يبين ريتشي أن هذه الرؤى غير مقنعة، إذ – كما رأينا – أن العنصر الوحيد في قدراتنا الأخلاقية الحالية الذي يمكن تفسيره بشكل دقيق من خلال الانتخاب الطبيعي، هو ذلك العنصر المتعلق بالبقاء والتكاثر الجماعي. فلا يوجد لدينا من خلال نظرية الانتخاب الطبيعي ما يفسر كيف أصبحت لدينا القدرة على إصدار أحكام أخلاقية متعارضة مع المبدأ الأساسي في الانتخاب الطبيعي الذي يُعلي من شأن التكاثر. فإذا كان كل من ويلسون ودوكنز على حق في رأيهما، فإننا بذلك نصحّح المبادئ غير المناسبة التي نشأت لدينا بفعل الانتخاب الطبيعي، من خلال الاعتماد على أجزاء أخرى من جهازنا المعرفي. لكن المشكلة تكمن في أن كلاً منهما لا يقدم تفسيراً لكيفية كون هذه الأجزاء الأخرى قادرة بالفعل على تبنّي مبادئ أخلاقية موضوعية.
ثم يبين ريتشي أن هذه الفجوة لا يمكن سدّها بسهولة من داخل الإطار العلماني الطبيعي، إذ أن هذا الإطار بصفته يرفض أي غايات كونية أو أسباب فوق- طبيعية، ولا يوفر الأدوات اللازمة لتفسير كيف يمكن أن يكون للعقل البشري، الذي تطور لخدمة البقاء، قدرة على ملامسة النظام الأخلاقي الموضوعي الذي لا علاقة له بالبقاء أو النجاة.
فالعلمانية تنفي وجود غاية من الكون أو من تطور الإنسان، بينما الموضوعية الأخلاقية تفترض أن ثمة حقيقة أخلاقية نسعى لبلوغها. كيف يمكن إذن أن يتقاطع طريق تطوري لا يهدف إلا للبقاء، مع طريق فلسفي يطلب الحقيقة المجردة؟
أمام هذا التحدي، يشير ريتشي إلى أن أمام المدافع عن الأخلاق الموضوعية ثلاثة خيارات:
1- التخلي عن الموضوعية الأخلاقية، والاكتفاء برؤية أخلاقية نسبية أو وظيفية ترى القيم بوصفها أدوات اجتماعية أو نفسية لا أكثر.
2- افتراض أن الإنسان يمتلك نوعًا من الإدراك الحدسي أو العقلي الفائق الذي يسمح له بمعرفة الحقائق الأخلاقية، لكنه في هذه الحالة يحتاج إلى تبرير كيف تطور هذا الإدراك ضمن إطار علماني.
3- أو قبول أن تفسير هذا الإدراك الأخلاقي يتطلب إدخال غائية أو بُعدًا ما ورائيًا في بنية العالم، وهو ما يمهد للحجج التي تؤيد رؤية دينية أو ميتافيزيقية للواقع.
وبهذا التقديم، يفتح ريتشي باب النقاش أمام الفصول التالية التي ستحاول استكشاف هذه البدائل الثلاثة، وتحديد أيها أكثر قدرة على سد الفجوة التفسيرية. لكنه يختتم هذا الفصل بتوضيح أن أي موقف علماني يتمسك بالأخلاق الموضوعية، دون تقديم تفسير مقنع لقدرة البشر على إدراك هذه الحقائق، سيظل غير مكتمل نظريًا. فالمجردات الأخلاقية لا تنبثق تلقائيًا من عمليات عمياء موجهة للبقاء، ولا يمكن أن يفترض أن الإنسان يطابقها إدراكًا، إلا إذا كانت هذه القدرة جزءًا من بنية وجودية أشمل من مجرد التطور الطبيعي.
الجزء الثاني
الردود العلمانية
يوضح ريتشي – كما سبق البيان- أن النظريات العلمانية الأخلاقية تواجه تحدّيًا مزدوجًا: من جهة، الحاجة إلى الحفاظ على فكرة أن القيم الأخلاقية موضوعية؛ ومن جهة أخرى، السعي لتجنّب إدخال افتراضات ميتافيزيقية.
في أحد طرفيّ هذا الطيف، نجد “نظرية الخطأ”، التي ترى أن الحديث عن الموضوعية الأخلاقية ينطوي على خطأ ميتافيزيقي، أي أن هذا النوع من اللغة يفترض وجود شيء غير موجود فعلاً. وفي الطرف الآخر، توجد نظريات (سيتناولها ريتشي في الجزء الثالث) ترى أن للكون بأكمله هدفًا أو غاية.
وبين هذين الطرفين، نجد طيفًا واسعًا من المواقف المختلفة، يميل بعضها أكثر إلى الموضوعية، ويميل بعضها الآخر إلى تقليل الافتراضات الميتافيزيقية. لكن القاسم المشترك بينها جميعًا هو محاولة احترام معتقداتنا الأخلاقية الأساسية، من دون أن تُضفي على الكون طابعًا غائيًا (أي أنها لا تفترض أن للكون غرضًا أخلاقيًا محددًا).
وهنا يتفاقم الإشكال جراء محاولة الجمع بين موضوعية أخلاقية كاملة ورؤية للكون على أنه بلا هدف أوغاية؛ إذ يبدو أن مثل هذا الجمع لا ينجح في تفسير كيف يستطيع البشر تكوين معتقدات أخلاقية تعكس حقيقة مستقلة تمامًا عنهم.
ومن هنا يناقش الفصلان الثالث والرابع المواقف العلمانية التي تتبنّى درجة أقل من الموضوعية الأخلاقية. وتَعِد هذه المواقف بأنها قادرة على احترام التزاماتنا الأخلاقية الماقبل- فلسفية (الفطرية/البديهية) دون أن تقع في مشكلة “الفجوة التفسيرية” التي تطرحها النظريات التي تؤمن بموضوعية أخلاقية كاملة.
الفصل الثالث
بدائل الواقعية سيمون بلاكيبرن وآلان جيبارد
يتناول هذا الفصل تقييم نظرية الأخلاق التي وضعها سايمون بلاكبيرن وآلان جيبارد، والمعروفة بـ”شبه-الواقعية في الأخلاق”. يجادل ريتشي في هذا الفصل بأن هذه النظرية غير قادرة على تقديم تبرير كافٍ للالتزامات الأخلاقية الأساسية (الفطرية). إذ عليها أن تختار بين موقفين: إما أن تؤكد أن المشاعر الأخلاقية الراهنة هي التي تحدد الحقيقة الأخلاقية، أو أن تسمح بإمكانية أن تكون الحقيقة الأخلاقية مختلفة عن التصورات الحالية.
يبدأ الفصل بمناقشة نظرية الأخلاق التي طورها سيمون بلاكيبرن وألان جيبارد، وتقع هذه النظرية في تقليد أوسع بعنوان “المذهب التعبيري” الذي يعتبر (ما نسميه) “حقيقة أخلاقية” على أنه قد تشكل من عواطفنا ومشاعرنا. وهذا المذهب شبه الواقعي يتمثل إشكاله في أنه يترك الحقيقة الأخلاقية متقلبة مع الاختلافات التي تحدث في المشاعر الإنسانية والأعراف الثقافية.
وقد نقل ريتشي نقد ألستراب راسموسن لشبه الواقعية في الأخلاق، مشيراً إلى أن راسموسن قد وضع إصبعه على الضعف المركزي في شبه الواقعية الأخلاقيةز فالمفارقة التي تواجه بلاكبيرن وجيبارد هي أن العواطف نفسها التي يسعيان إلى بناء انطولوجيتهما الأخلاقية (المحدودة) عليها تفترض شيئًا ما يتجاوزها هي ذاتيًا. فمقت التعذيب مثلاً يتضمن أن شره يكمن في شئ آخر غير كره الشخص أو المجتمع له.
إن شبه الواقعية عاجزة عن الإجابة على سؤال حاسم، من أي العواطف تتشكل “الحقيقة الأخلاقية”؟.
وهنا يكون لدى بلاكبيرن وجيبارد خياران فقط، وكل منهما غير مرضي: إما أن يقولا أن عواطفنا الحالية تثبت الحقيقة الأخلاقية، وإما يجب عليهما أن يسمحا بأن الحقيقة يمكن أن تختلف عما نفكر فيه الآن. الموقف الأول يستبعد التغيرات المستقبلية، أما الثاني، وفي غياب إطار عقلاني موضوعي يمكن من خلاله تحديد الحقيقة الأخلاقية بشكل مستقل، فإنه يعيد فتح الباب أمام الاحتمالات الأخلاقية المعارضة والتي تنتهك المبادئ الأخلاقية، وهو ما كانت تسعى النظرية لتجنبه.
الفصل الرابع
الإجراءات والعلل، تيم سكانلون وكريستن كورسجارد.
يتناول الفصل الرابع تقرير تيموثي سكانلون عن الأخلاق، وهو على نقيض الفصل السابق الذي يركز على العواطف فهو يركز على دور العقل في التفكير الأخلاقي.
يشير ريتشي إلى موقف سكانلون بأنه يمنح الحقيقة الأخلاقية استقلالية كافية عن عواطفنا وأعرافنا الثقافية لتلبية الالتزامات الأخلاقية الأساسية، ومع ذلك يرى ريتشي أن موقفه مازال يولد الفجوة التفسيرية المشار اليها سابقاً، وهي أن الموضوعية العلمانية غير كافية لتفسير التزاماتنا الأخلاقية.
يشير ريتشي من ناحية أخرى إلى أن البنيوية الأخلاقية لكريستين كورسجارد قدمت الأسس الميتا- أخلاقية التي اعتمد عليها سكانلون في بداياته. ففي بداياته، حاول سكانلون التركيز على الإجراءات العقلانية بدلاً من الاعتماد على كينونة أخلاقية منفصلة. وقد استند في ذلك إلى ميتا- أخلاقيات كورسجارد. ترى كورسجارد أن “الواقعي الأخلاقي الإجرائي” يؤمن بوجود إجابات صحيحة للأسئلة الأخلاقية، لأن هناك إجراءات صحيحة تؤدي إليها، أي أن كورسجارد تريد أن تقول أن الأخلاق موضوعية لأننا نستطيع التوصل إلى أحكام عقلانية صحيحة من خلال إجراءات معينة، وليس لأن هناك عالمًا أخلاقيًا مستقلًا موجودًا خارجنا. وهكذا، تحاول تحقيق الموضوعية من غير أن تلتزم بوجود كيان أخلاقي مستقل.
كورسجارد ترى أن التزاماتنا الأخلاقية تنبع من التزاماتنا الوجودية – أي من اختياراتنا التي تُعبر عن “من نحن” كأشخاص. فكل شخص يختار مبادئ معينة ليعيش وفقًا لها، وهذه المبادئ تُكوِّن هويته الأخلاقية، ولذلك هي ترى أن الفرد يصنع لنفسه القانون الأخلاقي الذي يلتزم به (وهنا يظهر تأثرها العميق بكانط، لكن بشكل أكثر ذاتية).
لكن ريتشي يرد على هذا بأن كلًا من بلاكبيرن وكورسجارد يربطان القيمة الأخلاقية بمواقف الفرد وتوجهاته، وهذه لا يمكن أن تُفهم أو تُبرر إلا باعتبارها استجابات لنظام قيمي خارجي. ويفترض بمثال توضيحي أن شخصًا ينتمي إلى المافيا، من جهة قد يشعر بوجود التزامات أخلاقية ناتجة عن انتمائه. إلا أن كورسجارد تقول إن مثل هذا الشخص، لو تأمل جيدًا، فسيدرك أن طاعة “قانون الشرف” داخل المافيا – وهو قانون قد يشمل العنف والولاء الأعمى- ليس القانون الصحيح الذي ينبغي أن يتبناه لنفسه.
وهنا يعترض ريتشي ويسأل: لماذا ينبغي على هذا الشخص أن يرى أن اختياره خاطئ؟ إذا لم يكن هناك نظام قيمي موضوعي أعلى من اختيارات الأفراد، فما الذي يجعل “قانون الشرف” في المافيا أقل وجاهة أو شرعية من أي قانون أخلاقي آخر. فما لم نفترض وجود “قيم موضوعية” – أي معايير أخلاقية صحيحة -فإن اختيارات الأفراد الأخلاقية، خاصة المنحرفة أو العنيفة، لن نستطيع تفسيرها أو نقدها تفسيرًا أخلاقيًا حقيقيًا. ومن دون هذا الأساس الموضوعي، لا يوجد سبب حقيقي يجعل عضو المافيا يرفض قانونه، أو يشعر بأن التزامه به يهزّ فهمه لذاته.
من ناحية أخرى، يبين ريتشي أن سكانلون في مراحله الفكرية المتأخرة، اتجه نحو موقف أكثر موضوعية في فهم الأخلاق، وبدأ يصف نفسه بأنه “أصولي في الأسباب”. (Reasons Fundamentalist) وهذا الوصف يعني أن سكانلون يرى أن الأسباب الأخلاقية، أي الأسباب التي تبرر لنا لماذا يجب أن نفعل شيئًا معينًا أو نمتنع عن شيء آخر، هي عناصر أساسية لا يمكن اختزالها إلى مفاهيم أبسط منها، كالرغبات أو المشاعر أو النتائج. فهذه الأسباب، من وجهة نظره، تمتلك قوة معيارية ذاتية لا تحتاج إلى تبرير خارجي أو إلى تفسير في إطار علمي أو نفسي.
بهذا، يميز سكانلون نفسه عن كورسجارد، التي كانت ترى أن الالتزام الأخلاقي ينبع من التزاماتنا الوجودية واختياراتنا الذاتية، أي من داخلنا نحن كفاعلين. أما سكانلون، فيُصر على أن هناك أسبابًا أخلاقية قائمة بذاتها، لا تعتمد على إرادتنا أو اختياراتنا الفردية، بل هي جزء لا يتجزأ من طبيعة المعيارية ذاتها.
ومع أن سكانلون قدم تبريرًا لهذا التصور، إلا أن الانتقادات تشير إلى أنه لم يقدم تفسيرًا مقنعًا لمصدر موثوقية هذه الأسباب أو سلطتها علينا. فالسؤال يظل مطروحًا: لماذا ينبغي علينا أن نأخذ هذه الأسباب على محمل الجد؟ ومن أين تستمد إلزامها لنا؟.
لهذا، تبقى النظريات الأخلاقية ذات الطابع العلماني، إما في حالة تعارض مع أعمق التزاماتنا الأخلاقية – تلك التي نشعر بأنها غير قابلة للمساومة –، أو أنها حين تحاول الدفاع عن هذه الالتزامات، تقع في فجوة تفسيرية، أي أنها تعجز عن توضيح لماذا ينبغي علينا الالتزام بهذه المبادئ الأخلاقية على نحو ملزِم وعقلاني.
الفصل الخامس
الخير الطبيعي، الموضوعية الأخلاقية لفيليبا فوت
في هذا الفصل، يتناول ريتشي بالدراسة والتحليل مشروع الفيلسوفة فيليبا فوت في الدفاع عن الموضوعية الأخلاقية من خلال نظريتها المعروفة بـ”الخير الطبيعي” (Natural Goodness) .
حيث تسعى فوت إلى تقديم فهم موضوعي للأخلاق دون الحاجة إلى أسس ما ورائية أو لاهوتية، وذلك من خلال ربط القيم الأخلاقية بالبنية الطبيعية للكائنات الحية، وخاصة الإنسان. تنطلق فوت من ملاحظة لغوية وفلسفية مفادها أن مصطلح “جيد” (good) ليس صفة مطلقة تنطبق بالطريقة ذاتها على كل شيء، بل هو ما تسميه “صفة نسبية” (attributive adjective)، أي أنه يُقيَّم دائمًا في ضوء نوع الكائن الذي نصفه. فـ”السكين الجيد” تختلف معايير جودته عن “الطبيب الجيد” أو “الحصان الجيد”، لأن الخير يُحدَّد تبعًا لماهية الشيء ووظيفته النوعية.
بناءً على هذه الملاحظة، تبني فوت إطارًا معياريًا طبيعانيًا للحكم على الكائن الحي – نباتًا أو حيوانًا أو إنسانًا – بكونه جيدًا أو غير جيد من خلال مدى أدائه لوظائفه النوعية. في حالة النباتات والحيوانات، يتعلق الأمر بوظائف مثل النمو، التكاثر، التغذية، إلخ، فإذا قام الكائن بهذه الوظائف على نحو ملائم، فهو “جيد” وفقًا لهذا المعيار.
أما في حالة الإنسان، فإن الطبيعة النوعية له تشمل بُعدًا إضافيًا حاسمًا، وهو العقل العملي، وهنا تدخل الأخلاق: لأن الإنسان كائن عاقل، فإن جودته لا تقاس فقط بأداء الوظائف البيولوجية، بل كذلك بقدرته على التفكير العملي وتشكيل الأحكام والتصرفات التي تتسق مع هذا التفكير.
تؤكد فوت أن الفضائل الأخلاقية (كالعدل والرحمة والشجاعة) هي تعبير عن أداء ناجح للعقل العملي، وبالتالي فهي سمات تشكّل جزءًا من الخير الطبيعي للإنسان. فالفضيلة ليست شيئًا فوق الطبيعة أو مفروضًا خارجيًا، بل هي الامتداد الطبيعي لما يعنيه أن يكون الإنسان في أفضل حالاته النوعية، وبالتالي فإن من يتصف بالعدل أو الصدق لا يؤدي مجرد وظيفة اجتماعية، بل يُجسِّد كمالًا في “ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان بوصفه إنسانًا”.
لكن هذا لا يعني أن كل ما هو طبيعي هو بالضرورة جيد. ففوت تميّز بين الصفات التي تصادف أن توجد في الطبيعة وبين الصفات التي تشكل جزءًا مما يحقق ازدهار الكائن. فمثلًا، وجود العدوانية في البشر لا يعني أنها بالضرورة صفة محمودة، ما لم تُظهر العلاقة بأنها تساهم في ازدهار الكائن البشري. ولهذا فإن معيار الحكم الأخلاقي عند فوت لا يقوم فقط على ما هو شائع أو دارج، بل على ما يخدم الكمال النوعي للإنسان باعتباره كائنًا عاقلًا واجتماعيًا.
هنا يستعرض ريتشي مكاسب هذا النموذج من الموضوعية الأخلاقية، فهو لا يفترض وجود عالَم أخلاقي مفارق أو عقائد دينية، ولا يحتاج إلى ميتافيزيقا تجريدية؛ ومع ذلك، يقدّم معايير يمكن استخدامها لتقييم الأفعال والسمات الخلقية بوصفها “موضوعية”، لأن معيارها محدد في طبيعة الكائن ذاته. غير أن هذا النموذج، رغم قوته، يواجه تحديات – يناقشها ريتشي في الفصول التالية – تتعلق بقدرته على تفسير العلاقة بين الحقيقة الأخلاقية وبين قدرة الإنسان على إدراكها، خاصة في إطار تطوري لا يفترض وجود غايات موجهة.
وهنا يجادل ريتشي بأن نظرية فوت على الرغم من قوتها إلا أنها تواجه أيضاً تحدي سد الفجوة التفسيرية، لأنها قامت ببناء نظريتها على مفهوم “ازدهار النوع” كقيمة موضوعية، وهذا يجعلها تواجه مشكلة في سد الفجوة بين الازدهار البيولوجي والقيمة الأخلاقية، لأن المعيار الوحيد الذي قدمته لتحديد السمات المميزة التي يجب منحها قيمة هو كونها تؤدي إلى ازدهار النوع، وبالتالي تكون الفضائل هي تحديداً تلك النزعات والطباع التي تمكِّن البشر من تحقيق إمكانات النوع، وهذا من شأنه تحويل بعض التصرفات غير الأخلاقية مثل الاغتصاب إلى فعل أخلاقي لأنه يساهم في ازدهار النوع من حيث التكاثر.
ويستمر ريتشي في نقده لنظرية فوت، وخاصة ما يتعلق بانطلاقها من الخير الطبيعي إلى تحديد الخير الأخلاقي ببيان أنه على رغم من أن فكرة “الازدهار البيولوجي” قد تبدو مفيدة لتفسير الخير الأخلاقي، فإنها تطرح إشكالات عميقة، حين نحاول الاعتماد عليها وحدها لتحديد ما هو “الخير”. فإذا قلنا إن بقاء الإنسان وازدهاره الجسدي أو العقلي هو ما يحدد الخير، فإننا نقع في مأزق، إذ ليس كل ما يساهم في ازدهارنا البيولوجي يمكن اعتباره خيرًا أخلاقيًا بالضرورة. مثلًا، القضاء على خلايا سرطانية يُعد أمرًا نافعًا من منظور الصحة، لكنه لا يعني أننا نتحدث هنا عن “خير أخلاقي” بمفهومه الأوسع.
وهذا يقود إلى سؤال أعمق: هل يمكن أن نختزل القيم الأخلاقية في مجرد نتائج بيولوجية نافعة؟ الواقع أن الإنسان، في كثير من المواقف، يتخذ قرارات تضحية أو إيثار لا تعود عليه بأي فائدة شخصية، بل أحيانًا قد تضر بمصلحته. ومع ذلك، نعتبر هذه القرارات أخلاقية لأنها تستند إلى مبادئ مثل العدل والرحمة والواجب، لا إلى حسابات المنفعة أو البقاء.
فمثلًا، لو خُيّرنا بين إنقاذ شخص يعاني أو التضحية به لمصلحة أكبر، فإن معيار “الخير البيولوجي” لن يكون كافيًا لحسم القرار. ولذلك فإن ما يجعلنا نميل إلى أحد الخيارين هو ما نحمله من قيم أخلاقية لا يمكن اشتقاقها من علم الأحياء وحده. حتى فكرة “الازدهار الإنساني” نفسها ليست محايدة، فهي تحمل ضمنًا تصورات مسبقة عمّا نعتبره جديرًا بالعيش.
لذلك، فإن اختزال الأخلاق في مفاهيم طبيعية أو بيولوجية يظل غير كافٍ. فـ”الخير” الذي نبحث عنه أخلاقيًا يتجاوز مسألة البقاء أو النجاح البيولوجي، ويستند إلى معايير أعمق تُعبّر عن نظرتنا للإنسان والكرامة والمعنى.
الفصل السادس
الخير الطبيعي و”الطبيعة الثانية”، جون ماكدويل وديفيد ويجينز
يتناول هذا الفصل تطوّر مفهوم “الخير الطبيعي” كما قدّمته فيليبا فوت، من خلال مناقشة رؤى الفيلسوفين جون ماكدويل وديفيد ويجينز. حيث يسعى ريتشي من خلال هذا الفصل إلى استكشاف كيف حاول ماكدويل وويجينز تفسير الأخلاق. تدور الفكرة الأساسية لفلسفة ماكدويل حول مسألة أن الإنسان لا يُولد مزوّدًا بفهم فطري لما هو خير أو شر، بل يكتسب هذا الفهم من خلال التربية والثقافة، حتى تصبح القيم الأخلاقية جزءًا من “طبيعته الثانية”؛ أي جزءًا من شخصيته وسلوكه اليومي.
يؤكد ماكدويل أن الإنسان يتعلم كيف يرى العالم من منظور أخلاقي من خلال تنشئة سليمة، تمامًا كما يتعلم اللغة أو المهارات الأخرى. وعندما تُصبح الأخلاق جزءًا من طبيعة الفرد المكتسبة، فإنه يتصرف أخلاقياً بشكل طبيعي، من دون أن يحتاج إلى تبرير أفعاله في كل مرة. وفي هذا الإطار يرى ريتشي أن ماكدويل يحاول أن يفسّر امتلاك البشر لقدرات معرفية تتعلّق بالتفكير الأخلاقي وقدرتها على الوصول إلى الحقيقة من خلال الاعتماد على فكرة التربية الأخلاقية، حيث يرى ماكدويل أن الأفراد الذين نشؤوا ضمن إطار أخلاقي سليم سيكونون قادرين على التمييز بين ما هو فاضل وما هو غير فاضل، وسيتمكنون من تجاوز الدوافع البيولوجية المحضة مثل البقاء والتكاثر.
وهذا التفسير –كما يرى ريتشي- مازال لا يعالج الإشكال الأعمق والأقدم، والمتعلق بكيفية نشوء هذه الحساسية الأخلاقية في الأصل، وكيف أصبحت متاحة للنوع البشري. هذا يتطلب تفسيرًا يبيّن كيف بدأت التربية الأخلاقية ومتى أصبحت ممكنة، وكيف تطورت وانتقلت من جيل إلى آخر. لكن ماكدويل لا يستطيع ببساطة أن يجيب بأن حساسيتنا الأخلاقية امتداد طبيعي لقدرتنا على التفكير النظري، لأن هذا يفترض مسبقًا أن تلك الحساسية كانت موجودة منذ البداية، دون أن يوضح كيف نشأت.
وهنا يبين ريتشي أنه حتى لو سلّمنا بأن الإنسان الذي خضع لتربية جيدة قادرعلى تمييز المبادئ الأخلاقية، فإن ذلك يفسّر فقط كيف يعمل النظام الأخلاقي بعد نشوئه، لكنه لا يوضح كيف بدأ هذا النظام أصلاً.
أما ديفيد ويجينز، فيقدّم ما يمكن وصفه بـ”الموضوعية الأخلاقية المعتدلة”، فهو يرى أن الأخلاق نابعة من طبيعتنا كبشر ومن طريقة تفاعلنا مع الآخرين، حيث تتشكّل من تجاربنا المشتركة. ويلاحظ أن ويجينز، مثل ماكدويل، لا يقدّم أساسًا معرفيًا قويًا يفسّر لماذا نعتبر بعض القيم “صحيحة” أو “ملزمة”، خصوصًا في حالات الاختلاف الثقافي أو الخلقي.
في نهاية الفصل، يرى ريتشي أن ما يقدّمه ماكدويل وويجينز من فهم لتكوين الأخلاق داخل الإنسان هو مساهمة مهمة، لكنه غير كافٍ وحده. إذ أن السؤال الجوهري يبقى دون إجابة واضحة: ما الذي يجعل القيم الأخلاقية صحيحة فعلًا، وليس فقط مقبولة اجتماعيًا؟ ولهذا، يلمّح ريتشي إلى أن الجواب يتطلب الرجوع إلى أساس أعمق ميتافيزيقي (ديني)، يمكنه أن يبرر موضوعية الأخلاق بشكل أقوى من مجرد العادات أو التنشئة الاجتماعية.
الجزء الثالث
الإيمان بالإله
في هذا الجزء الأخير من الكتاب يدافع ريتشي عن الدعوة بأن التفسيرات غير العلمانية (أي الغائية) للكون قادرة على تفسير سبب كون قدراتنا المعرفية قادرة على تتبّع الحقيقة الأخلاقية. ثم ينظر في مدى الدعم الذي تقدمه هذه الفكرة للحجج الدفاعية لصالح الإيمان بالله.
الفصل السابع
من الخير إلى الإله: سد الفجوة التفسيرية
في هذا الفصل، يقدّم ريتشي دفاعًا منهجيًا عن الفكرة القائلة بأن الإيمان بالله – لا سيما في صورته التقليدية الكلاسيكية – يُمثّل أفضل تفسير لقدرتنا كبشر على إدراك الحقائق الأخلاقية الموضوعية.
يبدأ ريتشي بمساءلة التوجهات العلمانية التي تسعى إلى تفسير الأخلاق دون اللجوء إلى وجود إله، مبيّنًا أن هذه المحاولات، رغم نجاحها الظاهري في تفسير نشوء السلوكيات الأخلاقية ضمن سياق تطوري، إلا أنها تعاني من فشل جوهري في تفسير القدرة البشرية على إدراك الحقيقة الأخلاقية الموضوعية.
يرى ريتشي أن هناك “فجوة تفسيرية” قائمة بين القدرة البيولوجية على إصدار أحكام أخلاقية وبين صدق هذه الأحكام في ذاتها. فالتطور البيولوجي، بصفته عملية غير هادفة ميتافيزيقيًا، لا يُمكنه تفسير لماذا تتطابق معتقداتنا الأخلاقية – التي نشأت بدوافع البقاء والنجاة – مع ما هو صحيح موضوعيًا من حيث القيم. وهنا يُبرز ريتشي أهمية التفسير الغائي الذي يفترض أن هناك فاعلًا عاقلًا ذا غاية وراء وجودنا وقدراتنا.
في هذا السياق، ينتقل ريتشي إلى الدفاع عن التفسير الإلهي (classical theism) بوصفه التفسير الوحيد القادر على سدّ هذه الفجوة. يرى هذا الفسير أن هناك إلهًا عاقلًا وخيّرًا قد خلق الكون وفق غايات محددة، تُوفر أساسًا منطقيًا متينًا لفهم كيف يمكن للكائنات البشرية أن تمتلك ملكات معرفية تؤهلها لإدراك القيم الأخلاقية الحقيقية. فالله، بحسب هذا الطرح، لم يكتفِ بخلق كائنات عاقلة، بل جهّزها بعقول وضمائر تكون قادرة على التفاعل مع نظام أخلاقي حقيقي موجود بشكل موضوعي.
يناقش ريتشي هنا اعتراضات بعض المفكرين المعاصرين، مثل هيو رايس وجون ليزلي، الذين يحاولون التوفيق بين الرؤية الغائية وبين كونٍ غير خاضع لإله، مكتفين بفكرة نظام كوني يتّصف بالخير أو الغرض، دون أن يستلزم ذلك وجود فاعل. لكنه يُبيّن أن مثل هذه التفسيرات تفتقر إلى القوة التفسيرية التي يُقدّمها الإيمان بإله واعٍ وخيّر. فبدون فاعل عاقل يُوجّه الكون، تظل فكرة أن قدراتنا المعرفية تتوافق مع الحقيقة الأخلاقية مجرّد مصادفة غير مبررة.
ويتعرّض ريتشي كذلك إلى شبهة “الإله الشرير” (Evil God Hypothesis)، التي طرحها الفيلسوف ستيفن لو، كمحاولة لإضعاف الحجة لصالح إله خيّر. إلا أن ريتشي يُظهر أن هذه الفرضية لا تتمتع بالقوة التفسيرية ذاتها؛ إذ إن الإيمان بإله خيّر يفسر دوافع البشر الأخلاقية، وقدرتهم على تمييز الخير من الشر، بطريقة أكثر انسجامًا مع التجربة الأخلاقية الواقعية للبشر.
ويصل الفصل إلى خلاصة مفادها أن التفسير الغائي لا يمكن أن ينجح في تفسير المعرفة الأخلاقية البشرية إلا إذا استند إلى وجود إله، يمتلك القدرة والحكمة والخير المطلق. مثل هذا الإله هو وحده القادر على تبرير وجود نظام أخلاقي موضوعي، وعلى تفسير السبب في امتلاك البشر أدوات معرفية – من عقل وضمير – تمكّنهم من إدراك هذا النظام. ومن ثم، فإن الإيمان التقليدي بإله لا يُعدّ خيارًا ميتافيزيقيًا فحسب، بل هو أيضًا ضرورة تفسيرية لسدّ الفجوة بين الوعي الأخلاقي والواقع الموضوعي للأخلاق.
الفصل الثامن
غرض بلا إيمان؟ مذهب الغرض الحسن والأفلاطونية المحدثة
يقوم ريتشي في هذا الفصل الأخير بمعالجة مسألة جوهرية في الفلسفة الدينية: وهى هل يمكن الحديث عن غاية ومعنى للكون دون الالتزام بفكرة وجود إله؟ ينطلق ريتشي من فحص مدرستين فكريتين تحاولان تقديم بديل للثيولوجيا الكلاسيكية هما: مذهب الغرض الحسن والأفلاطونية المحدثة، فكلاهما يسعى لتفسير وجود الكون وغايته دون الاعتراف بحقيقة وجود الإله. لكن ريتشي يرى أن كليهما يعاني من فشل في سدّ “الفجوة التفسيرية”.
يقوم مذهب الغرض الحسن على الفرضية القائلة إن الخير، بوصفه قيمة مطلقة، هو ما يفسر وجود الكون. وفقًا لمفكرين مثل جون ليزلي ورايس، فإن الكون موجود لأنه من الخير أن يوجد. وهكذا، فالعالم ليس نتيجة صدفة عمياء، بل ثمرة حتمية منطقية لقيمة الخير.
هذه النظرة – كما ينتقد ريتشي- تحاول تجاوز الحاجة إلى فاعل “شخصي” عبر القول إن القيمة المجردة (الخير) تملك قوة سببية بحد ذاتها. إلا أن ريتشي يرد بأن مجرد “كون شيئاً خيّراً” لا يفسر لماذا يجب أن يوجد، فالخير – حسب قوله- لا يملك في ذاته قوة تفسيرية، بل يظل بحاجة إلى سبب يفعله. وبالتالي، فإن مذهب الغرض الحسن يؤول إلى نوع من “التفسير الدائري”، حيث يُفترض أن الخير يفسر الوجود، لكنه هو نفسه بحاجة إلى تفسير وجوده كقوة فاعلة.
أما الأفلاطونية المحدثة، فهي تطرح تصورًا آخر للغائية دون إله، من خلال الإشارة إلى مبدأ كوني غير شخصي – “المصدر الأسمى” – الذي تتفجّر عنه الموجودات بوصفها إشراقًا ضروريًا منه. وفق هذا التصور، لا حاجة إلى إله “شخصي”، بل هناك مبدأ أول غير واعٍ بالمعنى البشري، لكنه يولّد الموجودات بشكل تلقائي من فيض كماله. لكن ريتشي أيضاً يرى أن هذا النموذج لا ينجو من الفجوة التفسيرية؛ متسائلاً ما الذي يجعل هذا المبدأ يفيض عن ذاته؟ ولماذا ينتج خيرًا دون غيره؟، مبيّناً أن محاولة إضفاء طابع الغائية على مبدأ غير واعٍ، تفضي إلى مفارقة: كيف يخلق غير العاقل نظامًا عقلانيًا أخلاقيًا غنيًّا بالقيم؟.
وبعد فحص هذين النموذجين، يعود ريتشي ليؤكد أن التفسير الثيولوجي التقليدي – أي وجود إله شخصي كلي القدرة والخير – هو الأكثر قدرة على سد الفجوة التفسيرية. فوجود إله يمتلك العلم، والإرادة، والخير المطلق، يوفّر أساسًا منطقيًا لفهم لماذا وُجد الكون، ولماذا يتسم بالخير والمعنى. فالإيمان الكلاسيكي –كما يسميه- لا يفسر فقط وجود الخير، بل يفسر لماذا الخير يملك قدرة سببية أصلاً، ويمنح التفسير بُعدًا غائيًا واضحًا، لأن له قصدًا في الخلق.
في نهاية المطاف، يرى ريتشي أن محاولات تأسيس الغاية دون ثيولوجيا تظل قاصرة، لأنها تُبقي القيمة والخير في مرتبة “مجردة”، دون أن تمنحهما القدرة على التأثير أو التفسير. فوحده الإيمان بوجود الله يملك المقومات التفسيرية الكافية لتبرير وجود الكون ووجود القيم الأخلاقية.
عرض:
أ. يارا عبد الجواد*
* باحثة في العلوم السياسية.