في جوهر الشرط الإنساني*
يتداخل مفهوم “الشرط الإنساني” مع مفهوم “القدر الإلهي” دون أن يتماهى معه أو يذوب فيه، فكل شخص عاش في هذا العالم سلفًا أو لا يزال، صادف ملابسات حياة تختلف كثيرًا أو قليلاً، سلبًا أو إيجابًا، عن الآخرين السابقين عليه أو التالين له، البعيدين عنه أو المحيطين به. ترى الثقافات التقليدية في تلك الملابسات قدَرًا لا فكاك منه، لصيقة بالشخص، يرثها عن الآباء والأجداد، وينسبها المتدينون إلى الخطة الإلهية للوجود البشري. أما الثقافة الحديثة فلا ترى فيها قدرًا حتميًا ولا قيدًا نهائيًا بل مجرد نقطة انطلاق، شرط تاريخي للوجود الإنساني يمكن تحسينه عبر الكفاح الأخلاقي والترقي المعرفي.
قطعًا، نحن لا نختار اللحظة الزمنية التي تبدأ منها حياتنا، فقد جئنا إلى عالمنا بإرادة مفارقة، وتشكل وجودنا من معطيات أساسية ورثنا أغلبها، مثل طبيعة أجسادنا طولاً أو قصراً، قوة أو ضعفًا، ولون بشرتنا سوادًا أو بياضًا، وأيضًا أصولنا الاجتماعية راقية أو عادية، ومستوياتنا المادية ثراءً أو فقراً، مجموعة خطوط عريضة تشي بملامح أولية لوجوهنا. غير أن تلك الملامح الأولية لا تمثل أكثر من مادة وجودنا البدئي، أما صورة وجودنا النهائي فتبقى رهناً لقدرتنا على التعاطي مع الحياة بوصفها أنساقاً للفعل ومجالات للحركة، فقد تزهو صورنا وتزدهر مغامرتنا الوجودية بالقدرة على التطور والترقي عبر التعلم والتحرر كما تذهب الرؤية التنويرية المتفائلة للطبيعة الإنسانية، والتي تعتقد في قابلية الإنسان للكمال حسب جان جاك روسو، إذ يكفي الرجل البسيط شرفًا أن يُعلم أولاده ليكونوا أفضل حالاً منه ولو بدرجة واحدة، ثم يأتي أولادهم ليرتقوا بأنفسهم درجة أخرى، وهكذا يتحرك النوع الإنساني على طريق الكمال رغم عمق الآلام التي يواجهها أفراده. وفي المقابل قد تبهت صورنا إذا ما افتقدنا للحذق في رسم معالمها، وتفشل مغامرتنا الوجودية إذ أهملنا دواعي نجاحها ووسائل تطويرها، فلا توجد نقطة معينة يبلغها الإنسان يستطيع التوقف عندها ويقول إنه قد أنهى مهمته سوى لحظة موته، فالوضع الإنساني يبدو متأرجحاً بين صعود وهبوط، لا يعرف السكون ولا يقبل بالجمود، فالسكون في سياق الحياة تراجع ولو بعد حين.
يمكننا الحديث هنا عن محددات حضارية – سياسية للشرط الإنساني تختلف بين دول متقدمة أو حرة وأخرى متخلفة أو مستبدة، فلو تصورنا شابا ذكيا وطموحا ولد في ريف مصر أو بغداد أو حلب أو الرباط هذه الأيام، فلن يزيد حلمه عن أن يكون طبيباً أو قاضيًا أو غير ذلك من مهن الطبقة الوسطى. أما ميلاده بنفس السمات الشخصية، في مجتمع حر يتسم بالتعددية والديناميكية كالمجتمع الأمريكي، فيفتح الباب أمامه إلى أعلى موقع في البلاد على منوال الرئيس الأسبق ذي الأصول الأفريقية باراك أوباما، ما يعني قدرتنا على تعديل الشرط الإنساني بالسعي والصبر وإن لم يكن ممكناً كسره والخروج من فلكه كلية.
كما يمكن الحديث أيضًا عن محددات اجتماعية – اقتصادية، فثمة وضع إيجابي يتمتع الإنسان في سياقه بركائز قوة كالثروة والسلطة والنفوذ، وأيضًا ببيئة حياة راقية ومنظمة؛ نتيجة وضعه الطبقي المتميز أو ثراء عائلته الموروث. وفي المقابل، ثمة وضع سلبي يجابه الإنسان بمعوقات كالفقر والبطالة والمرض، أو بيئة حياة قاهرة نتيجة وضعه الطبقي المتدني. يشعر الإنسان في ظل الوضع الإيجابي بالقدرة الفائقة على تحقيق الذات، كما يشعر مع الوضع السلبي بالعجز إزاء محدودية الفرص وندرة الاختيارات، لكن يبقى الأمل معقودًا على المرونة التي يتمتع بها الوضع الإنساني، وممكنات التحول الكامنة فيه.
لقد ولد الكثيرون وترعرعوا في ظل شروط مواتية لكنهم فقدوا مكانتهم تدريجياً أو فجأة بفعل الإهمال والعبث وضعف الهمة، والعجز عن تنمية ما ورثوه من ثروة أو نفوذ أو حتى صيانته، وهو ما يحدث غالباً في عالم السياسة والمال. ففي السياسة يفقد الملوك عروشهم الموروثة والرؤساء مقاعدهم المكتسبة، تحت ضغط فشلهم البين أو استبدادهم الخشن أو ظلمهم الفاقع. وفي عالم المال يفقد الكثيرون ثرواتهم الموروثة ومؤسساتهم الاقتصادية الناجحة بفعل جهلهم أو نزقهم وميلهم للتمتع بالرذائل، وما يصاحب ذلك من كسل ولا مبالاة وغطرسة أخلاقية. مثل ذلك الفشل والتردي يحدث في مجالات أخرى لأناس لم يرثوا ملابسات حياتهم الرغدة، بل اكتسبوها بفعل مواهبهم واجتهادهم لكنهم سرعان ما فقدوها بفعل الزلل والغرور. يحدث هذا في الفن عندما يفقد النجوم بريقهم لأنهم لم يحترموا مواهبهم، ولم يقدروا محبة جماهيرهم، فسلكوا في الحياة طريق العبث أو المجون؛ لينتهي بهم الأمر في سجون مظلمة أو في فقر مدقع يعجزون معه عن علاج أنفسهم أو صون حوائجهم في شيبتهم. وعلى المنوال نفسه، ثمة لاعبو الكرة وعارضات الأزياء وغير ذلك من مهن براقة، سرعان ما يحقق أصحابها من الثروة والشهرة قدراً هائلاً قبل أن يفقدوه لتواري أسمائهم وإنطفاء بريقهم مبكرا، ربما لأن بنيتهم النفسية لم تكن من المتانة بحيث تتحمل صدمة الصعود السريع، أو لأن ثقافتهم الشخصية لم تكن بمستوى مواهبهم الفطرية … إلخ.
أما الأمر الأهم فهو أن الشرط الإنساني ليس بسيطاً ولا مسطحاً، تصوغه فقط الموارد المادية القابلة للقياس: الثروة والسلطة والنفوذ، بل ينطوي على موارد معنوية تجعله أكثر عمقاً وتوازناً، تتعلق بالأبعاد الروحية والأخلاقية والجمالية للحياة. فبينما تلبي الموارد المادية غريزة الطموح البشري إلى ما هو أقوى، فإن الممكنات المعنوية تلبي ملكة التسامي إلى ما هو أرقى. ورغم أن أغلب اللذات التي يسعد بها البشر ترتبط بالماديات والحواس والغرائز من مأكل ومشرب وملبس تبقى بعض اللذات قرينة للمعنويات من قبيل الشعور بالرضا الإلهي بالنسبة إلى شخص مؤمن، لا بدَّ أن يزداد قبوله بأقداره وتنمو قدرته على التصالح مع نفسه وعالمه، أو الشعور بالكرامة الإنسانية وتقدير الذات الناجم عن الاتساق الأخلاقي لدى الشخص، بإخلاصه في العمل أو للآخرين في محيطه الاجتماعي، أو الشعور بمحبة الآخرين التي قد تتوافر لشخص لا يملك من موارد القوة أو الثروة بقدر ما يملك من ملكات التواصل الإنساني والتكيف الاجتماعي؛ خصوصاً عاطفة الحب الرومانسي التي تظل شعورًا استثنائياً وقدرًا سعيدًا لا يمكن شراؤه بالمال أو مقايضته بالسلطة. وكذلك الشعور الباطني (الأرستقراطي) بأهمية تحقيق المثل العليا وخدمة الغايات الكلية كالحقيقة والخير والجمال، الضرورية لصيانة الاجتماع البشري وازدهار العالم، وهو شعور عميق لا يدركه سوى نبلاء الإنسانية، يدفعهم إلى التضحية في سبيله بالثروة أو السلطة أو حتى الحياة نفسها، حيث يتلامس لدى هؤلاء الخواص الإحساس العميق بالواجب إزاء مجتمعاتهم، مع الإحساس الأعمق بتحقيق الذات. يرفض هؤلاء الرشوة رغم حاجتهم للمال، ويتعالون على السلطة إذا انحرفت إلى القهر، ويكدحون في طلب المعرفة لأجل الإنسانية، مثلما يتحلون بالحكمة في مواجهة الحمقى. إنهم التعبير الأصيل عن جوهرنا الإنساني، الذي لا تتحقق رسالة العمران ولا ترتقي حركة التاريخ إلا بالتأكيد عليه؛ ولذا فالويل كل الويل لعالم يخلو من هؤلاء، أو مجتمع يندر فيه وجودهم.
ربما كان الوضع المثالي هو ذلك الذي يجمع فيه الإنسان بين الموارد المادية والموارد المعنوية، ركائز القوة وملكات التسامي، بين ملابسات وجود إيجابية ووضع اجتماعي مميز يساعد الإنسان على الفعل والتأثير، وبين بصيرة تدرك أن سعادته رهن قدرته على استشعار مغزى وجوده الخالد وليس على الاستمتاع بملابسات وجوده المتغير. فإذا ما عجز الإنسان عن الجمع بينهما وجد في الموارد المعنوية ما يمنحه السكينة واليقين والأمل، أما إذا غابت عنه الموارد المعنوية فالأغلب أن يعاني قلقًا وجوديًا وأن يتورط في مسعى لا يتوقف إلى حيازة ركائز القوة على حساب الحكمة، سواء بلغها فيزداد غروره، أو افتقدها ليزداد إحباطه. ولا يعدو هذا التأمل أن يكون مقاربة لجوانب الشرط الإنساني المعقد، نبدؤها بتعريف ماهية الإنسان، ونمر خلالها بمصادر ألمه ومنابع قلقه، عروجًا إلى ركائز تساميه الأخلاقي وتوازنه النفسي من قبيل الإيمان والحب والمعرفة والفن.
أولاً: ماهية الموجود البشري:
إذا ما تساءلنا عن ماهية الإنسان واجهنا أحد أصعب الأسئلة وأيسرها في آن، أعقدها وأوضحها في الوقت ذاته. إنه ميسور واضح لو طلبنا تعريفاً بيولوجياً وفسيولوجياً، حيث الإنسان هو ذلك الكائن الضعيف، الذي يولد جنيناً صغيرًا، ويظل رضيعاً زمناً طويلاً يحتاج خلاله إلى حضانة شاملة، ثم يصير طفلاً يحتاج إلى تربية وتعليم شاقين، ثم شاباً فرجُلاً ينطوي على جسد صار أقوى قياساً إلى طفولته ولكنه يظل واهياً قياساً إلى الحيوانات الأخرى التي تحيط به، ما يكشف عن هشاشة وجوده البيولوجي. أما إذا طلبنا تعريفاً شاملاً، فسوف يصبح الأمر صعبًا جدًا، فالهشاشة البيولوجية للإنسان يوازيها عمق هائل في مستوى حضوره المعرفي والأخلاقي والوجودي.
معرفياً لا يبدو الإنسان مجرد كائن بسيط، فلا هو مجموعة من الخلايا والأعصاب والرغبات كما يزعم الماديون، ولا سلوكه مجرد ردود أفعال مشروطة كما يدعي السلوكيون، وعقله ليس مجرد مخ مادي يعكس الواقع بحذافيره مثل آلة فوتوغرافية كما يرى التجريبيون، بل هو كائن مركب يملك خيالاً خلاقًا ذا قدرة توليدية، ووعياً معرفياً قادرًا على الفهم والتحليل عبر الاستدلال والتجريب، يُبقي ويستبعد، يهمش ويركز، يستجيب لواقع تاريخي مركب حافل بالأشواق والمعاني والذكريات، ويصوغ مدركاته في سياق المنظومات الأخلاقية والرمزية التي تحيط به وتحدد له مجال الرؤية ونطاق الحركة كما يعتقد النقديون، وهم في ذلك محقون.
وأخلاقياً ثمة خلاف يصعب حسمه، إذ يرى الفلاسفة المتفائلون إزاء الطبيعة البشرية على وجه العموم، أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك وعي الفضيلة رغم انطوائه على حس الغريزة؛ إذ يخجل من الخضوع لها ويسعى إلى السمو عليها حتى وإن لم يستطع، فعبر السعي إلى الأفضل اندرج في صيرورة تَقدُم لم تنته بعد، مكنته من تجاوز حس الضرورة القاهر إلى أفق الحرية الشامل. أما المؤمنون منهم على وجه الخصوص، فينظرون إلى الإنسان باعتباره الخليفة الأرضي الذي خصه الله بتلقي رسالة الوحي وعمارة الأرض. وفي المقابل يرى المتشائمون أن الإنسان هو ذلك الكائن الوثني الذي طالما عبد الأصنام لولا عناية الله به، أو ذلك المتوحش الذي طالما قتل المختلفين عنه ليشبع نوازعه الشريرة في الشعور بالقوة والهيمنة، أو حتى ذلك الوغد الذي تدفعه رغبته الجامحة في امتلاك النفوذ والثروة إلى قتل بني وطنه ودينه وربما عائلته. والغريب في الأمر أن الإنسان هو كل ذلك وأكثر، فهو الملاك والشيطان، وما بينهما من ألوان الطيف الأخلاقي.
أما وجودياً، فيبقى الفارق شاسعاً بين الإنسان وما عداه من موجودات طبيعية أو بيولوجية، فالطبيعة لا تملك فكرًا أو قصدًا، لا تعرف الخير أو الشر، بل تخضع لقوانين حتمية تتحكم في ظواهرها ومن ثمَّ يجرى التحول فيها بطيئًا، وفق نظام صارم ودورات تاريخية طويلة. أما الإنسان فيبدو، على العكس، كائنا ثرياً متنوعاً، يعرف ويفكر، ويقصد بفكره إلى تحقيق أهداف وبلوغ غايات سواء أكانت خيرة أم شريرة؛ ولذا تخضع الظواهر الاجتماعية للتغير السريع والتحولات المدهشة، كما تستعصي على القسر في قوالب مغلقة أو الخضوع لتصورات حتمية. وعلى هذا لم يكن ظهور الإنسان مجرد حدث تلقائي أو عرضي في مسيرة الطبيعة بل الحدث الأكثر استثنائية، فمن خلاله بات متاحاً لها الوصول إلى مرحلة الشعور بالذات، وصار ممكنًا للمرة الأولى في التاريخ بروز الثنائية الوجودية التي عبر عنها ديكارت بالفكر والامتداد، ووضعتها الفلسفات المعاصرة في قالب الذات والموضوع، الإنسان هو الفكر الذي يُمارس من خلال ذات تُدرك الامتداد الطبيعي وتجعل منه موضوعاً لتأملها، تفحصه وتمحصه وتنقده؛ أي تعرفه.
ورغم أن الفارق بين الإنسان وسائر الكائنات الحية يظل أضيق منه مع العالم الطبيعي، فإنه يظل فارقاً وجوديًا رغم أي تشابه فسيولوجي؛ حيث تفتقد أكثر الحيوانات رقيًا إلى الأبعاد العميقة للوجود الإنساني، فلا تستطيع التمييز بين الظلم والعدل، الجميل والقبيح، كالإنسان الذي يدرك ويفهم تلك المعاني والقيم. وفيما تعيش أرقى الحيوانات في الحاضر وحده، يعيش الإنسان في الحاضر والماضي والمستقبل؛ إذ نراه يستعد لمستقبله، على هدي خبراته الماضية، فيتصرف وفقاً لحكم مأثورة، أو يُنفذ خططاً مدروسة، استعدادًا لأزمنة قد لا يعيش حتى يراها وإنما يدركها ببصيرته. وربما كان الحيوان يخاف كالإنسان، غير أنه ذلك الخوف الغريزي فقط على الطعام خشية الجوع أو على الجسد خشية الافتراس، أما الإنسان فيضيف إلى هذا النوع البدائي من الخوف أشكالاً أرقى: الخوف من الله عند ارتكاب الإثم… الخوف الميتافيزيقي من الفَناء الذي يراه وهو ينال من جيرانه وأقربائه وأصدقائه… الخوف النبيل على مَن يواجهون الأخطار والكوارث والمظالم. ورغم أن الحيوانات الأكثر تطورًا من الناحية السيكولوجية قد تعاني القلق فإن قلقها مجرد شعور يصاحب الخوف على الحياة أو الطعام؛ أي على (الراهن)، وليس قلقاً وجوديًا إزاء المستقبل وعلى المصير كخوف الإنسان. وقد يميل ذَكر الحيوان إلى أنثاه، غير أنه ميله مجرد انعكاس مباشر لغريزة تلقائية وسلوك بدائي يتوجه نحو أقرب الإناث إليه قبل أن ينصرف عنها بعد قضاء حاجته مباشرة، أما الحب الإنساني فذو بُعد جواني عميق وشفاف يكاد يشبه تجربة صوفية باطنية، تتجه نحو آخر بعينه، مفرد وملهم، وليس مجرد تجسيد للنوع، كما ينزع الى مشاركة طويلة بين الرجل والمرأة؛ ومن ثم تأسست قوانين الزواج في كل الحضارات.
ورغم خضوع الإنسان، مثل جميع الكائنات، لقانون العدم فميزته الكبرى أنه وحده الأكثر وعيًا بذلك القانون، وإدراكًا للمعنى الكامن وراءه، فوحده يعرف مغزى الموت، بل يستعد للحظة موته سواء بثقة وهدوء أو بهلع وخوف. أما الحيوان فيلاقي الموت مرة واحدة فقط، عندما يصادفه دون انتظار، ودون أن يدرك مغزاه. وربما كان هناك فارق بين موت يأتينا في الشيخوخة، نجلس لننتظره؛ حتى إن البعض يبنون له القبور ويجهزون الأكفان، يراه البعض مجرد تطبيق لسُنَّة كونية معتادة، أن يموت القديم الهرِم تاركًا المجال للجديد الواعد؛ ومن ثم ينسبونه إلى أفكار تطورية عن الخلق تتحدث عن نظام ضرورى للانتخاب الطبيعي، حيث الاستمرار والفناء، الوجود والعدم، جميعها محكومة بقانون البقاء للأصلح. وبين موت يداهمنا في ريعان الشباب لمرض قاهر أو حادث عارض، تجسيداً لحكمة إلهية لا يستطيع الإنسان أن يكشف كنهها أو يسبر غورها. لكن، وفي كلا الحالين، تكشف واقعة الموت، كحد للحياة، عن أحد أبرز مصادر ألم الإنسان وقلقه، فهو يعيش ويتعلم ويبني ويُعمّر وهو يعلم أن عمره محدود وأنه سيموت، وأن غيره سيأتي بعده ليحل محله ويستمتع بعصير جهده. كما يكشف عن أحد وجوه عظمته، وهو تصالحه الكامل مع تلك المحدودية، مدركًا بيقين أن الموت المنتظر أو حتى المفاجئ لا يعني أن مشروع حياته قد باء بالفشل على نحوٍ يدفعه إلى الشعور بالعدمية، بل ربما كان ناجحًا إلى الحد الذي أتى ثماره سريعًا، فلم يعُد لاستمرار وجوده أو معاناته سبب جوهري.
يرتبط الفشل هنا بالجسد الذي يهزمه العدم، أما النجاح فيرتبط بقدرة الإنسان على أن يترك بصمة روحه لتعيش من بعده، ولا يتحقق له ذلك إلا إذا جسدت حياته المعاني الكبرى والمُثل العليا الأخلاقية، فليس المهم إذن أن تكون حياة الإنسان طويلة بل أن يكون لها معنى يلهم الآخرين، ويساعدهم على التصالح مع عالمهم أو على تطويره إلى ما هو أرقى. لقد عاش أناس كثيرون طويلاً كالأموات، لا يدركون معنى الحياة ولا يضيفون إليها شيئاً بل يأخذون منها إلى درجة جعلتهم عبئًا عليها، حتى أصبح موتهم بمثابة إضافة للحياة أو رفع عبء ثقيل عن كاهلها. أما حياة نبلاء الإنسانية وأبطالها فلها قيمتها الكبيرة في التاريخ ولو قصرت في العمر، سواء كانوا من أبطال العقل والخيال، الفلاسفة والمفكرين والأدباء والشعراء والفنانين الذين علمونا وأرشدونا إلى حقيقتنا، أو أبطال السياسة والسلاح من طراز أولئك القادة الذين بنوا الأمم أو دافعوا عن الأوطان، أو أبطال الوحي من رسل وأنبياء بشروا بالعقائد الدينية ونشروا الإيمان الروحي بتضحيات كلفتهم حياتهم أحيانًا. يموت هؤلاء الأبطال نعم، يختفون من عالمنا قطعًا، ولكنهم يعيشون فينا دومًا، ينشرون أجنحتهم على زماننا والأزمان التي تلينا. بل إن موتهم المبكر غالبًا ما يضيف إلى حياتهم؛ إذ يتمم أسطورتهم، ويمنحهم خلودًا استثنائياً. أما الأوغاد فيعيشون بيننا كالأموات، لا نسمع سوى ضجيجهم الباطل، ولا نرى سوى شرهم الظاهر. الفارق بين الأبطال والأوغاد هو نفسه الفارق بين صلاح الدين قاهر الصليبيين المعتدين، وأيمن الظواهري الذي أفزع الآمنين من مسلمين وغير مسلمين، بين عبد المنعم رياض وسعد الدين الشاذلي قادة العسكرية وحماة الأوطان، وبين الزرقاوى والبغدادي، أمراء الإرهاب وهادمي الدول. بل هو الفارق نفسه بين أرسطو وكانط وراسل وابن رشد ومحمد عبده، رواد الفكر وحملة مشاعل النور عبر الأزمان، وبين المودودي وقطب وعبد السلام فرج وغيرهم من حراس المعبد وكهنة الأديان في كل مكان الأولون عمقوا معنى الإنسانية، والأخيرون أهدروا قيمة الإنسان.
ولا يعني عجز البعض عن السمو إلى مرتبة البطولة الإنسانية غيابًا مطلقاً للقدرة على التسامي، كما أن نجاح البعض في بلوغها لا يعني أنها قدرة مطلقة، مضمونة للنوع الإنساني، فالقدرة على التسامي ملكة متاحة، واستعداد كامن للنوع الإنساني ولكنها تظل صعبة على الفرد، يتطلب امتلاكها استعدادًا أخلاقيًا وجهادًا روحياً مستمرًا لا يستطيعه الجميع، فالإنسان ليس كينونة مغلقة، تنطق بالخير كله، أو بالشر كله، بل صيرورة ارتقاء عبر صراع، ينجح فيها البعض ويفشل البعض الآخر، بل قد ينجح الشخص نفسه في حين من الأحيان، قبل أن يعود فيفشل في آنٍ آخر، إذا ما وهنت قواه، أو زادت الضغوط عليه. غير أن المفاجأة السارة هنا أنه يظل قابلاً لاستعادة ألَقِه الروحي، وإنسانيته الشفافة، طالما لم تتوقف محاولات العودة، فمع توقفها تنعدم إرادته الأخلاقية ويذوي جوهره الإنساني.
يشي بذلك التأمل المباشر للخبرة البشرية، فالإنسان لا يشعر بالسعادة أو تغتني حياته بامتلاك الحقيقة أو حتى الأشياء، بل عبر السعي إليها، وبذل الجهد على الطريق إليها، فالملكات الإنسانية لا تنمو بالوصول إلى كُنه الأشياء، بل من خلال البحث عنه، والاجتهاد في مقاربته رويدًا، أما الشعور بامتلاكه فيميل بالإنسان إلى الركود والتكاسل وربما الغطرسة والغرور، وجميعها صفات تعكس بعضًا من مظاهر الموت. ربما يفسر لنا ذلك لماذا يكون الإيمان المكتسب أكثر أثرًا في النفس من الإيمان الموروث، فما نبذل الجهد وصولًا إليه يدخل في صميم إنسانيتنا، يملأ أرواحنا ويشغل تلك المساحة التي تفصل بيننا والكون الممتد حولنا. إنه مثل الثروة التي اكتسبها رجل عصامي، كدَ طويلاً وكثيرًا في سبيل تكوينها، فشعر بلذتها وأدرك قيمتها؛ لأنه يعلم كيف كانت حاله قبلها، وكيف صارت بعدها، ولماذا هي نعمة تستحق الاجتهاد لصونها؛ ولذا يهب حياته لتنميتها. أما ذلك الإيمان الذي نأخذه عن آبائنا، مثلما أخذه آباؤنا عن أجدادنا، فالأغلب أن يكون خاملاً، لا يثير في النفس ألقاً، ولا يضيف إليها شيئًا أصيلاً، فهو مُعطى موروث يشبه عقاراتٍ وأموالًا تم ادخارها، لا يشعر وارثوها بقيمتها في حياتهم لأنهم اعتادوا عليها، ولم يروا أنفسهم أبداً دونها، بل الأغلب أن يسعوا إلى تبديدها بالإنفاق السفيه لها، أو العجز عن بذل الجهد المطلوب لرعايتها، وربما لا يبدءون في تقديرها إلا بعد فقدها. فهل يمكن فهم سلوك المتدينين شكليًا، ولكن المنفصلين جوهريًا عن الفضائل الأخلاقية، أو سلوك الإرهابيين العدميين إلا بكونهم ورثة دين لم يعرفوه؟ وهل يفعلون شيئًا سوى تبديد إرثه الحضاري الذي صاغه مجاهدون حقيقيون نشروا رسالته في أرجاء الكون، وعلماء ومفكرون صاغوا معالم ثقافته الإنسانية في عصر نهضته الأولى؟.
ينطبق ذلك على شتى مجالات الحياة، ويفرض نفسه على جل البشر، فقد يبذل الإنسان جل وقته وأعظم جهده لتحقيق هدف عزيز المنال، متصورًا أن لحظة البلوغ هي الخط الفاصل بين شقاء وفرح، بين ألم السعي وسعادة الوصول، فإذا ما بلغ الهدف اكتشف أن سعادته منقوصة، وأن الشعور بالاكتمال يعقبه الإحساس بالضجر. وربما اكتشف أيضًا أن سعادته التي تصورها أمامه، قابعة عند لحظة تحقيق الهدف، إنما تقبع في الحقيقة خلفه، عند تلك اللحظات التي بدا فيها الهدف واضحًا، وأن الطريق إليه ممكن، ففي السعي تكمن السعادة، وفي أمل الوصول تتألق الروح، أما الوصول نفسه فلا يعقبه سوى الخواء. وهنا يتعين على الإنسان تجديد أحلامه وأهدافه واستكمال سيره إليها؛ حتى لا يتحول الخواء من لحظة عارضة إلى حالة دائمة، لعلها أكثر خطرًا على الإنسان نفسه من حالات الألم أو الفشل؛ لأن الشخص الخاوي لا يعترف أبدًا بخوائه، بل يُسقطه على الآخرين، ثم يشرع في ممارسة استبداده عليهم. فالعالم الخاوي، الذي توقف عن طلب المعرفة، سرعان ما يبدأ في التسلط على الآخرين باسم الحقيقة، مدعيًا التعالُم الزائف والحكمة الغائبة. والمتدين الخاوي، الذي توقف عن استبطان إيمانه، سرعان ما يبدأ في التسلط على الناس باسم الله تنطعًا وتطرفًا وربما عنفًا وإرهابًا. والمحب الخاوي، الذي توقف عن الشعور بالتوق والوجد، سرعان ما يبدأ في التسلط على المحبوب، قهراً لإرادته، واستهلاكًا لروحه باسم عاطفة لم تعُد قائمة فعليًا.
المغزى إذًا، أن السعادة لا يمكن أن تسكن في الرتابة والسكون والاكتمال والاستغناء، بل في الحركة والفعل والتحقق والتطلع، فإذا ما أُعطي الإنسان عائد رحلته وكفاحه منذ البداية فلن يفرح به؛ لأن سعادته آنذاك تصبح مفروضة عليه بقدر ما هي معطاة له، ليست ثمرة لجهده الخاص وشغفه الذاتي، أو لكفاحه الروحي والمعرفي والأخلاقي. ومن ثمَّ تكمن أهمية الحرية باعتبارها الوسيلة الأبدع لاكتساب سعادة يشعر المرء حقاً بأنه أهل لها، ما دام قد جناها بسعيه الدءوب وجهاده المتواصل، فذواتنا الجوهرية هي بنات حريتنا التي تكاد تعني قدرتنا على التحقق والترقي ومن ثم تطوير شروط وجودنا، ففي الكفاح الأخلاقي طلبًا للكمال، وفي التوق المعرفي طلبًا للحقيقة يُولد الإنسان ويرتقي، فيما يموت ويتخلف بالجمود واليقين.
ثانيًا: مصادر الألم الإنساني:
يبدأ كل إنسان حياته بصرخة عالية تعانق خروجه من رحم الغيب، من حشايا أم تألمت كثيراً بالنيابة عنه طيلة زمن تكوينه، أما وقد اكتمل جنينًا فليواجه مصيره، لقد صار مخلوقًا مثقلاً بأعباء وتحديات لا بُدَّ من مواجهتها، مُعرَّضًا لاختبارات لا بد من النجاح فيها وإلا تعرض لألم دائم ينبع من مصادر عدة، بعضها طارئ ينبع من أسباب ملموسة وعارضة يزول بنهايتها كالحزن لفقد الأقرباء والأصدقاء، أو الإحباط الناجم عن الإخفاق في تحقيق بعض الأحلام وما يلي ذلك من شعور بالخيبة. وبعضها من مصدر اجتماعي، تصاحب العجز عن التفاهم مع المحيطين؛ خصوصًا في مراحل الانتقال التاريخي وما تشهده من تغير سريع وتبدل شديد في المفاهيم أو تثيره من اضطراب في أنساق القيم والتقاليد المستقرة. غير أن ثمة مصدرًا أساسيًا للألم يكاد يصاحب الإنسان في شتى المجتمعات والعصور، إنه القلق الوجودي الناجم عن الفجوة الدائمة بين ما يملكه الإنسان فعلًا وما يأمل في امتلاكه، بين ما يكونه وما يحلم به. يحلم الفقير بالثراء، فإذا ما ازداد ثراؤه ازداد تطلعه إلى الأكثر، وهكذا يستمر في رحلة القلق. يحلم الإنسان بالنجاح، فإذا ما حققه ازداد توقًا إلى نجاح أكبر؛ ومن ثم ينهمك أكثر في مسيرة القلق. يحلم المريض بالصحة ولا يرى في الدنيا هدفًا سواها، فإذا ما شفي من المرض تفجر توقه إلى كل مباهج الحياة، وصار مفعماً من جديد بالأمل في عشرات الأهداف الأخرى. ولأن ما يريده ينمو دائمًا، وجهده محدود بطبيعته، يصبح القلق طابعًا أصيلاً لوجوده، لا سبيل إلى القضاء عليه.
ورغم مسيرة التقدم التاريخي والتطور التكنولوجي ظلت تلك الفجوة بين الممكن والمأمول قائمة، بل إنها ازدادت عمقًا في ظل فلسفات الحداثة المادية التي تدعو الإنسان إلى تحديها بزيادة طاقاته، وتنمية قدراته، وبذلهما في سبيل تعظيم ممكناته حتى تقارب رغباته. وهكذا تستحيل العلاقة بين الإنسان والعالم إلى صراع يسعى الإنسان من خلاله لإنفاذ إرادته، فيما العالم يتحداه وينثر الصعوبات على طريقه. قد ينجح البعض في تحقيق الذات ولكن الكثيرين يفشلون، والذين نجحوا اليوم ربما يفشلون غدًا، أو لعلهم كانوا قد عانوا الفشل بالأمس. نعم ينجح النوع الإنساني في تحقيق ذاته الكلية، وهو ما يفسر ذلك التقدم المطرد في مسيرة التاريخ، فلولا إصرار البشرية بالأمس على تجاوز ممكناتها، ما كان لديها اليوم جُل ما تملكه. ولكن الفرد نفسه لا يعيش تاريخ نوعه، ولا يملك زاوية نظر واسعة عليه وهو يسلك فيه، بل يندرج في أحد تجاويف هذا التاريخ، في هذا البلد أو ذاك، تلك المدينة أو سواها، يمتهن مهنةً بذاتها، ويواجه أزمات مختلفة وتحديات مغايرة لما يواجهه الآخرون وهو بصدد توكيد ذاته، ينجح أحيانًا ويفشل كثيرًا، ما يثير لديه توترات عميقة تحرمه من الراحة وتطالبه بالنهوض ليواصل جهاده الذي لا ينتهي؛ ما يعني أن يصير القلق طابعًا أصيلاً للوجود الإنساني، ولو انتفى بعض الوقت لدى بعض البشر، إنه القلق الوجودي الذي يتغذي من مصدرين أساسيين للألم والتوتر.
المصدر الأول هو الطبيعة المؤقتة للرضا الذاتي، فحتى الإنسان الذي ينجح في تحقيق آماله فعليًا ويشعر بنوع من الرضا عن نفسه يبقى رضاه مؤقتاً سرعان ما يتململ منه ويسعى إلى تجاوزه نحو هدف مغاير وإشباع جديد؛ الأمر الذي يؤدي إلى استغراق إرادة الإنسان في صراع دائم على أهداف متزايدة الصعوبة، طالما كان الإنسان موجودًا لم يهزمه اليأس أو يقهره العدم. هذا الفهم يفسر لنا مشاعر الارتياح التي تنتاب المرء في لحظة يأسه من هدف صارع طويلًا لأجل تحقيقه، قبل أن يصل في لحظة كاشفة إلى قناعة بأن مسعاه الصاخب والمرهق لم يعد مجديًا، وبات عليه أن يتوقف عنه. ينبع ذلك الشعور بالراحة لا من الفشل في حد ذاته، ولكن من توقف الصراع الداخلي وما يصاحبه من توتر نفسي، وهو ما يُسمى بـ (راحة اليأس). غير أنها راحة قصيرة، أقرب إلى هدنة، سرعان ما يقطع سكونها تحولان متناقضان في الاتجاه: أولهما توتر إيجابي يواكب انبعاث الإرادة الإنسانية مجددًا سعيًا إلى هدف مغاير للهدف المحبط، قد يكون موازيًا له في الطموح أو أقل قليلاً بفعل خبرة الفشل الأولى، ما يعني محاولة جديدة للفعل تكشف عن ذات إنسانية أصلب تصر على توكيد حضورها. وثانيهما توتر سلبي يُفضي إلى تعميم الشعور بعدم الرضا الجزئي عن الذات، الناجم عن خبرة الفشل الأولى إلى شعور باليأس الشامل من قدرة الذات على توكيد حضورها كلية؛ ومن ثم انطوائها على نفسها، يُداخلها إحساس عميق بعدم تقدير الآخرين لها، أو شعور قاتل بتحيز العالم كله ضدها، لتدخل في مرحلة توتر أعلى، نفسي وعقلي، ربما يصبح (مزمناً). وهنا نصبح أمام تطور من نوع مفارق، باتجاه إنسان ليس فقط غير قادر على الفعل كما كان الأمر عندما واجه خبرة الفشل الأولى، بل أيضًا غير راغب فيه، تمت هزيمته وإزاحته من موقع الموجود الفاعل، إلى واقع المفعول به.
أما المصدر الثاني، فهو الطابع الجدلي للوجود الإنساني الذي يقوم على الاحتكاك والتصادم والصراع؛ ذلك أن تحقيق البعض لآماله إنما ينال من قدرة الآخرين على تحقيق آمالهم. فحين أحاول التحرر من تأثير الآخر علي، يحاول هذا الآخر أن يتحرر من تأثيري الشخصي عليه، وحين أحاول السيطرة عليه يحاول هو أن يسيطر علي. لا نقصد هنا السيطرة البدنية التي نشاهدها في حلبات المصارعة، بل الهيمنة التي تتخلل علاقات التشابك الحياتي في كل المجالات والاتجاهات والمساحات التي يرغب شخص ما في التمدد داخلها، مثلما يريد غيره أن يتمدد، فإما أن يحقق هذا الشخص ذاته بالقدر الذي يجعله متنًا أساسيًا، فيما ينسحب الآخر إلى موقع الهامش، وإما أن ينجح الآخر في تحقيق ذاته بالقدر الذي يجعله هو المتن الأساسي ويدفع الأول إلى موقع الهامش. وهكذا دواليك، صراعات متكررة بين الذات والآخرين لا تحسمها فقط الإمكانات التي يحوزها هذا الطرف أو ذاك، بل أيضًا درجة التصميم التي يتمتع بها كلاهما؛ ما يجعل طريق الآمال البعيدة هو نفسه طريق الآلام العميقة.
تسهم مشاعر القلق الوجودي في تشكيل بيئة صالحة لترعرع ما نسميه بـ “الشخصية الوظيفية” كنقيض لـ “الشخصية المتسامية”، وكلاهما بمثابة الحدين الأساسيين لنمط الوجود الإنساني، تتناثر بينهما تنويعات شتى تمزج بين معطياتها بأقدار متفاوتة، يسعى النمط المتسامي إلى تجسيد جوهر النوع الإنساني، باعتباره مخزنًا للقيمة، ومركزاً للمعنى يدور حوله العالم. أما النمط الوظيفي فلا يكترث كثيرًا بالقيم المثالية والأمور المعنوية، ولا يبحث سوى عن اكتناز السلطة والثروة، يحارب في كل اتجاه تحقيقاً للمنفعة المادية والمصلحة، إرضاءً للغرائز وطلبًا لإشباع الحاجات الأولية. بل إنه يقترب في أقصى حالاته الاختزالية من الآلة التي تؤدي دورًا مخططاً على نحو مسبق لا تتجاوزه، إلى درجة قد يشعر معها بأنه غير مسؤول عن أفعاله. فإذا كان يعيش داخل شرط وجودي سلبي، في موقع طبقي أو وظيفي أدنى، يبدو مستعدًا لأن يكون وسيلة قهر أو ظلم للآخرين، لأن يرى نفسه مجرد “عبد المأمور” الذي ينفذ أوامر لا أخلاقية قد تأتيه، بحكم وظيفته، من سلطة عليا قاهرة كالتعذيب وانتهاك الأجساد، أو يتلقاها من ذوي ثراء ونفوذ يحيلونه أحيانًا إلى قاتل بأجر، يتسلط على منافسيهم أو على البشر الأسوياء الذين يرفضون مخططاتهم ولا يخضعون لأهوائهم، فتراه يقتل رجلًا أمينًا أو يشوه سمعة سيدة فاضلة خلاصًا من قيمة الشرف، إلخ. أما لو كان يتمتع بشرط إنساني إيجابي، يملك موارد قوة أو ثروة، فالأغلب أن يركز جهده في محاولات مستميتة لزيادة حصيلته سواء من السلطة كي يزداد تحكمًا في أقدار الآخرين، أو من الثروة التي تكفل له حيازة أشياء ومقتنيات لا يملكها الآخرون. وهكذا لا يبقى العالم الخارجي، الذي يحتوي على مقتنياته أو يشهد نفوذه، مجرد مجال لفعاليته وحيويته بل يصبح مركزًا لإلهامه ومرجعاً لأحكامه، فلا يعود لذاته قيمة جوهرية بل يتحول، دون أن يدري، إلى مجرد ترس في آلة شر جبارة، محض ذرة تدور في فلك العالم وما يمور به من صراعات غايتها النهائية تلبية حاجات الحواس على حساب الخيال الخلاق والإرادة الحرة والمُثل العليا.
نعم قد ينجح الشخص الوظيفي في إرضاء نزوعه إلى التملك والتسلط، ويحوز بفضل ذلك سعراً سوقيًا كبيرًا في نظر من يشبهونه أو لدى أركان المجتمع الاستهلاكي، لكن يظل افتقاده للقيمة الإنسانية واضحًا، بفعل افتقاره إلى موارد التسامي الروحي كالإيمان والحب والمعرفة والفن رغم ادعائه بامتلاكها وربما تطرفه في تجسيد مظاهرها. فالشخص الوظيفي قد يدَعي الإيمان بتمثل مظاهره كالذقن الطويل ذي الشعر المنسدل أو الجلباب القصير مع البنطال الطويل، أو تلك الجبهة العريضة المختومة بنسر التقوى. وقد يدعي الحب بترديد بعض كلماته أو ممارسة بعض طقوسه ولكن من دون إخلاص لمعناه الجوهري، فالمشاعر الزائفة ربما كانت طريقاً لتلبية رغبة حسية، أو زيجة مفيدة في إصابة مال ونيل سلطة، أو فتح طريق لترقٍ وظيفي أو حظوة اجتماعية. وقد يدعي المعرفة فيقتني الكتب ويرصع بها أرفف مكتبات أنيقة من قبيل الوجاهة الاجتماعية وتتميم الديكور المنزلي، دونما شغف حقيقي بها أو اهتمام بقراءتها. وأخيرًا قد يدعي محبة الفن، يذهب إلى منتدياته، يحضر حفلاته، بل يقتني أحيانًا منتجاته؛ خصوصا اللوحات التشكيلية، التي يدفع فيها الكثير من المال، لو كان قادرًا، فقط ليدعي أنه أرقى ذوقًا أو أعلى مكانة.
هذا الإنسان الذي تُمثل رغبتا التملك والسيطرة أساس إحساسه بالهوية، لا يفتقد فقط القدرة على أن يحب الآخرين، بل سوف يعجز في لحظة معينة عن أن يحب نفسه جوهرياً. ففي سعيه إلى السلطة والثروة لا بُدَّ وأن يخدم الحائزين لهما، أن يتذلل لهم كي يمنحوه فتاتهم، أن يلعب الأدوار الحقيرة التي لا يستطيعون أو لا يرغبون في لعبها؛ ومن ثمَّ يفشل في فرض احترامه عليهم أو صون كرامته في مواجهتهم، حتى لو نال بعضاً من دعمهم أو تمتع بتسهيلاتهم وهو يؤدي دوره الوظيفي في خدمتهم. ولعل هذا يفسر لنا وجود بعض أشخاص يمثلون ظواهر زاعقة في حياتنا، يلعبون أدوارًا تفوق أحجامهم الطبيعية في إلهاء الناس وإثارة اللغط حول سفاسف الأمور، ينشطون أكثر في فترات التيه الوطني والانحطاط الاجتماعي؛ كونهم يخدمون وضعاً بذاته، يعلو نجمهم معه، قبل أن يحترق أغلبهم بفعل فاعل، فيُلقى بهم في سلة مهملات كورقة كلينكس، ويتمكن أقلهم من الصعود واحتلال مواقع أسيادهم من سدنة السلطة والثروة السابقين، ليصبحوا السدنة الجدد. المفارقة هنا أن هذا الإنسان، بعد فترة طالت أو قصرت، ورغم صعوده الوظيفي سوف يغترب تدريجياً عن نفسه حتى يغيب تماماً عنها فلا يعود يعرفها، ولا يبقى قادرًا على استعادتها من براثن الدور السفلي الذي اعتاد أن يلعبه. نعم قد يتململ منه أحيانًا عندما تهتز لديه بقايا ضمير، أو يواجه لحظات “شجية” في حياته تفجعه خلالها أحداث ومواقف تثير العبرة وتدعو إلى الاعتبار، غير أنه سرعان ما يعود إلى سيرته الأولى بمجرد عبور تلك اللحظات الاستثنائية، مجرد آلة وظيفية تلعب دورًا وظيفيًا محايدًا بلا مشاعر صادقة أو فضائل ذاتية، يهدف إلى تراكم لا نهائي للنفوذ والثروة، مهما كانت أثمانها.
ولأن الشخصية الوظيفية تبدو كعدوى اجتماعية، يصبح طبيعيًا أن تنمو الرغبة في الهيمنة والتملك لدى الكثيرين داخل المجتمع الواحد، وأن يخاف كل شخص من أن يأتي ثراء الآخر أو هيمنته على حسابه هو، فينمو توجسه إزاء الآخرين جميعًا. وخشية أن يكون محلًا لعدوانهم يسعى هو إلى استباق عدوانيتهم بالهجوم عليهم عبر أشكال مختلفة، وهنا قد تنمو أشكال الفساد والاحتكار، وتترعرع أشكال القهر والظلم، ويصبح المجتمع فقيرًا تماماً ولو كانت موارده غزيرة جدًا، بل يدخل في حالة أشبه بحرب الجميع ضد الجميع. تلك الحالة المجتمعية سرعان ما تطرح آثارها على العلاقات الدولية فيتراجع السلام، كتعبير عن علاقات انسجام وتوافق بين الأمم، وهو ما حدث في أغلب عصور التاريخ سواء في زمن البداوة والفقر أو حتى في زمن الرفاهة والتقدم، حينما تطور العلم واستطاعت التكنولوجيا أن ترفع مستوى حياة البشر؛ ذلك أن الجشع الفردي، والتناقض الطبقي، والتحيز الدولي، ليست سوى أدوات هدر لمسيرة التقدم البشري، وقيود حديدية تعيق مسعى الإنسان للسيطرة على مصيره، وسدود عالية تعوق تقدمه نحو الفضيلة والعدالة والحرية.
بل إن عالمنا الراهن، إذ يزداد معرفة، يكاد يزداد شرًا؛ إذ يمكن الادعاء هنا بأن تكنولوجيا سفك الدماء وتخريب العمران بلغت مداها الفائق، وأن قدرة الإنسان على الإيذاء الفردي تجاوزت كثيرًا حدها البدائي المعروف، مثلما تجاوزت قدرة الجماعات البشرية على القتل الحد الأدنى التقليدي المألوف. وفي المقابل يصعب الادعاء بأن حكمة العالم قد زادت بما يوازي قدرته على الإيذاء. والنتيجة النهائية هي أن علاقة المعرفة بالقدرة على الإيذاء صارت مؤكدة بينما تظل علاقة المعرفة بالحكمة والسلام احتمالية. وعلى سبيل المثال فإن مجتمعاتنا الحديثة التي أدركت الأهمية الفائقة لحقوق الإنسان باعتبارها حكمة زماننا لم تندفع بالضرورة إلى احترام جميع تلك الحقوق في كل الأحوال، فظلت المذابح تفتك ببعض البشر، يتورط فيها الجشعون وتجار الدماء وأمراء الحرب الأغبياء، فيما يخطط لها ويحيك خيوطها الأقوياء، بل إنهم لا يتورعون عن مدها بالمال والسلاح وكل الوقود اللازم لإشعال الحرائق وتمديدها.
ولعل الناظر إلى المقتلة السورية الممتدة بطول العقد الثاني من القرن العشرين وحجم الألم المتولد عنها والمصاحب لها، يجد فيها كل عناصر المأساة الإنسانية، ويدرك كيف استحالت الادعاءات الليبرالية والنزعة الإنسانية والمنظومات الحقوقية محض خطابات أيديولوجية يلوكها الأقوياء، وفي أحسن الأحوال عقدًا من اللؤلؤ لا يزين سوى أعناق سيدات القصر في الدول الثرية المتقدمة، القادرة أصلا على الفتك بالآخرين. ما يؤكد على أن عضلات البشر باتت تنمو أسرع كثيرًا من ضمائرهم، وأن قوتهم لا تزال تتفوق على حكمتهم، وهو عكس ما يتطلبه الشرط الإنساني من حضور عميق للقيم الروحية والأخلاقية، لتبقى يقظة ضمير الإنسان في مستوى حذق عقله وقوة عضلاته.
لم ينجُ من قبضة الشخصية الوظيفية هذه، اللهم سوى جماعات ثقافية محدودة عبر التاريخ المديد، انطوت في الجيوب الداخلية للمجتمعات الواسعة، سلكت طريقاً مختلفاً في التعاطي مع الفجوة الوجودية بين الممكن والمأمول، فلم تسعَ من الأصل إلى تحديها بل إلى التكيف معها؛ ومن ثم نجحت في التخلص مما تثيره من شعور بالقلق. على سبيل المثال، ثمة حركات التصوف اليهودى النحيفة (القبالاة)، وثمة أيضًا نزعات الزهد المسيحي المتمثل في جماعات الرهبنة؛ وكذلك تيارات الزهد الإسلامي المتمثل في جماعات التصوف على تنوعها. وجميع تلك الحركات الدينية مثلت نوعًا من التمرد الهادئ على أنماط التدين التقليدي السائد. وهناك أيضًا المهمشون المحدثون الذين يخفون هامشيتهم خلف نزعات تمرد فلسفي وفني تسبغ معنى إيجابياً على اغترابهم السلبي، كجماعات الهيبيز مثلاً. فلدى هؤلاء جميعًا تتوقف الذات عن المطالبة بالاندراج في الصراعات والسجالات الحادة التي تصنع متن التاريخ، باعتباره مجالاً لتبادل التأثير وإعمال الإرادة، وتستسلم لوجودها الساكن على هامشه في هذه الزاوية القصية أو تلك من عالم شرس وغير أخلاقي.
حتى اليوم، لا تزال الرهبنة المسيحية مستمرة في بعض الأديرة، ولا تزال ظلال التصوف الإسلامي مرئية في بعض الطرق وحول بعض الأولياء، ولا تزال توجد بعض ظواهر التمرد قائمة على يسار حركات الهيبيز، والمؤكد أنه لا يزال هناك بوذيون يؤمنون بفلسفة اللاتعلق. ولكن يبقى السؤال: ألسنا بحاجة إلى تطعيم الوجود الإنساني بموارد معنوية حديثة للتسامي، تمنح لتلك الجيوب ولغيرها من أطياف الإنسانية المعاصرة القدرة على الانفلات من فجوة القلق الوجودي تحقيقاً للشعور بالانسجام والطمأنينة إزاء ضغوط الواقع الخشن؟ على التحرر من الجشع والأنانية المرتبطين بالشخصية الوظيفية التي تسيء للإنسان وتنال من شروط ازدهاره؟
ثالثاً: ركائز التسامي المعنوي
على عكس الشخصية الوظيفية، تعكس الشخصية المتسامية كل ما يليق بالروح الإنساني، تجسيداً للصورة التي تنسجم سواء دينيًا مع وضع الإنسان كخليفة أرضي، يتعين عليه النهوض بمهمة العمران دون السقوط في بئر الدنيوية الفجة أو الضياع في متاهات الحس والغريزة، وجميعها يلعب في حياة الإنسان دور عوامل التعرية في حياة الطبيعة. أو فلسفيًا مع مفهوم الذات “الترانسندنتالية”، القادرة على إدراك مغزى وجودها، قبل انطلاقها نحو معرفة العالم من أولية معرفتها بنفسها وإدراكها لممكناتها التي تحدد جوهرها وواجبها الأخلاقي تجاه النوع الإنساني كله.
تتغذى الشخصية المتسامية على موارد معنوية نسميها بـ “ركائز التسامي”، وعلى رأسها أربعة أساسية: أولها الإيمان الروحي كوسيلة مثلى لإنماء العالم الداخلي للإنسان، وحفظ توازنه في الكون، حيث المرجعية الإلهية تستخرج من الإنسان أنبل ما فيه، إذ تبثه ضميرًا خُلقيًا مريدًا للخير هيابًا للشر، مدفوعًا إلى الحق، رافضًا للظلم الذي يتناقض ومقصود الله في الكون. وثانيها الحب، أبدع المحاولات الإنسانية، بعد الإيمان، للخروج من كهف الوحدة وأسر الذات وكآبة الاغتراب إلى فضاء الحميمية والتعاطف مع الآخرين من كل الأجناس والأوطان والأديان، والتعامل معهم كذوات إنسانية حية وليس كمجرد موضوعات أو أشياء. وثالثها المعرفة كملكة فائقة تتيح للإنسان، إذا ما خلصت من شوائب الغرور الوضعي، وعيًا عميقاً بحدود طاقاته الكامنة في بشريته، وبالعوائق الكامنة في بيئته؛ ما يتيح له إمكانية تغيير عالمه نحو الأفضل. أما رابعها فهو الفن الذي يتيح للإنسان إمكانية التعرف إلى نفسه. فعلى تعدد أشكالها، وتباين مستوى الإبداع فيها، تعكس جميع الفنون قدرة مبدعيها على استجلاء وتذوق المعاني الأكثر أصالة وعمقاً في حركة سيرنا البشري؛ ما يضعنا دومًا وبشكل كثيف أمام حقيقتنا الإنسانية في سباق جمالي، غير وعظي، يطلق أعمق خيالاتنا.
عندما يحوز الإنسان كُلَّ أو جُلَّ الموارد المعنوية، يبدو غنيًّا جداً وقويًا جداً؛ لأن مركز ثرائه بات ينبع من داخله لا من العالم المحيط به، وقوة حضوره تتركز في ذاته وليس في مراكز سلطة خارجية قد تسنده اليوم لتضغط عليه في الغد. ومن ثم تنتفي قدرة الآخرين في مجتمع السوق على انتزاع موارد قوته ومواطن ثرائه التي لا تخضع لقواعد كالعرض والطلب؛ لأنها لا تخضع أصلاً للقانون الاقتصادي الشهير بـ “الثمن”، والذي يحدد ثمن الأشياء بـ “فرصها البديلة”؛ أي بما أهدر في صناعتها من موارد كان من الممكن استخدامها في صناعة شيء بديل؛ ذلك أن موارد التسامي المعنوي، عكس الموارد الطبيعية، غير قابلة للنفاد، بل إنها تتراكم بإنفاقها، فكلما زاد توزيعها على الناس تنامت عند مصدرها الأول.
فالإيمان الروحي، إذ يزكي أخلاقية المؤمن، إنما يسهم في تنمية الفضيلة بين جميع الناس من دون أن تنقص فضيلة المؤمن الأول، داعية الأخلاق، ذرة واحدة. وهكذا القدرة على بذل الحب، فهي تشحن روح المحبوب بطاقة هائلة دون أن تقلل من طاقة المحب نفسه، بل تزيد منها عندما ينتشي ذلك المحب بأثره في الذين يحيطون به؛ ولذا يقال في الأمثال أن الحب كالعدوى ينتقل إلى المحيطين. وهكذا حال المعرفة إذ تنمو من الفرد لتصنع حلقة علمية أو مدرسة فلسفية حول العالِم / الفيلسوف الذي يطلقها فإذا بمن يحاورونه يلهمونه بالجديد من الأفكار أو النظريات. وأخيرًا يأتي التذوق الفني، تجسيداً للقاعدة ذاتها، فالفنان إذ يكتشف الجمال أو يعبر عنه أو يبدعه، ثم يدعو الآخرين إلى تذوقه، إنما تزداد قدرته هو على الخلق، بما يشيع حوله من مناخ مشجع وملهم. وهكذا نجد أن النشاطات الجوهرية للإنسان كالإيمان والحب والمعرفة والفن، والتي تنهض بها ملكاته الأساسية: الضمير والروح والعقل والخيال إنما تزدهر بالاستخدام الأول لها سواء لدى من يطلقونها فتعود إليهم، أو من يُحسنون استقبالها فتشيع بينهم. وعبرها يحقق الإنسان جوهره الحقيقي، فيعلو على الطبيعة المادية وعلى المملكة الحيوانية بل على الجوانب الحسية لديه؛ ليصبح ذلك الكائن المتسامي الذي نفتقده كثيرًا في عالم اليوم الحافل بالعنف والأنانية والقبح، تلك الشخصية التي يُحركها طموح لا ينتهي إلى الإيمان الأرحب، والمعرفة الأعمق، والحب الأصدق، والجمال الأرقى، وإن لم تتحصل منها جميعاً على الحد الأقصى؛ إذ يكفي الإنسان أن يكون لديه تلك المثل العليا، أن يسعى إليها ويتحرك صوبها مثلما تتحرك الفراشة نحو النور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* صلاح سالم (2002). تأملات في الوضع البشري: الأسئلة الكبرى للوباء الكوني. ط. 1. القاهرة: دار العين للنشر. ص ص. 29- 63.