شمس العرب تسطع على الغرب

Title: Le Soleil d’Allah Brille sur L’Occident

Author: Sigrid Hunke

Place of Publication: Paris.

Publisher: Espaces libres, Albin Michel

Date of Publication: 1997.

Physical Description: 416 P., 18 cms.

نبذة عن الكاتبة:

سيجريد هونكه (1913-1999) كاتبة ألمانية نالت درجة الدكتوراه من جامعة برلين 1941، تخصصت في الكتابة عن الأديان. زارت المغرب عام 1957 مكثت به عامين ثم عادت إلى بون بألمانيا. عرفت بكتابتها المنصفة للدين الإسلامي ومن بينها هذا الكتاب الذي نُشر (1960) ونال شهرة واسعة بين معارضة له في أوروبا واحتفاء به في الشرق، فحظي بترجمة إلى أكثر من لغة. ولها كتابين آخرين عن بيان صورة الإسلام الصحيحة ترجما إلى العربية؛ الكتاب الأول بعنوان : “الله ليس كذلك” وهو دفاع عن صورة العرب والمسلمين والدين الإسلامي الذي شوهه الغرب عمدا في أذهان شعوبه، والثاني بعنوان: “الإبل على بلاط قيصر”، وهو خاص بالعلاقات العربية الألمانية بالتحديد ومافيها من تقارب.  

المقدمة:

لم يعد العالم هو أوروبا فقط، وتاريخ العالم لا ينحصر في تاريخ أوروبا. يتناول هذا الكتاب الحديث عن العرب، وحضارتهم التي أثرت الحضارة الغربية التي تدين لهم بالكثير.

ولا تعني الكاتبة العرق العربي فقط بل كل البلاد والشعوب التي امتدت إليها الفتوحات الإسلامية، من بلاد فارس والهند، والشام ومصر، كل الشعوب التي انضوت تحت ثقافة واحدة، ودين واحد، ولغة واحدة.

هذا العمل بمثابة الاعتراف بالجميل للثقافة العربية، وإظهار لأثرها المباشر أو غير المباشر على الحضارة الغربية، واعتراف كذلك بأثر كل من الحضارة الرومانية واليونانية القديمة، والحضارات الصينية والهندية وأثر اليهود فيما بعد. هو عرض لانصهار حضارات العالم في بوتقة واحدة، والتأثير المتبادل بينها، وهو ما استفادت منه الحضارة الغربية وطورته.

 

الكتاب الأول

النكهات اليومية

أسماء عربية وهبات عربية

يبدأ هذا الفصل بأسلوب حواري طريف بين اثنين يقدم أحدهما للآخر أنواع شتى من طعام وشراب وملابس وقطع أثاث ترجع في نطق أسمائها أو في ابتكارها إلى أصول عربية، وكذلك أنواع أقمشة تعود بمنشأها للحضارة الإسلامية، فضلا عن عقاقير ومستحضرات طبية اخترعها العلماء العرب.

الغرب الفقير بمنأى عن التجارة العالمية:

تبدأ الكاتبة باستدعاء حدث تاريخي في عام 973 وهو زيارة وفود العالم للإمبراطور الروماني هوتو لتهنئته بزواج ابنه الأمير؛ ووصول وفد أمير المؤمنين من الأندلس محملا بالهدايا القيمة، ثم تجول رئيس البعثة في المدن الصغيرة داخل الامبراطورية، ودهشته من وجود مختلف أنواع البهارات العربية التي تباع في متاجرها الصغيرة.

  ومن ثم الحديث عن حركة التجارة في الشرق والتي كانت تصل إلى أوروبا والقسطنطينية. ثم الفتوحات الإسلامية والتي واجهها الغرب بالصد والانغلاق أمامها، وبالتالي الانعزال عنها، مما أثر على أوروبا اقتصاديا واجتماعيا، فظهر فيها الفقر نتيجة لمقاطعة التجارة الشرقية.

وحدهم كان اليهود آنذاك هم التجار الذين ينقلون بضائع الشرق إلى الغرب والعكس. وكانوا يجيدون لغات عدة، ويعملون بالتجارة في بلاد الشرق والغرب، فكانوا بمثابة حلقة الوصل بين الشرق المسلم والغرب المسيحي.

وأصبح الغرب بمعزل عن تجارة شرقية مزدهرة، وصلت إلى بحر البلطيق، وشهدت العملات المعدنية العربية التي وجدت في أوروبا فيما بعد على ازدهار هذه التجارة. أما الفايكينج في شمال أوروبا، كانوا يتميزون بالجرأة والمغامرة، فكان ذلك سببا في وصولهم إلي دول قريبة من المشرق فأنشأوا مدنا مثل مدينة كييف وتعاملوا بالتجارة مع العرب، وجلبوا العديد من البضائع الأوروبية إلى التجار العرب مثل الفراء، وزيت كبد الحوت، وغيرها، واشتروا منهم الفضة والبهارات، وأفخر أنواع الأقمشة.

البندقية تكسر الحصار:

أدى تميز موقع مدينة البندقية، في البحر المتوسط بين الشرق والغرب، إلى اهتمام حاكمها بالتعامل مع تجار المشرق وتزويدهم بسفن محملة بالأخشاب لتتجه إلى شمال أفريقيا، والسواحل الآسيوية للبلاد الإسلامية على البحر المتوسط. ولكن هذا التعامل أثار غضب الامبراطور الروماني وأصدر قرارا بمنع تحميل الأخشاب والأسلحة. بيد أن تجارة البضائع الأخرى استمرت، وبدأ إنشاء (فندق) كما أسماه العرب، لاستراحة التجار العرب في البندقية، على غرار الفندق المقام للتجار الأجانب في مصر.

في مدرسة العرب:

بفضل التجارة مع العرب أنشئت مدنا خاصة بصناعة المواد الخام، في كل من ألمانيا وفرنسا وأدخلت صناعة المنسوجات من بضائع الشرق مثل القطن والحرير.

كما انتقلت إلى الغرب معلومات عن صناعة الورق التي برع العرب فيها منذ القرن الثاني عشر، واختلفت بين أوراق ثمينة استعملت لكتابة المصحف الشريف، وأوراق رقيقة يستخدمها العامة والتجار في معاملاتهم. وتنوه الكاتبة أن معظم العرب كانوا يعرفون الكتابة. وكانت أوراق البردي تاتي من مصر إلى ميناء مارسيليا. ثم حل محلها الأوراق المصنوعة من الكتان والقطن والتي تميزت برقتها ولونها الأبيض. وفي القرن الرابع عشر، انشأ الإيطاليون أول طاحونة لصناعة الورق، وتبعهم الألمان الذين استعانوا بالإيطاليين في بداية صناعتهم للورق. ثم بدأ الاهتمام في كل من الشرق والغرب بصناعة الآلات الكاتبة، واستعملت في الشرق لصناعة العملات الورقية، وألعاب الورق التي وصلت إلى أوروبا.

ويرجع استعمال البوصلة إلى المسلمين، حيث كان التجار المسلمون المتجهون إلى شرق آسيا يستعملونها على سفنهم، وانتقلت من خلالهم إلى التجار الصينيين، ومنهم إلى رحالة أوروبا.

وتعود كذلك فكرة الصاروخ، وهي انطلاق جسم بفعل انفجار، وهي الفكرة المستخدمة في إطلاق الصواريخ، إلى اختراع العرب الذين استعان بهم الصينيون خلال حروبهم مع المغول، وقد طورها العرب خلال حروبهم ضد الصليبيين. كما طور المسلمون صناعة الأسلحة المدفعية.

كما نقل الغرب كثيرا من مصطلحات الملاحة عن العرب، بفضل التجارة في البحر المتوسط.

واستخدم المسلمون الحمام الزاجل في نقل البريد أو تبادل المعلومات السرية، وانتقل هذا إلى أوروبا في أثناء الحروب الصليبية.

دخلت بعض الزراعات الجديدة إلى أوروبا عن طريق المسلمين، ومن ثم التعرف على طرق الري منهم، وطرق تقطير المياه.

ناهيك عن عادات النظافة الشخصية التي تحلى بها المسلمون، والتي كان يفتقدها الغرب إلى حد كبير (يصل إلى عدم الاغتسال إلا مرتين في العام، وارتداء الملابس حتى تبلى) في حين بنى المسلمون الحمامات العامة، واهتموا بتوفير الماء في المنازل للوضوء والاغتسال.

لا شك أن الغرب كان ينأى بنفسه عن الحضارة العربية، ولكن التجارة والحروب والسفر كانت عوامل أدت إلى انتقال مظاهر حضارة الإسلام إلى الغرب. 

 

الفصل الثاني

الترقيم الدولي المكتوب

إرث هندي

تأثر الألمان بطريقة نطق الأعداد باللغة العربية من اليمين إلى اليسار، وانتقلت الأعداد إلى أوروبا كلها، واعترف العرب باقتباس طريقة كتابة الأرقام من الحضارة الهندية.

تعرض الكاتبة طرقا مختلفة كانت تستعمل في كتابة الأعداد، في حضارات مختلفة، المصريين القدماء، بابل، اليونان، الرومان، الذين استخدموا الحروف الهجائية كرمز للأرقام، وكانت هذه الطريقة تزداد صعوبة كلما زادت قيمة العدد.

ثم يأتي درو العرب في الاستفادة من الأرقام الهندية واستعمالها والإضافة إليها، وعلى رأسهم الخوارزمي الذي ألف كتاب”الجبر والمقابلة”، وإلى الآن احتفظ علم الجبر بنفس الاسم في اللغات اللاتينية. وكتابه الثاني عن الأرقام الهندية، والعمليات الحسابية من جمع وطرح وضرب وقسمة، وما تلاها من علوم متقدمة ارتبط اسمها به وهي علم الـ”لوغاريتمات”، وسرعان ما شاع هذا العلم الجديد في أوروبا.

كما يعد إضافة الصفر من مخترعات الخوارزمي، حيث كانت الأعداد الهندية من 1-9 فقط، وإضافة الصفر أتاح التعبير عن الأعداد العشرية وما فوقها.

تاجر يعلم الغرب:

كان لتاجر في بلدة صغيرة في إيطاليا ابن شغوف بتعلم الحساب بجانب عمله بالتجارة مع أبيه، فأرسله أبوه ليتعلم على يد معلم عربي. فتعلم  “ليونارد” (وهو الاسم الذي اشتهر به) طرق الحساب بالأرقام الهندية، والعمليات الحسابية العربية، من كسور، ونسب، واستخدام الأس، والجذر، والمعادلات الحسابية، وعمليات التفاضل والتكامل منذ نعومة أظافره. وظل يطلع على مؤلفات العرب ويسافر إلى بلاد الشرق في تجارته ويتعامل مع العامة والتجار، ويروي ظمأه للعلم من العلماء؛ حتى ألف وهو في عمر الثالثة والعشرين كتابا باللغة اللاتينية كان سببا في ذيوع صيته، نقل فيه كثيرا من علوم العرب إلى الغرب. وحظى باستقبال وتكريم كبير من الامبراطور فريديريك الثاني.

معركة الأرقام:

في البداية لم يكن هناك ترحيب بالأرقام العربية خاصة في المعاملات التجارية، لا سيما التخوف من الرقم صفر الذي يمكن التلاعب في كتابته، وهو ماتم تداركه لاحقا بكتابة قيمة الأرقام بالحروف. في حين لاقت الأرقام العربية رواجا في ترقيم صفحات الكتب، وصك العملات، وغير ذلك من مناحي الحياة.

فاستمرت المعاملات بالأرقام الرومانية لفترة من الزمن، ثم حدث خلط بين استخدام الأرقام اللاتينية والأرقام العربية فترة أخرى، وكانت ألمانيا هي الاكثرحرصا على الحفاظ على الأرقام اللاتينية.

انتهت هذه المعارك الطويلة بسيادة الارقام العربية، وانقلب ظهر المجن على الأرقام الرومانية التي أصبحت ترمز للتكلف وعدم المرونة.

ولاقى استخدام الصفر معضلة في فهمه في أول الامر، فهو بحد ذاته لا قيمة له، ولكن له القدرة على إعطاء قيمة عشرات أو مئات أو أكثر من ذلك إذا وضع بجانب الرقم من جهة اليمين.

وانتقل علم الحساب والرياضيات من أديرة إيطاليا التي كانت تغلق العلم داخل جدرانها، وتجارها إلى تجار أوروبا من فرنسا وألمانيا وانجلترا وغيرها، ونالت انتشار أوسع بعد اختراع المطابع.

وما زال نطق الأرقام بالألمانية شاهدا على تأثرها بالثقافة العربية، حيث ينطق الآحاد قبل العشرات، وهو ليس الحال في باقي دول أوروبا. وسرعان ما ساعدت الأرقام على تطور العلوم كآفة، بل وتقدم الصناعات والتجارة بين مختلف شعوب العالم.

الفصل الثالث

السماء فوق رؤوسنا

أبناء موسى الفلكي الثلاث

اشتهر العرب بعلمهم بحركات النجوم ومواقعها، وعلوم الفلك، وذلك لعيشهم في الصحراء، واعتمادهم على مواقع النجوم لتحديد تحركاتهم مع قطعانهم من الأغنام. وممن اشتهر بهذه العلم كان موسى بن شاكرالذي صار مقربا من الخليفة المأمون وأبنائه الثلاثة من بعده.

وباعتراف الغرب لم يكن هذا العلم موجودا في أوروبا، ويدينون فيه بالفضل للباتاني وثابت بن قورة. وظل الحال هكذا حتى أن أسماء النجوم وبعض المصطلحات الفلكية احتفظت بأصول أسمائها العربية.

وكان الاهتمام كبيرا بدراسة الفلك في عهد كل من الخلفاء المنصور وهارون الرشيد، وابنه المأمون الذي اهتم كثيرا بالعلماء وقربهم من قصره تحت رعايته، ومنهم أبناء موسى الفلكي: محمد بن موسى الذي برع في الفلك، وأحمد بن موسى الذي تميز في الآلات، وحسن بن موسى الذي تخصص في الهندسة.

وتهتم الكاتبة بذكر تفاصيل خاصة بنشأتهم تحت رعاية خليفة المسلمين المأمون. وتذكر أن اهتمامها بهذه التفاصيل يوضح المكانة التي أولاها أولي أمر المسلمين للعلم والعلماء في شتى المجالات. ملفتة إلى المفارقة الفادحة عن حال العلماء في الغرب في العصور الوسطى الذين كانوا يتهمون بالزندقة ويحاكمون بل ويعدمون لتقديمهم اكتشافات عن الكون لم تكن معروفة من قبل.  

وترجع الكاتبة اهتمام العرب بعلوم الفلك إلى أنهم يرون فيها دلائل قدرة الله وعظمة خلقه في السماء وأجرامها، وأن هذا مدعاة لليقين، وترسيخ العقيدة الإيمانية بالله عز وجل.

وتسترسل الكاتبة في ذكر المجالات التي برع فيها أبناء موسى بن شاكر، وما أهَّل كل منهم لذلك، سواء موهبة حباه الله بها، أو ما توفر له من إمكانيات ورعاية خاصة من الخليفة. وتورد كل ما تميز به كل أخ منهم، وتأثيره الذي امتد إلى الغرب.

وبعد فترة من انعزال الغرب أبدى أحد ملوك أوروبا، وهو الملك الفونس العاشر الملقب بألفونس الحكيم الذي كان معاصرا للحقبة الأندلسية، اهتماما بما توصل إليه العرب من علوم واختراعات وابتكارات، ولم يكن يرى بأسا في استعمال ما توصل إليه (الأعداء) من آلات وعلوم.

علم التنجيم:

لم تشهد العصور الوسطى في الغرب اهتماما بعلوم النجوم والسماء، لكنها اقتصرت على معرفة الأعياد الكنسية لحساب مواعيدها المتغيرة. وفي حين كان الغرب والكنيسة يبتعدان عن دراسة النجوم والسماء ويرون في ذلك خطرا على الدين، كان العرب يسارعون لدراسة العلوم التي يجدون الحث على تعلمها في القرآن الكريم، فبحثوا في علوم الفلك والنجوم.

إلا أن الفرس الداخلون في الإسلام حديثا كان لديهم علوم خاصة ورثوها من أجدادهم عن التنجيم وهو التأثر والتطير بمواقع النجوم والأفلاك.

الفصل الرابع

الأيدي المعالجة

علم الطب المذهل

كان رجال الدين المسيحي في العصور الوسطى يعتقدون أن التداوي من الأمراض يعتبر نقصا في الإيمان، فكانوا يرفضون الأخذ بالأسباب ويكتفون بالدعاء للمريض. وكان هذا جزء من تأثير الكنيسة الغربية التي كانت تعتقد أن المرض جزاء للمعاصي التي ارتكبها المريض، وكانت تستوجب أن يعترف المريض أمام الكاهن قبل أن تقدم له أي مساعدة طبية!  

ولم يكن في الغرب أي مشافي، بل فقط دور إيواء للمرضى دون تقديم أي علاج، كما تضم هذه الدور المسنين والفقراء والأطفال ممن لا مأوى لهم. ولم يتم إنشاء أي مستشفيات في الغرب إلا بعد الحروب الصليبية التي اطلع من خلالها الغرب على التقدم الطبي لدى المسلمين. وفي بداية إنشائها كانت تكتظ بالمرضى، لا تفصل بين المصابين سواء بأمراض بسيطة أو مستعصية، تجمع الأطفال مع البالغين، والنساء مع الرجال. وتقدم تغذية ضعيفة وغير منتظمة مما يعرض حياة الكثيرين للخطر.

مستشفيات وأطباء كما لم يشهد العالم من قبل:

أما في المشرق العربي فإن المشافي كانت معروفة منذ القرن العاشر؛ ففي قرطبة وحدها تم حصر خمسين مستشفى بها كل المواصفات الصحية المثالية: استقبال للمرضى، وحجز من تستدعي حالته، وتقديم العلاج الفوري المناسب، الفصل بين الرجال والنساء، وتوفير المياه النظيفة الصحية للاغتسال والوضوء، وتقديم الطعام الصحي. كما تم تقسيم المستشفى إلى تخصصات طبية مختلفة. وجدير بالذكر أن اختيار أماكن المستشفيات كان يتم بعناية وتبعا لمواصفات صحية خاصة.

ووثّق التاريخ أن سلاطين العرب مثل صلاح الدين والسلطان قلاوون كانوا يتابعون ببالغ الاهتمام إقامة المستشفيات، ويحرصون أن تكون على غرار قصورهم، وأن تناسب علية القوم كما تناسب عامة الرعية دون تمييز. وكان يتوفر فيها الهدوء والجو الصحي، وتقديم الدواء والطعام.

كانت تُصنع العقاقير الناجعة في دمشق، وكانت أعظم المستشفيات تلك التي في مصر في عصر السلطان المنصور قلاوون وهو “المستشفى المنصوري”، الذي اختار مكانها بدقة الطبيب الأشهر ابن سينا. فضلا عن استحداث الخدمات الطبية المتنقلة، وتوفير خدمة التمريض داخل السجون على يد ثابت بن سنان وسنان بن ثابت ابن وحفيد ثابت بن قورة عالم الفلك.

جدير بالذكر أن كل هذه الخدمات الطبية كانت تقدم مجانا، وأن تمويل المستشفيات كان يتم من خلال إيرادات أراضي خاصة بهذا الغرض تحديدا، ومن ضمن الخدمات المقدمة توفير الغذاء والملابس.  ولم يكن هناك تهاون إذا قلت تلك الإيرادات، فكان يعين مشرف مشهود له بالكفاءة لإدارة هذه الأراضي. أما الإدارة الطبية فكانت لكبير الأطباء الذي يتم اختياره من قبل أقرانه، ويشهدون له بالكفاءة والتميز. ويعمل معه أطباء من التخصصات كافة (جراحة، أعصاب، أمراض باطنة، رمد، وغيرها).

وتحتفظ الوثائق بوصف دقيق للمستشفيات، ووصف مهام كبير الأطباء اليومية، ومنها بعد المرور على المرضى وتقرير العلاج الخاص بكل منهم ، الإعداد للمحاضرات التي يلقيها على طلبة الطب الذين كانوا يستمعون إليه وسط مكتبة طبية ضخمة، تزخر بمختلف المراجع الطبية داخل المستشفى. فكانت المستشفى تعد بمثابة كليات الطب اليوم حيث تجمع الطلبة والأطباء لدراسة ومناقشة الحالات المختلفة. خلاف حلقات الدروس الطبية التي كانت تعقد في أروقة المساجد، والمدارس الطبية الخاصة، ومن ثم تكوّن مجتمع طبي كبير ومتميز لم يكن له مثيل في العالم أجمع. كما أنشئت هيئة تسمى ديوان الأطباء في بغداد مختصة بإصدار رخصة مزاولة المهنة للأطباء بعد اختبارهم، كان يوكل رئاستها لأمهر وأشهر الأطباء.

وتفصّل الكاتبة التطور الطبي في إجراء العمليات الجراحية، على يد أكبر الجراحين، يرافقه طبيب مختص بالتخدير، وهو ما لم يكن معروفا في الغرب على الإطلاق، وطبيب آخر لمراقبة النبض، وهو أشبه بما يجري في وقتنا هذا. ومن أشهر الجراحين في ذلك الوقت “علي بن عباس”. ومن أشهر علماء التحاليل هو”إبراهيم بن ثابت بن قورة” والذي كان يتوصل من خلال تحليل البول في ذلك الوقت إلى كثير من الإشارات الدالة على الحالة الصحية للمريض.

أحد أكبر أطباء العالم.. انتقال العلم إلى الغرب:

هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (نسبة إلى مدينة الري الواقعة في خراسان إيران الآن)، اتجه وهو في عمر الثلاثين إلى بغداد وكان شغفه هو دراسة الطب فدرس علم الطب اليوناني، والفارسي، والعربي، وبعودته إلى مدينته تولى منصب رئاسة المستشفى المقام بها. وذاع صيته لبراعته الطبية، وشاع حبه في قلوب الفقراء من المرضى اللذين كان يقدم لهم العلاج مجانا.  

وترك كنزا من المخطوطات الطبية، هي أكبر ما تركه عالم على الإطلاق. وتنم مخطوطاته عن بالغ اهتمامه بالظروف الصحية الملائمة للمريض من حيث حرارة الغرفة، ونظافة المكان، وعدم الإسراف في إعطاء العلاج.

من اللافت أن الرازي كان عالم كيمياء أيضا، وقد سخر علم الكيمياء لخدمة الطب، فكان يجري التجارب على الحيوانات ليختبر الدواء قبل إعطائه للمرضى.

وعلى صعيد العلاج النفسي تقدم الأطباء العرب، وعلى رأسهم الرازي، فعالجوا المصابين بأمراض عقلية، وتم تخصيص أقسام لاستقبالهم وإقامتهم؛ وكان السلطان بنفسه يطمئن على ظروف إقامتهم. بينما كان الغرب يعتبر المصابين بهذه الأمراض بهم مس من الجن فكانوا يعذبونهم ليخلصونهم من المس على حد اعتقادهم، ويحبسونهم في سجون تحت ظروف قاسية حتى الممات.

قيود الماضي:

وضع أحد علماء اليونان القدماء “جاليان” تصورا عن مسارات الدم داخل جسم الإنسان، وتلاه أحد علماء انجلترا في القرن السابع عشر بوضع كتاب عن الدروة الدموية داخل القلب، متأثرا كثيرا بتصور جاليان.

ولكن في بداية القرن العشرين، تم اكتشاف مخطوطات تؤكد أن العالم العربي المسلم “ابن النفيس” –في القرن الثالث عشر – كان أول من صوَّب الأخطاء العلمية التي وقع فيها جاليان،  وكان أول من تخلص من تأثير وصفه للدورة الدموية. ووضع بدوره وصفا دقيقا ومحددا للدورة الدموية الصغرى (بين القلب والرئتين). ويعتبر أعظم من أُلف في هذا المجال. وقد تعلم ابن النفيس من كتب الرازي وابن سينا، وأصبح كبير الأطباء في المستشفى الناصري بالقاهرة في عهد صلاح الدين، وبرع كذلك في علوم النحو والصرف والفلسفة والقانون.

الانطلاق إلى آفاق جديدة:

كان لابن سينا الفضل في اكتشاف وتشخيص بعض الأمراض، والتفريق بين المتشابه منها، وتبعه الطبري -تلميذ الرازي- في اكتشاف بعض الأمراض. ويدين الطب لابن سينا بالفضل في اكتشاف أول حالة مرض سرطاني، واكتشاف علاج للجذام، الذي كان يعتبره الغرب لعنة، تستوجب التعذيب للمصابين به. كما تعرض الكاتبة أساليب تعامل الغرب مع وباء الطاعون، وهي أساليب اتسمت بالجهل وعدم إعمال العقل. في حين أن العرب استعملوا المنطق والعلم في التعامل مع هذا الوباء، ومنهم أحد علماء الأندلس، الوزير ابن الخطيب الذي قدم تقريرا عن طرق انتقال العدوى بالتفصيل والإقناع.

وتتحدث عن أشهر جراحي العرب وهو أبو القاسم الزهراوي، الذي أدخل عدة تدخلات جراحية لعلاج عيوب خلقية، أو لإجراء عمليات ولادة، واختراع مواد تخديرية لإجراء تلك العمليات.

الكتب تصنع التاريخ:

يعتبر كتاب الرازي “الهاوي” من أهم الكتب في الطب، وكان عبارة عن افكار وملاحظات دونها العالم عن كل أفرع الطب، فقام علي بن عباس الطبيب المعالج للسلطان عضد الدولة، بتقسيمها وتبويبها، وحمل الكتاب اسم “الكتاب الملكي”.

كما ألف ابن الجزار كتاب “دليل الفقراء” وهو كتاب متخصص في الممارسات الطبية، والف أبو القاسم الزهراوي كتابا عن الجراحة سماه “التصريف”. وألف ابن زهر كتاب “التيسير” عن علم التشريح.

ويعد أكبر المؤلفات وأهمها على الإطلاق هو كتاب ابن سينا الذي جمع فيه شتى أفرع الطب، وكان كتابه يدرَّس في جامعات اوروبا، فهو بلا منازع معلم الطب في الغرب. وتحتفظ جامعة باريس في أحد مدرجاتها بتمثالين لكل من ابن سينا والرازي.

صحوة الغرب:

كانت جامعة سالرن في إيطاليا هي واحة الطب في الغرب،  حيث كان يقصدها طلبة العلوم الطبية من كل مكان، وتقول الأسطورة المتداولة عن الجامعة أن من مؤسسيها عالم عربي يقال له “عبد الله”، وثلاثة آخرون أحدهم يوناني، والثاني لاتيني، والثالث يهودي؛ فكانت مجمعا لعلوم الطب. وقام الأطباء الغربيون بترجمة أمهات الكتب الطبية العربية ليدرسوها في جامعتهم. ومن أهم الكتب المترجمة لللاتينية الكتاب الملكي للعالم العربي علي بن عباس الذي جمع فيه كتاب الرازي وبوَّبه.

واطلع الغرب من خلال الحروب الصليبية،على طرق العلاج بالجراحة، ونقلوها إلى بلادهم.  وكان أكثر ما انبهروا به هو استخدام العرب للتخدير قبل العمليات الجراحية لوقاية المريض من الألآم المبرحة.

وفضلا عن ترجمة كتب الطب العربية، اتجه بعض علماء الغرب إلى تعلم اللغة العربية من أجل دراسة كتب الرازي، وابن سينا.

آثار العبقرية العربية:

لم يكن هناك فصل بين علم الطب وعلم الصيدلة في السابق؛ ولم ينشأ الاحتياج إلى هذا العلم الاخير إلا بعد أن زادت الوصفات العلاجية، وتعددت طرق تركيبها. وجدير بالذكر أن العرب أضافوا الكثير لهذا العلم واستبدلوا العقاقير اليونانية التي وصفها جاليان ذات الآثار الجانبية التي تصل إلى السمية في بعض الأوقات. واعتمدوا كثيرا على الوصفات العشبية الآمنة.

ومن أشهر مؤلفات علم الدواء كتاب “القانون” لابن سينا. كما ألف ابن البيطار كتابا ضم اكثر من الف وأربعمائة عقار طبيعي، وهو الكتاب الذي انتشر في ربوع الدولة الإسلامية.

ومما ساعد على تطور علم الدواء، هو علم الكيمياء الخاص بتفاعل المواد وانصهار المعادن، وبفضله توصل الرازي إلى عقاقير لم تكن موجودة في الطبيعة. كما تغلب على الطعم غير المحبب لبعض العقاقير بإضافة العسل أو السكر، وكان أول من اخترع تصنيع الأقراص. وكان العرب أول من استعمل المضادات الحيوية في علاجات الجلد والجروح. ومع زيادة التركيبات والتحضيرات، نشأ علم صناعة الدواء وكان العرب أول من زودوا المستشفيات بصيدليات لتسهيل علاج المرضى.

وانتقل علم الدواء من العرب إلى الغرب عبر التجارة مرورا بالبندقية وسيشل، وقام المترجمون الغرب بترجمة أعمال المسلمين مفاخرين بالنقل عن علماء بهذه القامة. حتى أنهم عندما بدأوا بتأليف كتبهم الخاصة، كان العلماء الغرب يضعون أسماء عربية على كتبهم ليضيفوا لها قيمة، وليضمنوا حصولها على القبول في المجتمعات العلمية.

وبحلول القرن الخامس عشر كانت جامعات انجلترا وفرنسا تدرس كتب العلماء العرب في علم الدواء، وتأثرالغرب كثيرا بالمنهج العلمي الذي اتبعه علماء المسلمين الذي كان بمثابة شرارة الانطلاق للدفعة العلمية الحديثة في الغرب.

الفصل الخامس

سيوف الروح .. الفتوحات

المعجزة العربية

تتساءل الكاتبة عن الأسباب التي جعلت الحضارة العربية تتطور هذا التطور السريع، وتمتد من الشرق إلى الغرب، وتظل متربعة على عرش الثقافة والعلوم لأكثر من ثمانية قرون. رغم وجود الحضارات العريقة القديمة.

وتفند الكاتبة ادعاءات الغرب بأن العرب انطلقوا من الصحراء بحثا عن سعة الرزق، وهي تنفي هذا، لأن العرب كانوا يتقاتلون فيما بينهم للبقاء في المكان الأكثر كلأ ، إلى أن جاء الإسلام وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فأصبحوا يقاتلون في سبيل الله وفي سبيل إنقاذ العالم من ضلال الشرك، فاتحين القلوب قبل البلاد من حسن سيرتهم والعدل الذي عرف عنهم. رغم قلة عددهم كانوا يواجهون أعتى جيوش العالم من الفرس والروم، فيرثوا أرضهم وعلومهم ويضيفون إليها. حتى أن وصولهم إلى الأندلس كان بطلب من حاكمها ليتخلص من ظلم الرومان واستعبادهم، فاستقبلهم أهلها بكل ترحاب، فظلوا فيها وأنشأوا حضارة الأندلس التي استمرت عدة قرون.    

ومن أعجب ما تشير إليه الكاتبة أن العرب لم يعمدوا إلى تحطيم أي من آثار البلاد التي فتحوها، على عكس ما روج له الغرب، بل كان من أبرز ما عرف عنهم الرحمة والإنسانية في التعامل مع أعدائهم في الحروب، ومع غير معتنقي دينهم في البلاد المفتوحة، واحترام دور عبادتهم والحفاظ على ثرواتهم.

الغرب في سبات عميق:

على الرغم من مظاهر التقدم العلمي والأدبي في أوروبا، إلا أنها لم تلبث أن انتهت بسبب الحروب الضارية بين ملوك أوروبا التي كانت تجهز على اي مظاهر تقدم.

ومن ناحية العقيدة فإن ملوك أوروبا المسيحيين كانوا يقمعون كل ما يمت للوثنية بصلة، من إحراق معابد، ومطاردة العلماء، وإحراق المكتبات مثل مكتبة الإسكندرية، التي كانت تضم كتبا تراثية ذات قيمة كبيرة، وإغلاق مدارس الفكر الفلسفي في روما، ومنع تدريس الرياضيات!

أما العرب عندما فتحوا البلاد  فإنهم أمنُّوا الناس في عباداتهم، وحافظوا على دور العبادة، سواء للمسيحيين أو اليهود، ولم يمسُّوا أي من موروثاتهم الثقافية. وبشهادة أحد قساوسة القدس، كتب يقول: “إنهم يعدلون، ولا يظلموننا، ولا يتعرضون لنا بأي أذى أو عنف”. وكانوا يضمنون لغير المدينين بدينهم كل الحرية الدينية والمدنية، نظير مبلغ يدفعونه (الجزية) ومقابل ولائهم وطاعتهم للخليفة. ولم يجبروا أحدا على اعتناق الإسلام، ولكن أهل البلاد هم من دخلوا في الإسلام طواعية حبا فيما جاء به المسلمون. وكان الفاتحون ينفذون وصايا النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل والرحمة والتسامح، فملكوا قلوب أهل البلاد المفتوحة حتى وإن ظلُّوا على دينهم، فكانوا يسمون أبناءهم بأسماء عربية، ويتباهون بانتمائهم لبلاد يحكمها المسلمون. واهتموا بتعلم اللغة العربية، حتى أن الكنيسة اضطرت لترجمة الإنجيل باللغة العربية لمسيحيي إسبانيا في ظل حكم المسلمين. وأصبحت اللغة هي رمز للمسلمين الذين انتشروا في ثلاث قارات في غضون قرن واحد من الزمان، وأضافوا بلغتهم لشتى مجالات الحياة. حتى أن اللغة والثقافة العربية قد تركت بصمتها على التتار بعد دخولهم في الإسلام.

وكانت مكتبات المسلمين تضم كتبا للعلماء من شتى الانتماءات، ومن جميع الديانات، اللذين تكاتفوا جميعا لإرساء قواعد الحضارة الإسلامية.

طلب العلم عبادة:

حثت آيات القرآن الكريم على التدبر والتفكر في خلق الله لأنه طريق للإيمان بالله وحده. ومن أهم ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم، هو طلب العلم.

بينما في الغرب كان الكهان يقولون أن حكمة العالم ماهي إلا جنون في نظر الرب! بون شاسع بين مفهومين وبين عالمين.

وتورد الكاتبة صورة بلاغية جميلة عن ربيع الحضارة العربية الذي أظلَّ العالم بوافر الزهور والثمار بعد جدب الشتاء الطويل الذي ساد أوروبا.

ومن مظاهر الإسلام الفتي هي تصديه لكل جديد بالعلم، سواء في العلوم الدينية عن طريق ظهور مدارس الفقه، أو كل ما يستجد من علوم الطب، والفلك، والرياضيات، فاتحا المجال لكل طالب علم، ينهل من فيضه السائغ،  ليس علما مقصورا على طبقة الكهان كما كان الحال في الغرب.

إنقاذ تاريخي وعالمي:

إنه إنقاذ العرب للكتب. حب العرب للكتب لم يخف يوما على أحد؛ فبينما كان ملوك أوروبا – بعد النصر على الأعداء- يطالبون الطرف المنهزم بتسليم الأسلحة والسفن الحربية، كان قادة العرب يطالبون يتسليم الكتب. فها هو هارون الرشيد، عند فتح عمورية وأنقرة، يطلب تسليم كل المخطوطات اليونانية القديمة، كما طلب الخليفة المأمون عند انتصاره على البيزنطيين، تسليم كل كتب الفلاسفة القدماء التي لم تكن ترجمت بعد.

 فكانوا هم من أنقذ تراث العلم والمخطوطات التي لم ير فيها كهنة الغرب سوى هرطقة أو زندقة ليس لها إلا الحرق! فكان الخلفاء يبعثون وفودا للبحث عن التراث العلمي والفكري الإنساني، في شتى بقاع الأرض.

الترجمة، عمل حضاري:

لم يحتفظ العرب بالمخطوطات والكتب في متاحف خاصة، ولم تكن قاصرة على تعليم نخبة من العلماء، بل أصبحت في متناول كل شغوف بالعلم وذلك بفضل ترجمتها إلى لغة القرآن الكريم. وكان كل مسلم على أرض الدولة الإسلامية المترامية الأطراف حريص على تعلم لغة القرآن ليتلوه، ومن ثم أصبح بمقدور الجميع الاطلاع على خفايا العلوم، فكانت الترجمة من أسباب ازدهار الحضارة العربية.

بدأ الأمر على يد أحد الأمراء الأمويين الذي أمر بجمع العلماء العرب واليونان من مصر، وأوكل لهم ترجمة أعمال اليونان القدماء، وتبعه في ذلك خلفاء الدولة العباسية. ثم توسعت أعمال الترجمة لتنقل عن الهندية والفارسية. وكان الخليفة هارون الرشيد يأمر بافتداء الأسرى بمخطوطات من بلدانهم ليتم ترجمتها. وفي عصر المأمون ومن تلاه من الخلفاء، كان أبناء موسى بن شاكر الفلكي يهتمون بالترجمة بجانب ولعهم بالعلوم المختلفة كما أسلفنا في فصل سابق.

وكان حنين بن إسحاق بعمر السابعة عشر يتقن أربع لغات وهي: الآرامية،واليونانية، والعربية، والفارسية. واطلع على أهم الكتب العلمية باللغة اليونانية القديمة، وترجم إلى اللغة العربية ما كلفه به محمد بن موسى الفلكي، واستعان بمترجمين ليتم المهمة الموكلة إليه.

ولم يقتصر على الترجمة العلمية فقط بل اهتم كذلك بترجمة كتب الفلسفة، والرياضيات، والفلك، وكان مُلمًا بشتى أنواع العلوم. وتميزت ترجماته بشروح لما يُلغز من المعلومات العلمية.

وبفضل الترجمة إلى العربية تم الاحتفاظ بالعلوم التي وردت في كتب الحضارات القديمة.

الشغف بالكتب:

كان هناك ولع لدى العرب باقتناء الكتب، في الفترة مابين القرن التاسع والقرن الثالث عشر، حيث كانت تقيّم مكانة المرء بما يقتني من كتب.

وأُقيمت مكتبة في بيت الحكمة وهو أول دار علمية أقيمت في عمر الحضارة الإسلامية، في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد. وأُنشئت المكتبات العامة وأصبح متاحا القراءة والاستعارة، وخصص مكان لأعمال الترجمة والنسخ.

كل مسجد كان به مكتبة، كل مستشفى كان يقتني كتبا علمية لتعليم الدارسين. بينما كان الغرب يقيد الكتب بسلاسل في الأديرة نظرا لندرتها، ولعدم السماح للعامة بالاطلاع عليها.

من أكبر المكتبات : مكتبة بغداد، ومكتبة والي مصر الفاطمي، حيث كانت تتوزع مكتبته في ثماني عشرة غرفة في القصر الحاكم، وتقدر بمليون وستمائة ألف مجلد. وكانت العواصم العربية تفاخر بأعداد الكتب المنسوخة يدويا!

وبناء عليه زاد عدد العاملين بأعمال الكتابة وصناعة الورق. وظهرت وظيفة جديدة وهي أمين مكتبة، وظيفة ظلت قاصرة لوقت طويل على بلاد المسلمين.

وكتب ابن النديم “فهرس العلوم” وهو فهرس لكل الأعمال المكتوبة والمترجمة، وكتب له مقدمة موجزة، كما أضاف هوامش بجانب كل كتاب، بها نبذة عن المؤلف وعن أمين المكتبة المختص بحفظ الكتاب.

شعب يتعلم في المدارس:

كانت الأمية تصل في الغرب إلى 95 % في الفترة من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر، ولا يقرأ الإنجيل إلا الكهنة ويرتلونه باللغة اللاتينية التي أصبحت غير مفهومة لمسيحيي الغرب. أما العرب فكانوا يهتمون بتعليم أبنائهم القرآن الكريم منذ نعومة أظافرهم، ومبادئ النحو والصرف، في مدارس – أهلية –  تضم صغار البنين والبنات، في أرجاء العالم الإسلامي.

في أسبانيا (الأندلس) حاضرة العلوم والفنون، كان التعليم المجاني في المدارس الابتدائي، وكانت الدولة تتكفل بأجور المعلمين. وأنشأ الحكم الثاني في الأندلس 27 مدرسة جديدة للفقراء، وأنشأ المنصور قلاوون في مصر قسم داخلي خاص في المستشفى المنصوري لتعليم الأيتام، وكان يأمر بصرف الطعام والملبس لهم.

ولاستكمال التعليم، كان الدارس يتجه إلى المسجد حيث حلقات العلم، ليتلقى القسط الأوفر من التعليم على يد علماء متخصصين.

كان العلم يلقن شفهيا من أبرز العلماء الذين كانوا يأتون من أنحاء العالم الإسلامي كافة، سواء في مواسم الحج، أو في مساجد الحواضر الكبرى مثل الأزهرفي مصر، والقيروان والزيتونة في بلاد المغرب العربي، وعواصم الثقافة العربية دمشق وبغداد.

 ومن سمات التعلم الشفهي، الأمانة العلمية المشهودة، التي كانت تضمن نقل النص بالتواتر ليبلَّغ عن قائله الأصلي، ولا يدعي أي شخص لنفسه فضل ما لا يخصه.

 هدايا للغرب:

من غير الإنصاف أن يقال أن العرب كانوا ناقلي حضارة اليونانية والرومانية فقط، بل هم أصحاب السبق والفضل في العلوم الطبيعية مثل: الطب، والفيزياء، والكيمياء التجريبية، والجبر، والحساب، والجيولوجيا،والفلك، والعلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع. بل لنقل إنهم أصحاب الفضل في إقرار المنهج العلمي القائم على التجربة والملاحظة.

ومن المنصفين في الغرب الذين لم ينكروا فضل العرب على الحضارة الإنسانية هو إمبراطور ألمانيا فريدريك الثاني.

الفصل السادس

همزة الوصل بين الشرق والغرب

الدولة النورماندية: مملكة بين عالمين

ظلت صقلية جزءا من العالم الإسلامي لمدة قرنين من الزمان. وقد أقام فيها المسلمون حياة مزدهرة وأدخلوا فيها زراعة محاصيل لم تكن موجودة من قبل، حتى تم غزوها على يد روجير النورماندي، -وكان يطلق لقب النورمانديين على السلالة المسيحية من الفايكينج- فأصبحت صقلية هي عاصمة المملكة النورماندية التي امتدت لتضم إيطاليا، وليتوج الملك في روما.

ومع الغزو النورماندي لها اضطر كثير من العرب ترك صقلية والتوجه إلى جزيرة إشبيلية في إسبانيا.وظلت بها بعض الأسر العربية.

ولكن سرعان ما تغلبت مظاهر الحضارة الإسلامية على غزاتها اللذين انبهروا بجمال ورونق هذه الجزيرة من عمارة وزراعة، فتأثرت عمارتهم بالطراز الإسلامي، وتأثروا بالعادات والتقاليد العربية الإسلامية، حتى انهم كانوا يترددون على مدارس المسلمين وحماماتهم، وأسواقهم.

وتميز النورمان بالتسامح، على عكس باقي أوروبا المسيحية. وتلفت الكاتبة أن سلوك النورمان على ذلك النحو يذكر بشهامة العرب وتسامحهم مع الأمصار المفتوحة، حيث كانوا يؤمنونهم على أرواحهم ومعتقداتهم وممتلكاتهم، وكان لذلك أثر على ازدهار حضارة النورمان.

فكان الملك روجيه الثاني يولي ثقته للعرب ويعين منهم كبار موظفيه في القصر والجيش، واستحدث رتبة في الأسطول هي “الأميرال” واللفظ مأخوذ من اللغة العربية “أمير الرحل”. وكان أول من حمل هذا      اللقب عربي تحول إلى النصرانية هو عبدالرحمن النصراني واتخذ اسم “كريستولودوس” وخلفه أمير عربي آخر هو جورج الإنطاكي الذي كان وزيرا للمالية في حكم المهدية في تونس، ثم انتقل لخدمة ملك النورمان.

وكان الملك روجيه الثاني يستقبل أهل صقلية المسلمين في قصره، ويقبل مشورتهم، ويستقبل الشعراء والعلماء العرب ويكلفهم بترجمة الكتب العربية إلى اللغة النورماندية. كما كان يقف في صف المسلمين في أكثر من خلاف مع المسيحيين في الجزيرة؛ فنظم الشعراء المسلمون قصائد في مدحه وقصائد رثاء في موت أولاده.

ولاهتمامه بمعرفة حدود ملكه الذي ضم صقلية وإيطاليا، عين العالم الجغرافي العربي الإدريسي لرسم خريطة لمملكته. وتشير الكاتبة إلى أهم مؤلفات الإدريسي وهو الأطلس الجغرافي الذي صور ثلاث قارات، وأقر بأن الارض كروية. وتلفت النظر إلى أنه لم يكن الوحيد في هذا المجال، فقد شهد علم الجغرافيا انطلاقة كبيرة من خلال أسفار الرحالة العرب إلى إسبانيا والصين، وآسيا الوسطى، وذلك قبل أربعمائة عام من انطلاق رحلة ماركو بولو. وتشيد الكاتبة بأن معلوماتهم كانت تستمد من الواقع ومن الملاحظة الشخصية (سمات المنهج العلمي)، ومن أبرز الرحالة العرب ابن بطوطة الذي استمر في ترحاله أربع وعشرين عاما قبل ان يرجع إلى موطنه.

وجاء بعد روجيه، الملك جويوم الذي استمر على نهج سلفه في تولية الثقة للمسلمين، واستعان منهم بالأطباء وعلماء الفلك، كما عين منهم الوزراء وكبار موظفي القصر. حتى أنه كان يقرأ ويكتب بالعربية، واعتنق كثير من رجال قصره الإسلام، وتأثرت نساء صقلية بعادات المرأة المسلمة من تغطية الوجه، والتحدث باحتشام.

توحيد قلوب شعوب متفرقة:

ثم جاء خلفا له الملك فريديريك، الذي نشأ في صقلية – يتيما في كنف جده روجيه الثاني- بين شعبين مسلم ومسيحي، فتأثر بكل منهم وكان لذلك اثر في سعيه للصلح بين المسلمين والمسيحيين في حروبهم على الأرض المقدسة. حتى قيل إن علاقاته الحسنة مع أمراء العرب قد كانت كفيلة بحقن الدماء المسيحية في الحروب المقدسة.

كان فريديريك يتشبه كثيرا بسلاطين المسلمين في كل من بغداد والقاهرة، فكان يحافظ على نفس التقاليد، نفس الذوق، ونفس الشغف بالعلم، والحرص على حقن الدماء. فكان متأثرا كثيرا بنشأته في قصر جده في صقلية، حيث مظاهر الحضارة الإسلامية في شتى مجالات الحياة،  فتعلم اللغة العربية والرياضيات العربية، بجانب لغته الأم، ويذكر أنه كان يتقن تسع لغات.

وسمح للمسلمين من شعبه بالعيش في أماكن تجمعهم مع عائلاتهم، وكانوا يؤدون شعائرهم في مساجدهم، ويجتمعون في المسجد الكبير في شهر رمضان. فكانت مدينتي لوسيرا وجيروفالكو ذواتا طابع وسكان مسلمين، مما حدا بهذه الرعية المسلمة بالإخلاص لمليكهم قلبا وقالبا، فأوكل إليهم أهم المناصب في قصره وحرسه وجيشه.

تشييد على طراز عربي:

اهتم فريديريك الثاني كثيرا بتشييد القصور الفخمة التي بلغ عددها عشرين قصرا في أنحاء صقلية، وتميزت بالطابع العربي في العمارة.

لم يكن التأثر بالطابع العربي في العمارة فقط، بل امتد إلى إنشاء الدواوين، والفنادق الخاصة باستراحة التجار في كل من صقلية والبندقية، والخدمات المقدمة فيها.

وتطور في عصره علم الطب على غرار علم الطب العربي، ولتأثره بالتعليم المتطور لدى العرب أنشأ فريديريك اول جامعة علمانية (بعيدا عن تأثير الكنيسة) في الغرب وهي جامعة نابولي في إيطاليا عام 1224م. 

حوارات عبر الحدود:

كان فريديريك هو أكثر رجال عصره علما، وكان لاطلاعه على علوم العرب أكبر الأثر في ذلك. كان يستقبل في قصره العلماء، وأمر أحدهم بترجمة كتاب الحيوان لابن سينا، وكتاب ابن رشد “التعليقات” الذي يرد فيه على أرسطو.

وقد تأثر فريديريك بفلسفة ابن رشد كثيرا، وكان هو السبب في انتشار فكر ابن رشد في اوروبا.

وعرف عنه تقديره الشديد للعرب، وثقته في مهاراتهم العلمية والعقلية، وكان يستعين بهم لحل بعض المعضلات الرياضية. وقد عين من بين مستشاريه عربي مسيحي هو اشتهر باسم تيودور، الذي قام بترجمة عدة اعمال عربية، وكان الإمبراطور هو من يقوم بمراجعة الترجمة بنفسه.

ميلاد رؤية جديدة للعالم:

كان لفريديريك نظرة مختلفة عن معاصريه وعن سابقيه، فبدأ الاهتمام بكتابة التجارب الحقيقية الخاصة بمراقبة الطبيعة، تأثرا بالعلوم العربية، ويعتبر مؤسس المنهج العلمي في أوروبا.

كانت صقلية هي نقطة الاتصال بين العالم الغربي والعالم العربي، وكان فريديريك هو رسول التواصل بينهما.

الفصل السابع

تعشيقات أندلسية

نموذج فريد في مكانة المرأة

يتناول هذا الفصل جانبا من الحياة الاجتماعية وهو مكانة المرأة. تقدم الكاتبة صورة للمرأة التي يقدم لها زوج المستقبل بأخلاق الفارس تضحيات ليبرهن على حبه لها ومكانتها عنده، ويثبت شجاعته وجدارته بها. وهي نقيض الصورة المشهورة عن المرأة مسلوبة الإرادة والفكر حبيسة دارها ورهن أمر زوجها والتي روج لها على مر العصور.

وتعطي الكاتبة مثالا للسيدة خديجة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه سلم، أنها كانت سيدة يعمل لديها الرجال بالتجارة ولها الرأي السديد، والحكمة التي يستند إليها. وتسوق الكاتبة كذلك ما حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم من المساواة بين الرجل والمرأة، من فرض طلب العلم عليهما معا، وتستشهد بنبوغ شاعرات عربيات، وتميز المرأة في مجال القضاء وحلقات العلم.

ولذلك فهي ترجع فكرة الحرملك والمعني بها احتجاب المرأة عن الحياة العامة، إلى تسرب العادات الفارسية التي كانت تقضي بإبعاد المرأة ، وهذا خلال العصر العباسي حيث تزوج عدد من الخلفاء بفارسيات، تعودن على تبعية المرأة للرجل في كل شيء.

وتنفي الكاتبة أن يكون تراجع دور المرأة سببه تعاليم الإسلام، وتستشهد بالمرأة البدوية التي تخرج للعمل وللحياة الاجتماعية، وهي في رأيها رمز للمرأة المسلمة التي لم تقع في قولبة الحرملك.

وتقدم رأيها في تعدد الزوجات، أنه كان من عادات العرب قبل الإسلام وكان الهدف منه التمكين بكثرة الأولاد، وجاء الإسلام ليقنن عدد الزوجات، ويقيده بشرط العدل بينهن وتوفير الحياة الكريمة لهن.

“وجُعِلت لي الأرض مسجدا”:

شهدت إسبانيا تتويج الحضارة العربية في المجالات كافة؛ إلا أن الكاتبة تؤكد أن إسبانيا قبل قدوم المسلمين كانت تعاني من ظروف سياسية قاسية من قهر وظلم لم يدع مجالا لأي مظاهر حضارية، وأن ما وصلت إليه حضارة الأندلس يرجع فقط للعبقرية العربية آنذاك.

ورغم استمرار الحكم الإسلامي في إسبانيا قرابة ثمانية قرون، فإن أوروبا كانت تصم آذانها وتعرض عن هذه الحضارة التي تفصلها عنها جبال البرانس لئلا ترى فيها مايبهرها ويجذبها.

ومن أهم الآثار الباقية إلى الآن في إسبانيا هي المساجد والقصور ذات الفنون المعمارية المميزة. وتعقد الكاتبة مقارنة بين الكنيسة والمسجد من حيث الشكل الخارجي والتصميم الداخلي والمعنى الخاص لكل منهم لدى المؤمنين من الديانتين. وتصل إلى أن المسلم يتوجه لربه بالصلاة من أي مكان لايلزمه الذهاب إلى المسجد، وتتطرق إلى صلاة الجماعة وقيمتها ومعناها، وروح المساواة فيها فلا تفريق في الصفوف بين المصلين حسب طبقاتهم، ولافرق بينهم.

وتوضح الكاتبة مفهوم الأرابيسك، وهو تصميمات هندسية تتشكل حول مركز معين وتتكرر حوله في تشكيلات متماثلة لتنتهي حيث بدأت في المركز، وهو تصميم عربي أصيل بعيد عن أنماط الزخرفة اليونانية. وتشير إلى أن تزيين المساجد بدأ بالزخرفة بالخطوط العربية في كتابة الآيات، وكذلك في تزيين القصور التي امتدت إليها الرسومات الحيوانية، ثم رسم شخصيات الملوك وزوجاتهم. وتؤكد تفضيلها لنقوش الزخرفة الإسلامية. ومن ثم تستعرض كيفية تأثر العمارة الغربية بمظاهر العمارة والزخرفة الإسلامية، سواء عن طريق الاستعانة بعمال عرب في أعمال البناء، أو باستعمال أجزاء من جدران وبوابات المساجد المتحطمة لبناء الكاتدرائيات فيما بعد.

انتقل تأثير العمارة الإسلامية إلى انجلترا وعرف هناك بطراز تودور، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة حيث يمكن مشاهدته في أبنية الجامعات. واللافت ان اللغة الإسبانية تحتفظ إلى اليوم  بأسماء ومصطلحات عربية في مجال البناء، ومن إسبانيا انتقلت طرز البناء إلى امريكا الجنوبية في الأبنية الدينية وغيرها.

حتى القلاع الإسلامية ظهر أثرها في الحصون التي بناها الأوروبيون في بلادهم عند عودتهم بعد الحروب الصليبية.

وتذكر الكاتبة أهم معالم العمارة الإسلامية الباقية إلى الآن في إسبانيا، وأهمها قصر الحمراء، ومبنى استطلاع الفلك، ومسجد قرطبة الذي تعرض لمحاولة تحويله إلى كنيسة.

الموسيقى تصاحب الحياة:

كان ثمة مدرسة غناء في بغداد عرفت باسم مدرسة إسحاق الموصلي، وانتقل بعض منشديها إلى إسبانيا، وأنشأ الخليفة عبد الرحمن الثاني في إسبانيا معهد لتعليم الموسيقى وكلف المنشد (زرياب) بإدارتها. وتسرد الكاتبة بعض التفاصيل عن سمات الموسيقى في ذاك العصر، وتأثر الموسيقى الغربية بها، بل إن كثير من الآلات الموسيقية ترجع إلى العرب مثل الآلات الوترية، وآلات النفخ، والإيقاع.

لؤلؤة العالم الفريدة:

عصر عبد الرحمن الكبير أو عبد الرحمن الثالث في الأندلس:

استطاع عبد الرحمن الثالث، خلال خمسين عاما هي فترة حكمه، أن يجعل من الأندلس دولة موحدة رغم اختلاف اعراقها، وثقافاتها، ودياناتها.

وبفضل كفاءة المسلمين في الزراعة والري، ارتفع مستوى معيشة الأفراد، ونشأت مهن جديدة لحفر آبار المياه وتصنيع أدوات الزراعة والري. كما اهتموا بتربية الماشية، وإعادة استكشاف مناجم الحديد والنحاس والزئبق، فتطورت الصناعات بشكل أبهر الغرب.

كما اهتم عبد الرحمن بتقوية جيشه، وتشييد المباني التي تدل على عظمة ملكه، وإنشاء المدن المميزة بجمال طبيعتها وروعة عمارتها؛ وأهمها قرطبة التي كانت تضم قصورا للوزراء وكبار الموظفين، ومساجد، ومدارس، وحمامات، والمكتبات العامة. وتقارن الكاتبة بينها وبين القسطنطينية أكبر مدن الغرب، التي لم يكن بها أي جامعة ولا مستشفى ولا مكتبة.

كما تعقد مقارنة بين شوارع أوروبا غير الممهدة، وغير المضاءة، والتي كانت تتكدس بها القمامة والقاذورات، وبين شوارع قرطبة الممهدة المضاءة بمصابيح معلقة في جدران المنازل، والتي يتناوب عليها دوريات نظافة في كل الأوقات.

وتسجل الكاتبة رفض الغرب اعترافهم بنقل مظاهر هذه الحضارة إلى بلادهم، لرفضهم نسب أي فضل لعدوهم عليهم.

وسرعان ما أصبحت الأندلس حاضرة الثقافة والعلوم والفنون ، فظهر فيها الفلاسفة أمثال ابن رشد، وابن زهر، وابن الطفيل، وابن ماجه، ومن العلماء أبو القاسم الزهراوي، وابن البيطار، وابن فرناس وغيرهم. ومن علمائها البارزين ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع. ومن علماء الدين ابن عربي وابن سابين.

وتميز الحَكَم بن عبد الرحمن الثالث، بالاهتمام بالتعليم، فاهتم ببناء مدارس جديدة، وكان ينفق من ماله الخاص على تعليم الفقراء، واهتم بالانفاق على المعلمين، والعلماء، وإرسال الموفدين لنسخ الكتب أو شرائها. فكان الحكم عالما في الأدب، والتاريخ، وهو ما كان يجتذب إلى بلاط قصره العلماء من سائر الأقطار العربية منها والغربية، حتى بعض كهنة الكنيسة الغربية. وكان يعين العلماء في المناصب الهامة في الدولة، ويوليهم مكانة رفيعة.

 شعب من الشعراء:

كان الشعر سمة من سمات الحضارة العربية، وكان الخلفاء والأمراء ماهرين في نظمه، فكان أمير إشبيلية أبو القاسم محمد الملقب بـ “المعتمد” مولعا بالشعر، وبالمناظرات الشعرية، وكذلك المنصور في بغداد، كما تميز به العصر الأندلسي .

وكان للشعر الأندلسي العربي أثره على الشعر الغربي الذي تحرر من بحور الشعر اللاتينية الطويلة لينظم ببحور مماثلة لبحور الشعر العربي. وتعطي الكاتبة أمثلة للصور البلاغية في الشعر العربي في وصف السيف، أو بزوغ الفجر، وتسوق عدة أمثلة شعرية.

كان المعتمد أشهر شعراء عصره، وكان يعاصر فترة حكمه كل من هنري الرابع، والبابا جريجوري السابع، وجويوم الغازي، وقد اشتهر عنه بين أمراء أوروبا أنه:” أكثر الأمراء تحررا، وضيافة، وأكثر ملوك إسبانيا شهامة، وقوة، وأن قصره كان مقصد الشعراء والعلماء، وملتقى المواهب في شتى المجالات.”

طرق التغلغل في الغرب:

كان ملوك أوروبا يستعينون بأمراء الأندلس لمواجهة المكائد التي تحاك لهم من أبناء جلدتهم، كما كانوا يستعينون بالأطباء العرب. هذا وقد تزوج الإسبان من نساء المسلمين وأشهروا إسلامهم  وأصبحوا هم وأولادهم يتحدثون اللغة العربية، وهكذا تعددت نقاط انبعاث الحضارة الأندلسية إلى شمال إسبانيا، لتتخطى جبال البرانس وتصل أوروبا بأسرها.

كان سقوط غرناطة عام 1492 هو تاريخ سقوط آخر مدينة أندلسية بعد سقوط كل من قرطبة وإشبيلية، وفالينسيا، كان هذا هو تاريخ سقوط أعظم حضارة في الغرب في القرون الوسطى. وكان شاهدا على إحراق نتاج أدبي وعلمي استمر يؤتي ثماره قرابة ثمانية قرون. على حد قول الكاتبة: ” ثمرة ثمانية قرون من الانتاج الفكري قُدمت قربانا عبثيا للحقد والكره!”  

ولقد تعرض السكان العرب لصنوف التعذيب والاضطهاد، وحظر إقامة الشعائر، ومحاولات لتنصير الأهالي المسلمين.

خاتمة:

كان لوجود الإسلام في الغرب أثر بالغ على جميع مناحي الحياة؛ ففي السياسة العالمية تحول البحر  المتوسط من بحر الروم إلى بحر عربي في جنوبه وفي جزر كثيرة من شماله.

وعلى مستوى التأثير الفكري، فقد نشأت فكرة الحروب الصليبية تأسيا بفكرة الجهاد في الإسلام، وبعد المواجهات الدامية بين الطرفين، ظهر التأثر في شتى المجالات من اقتصاد وعمارة وغيرها.

محاولة لإيجاد معادل:

كان لتميز علماء المسلمين أثر في سعي الكنيسة للتقوّي بالعلم والفكر، وكذا التسلح لمواجهة موجات الغضب التي تجتاح أوروبا ضد سيطرة الكنيسة.

تسببت مقاطعة أوروبا لكل ماهو عربي من ثقافة وتجارة إلى تأخرها عدة قرون، إلى أن أتاحت التجارة انتقال مظاهر حضارة راقية متكاملة إليها.

وتختم الكاتبة بقولها إن الكره الديني والتعصب هما أسوأ ما قد تتعامل به الشعوب، ولا يمكن تحقيق أي ازدهار لأي حضارة كانت دون التبادل المعرفي والاحترام المتبادل. وبرغم الحقد والتنافس بين الغرب والشرق فإن هذا الشد والجذب أسفر عن زخم حضاري ومعرفي كبير.

ملاحظات:

 فضلا عن غزارة المعلومات فإن الكاتبة تسوق عددا لا حصر له من الأحداث التاريخية المتشابكة سواء في الشرق أو الغرب. وخاصة الأحداث المتعلقة بتاريخ ألمانيا، أو تأثير العلوم العربية على الثقافة الألمانية.

عند مطالعة أوراق هذا العمل يخالج المرء شعوران متناقضان، بين فخر وعزة لما وصل إليه المسلمون من العرب وغيرهم في المجالات كافة، وفضلهم على الحضارة الإنسانية، وبين شعور بالحسرة على ما آل إليه حال العرب الآن، من تشرذم وضياع القيم، وضياع تقديرهم لماضيهم ومجدهم، وضياع اعتزازهم بدينهم الذي هو أصل كل عزة وصلوا إليها في الماضي.

الفصل الرابع الخاص بالتقدم الطبي، هو الأطول بين فصول الكتاب، ويتناول بالتفصيل الفرق بين الغرب الجامد الرافض للأخذ بالعلم، والشرق المسلم المتطور الآخذ بالعلم وبالأسباب، فيكتشف الأمراض ويحلل أسبابها، ويصل إلى العلاج الناجع لها. ويشهد بناء أول المستشفيات، وتقسيم التخصصات، ونبوغ الأطباء في كل التخصصات، ووجود منهج علمي، ومناخ علمي أفرز الدر المتلألئ.

الفصل الخامس : يمكننا أن نعطيه عنوان”شهد شاهد من أهلها” فتحليل الكاتبة لأسباب الفتوحات، ومعاملة المسلمين لشعوب البلاد المفتوحة فيه ما يكفي للرد على المدعين بأن الإسلام انتشر بالسيف. فهي كاتبة ألمانية غربية منصفة أكدت أن الفتوحات لم تكن أبدا إغارات هجومية لامتصاص خيرات البلاد كما هو منطق الدول الاستعمارية قديما وحديثا، بل هي من أجل نشر العدل وتوصيل الرسالة التي أوكل الله لهم نشرها. فالقتال كان بين جيوش المسلمين وجيوش الامبراطوريات التي كانت تستعمر غيرها من البلاد والتي كانت تسيئ معاملة شعوبها. أما حال الشعوب فكانت تفرح بالفتح الإسلامي الذي عرف عنه العدل والرحمة، فكانوا يرحبون بقدومهم، وفي أهل مصر والأندلس خير دليل على ذلك. 

يؤخذ على المؤلفة تفسيرها الشخصي لبعض الثوابت الدينية، ففي أمر الحجاب ترى أنه استحدث على يد الفقهاء وأن الرسول لم يأمر إلا بـ “يضربن بخمرهن على جيوبهن”. كما أنها تذكر آيات القرآن على أنها قول النبي صلى الله عليه وسلم. بل أنها في معرض الكتابة عن الشعر العربي تقارب بينه وبين القرآن الكريم وتذكر أنه من نظم النبي حاشاه صلى الله عليه وسلم، وتعطي أمثلة من مطالع سورة العاديات والتكوير.

أما أسلوب الكاتبة فقد احتفظ في الترجمة الفرنسية بسمات أساسية وهي الميل إلى الصور البلاغية التمثيلية البديعة للتأثير في النفوس قبل العقول ومن ذلك تشبيهها للعلم العربي بالربيع الذي ساد العالم بعد التجمد الذي أصاب العقول في شتاء أوروبا.

كما وفقت الكاتبة (وهو ما نجده في الترجمة الفرنسية) في ترجمة شعر امرؤ القيس بشعر فرنسي مقفى.

يعد الكتاب كنز لنا نحن العرب، المسلمون، من حيث هو شهادة حق طالما غُيبت عن العالم! هو كنز عن أسماء أشهر العلماء من المجالات كافة، هو تقرير لسبق العرب لعلوم مختلفة. هو كنز لا نعرف عنه الكثير، من شأنه بناء قيم عميقة عن الانتماء لهذا الدين الحنيف الذي كان الدافع والحافز وراء كل إنجاز أحرزه أبناؤه ليلبوا نداء”إقرأ”، فهو أول أمر من ربهم عز وجل في كتابهم المنزل. فلم يتركوا مجالا من العلوم إلا سبروا أغواره، لا ينطفئ ظمأهم للارتواء من منابع العلم، دراسة وتحليلا وبحثا وتجريبا. ليضيفوا منهجا علميا، وحقائق علمية ومعرفية، لتكون الحضارة الإسلامية هي بحق الشعاع الذي سطع فأضاء ربوع أوروبا فأيقظ العقول ونشر العلوم، بجانب نشر الدين والثقافة والقيم. لم تحتفظ الحضارة العربية بالعلوم في المتاحف أو المساجد حكرا على علمائها، بل كانت نورا للعالم أجمع، يستضيئ به كل باحث عن الحقيقة. حري بنا نشر مافيه لنعيد عزة ومجدا طالما نرنو إليهما.

عرض:

أ. أميرة مختار

باحثة ومترجمة مصرية.

عن أميرة مختار

شاهد أيضاً

إسماعيل راجي الفاروقي: قراءة في الرؤية الإصلاحية والمشروع المعرفي

د. فاطمة حافظ

مع انتصاف القرن العشرين بدا واضحاً أن مشروع النهضة والإصلاح الإسلامي الذي تأسس في القرن التاسع عشر بات على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة عبّرت عنها متغيرات عديدة.

نقد الغرب في ميزان البشري

د. شيرين حامد فهمي

نقد الغرب – منظومةً وفكراً وحضارةً ومنهاجاً وسياسةً وسلوكاً – كتب فيه الكثيرون، غربيون وشرقيون، مؤمنون ولادينيون، علماء اجتماع وعلماء فيزياء. اجتمعوا جميعاً – وإن اختلفت مشاربهم – على نقد مسلكٍ واحد، لم يفارق الغرب منذ نشأته.

تعليق واحد

  1. لقد تجلت شمس المعارف في أربِعة أقطار المعمور واستنار الناس في هذا العصر لدرجة سخَّروا بها القوى الصامتة، ما يجدر بالمسلمين أن يكونوا فيه عند أوامر دينهم وآثار أسلافهم الذين كانوا نبراس الفنون ومصابيح الوجود يوم كانت حنادس الجهل تخيم على ربوع الغرب
    كاتبة وباحثة ألمانية لا تربطها بالعرب أي صلة، لكنها على صلة وثيقة بأسس البحث العلمي، فحينما رأت أن كثيرين يتحاملون على العرب، ارتأت السير في سفينة البحث العلمي الموضوعي في رحلة سباحتها في بحر العرب، فسبحت، وتعمقت ودُهشت مما رأت، استنتجت أن العرب ليسوا مجرد نقلة لحضارات الشعوب كالحمار الذي يحمل أسفارا كما تنادي بعض النظريات التاريخية الخاطئة، بل هو قومٌ لهم عقول يفكرون بها، وعندهم طاقات إبداعية مكَّنتهم من ترك بصمات واضحة في كل مجالات الحياة، لقد أسست النهضة العالمية في رحم الكون، فكتبت شهادتها بحقهم في مؤلفها الشهير ”شمس العرب تسطع على الغرب”.

    لقد استطاعت زيغريد أن تُميط اللثام عن تأثير العرب على أوروبا في مجالات عديدة ومهمة جداً في حياة البشرية، وسنحاول في السطور التالية أن نسلط الضوء على جوانب من هذا الكتاب المهم للقارئ العربي والغربي على حد سواء، نظراً لجودة ودقة المادة العملية التي قدمتها زيغريد بكل وضوح في تحتوي العديد من الأبواب والفصول الرائعة فعلاً لا مجاملة.

    الكتاب عبارة عن سبعة أبواب، وتسمي الكاتبة كل باب بكتاب، الباب الأول تناولت فيه رفعة الحضارة الإسلامية في الوقت الذي شهد بلوغ الحضارة الغربية الدرك الأسفل من الانحطاط؛ والباب الثاني تسرد فيه إنجازات المسلمين في مجال الرياضيات؛ والباب الثالث أوقفته على رصد مساهمة المسلمين في تأسيس علم الفلك الحديث؛ والباب الرابع خصصته لإنجازات المسلمين في حقل الطب؛ والباب الخامس، وهو الباب الأقرب إلى قلبي، فقد ناقشت فيه النشاط الفكري لعالم المسلمين، وتذكر أن هؤلاء الذين كانوا في هذا الزمان في بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة يقرضون الشعر ويتجادلون في الفلسفة، كان يعاصرهم قوم آخرين في لندن وباريس يسألون هل للمرأة روح مثل الرجل؛ أما الباب السادس فهو الباب التي تبين فيه المؤلفة كيف توحد عالم الإسلام، وكيف غير هذا التوحد مصير الحضارة الإنسانية ومنح أوروبا بالذات قبلة الحياة بعدما سقطت في وحل عصور الظلام وهيمنت عليها القبائل الهمجية وكنيسة جمعت بين الجهل والفساد؛ ثم يأتي الفصل السابع، درة العقد، باستعراض حضارة الأندلس وإنجازات مسلمي هذه الحقة والرقعة الجغرافية.

    إن هذا الكتاب قد غفل عنه الكثيرون منا أفسحوا المجال والطريق أمام أعداء العرب ليزوروا التاريخ ويمحوا فضل العرب على الحضارات الأخرى والغربية بالتحديد، أو على وجه الخصوص، حيث غيبت حقائق كانت أولى أن تعرف لتنصفنا نحن والحضارة العربية، فإذا كنا نضئ التاريخ فإنه يصبح بالإمكان رؤية الحقائق إحقاق الحق والعدل، ومن خلال هذا الكتاب يمكن أن يتحقق ذلك، لكن بعدم تغييبه عن الساحة أو نسيانه ولابد لنا من أن نقوم بتحليله ودراسته الدراسة الوافية والكافية ليتم ذلك، وأن لا نتناسى هكذا كتب ولهكذا مؤلفين أمثال الدكتورة المستشرقة زيغريد هونكة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.