قراءة في فكر محمد شحرور
ومعالجته للقرآن الكريم
د. مدحت ماهر الليثي (*)
لا شك أن التجديد من أصول الإسلام ومبادئه ومقاصده، وهو من سنن الله تعالى في كونه وخلقه. والاجتهاد لإدراك الحق والحقيقة أمر واجب على كل إنسان؛ إعمالًا لنعمة العقل السوي والقلب السليم، واستجابًة لحث الله تعالى على ذلك “كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” (البقرة: 242)، وإنكاره على الذين لا يتفكرون ولا يتدبَّرون ولا يفقهون ولا يعقلون “إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ” (الأنفال: 22). ومن ثمَّ، بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّته بدوام تجديد دينها في دورات القرون، حيث قال: “إنَّ اللَّهَ يبعَثُ لِهذِه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سَنةٍ مَن يُجدِّدُ لَها دينَها” (صحيح أبي داوود: 4291)، سواء كان المُجدِّد فردًا أو جماعة، منفرطين أو مؤسسة. وحثَّ النبي على ممارسة الاجتهاد بلا وجلٍ ولا اضطراب؛ بحيث إن مَن اجتهد وبذل في ذلك غاية وسعه ثم أخطأ، لم يُعدَم أجر المحاولة وثواب المجاهدة، فقال: “إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فَلَهُ أجْرانِ، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ” (صحيح البخاري: 7352)، فالمجتهد المُخطِئ معذور، بل مأجور.
ولا يخفى على عاقل أن المقصود من هذا هو الاجتهاد الحقيقي والتجديد الجاد الذي يعدُّ له المرء عدَّته، ويستوفي له لوازمه. فما من مقصودٍ إلا وله وسائله، وما من بابٍ إلا وله مفاتحه، فمَن حصَّل الوسائل بلغ المقصود، ومَن أتى بالمفاتيح فتح الموصود، وإلا لن يصل ولا يُفتَح له. وعبر تاريخ الإسلام، مارس العلماء كلا الأمرَيْن: التجديد الكلي لما أصابته الغشاوة العامة، والاجتهاد الجزئي إزاء ما يُستجَد من القضايا والمسائل. ووقع في ذلك خلافاتٌ ونقاشاتٌ ثرية في المضامين لمَن طالعها، لكنها مهما اختلف فيها الناسُ احتفظت بثوابت ومعالم أساسية تحفظ على هذا الدين ذاته وأصوله المستقرة، وتحُول دون تمييع العلوم والديانة في أذهان الناس أو إضعاف احترام الدين في قلوبهم. ومن هنا برزت شروط ولوازم لممارسة الاجتهاد في العلوم الشرعية، وأكثرها بديهي لا يختلف عليه أصحاب العقول السليمة. فكما أن التجديد في العلوم الطبية والهندسية لا يتسنَّى لغير المُتخصِّصين فيها، المُطَّلعين على قواعدها ومنهجيتها، كذلك الأمر – بل هو أعظم – في مجال العلوم الشرعية التي عليها مدارُ المعاش والمعاد، للفرد والجماعة والإنسانية جمعاء.
هذا، وقد ابتُلِيَت الأمة الإسلامية بردحٍ من الزمن، ضعُفت فيه روح التجديد، ووهنت فيه عزائم الاجتهاد، بما أسهم في حدوث تراجعٍ حضاريٍ كبير لا نزال نعاني من آثاره. وقد حاول كثيرٌ من المُجدِّدين والمُجتهدِين مقاومته وإنهاض الأمة، فنال بعضهم قسطًا من ذلك، بينما لم يُوفَّق آخرون. لكن الأمة تشهد منذ أكثر من قرنٍ مجاهداتٍ جادَّة لبثِّ روح التجديد والإنهاض في شتى شئونها الدينية والدنيوية، الأمر الذي تتصاعد وتيرته يومًا بعد يوم، وإنْ كان في خضمِّ عقباتٍ كؤود.
هذا، ومن المهم التنبّه إلى سُنَّة الله تعالى في أن يجعل لكل نبيٍ عدوًا من المجرمين، ولكل مُجدِّد أو طائفة مُجدِّدة مَن يناوئهم، سواء بالتجميد أو بالتبديد. ألا وإنّ من أخطر ما يعوق التجديد ودُعاته هم مُدَّعوه وزاعموه بغير حق، ومُنتحِلو اسمه بغير حقيقته، بل بضد حقيقته؛ فيسمع الناس منهم اسم التجديد، لكنهم لا يرون من ثمار حركتهم سوى اضطراب المنهج وغثاثة المُنتَج.
ولقد شهد تاريخ التعامل مع القرآن الكريم الأمَرَّيْن من جرَّاء هذه الفئة، قديمًا وحديثًا. فخرج مَن يدَّعي أن القرآن الحكيم يتسامح مع البغاء والإكراه عليه، من فهمه السقيم لقوله تعالى: “وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” (النور: 33) [1]، واستحلَّ قومٌ الخمر ومُحرَّمات الطعام بدعوى فهمهم لقوله تعالى: “لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ” (المادة: 93)، وادَّعى آخرون أن قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ” (الانفطار: 6) فيه حضٌ على عدم الخوف من المعصية؛ لأن الله كريم، فقال أحدهم: “تكثَّر ما استطعت من الخطايا .. فإنك قاصدٌ ربًا غفورًا” (أبو نوَّاس)، وقال آخر: “عندما نقرأ قوله تعالى: “والإثم والبغي بغير الحق” (الأعراف: 33)، فنحن نفهم ضمناً وبالضرورة أن هناك إثماً وبغياً بحق”[2]، حتى تجرَّأ المُتلاعِبون، فقال بعضهم إن القرآن يُثبِت ألوهية عيسى بن مريم، “فعيسى في القرآن هو كلمة الله، وكلمة الله غير مخلوقة، ولذا فعيسى غير مخلوق”[3]. كما زعم بعضهم أن القرآن يقول بوهمية الجنة والنار والقيامة، وأنها ليست إلا أمثلة ترغيب وتخويف لفعل المأمور وتجنُّب المحظور؛ مُردِّدين قوله تعالى: “وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا” (الإسراء: 59) [4]، وهكذا دواليك.
لقد ظهرت مثل هذه التأويلات الفاسدة قديمًا باعتبارها ألاعيب جزئية. أمَّا حديثًا، فقد تعكَّر خط التجديد في التعامل مع الذكر الحكيم بمَن يدْعون إلى “التجديد الكلي”، بقلب مائدة المناهج المعهودة كلها، وإبداع مناهج جديدة في فهم التنزيل وتفهيمه للناس، واستخلاص العقائد والتشريعات منه، وفق هذه الرؤى الجديدة التي لم ترقَ بعد لتكون مناهج مكتملة أو واضحة أو مُعتمَدَة. فبعد ما قام به الألوسي والقاسمي والشنقيطي ومحمد عبده ورشيد رضا وابن باديس والطاهر بن عاشور والمراغي ومحمد عبد الله دراز وغيرهم، وتزامنًا مع دعوات إبراز الوجوه المتعددة للإعجاز القرآني، علميًا وبلاغيًا وبيانيًا وموضوعيًا واجتماعيًا وحضاريًا، بدأت تنجم دعوات للتعامل مع القرآن باعتباره مجرَّد “نصّ أدبي يُقرَأ ويُنقَد بمناهج النقد الأدبي الغربية” التي لم تستقر حتى بين أهلها، ولم يُعرَف بعد ظاهرها من باطنها[5]، أو باعتباره “نصًّا اجتماعيًا وإنسانيًا نسبيًا (تاريخانيًا) يٌقرَأ ويُفهَم من خلال العلوم الاجتماعية والإنسانية ونظرياتها الحديثة (الاجتماع والسياسة والاقتصاد والنفس وغيرها)” [6]، الأمر الذي استفحل في الثلث الأخير من القرن العشرين.
هذا، وتمثل كتابات المهندس السوري محمد شحرور، والطريقة التي يدعو إلى التعامل بها مع القرآن الكريم، ثم بقية أصول الإسلام تباعًا، نموذجًا صارخًا على حالة متصاعدة من التناول اللامنهجي أو غير العلمي مع الكتاب الكريم، بما في ذلك ما أناط به أعماله من توصيفاتٍ تبجيلية كثيرة، باعتباره “من أوائل المُجدِّدين بعد عهدٍ طويل من عهود الانحطاط والتقزُّم والجمود في العقل العربي… [حيث] قَلَبَ المفاهيم، وقدَّم للمرة الأولى في العصر الحديث مفاتيحَ فهم التنزيل الحكيم…[7] حيث تمّ اختراق الكثير ممَّا يُسمَّى بالثوابت، وخاصةً ما يُسمَّى أصول الفقه التي تمّ وضعها من قِبَل الناس في القرون الهجرية الأولى، وهي برأينا لا تحمل أي قدسية، وبدون اختراق هذه الأصول نرى أنه لا يمكن تجديد أي فقه… فأي تجديد لا يُسمَّى تجديدًا إلا إذا اخترق الأصول”[8]. فمَن هو الدكتور محمد شحرور، وما هي معالجته للقرآن الكريم وعلومه، وما هي منطلقاته ومنهجيته وآراؤه التي خرج بها من ذلك؟
أولًا: محمد شحرور وموقفه من القرآن وعلومه:
يُعَد محمد ديب شحرور واحدًا من الكُتَّاب المعاصرين الذين شغلتهم قضية التجديد في الخطاب الديني المعاصِر للقرآن الكريم. ولذا راح يُقدِّم مجموعة من الآراء التي أثارت جدلًا واسعًا حول فهمه للنص القرآني، وكذا لكلٍ من السنة النبوية، والتراث التفسيري والفقهي واللغوي المنوط بهما. وقد بدأت علاقة شحرور بالقراءة والكتابة حول القرآن الكريم متأخِّرة؛ حيث استهلَّ الكتابة الفعلية في هذا المجال عام 1980، أثناء وجوده في أوروبا، وبالتحديد في مدينة “دبلن” الأيرلندية، وكان عمره قد جاوز الإثنين والأربعين عامًا، قضى معظمها في دراسة الهندسة المدنية، والتي كان قد أنهى دراسته للدكتوراه في تخصصها آنذاك. وحريٌ بالذكر أن قراءاته في الدين أو اللغة العربية لم تكن ملحوظة حينذاك؛ إذ تُبيِّن سيرته الذاتية أنه عكف على دراسة اللغة العربية متأخِّرًا، مُعتمِدًا على ما قدَّمه له صديقه الدكتور “جعفر دك الباب” عن رسالته للدكتوراه في موضوع “الخصائص البنيوية للعربية في ضوء الدراسات اللسانية الحديثة[9]،” وما أسهم به كلٌ من “أحمد بن فارس” و”أبو علي الفارسي،” و”ثعلب،” وبعض آراء “ابن جنِّي”.
وقد كان لمعيشة شحرور في أوروبا أثرٌ كبير على فلسفته الفقهية والفكرية، حيث تأثر بالمناهج النقدية والفلسفية الغربية، مُشِيرًا إلى أنه كان يدخل في نقاشٍ وجدالٍ طويل مع أنصار الماركسية – على سبيل المثال – وغالبًا ما كان يخرج مُثخنًا بالجراح في حلقة النقاش الديني معهم، مُرجِعًا ذلك إلى أن ثقافتنا الدينية لا تعطينا المرتكزات التي تُمكِّننا من الإجابة عن العديد من الأمور. ومثل كثيرين من مُمارِسي النقد الحديث للتراث، والدَّاعين لمناهج جديدة للتعامل مع كلٍ من الكتاب والسنة، لا يهتم شحرور ببيان ما اطَّلع عليه من ذلك التراث، ولا بالكشف عن مدى معرفته بما ينقدُه أو يرفضُه أو حتى يتقبَّله.
ويحرص شحرور على عدم إعلان انتمائه إلى أية مدرسة قديمة أو حديثة، اللهم إلا إشارات إلى “تيار القراءة المعاصرة للقرآن الكريم،” وآراء متناثرة وضئيلة جدًا لأبي علي الفارسي. ولذلك يغلب عليه الإنشاء المقتبَس من الماركسية ومن الفلسلفات الغربية للعلوم الطبيعية، وخاصة التطور الدارويني. ويتبدَّى للمُتابِع والمُراقِب لتطور خريطة التعامل الحديث مع القرآن الكريم في بلادنا، أن شحرور ينتمي إلى تيار “القراءة الحداثية” الذي يُعَد الأستاذ أمين الخولي أحد أبرز دُعاته، والذي بدأ بالدرس الأدبي الاجتماعي، ثم تطوَّر إلى تطبيق النظريات الأدبية (البنيوية والألسنية وتحليل الخطاب والنص)، لكن شحرور يتميز عن هذا التيار بمقولتين:
- مقولة اللاترادف اللغوي (أي أن اللفظ الواحد في اللغة ليس له نظير): والتي فهمها شحرور بطريقة آلت به إلى تحريك سائر المصطلحات القرآنية والشرعية عن دلالاتها المستقرة، بهدف استحداث معانٍ أخرى لها، على نحو فصل فكر شحرور عن كلٍ من القدماء والمعاصرين، وصنع له قاموسًا خاصًا يعسر تعميمه، وجعله حالة منفردة منغلقة عن التواصل مع مفهومات الآخرين لكلمات القرآن.
- مقولة المنهج الرياضي والشكلي للتفسير والتشريع: والتي استعاض بها عن القواعد التفسيرية والفقهية في فهم حدود الله تعالى وأحكامه، وقواعد الحلال والحرام ومناهج الفتوى والقضاء؛ ليخرُج بنتائج غريبة على العقل المسلم القديم والحديث، وإنْ حاول وصلها بما يُسمِّيه بـ “قيم العصر والحداثة”.
وفي المحصِّلة، أسفرت محاولات شحرور عن عددٍ من المؤلفات ضمن سلسلةٍ عنوَنها “دراسات إسلامية معاصرة”، هي: “الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة” (1990)؛ “الدولة والمجتمع” (1994)؛ “الإسلام والإيمان: منظومة القيم” (1996)؛ “نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي: فقه المرأة.. الوصية – الإرث – القوامة – التعددية – اللباس” (2000)؛ “تجفيف منابع الإرهاب” (2008)؛ “القصص القرآني: مدخل إلى القصة وقصة آدم” (2010)؛ “القصص القرآني: من نوح إلى يوسف” (2012)؛ “السنة الرسولية والسنة النبوية: رؤية جديدة” (2012)؛ “الدين والسلطة: قراءة معاصرة للحاكمية” (2014)؛ “أم الكتاب وتفصيلها: قراءة معاصرة في الحاكمية الإنسانية.. تهافت الفقهاء والمعصومين” (2015)؛ “دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم: المنهج والمصطلحات” (2016)؛ و”الإسلام والإنسان: من نتائج القراءة المعاصرة” (2016).
هذا، ولقد نقَّح شحرور بعضاً من مؤلفاته تلك، وأعاد طرحها مرة أخرى، لتحمل العناوين التالية: “الكتاب والقرآن: رؤية جديدة” (2011)؛ “فقه المرأة: نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي” (2015)؛ “نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي: أسس تشريع الأحوال الشخصية.. الوصية – الإرث – القوامة – التعددية – الزواج – ملك اليمين – الطلاق – اللباس” (2018)؛ و”الدولة والمجتمع: هلاك القرى وازدهار المدن” (2018). علماً بأنه قد أشار في مقدمة كتابه “تجفيف منابع الإرهاب” الصادر في عام 2008 إلى أن الأربعة كتب السابقة عليه، والمذكورة أعلاه، مخالِفة في بعض موضوعاتها لذلك الكتاب، وأنه قد تم تصويبها فيه، انطلاقاً من كون منهجه المُستخدَم يكشف مواطن الخلل في ذاته، بدون محاباة وبدون عواطف [10].
ثانيًا: منطلقاته
إجمالًا، يمكن القول إن من أبرز ما يقوم عليه تيار “القراءة المعاصرة” من مُسلَّماتٍ ومنطلقاتٍ أساسية، وينطلي على فكر شحرور ذاته، هو فكرة “التقدم أو التطور الزمني الخطي”، والتي تستوجب بالتالي القول بـ (1) عدم صلاحية المناهج المعهودة والموروثة للتعامل مع القرآن الكريم أو التعبير عن الإسلام؛ و (2) إعمال المناهج الحديثة (الأدبية والتأويلية والطبيعية) في فهم الدين وعلومه، بدلًا من تلك التي عفا عليها الزمن (!)؛ وكذا (3) ضرورة التوفيق بين تعاليم الدين ومخرجات العصر المادية والمعنوية في كافة مناحي الأنشطة الإنسانية. ولكون المقولات السابقة عُدَّت مُسلَّمات بالنسبة لأنصار هذا التيار، لم يقُم شحرور ولا غيره بمراجعة متفحِّصة لمناهج التراث؛ للبرهان على عدم أهليتها للتفعيل الإيجابي في العصر الحديث، كما لم يظهر أي اهتمام باختبار المنهجيات الحديثة للحكم على أهليتها وكفاءتها هي الأخرى، كما لم يُعنَي هذا التيار بتقديم رؤية نقدية تأصيلية للقيم الغربية وفلسفتها التي سمَّوها بـ “قيم العصر”.
وكما سلفت الإشارة، ارتباطًا بكوْن قراءته تكاد تكون مُتفرِّدة في صياغتها، فقد عَرَضَ شحرور لمنطلقاته الأساسية الخاصة في مؤلفِ خاص، أسماه “دليل القراءة المعاصرة: المنهج والمصطلحات”، اشتمل على ما يلي:[11]
- إن آيات التنزيل الحكيم عبارة عن نصّ إيماني، وليست دليلاً علمياً، وعليه فإنه يمكن إقامة الحجّة بواسطتها على المؤمنين بها فقط، أمّا على غيرهم فلا يمكن. وعلى أتباع الرسالة المحمّدية المؤمنين بالتنزيل الحكيم أن يوردوا الدليل العلمي والمنطقي على مصداقيتها، وفي ذلك تتمثّل مهمّتهم الأساسية. علماً أنّ كلّ الإنسانية تعمل على ذلك، علمت بذلك أم لم تعلم، “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ” (الروم: 30).
- إن التاريخ الإنساني ككل في مسيرته العلمية والتشريعية والاجتماعية، هو صاحب الحق في الكشف عن مصداقية التنزيل الحكيم، وهذه المصداقية ليس من الضروري أن ترد على لسان صحابي أو تابعي أو فقيه، بل قد ترد على لسان كل مَن يقرأ نصوص التنزيل الحكيم قراءة واعية وممنهجة.
- إن الوجود المادّي وقوانينه هما كلمات الله، وأبجدية هذه الكلمات هي علوم الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا والفضاء… إلخ، وإنّ الكمّ المنفصل (Digital) والكمّ المتّصل (Equations) هما آليّة هذه العلوم، وهذا الوجود مكتفٍ ذاتياً ولا يحتاج إلى شيء من خارجه لفهمه، وهو لا يكذب على أحد ولا يغشّ أحداً، وفي نفس الوقت لا يساير أحداً وهو عادل في ذاته “وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً” (الأنعام: 115).
- بما أن التنزيل الحكيم هو كلام الله “وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ” (التوبة: 6)، فوجب بالضرورة أن يكون مكتفياً ذاتياً، وهو كالوجود لا يحتاج إلى أيّ شيء من خارجه لفهمه، هذا لإيماننا واعتقادنا بأنّ خالق الكون بكلماته هو نفسه مُوحِي التنزيل الحكيم بكلامه، وهو الله سبحانه وتعالى. لذا فإن مفاتيح فهم التنزيل الحكيم ليست من خارجه، بل هي بالضرورة داخله (تفصيل الكتاب) وما علينا إلّا البحث عنها فيه.
- الأساس في الحياة هو الإباحة، لذا فإن الوحيد صاحب الحق في التحريم هو الله فقط، ولكنّه أيضاً يأمر وينهى، والنبي كان يأمر وينهى، والناس كانوا وما زالوا يأمرون وينهَون، لأنّ هناك فرقاً شاسعاً بين التحريم والنهي. ويتّضح ذلك على أساس أنّ المحرّمات قد أُغلِقت في كتاب الله وحُصِرت فيه بـ 14 محرّماً لا أكثر ولا أقل، وبالتالي تصبح كل إفتاءات التحريم لا قيمة لها.[12] وهكذا فإنّ كل ما عدا الله، ابتداءً من الرسل وانتهاءً بالهيئات التشريعية، تنحصر مهمّته في الأمر والنهي فقط: “وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا” (الحشر: 7)، حيث إنّ كلّاً من الأمر والنهي ظرفي زماني مكاني، والتحريم شمولي أبدي. لذا فإن الرسول (e) لا يحرم ولا يحلل، وإنما يأمر وينهى، وكلّ نواهيه ظرفية… وهي قابلة للنسخ لأنها اجتهادات إنسانية وليست وحياً، وكانت بمثابة القانون المدني الذي سنّه لمجتمعه، بناءً على اجتهاده الإنساني كقائد أعلى للمجتمع… وجاءت طاعته فيه طاعة منفصلة أي واجبة لمَن عاصره من أفراد مجتمعه فقط.
- إنّ محمّداً (e) قد جاء نبيّاً مجتهداً غير معصوم في مقام النبوة: “لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ” (التوبة: 117)، وجاء رسولاً مُبلّغاً ومعصوماً في مقام الرسالة: “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ” (المائدة: 67)، وبناءً على ذلك فهناك نوعان من السنّة: سنّة رسولية وسنّة نبوية، بحيث توجد المحرّمات الإلهية الـ 14 في السنة الرسولية، لأنّ مهمّة الرسول (e) فيها تمثّلت في تبليغ ما أُوحِي إليه من ربّه فقط، أمّا السنة الثانية فكانت مناط اجتهاده من مقام النبوّة كقائد أعلى للمجتمع… وعلى هذا الأساس فإنّ طاعته في حالتيه كرسول مُبلِّغ وكنبي مجتهد جاءت لمقام الرسالة، لأنّ الطاعة تكون للقانون لا للقوّة. فأمّا طاعته في السنّة الرسولية فطاعة متّصلة؛ أي لمَن عاصره من أفراد مجتمعه ولمَن بعدهم، بطاعته فيما أوحِي إليه من ربّه من نصوص تشريعية، وأمّا طاعته في السنة النبوية فطاعة منفصلة؛ أي كانت لازمة لمَن عاصره من أفراد مجتمعه فقط، وليست واجبة على مَن بعدهم.
- تذكرة الدخول إلى الإسلام هي الإيمان بالله واليوم الآخر تسليماً… والعمل الصالح هو السلوك العامّ للمسلم، وكلّ مؤمن بالله واليوم الآخر تسليماً ويعمل صالحاً فهو مسلم مهما كانت ملّته الدينية. [وقد] سمَّى التنزيل الحكيم أتباع ملّة محمّد (e) “مؤمنون” لأنهم بالإضافة إلى إيمانهم بالله واليوم الآخر كغيرهم من المسلمين، فإنهم يقتدون بالنبي (e) في الشعائر، لأنّ اختلاف الملل الدينية يقوم على اختلاف الشعائر فيما بينها، وكلّ عمل هو وقفٌ على أتباع الملّة المحمّدية ولا يقوم به غيرهم هو من الإيمان بنبوّة محمّد (e)، مثل الصلوات الخمس وصوم رمضان ونصاب الزكاة وصلاة الجنازة، حيث إنّ هذه الشعائر هي من أركان الإيمان وليست من أركان الإسلام ويكون الإبداع فيها بدعة ومرفوضاً.
- الألفاظ خدم للمعاني، فالمعاني هي المالكة لسياستها والمتحكّمة فيها. ووظيفة اللغة هي آليّة التفكير ونقل ما يريده المتكلم إلى السامع. وحين يخاطب المتكلم سامعاً، فهو لا يقصد إفهامه معاني الكلمات المفردة، لذا فالثقافة المعجمية غير كافية لفهم أيّ نصّ لغوي، فما بالك إن كان النصّ هو التنزيل الحكيم. فالمعاني موجودة في النظم، لا في الألفاظ كلّ على حدة، وحين نقول إنّ الولد أكل تفاحة حمراء، فنحن نعني ضمناً وبالضرورة أنّ هناك تفّاحاً بألوان أخرى. وعندما نقرأ قوله تعالى: {وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (الأعراف 33)، فنحن نفهم ضمناً وبالضرورة أنّ هناك إثماً وبغياً بحقّ، ولو لم نقل ذلك لفظاً بالنص، وهذا ما يسمىّ المسكوت عنه.
- اللغة حاملة للفكر، وتتطوّر معه. وهناك تلازم لا ينفصم بين اللغة ووظيفة التفكير عند الإنسان، حتى الأحلام التي يراها النائم، يراها ضمن حامل لغوي. ولقد جاء التنزيل الحكيم على أعلى مستوى من البلاغة التي لا يمكن تجاوزها أو الإتيان بمثلها في أداء المعنى وتوصيله إلى السامع. فهو الكتاب الوحيد الذي يمثّل في جميع آياته الخيط الفاصل بين الإطالة المملّة والإيجاز المخلّ.
- ارتباطًا بما سبق، جاء التنزيل الحكيم ليطوّر اللغة العربية، بحيث ألغى الترادف في الألفاظ وفي التركيب، وانتقل باللغة العربية إلى مستوى التجريد الكامل بحيث تستوعب أكبر المكتشفات. فاللوح المحفوظ غير الإمام المبين، والكتاب غير القرآن، و”للذكر مثل حظّ الأنثيين” لا تعني “للذكر مِثلا حظّ الأنثى”. ومن يقُلْ بالترادف في المفردات والتراكيب فكأنما يقول إنّ التنزيل الحكيم نزل على مبدأ “ما أعذب هذا الكلام لا أكثر من ذلك”، مقارنة بالشعر الذي لا يعيبه الترادف والكذب والخيال. وبالتالي فإنّ القول بأنّ الناقة لها خمسون اسماً من باب الترادف يمثّل مرحلة ما قبل التجريد النهائي في اللغة العربية الذي جاء به التنزيل الحكيم، ويمثّل بدائية اللغة، لذا لا نأخذ به الآن لأنّ التنزيل الحكيم تجاوزه تماماً. مع الإشارة إلى أنّ معنى الترادف الذي كان مستعمَلاً أيام الجاهلية هو وجود مفردتين أو أكثر بمعنى واحد، وهو ما ألغاه التنزيل الحكيم لإزالة التداخل في معاني المصطلحات، أمَّا أن تكون هناك مفردة؛ أي مصطلح ذو معنيين أو عدّة معانٍ، فهذا وارد ويدلّ على تطوّر اللغة وهو أمر موجود في كلّ لغات العالم، مثل مفردة “نساء” التي تأتي كجمع لمفردة “نَسيء” وقد تأتي كجمع لمفردة “امرأة”، وكذلك مصطلح “عبد” فهو أيضاً يحمل معنى الطاعة ومعنى المعصية، ومفردة “أمر” لها أيضاً خمسة معانٍ؛ وبالتالي يُفهم المعنى المقصود منها حسب المعنى العام لسياق الجملة التي وردت فيها ووفق نظمها.
- التنزيل الحكيم كتاب دقيق في تراكيبه ومعانيه، انطلاقاً من أنّ الدقة فيه لا تقلّ عن مثيلتها في الكيمياء والفيزياء والطبّ والرياضيات. وهذا الأمر طبيعي، انطلاقاً من اقتناعنا بأنّ صانع هذا الكون من أصغر ذرّة إلى أكبر مجرّة، وخالق هذا الإنسان… هو ذاته صاحب التنزيل، الذي لا بد من أن تتجلّى فيه دقة الصانع ووحدة الناموس. فلكلّ حرف فيه وظيفة، ولكلّ كلمة فيه مهمّة، وقوله تعالى: “وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ” (النساء: 11)، لا تعني أبداً “ولوالديه لكلِّ واحد منهما السدس”. لذا فإنّ تطوّر مستوى الدقة عندنا أعلى بكثير من ذاك الذي كان عند السلف، فالكون هو الكون، ولكنّ مستوى الدقة عندنا الآن في دراسة الكون أعلى بكثير ممّا كان عليه في القرن الماضي.
- عند تأويل آيات التنزيل الحكيم لا بدّ من الإمساك بالخيط اللغوي الرفيع الذي لا يجوز تركه، والذي يربط ويصل الشكل بالمضمون، لأنّه إذا انقطع هذا الخيط بين البنية والدلالة تصبح احتمالات معاني الآيات لانهائية. ونحن ننطلق في قراءتنا المعاصرة من أنّ إرساء أسس التدوين والتقعيد، جاء لاحقاً للسان العربي ولاحقاً للتنزيل الحكيم لا سابقاً له. فإذا قال سيبويه إنّ الفعل يجب أن يماثل الفاعل في الإفراد والتثنية والجمع، ثمّ نقرأ قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} (الحج 19)، فهذا لا يعني أنّ الله أخطأ في القواعد التي أرساها سيبويه، بل يعني أنّ سيبويه حين أسّس لقواعده لم يُحْكِم ما أسّسه على ما ينبغي، وهذا يفسّر لنا خلافات مدارس النحو وأهله في المئات من المسائل… والمتأمّل في [قواعد النحو والصرف]، يجد أنّها تتبع النصوص كيفما تحرّكت، وأنّها مصوغة أصلاً استخراجاً ممّا تحرّكت به النصوص، وأنّ الحكم في صحّة القاعدة أو في عدم صحّتها هو لما قاله العرب وسمعوه، ونحن نؤكد أنّ السلطة للنصّ على القاعدة وليس العكس، وخاصّة في التنزيل الحكيم.
هذا، ويتجلَّى بوضوح أن منطلقات شحرور تؤدي إلى نتائج خطيرة، من أهمها:
- نفي وجود الثوابت المعنوية التي اتفقت عليها كلمة الأمة، من العقائد الكبرى في الله ورسله وكتبه واليوم الآخر، والأحكام المنصوص عليها نصًّا لا خلاف عليه، وأمور الإجماع، والمعلوم من دين الإسلام بالضرورة كوجوب الصلاة، بما يترك الإسلام على رمالٍ متحركة، بحيث يدخل الناس فيه ويخرجون منه بلا ضابطٍ ولا رابط.
- بالنظر إلى ضآلة هذه المنطلقات، وضعف صلتها بالتعامل مع القرآن المجيد، وبُعد تأثيرها عن فهم الشريعة، فإن من شان ذلك أن يجعل العقل المسلم يعيش فراغًا واسعًا في أصول تفكيره وتدبيره. وكأن حصيلة هذه الدعوة هي إخراج العقل المسلم من قرية ريفية إلى صحراء قاحلة، على وعد إيصاله إلى مدينة صناعية صاخبة باسم التقدم، وبلا أية ضمانات أو قواعد مُتفَق عليها بين الكاتب والقارئ. هذا بالإضافة إلى إنكار شحرور للوحي الثاني، ألا وهو السنة النبوية المُطهَّرة بشكلٍ مُطلَق، بما يتضمَّنه ذلك من تشكيكٍ في رواتها من الأصل.
- بالإضافة إلى ذلك، فإن شحرور يجعل المُتغيِّرات والظنيَّات والنواقص هي المنطلقات والأسس والمعايير لقراءته، وهي تتوافق تمامًا مع العلوم الحديثة؛ إذ لم تُثبِت هذه العلوم –بإجماع البشر– نظرية مُجمَعًا عليها، أو تَحقَّق بها اليقين إلى الآن، وإنْ كان الكثير منها قد أفاد البشرية في كثير. ومن ثمَّ، تم توسيع المجال لتلاعب الأهواء بالدين وأصوله، ومن ورائه الدنيا وما تشمله من مصالح.
- يمثل طرح شحرور نزقا فكريًا يتوارى خلف مقولة التجديد والاجتهاد، وهو أمرٌ مُؤذِنٌ بتحريك المقولات والممارسات المضادة، من باب حماية الدين من الدخلاء والمتلاعبين به. ولا ريب أن في هذا ما يُنذِر بمخاطر على البلاد والعباد.
ثالثًا: منهجيته
كما سلفت الإشارة، يدعو شحرور إلى نبْذ المناهج المعهودة المعنيَّة بالتعاطي مع القرآن الكريم وعلومه؛ بغية تحسين فهمنا للكتاب الكريم وفق قراءة معاصرة. وباعتبار أن ذلك يمثل جانب الهدم والتخلية في مشروعه، فإن جانب البناء والتحلية يقترن بمنهجية خاصة، ابتدعها شحرور – كما في منطلقاته، حيث ترتكز على ما توصّل إليه كلٌ من علمي اللسانيات والأبستمولوجيا الحديثَيْن، وذلك على النحو التالي:[13]
- لا يمكن فهم أيّ نصّ لغوي إلّا على نحوٍ يقتضيه العقل.
- اللغة حاملة للفكر الإنساني، لكن الفكر الإنساني يمكن أن يكون صادقاً، ويمكن أن يكون كاذباً، وهذا يعني أن توفر الرباط المنطقي، وصحّة الشكل اللغوي في النصّ، لا يعنيان بالضرورة أنّه حقيقي، وجمال التركيب اللغوي ومتانته في النصّ لا يعنيان بالضرورة أنّه صادق. ومن هنا، لا يمكن الاقتصار على إعجاز التنزيل في القول بأنّه استعمل مختلف أدوات وأساليب البلاغة والبيان التي عرفها العرب، بل يجب – بالإضافة إلى ذلك – الإيمان بأنّ النبأ القرآني صادق وحقيقي، وأنّ التشريع في الرسالة واقعي وعالمي، وكلّ مَن يعمل في حياته للبرهان على صدقية التنزيل الحكيم في أنبائه وواقعيته في تشريعاته فهو من الصدّيقين.
- بالإضافة إلى أنّ التنزيل الحكيم يحوي المصداقية، أي إنه صادق ومتطابق مع الواقع ومع القوانين الطبيعية والفطرة الإنسانية، فهو أيضاً يحوي الأهمية، وهو خالٍ من العبث ومن الأخبار غير المهمّة والمعروفة عند الناس. فالناس لا تحتاج إلى وحي لتعرف، مثلاً، أنّ الجرّة تنكسر إذا وقعت من ارتفاع عالٍ، ولا تحتاج إلى وحي لتعرف أنّ الفيل ذنبه قصير وخرطومه طويل. لكنّنا إذا قرأنا قوله تعالى: {… فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ…} (البقرة 196)، وسلّمنا بما ورد في التفاسير بشأنها، وجدنا أنّ الله في الآية يعلّم الناس أنّ: (3 + 7 = 10)، مع أنّ هذا خبر كان يعرفه كل الناس عند نزول الوحي ولم يكونوا بحاجة إلى وحي لمعرفته، وهذا غير معقول في ضوء خلوّ التنزيل الحكيم من العبث. وعلى أساس هذا التفسير التراثي للآية، إذا حذفنا كلمة (كاملة) من الآية السابقة، لن يتأثّر المعنى الذي ذهب إليه المفسّرون، وهو أنّ الله يُعلّم الناس الجمع والحساب، وهذا غير صحيح في ضوء خلوّ التنزيل من الحشو. مما يستدعي إعادة قراءة للآية تحقّق مصداقية كلام الله وتجعله لا يخلو من كلّ الفرضيات دون استثناء، ويغطي: صدق التنزيل، وخلوّه من الحشو، وبُعده عن العبث في سَوق المعارف المألوفة عند الناس. وهي القراءة التي تنتبه إلى وجود أكثر من نظام واحد للعدّ عند الناس، إذ هناك النظام العُشري والنّظام السُباعي والنظام الاثنا عشري والنظام الست عشري، فالعشرة في النظام الاثني عشري مثلاً ناقصة نعبّر عنها بالشكل التالي (10/12)، أمّا العشرة في النظام العُشْري فهي عشرة كاملة، وقوله تعالى: (كَامِلَةٌ) في الآية إشارة إلى نوع نظام العدّ الذي جاءت آية الحج على أساسه.
- لا يمكن فهم التنزيل الحكيم، من خلال أسلوب فهم الشعر الجاهلي ومفرداته، فالمجتمع الجاهلي له أرضيته المعرفية وعلاقاته الاجتماعية والجمالية والأخلاقية الخاصّة به، بحيث جاءت مفردات شعره عاكسة لذلك كله ومعبّرة عنه ومُقيَّدة به… ولو حصرنا فهم التنزيل الحكيم بمعاني مفرداته، لما حقّ القول إنّ المكتشفات الحديثة العلمية أكّدت مصداقية القرآن. من هنا نقول إنّ المجتمعات هي التي تشارك في صنع المعاني حسب تطوّر معارفها، لكنّ هذه التطوّرات نفسها محسوبة في التنزيل، بحيث مهما امتدّت واتسعت، فسيجدها الإنسان منسجمة مع النصّ الإلهي، مُصدّقة له ودائِرة في فلكه.
- جاء التنزيل الحكيم من عند إله هو كينونة في ذاته (موجود في ذاته)، وبذلك يُعدّ التنزيل الحكيم كينونة في ذاته أيضاً، ويظهر هذا جلياً في ثبات النصّ، وبتعبير آخر ثبات الذكر في صيغته اللغوية المنطوقة. إنّ النصّ اللغويّ المنطوق للتنزيل الحكيم هو الشكل الثابت فيه، الذي لا يخضع للصيرورة ولا للسيرورة. ولا أحد يملك الإدراك الكلّي له في كليّاته وجزئيّاته حتّى لو كان نبيّاً ورسولاً، لأنّه يصبح بذلك شريكاً لله في علمه الكلّي، وشريكاً لله في كينونته في ذاته، تعالى الله عمّا يصفون. لكنّنا نستطيع الإحاطة به تدريجياً من خلال الصيرورة المعرفية النسبية المتحرّكة، وتصبح الإحاطة به كليّة يوم تقوم الساعة، أي يتم عند قيام الساعة والبعث والحساب التأويلُ الكامل والنهائي للقرآن.
- إنّ التنزيل الحكيم هو كلام الله غير المباشر الذي أوحاه عن طريق جبريل للنبي (e) وفيه بعض الآيات هي كلام الله المباشر والمتمثلة في كلامه عزّ وجلّ المباشر لموسى عندما كلّمه بالوادي المقدّس: “وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا” (النساء: 164). أمّا كلمات الله، فهي الوجود والقوانين الناظمة له بفرعيه الكوني والإنساني؛ فمن فهمنا لكلمات الله، نفهم كلامه لأنّ مصداقية كلام الله (الرسالات السماوية) لا تظهر إلّا في كلماته (الوجود الموضوعي الكوني والإنساني)، وما علينا كي نفهم كلامه إلّا أن ندرس كلماته في الوجود الكوني والإنساني بسننه وقوانينه وتشريعاته، لكنّ فهمنا لهذه السنن والقوانين يخضع للسيرورة والصيرورة، وبناءً على ذلك نقول إنّ فهمنا لكلام الله هو فهم متطوّر غير ثابت، بينما كلام الله فثابت في كينونته كنصّ إلهي مقدّس.
- بما أنّ التنزيل الحكيم هدى للناس ورحمة للعالمين، فهو يحمل الطابع الإنساني لا العروبي، وبالتالي يجب أن نرى مصداقيته رأيَ العين في كلّ أنحاء العالم لا في المجتمع العربي فقط، وعلى مرّ العصور والدهور لا في عصر النبوّة والصحابة فقط. فمثلاً هناك مفردات: كالعِرض والشرف والمروءة والشهامة غير موجودة أصلاً في التنزيل الحكيم، مع أنّها مفردات فصحى عربية، وكانت تقوم عليها الثقافة العربية قبل البعثة المحمّدية، ودارت حولها أحداث تاريخية كثيرة. فالتنزيل الحكيم يحمل الخاصّيتين التاليتين: الوحي لا يناقض العقل، والوحي لا يناقض الواقع.
- يؤكّد القرآن النظرية المادّية في المعرفة الإنسانية التي يعبّر عنها مبدأ أنّ: العلم يتبع المعلوم، وأنّ المعلومات تأتي من خارج الإنسان عن طريق الحواسّ والوحي (الإلهام) وغيرها. أمّا عندما يتبع المعلوم العلم، فذلك من صفات الله فقط، ولا يدخل في نطاق المعرفة الإنسانية. ويُعدّ التجريد الفكري لدى الإنسان هبة من الله وهبه إيّاها بنفخة الروح، ويُعبَّر عنها باللغة والرياضيّات المجرّدة التي تأتي سابقة لعلم الفيزياء. وهذا يؤكد أنّ الله عزّ وجلّ خلق الوجود من العدم، والعدم هو وجود الدالّ بدون مدلول، وهذا الأمر نجده في الرياضيّات المجرّدة.
- تقوم المعرفة الإنسانية على مبدأ التقليم وهو تمييز الأشياء بعضها عن بعض (Identification)، ثمّ يتبعها التسطير وهو ضمّ الأشياء بعضها إلى بعض في نسق واحد وهو ما نسمّيه التصنيف (Classification). والفؤاد هو الإدراك المشخّص بالحواسّ، وهو ردّ الفعل الغريزي لدى الإنسان، وهو الذي يعطيه المادّة الأوليّة الخام للفكر والعقل.
- إنّ مبدأ الكمّ والكيف (العدد والإحصاء – القدر والمقدار) هو النافذة التي يطل بها الإنسان على العالم الخارجي، بحيث يبدأ الإنسان بالكيف ثمّ ينتقل إلى الكمّ والعكس.
- إن عناصر المعرفة الإنسانية بالعالم الموضوعي هي المادة والبعد والموقع والحركة، ومن هذه العناصر الأربعة تنتج الوظيفة والتطوّر.
- إن العالم الموضوعي في التنزيل الحكيم يقوم على جدلية أساسية هي الصراع بين البقاء والهلاك، ويكون النصر دائماً للهلاك. من هذه الجدلية نستنتج الجدليات التالية في الطبيعة:
- جدليّة التناقضات في الشيء الواحد: “مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ” (الحج: 5).
- جدليّة الأزواج أي التأثير والتأثر المتبادل بين الأشياء: “سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا” (يس: 36).
- جدليّة الأضداد (في ظواهر الأشياء أو في السلوكيات): الليل والنهار – الفجور والتقوى – الهداية والضلال.
- إنّ الحرّية هي أساس الحياة الإنسانية، وهي القيمة العليا المقدّسة، وفيها تكمن عبادية الناس لله. وهي الكلمة التي سبقت لأهل الأرض. والعبودية غير مطلوبة أصلاً لا من الله ولا من غيره، وإن طُلبت أو وُجِدت فهي لغير الله حتماً.
هذا وتثير منهجية شحرور العديد من الملاحظات، من أبرزها ما يلي:
- الاعتماد على مقولات لغوية مبتسرة وضئيلة جدًا، لا ترقى لوصفها بنظريات أو نقاطٍ منهجية، بل هي ظواهر منتثرة منفرطة لا تكفي بحالٍ لتحقيق فهمٍ عميق ومستنير. ومن ثمَّ، فإن إقامة تفريقات اصطلاحية لعبارات قرآنية بلا دليل، على نحو ما قال به بشأن التمييز بين كلٍ من القرآن والكتاب والتنزيل والذكر والفرقان، ما هو إلا دعوى. ولكن الأخطر هو أن عملية إثبات الدلالة الجديدة للكلمات فيها تعسُّف لا منهج فيه.
- التصديق على التفسير بالواقع: فما هو الواقع؟
- التصديق على صحة التفسير بقيم العصر: فما هي قيم العصر؟ ومَن يُحدِّدها؟ وكيف؟ ومن أي رؤية أو عقيدة أو فلسفة؟
- التصديق على صحة التفسير بقوانين العقل (المنطق): فبأي أصنافه (الصوري – التجريدي – البرهاني)؟ هل هو المنطق الوضعي أم المادي أم العملي؟ وعلى أي معيار يتم الاختيار بين ما سبق؟
- التصديق على التفسير وفق الأخبار والحقائق بالعلوم الطبيعية والحيوية المعاصرة فقط: فما درجة اليقين في نظريات هذه العلوم؟ وماذا عن الفسلفات التي تقف وراءها، مثل النسبية والنشوء والتطور والانفجار العظيم، والتي سادت قرنًا أو نصف قرن، لكنها تواجه اليوم ضرباتٍ مُوجِعة في أسسها وكثيرٍ من مفاصلها؟ ومَن ذا المُفسِّر الذي يمارس هذه العلوم ممارسةً حقيقية لكي يُفهِمَنا ما لم نفهم من قوله تعالى: “لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ” (المائدة:120)، أو قوله تعالى: “وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ” (الإسراء: 44)، وأغلبهم لا يعنون بالإيمان، والمسلمون منهم غير مُتبحِّرين في القرآن ولا علومه المُساعِدة على حُسنِ فهمه؟
- التصديق على التفسير لآيات التشريع والأحكام من خلال دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية: وهي دعوى عريضة لم يقُل بها المُتخصِّصون في هذه العلوم أنفسهم، رغم كثرتهم الكاثرة، ونبوغ الكثيرين فيها في العالمَيْن العربي والإسلامي. إن التشكيك في القديم هنا لم يقم على علمٍ ودراية ونقدِ عارفٍ، وإنما قامَ على ظنونٍ لا تُغنِي من الحق شيئًا.
إن هذه النقاط العامة، والمنهجية تجاوزًا، التي نستشفها من كتابات شحرور تؤكد ما سبق وتجلَّى في منطلقاته؛ من أن طرحه هذا يقلب أمور الدين رأسًا على عقب؛ فيُغيٍّر الثابت القطعي، ويُثبِت الظنِّي المتغير؛ فيُحكِّم الواقع في الوحي لا العكس، ويُحكِّم النظريات الإنسانية الظنية في القواعد المستقرة التي لم يُحدِث إعمالُها مشكلاتٍ واضحة، بقدر ما نجمت البلايا عن إهمالها والغفلة عنها. كما أنه منهج قاصر؛ باعتماده على مداخل واسعة، لا يبين عن أدواتٍ يمكن إعادة العمل بها للاختبار أو المراكمة، ومرة أخرى ينقلنا إلى فراغ منهجي، من شأنه أن ترتع فيه أهواء التأويل، ويُنشِئ بيئة يسودها الغلو والتطرف بلا ضوابط ولا روابط.
إن من عجائب المداخل المنهجية التي استصحبها شحرور لكي يقرأ القرآن قراءة معاصرة، أنه يجعل فهم القرآن عصريًا وصالحًا لكل عصرٍ ومصر، بقدر ما يكون عصريًا ومُطابِقًا لكل عصرٍ وكل مصر. ولا شك أن هذا قولٌ لا فائدة منه، باعتباره يُسطِّح من فهمنا لخصائص التنزيل الحكيم من الشمول والعموم والإنسانية والعالمية والصلاحية التامة المُطلَقَة في كل زمانٍ ومكان، فضلًا عن أن الأخذ بهذا القول يخلط بين المُطلَق والنسبي خلطًا كارثيًا، ويمكن أن يُلبِس على الناس دينهم، بل دنياهم أيضًا.
رابعًا: نماذج على آرائه:
إلى جانب ما ذُكِر أعلاه من آراءٍ للدكتور شحرور في طيَّات الحديث عن منطلقاته ونقاطه المنهجية ارتباطًا بقراءته المعاصرة للقرآن الكريم، فمن المفيد هنا الإشارة إلى مزيدٍ من تلك الآراء حتى تكتمل الصورة أكثر فأكثر، وحتى يكون القارئ الكريم على بيِّنةٍ ممَّا صاغه. فمن ذلك على سبيل المثال:
- تكلمه في العقائد والذات الإلهية بكلامٍ خطير؛ فعن حال الكون قبل الوجود يقول: “ثمة سائل يسأل: ماذا كان قبل هذا الوجود الكوني الحالي.. أهو العدم.. أم هو الله؟ أقول هو الاثنان معاً. فيعود السائل إلى التساؤل: أليست هذه ثنائية؟ أقول هي ثنائية كلامية، لكنها أحادية وجودية (كينونة فقط). وعلينا أن نعرِّف العدم من خلال مدركاتنا لا في ذاته، لأن العدم لا ذات ولا كينونة له. فإن كانت الكينونة في ذاتها هي الله، فالعدم هو علم الله بالموجودات قبل وجودها”[14].
- علينا أن نعلم أن مفهوم التوحيد ذاته قد تطور في وعي الناس اليوم إلى الأحسن، وأن مفهوم الله المجرد عن التشبيه والمماثلة في أذهان الإنسانية اليوم أحسن بكثير من السابق، بل إنه أحسن حتى من عصر النبوة. فالتجريد يتقدم مع تقدم الإنسانية إلى الأمام في السير على طريق الحنيفية (التغير والتطور). أما وحدانية الله، وهي أن الله لا يُجسَّد، فهي أيضاً تسير مع تقدم الإنسانية في طريق التجريد ابتعاداً عن التجسيد. أي إن الإنسانية تسير مبتعدة عن الوقوع في شرك التجسيد الذي لا يغتفر، لكنها معرضة دائماً للوقوع في شرك التثبيت والبعد عن الحنيفية. كأن تضع لنفسها نموذجاً للأعراف أو للتشريع أو للفقه، وتزعم أنه نهائي غير قابل للتطور والحنفية، فهذا هو الشرك الخفي، الذي يعطي الظواهر صفة الثبات والبقاء، بينما هذه من صفات الله وحده [15]، وهذا كلام شديد الخطورة.
- ليس ثمة ناسخ ومنسوخ بين دفتي المصحف الشريف، فلكل آية حقل، ولكل حكم مجال يعمل فيه. أما مصداقية قوله تعالى “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا” (البقرة: 106)، فتظهر في النسخ بين الشرائع. إذ هناك محرمات وردت في شريعة موسى، ثم جاء عيسى المسيح وحلّلها، بدلالة قوله تعالى: “وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ” (آل عمران: 50)، وجاءت رسالة محمد (e) لتنسخ بعض أحكام مما نزل في رسالة موسى، كأحكام الزنا واللواط ولتستبدلها بأحكام أخرى، ولتضيف أحكاماً لم تنزل من قبل، كالسحاق والوصية والإرث [16].
- السنة النبوية؛ أي ما فعله وقاله وأقره النبي الكريم (e)، ليست وحياً. والاستشهاد بقوله تعالى: “وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” (النجم: 3- 4) هو استشهاد ليس على ما ينبغي. أما ما اشتُهِر عند بعض المفسرين من أن النبي (e) ما كان ينطق إلا عن وحي، فوهم لا حجة لمَن أخذ به. والسنة النبوية القولية، بمتواترها وآحادها سواء منها ما ذكر في كتب الحديث جميعاً أو ما انفرد أحد هذه الكتب بروايته، هي للاستئناس فقط. لأن السنة أحكام، والأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان، طبقاً لما أجمع عليه علماء الأصول. والمعيار الوحيد للأخذ أو عدم الأخذ بأحكامها، هو انطباقها على التنزيل الحكيم والواقع المعاش. والسنة النبوية هي الاجتهاد الأول، والخيار الأول للإطار التطبيقي الذي اختاره (e) لتجسيد الفكر المطلق الموحى، لكنه ليس الأخير وليس الوحيد، أي هي الأسلمة الأولى للواقع المعاش. والسنة النبوية هي المرآة الصادقة الأولى التي ارتسم على صفحتها التفاعل بين التنزيل الحكيم والعالم الموضوعي القائم أثناء التنزيل بكل أبعاده الحقيقية دون وهم ولا خيال [17].
- إن عدالة الصحابة وإجماعهم أمر يخص الصحابة أنفسهم ومجتمع الصحابة وأهله. أما الإجماع عندنا فهو إجماع الأحياء المعاصرين في مجالسهم النيابية والبرلمانات. فالأحياء الذين يجمعون على أمر يهمهم ضمن مرحلة تاريخية يعيشونها، هم أقدر على فهم مشاكلهم وحلها، وليسوا بحاجة إلى صحابة ولا إلى تابعين ولا إلى علماء أفاضل… نصل بعد هذا كله للتنبيه على أمر في غاية الخطورة، هو أن كل تشريع، حتى لو كان دينياً، يحتاج إلى بينات علمية وإحصائية واجتماعية واقتصادية وسياسية بحسب حقل التشريع وموضوعه. ذلك لأن التشريع قيد يحد من حريات الناس، والحرية أقدس ما في الوجود [18].
- الناس اليوم أفهم من الصحابة للقرآن، بناءً على أن القرآن لا يُفسَّر إلا بالمعارف الحديثة التي يعرف فيها الناس اليوم أكثر من ذي قبل، ومن ثمَّ نفي أية فائدة للمنقول عن الصحابة والتابعين والأئمة، وكأنهم ما وُجِدوا ولا كانوا، وكأن اللغة التي يقول بها بعد تحريفها تعني أنه أعلم من الصحابة! إذ يقول: “إن الفرق بين الصحابة ساكني المدينة ومكة وبين الأعراب في فهم حدود ما أنزل الله هو أن الصحابة أكثر تحضرا من الأعراب. ولنا أن نذكر فرق التحضر بين الصحابة وبيننا بسبب العنصر الزمني، وهو فرق أكبر بكثير من ذلك الفرق. لذا فنحن مؤهلون الآن لفهم حدود ما أنزل الله على رسوله أكثر بكثير من أهل القرن السابع الميلادي”[19]. هذا في الوقت الذي ينكر فيه على المسلمين أنهم لم يستفيدوا من الفلسفات الإنسانية، وأن أحد أبرز مشكلات الفكر العربي المعاصر، ومن ضمنه الفكر الإسلامي، هو “عدم الاستفادة من الفلسفات الإنسانية، وعدم التفاعل الأصيل المبدع معها، حيث لا يمكن أن نضع كل ما أنتجه الفكر الإنساني، منذ اليونان إلى يومنا هذا، في هامش الخطأ أو الباطل”[20].
- اعتبار أن علماءنا لم يفهموا أصول دينهم، ومنه مفهوم السنة؛ إذ يقول: “إن مشكلة الأدبيات الإسلامية والفقه الإسلامي المتعلقة بالرسالة هي أنها إلى اليوم لم تميز هذه الخاصية لكي تستعملها بيسر وسهولة وتكون مقنعة لغير المسلم، قبل أن تكون مقنعة للمسلم نفسه بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس جميعًا، وهو رحمة للعالمين وأن الرسالة صالحة لكل زمان ومكان. إن إغفال هذه الخاصية جعل من التشريع الإسلامي تشريعا متزمتًا متحجرًا وحجب عنا فهم أسس الشريعة الإسلامية، كما حجب عنا فهم السنة النبوية على حقيقتها، حيث أن مفهوم السنة النبوية مرتبط بهذه الخاصية التي تتيح لنا وضع مفهوم معاصر متجدد دائمًا للشرع الإسلامي وللسنة النبوية، وبالتالي وضع أسس جديدة للتشريع الإسلامي”[21].
- الشريعة لا تُفهَم إلا في إطار النظرية الجدلية: “هذه الخاصية لا يمكن أن نفهمها إلا إذا فهمنا صفتين أساسيتين متميزتين من صفات الدين الإسلامي بشكل عام، وهما من المتناقضات؛ حيث إن الحركة الجدلية بينهما هي حركة تناقضية تفرزها التناقضات الداخلية للحياة الإنسانية في مجال المعرفة وعلوم الاجتماع والاقتصاد والتي ينتج عنها دائمًا مجالات جديدة في التشريع كمًّا ونوعًا. هذان النقيضان هما “الاستقامة” و”الحنيفية”، حيث يكمن فيهما جدل التشريع، وبالتالي تطوره، وبدونهما يستحيل فهم الدين الإسلامي فهمًا معاصرًا والاقتناع بصلاحيته لكل زمان ومكان… هنا نلاحظ أن عزم الدين وقوته وسيطرته تأتي بهاتين الصفتين معًا (الاستقامة والحنيفية)، حيث جاءتا معًا في آية واحدة “قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (الأنعام: 161)، وأن قوة الدين الإسلامي تكمن في استقامته وحنيفيته معاً. وقد يسأل سائل: كيف تكمن قوة الإسلام في هذين النقيضين؟ إن الجواب على هذا السؤال هو ما يلي: يتولَّد من هذين النقيضين مئات الملايين من الاحتمالات في التشريع وفي السلوك الإنساني العادي بحيث تغطي كل مجالات الحياة الإنسانية في كل مكان وزمان إلى أن تقوم الساعة[22].
- وهكذا لا تُفهَم الشريعة إلا بالدرس الرياضي: فإذا سأل سائل: إذا كانت الحنيفية “التغير” موجودة في طبيعة الوجود، فما هو الصراط المستقيم “الثوابت”؟ يجب علينا لنفهم هذا أن نرجع إلى الرياضيات، وخاصة ما يسمى التوابع المستمرة أو رياضيات نيوتن والتي ظهر فيها مفهوم التحليل الرياضي، ومفهوم النقاط المميزة ذات الطبيعة الخاصة بها. إن التحليل الرياضي علم يربط علاقة تابع بمتحول أو متحولين أو أكثر. وهذه العلاقة للتوابع المستمرة تأخذ أشكالًا متعددة يمكن أن نحصرها فيما يلي:
- تابع منحنى “حنيف” له نهاية عظمى فقط، ونقطة النهاية لها وضع مميز خاص بها بين كل نقاط المنحنى.
- تابع منحنى “حنيف” له نهاية صغرى فقط.
- تابع منحنى “حنيف” له نهايتان عظمى وصغرى كالتوابع الموجِيَّة. وهذا المنحني له نقطتان مميزتان هما النهاية العظمى والنهاية الصغرى، حيث المشتق الأول يساوي الصفر في النهايتين ونقطة الانعطاف وهو تغير الميل من الأعظمي إلى الأصغري وبالعكس؛ أي نقطة التوازن بين الأصغري والأعظمي، وفيها المشتق الثاني يساوي الصفر.
- تابع مستقيم موازٍ للمحور × ليس له نهاية عظمى ولا نهاية صغرى؛ أي كل نقاطه هي عظمى وصغرى معًا.
- تابع منحنى له نهاية عظمى و صغرى ولكن بنمط مقارب، أي التابع المنحني يقترب من المستقيم ولا يمسه إلا في اللانهاية.
- حالة منحنى فيه الحد الأعلى موجب والحد الأدنى سالب.
هذه التوابع تصف ظواهر في الطبيعة، ونلاحظ في التوابع المنحنية أن النهايات العظمى والصغرى فيها يمر منها خط مستقيم مماس لها، ولكن له خاصية أساسية هي أنها لا يمكن أن تتجاوزه إذا كانت النهاية عظمى، ولا يمكن أن تنزل عنه إذا كانت النهاية صغرى، ولا يمكن أن تتجاوزه أو تنزل عنه إذا كانت له نهايتان عظمى وصغرى، وتصل إليه في اللانهاية إذا كان خطًا مقاربًا ولا يمكن أن تخرج عنه إذا كان مستقيمًا.
إذا نظرنا إلى التشريع الإسلامي، ووجدناه يحمل هذه الخاصية؛ أي خاصيتي الانحناء والاستقامة معًا، فهذا يعني أنه صالح لكل زمان ومكان؛ أي قابل للحركة في حدود النهايات. وهذا لا يمكن أن يحصل إلا إذا كان التشريع الإسلامي والسلوك الإسلامي مبنيين على مبدأ النهايات، أي الحدود المستقيمة، والتي يمكن للحركة الحنيفية أن تتحقق ضمنها. وقد أعطانا الله في أم الكتاب الحدود فقط؛ أي المستقيمات التي يمكن أن نكون حنفاء ضمنها، وسمَّاها حدود الله، وهي مع الفرقان تشكل الصراط المستقيم، ونحن نحنف ضمن هذه الحدود المستقيمة.
وقد أعطانا الله الحالات جميعها: الحد الأدنى فقط والحد الأعلى فقط، والحد الأدنى والحد الأعلى معًا، وحالة المستقيم الذي هو حد أعلى وحد أدنى ولا يتغير، وحالة الخط المقارب الذي يقترب من النهاية “المستقيم” ويمسه في اللانهاية. وحالة الحد الأعلى موجب والحد الأدنى سالب. فما علينا الآن إلا أن نميز آيات حدود الله وهي رأس السنام في التشريع والأخلاق والعبادات، علماً أن هناك فرعاً آخر في الرسالة وهو التعليمات والتي لها شق خاص بها، لذا فإن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تتألف من: الصراط المستقيم (أي الحدود في التشريع والحدود في العبادات والأخلاق (الفرقان))، بالإضافة إلى تعليمات ليس لها علاقة بالتشريع أو بالعبادات أو بالأخلاق.
لقد وصل شحرور من تطبيقاته لنظريته تلك على التشريع الإسلامي إلى نتائج خطيرة، منها:
- حالة الحد الأدنى:
ورد الحد الأدنى من حدود الله في آيات المحارم وهي: “وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا • حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا” (النساء: 22 – 23). ذهب شحرور إلى أن الله تعالى قد وضع في هاتين الآيتين الحد الأدنى في تحريم النكاح، وهذا الحد الأدنى هو الأقارب المذكورين في الآيتين، فلا يجوز بأي حال من الأحوال تجاوز هذا الحد نقصانًا على أساس أنه اجتهاد، ولكن يمكن الاجتهاد بزيادة العدد، فإذا بيَّن علم الطب أن الزواج من الأقارب، كبنات العم والعمة والخال والخالة المباشرين، له آثار سلبية على النسل وله آثار سلبية على توزيع الثروة، فيمكن أن يصدر تشريع يمنع زواجًا من هذا النوع دون أن نكون تجاوزنا حدود الله.
- حالة الحد الأعلى: (نظرية العقوبات في السرقة والقتل):
“وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (المائدة: 38). ذهب شحرور إلى أن هذه الآية تين العقوبة القصوى للسارق وهي قطع اليد، بمعنى أنه لا يجوز أبدًا أن تكون عقوبة السرقة أكثر من قطع اليد، ولكن يمكن أن تكون عقوبة سرقةٍ ما أقل من قطع اليد، فما على المجتهدين إلا أن يُحدِّدوا —حسب الظروف الموضوعية— ما هي السرقة التي تستوجب العقوبة القصوى، وما هي السرقات التي لا تستوجب العقوبة القصوى، وما هي عقوبة كل سرقة. وعلى المجتهدين أن يضعوا – كل في بلده وحسب زمانه- مواصفات السرقة ذات العقوبة القصوى وهي قطع اليد.
بالمثل، قال تعالى: “ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ إنَّهُ كانَ مَنصُورًا” (الإسراء: 33)، و ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (البقرة: 178). فهنا، بيَّن تعالى العقوبة القصوى للقتل بغير حق، وهي الإعدام. لذا قال: ” فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ”، أي أنه لا يجوز أن تكون العقوبة القصوى للقاتل ظلمًا وعدوانًا هي قتله هو وأهله، فهنا يجب على المجتهدين توصيف جريمة القتل التي تستحق العقوبة القصوى، وهي الإعدام، والتي تسمى جريمة قتل مع سابق الإصرار والترصد، ولكن هناك جرائم قتل يمكن أن ترتكب ولا يعاقب عليها بالإعدام مثل القتل غير المتعمد والقتل دفاعًا عن النفس… وهكذا دواليك. وهناك أيضًا عفو أهل القتيل، لذا قال: “فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ”. هنا بيَّن كيف فتح الإسلام باب الاجتهاد في نظرية العقوبات في القتل إلى يوم الدين، أما في حالة قتل الخطأ فقد وضع الحد الأدنى لعقوبة قتل الخطأ وهي: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا” (النساء: 92). هنا وضع الحد الأدنى في قوله: “فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ”. ووضع الحد الأدنى وهو تحرير رقبة لأنه يمكن أن يطلب تحرير أكثر من رقبة.
- حالة الحد الأدنى والحد الأعلى معًا:
قال تعالى: “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا • وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۚ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ ۚ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم ۚ مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ ۚ فَإِن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَٰلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ۚ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ • تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ • وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (النساء: 11 – 14).
يشير شحرور هنا إلى قوله تعالى: “تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ”، وقوله: “وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ”. فالحركة هنا مسموحة ضمن حدود الله، فهذا يعني وجود أكثر من حدَّيْن، حيث جاءت بصيغة الجمع، والتعدي هنا هو الحركة في اتجاه الحدّ حتى نصل إليه، فإذا تجاوزناه حصلَت حالة التعدي، ولا يعني التعدي الوقوف على الحد فقط بحيث تمنع الحركة بأي اتجاه. كما نلاحظ من قوله تعالى: “وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ” أن الهاء في حدوده تعود على الله فقط، علمًا بأن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ذُكِرا قبلها مباشرة في قوله تعالى: “وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ”. هنا يستنتج شحرور أن صاحب الحق الوحيد في وضع حدود تشريعية دائمة إلى أن تقوم الساعة هو الله وحده فقط، وأن هذا الحق لم يُعط للنبي صلى الله عليه وسلم، ولو أعطاه الله هذا الحق لقال “ويتعدَّ حدودَهما”، أي أن كل تشريع حدي أو حدودي ورد من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرحلي وغير ساري المفعول إلى أن تقوم الساعة.
وفي هذا السياق، فإن الحدود التي اشتملت عليها آية الإرث هي: الحد الأعلى للذكر والحد الأدنى للأنثى، بمعنى أنه مهما بلغ التفاوت في تحمل الأعباء الاقتصادية للأسرة، فإن الرجل مسؤول مسؤولية كاملة والمرأة لا تتحمل أية مسؤولية، بمعنى أن المسؤولية الاقتصادية 100% على الرجل وصفر على المرأة، ففي هذه الحالة جاءت حدود الله لتعطينا أن يأخذ الذكر ضعف الأنثى، فهنا أعطى الحد الأدنى للأنثى (33.3%) والحد الأعلى للذكر (66.6%). فإذا أعطينا الذكر 75% والأنثى 25% نكون قد تجاوزنا حدود الله، أما إذا أعطينا الذكر 60% والأنثى 40% فلا نكون قد تجاوزنا حدود الله بل بقينا ضمنها. ويأتي دور الاجتهاد حسب الظروف الموضوعية التاريخية بتقريب الفرق بينهما، وهذا التقريب مسموح به حتى التساوي الكامل فيما بينهما طبقًا للحالات الإرثية المنفردة، كل على حدة، أو طبقًا للوضع التاريخي التطوري العام، أو طبقًا للاثنين معاً، وهذا التقريب بينهما يحتاج إلى بينات مادية إحصائية، لا إلى عواطف جياشة مع المرأة أو مع الرجل[23].
خامسًا: إلى أين يذهب بنا طرح شحرور؟
- من مؤدَّى تصرف شحرور في معاني الكلمات القرآنية في كتبه أنْ يقع الناس في مخالفات عقدية كبرى، فمثلًا لو قال قائل: إن آيات المواريث ليست من القرآن، لصَدَق وأصاب عند شحرور، وكفر عند كافة أهل العلم. وبالمثل آيات النكاح والطلاق والشعائر؛ إذ هي عنده من “أم الكتاب” و”الآيات المحكمات”، وليست من “الآيات المتشابهات” التي تتحدَّث عن القوانين الكونية.
- مدخل التبديل في المصطلحات المستقرة لدى الأمة بالتأويل الفاسد وتغيير معاني الكلمات الأشبه بتحريف الكَلِم عن مواضعه من أخطر الأمور على فكر الأمة وبقائها. فتأويل النظام على أنه “قيد”، والاستقرار باعتبار أنه “جمود وركود” ومنافاةً للتطور والحركة، والأمن على أنه حِجْرٌ على الحرية وركونٌ إلى الدِّعَة والرخاوة، والصناعة على أنها ضد الطبيعي المتوازن بذاته، والعفة على أنها رجعية، والتبذل على أنه معاصرة، والحكم والإدارة على أنه بالضرورة تسلط، والقوامة تمييز نوعي منبوذ، والسعي للكسب وتعظيم الأرباح الخاصة على أنه أنانية وجشع… إلخ – كل هذه التحريفات التي قد تبدو بسيطة في ظاهرها تقلِب في النهاية موازين المجتمعات رأسًا على عقب، وتُوقفنا على رمالٍ متحركة بلا مستقرٍ ولا متاع.
- من شأن ذلك أيضًا إحداث بلبلة كبرى بين المسلمين، بل بين العالمين؛ بالنظر إلى ما يُمكِن أن يُحدِثه الخلط واللبس بين مفهومَي الإيمان والإسلام، والتي لن يقبلها حتى أعداء المسلمين، لأنها تخلط الحابل بالنابل بلا أدنى مسئولية، ولا مُبرِّر ولا مُسوِّغ سوى اتباع الهوى والتعسف في فهم الدين برمته، لا القرآن خاصة.
- إن القول بعدم وجود نسخٍ في القرآن يجعل سورًا برمتها لا عمل لها، ولا يُؤخَذ منها تشريع، على الرغم من كثرة الأوامر والنواهي فيها، وأنها من آخر ما نزل من القرآن الكريم. فقد رفض شحرور نسخ اللاحقِ للسابق، باستثناء منثورات، جمِّد فيها دلالات آيات وسور، لأنها لا تناسب العصر في رأيه، إذ يقول: “والأنباء كلّها بما فيها أنباء الرسل نصوص تاريخية وكذلك الآيات الواردة حول موقعة بدر وأُحد والخندق والأحزاب وتبوك وفتح مكة عبارة عن نصوص تاريخية بما فيها سورة التوبة ولا يؤخذ منها أي أحكام شرعية، ولا علاقة لها بالرسالة، ولها مناسبات نزول لأنها نص تاريخي”[24]، وهي منطقة خطيرة من مناطق التجديد لدى شحرور، تُوقِع النصّ القرآني بين ما هو “نصّ تاريخي” (نبوءة: إنباء لا تشريع)، وما هي “تاريخية نصّ” (في الفهم الإنساني لآيات التشريع).
- مَن لا يؤمِن بمحمدٍ يُسمَّى مسلمًا، ولكن لا يُسمَّى مؤمنًا؛ فأي بلبلة واضطراب وخطورة يمكن أن تسببها إذاعة مثل هذه الأقاويل وترويجها؟ وهل من حرية التعبير نشر البلبلة وتحريك كوامن التطرف المضاد؟
- إن بحسب قصر معصومية الرسول على كونه رسولًا مُبلِّغًا، دون حال كونه نبيًا يُشرِّع (أو يجتهد بحسب تعبير شحرور) أن يمثل شرًّا مستطيرًا، لاسيَّما مع غموض التمييز لدى شحرور بين النبوة والرسالة، وعدم عنايته بمناطق التداخل بينهما، والتي يكون فيها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا، واكتفائه بتمييز سطحي بين الحالَيْن.
- دعواه أن النبي يَنهَى ولا يُحرِّم، ويَسْمح ولا يُحِل، فيها لبسٌ كبير؛ فبينما سمح النبي بزيارة القبور، إلا أنها ليست حلالًا بذلك، بل مسموح بها في زمنه فقط، ولا تحل إلا لأن القرآن لم يُحرِّمها، رغم أن ظاهر الآية ينكر ذلك على زائريها “أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ” (التكاثر: 1-2). بالمثل، فإن النميمة ليست حرامًا؛ لأن القرآن لم يُحرِّمها، إنما نهى النبي عنها، والنبي ينهى مؤقتًا ولا يُحرِّم مؤبَّدًا. إن الخروج بمثل هذه النتائج الزائفة نابعٌ من فهمٍ قاصر، وشديد الانغلاق على الذات، لا يمكن أن يكون بأي حالٍ ذا حجية في منطقه ومغزاه، لا سيَّما لمخالفته قول القرآن ذاته، بأن النبي “مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى • إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” (النجم: 3 – 4). هذا، إلى جانب ما حصره شحرور ذاته من 14 مُحرَّمًا فقظ وفقاً لفهمه السقيم للقرآن.
- تجهيل أمة بأسرها، قدمائها ومعاصريها بصلافة، وازدراء جهود عظمى أشاد بها الأعداء والغرباء، واستفاد منها القريب والبعيد، وبُنِيَت بها حضارة وأمة، وارتقت بها نفوسٌ جمَّة. فليس الأمر قاصرًا على تجهيل الأقدمين، بل إن سائر علماء المسلمين المعاصرين أيضًا أغبياء لا يفهمون، ولا يحسِنون التعامل مع الذكر الحكيم. فعلماء الإسلام اليوم الذين يعيشون مثل شحرور في عصر الستالايت وشبكة المعلومات والهندسة الوراثية واللسانيات الحديثة، والذين يعرف الكثير منهم ما لا يعرفه شحرور أصلًا عن المدارس الطبيعية والحيوية والأدبية واللغوية الحديثة – كل هؤلاء غفلوا عن فهم القرآن البتَّة، وليس عن فهم آية أو سورة واحدة.
- الثقة العالية في المعاصرين، لا لشيء سوى أنهم معاصرون، مقابل التشكيك والتحقير الشديد لأبناء القرن السابع الميلادي (الصحابة وأتباعهم الأولين)، ضمن منحى زمني وسطحي بحت للتقدم والنضوج، بما يجعل من هؤلاء المعاصرين نخبة أرقى بكثير في فهم الكون من كلٍ من نيوتن وجاليليو ودارون وبلانك وآينشتاين، وبما يجعل مثقفًا بسيطًا في القرن الحادي والعشرين قادرًا، بمجرد ثقافته هذه، على فهم “وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا • فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا • فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا” (العاديات: 1- 3)، و”الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا • فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا” (المرسلات: 1- 3)، بشكلٍ أفضل من ابن عباس وابن مسعود والشافعي والطبري وابن تيمية، وكل مَن لم يكن يعرف قوانين كبلر ونظريات دوركايم وفرويد وماكس فيبر وأرنولد توينبي، فضلًا عن فهم الفيمتو ثانية والنانو ثانية وفلسفة الفوضى الخلاقة والفن التجريدي… إلخ.
- إن من شأن مدخل الجدل المادي (الديالكتيك) الذي يعوِّل عليه شحرور أن يحيل رؤية الناس للأمور ولدينهم ودنياهم إلى رؤية صراعية نزاعية، تورث العنف والعداوات والعدوان المتبادل، على خلاف الرؤية الإسلامية التي مبناها التوازن “وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ” (الرحمن: 7)، والتكامل والتآلف “وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (الذاريات: 49)، والخير “وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً” (لقمان: 20)، والتدافع بدفع الشر الحادث لإقرار الصلاح ودرء الفساد “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ” (البقرة: 251). وقد برز ذلك بجلاءٍ في النظريات الفوضوية والإلحادية والثوريات العمياء.
- لعلَّ من الملاحظ أن ما صاغه شحرور ينحى نحو الخصام والسلب والتقييد والتجميد والتضييق والحجر، أكثر منه للإبداع والتحرير والتوسيع على نحو ما يُروِّج له. فهو لا يُضيف الجديد إلى القديم أو صحيح كلٍ منهما للآخر، بل يُصِرُّ على الاستبدال والإحلال والقطيعة مع القديم، كأنه كان ضلالًا محضًا لا هدى فيه، وباطلًا بحتًا لا حق فيه، وظلامًا تامًا لا بصيص نور فيه، وهذا اتساقًا مع شرطه الذي اشترطه في التجديد: “لا تجديد إلا باختراق الأصول”، أي هدمها.
- من المُلاحَظ كذلك أنه لا مراجع قديمة ولا حديثة لدى شحرور في كتاباته، إلا نزرًا يسيرًا لا يساوي شيئًا. فهو يخبر بغير سند، ويبرهن بغير حجة. وسائر مخططه عبارة عن آراء لا دليل ينهض بها. ومن ثمَّ، فهو مرجع نفسه، ومثل هذا لا يمكن أن يشاركه إلا تابعٌ إمَّعَة؛ إذ متى يقتصر الحق على شخصٍ واحد؟ بل الأنبياء كانوا يجدون أهل حق من دونهم في أزمنتهم؛ كالحنفاء قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
- لعلَّ من أكثر ما يضيق به القارئون الواعون أن شحرور يعيد تسمية الأشياء بأسماء لم تُسمَّ بها، ثم يُحرِّم على أشياء أسماءها التي عُرِفَت بها بين الناس كافة، ثم لا يناقش التسميات المعهودة، ثم يهب ينادي الأشياء بما سمَّاها، وكأنه يفرض عليها وعلى الناس أن تُغيِّر مبناها ومعناها. فالقرآن ليس هو ما نعرفه بالقرآن، وكذلك الكتاب والذكر والفرقان وأم الكتاب والسبع المثاني. فالمصحف الذي يجمع ما أوحى الله تعالى به إلى سيدنا محمد لفظًا، ليس هو الكتاب ولا القرآن، بل القرآن جزء منه، والكتاب جزءٌ آخر مختلف منه.
ارتكز شحرور على مجموعة من المصطلحات الخاصة التي قدَّم لها فهمًا مغايرًا لما هي عليه بين العلماء، إيمانًا منه برأي “أبي علي الفارسي” بأن “الترادف غير موجود في اللغة العربية[25]. ولذا، لم يجد أي ترادف في المصطلحات الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية، كما سلفت الإشارة، وكما بين “الحديث وأحسن الحديث والعرش والكرسي والألوهية والربوبية والنبوة والرسالة والتراث والمعاصرة والأصالة والترتيل… إلخ”. كما تصوَّر أن حرف العطف “الواو” ليس له إلا صورة واحدة، هي عطف الاختلاف، ومن ثمَّ فكل كلمة مختلفة تمامًا عن الأخرى من هذه المصطلحات، بينما الحقيقة أن حرف العطف “الواو” قد يأتي عطف اختلاف، وقد يأتي عطف إردافٍ للتوضيح، وليس للتغاير. ولعلَّ من المفيد هنا الإشارة إلى عدة نماذج من تعريفاته المبتكرة:[26].
- فالقرآن: هو مجموع الآيات المتشابهات (آيات النبوّة وتفصيلها) التي تتحدّث عن القوانين الكونية التي تتحكّم في الكون بما فيه من نجوم وكواكب وزلازل ورياح ومياه في الينابيع والأنهار والبحار…، وعن قوانين التاريخ والمجتمعات التي تحكم نشوء الأمم وهلاكها، وعن غيب الماضي من خلق الكون وخلق الإنسان وأنباء الأمم البائدة (القصص القرآني بما فيه القصص المحمّدي)، وعن غيب المستقبل كقيام الساعة والنفخ في الصور والحساب والجنّة والنار.
- الكتاب: بمعنى مجموعة المواضيع التي جاءت إلى النبي (e) وحياً على شكل آيات وسور، ويتضمّن كلّ ما جاء بين دفّتي المصحف من سور ابتداءً من أول سورة الفاتحة وصولاً إلى آخر سورة الناس، وهو ما نطلق عليه اسم التنزيل الحكيم. ويشتمل الكتاب على كلّ من النبوّة (القرآن والسبع المثاني)، والرسالة (أمّ الكتاب وتفصيلها) وعلى تفصيل الكتاب وهي الآيات التي تمثّل فهرس الكتاب. كما يأتي الكتاب بمعنى مجموعة آيات الرسالة فقط، وبهذا المعنى يشترك مع معنى الكتاب عند موسى وعيسى، فالكتاب عند موسى وعيسى هو التشريع فقط… وبهذا يشترك المؤمنون من أمّة محمّد (e) مع اليهود والنصارى في كونهم من أهل الكتاب أيضا.
- الكتاب المبين: هو مجموع آيات القصص القرآني بما فيه القصص المحمّدي، أي هو مجموع الآيات التي تتطرّق إلى أنباء غيب الماضي وإلى أخبار القصص المحمّدي.
- السبع المثاني: هي جزء من نبوّة محمّد (e) أي جزء من القرآن. وهي مقاطع صوتية وردت في فواتح السور، مثل: (الم – المص – كهيعص – حم – طسم) تتألف من أحد عشر مقطعاً صوتياً تمثل القاسم المشترك في الكلام الإنساني، أشار إليها النبي (e) باسم “جوامع الكلم”، ووردت في الكتاب باسم “أحسن الحديث”، وتشكّل السبع المثاني مع القرآن كتاب النبوّة، إذ بهما وقع الإعجاز والتحدّي.
- الفرقان: هو الوصايا العشر عند موسى ومحمّد (e) والحكمة عند عيسى، ويمثّل الصراط المستقيم في التنزيل الحكيم. ورد في الآيتين (151-152) في سورة الأنعام.
- الحديث: هو أنباء مجموعة آيات الأحداث الكونية والإنسانية، سواء ما غاب منها في طيّات الماضي، أو ما حصل في زمن النبي (e) من حروب وهجرة… وهذه الآيات ليس فيها أحكام ولا تشريعات.
- الذِكر: هو الصيغة اللغوية المنطوقة والمتعبَّد بها لكل آيات الكتاب بغضّ النظر عن فهم محتواها، وهي الصيغة التي تعهّد الله بحفظها لقوله تعالى: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر: 19).
- الرسالة (أمّ الكتاب وتفصيلها): هي الآيات التي تشتمل على آيات أمّ الكتاب (الكتاب المحكم) وعلى آيات تفصيلها لقوله تعالى: “الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير” (هود: 1). وقد أصبح محمّد (e) رسولاً بالكتاب المحكم (أمّ الكتاب) وتفصيله. وكتاب الرسالة بمحكمه وتفصيله يحتمل الطاعة والمعصية لقوله تعالى: “وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” (آل عمران: 132)، وهو الذي أطلق عليه التنزيل الحكيم مصطلحَ “كتاب” كمعنى ثانٍ للكتاب كما هو عند موسى وعيسى.
- الآيات المحكمات (أمّ الكتاب): هي جزء من الرسالة، وهي آيات الكتاب المحكم وتمثّل آيات أمّ الكتاب لقوله تعالى: “هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ” (آل عمران: 7)، وعددها (19) آية في الكتاب… [وتتسم بأنها] مغلقة لأنّها لا تخضع للاجتهاد. وجاءت مواضيعها حول المحرّمات والأوامر والنواهي والحدود والشعائر والقيم.
- آيات تفصيل أم كتاب: هي جزء من الرسالة، وهي آيات تفصيل الآيات المحكمات أي تفصيل آيات أمّ الكتاب وعددها يزيد عن 993 آية دون تكرار، وهو عدد قابل للتعديل لأنه جاء نتيجة بحث تم القيام به لأول مرة في تاريخ الرسالة المحمّدية. جاء في آيات تفصيل أمّ الكتاب تفصيل مواضيع المحرّمات والأوامر والنواهي والحدود والشعائر والقيم لقوله تعالى: “وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” (الأعراف: 52).
- الآيات المتشابهات: هي آيات القرآن مضافاً إليها السبع المثاني، وهي الآيات الشارحة للقوانين الكونية والإنسانية، التي أصبح بها محمّد (e) نبيّاً لقوله تعالى: “هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ” (آل عمران: 7). وهذه الآيات تحتمل التصديق والتكذيب. وجزء منها فقط قابل للتأويل من خلال آيات تفصيلها.
- الإنزال: هو نقل الوحي من شكل غير قابل للإدراك الإنساني إلى شكل قابل للإدراك. وقد تمّ الإنزال دفعة واحدة بالنسبة للقرآن ما عدا القصص المحمّدي لخصوصيته لقوله تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ” (البقرة: 185).
- التنزيل: هو نقلة موضوعيّة للوحي خارج الوعي الإنساني، جرى فيها تنزيل ما تمّ إنزاله على مدى ثلاثة وعشرين عاماً، بحيث جاء التنزيل للقرآن متفرّقاً بعد إنزاله الذي تمّ دفعة واحدة في شهر رمضان أي على مراحل. أمّا القصص المحمّدي فقد تلازم فيه الإنزال والتنزيل لخصوصيّته عن سائر القصص القرآني الآخر. وقد تلازم كذلك الإنزال والتنزيل للرسالة (أمّ الكتاب وتفصيلها) لأنّها من عند الله مباشرة.
- الحرام: هو حكم شامل أبدي ثابت بالمنع الذي لا رخصة فيه، خصّ به الله عزّ وجلّ نفسه حصراً لأنّه يمثّل حاكمية الله. والمحرّمات في حقيقتها قيود تكبّل السلوك الإنساني، كانت في رسالة موسى كثيرة لكن على شكل أوامر ونواهٍ، ثم صارت في رسالة محمّد (e) محرّمات خُتِمت وحُصِرت بالعدد (14) محرّماً فقط، كما سلفت الإشارة.
- النهي: ظرفي، وهو ضدّ الأمر. علما أنّ النواهي والأوامر الإلهية ظواهر ثابتة لكن التشريع فيها يخضع للاجتهاد الإنساني الظرفي لأنّ ظروفها ومعطياتها تتغيّر حسب تغيّر الزمان والمكان والمستوى المعرفي للمجتمعات. لهذا ترك الله مهمّة الاجتهاد فيها للسلطة التشريعية لقوله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (النحل: 90). فالنهي قد يأمر به الله كما جاء في آية النحل 90، أو يأمر به النبي (e) لقوله تعالى: “وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا” (الحشر: 7)، أو قد تأمر به التشريعات الإنسانية. وهو لا يحمل صفة الإكراه، فإن حمل هذه الصفة يصبح منعاً، لأنّ الطبيب ينهى عن التدخين، أمّا السلطة فتمنع التدخين في الأماكن العامّة.
- آدم: هو أبو الإنسان وليس والد البشر، وبه بدأ التاريخ الإنساني الواعي، أي إن الإنسان العاقل المتكلم ينتسب إلى سلالة آدم.
- العرش: هو أوامر الله ونواهيه لقوله تعالى: “ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ” (البروج: 15-16)، فقد ربطت الآية بين العرش والفعل الإلهي من تحريم وأمر ونهي. ولا يحمل العرش معنىً مكانياً إطلاقاً لأنّ الله عزّ وجلّ خارج الزمان والمكان بل هو خالقهما وخالق كل شيء والمتصرّف فيهما بإرادته.
- الكرسيّ: بما أنّ العرش هو المحرّمات والأوامر والنواهي الإلهية، فإنّ الكرسي هو معلومات ربّ العالمين لقوله تعالى: “يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ” (البقرة: 255). والعرش مرتبط بالكرسيّ، إذ يأتي التحريم والأمر والنهي ضمن معلومات الآمِر والناهي.
- الروح: هي المعرفة والتشريع المرتبطان بالإنسان. بدأت عند الإنسان بتعليمه الأسماء، كبداية للفكر الإنساني المبنيّ على عدم التناقض ثمّ الانتقال إلى التجريد. لذا سُمّي الوحي روحاً في قوله تعالى: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا” (الشورى: 52) لأنّه أوحى إليه المعرفة والتشريع. وبناءً على ذلك فإنّ البشر يمثل الوجود الموضوعي المادّي للإنسان، والمعرفة والتشريع يمثلان الوجود المدرك الواعي الإنساني للبشر، ويُعبّر عنها باللغة، لأنّ اللغة هي حاملة الفكر: “إنسان = بشر (الموضوعي) + روح (الذاتي)” ، “روح = (معرفة + تشريع) بحامل لغوي مبني على عدم التناقض”.
هذا، وقد يعمد شحرور إلى اختيار المعنى الشاذ أو المتروك للكلمة في المعاجم، وترك المعنى المستعمل بحجة تناسب معنى الكلمة في الآية مع المعنى المعجمي، واللهث وراء الإتيان بجديد، ولذا نراه يُفسِّر كلمتَي “ربه” و “سليم” في قول الله تعالى عن إبراهيم: “إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” (الصافات: 84)، على أن “ربه” هو آذر أبيه، و”قلب سليم” معناها قلب غاضب،[27] كما ذكر أن البعض لا يزال يعتقد أن كلمة “النساء” في قوله تعالى: “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ” (آل عمران: 14)، تأتي بمعنى “امرأة”، مُشيرًا إلى أن “النساء” في هنا مُشتقَّة من “نَسَأ”، أي “تأخر”، والإنسان بطبعه يحب الأشياء الأحدث، بينما “النساء” في آية القوامة تدل على الذكور والإناث معاً، و”الرجال” كذلك: “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ” (النساء: 34)، فالرجال هم الأكثر كفاءة من الذكور والإناث معاً[28].
خاتمة:
ممَّا سبق يتضح أن كثيرا مما قدَّمه شحرور لا يمكن أن يُعَد تعظيمًا للقرآن في ذاته؛ إذ لو كان ذلك صحيحًا لتورَّع عن هذا الخوض الكبير في دعاويه بلا حرصٍ على بذل الجهد الحقيقي في مطالعة اجتهادات السابقين والمعاصرين حول القرآن. لكن يبدو أنه أُعجِب برأيه، وباتفاق بعض النتائج مع ما يهواه.
هذا وينتمي ما قدَّمه شحرور إلى مدرسة الحداثة الغربية، التي تعتبر المعارف الطبيعية والاجتماعية الحديثة التي توصَّلت إليها جهود الغربيين أساسًا في فهم القرآن المجيد والتشريع الإسلامي والدين برمته، كما أن شحرور وبعضًا من زملائه في هذا التيار، لديهم نزوعٌ إلى النهل من الفلسفة المادية (في جذورها الماركسية)، واستخلاص أفكار منها يرونها أحرى بالتفعيل في فهم الدين كتابًا وسنَّة، تراثًا وتفسيرًا، أصوليًا وفقهيًا، وتاريخيًا. وبينما اقتصر أكثر أعضاء هذا التيار على مستويَيْن: المعرفي (التصورات الكبرى بأسلوب فلسفي)، والمنهجي (نقد عام للمنهجية التراثية واقتراح مداخل أخرى للتأويل والتفسير أو ما أسموه بالقراءة)، فإن شحرور أبى إلا أن ينتقل إلى مستوى التفعيل لفلسفته ولطرحه في منهج التفسير، فَدَخَلَ في التشريع والأحكام، ليخلص إلى نتائج غاية في الخطورة، سواء على مستوى الأصول أو الفروع وذلك للأسباب التالية:
- يفتقد طرح شحرور إلى أصول المنهج العلمي المتعارف عليها بين عامة أهل العلم في الداخل والخارج، من تحديد مصادر البحث، وبيان الحجج والمراجع، ومن العناية بتوثيق الأفكار والأقوال ونسبتها إلى أهلها، ومن تمحيص المعاني والدلالات، والقدرة على التمييز بين المفردات والتراكيب، ومراعاة السياق والسباق واللحاق وفق منهجية واضحة، وكذا التمييز بين الأصل والفرع والثابت والنابت، والميزان والموزون. فالدكتور شحرور باختصار لم يُحسِن أن يستدل لرأي، وكثيرًا ما لا يستدل أصلًا، ثم هو لا يوثِّق النقل، وهذا هو العلم ولا يمكن أن يكون غير هذا.
- يفتقد طرح شحرور إلى مراعاة السياق الفكري؛ حيث يمضي دائمًا بطريقة عشوائية، فيوافق آراء متطرفة أو آراء تؤدي إلى التطرف الذي ربما لم يسبقه إليه أحد. ومن ثمَّ قد يستدعي تشددًا مقابلًا قد يكون له ساعتها ما يُبرِّره؛ نظرًا لتمادي طرح شحرور في الابتعاد عن المنطقة الوسط.
- لا يأبه شحرور بجماعة علمية في علوم الإسلام، وخاصةً في التيار الرئيس المتسم بالوسطية والاعتدال، والحائز على القبول العام من الداخل والخارج، سواء من العلماء أو المفكرين. بل يُكثِر من ضمِّ أئمة الدين إلى خانة الرجعيين والمتخلفين والجهلة والمتطرفين، سواء منهم القدماء والمحدثون. هذا إلى جانب إصراره –كما سلفت الإشارة– على قلب المفاهيم والمصطلحات، وتجهيل الأمة بأسرها في هذا الخصوص، وتعميق القطيعة المعرفية بين أهل العلم والفكر.
- يروِّج شحرور لأجندة غربية واضحة تمام الوضوح، وبالأخص ما يتعارض منها مع ثوابت الإسلام، ومنها:
- التلاعب بمفاهيم كبرى مثل الإسلام والقرآن، والشريعة، والنبوة، والسنة.
- تمجيد المعاصر (المتقدم الغربي) وتفضيله على كل قديم، حتى لو كان هذا القديم متعلِّقًا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
- القول بتاريخانية القرآن أو بعضه، ونسبية السنة كلها، بمعنى اقتصار مفعولها الإخباري أو التشريعي على العهد النبوي.
- التلاعب بقضايا تتعلق بالمرأة والأسرة مثل:
- أحكام الفروض والمواريث، وخاصة فيما يتعلق بميراث المرأة.
- أحكام النكاح وتحليل أنواع زواج شاذة، مثل المتعة والمسيار والخِدن (الفريند).
- قضية زيّ المسلمة وحجابها، بل لباس الرجل المسلم أيضًا.
- تحليل التبنِّي، وفرض ميراث للأب أو الابن من التبنّي، وتحريم الزواج من الابن أو الأخ بالتبنِّي.
- تحريم تعدد الزوجات إلا بعد تطليق الأولى؛ بحيث لا يكون للرجل إلا زوجة واحدة.
- وأخيرًا، فإنه لا ضير أن يفكر الإنسان ويحاول أن يفهم ويتعلم، بل هذا هو الواجب على كل إنسان. لكن الواجب أيضًا أن يتواضع المرء للعلم، وأن يشارك الناس فيما يفهمه ويتعلمه، ولا يصح له أن يغيِّر كلمات الناس ومصطلحاتهم، ويدعوهم إلى اتباعه وحده في تسمية الأمور بما يُسمِّيها هو بها، وأن يعرض فكره للأخذ والردِّ، وأن يستمع ويُصلِح ممَّا يُرَى فاسدًا. والواضح أن شحرور – وبعد ما يقارب الأربعين عامًا من الكتابة – لم يتأثر إلا قليلًا بمَّا وُجِّه إليه من نقد واعتراضات، والأهم أنه لم يُوسِّع من دائرة معلوماته واطّلاعاته، سواء على التراث أو على الفكر والإنتاج العلمي المعاصر، فيما كان مُصِرًّا على البدء من حيث يقف هو بلا تغيير.
هذا، وإن أخطر ما نراه في الظاهرة التي يمثلها شحرور هو جاهزيتها الجذابة لتبنِّي الغرب لها في إطار عمليات تبديد الخطاب الديني الإسلامي باسم التجديد، من دوائر غير ملتزمة بمرجعية الأمة العربية والإسلامية وهويتها، والتي للأسف ظهر منها مَن يحاول ضرب ركائزها وقواعدها. كما أن من بين الإشكالات الكبرى ما نشهده من محاولات للدفع المتعمَّد والترويج الحثيث لمثل هذا الفكر إلى الصدارة الإعلامية والمؤسسية، حيث تفعل الأموال والدعاية دوما ما لم لا تنجح فيه الكتابة والنشر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) دكتوراة في العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، والمدير التنفيذي لمركز الحضارة للدراسات والبحوث.
[1] دعوى أن الإسلام يبيح البغاء للإماء، ويحضهن عليه ما دمن غير مُكرَهات. موقع بيان الإسلام للرد على شبهات حول الإسلام.
http://www.bayanelislam.net/Suspicion.aspx?id=01-07-0018&value=&type=
[2] محمد شحرور. دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم (المنهج والمصطلحات). (بيروت: دار الساقي، الطبعة الأولى، 2016)، ص 26.
[3] ادعاء أن القرآن الكريم يقرر ألوهية المسيح عليه السلام. موقع بيان الإسلام للرد على شبهات حول الإسلام.
http://www.bayanelislam.net/Suspicion.aspx?id=01-04-0087&value=&type=
[4] الزعم أن الجنة والنار لا حقيقة لهما وأنهما مجرد وسيلة لخداع الناس. موقع بيان الإسلام للرد على شبهات حول الإسلام.
http://www.bayanelislam.net/Suspicion.aspx?id=01-03-0011&value=&type=
[5] راجع في ذلك، مُؤلَّف طه حسين “في الشعر الجاهلي”، وامين الخولي “دراسات لغوية” و”مادة التفسير في موسوعة المعارف الإسلامية”، ومقدمته للفن القصصي في القرآن لمحمد أحمد خلف الله، وكذا كتابات بعض تلامذة امين الخولي من أمثال نصر حامد أبو زيد.
[6] وإلى هذه المدرسة ينضم أبو القاسم حاج حمد، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد شحرور وحسن حنفي ومحمد أركون وغيرهم.
[7] محمد شحرور. وثيقة تأسيس مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة. انظر الرابط التالي:
https://nadyalfikr.com/showthread.php?tid=4380
[8] محمد شحرور. دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم (المنهج والمصطلحات). مرجع سبق ذكره، ص 16 (بتصرف).
[9] أطلق شحرور على هذه الخصائص “أسرار اللسان العربي”، وقد ألحقها بكتابه “الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة” الصادر في عام 1990، عن مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة ببيروت، من ص 741 فأعلى.
[10] محمد شحرور. تجفيف منابع الإرهاب. (بيروت: مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة – الأهالي، الطبعة الأولى، 2008)، ص 15.
[11] راجع في ذلك: محمد شحرور. دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم (المنهج والمصطلحات). مرجع سبق ذكره، ص ص 20 – 30 (بتصرف). و– المنهج المتبع في التعامل مع التنزيل الحكيم وفق القراءة المعاصرة. موقع محمد شحرور، على الرابط التالي:
https://shahrour.org/?page_id=3
[12] وهي حصراً: الشرك بالله، عقوق الوالدين، قتل الأولاد من إملاق، الفواحش، قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، أكل مال اليتيم، الغش بالمواصفات (كيل وميزان)، شهادة الزور، نقض العهد، نكاح المحارم، الربا، الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع – إلا ما ذكيتم – وما ذُبح على النصب والاستقسام بالأزلام، الإثم والبغي بغير الحق، التقوُّل على الله تعالى. انظر: محمد شحرور. أم الكتاب وتفصيلها: قراءة معاصرة للحاكمية الإنسانية – تهافت الفقهاء والمعاصرين. (بيروت: دار الساقي، الطبعة الأولى، 2015)، ص ص 253 – 254.
[13] انظر: محمد شحرور. دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم (المنهج والمصطلحات). مرجع سبق ذكره، ص ص 30 – 36 (بتصرف). و – المنهج المتبع في التعامل مع التنزيل الحكيم وفق القراءة المعاصرة. موقع محمد شحرور. مرجع سبق ذكره.
[14] محمد شحرور. نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي – فقه المرأة: الوصية، الإرث، القوامة، التعددية، اللباس. (دمشق: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2000)، ص 39.
[15] محمد شحرور. الإسلام والإيمان: منظومة القيم. (دمشق: الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1996)، ص ص 378 – 379.
[16] محمد شحرور. تجفيف منابع الإرهاب. مرجع سبق ذكره، ص 38.
[17] محمد شحرور. نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي – فقه المرأة: الوصية، الإرث، القوامة، التعددية، اللباس. مرجع سبق ذكره، ص ص 62 – 63.
[18] المرجع السابق، ص ص 64 – 65.
[19] محمد شحرور. الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة. (بيروت: مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة – الأهالي، 1990)، ص 472.
[20] المرجع السابق، ص ص 30 – 31.
[21] المرجع السابق، ص 446.
[22] المرجع السابق، ص ص 447 – 449.
[23] المرجع السابق، ص ص 450 – 459. علمًا بأن د. شحرور قد أورد هذه الحدود إجمالاً في البداية مختصرة في كتابه الأول “الكتاب والقرآن (1990)، ثم ما لبث أن فصَّلها في كتاب “نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي – فقه المرأة: الوصية، الإرث، القوامة، التعددية، اللباس” (مرجع سبق ذكره).
[24] محمد شحرور. تجفيف منابع الإرهاب. (بيروت: مؤسسة الدراسات الفكرية المعاصرة – الأهالي، الطبعة الأولى، 2008)، ص 39.
[25] والحق أن هذا الرأي فيه مراجعة بين الباحثين اللغويين القدامى والمحدثين، الذين أنكروا رأي “أبي علي الفارسي” ذلك، واعتباره رأيًا شاذًا؛ لأنه لا يراعي دور اللهجات المختلفة لقبائل العرب؛ إذ كانت بعض القبائل تستخدم اسمًا ما تطلقه على شيء ما، وقبيلة أخرى تستخدم اسمًا مغايرًا للشيء نفسه. وقد كان لاختلاف هذه اللهجات دورٌ كبير في قضية الترادف تلك، وهذا الأمر لم يتنبَّه له د. شحرور بسبب انغلاقه على رأي “أبي علي الفارسي”، ظنًّا منه أنه هو وحده الصواب، وما سواه خاطئ.
[26] انظر في ذلك: دليل المصطلحات الواردة في التنزيل الحكيم. موقع محمد شحرور. https://shahrour.org/?page_id=12
[27] انظر الرابط التالي: http://shahrour.org/?topic=10000
[28] انظر الرابط التالي: https://ar-ar.facebook.com/Dr.Mohammad.Shahrour/posts/1328430337273763