مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة

مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة*

أ. د. طه عبد الرحمن**

هذه المقالة ننشرها بما فيها من أفكار جديدة في مجال المقاصد فتحًا لباب الحوار، وعملاً لمناقشات جادة، ولا سيما أنها تقدم مشروعًا جديدًا ومتكاملاً في مجال المقاصد الشرعية. (التحرير)

لقد جرت عادة الأصوليين أن يجعلوا (مبحث المقاصد) قسمًا من أقسام العلم الذي يختصون بالنظر فيه، إلا أن نصيبه من هذا النظر، وإن أفلح في إظهار أهميته البالغة في التشريع الإسلامي، فإنه بقى دون النصيب الذي يتمتع به (مبحث الأحكام) مع أن القاعدة المقررة عندهم أن لكل حكم شرعي مقصدًا مخصوصًا، فكان ينبغي أن لا تقل عنايتهم بالمقاصد عن عنايتهم بالأحكام.

وغرضنا في هذا البحث هو أن نبين كيف يمكن أن نجدد علم المقاصد الذي يعد مبحثًا مندرجًا في علم أصول الفقه، ونأتى بهذا البيان في صورة دعاوى أربع نقوم بإثبات كل واحدة منها على حدة:

أولاها، أن علم المقاصد هو علم الأخلاق الإسلامي.

والثانية، أن علم الأخلاق الإسلامي يتكون من نظريات مقصدية ثلاث متمايزة ومتكاملة فيما بينها.

والثالثة، أن بعض هذه النظريات المقصدية يحتاج إلى وجوه من التصحيح والتقويم.

والرابعة، أن الأحكام الشرعية تجعل جانبها الأخلاقي يؤسس الجانب الفقهي، كما تجعل جانبها الفقهي يوجه الجانب الأخلاقي.

  1. علم المقاصد والأخلاق الإسلامية:

قبل الشروع في التدليل على هذه الدعاوى الأربع، يتعين أن نعرض وجهة نظرنا الخاصة في مفهوم (الأخلاق).

1-1. مراجعة مفهوم (الأخلاق)

لقد غلب على الظنون، منذ زمن بعيد، أن الأخلاق هي مجرد أفعال محدودة من أفعال الإنسان، وأنها لا تدخل في تحديد ماهيته _ أو، باصطلاح المعاصرين، هويته[1] _ بقدر ما تدخل في تحديد جانب من سلوكه؛ وهذا باطل كليًّا، وبيان بطلانه أنه ما من فعل من أفعال الإنسان إلا ويقترن، إما بقيمة خلقية عليا ترفع هذا الفعل درجة، فتزداد إنسانية صاحبه، أو بقيمة خلقية دنيا تخفض هذا الفعل درجة، فتنقص إنسانية صاحبه، وهذا يصح حتى ولو كان الفعل مجرد فعل ذهني، لا فعلاً عينيًّا، فقد يريد الإنسان بهذا الفعل الذهني جلب خير أو دفع شر، فيرتقي به إلى أعلى، أو يريد به جلب شر أو دفع خير، فينحط به إلى أسفل، بحيث يكون الحد الفاصل بين الإنسان والبهيمة ليس هو، كما رسخ في الأذهان، قوة العقل، وإنما هو قوة الخلق، فلا إنسان بغير خلق، وقد يكون العقل ولا خُلق معه، لا حسنًا ولا قبيحًا، وهو حال البهيمة ولو قل نصيبها من العقل عن نصيب الإنسان منه[2].

1- 2. علم المقاصد وموضوع الصلاح

إذا تمهد هذا، نقول بأن بعض المشتغلين بعلم الأصول يعرّف علم مقاصد الشريعة بكونه العلم الذي يبحث في مقاصد الشريعة، لكن المعرّف في هذا الحد ليس بأوضح من المعرّف، فضلاً عن أنه مجرد تفصيل لفظى للمعرّف، لا تحليلٌ مفهومي له؛ والمطلوب في الحد أن يكون بسطًا للمفهوم[3]، لا شرحًا للملفوظ.

وقد يعرّفه بعضهم بكونه العلم الذي ينظر في المصالح التى بنيت عليها الشريعة، لكن هذا التعريف، وإن زاد فيه المعرِّف على المعرَّف بيانًا، ففيه إشكال؛ إذ يبقى هذا البيان معلقًا ببيان مفهوم (المصلحة) وهو المفهوم الذي عرض له لبس كثير؛ وقد نشأ هذا اللبس عن شيئين:

أحدهما، صيغته الصرفية، إذ صيغ هذا المفهوم على وزن دال على اسم مكان، فيتوهم الذهن أن المصلحة اسم لشيء متحيز، كما يوهم بذلك قول الأصوليين: (جلب المصلحة) أو (رعاية المصلحة).

والثاني، توسع مدلوله مع المتأخرين، حتى صارت المصلحة عندهم مرادفة للغرض، كما في قولهم: (تحقيق المصلحة العامة ) أو (طلب المصلحة الخاصة).

والحقيقة أن المصلحة ليست اسم ذات متحيزة، وإنما هو اسم معنى مجرد، فتكون مرادفة لمفهوم (الصلاح) في دلالته المصدرية الصرف، فإذا قيل: (علم المقاصد ينظر في مصالح الإنسان الدنيوية والأخروية)، فالمراد إذن هو أنه ينظر في وجوه صلاح الإنسان في الدنيا والأخرى، كما أن المصلحة ليست غرضًا، وإنما هي مسلك، فإذا قيل: (علم المقاصد ينظر في مصالح الإنسان)، فالمراد إذن هو أنه ينظر في المسالك التى بها يصلح الإنسان، تحقيقا لصفًة العبودية لله.

وبهذا، يتضح أن التعريف الذي يوفى بحقيقة علم المقاصد هو، باختصار، أنه علم الصلاح؛ إذ يجيب هذا العلم على السؤال التالي، وهو: كيف يكون الإنسان صالحًا؟ أو كيف يأتى الإنسان عملاً صالحًا؟ ومعلوم أن الصلاح قيمة خلقية، بل هو القيمة التى تندرج تحتها جميع القيم الخلقية الأخرى، فيكون هو عين الموضوع الذي اختص علم الأخلاق بالبحث فيه، ولو أنه تسمى فيه بأسماء أخرى كـ (الخير) و(السعادة)، إلا أن اسم (الصلاح) يفضل اسم (الخير)[4] من جهة أنه يقترن أساسًا بالسلوك، والخير قد لا يقترن به، كما يفضل اسم (السعادة) من جهة أنه لا يقترن بالغرض، والسعادة تقترن به أساسًا ؛ ومعلوم أن أدل الأسماء على الخاصية الخلقية هو ما أفاد استقامة السلوك الذي لا غرض معه، فيكون هو اسم (الصلاح[5]).

  1. النظريات المقصدية الثلاث:

بعد أن دللنا على الدعوى الأولى، وهي أن (علم المقاصد علم أخلاقي موضوعه الصلاح الإنساني)، نمضى إلى التدليل على الدعوى الثانية، وصيغتها هي التالية:

إن علم الأخلاق الإسلامي الذي يشكله علم المقاصد يتكون من ثلاث نظريات مختلفة تتكامل فيما بينها.

  1. 1. معاني لفظ (المقصد)

اعلم أن لفظ (المقصد) مجمل نحتاج إلى تفصيل معانيه، هذا التفصيل الذي لا نعلم أن أحدًا من الأصوليين المتقدمين، ولا بالأولى المتأخرين قام به على مقتضاه اللغوى والمنطقي.

  1. 2. 1. المقصد بمعنى (المقصود)؛ قد يفيد لفظ (المقصد) معنى (المقصود) ؛ إذ يقال: (مقصد القول) والمعنى بالذات هو (مقصود القول)، أي المراد منه؛ فالمقصد هنا يكون بمعنى المضمون الدلالي المراد للقائل في سياق الكلام أو مقامه؛ وإذا خلا القول من هذا المضمون الدلالي، كان لغوًا؛ ولما كان سياق الكلام أو مقامه هو المرجع الأساسي في تحديد مدلول القول، فقد يوافق هذا المدلول صيغ ومعاني ألفاظ هذا القول، فيكون مدلولا ظاهرًا يتبادر إلى الفهم؛ وقد يخالف هذا المدلول صيغ هذه الألفاظ ومعانيها، إن زيادة أو نقصانًا، فيكون مدلولاً خفيًّا يحتاج الفهم إلى الغوص عليه؛ وعلى هذا، فإذا قيل: (مقاصد الشريعة)، فقد يكون المعنى هو (مقصودات الشريعة)، أي المضامين الدلالية المرادة للشارع بأقواله التى يخاطب بها المكلفين[6].

ومتى كان علم المقاصد علمًا أخلاقيًّا ينظر في الأحكام التى تتضمنها الأقوال الشرعية، لزم أن يقوم على ركن أساسي، وهو نظرية في الأفعال؛ وتختص هذه النظرية بالبحث في الجوانب الأخلاقية للأفعال الشرعية والتى تدور على مفهومين أساسيين هما: (القدرة) و (العمل).

  1. 1. 2. المقصد بمعنى (القصد)؛ قد يفيد لفظ (المقصد) أيضا معنى (القصد)، إذ يقال: (مقصد القول)، والمعنى بالذات هو (قصد القائل)، أي النية التى يصدر عنها القائل وتصدر منه؛ فالمقصد هنا بمعنى المضمون الشعوري للقائل الذي يصاحب مدلول قوله في سياق الكلام أو مقامه؛ وإذا خلا القول من هذا المضمون الشعوري كان سهوا؛ وعلى هذا، فإذا قيل: (مقاصد الشريعة)، فقد يكون المعنى هو (قصود الشارع وقصود المكلف)[7].

ومتى كان علم المقاصد علمًا أخلاقيًّا ينظر في القصود التى تصدر عن الشارع وعن المكلف، لزم أن يقوم على ركن أساسي ثان، وهو نظرية في النيات؛ وتختص هذه النظرية بالبحث في الجوانب الأخلاقية لهذه القصود التكليفية والتى تدور على مفهومين أساسين هما: (الإرادة) و (الإخلاص).

  1. 1. 3. المقصد بمعنى (الغاية)؛ وأخيرًا قد يفيد لفظ (المقصد) معنى (الغاية المرغوب فيها)، فيقال: (مقصد القول)، والمعنى بالذات هو: (الغاية التى يهدف إليها القائل من قوله ويريد تحقيقها)، أي القيمة التى يتوجه إليها القول وتوجهه؛ فيكون المقصد هنا بمعنى المضمون القيمي الذي يقرن به المتكلم مدلول قوله في سياق الكلام أو مقامه؛ وإذا خلا القول من هذا المضمون القيمي كان لهوًا _ أو قل: عبثًا أوجزافًا، وعلى هذا، فإذا قيل: (مقاصد الشريعة)، فقد يكون المعنى هو (قِيَم الشريعة)[8] ؛ وقد عبر الأصوليون عن هذا المعنى الثالث للمقصد بلفظ (المصلحة)، فالقيمة والمصلحة اسمان لمسمى واحد بعينه، وهو معنى يصلح به حال الإنسان[9].

ومتى كان علم المقاصد علمًا أخلاقيًّا ينظر في الغايات المرغوب فيها التى تحققها الأحكام الشرعية، وجب أن يقوم على ركن أساسي ثالث، وهو نظرية في القيم، وتختص هذه النظرية بالبحث في الجوانب الأخلاقية لهذه الغايات الشرعية والتى تدور على مفهومين أساسيين هما: (الفطرة) و(الإصلاح)[10].

وعلى الجملة، فإن علم المقاصد يتكون من ثلاث نظريات أخلاقية تحدد بنية الخُلُق الإسلامي، وهذه النظريات هي: (نظرية الأفعال) و(نظرية النيات) و(نظرية القيم)، بحيث تتكون بنية الخلق الإسلامي من عناصر ثلاثة هي: (الفعل) و(النية) و(القيمة) تدخل فيما بينها في علاقات تتفرع على اثنتين أصليتين: إحداهما: (علاقة الفعل بالنية)، فلا فعل بغير نية. والثانية، (علاقة النية بالقيمة)، فلا نية بغير قيمة؛ مما يسمح بأن نضع ترتيبًا لهذه العناصر الخُلقية باعتبار درجتها من الضرورة، فترجع الرتبة الأولى للقيمة والرتبة الثانية للنية والرتبة الثالثة للفعل، فتكون (نظرية القيم) هي الأصل الذي تنبني عليه النظريتان الأخريان: (نظرية النيات) و(نظرية الأفعال).

  1. 2. الأخطاء الناتجة عن الخلط بين المعاني المقصدية الثلاث:

لما فات الدارسين أن يتبينوا الفروق بين المعاني الثلاثة للفظ (المقصد)، وهي: (المقصود) و(القصد) و(الغاية) كما فاتهم أن يتبينوا ما يترتب عليها من نظريات أخلاقية ثلاث هي على التوالي: (نظرية الأفعال) و(نظرية النيات) و(نظرية القيم)، فقد وقعوا في خلط كبير تمثل في مظاهر مختلفة، نذكر منها الثلاثة الآتية:

  1. 2. 1. الخلط بين رتب الوسائل والحيل والذرائع: معلوم أن مبحث المقاصد يتضمن (باب الوسائل)، وهي الأفعال التى يُتوسل بها إلى بلوغ المقاصد، إلا أن مفهوم (المقاصد) في علاقته بالوسائل ينبغي أن يُحمل هنا، لا على مدلول (القيم) _ أي المعاني الخلقية العليا _ وإنما على مدلول (المقصودات)، أي الأفعال، بحيث تكون المقصودات من جنس الوسائل الموصلة إليها، أي أن الفعل يكون وسيلة إلى فعل غيره؛ وعلى هذا، فإن أَولى نظريات المقاصد بالبحث في الوسائل هي (نظرية الأفعال)، في حين نجد أن الأصوليين اشتبه عليهم الأمر، فأدرجوا هذا البحث فيما أسميناه بـ (نظرية القيم)، ظانين أن توسل الأفعال بعضها ببعض بمنزلة التوسل إلى القيم بالأفعال.

ومعلوم أيضًا أن مبحث المقاصد يتضمن (باب الحيل)، والحيلة هي الوسيلة الخفية التى يقصد بها المرء الوصول إلى غرضه[11]، إلا أن مفهوم (الاحتيال) أو (التحيل) ينبغي أن تتقدم فيه مراعاة القصد على مراعاة الغرض، فلولا فساد القصد، لما فسد الغرض؛ وعلى هذا، فأحرى نظريات المقاصد بالبحث في الحيل هي (نظرية النيات)، بينما نجد أن الأصوليين التبس عليهم الأمر هنا أيضًا، فأدرجوا هذا البحث فيما أسميناه بـ (نظرية الأفعال)، جاعلين العبرة في التصرفات لا في النيات.

ومعلوم أخيرًا أن مبحث المقاصد يتضمن (باب الذرائع)، والذريعة هي الوسيلة التى يتوصل بها إلى الشيء، إلا أن الفرق بين (التذرع) و(التوسل) هو أن هذا الشيء المتوصل إليه يكون في الأول عبارة عن قيمة محددة، معتبرة كانت أو ملغاة، بينما قد يكون في الثاني مجرد فعل من الأفعال، لا قيمة من القيم؛ وعلى هذا، فإن أحق نظريات المقاصد بالبحث في الذرائع هي (نظرية القيم)، بينما نجد أن الأصوليين اختلط عليهم الأمر هنا كذلك، فصاروا إلى إدراج هذا البحث هو الآخر في (نظرية الأفعال)، جاعلين مقتضى الاحتيال ومقتضى التذرع سواء.

وبإيجاز، فإن مفاهيم (التوسل) و (التحيل) و(التذرع)، وإن دارت كلها على معنى إجمالي واحد، وهو (التوصل إلى الشيء)، فإنها تختلف باختلاف العنصر المركز عليه من العناصر المكونة للبنية الخلقية، فالتوسل يركز على الفعل، فينزل الرتبة الثالثة، والتحيل يركز على النية، فينزل الرتبة الثانية، والتذرع يركز على القيمة، فينزل الرتبة الأولى.

  1. 2. 2. الخلط بين العلة السببية والعلة الغائية: غلب على الأصوليين استعمال تعليل الأحكام بالأوصاف، وقد نسميه بـ (التعليل الوصفي أو السببـي) لربطه الوصف بالحكم ربط الأسباب بالمسببات؛ فمثلاً، (المرض) وصف جعله الشارع سببًا لإباحة الإفطار؛ وهذا التعليل لا يصح إلا في مجال المقصودات من مبحث المقاصد، هذا المجال الذي تبحث فيه نظرية الأفعال، بينما (التعليل الغائي) يقوم على مقتضى ربط الأحكام بحِكَمها، فمثلاً (التيسير) حكمة يصير الإفطار بموجبها مباحًا؛ وواضح أن هذا التعليل لا يصح إلا في مجال الغايات من مبحث المقاصد، هذا المجال الذي تبحث فيه نظرية القيم؛ والتعليل السببـي في الأحكام الشرعية تابع للتعليل الغائي، بحيث لا يُرتَّب الحكم على السبب حتى يفضى إلى تحقيق الغاية منه، وقد عُرفت هذه التبعية باسم (المناسبة)[12] ؛ غير أن الأصوليين قد انقسموا بصدد تعليل الأحكام إلى فئات ثلاث، فئة كبيرة اكتفت بالتعليل السببـي وحده، وهي تظن أنها قامت بتمام شرط التعليل الواجب في الأحكام الشرعية، فطغت على اجتهاداتها صبغة التقنين القانوني النظري، وفئة صغيرة، على نقيض الأخرى، اكتفت بالتعليل الغائي وحده، على اعتبار أنه يستوفي تمام شرط التعليل الواجب في الأحكام الشرعية، فطغت على اجتهاداتها صبغة التوجه الخلقي الروحي، وفئة ثالثة سعت إلى أن تجمع في بيان الأحكام الشرعية بين التعليلين المذكورين، فأخذت في اجتهاداتها بالاعتبارات العملية والخلقية، ونجد من الأصوليين من أخذ تارة بالتعليل السببـي وتارة بالتعليل الغائي، إما غير متفطن للفرق بينهما، وإما متقلبًا بينهما متى أعجزه أحدهما أخذ بالآخر.
  2. 2. 3. الخلط بين العقلانية التفسيرية والعقلانية التوجيهية: قد يهتدى العقل إلى إدراك الأوصاف التى جعلها الشارع أسبابًا لأحكامه، فحينئذ يكون العقل مفسرًا للأفعال التي تتعلق بها هذه الأحكام، وتكون هذه الأحكام معقولة بأوصافها، وقد يهتدى العقل إلى إدراك الغايات والقيم التى يتوصل إلى تحقيقها بواسطة الأحكام، فحينئذ يكون العقل موجهًا للأفعال التى تتعلق بها هذه الأحكام، وتكون هذه الأحكام معقولة بمعاييرها، لكن الأصوليين، غالبًا ما جهلوا أو تجاهلوا هذا الفرق الأساسي بين النوعين من المعقول: التفسيري _ أو الوصفي -والتوجيهي- أو المعياري _ فجاء كلامهم عن المقابلة في الأحكام بين (معقول المعنى) وضده، أي (غير معقول المعنى) _ أو باصطلاحهم (التعبدي) _ في غاية الاضطراب؛ حيث إنهم جعلوا (التعبدي) يقابل تارة (المعقول الوصفي) وتارة (المعقول المعياري) ؛ والصواب أن هذه المقابلة تحتمل صورًا مختلفة أربع، وهي:

أولاها أن يكون الحكم الشرعي معقولاً وصفيًّا ومعقولاً معياريًّا.

والثانية، أن يكون الحكم الشرعي معقولاً وصفيًّا وتعبديًّا معياريًّا.

والثالثة، أن يكون الحكم الشرعي تعبديًّا وصفيًّا ومعقولاً معياريًّا.

والرابعة، أن يكون الحكم الشرعي تعبديًّا وصفيًّا وتعبديًّا معياريًّا.

لو أخذ الأصوليين في تعليلاتهم واستنباطاتهم بالفروق بين هذه الصور التقابلية الأربع، لارتفع كثير من الإشكالات والشبه التى دخلت عليها، وانفتح لهم طريق تفصيل الكلام في العقلانية النظرية التى يمثلها التعليل الوصفي والعقلانية العملية التى يمثلها التعليل المعياري وكذا في علاقاتهما ومراتبهما.

  1. تصحيح نظرية القيم المقصدية:

بعد أن فرغنا من إثبات الدعوى الثانية، وهي أن (علم المقاصد يتركب من نظريات أخلاقية ثلاث هي: نظرية الأفعال، ونظرية النيات، ونظرية القيم)، فلننتقل الآن إلى إثبات الدعوى الثالثة، وصيغتها هي:

إن نظرية القيم _ أو إن شئت قلت نظرية المصالح _ التى هي الأصل في علم المقاصد تحتاج إلى إدخال وجوه من التصحيح عليها؛ لأنه بصحتها تصح النظريتان الأخريان: نظرية النيات ونظرية الأفعال.

  1. 1. الاعتراضات على تقسيم القيم الشرعية وترتيبها

لقد درج الأصوليون _ كما هو معروف _ على تقسيم القيم إلى ثلاثة أقسام وترتيبها على ثلاث درجات: أولها القيم الضرورية، وهي، على حد تعبيرهم، عبارة عن القيم التى يفسد بفقدها نظام الحياة، دينًا ودنيا. والثاني القيم الحاجية التى هي دونها درجة، إذ هي عبارة عن القيم التى لا يصيب المكلف بفقدها إلا العنت أو الضيق. والثالث القيم التحسينية التى دون الحاجية درجة، وهي عبارة عن القيم التى لا ينال المكلف بفقدها إلا حرج في المروءة، وجعلوا لكل قسم من هذه القيم الشرعية مكملات تلحق به.

وعلى شهرة هذا التقسيم والترتيب لقيم الشريعة بين الأصوليين، فإنه يمكن أن نورد عليهما اعتراضات منهجية مختلفة عامة وخاصة تدعو إلى المبادرة بوضع تقسيم وترتيب جديدين لهذه القيم الأخلاقية.

  1. 1. 1. الاعتراض العام: يخل هذا التقسيم العام للقيم بشرط التباين من شروط التقسيم، حيث إن القيم التى يتكون منها القسم الضروري مثل الدين والنفس والعقل والنسل والمال، لا يستقل بها هذا القسم، بل يشاركه فيها القسمان الآخران: الحاجي والتحسيني، فمثلا الأحكام الثلاثة الآتية: تحريم الزنا الذي يُعد حكمًا يحقق قيمة ضرورية وتحريم النظر إلى عورة المرأة الذي يعد حكمًا يحقق قيمة حاجية وتحريم تبرج المرأة الذي يعد حكمًا يحقق قيمة تحسينية، تشترك كلها في حفظ النسل؛ ولا طريق إلى استيفاء شرط التباين إلا بأن نُنزل هذه القيم الخمس رتبة تعلو على رتبة هذه الأقسام الثلاثة كما لو كانت أصولاً أو أجناسًا أو قيمًا عليا تتفرع عليها هذه الأقسام بتخصيصات ثلاثة مختلفة، ويجوز أن تكون هذه التخصيصات عبارة عن مراتب ثلاث للحفظ، ولنجعلها هي: (الاعتبار) و(الاحتياط) و(التكريم)، فيشتمل القسم الضروري على ما يعتبر هذه القيم العليا، فيكون أعلى هذه الأقسام درجة، ويشتمل القسم الحاجي على ما يحتاط لهذه القيم، فيكون أوسطها درجة، ويشتمل القسم التحسيني على ما يكرمها، فيكون أدناها درجة.

أما الاعتراضات الخاصة، فنوردها على القسمين التاليين من القيم، وهما: (قسم القيم الضرورية) و (قسم القيم التحسينية).

  1. 1. 2. الاعتراضات الخاصة بالقيم الضرورية: إن الاعتراض الخاص الوارد على القيم الضرورية هو أنها تُخل بشروط التقسيم، وذلك كما يلي:

أ _ الإخلال بشرط تمام الحصر؛ فقد اشتهر حصر الأصوليين لهذه القيم في خمس مستقرأة، وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال؛ والحال أنه لا يمتنع إدخال قيم أخرى فيه مثل (حفظ الذكر) و(حفظ العدل) و(حفظ الحرية) و (حفظ التكافل) ؛ ثم إن الحاصل بطريق الاستقراء يتقلب بتقلب الأطوار الإنسانية، بحيث قد يفضى تقلب هذه الأطوار إلى ظهور قيم ضرورية جديدة يجوز أن نجد لها أدلة في النصوص الشرعية لم نكن نلتفت إليها قبل حصول هذا التقلب.

ب _ الإخلال بشرط التباين؛ إن القيمة الواحدة من هذه القيم لا تباين ما سواها من القيم؛ فلا حفظ للمال بغير حفظ العقل، فيكون العقل جزءًا من المال، ولا حفظ للعقل بغير حفظ النسل، فيكون النسل جزءًا من العقل، ولا حفظ للنسل بغير حفظ النفس، فتكون النفس جزءًا من النسل، ولا حفظ للنفس بغير حفظ الدين، فيكون الدين جزءًا من النفس.

ج. الإخلال بشرط التخصيص؛ ليست كل قيمة من هذه القيم أخص من الأصل المحصور الذي هو الشريعة؛ فحفظ الدين الذي اعتبر قيمة من قيم الشريعة هو كذلك مساو للشريعة، فتدخل تحته القيم الأخرى؛ ولا ينفع أن يقال بأن المراد بالدين في هذا التقسيم هو الاعتقادات والعبادات، فهذا تخصيص بغير دليل؛ لأن الأحكام التى تراعي حفظ القيم الأخرى هي أيضًا أحكام تراعي حفظ الدين.

  1. 1. 3. الاعتراضات الخاصة بالقيم التحسينية: إن الاعتراض الخاص الوارد على القيم التحسينية هو أنها تخل بشروط الترتيب، وذلك كما يأتي:

أ. تأخير ما ينبغي تقديمه، لقد قصر الأصوليون القيم التحسينية على (مكارم الأخلاق) ؛ لكن إنزال مكارم الأخلاق الرتبة الثالثة من القيم يُشعر بأنها مجرد صفات كمالية يُخير المرء في التحلي بها، بل قد يتخلى عن بعضها تخليه عما هو أشبه بالترف السلوكي؛ وهذا في غاية الفساد، فقد تقدم أن علم المقاصد يبحث في المصالح، وأن المصالح ليست إلا علمًا آخر للقيم الأخلاقية؛ لأنها هي وحدها التى يصلح بها حال الإنسان؛ وإذا كان الأمر كذلك، لزم أن تكون الأخلاق أولى بالرتبة الأولى من غيرها.

ب. إهمال رتب الأحكام، لقد ضرب الأصوليون على القيم التحسينية أمثلة تدخل في جميع أنواع الأحكام الشرعية، اقتضاء وتخييرًا، بحيث نجد من التحسيني ما هو واجب كالطهارات، ومنه ما هو محرم كبيع الخبائث وأكلها؛ وإذا كان الأمر كذلك، بطل ما يدعيه الأصوليون من أن القيم التحسينية لا يترتب عليها إخلال بنظام، ولا حصول إعنات؛ فهل يعقل أن يفرض الشارع شيئًا أو يمنع آخر من غير أن يكون في ترك ما فرض أو فعل ما منع مضرة لا يختل بها نظام الحياة، فردية كانت أو جماعية، وإلا فلا أقل من أن يفسد بها حال الإنسان، إن قليلاً أو كثيرًا!

ج. إهمال الحصر المفيد لعلو الرتبة، فقد وردت عبارة (مكارم الأخلاق) في الحديث الصحيح المروي عن أبى هريرة وهو: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ؛ فواضح أن ما يستفاد من أداء الحصر هنا هو أنه حيثما وجد حكم من الأحكام التى جاءت بها البعثة النبوية، فلا بد أنه يتضمن خلقًا أو أخلاقًا صالحة ينبغي التحلى بها، كما يستفاد من هذه الأداة أن هذه البعثة لا تأتى إلا بمثل هذه الأحكام ذات الآثار الخلقية؛ والبعثة التي تكون بهذا الوصف لا يمكن أن تنزل الأخلاق التى تدعو إليها إلا أعلى الرتب من مراتب الضرورة.

  1. 2. وضع تقسيم جديد للقيم الشرعية

حاصل القول في الاعتراضات السابقة على التقسيم التقليدي للقيم أن هناك حقائق ثلاث؛ أولاها: أن القيم لا تنحصر في عدد قليل. والثانية: أن التفاوت بين مراتب القيم يرجع إلى تفاوتها في القوة الخُلقية. والثالثة: أن (مكارم الأخلاق) تندرج في جميع مراتب القيم بغير استثناء؛ ومتى أخذنا بعين الاعتبار هذه الحقائق الثلاث، وجب إنشاء تقسيم جديد للقيم يكون بديلاً للتقسيم المألوف.

  1. 2. 1. معالم التقسيم الجديد للقيم؛ قد تتخذ معالم هذا التقسيم الجديد الشكل الآتي:

أ. القيم الحيوية أو قيم النفع والضرر، وهي المعاني الخلقية التى تتقوم بها كل المنافع والمضار التى تلحق عموم البُني الحسية والمادية والبدنية، ويكون الشعور الموافق لهذه المعاني الخلقية هو اللذة عند حصول النفع والألم عند حصول الضرر؛ ويندرج في هذه القيم، على سبيل المثال، حفظ النفس وحفظ الصحة وحفظ النسل وحفظ المال.

ب. القيم العقلية أو قيم الحسن والقبح، وهي المعاني الخلقية التى تتقوم بها المحاسن والمقابح التى تعرض لعموم البُني النفسية والعقلية[13]؛ ويكون الشعور الموافق لهذه المعاني هو الفرح عند حصول الخير والحزن عند حصول الشر؛ والقيم التى تندرج تحت هذه المعاني أكثر من أن تحصى؛ ومن الأمثلة عليها: الأمن والحرية والعمل والسلام والثقافة والحوار.

ج. القيم الروحية أو قيم الخير والشر، وهي المعاني الخلقية التى تتقوم بها كل الخيرات والشرور التى تطرأ على عموم القدرات الروحية والمعنوية، ويكون الشعور الموافق لهذه المعاني هو السعادة عند حصول الصلاح، والشقاء عند حصول الفساد، ويدخل في هذا الصنف الإحسان والرحمة والمحبة والتواضع والخشوع.

  1. 2. 2. خصائص الترتيب الجديد للقيم؛ ينشأ عن هذا التقسيم الجديد للقيم ترتيب جديد هو بمنزلة قلب للترتيب القديم؛ فبعد أن كانت القيم الضرورية تتبوأ المقام الأول في الترتيب القديم، أضحى معظمها ينزل الدرجة الثالثة في الترتيب الجديد مثل حفظ النفس وحفظ النسل وحفظ المال؛ ثم بعد أن كانت القيم التحسينية تنزل الدرجة الثالثة في الترتيب القديم، أصبحت تتبوأ المقام الأول في الترتيب الجديد.

لقد كان الترتيب التقليدي يقدم اعتبار الجانب المادي من الحياة على جانبها المعنوى حتى كادت أن تبدو فيه الشريعة مادية كمادية العقل، علمًا بأن الأصل فيه، على خلاف الاعتقاد السائد، التعلق بالمادة، وكادت أن تقتصر وظيفتها على تأييده فيما يستطيع إدراكه بنفسه، لا على تكميله فيما لا يستطيع إدراكه بنفسه، أما الترتيب الجديد، فعلى العكس من ذلك يقدم اعتبار الجانب المعنوى من الحياة على جانبها المادي، فلما كانت القيم الخلقية هي الفرع الأساسي من فروع مقاصد الشريعة وكانت الأخلاق هي التى يحقق بها الإنسان إنسانيته، ومن ثم يحقق عبوديته لله، فإن رتبة هذه القيم تتحدد بمدى قدرتها على تحقيق هذه الغاية، فما كان منها أقدر على هذا التحقيق كان أرقى، والعكس بالعكس، كل ما كان منها أقل قدرة عليه، كان أدنى، وعلى هذا، تكون القيم الروحية _ أو قيم الخير والشر _ أدل القيم على كمال الإنسانية وتمام العبودية لله، فتكون لها الرتبة الأولى، تليها القيم العقلية _ أو قيم الحسن والقبح _ لأن درجتها من المادية، على توسطها، تنأى بها عن هذا الكمال الإنساني، فتكون لها الرتبة الثانية، ثم تأتى في الرتبة الثالثة القيم الحياتية _ أو قيم النفع والضرر _ لأن تغلغلها البالغ في الماديات يقطعها عن هذا الكمال الإنساني.

يترتب على هذا أن الحاجة إلى العمل بالقيم الروحية أقوى من الحاجة إلى العمل بغيرها؛ وينبغي أن يكون غيرها من القيم، عقلية كانت أو حياتية، تابعًا وخادمًا لها؛ ذلك أن ترك العمل بالقيم الروحية يؤدى إلى اختلال في نظام الروح أسوأ من الاختلال في نظام النفس الذي ينتج من ترك العمل بالقيم العقلية، وبالأولى أسوأ من الاختلال في نظام العيش الذي ينتج من ترك العمل بالقيم الحياتية.

  1. صلة علم الأخلاق بعلم الفقه بين الوسطية والطرَفية:

بعد أن انتهينا من إثبات الدعوى الثالثة، وهي أن (نظرية القيم التقليدية تحتاج إلى التصحيح من حيث مسلكها في التقسيم والترتيب)، ننعطف على الدعوى الرابعة، وصيغتها هي التالية:

* إن لكل حكم شرعي وجهين اثنين: وجه قانوني ووجه أخلاقي، متى تلازما تحققت الوسطية، ومتى افترقا تولدت الطرفية[14].

  1. 1. وجها الحكم الشرعي: القانوني والأخلاقي

لقد تقدم أن للحكم الشرعي وجهًا أخلاقيًّا يتمثل في بنية مكوّنة من عناصر ثلاثة هي: (القيمة) و(النية) و(الفعل)؛ ولا خفاء في أن هذه البنية ليست كمثلها بنية؛ وذلك أولاً؛ لأن القيمة فيها تكون أقوم من غيرها بموجب نزول هذا الحكم على مقتضى الفطرة التى خُلق بها الإنسان، وثانيًا؛ لأن النية في هذه البنية تكون أدق المعاني لوجوب اقترانها بالإخلاص الذي هو سر إلهي مودع في الصدور؛ وثالثاً؛ لأن الفعل في هذه البنية أرسخ من غيره بموجب تغلغل الحكم الشرعي في العمل وفتحه الطريق لانتقال الإنسان في مراتبه حتى بلوغ أقصاها.

كما أن للحكم الشرعي وجهًا ثانيًا، وهو الوجه القانوني، ويتمثل في بنية مكونة، هي الأخرى، من عناصر ثلاثة، وهي: (جهة الحكم)، وهي القيمة القانونية التى قرن بها الشارع خطابه من إيجـــاب أو تحريم أو إباحة أو غيرها[15]؛ و(علة الحكم)، وهي الوصف الذي جعله الشارع موجبًا لهذه الجهة؛ ثم (المضمون المحكوم عليه)، وهو فعل المكلف الذي تدخل عليه الجهة، أي الذي يوصف بالواجب أو المحرم أ المباح او سواها، وينبغي التنبيه هنا إلى أن هناك فرقًا جوهريًّا بين (المضمون المحكوم عليه) في الوجه القانوني وبين (المضمون المقصود) الذي سبق ذكره والذي يشكل عنصر (الفعل) في الوجه الأخلاقي؛ ذلك أن (المحكوم عليه) فعل مجرد من الجهة، في حين أن (المقصود) فعل مقترن بهذه الجهة؛ وحتى نتجنب اللبس الناتج عن دلالة المفهومين معًا على معنى (الفعل)، نخص (المضمون المقصود) باسم (الفعل)، ونخص (المضمون المحكوم عليه) باسم (القضية) ؛ ولاسيما أن (الفعل)، على وجه العموم، قد يُنظر إليه من جهتين:

جهة كونه عملية، وجهة كونه أثرًا لهذه العملية ؛ والفعل الخلقي الخاص الذي يمثله (المضمون المقصود) لا يناسبه إلا مقتضى العملية، لأنه أدل على زمان الحدث، بينما الفعل القانوني الخاص الذي يمثله (المضمون المحكوم عليه) يناسبه مقتضى أثر العملية؛ لأنه أدل على نتيجة الحدث.

وهذا الوجه القانوني بأركانه الثلاثة: (العلة) و(الجهة) و( القضية) هو الذي اختص الفقهاء بالنظر فيه والحث على العمل على وفقه، بحيث يجوز أن نسميه أيضًا بـ (الوجه الفقهي).

وإذا نحن قارنا بين الوجهين من الحكم الشرعي: القانوني والأخلاقي، وجدنا أن الوجه القانوني منهما ينبني على محددات خارجية، في حين ينبني الوجه الأخلاقي على محددات داخلية، وذلك كما يلي:

* أن عنصر (النية) من الوجه الأخلاقي بمنزلة عنصر (العلة) من الوجه القانوني، فإذا كانت العلة هي الباعث الجلي الذي توجد بوجوده الجهة، فإن النية هي الباعث الخفي الذي يوجد بوجوده الفعل[16].

* أن عنصر (الفعل) من الوجه الأخلاقي بمنزلة عنصر (القضية) من الوجه القانوني ؛ فإذا كانت القضية هي الفعل الظاهر الذي يُحكم عليه، فإن الفعل الفاصل في التخلق هو الفعل الباطن.

* أن عنصر (القيمة) من الوجه الأخلاقي بمنزلة عنصر (الجهة) من الوجه القانوني ؛ فإذا كانت الجهة هي المعيار القانوني المصرح به الذي يُتوسل به في تقرير الحكم بناء على وصف مخصوص، فإن القيمة هي المعيار الأخلاقي الضمني الذي يُتوسل به في ترتيب الحكم على وصف مخصوص.

وإذا تقرر أن لكل حكم شرعي وجهين، أحدهما خارجي، وهو الوجه القانوني، والثاني داخلي، وهو الوجه الأخلاقي، ظهر أن مواقف المكلفين منه قد تتخذ صورتين: إحداهما صورة (الجمع) بين هذين الوجهين، والثانية صورة (التفريق) بينهما.

  1. 2. الجمع بين وجهي الحكم الشرعي والوسطية

ليس من شك أن أهمية الأخلاق في الإسلام لا تقل عن أهمية الفقه، حتى أنهما ينزلان مرتبة واحدة؛ لأن الفعل القانوني، في حقيقته، فعل خلقى، ولأن غاية الفقه كغاية الأخلاق سواء بسواء، ألا وهي تحقيق الإنسانية بواسطة العبودية لله! والعكس أيضا صحيح، فالفعل الخلقي، في حقيقته، فعل قانوني، سواء أظفرنا بالدليل عليه أم لم نظفر به؛ أو إن شئت قلت: إن الفعل الواحد له ظاهر هو فقهه، وله باطن هو خُلقه؛ وبقدر ما يكون في المسألة تفقه، يكون فيها تخلق؛ والعكس أيضًا صحيح، فبقدر ما يكون في المسألة تخلق، يكون فيها تفقه؛ أو إن شئت قلت: إن المسألة الواحدة لها خارج هو فقهها ولها داخل هو خُلقها ؛ وهذا التلازم في العمل والنظر بين الصورة القانونية والصورة الخلقية هو الذي يجعل الواحدة منهما تصحح الأخرى وتوجهها في مسلكها وتحفظها في حدودها، فيندفع الجمود على الظاهر كما يندفع الانكفاء على الباطن؛ مما ينتج عنه اعتدال في العمل واتزان في النظر، وهذا الاعتدال السلوكي والاتزان الفكري هما اللذان يجعلان الشريعة الإسلامية تنبني على الوسطية ؛ فالوسطية الشرعية إنما هي حفظ التوازن بين المقتضى القانوني والمقتضى الخلقي في الأحكام، فتكون هي الأخرى قيمة من قيم الشريعة، أو قل: مقصدًا من مقاصدها؛ بل تكون أعم وأشمل قيمها ومقاصدها، إذ ينبغي أن لا يُرتب على وصف من الأوصاف حكم من الأحكام، حتى يكون ترتيب الحكم عليه مؤديًا إلى حفظ قيمة مخصوصة تحفظ هذه الوسطية ؛ وعلى هذا، فلا يمكن للوسطية أن تقوم إلا حيث يحصل الأمران معًا: أحدهما، (تأسيس القانون على الأخلاق)، بحيث لا عبرة بحكم قانوني لا أصل خلقي له، وهذا الأصل إنما هو القيمة الخلقية. والثاني، (تسديد الأخلاق بالقانون)، ولا عبرة بفعل خلقي لا وجهة قانونية له، وهذه الوجهة إنما هي العلة؛ فتكون الوسطية بنية موسعة، أركانها أربعة هي: (النية) و(الفعل) و(القيمة) و(العلة)[17]، بحيث لا فعل بغير نية، ولا فعل بغير جهة، ولا جهة بغير علة، ولا علة بغير قيمة.

  1. 3. التفريق بين وجهي الحكم الشرعي والطرفية

لن نعدو الصواب إن قلنا بأن التفرقة في الحكم الشرعي بين الوجهين: القانوني والخلقي، يشكل حدثا جللا في تاريخ الممارسة الشرعية الإسلامية، حدثا تصدعت به أركان هذه الممارسة وما زالت آثار هذا التصدع تذكى الخلافات والنزاعات بين المسلمين إلى حد الآن؛ لذا، صح عندنا أن نسمى هذا الحدث باسم (الفتنة النصية الكبرى)، فقد أفضت هذه الفتنة إلى التفريق بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، حتى كأن الحق لا يكون إلا عند واحدة منهما، وهما: (أهل الظاهر)، و(أهل الباطن).

غلاة أهل الظاهر ينبغي أن يكونوا أولئك الذين وقفوا عند الوجه القانوني من الحكم الشرعي، آخذين جهته من دليله المنصوص عليه، لا يتعدون هذا الوجه إلى ما وراء الحكم من قيمة أو قيم أخلاقية تتعلق بها هذه الجهة تعلقها بدليلها وتتأثر بها صلاحيتها تأثرها بهذ الدليل، والقانون الذي بلا خلق إنما هو رسم بلا روح ؛ ولما كان هؤلاء الظاهريون الغلاة يأخذون بالطرف القانوني وحده، فقد استحق اتجاههم أن يُدعى بـ (الطرفية (بفتح الراء) الظاهرية)[18].

أما غلاة أهل الباطن، فينبغي أن يكونوا أولئك الذي وقفوا عند الوجه الأخلاقي من الحُكم الشرعي، آخذين بقيمته من سياقه أو مقامه، لا يعتدون بالدليل، لا في وصفه ولا في جهته، على اعتبار أن هذه القيمة تُغني عنهما وتستقل بنفسها؛ والخُلق الذي بلا قانون إنما هو خرق بلا حد؛ ولما كان هؤلاء الباطنيون الغلاة يأخذون بالطرف الأخلاقي وحده، فقد استحق اتجاههم أن يُدعى بـ(الطرفية (بفتح الراء) الباطنية).

على أن هذه الطرفية، ظاهرية كانت أو باطنية، ليست رتبة واحدة، بل هي رتب كثيرة تنزل منها الفئتان الغاليتان المذكورتان الرتبة القصوى؛ أما الرتب الأخرى، فتنزلها فئات أخرى تزيد ظاهريتها عن باطنيتها درجة فأكثر أو على العكس، تزيد باطنيتها عن ظاهريتها درجة فأكثر، وذلك بحسب ما تضيفه إلى بنيتها من عناصر البنية المقابلة أو تستبدله مكان عناصر بنيتها.

وهكذا، فمن حيث المبدأ يمكن أن تختلف طرفية الفئات الظاهرية باختلاف عدد ونوع العناصر التى تستعيرها من البنية الأخلاقية المقابلة، فتضيفها إلى بنيتها القانونية أو تستبدلها مكان عناصر من هذه البنية؛ فيجوز أن تضيف فئات منها عنصرًا واحدًا من البنية الأخلاقية: إما القيمة وحدها أو البنية وحده أو الفعل وحده أو تستبدله مكان عنصر أو عنصرين قانونيين؛ كما يجوز أن تضيف فئات أخرى عنصرين اثنين: إما النية والقيمة معًا، أو النية والفعل معًا، أو القيمة والفعل معًا، أو تستبدلهما مكان عنصر أو عنصرين قانونيين.

فعلى سبيل المثال، نجد من بين أهل القياس الذين يتمسكون بالبناء الاستدلالي للأحكام من لا يكتفون بالدلالات الظاهرة للنصوص، ويرون أن مقصود الشارع ينبغي أن يُطلب في معاني أقواله وبواطنها، لا في ألفاظها ومبانيها، بحيث إذا خالف ظاهر القول المعنى المراد للشارع، جرى تأويله بحسب هذا المعنى على مقتضى قواعد اللسان العربي؛ وواضح أن هؤلاء الأصوليين يأخذون بعنصر (الفعل) من البنية الأخلاقية؛ إذ الفعل فيها هو عبارة عن المقصود الشرعي الذي يتوصل إليه بالغوص في أغوار النصوص، لاستجلاء معانيها؛ وبهذا، تكون طرفية هؤلاء دون طرفية الظاهرية درجة أو درجات، حيث إنهم يجاوزون النص ويقيسون فيما لا نص فيه[19].

كما يمكن، من حيث المبدأ، أن تختلف طرفية الفئات الباطنية باختلاف عدد ونوع العناصر التى تستعيرها من البنية القانونية المقابلة، فتضيفها إلى بنيتها الأخلاقية أو تستبدلها مكان عناصر من هذه البنية؛ فيجوز أن تضيف فئات عنصرًا واحدًا من البنية القانونية، إما الجهة وحدها أو العلة وحدها أو القضية وحدها أو تستبدله مكان عنصر أو عنصرين أخلاقيين؛ كما يجوز أن تضيف فئات أخرى عنصرين اثنين: إما الجهة والعلة معًا، أو الجهة والقضية معًا، أو العلة والقضية معًا، أو تستبدلهما مكان عنصر أو عنصرين أخلاقيين.

فمثلاً، نجد من بين أهل الذوق الذين يستغرقون في المجاهدة والرياضة من لا يكتفون بفعل ما أوجبه الشارع وترك ما نهى عنه، بل قد يوجبون على أنفسهم ما لم يوجبه الشارع أو يحرمون عليها ما لم يحرمه، كما إذا فرضوا عليها عبادات راتبة وامتنعوا عن طيبات معينة وزهدوا في مباحات مألوفة، على اعتبار أنهم يأتون بذلك طاعات من فوق أخرى؛ فواضح أن هؤلاء الذوقيين يستبدلون مكان (الفعل) الأخلاقي الجامع عنصرين قانونيين متفرقين هما: (القضية) و(الجهة)، حتى يتسنى لهم تغيير الجهة الأصلية بجهة أخرى يرتضونها، كتغيير النافلة بالواجب وتغيير المباح بالحرام؛ ومن هنا، تكون طرفية هؤلاء دون طرفية الباطنية درجة أو درجات، حيث إنهم جعلوا الجهة معتبرة حيث كانت مهملة، مزيدًا لتقييد أنفسهم وصرفها عن بعض حقوقها.

  1. 4. المقارنة بين الوسطية والطرفية

يتلخص مما تقدم أن الجمع بين القانون والأخلاق يفضى إلى (الوسطية الشرعية)، وأن التفريق بينهما يفضى إلى الطرفية، وأن هذه الطرفية على نوعين: (طرفية ظاهرية) و(طرفية باطنية)، وكل طرفية منهما على درجات كثيرة، وتترتب على هذه الحقائق المختلفة النتائج التالية:

أ. أن علم المقاصد من علم الفقه بمنزلة علم الأخلاق من علم القانون؛ والعكس بالعكس، فعلم الفقه من علم الأخلاق بمنزلة علم القانون من علم الأخلاق.

ب. أن الأصوليين المسلمين استطاعوا أن يأتوا في شريعتهم بما لم يستطعه حتى الآن الفقهاء والفلاسفة في الشرائع الأخرى، ألا وهو أن يقيموا الفقه على الأخلاق ويوجهوا الأخلاق بالفقه.

ج. أن الوسطية الشرعية، على خلاف اعتقاد الجمهور، لا تتحدد بالتيسير، ولا الطرفية بالتعسير، فيجوز أن يكون في الوسطية تشديد كما يجوز أن يكون في الطرفية تخفيف، فليس الجمع الوسطى بأيسر من التفريق الطرفي، ولا التفريق الطرفي بأعسر من الجمع الوسطي.

د. أن الوسطية الشرعية إنما تتحدد بحصول التوازن بين مختلف مكونات الحكم الشرعي، أخلاقية وفقهية؛ والطرفية إنما تتحدد باختلال التوازن بين هذه المكونات الأخلاقية والفقهية.

5_ أن البنية المكونة للوسطية الشرعية بنية موسعة تقتضى اندماج عناصرها، بعضها في بعض، بينما البنية المكونة للطرفية بنية مضيقة تحتمل انفكاك عناصرها، بعضها عن بعض، سواء كانت بنية مجردة أو بنية مزيدة، وبين أن اقتضاء الاندماج يجعل من الوسطية مسلكًا راسخًا لا تزلزل فيه، في حين أن احتمال الانفكاك يجعل الطرفية مسلكًا قلقًا لا ثبات فيه.

وفي ختام هذا البحث، لا يبقى إلا أن نجمع أمهات الأفكار الواردة فيه، فنقول بأن (مبحث المقاصد) الذي ظل يعد فرعًا من علم أصول الفقه ولو لم يحظ فيه بالاهتمام الذي حظيت به الفروع الأخرى، يحتاج إلى أن نشتغل بتجديده وتطويره من الوجوه التالية:

أولها، أن ننظر إليه على أنه علم الأخلاق الإٍسلامي، وأن نتناول البحث فيه بالمنهجية العلمية التى نتناول بها البحث في المجالات الأخلاقية عمومًا، مع الاستفادة فيه من التطورات الحديثة التى شهدتها هذه المنهجية، وكذلك من النظريات الأخلاقية المناسبة التى تمخضت عن هذه التطورات العلمية المستجدة.

الثاني، أن نجعل لهذا العلم الأخلاقي الإسلامي أبوابًا ثلاثة أساسية هي: (نظرية الأفعال) و(نظرية النيات) و(نظرية القيم)، تنزل فيها نظرية القيم الرتبة الأولى، تليها نظرية النيات، فنظرية الفعل، على اعتبار أن الفعل في الممارسة الشرعية لا يكون فعلا خُلقيًّا، حتى يكون الباعث عليه حصول نية مخصوصة، وتكون الغاية منه تحقيق قيمة مخصوصة.

والثالث، أن نُدرج المباحث الأخرى التى شملها الدرس المقصدي التقليدي ضمن هذه الأبواب الأخلاقية الثلاثة، كأن نُدرج (مبحث الوسائل) في نظرية الأفعال لغلبة ركن الفعل فيه من أركان البنية الأخلاقية الثلاثة، وندرج (مبحث الحيل) في نظرية النيات لغلبة ركن النية فيه، وندرج أخيرًا (مبحث الذرائع) في باب القيم لغلبة ركن القيمة فيه.

والرابع، أن نقوم بتصحيح بعض الجوانب في هذا الدرس المقصدي التقليدي التى يبدو أنها لم تلتزم بما تقرر من أصول شرعية في هذا الدرس نفسه، حتى باتت تعارض هذه الأصول كشأن الصبغة المادية الصريحة التى هيمنت على تحديد المصالح أو القيم، عددًا ونوعًا، حتى جعلت قيمة الدين منحصرة في أركان الإسلام الخمسة، وجعلت الأخلاق أشبه بالترف السلوكي منه بالضرورة الحياتية، مخالفة بذلك مقصد المقاصد الشرعية الذي هو تحقيق العبودية لله، فهل يجوز أن تتحقق هذه العبودية من غير أن يشمل الدين كل شيء في الحياة، وأن تشمل الأخلاق كل فعل من الأفعال !

والخامس، أن نجتهد في إبراز العلاقات الدقيقة التى تجمع بين الأخلاق والفقه في الشريعة الإسلامية، والتى تجعل الأخلاق أساسًا ينبني عليه الفقه، وتجعل الفقه ضابطًا يوجه هذه الأخلاق، تمهيدًا لوضع نظرية إسلامية متميزة تُسهم في حل الإشكال العويص الذي ظل يحير العقول جيلاً بعد جيل، والذي تحول إلى ما يشبه أزمة شاملة عند المعاصرين، ألا وهو كيف يمكن أن يزدوج الإلزام القانوني بالإلزام الأخلاقي، بحيث تُصبح مبادئ الأخلاق الخاصة قادرة على أن تسد ثغرات القوانين العامة؟

والسادس، أن نبيّن كيف أن الوسطية ليست هي أن نبتغى طريق التساهل في بعض الأحكام الشرعية، إن إلغاء لها أو تقييدًا لمجالها أو تخييرًا فيها، وإنما هي أن نُحكم الصلة بين طرف الفقه وطرف الأخلاق إحكامًا يورث سلوكًا متوازنًا مرغوبًا فيه اجتماعيًّا وإنسانيًّا، كما نبيّن أن الطرفية ليست هي أن نبتغي طريق التشدد في بعض الأحكام الشرعية، إن جمودًا عليها أو تكلفًا فيها أو تعصبًا لها، وإنما هي أن نفصل في هذه الأحكام بين مقومها الفقهي ومقومها الأخلاقي، فنندفع في التصرف بحسب مقوم واحد منهما فقط اندفاعًا يورّث سلوكًا مُختلاً غير مرغوب فيه، لا اجتماعيًّا، ولا إنسانيًّا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

* بحث مقدم إلى مؤتمر (التجديد في الفكر الإسلامي) الذي نظمه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – وزارة الأوقاف – في الفترة من 31 / 5 / 2001 إلى 3 / 6 / 2001م.

البحث منشور في مجلة المسلم المعاصر. العدد 103. ص ص. 41- 64.

** أستاذ علم المنطق وفلسفة اللغة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد الخامس بالرباط – المغرب.

[1] كان لفظ (الهوية) يستعمل عند المتقدمين بمعنى (الوجود)، ومعلوم أن (الهوية) تضاد (الماهية)، والماهية هي جملة الصفات التى يتحدد بها الشيء، ثم صار لفظ (الهوية) يستعمل عند المتأخرين بمعنى (الماهية).

[2] أبى بعضهم إلا أن يسمى ما يلحظه من أفعال عقلية في سلوك البهيمة باسم (الغريزة)، في حين رأى بعضهم في العقل غريزة، وفي هذا دلالة على أن ما يعد غريزة قد يدخل في العقل والعكس بالعكس، أي أن ما يعد عقلاً قد يدخل في الغريزة، فالعقل والغريزة متداخلان، انظر كتابنا: سؤال الأخلاق 14، 16.

[3] نستخدم لفظ (المفهوم) لا بالمعنى الأصولي _ أي في مقابل (المنطوق) وإنما بالمعنى المستحدث، أي (المدلول)، ويقابله (اللفظ).

[4] قد يدل لفظ (الخير) على (المال الكثير) أو (النعمة)، فيفيد معنى (الذات) لا معنى (الفعل) الذي هو وحده المطلوب هنا.

[5] على هذا، ينبغي أن يعتبر (علم المقاصد) جزءًا من الفلسفة الإٍسلامية، وأن يدّرس في قسم الفلسفة كمبحث أخلاقي إسلامي أصيل، إذ يتميز عن المباحث الأخلاقية التى شملتها هذه الفلسفة والتى كانت ثمرة التفاعل مع الفلسفة اليونانية القديمة والفلسفة الغربية الحديثة.

[6] تناول الشاطبي موضوع (المقصودات)، في النوع الثاني من القسم الأول من كتاب المقاصد تحت عنوان: (مقاصد وضع الشريعة للإفهام)، الموافقات في أصول الشريعة، الجزء الثاني: كتاب المقاصد.

[7] عالج الشاطبي موضوع (القصود) في مواضع عدة من كتاب المقاصد، وهي النوع الثالث من القسم الأول بعنوان: (مقاصد وضع الشريعة للتكليف)، والنوع الرابع من القسم الأول بعنوان: (مقاصد وضع الشريعة للامتثال)، وأخيرًا القسم الثاني بعنوان: (مقاصد المكلف).

[8] بحث الشاطبي موضوع المقاصد بالمعنى الأخص، أي الغايات، في النوع الأول من القسم الأول من كتاب المقاصد تحت عنوان: (مقاصد وضع الشريعة ابتداء).

[9] إذا استعمل الأصوليون جمع (المقاصد) للدلالة على هذه المعاني الثلاثة: (القصود) و (المقصودات) و(المقاصد) (بمعنى (القيم))، فذلك من باب التغليب فقط؛ لأن لفظ (المقصود) يجمع على (مقاصيد)، لا على مقاصد.

[10] انظر كتابنا: تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 93 _ 132.

[11] مثال على الحيلة: هبة المال، قبل تمام الحول عليه، لمن يرده، هروبا من إخراج الزكاة.

[12] لقد فهم أغلب الأصوليين من لفظ (المناسبة) كون الوصف الذي أنيط به الحكم ( أو بالأولى جهة الحكم كما سيأتى) علة يحكم العقل بموافقتها لهذا الحكم ( أو لجهته) كما إذا جعلوا الإسكار وصفًا مناسبًا لتحريم الخمر، فالمناسب، كما قيل، هو (ما لو عرض على العقول تلقته بالقبول )، وهذا الفهم فيه قصر للمناسبة على التعليل السببـي، في حين أنها تتعداه إلى التعليل الغائي كما ذكرناه.

[13] نستخدم لفظ (النفس) في معناه السيكولوجي، أي مجموع الظواهر الداخلية التى تكون وحدة الشخص من أفعال وانفعالات، وبواعث وانطباعات، وعواطف وميولات، والتى قد تكون لها آثار خارجية.

[14] (14) نقول: (الطرفية)، ولا نقول: (التطرفية) لأسباب سنذكرها لك بعد حين.

[15] نعترض على التفرقة عند الفقهاء والأصوليين بين (الحكم التكليفي) و(الحكم الوضعي)، إذ كلاهما ينطوى على جهة الحكم، وبها وحدها الاعتبار، كما أنه لا يمتنع أن ننقل صيغة أحدهما إلى صيغة الآخر كما في الآيتين: {ولا تقربوا الزنا} التى تتضمن الحرمة تكليفيًّا و{والزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} التى تتضمن الوجوب، ويعدها الأصوليون حكمًا وضعيًّا، لكن ليس هذا موضع بسط اعتراضاتنا عليها.

[16] لا يفيد الاعتراض هنا بأن النية قد توجد ولا يوجد معها الفعل؛ لأننا نسلم بأن (الفعل) عنصر موجود في البنية الخلقية التى يقوم عليها الحكم الشرعي إلى جانب النية والقيمة.

[17] لا حاجة بإيراد عنصري: القضية والجهة بين عناصر البنية الوسطية؛ لأن عنصر (الفعل) يتضمنهما معها.

[18] نميز بين مفهوم (الطرفية) من حيث إن الأول يعبر عن حكم وجودي لا قدح ولا مدح فيه، بينما الثاني يتضمن حكمًا قيميًا قادحًا، فضلاً عن الصبغة السياسية التى اصطبغ بها والتى لا تعنينا هنا.

[19] أما المذهب الظاهري الذي أسسه أبو داود، وأشهره ابن حزم، فهو الظاهرية التى تقتبس عنصر (النية) من البنية الأخلاقية؛ ويقول ابن حزم بصددها: (إن النية هي سر العبودية وروحها، ومحلها من العمل محل الروح من الجسد، ومحال أن يعتبر في العبودية عمل لا روح له، بل هو بمنزلة الجسد الخراب)، الإحكام في أصول الأحكام، طبعة زكريا يوسف، القاهرة، 2/ 706 ـ 707.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع

  1. الأشقر، عمر سليمان: [1981]، مقاصد المكلفين، مكتبة الفلاح، الكويت.
  2. البرهاني، محمد هشام: [1985]، سد الذرائع في الشريعة الإسلامية، مطبعة الريحاني، بيروت.
  3. البوطي، محمد سعيد رمضان: [1986]، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت.
  4. الترابي، حسن: [1980]، تجديد أصول الفقه الإسلامي، دار الجيل، بيروت.
  5. الترمذي، أبو عبد الله: [1991]، الصلاة ومقاصدها، تحقيق الشيخ بهيج غزاوي، دار إحياء العلوم، بيروت.
  6. الجوزية، ابن القيم: أعلام الموقعين عن رب العالمين، المجلدان الأول والثاني، دار الحديث، القاهرة (بدون تاريخ).
  7. الجويني، أبو المعالي: [1400 هـ]، البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم الديب، دار الأنصار، القاهرة.
  8. حسان، حسين حامد: [1981]، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، مكتبة المتنبي، القاهرة.
  9. الرازي، فخر الدين: [1988]، المحصول في علم أصول الفقه، المجلد الأول الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت
  10. السلمي، العز بن عبد السلام: [1980]، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، الجزءان: الأول والثاني، دار الجيل، بيروت.
  11. السلمي، العز بن عبد السلام: [1995]، مقاصد الصوم، تحقيق إياد خالد الطباع، دار الفكر، دمشق.
  12. السلمي، العز بن عبد السلام: [1996]، الفوائد في اختصار المقاصد أو القواعد الصغري، تحقيق إياد خالد الطباع، دار الفكر، دمشق.
  13. الشاطبي، أبو إسحاق: [1975]، الموافقات في أصول الشريعة، الأجزاء: الأول والثاني والثالث الرابع، دار المعرفة، بيروت.
  14. شلبي، محمد مصطفى: [1949]، تعليل الأحكام، مطبعة الأزهر، القاهرة.
  15. طه، عبد الرحمن: [1994]، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، بيروت.
  16. طه، عبد الرحمن: [1997]، العمل الديني وتجديد العقل، الطبعة الثانية، المركز الثقافي العربي، بيروت.
  17. طه، عبد الرحمن: [1998]، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، المركز الثقافي العربي، بيروت.
  18. ابن عاشور، محمد الطاهر: [2001]، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق محمد الطاهر الميساوى، الطبعة الثانية، دار النفائس، الأردن.
  19. العجم، رفيق: [1998]، موسوعة مصطلحات أصول الفقه عند المسلمين الجزءان: الأول والثاني، مكتبة لبنان، ناشرون.
  20. ابن حزم، أبو محمد: [1978]، الإحكام في أصول الأحكام، المجلدان: الأول والثاني، دار الفكر العربي، القاهرة.
  21. علوان، فهمي محمد: [1989]، القيم الضرورية ومقاصد التشريع الإسلامي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر.
  22. الغزالي، أبو حامد: [1971]، المستصفى في علم الأصول، تحقيق محمد مصطفى أبو العلا، مكتبة الجندي، مصر.
  23. الفاسي، علال: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، مكتبة الوحدة العربية، الدار البيضاء، المغرب (بدون تاريخ).
  24. القرفي، شهاب الدين: الفروق، الأجزاء الأربعة، عالم الكتب، بيروت، لبنان (بدون تاريخ).
  25. القرضاوي، يوسف: [1997]، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، الطبعة الثالثة، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر.
  26. هذا البحث هو فصل من كتاب يعد للطبع عن المقاصد الشرعية من ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: فقه المقصد. الجزء الثاني: فقه القصد. الجزء الثالث: فقه المقصود.

عن طه عبد الرحمن

شاهد أيضاً

الجمال بين الرؤية الإسلامية والعولمة

أ. د. زياد خليل الدغامين

تعد مواجهة التحديات التي تهدف إلى طمس الهوية الإسلامية، ومسخ قيمها، والعبث بمفاهيمها الدينية والثقافية من الضرورات الملحة التي تفرض نفسها على واقع الأمة.

الفكر المقاصدي والمقاربة العلمانية

عارف بن مسفر المالكي

يدور منشأ اصطلاح العلمانية حول «اللادينية» أو «الدنيوية»، «لا بمعنى ما يقابل الأخروية فحسب، بل بمعنى أخص: هو ما لا صلة له بالدين، أو ما كانت علاقته بالدين علاقة تضاد».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.