الصفحات التالية من كتاب “المرشد الأمين للبنات والبنين”* لرفاعة رافع الطهطاوي**
في تربية النشئ الصغير وآثاره
عرف بعضهم التربية بأنها تنمية أعضاء المولود الحسية من ابتداء ولادته إلى بلوغه حد الكبر، وتنمية روحه بالمعارف الدينية والمعاشية؛ فبهذا انقسمت التربية إلى قسمين: حسية وهي تربية الجسد، ومعنوية وهي تربية الروح، ومع ذلك فإن لتغذية الطفل ثلاثة أنواع من الغذاء مختلفة الموضوع. الأولى: تغذية المراضع للأطفال بالألبان.
الثانية تغذيتهم بإرشاد المرشد بتأديبه الأوّلى للأطفال، وتهذيب أخلاقهم، وتعويدهم على التطبع بالطباع الحميدة والآداب والأخلاق.
الثالثة: تغذية عقولهم بتعليم المعارف والكمالات، وهذه وظيفة الأستاذ المربي، كما أن ما قبلها وظيفة المرشد المتولي أمر الصبي، فالنسبة بين الرضاع والتربية الأولية والتربية الانتهائية كالنسبة بين المرضع والمربي، المرشد والأستاذ، فكلما جاد المربي جادت التربية.
فالتربية بأنواعها الثلاثة، وإن كان يظهر ببادئ الرأى أنها سهلة بسيطة لا تحتاج إلا إلى عمل يسير، إلا أنها في الحقيقة وعند التأمل تستدعي عظيم اهتمام وعناية وسلوك، أصول مقررة وآداب محررة، ويضاف إلى ذلك ما يحتاج إليه المراضع والمربون والأستاذون من قوة محبة الأطفال ومعاملتهم معاملة من طَبَّ لمن حَبَّ[1].
وقد أنتج هذا أن التربية فن تنمية الأعضاء الحسية والعقلية، وطريقة تهذيب النوع البشري ذكراً كان أو أنثى على طبق أصول معلومة، يستفيد منها الصبي هيئة ثابتة يتبعها، ويتخذها عادة، وتصير له دأباً وشأنا وملكة[2]. فالتربية المعنوية حينئذ هي فن تشكيل العقول البشرية، وتكييفها بكيفية حسنة مألوفة، وغايتها إيجاد ملكة راسخة في الصغير تحمله على التخلق بحسن الأخلاق حسب الإمكان بحيث تحصل من هيئة تربيته الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً بسهولة ويسر كطلاقة الوجه والحلم والشفقة ولين الجانب، وحسن الظن بالناس، والإغضاء عن السفهاء وعدم مجادلتهم والسكوت عنهم. قال الشاعر:
وَمَا شَيْءٌ أَحَبُّ إلى لَئِيِم إِذّا شَتَمَ الكَريمَ مِنَ الَجَوابِ
مُتَارَكَةُ اللِّئِيم بِلا جَوَاب أَشَدُّ عَلَى اللَّئِيم مِنَ السَّبَابِ
وكمال التربية حمل المكلف على رعاية الحق للحق والخلق؛ لينال خير الدارين ثم إن التربية لا تفيد الصبي الذكاء ولا الألمعية. فإن هذه الصفات هي في الأطفال غريزية طبيعية، وإنما بالتربية تنمو العقول وتتحسن الإدراكات، فإذا رَبَّى الُمَربِّي عدة أطفال مختلفين في الذكاء مُتَّحِديِن في التربية، لا يقدر الُمَربِّي أن يتوصل إلى تسويتهم في الذكاء، بل يختلف ذكاؤهم باختلاف استعدادهم الغريزي. فمجرد التربية وحدها لا يترتب عليها ذكاء الصبي؛ حيث هو غريزي لا يزيد بالتربية المتزايدة، ومع ذلك فالتربية الحسنة الفاضلة في حد ذاتها خير من الذكاء المتوسط، والذكاء الكامل إذا صحبته التربية الفاضلة كان عظيماَ كثير النجاح، فإذا صحبته التربية المتوسطة كان يسير النتيجة لا يبلغ صاحبه الرتبة المطلوبة. وبالجملة، فالغرض من التربية تنمية الصغير جسداً وروحاً وأخلاقًا في آن واحد يعني تنمية حِسَّيَّاته ومعنوياته بقدر قابليته واستعداده.
كُلُّ الأَنَامِ بَنُو أَبِ لَكِنَّمَا في الفَضْلِ تُعْرَفُ قيِمَةُ الإِنْسَانِ
والتربية الأَوَّليَّة فائدتها أن يعتاد الصبي على أن ينقاد بطبعه إلى ما يريده منه مُؤَدَّبه، ويختاره له مُرْشِده فغايته المطاوعة. وهذا النوع كما يكون في الإنسان يكون أيضًا في الحيوان بترويضه وتمرينه على الإطاعة. وأما تنمية العقل التي هي غذاؤه بالمعارف كغذاء الجسم بالطعام فهي خاصة بالإنسان؛ فكما أن غذاء جسمه بالطعام الطيب يُنَمَّيه وينعشه ويقوّي أعضاءه، كذلك غذاء الروح بالمعارف يُنَمَّيها ويقويها بشرط أن تكون هذه المعارف معقولة مقبولة. فالتربية المعنوية تزيد في تنمية عقول الأطفال بالمعارف، وحسن الأخلاق على التناسب من حسن إدارة المرشد والمعلم؛ فبهذا يقال لمن اكتسب المعارف الجيدة والأخلاق الحسنة إنه حسن التربية.
وحسن تربية الآحاد[3] ذكوراُ وإناثاً وانتشار ذلك فيهم؛ يترتب عليه حسن تربية الهيئة المجتمعة يعني الأمة بتمامها. فالأمة التي حسنت تربية أبنائها، واستعدوا لنفع أوطانهم هي التي تعد أمة سعيدة، وملة حميدة، فبحسن تربية أولادها، والوصول إلى طريقة إسعادها لا تخشى أن تأتمن أبناءها على أسرار الوطن، ولا على ما يكسبها الوصف الحسن، بخلاف سوء التربية المنتشرة في أمة من الأمم، فإن فساد أخلاق بَنِيها[4]؛ يفضي بها إلى العدم؛ حيث يَفْشُو[5] فيهم الانهماك على اللذات والشهوات، والانتهاك للحرمات، والتعود على المحرمات.
ومن سوء التربية أن الأم تَكِل تربية أولادها إلى غيرها بدون أن تلاحظ تربية أولادها بنفسها، فإن الأم بما أودع فيها من الشفقة والرأفة على أولادها هي أولى وأرفق بالتربية ولتعديل مزاج أبنائها وبناتها، فإذا رَبَّتْ المرأة أولادها إلى سن التمييز تربية حسية أو معنوية؛ انْتَقَشَ[6] في أذهان الأبناء اعتدال المزاج، والاتصاف بمكارم الأخلاق وتهذيبها، وسلوك سبيل الرَّفْق واللين التي هي من صفات التمدُّن.
رَأَيْتُ صَلاحَ الَمْرِء يُصْلحُ أَهْلَهُ وَيَعْدِيهم مِنْهُ الفَسَادُ إِذَا فَسَدْ
يُعِظَّمُ في الدُّنْيِا بِفَضْل صِلاحِهِ ويُحْفِظُ بَعْدَ الِموْتِ في الأهْلِ والوَلَدْ
وبالجملة، فَمَن شَمَّرَ عن ساعد الجد؛ وجد مفتاح المجد. فالأمة التي تتقدم فيها التربية بحسب مقتضيات أحوالها؛ يتقدم فيها أيضَّا التقدم والتمدن على وجه تكون به أهلاً للحصول على حريتها، بخلاف الأمة القاصرة التربية؛ فإن تمدنها يتأخر بقدر تأخر تربيتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* رفاعة رافع الطهطاوي؛ تقديم منى أحمد أبوزيد (2011). المرشد الأمين للبنات والبنين. القاهرة: الدار المصرية اللبنانية. ص ص 11 – 17.
** رفاعة رافع الطهطاوي (1216 هـ/1801 – 1290 هـ/1873) من قادة النهضة العلمية في مصر في عهد محمد علي باشا.
[1] من طب حب: أي معاملة الفطن الحاذق واحتياله واجتهاده لإرضاء من يحب.(م).
[2] ملكة: موهبة.(م)
[3] الآحاد: الأفراد.(م).
[4] بَنِيها: أبنائها.(م).
[5] يَفْشُو: ينتشر.(م).
[6] انْتَقَشَ: ترسخ.(م).