نحو علم للسنن الإلهية*
الأستاذ عادل بن بوزيد عيساوي**
لقد أولى القرآن الكريم موضوع السنن الإلهية «المساحة الأكبر» ضمن مجموع الآيات والسور، وذلك لأهميتها كفلسفة في توجيه حركة الحياة. ومن هنا تجد سمة الخطاب القرآني في بنيته العميقة خطاب سُنَني بامتياز، فكل شيء يرتبط بالسنن ارتباطًا موضوعيًا وموضعيًا، وهي تعبير عن طبيعة الحضور الإلهي في الكون، كما أنها تعبير عــــن القانون الذي يحكم حركة المتغيرات. ولذلك ما فتئ القرآن يُذكِّر بتلك العلامة البارزة للسنن، حين يقول في أكثر من موضع ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تحويلا الله﴾ (فاطر: ٤3)، وهذا إرشاد وتوجيه إلهي صريح على علميتها وصرامتها. إلا أن المشكلة دائمًا تكمن في المخاطَب والمتلقي لا الخطاب. فقد كثَّف القرآن من أدوات التوصيل والتأصيل، فأقام الدليل والبرهان على حجية السنن وقانونيتها، ومع ذلك لا تزال الإنسانية دون المستوى المطلوب في استثمار هذه السُّنن فهمًا واكتشافًا، أو توظيفًا وتسخيرًا. وبقيت بين من يُسخرها كمصالح بعيدًا عن سُنن الشريعة، وبين من يتجاوزها بالمطلق، ولا يولي لها الاهتمام اللازم.
ففرطت الأمة كما فرّطت الإنسانية من قبل في سُنن الله ونواميسه الكونية ولم تسع إلى تدوينها ودراستها ومدارستها ضمن العلوم الكثيرة التي أولتها الحفظ والاهتمام والرعاية؛ إذ لا يزال موضوع السنن الإلهية إلى اليوم في «فلسفة العلم وتاريخه» عند المسلمين الحلقة الأضعف من بين حلقات العلوم كلها. فقد صنَّف المتقدمون والمتأخرون في العلوم تصنيفًا يُعبر عن الإبداع الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية، ومع ذلك لا تجد بين تلك التصنيفات محاولات لتأسيس علم سُنَني مستقل، بالرغم من أن الدرس السنني كان حضوره في القرآن الكريم والسنة النبوية حضورًا ملفتًا.
ومع ظهور بعض المحاولات بين الفينة والأخرى في هذا السياق، إلا أنها لم تلق الترحيب المناسب واللائق بها؛ بل كان نصيبها الإهمال والطي، ولربما بلغ الأمر التحذير والتهكم منها، كما فُعل بمقدمة ابن خلدون في طلعتها الأولى، إذ تصدى لها بعض علماء الأمة وكبرائها بالتنقيص تارة، واتهامه بالترف الفكري تارة أخرى، فتعثّر حظ المقدمة بذلك قرونًا، وتعثرت معها الأمة وبدأت تفقد حواسها الحضارية الواحدة تلو الأخرى، وكانت أول تلك الحواس الحس السنني، وهو ما جعل البنيان ينهار بلمح البصر.
هذا وبعد محاولة ابن خلدون في المقدمة، لم نر محاولة جادة أو دعوات صريحة إلى أن جاء الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، حيث شهدنا إحياء الدعوة إلى الكتابات السُّننية، والتأليف السُّنني، ونشر الثقافة السُّننية، وكانت أولى الخطوات تفسير المنار، وهي الدعوة التي تبنتها قطاعات واسعة من بعدهم سواء في شكل جهود الأفراد أو على شاكلة مناهج إصلاحية تستن بالخطوات والقواعد السُّننية، وقد تجلى ذلك جيدًا في الحركات الإصلاحية التي ظهرت في العالم الإسلامي.
إلا أن استمرار الوضع على ما هو عليه مع غياب علم سُنَني إرشادي كامل المعالم في المناهج التربوية والبرامج التعليمية، في كل منظومات التعليم في العالم الإسلامي، أدى إلى أزمة معرفية، وأخطاء منهجية متتالية لا تزال الأمة تُكوى بها إلى اليوم. ويكفي أن تلاحظ شيئًا من مظاهر هذه الأزمة ومخلفاتها في استمرار القراءة المجزأة والتفاضلية للسنن، بل والفصل بين أجزائها ومنظوماتها فصلًا تعسفيًا على مستوى التصور والممارسة.
فأنت ترى الفقيه، وهو يصنع فتواه ويكيِّفُها يَنظُر في الأدلة ليستنبط منها الأحكام، “وليس له التفاتة إلى نظام العوائد والسنن؛ لأن الفقهاء لم يُعمِلوا السنن الاجتماعية لفهم نص شرعي موضوعه ومجاله السنن الاجتماعية، كما لم يُعمِلوا السنن النفسية لفهم نص موضوعه وبنيته السنن النفسية، ولم يُعمِلوا السنن التاريخية لفهم آية أو حديث موضوعه السنن التاريخية. فليست القواعد الاجتماعية عند الفقهاء من مخصصات العموم، ولا من مقيدات المطلق بحسب المنهج الأصولي، وإنما تعاملت المدارس الفقهية مع النص من خلال الأدوات الشرعية التي تبحث في ثبوت النص ووضوحه، وفي المخصصات المعروفة في باب البيان عند الأصوليين”[1]، فكانت أولى الثمرات في ذلك ثبوت القلم في تنقيح المناط، وزلة الأقدام في تحقيقه، وعادة ما يكون الخطأ في الثانية – في التحقيق – خطأ سُّننيًا، أي له علاقة بسُنن الله التي تحكم الواقع، وتتحكم في المتوقع في النفس والمجتمع.
ولذلك كان الشاطبي أول فقهاء الاستدراك الواعي الذين أحسوا بهذا النقص، حين أعلن في مدونته المقاصدية في «المقدمة التاسعة عن محاولته بناء كليات شرعية مقتبسة من الشريعة تضاهي تلك الكليات المقتبسة من الوجود، وتستوي معها في العموم والاطراد، والثبوت من غير زوال، والحكومة على ما سواها من قول أو فعل»[2]، أو بعبارة أخرى كان يسعى إلى تخريج الكليات المقاصدية والسنن الشرعية من السنن الكونية تخريجًا لا بالمعنى الفقهي التجريدي المحض، وإنما بمعنى المضاهاة والمحاكاة والمجاراة لتلك الخصائص التي تمتاز بها، مثل العموم والثبوت والاطراد، وهي أخص خصائص السنن الكونية.
ومع ذلك، فلا نطالب الفقهاء أن يجعلوا من السنن مصدرًا من مصادر الأحكام أو التشريع، بقدر ما نطالبهم أن يجعلوا منها سندًا في تنزيل أحكامهم على الواقع والوقائع، أو على أقل التقديرات أن لا تغيب أنظارهم عنها، فهي بمثابة إبرة المغناطيس لربان السفينة، خاصة إذا دخلنا تلك المنطقة التي يسميها البعض بـ«الفراغ التشريعي»، حيث تبسط فيها النواميس ذراعيها بالوصيد، وتترصد لكل جانح سُنن التوسط، حتى إذا أجرى الحكم الشرعي على غير مقاصده تحركت آلات التكوين وأسبابها لتعيد الأمر إلى سكّته، وتلك من آيات الله وآثار رحمته، فالأحكام الشرعية وإن كانت أحكامًا تقبل الخرق إلا أنها تجرى على سُنَن الأحكام التكوينية في المآلات والنهايات، لأن مصدرهما واحد.
أما المؤرخ؛ وهو يؤرخ للأحداث تجده يحصي أرقام الموتى في الرقيم، ويُعيّن مثوى الأشخاص في الأجداث، ويُعد أنفاس الصاعدين والهابطين وليس له في صعود الحضارات وهبوطها وحياتها أو موتها ونشورها لحاظ. وقد يعرض بعضهم عن ذكر الحادثات والملمات استعظامًا لها أو وجلًا منها، فمن ذا الذي بزعمه يتجرأ على «كتابة نعي الأمة» ناسيًا أن ذلك إعراض عن ذكر الله وصفح عن أيامه المطوية في كتابه المفتوح. بل ربما تجد من المؤرخين مَن يعتبر سقوط جناحي العالم الإسلامي «الأندلس» و«الخلافة العباسية» في عشرية خاطفة، حدثًا فجائيًا تسببت فيه جحافل التتار في الشرق والصليبيين في الغرب، وقد غفلوا أن «المغول» و«الصليبيين» ليس لهم من ثقل في ميزان السنن الإلهية أكثر من دور الأرضة التي أكلت عصا سليمان وهو على كرسيه.
ولو كان عندهم أثارة من علم السنن لفهموا أن قانون السنن النفسية في المعاصي الكبيرة هو ذاته قانون السنن التاريخية والاجتماعية في الأحداث الكبرى، فكما أن الكبائر قلما يتصور هجومها بغتة من غير سوابق ولواحق من جهة الصغائر -كما قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي -، كذلك كبار القوارع والفجائع لا تفاجأ الأمم والمجتمعات من غير سوابق ولواحق.
وإذا عرجنا إلى مجال آخر كالتصوف مثلًا، فإنك تجد الصوفي يمارس صناعة الزُهديات بعيدًا عن سُنن الله التي هي قوالب المصالح وأنواعها، فتجده يُفني العُمر الذي وُهب للعمارة يصارعها ويغالبها، حتى إذا رَوَّضَ نفسه عن شهوات الدنيا، أعلن انتصاره في معركة الحياة، ظنًا منه أن الخلافة في الأرض صعلكة وقلة ذات اليد، أو تطليق للدنيا ونواميسها. فنشأت الأمة جراء ذلك في تطبيع مع الفقر والرداءة، والعجز والكسل في كل ميادين الحياة الدنيا. كما انسحب هذا الوضع على الكثير من حركات الإصلاح في العالم الإسلامي، فالتربية عندها ليست تنمية للقيم الإيمانية في محراب الخلافة والعمران وساحات التمكين والمراغمة، بل هي اصطراع مع النفس وإجهاز عليها بالانسحاب إلى الكهوف والحضرات التي تغتال العقول والقلوب، أو إلى البيئات المعقمة من كل مظاهر الابتلاء والامتحان. كما أن المنهج التربوي والمتن التربوي هو الآخر، ليس له علاقة بفقه التنمية الاقتصادية والثقافة السياسية والاجتماعية؛ لأن مفرداته صيغت بعيدًا عن ضجيج المصانع، وأزيز الطائرات ومخابر البحث العلمي، ومؤشرات البورصة…
أما علماء الكلام فمع كونهم أكثر العلماء أهلية للخوض في مسائل هذا العلم، وإخراجه إلى الناس عذبًا فراتًا؛ لكونهم أقدر على فهم مقولاته الكلامية والفلسفية، ومنطلقاته القرآنية، إلا أنهم كانوا السبب في غوره وتكدر دلائه، إذ طفقوا يتنازعون ويترافعون في دفاعاتهم الكلامية بمصطلحات مستوردة من أقوام لم يذكروا اسم الله عليها فجنّحوا بعيدًا؛ ولكنه كان سيكون أفضل لو بُحث من منظور سنني، حتى تتبين مصطلحاته ومقولاته على أفضل هدى.
ومن مظاهر هذه الأزمة التي أفرزها غياب علم السنن الإلهية كمؤشر للفهم ومسدد للممارسة أن تجد جهود الدعاة والعلماء والمصلحين، بل والحركات الإصلاحية «طلقة فارغة تحدث دويًا ولا تصيب هدفًا»، فكثيرًا ما نأمر بالمعروف فيكون سببًا في ظهور المنكر، وننهى عن المنكر فيكون سبب إثارته. وإذا تفقهنا في الأسباب، وجدنا أن سنن المعروف تعني أن نستفرغ الجهد والوسع في توفير مادته وأسبابه من مؤسسات تربوية تقوّم العوج، واقتصادية تسدُّ الحَوَج، وعلمية تستبين وتستشرف وتترصد، وواجهات خيرية تُكسب المعدوم، واجتماعية تُعين على نوائب الحق، ودينية تنطق إذا صمت الناس.
لقد جاءت هذه الدراسة لتكرر الدعوة التي حملها بعض علماء الأمة، حين دعوا الأمة مخلصين إلى ضرورة تأسيس علم للسنن الإلهية على غرار العلوم الأخرى، يُؤطر الفهم ويُصوّب السلوك، ويُسدد الممارسة، ويُضارع تلك العلوم، ويأخذ مكانه من بينها، فهو الحلقة المفقودة في تاريخ العلم.
نحو علم للسنن الإلهية:
– إذن هناك حاجة ماسة الى البحث في خطوات تأسيس علم مستقل للسنن الإلهية بمختلف شعبه وفروعه المعرفية. سواء كانت نفسية، أو اجتماعية، أو تاريخية، أو طبيعية، وذلك من خلال التفكير الجدي في الخطوات المنهجية التي تسبق هذه المسيرة، ولا يتعلق الأمر في البداية بجمع السنن كمادة مستقلة فتلك مسألة دونها همم الأمة وطاقاتها وقطاعاتها الحيوية، زيادة على أن مادتها ضرب من ضروب المستحيل؛ لأن مسائل هذا العلم «غير متناهية»، وسُنَن الله في ظهور وانكشاف مستمر، وربما تُقضي هذه الحياة الدنيا وما ينكشف لنا منها إلا القليل، فضلًا عن كونها مادة موزعة بين مطالب ومباحث كل العلوم والمعارف دون استثناء.
ومن هنا وجب النظر بادئ الأمر في الجانب المعرفي المتعلق بالإشكاليات التي يتناولها هذا العلم، ومسائله التي يبحث فيها، وعلاقة شعبه وفروعه ومنظوماته فيما بينها، حتى يتوفر لدينا الإطار النظري والمعرفي للبحث ويسهل الحراك والتنظير وفقًا لهذه الإشكالية، وإلا فأنت أمام بحر عباب لا ساحل له. هذا ولا يُغني العلم والتفقه في السنن شيئًا، إذا فرطنا في «المادة السُّننية القرآنية»؛ باعتبارها حجر الأساس في هذا المشروع، فكان التوجه إلى آيات الأنفس والآفاق في القرآن قبل آيات الأنفس والآفاق في الأكوان ضرورة منهجية لاستخلاص البينات السُّننية والقواعد المؤسسة لهذا العلم.
– إن القرآن لما خاطب هذه الأمة «بالسُّنن» كانت تلك إشارة منه إلى النضج العَقلِيّ الذي وصلت إليه، وهو نضج لم تسبقه الإنسانية من قبل. ولكن همم الأمة واهتماماتها دون ذلك بكثير، فكلما تطاول العهد والأمد بها في معترك الحياة، كلما كانت درجة بُعدها عن الكتاب أكثر فأكثر، مع أن الظاهر يُوحي عكس ذلك. فكان من أهداف هذه الدراسة نشر الوعي السنني والثقافة السنية التي يستهدفها القرآن في ســــوره وآياته على أوسع نطاق، وذلك بالانتقال من مجرد العلم بها إلى العمل بها، وأوّل هذه الخطوات لمّ شَعَثها وشملها وشظاياها في وحدات معرفية متناسقة، وبنية مفهومية موحدة، تشكل في النهاية خلاصة مركزة ونواة قوية لعلم سُنني متكامل المعالم.
لأن مقتضى العبرة والاعتبار في آيات السنن الأخذ بنواصيها وأنصبتها، والإقدام بها على رب العزة عبر مراحل الكدح الدنيوي، وإلا استوينا مع الكثرة الكاثرة من الذين ذمهم القرآن لإعراضهم عن تفهيمات الآيات السنية ومقاصدها، مع عراقتهم وتخصصهم في العلم، وتحكمهم في أدواته دون الاهتداء به، فقال في حقهم: ﴿وَكَأَيْن مِنْ ءَايَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ (يوسف: ١٠٥)، وقال في أشباههم ونظرائهم ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (الجمعة : ٥). فالصنف الأول يمر على آيات الله الطبيعية والتاريخية التي تتمظهر في شكل سُنَن وقوانين فلا يزيده العَرضُ الإلهي لها إلا إعراضًا، والصنف الثاني يحمل كمًا سُّنَنيًا ومعرفيًا هائلًا، ولكن ليظهر به على الناس بطرًا ورياء لا غير، فاستحق الطرفان الذم والنكير.
– إشكاليات تأسيس علم للسنن الإلهية:
إذا كان الهدف المركزي هو البحث في كيفية تأسيس علم للسنن الإلهية مستقل تمام الاستقلال عن غيره من العلوم، فإن الإشكالية الرئيسية تنبع من عمق هذا الهـدف وما يستصحبه من أسئلة تظهر تباعًا، فالأولى تتعلق بالصياغة وما يلحقها من إشكاليات منهجية، فكيف نستطيع مثلًا أن نستخلص كل تلك السنن من بين مئات العلوم والمعارف، خاصة وأن هذه العلوم منها ما هو وليد بيئة إسلامية خالصة، ومنها ما هو وليد بيئة تتبع نظامًا معرفيًا بعيدًا كل البعد عن تلك البيئة الإسلامية. ويكفي أن أضع القارئ في «صورة المشكلة»، إن محاولة استخلاص نوع واحد من السنن النفسية كفرع من فروع السنن الإلهية من بين علوم النفس المعاصرة على كثرتها وتنوعها، يتطلب جهدًا لا يقل عن ذلك الذي بذله جمهور من كتب في هذا العلم، ونفس الأمر ينسحب على كل العلوم، خاصة إذا كانت من العلوم الوافدة.
هذا إذا استثنينا العقبة الكؤود التي تعترضنا أثناء هذه المحاولة من إخراج المسائل التي تتشابه مع موضوع السنن في كل علم حتى لا تختلط، فليس كل ما يمكن اعتبــاره سُنَّة إلهية هو كذلك، فقد تتشابه علينا مثلًا «المقاصد العامة للشريعة» و«القواعد الكلية» و«القيم» مثل الرحمة والعدل، وقد تتشابه علينا تلك السنن التي وضعها البشر، وأصبحت سُنَنًا تعتقدها النفوس، وتتبعها الأجيال وليس لها في ميزان السنن شيء.
وعليه؛ فإن اقتحام هذه العقبة يتطلب فك وتحرير مفهوم «الجملة المفيدة للعلوم»، إذ لكل علم – كما يقول الدكتور علي جمعة محمد – جملته المفيدة، وهو مفهوم متعلق بإثبات القضايا والمسائل والدعاوى التي يتبناها كل علم بالطرق التي تناسب إثبات تلك الدعاوى، فقد يكون إثباتها بالدليل النقلي، وقد يكون بالدليل العقلي، وقد يكون بالدليل الحسي، أو بجموع وطرق هذه الأدلة، وهو في الحقيقة انشغال له علاقة بتوازن مصادر المعرفة، والجمع بينها وعلاقة ذلك ببناء علم سُنَني قائم على أصوله يستثمر في كل المصادر؛ باعتبارها دالة على سُنَن الله.
وإذا كانت الأسئلة الأولى تتعلق بالمنهجية، وعلى افتراض تجاوز كل مشكلات الصياغة، وما يعتورها من ثلمات ومثالب، فإن الشق الثاني وهو الأخطر في الإشكالية يتعلق بالجانب المعرفي، أو بالصبغة المعرفية، فالسسن على طول امتدادها بين محور منظومات الآفاق ومنظومات الأنفس، وهي منظومات وإن بدت استقلاليتها عن بعضها إلا أنها متداخلة وظيفيًا، فحاصل عملها وهيمنتها وصيرورتها هو نتيجة لتداخلها وتفاعلها مع غيرها من السنن والعوامل والأشخاص في الكون، فلا يوجد مجال سُنَني مستقل عن المجال الآخر بالكلية، وإن تصورنا وجوده فهو في عقولنا الآدمية القاصرة وليس في الواقع.
وهذا ما يؤدي بدوره إلى السؤال التالي:
إذا كان التداخل بين السنن هو البند العريض لتداخل مجالات معرفية كثيرة، كتداخل قوانين المنظومة النفسية بالمنظومة الاجتماعية والتاريخية التي تسيطر على حركية المجتمع، وتداخل هذه المنظومات مع المنظومة الطبيعية، وهو تداخل في جوهره بين المصالح الكونية والإنسانية، فكيف نستطيع الجمع بين الإشكاليات التي تطرحها هذه المجالات، وهي إشكاليات تتعلق بطبيعة المجال الذي تنتمي إليه؟ فالبحث في مجالات السنن النفسية والاجتماعية، غير البحث في مجال السنن الطبيعية؛ لأن قوانين الظاهرة الاجتماعية والإنسانية تختلف عن قوانين الظاهرة الطبيعية.
ومع هذا فليست المشكلة كل المشكلة في اختلاف المناهج فهذه حتمية تخضع هي الأخرى لاعتبارات سُنَنية؛ إنما المشكلة كيف نستطيع دراسة هذه المجالات في إطار علم سُنَني واحد بفروعه المعرفية والعلمية المختلفة؟ ثم توظيف هذه الفروع في بناء معرفة سُنَنية متكاملة غير مجزأة ولا منفصلة تسهم في صياغة وبلورة رؤية كونية كلية شاملة للحيــاة دون فصل بين مجالاتها؟.
– ولهذه الإشكالية تجليان في تاريخ الفكر الإسلامي:
الأول: عبَّر عنها غير واحد في صور مختلفة؛ إلا أن ابن خلدون كان أكثر هؤلاء تصريحًا في مقدمته، حيث استشعر بحسه السنني ذلك الإشكال الذي يعترض الباحث في علم السنن الإلهية حين قال: «وهذا الفن الذي لاح لنا النظر فيه نجد منه مسائل تجــري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم، وهي من جنس مسائله بالموضوع والطلب: مثل ما يذكره الحكماء والعلماء في إثبات النبوة من أن البشر متعاونون في وجودهم، فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع. ومثل ما يذكر في أصول الفقه في باب إثبات اللغات، أن الناس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع، وتبيان العبارات أخف، ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد في أن الزنا مخلط للأنساب مفسد للنوع، وأن القتل أيضًا مفسد للنوع، وأن الظلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النوع»[3].
الثاني: كيف تمت الكتابة في السنن الإلهية طوال هذه المدة – على قلتها – علـــى النحو الذي نقرأه في الكتابات المعاصرة مع عدم وجود محددات منهجية واضحة تؤطر مسيرة البحث، وأقصد بذلك وجود علم سُنَني قائم بذاته له مصطلحاته وإشكالاته التي يتناولها ويرافع عنها ويدندن حولها من يحاول أن يدلو بدلوه في موضوعها؟ كيف نتصور وجود كَم معرفي – بغض النظر عن قيمته – من الكتابات السُّننية دون أن يكون لها انتماء لعلم محدد، وبعبارة أخرى كيف يتصور البحث في موضوع سُنَني في ظل غياب علم السنن الإلهية كعلم مستقل مكتمل المعالم؟
ولك أن تتصور حجم العناء الذي سيعتريك إذا حاولت أن تنظر في موضوع لا تستطيع أن تتصور طبيعة وشكل العلم الذي ينتمي إليه؛ أي الحقل المعرفي الذي يستمد منه تصوراته وتنظيراته، فمسائل الأصول محصورة في علم الأصول، ومسائل الفقه محصورة في علم الفقه، كما أن مسائل اللغة محصورة في علوم اللغة، فأين تجد مسائل السنن في أي علم؟ وأي معجم وأي قاموس؟ طبعًا – سيكون الجواب أن مسائل هذا العلم متناثرة في كل العلوم.
أما بخصوص المنهج المعتمد فإن طبيعة المادة المعروضة والإشكالية المطروحة هي التي تفرض عادة المنهج المناسب للإجابة عليها؛ فاعتبار الموضوع بحث في «فقه السنن الإلهية ودورها في البناء الحضاري»، وهي دراسة في محصلتها النهائية رصد لتلك الخطوات المنهجية والمعرفية التي تؤول إلى تأسيس هذا العلم، وهو ما يفرض علينا استدعاء أدوات المنهج التحليلي الاستقرائي، وعملية التتبع والاستقصاء للجزئيات المختلفة يؤدي في نهاية الأمر إلى التركيب بين القضايا والجمع بينها، وهو ما يفرض علينا استعمال المنهج التركيبي، فكان المنهج تحليليًا تركيبيًا، وهو الأنسب إلى روح الدراسة.
الحمولة الدلالية والمعرفية للخطاب السنني في القرآن:
تتعدد مستويات الخطاب السُّنني في القرآن الكريم، وتتنوع معه دلالاته بحسب المقاصد التي يتغيّاها في تنويع وتكثيف الدلالة والهدف الذي يتوخاه، إما استدلالًا بها في معرض المحاججة والإلزام أو بيانًا في سياق الدلالة؛ حتى تتحقق الوظيفة التوصيلية للكتاب والمصرحة في قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ وَصَلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (القصص: 51). فتارة تجد القرآن يستعمل لفظ (السُّنة) للدلالة على الطريقة الإلهية المعهودة في الكون، وتارة يستعمل مصطلح (الكلمة أو الكلمات)، ومرة يرد بلفظ (العادة والدأب)، وفي أحايين كثيرة يرد تحت مسمّى (الإرادة الكونية) التي تنبع منها الأحكام والمقاصد التكوينية، مثل: الأمر الكوني، والبعث الكوني، والإرسال الكوني، والحكم الكوني، والجعل الكوني، والتحريم الكوني، والقضاء الكوني، والإذن الكوني والهداية الكونية. ومع كل نوع من هذه الأنواع يتشكل الخطاب السنني، ويأخذ مداه وامتداده في الزمان والمكان، ويكشف عن مضامينه العقدية والمعرفية، ويرسم خارطة خاصة من المفاهيم السُّننية المفتاحية الخاصة به.
هذا ما يجعل قراءة هذه المفاهيم مطلبًا عزيزًا متعذرًا دون الجمع بين مستويين من المستويات التي تتمظهر فيها مفردات الخطاب السنني، وهما مستوى اللغة التواضعي الذي تفهم فيه الكلمة والمصطلح من خلال الدلالة المعجمية بدءًا من الجذر وصولًا إلى السياق، وهذا طريق تعرف ثمرته في تبيان المعاني السُّننية البسيطة أو الأولية، وإليه أشار علماء التفسير. والثاني مستوى اللغة الإلهية، والذي لا يفهم إلا من خلال التركيب الحدثي والعروض التاريخية والكونية للسنن الإلهية.
وإلى هذا المستوى أشار الأستاذ ماجد الكيلاني حينما نبه إلى عدم الخلط بين “اللغة البشرية“ و“اللغة الإلهية” من خلال التعسف في تحكيم اللغة الإلهية إلى القاموس اللغوي والجمود على ذلك دون محاولة تجديد أو فهم واكتشاف معانٍ جديدة يحملها النص القرآني، من خلال موارد متجددة تكمن في المتغيرات الكامنة في الظواهر الاجتماعية والكونية.
من هنا ندرك أن لكل صياغة قرآنية للسنن مقاصد دلالية ومعرفية جديدة نتعرف من خلالها على مضمرات وإشارات ومكتنزات عالم السنن. فالإخبار عن السُّنن بهذه الكثافة الدلالية من شأنه أن يضفي على مضمون الخطاب السنني ما يمكن أن نسميه باصطلاح طه عبد الرحمن «التمكين الاستشكالي» و«التمكين الاستدلالي»[4]، حيث تكون إشارة المفهوم زائدة عن مقتضاها العباري، بل إنها تزوده بأسباب تقوي مضمونه استشكالًا له أو استدلالًا به أو عليه، وهذا ما جعل علمًا من أعلام الفقه السنني كابن تيمية يصرح: “بأن الاستدلال بسنته تعالى وعادته طريق برهاني ظاهر لجميع الخلق”[5].
ولا يفهم من تكثيف الدلالات السُّننية في الخطاب القرآني مجرد» الاقتصاد في الأسلوب أو التنويع منه« فهذا مسلك بلاغي عريق في لغة القوم، وعراقته في القرآن أشد وأظهر، ومع ذلك فهو لا يجاري اللغة في فطرتها هذه فحسب، بل يجعل منها جسرًا ليحقق المقاصد التبليغيَّة للسُّنن الإلهية والثاوية في أعماق هذه الدلالات، فالامتياز التَّبْلِيغِي لمصطلح السُّنة واشتقاقاته في القرآن ليس ذاته في اصطلاح العادة المطردة أو الأحكام التكوينية الدالة على السنن بمختلف أنواعها، بل إن دلالة البعث الكوني، والإرسال الكوني، والجعل الكوني، والأمر الكوني والإذن الكوني على السنن تختلف من نوع لآخر، وتؤدي وظيفة تبليغية وبيانية زائدة على معناها المشترك.
والحاصل، فإن تنوع الحمولة الدلالية للخطاب السنني في القرآن بتنوع مفرداته ومصطلحاته يرشدنا إلى ظاهرة قمينة بالدراسة عليها مدار الدرس السنني في مستوياته اللغوية والعقدية، وهي ظاهرة الامتياز التبليغي للدلالات السُّننية، حيث يبلغ البيان والإفهام القرآني للسنن الذروة في توصيل المعنى من خلال الدلالات التالية: »دلالة السنة، والكلمة، والأحكام الكونية..» ولذلك اكتسبت هذه الدلالات امتيازًا تبليغيًا لا نجده في غيرها.
الجملة المفيدة للسنن الإلهية
ودورها في صياغة المفاهيم السُّننية
عادة ما تطرح المفاهيم والمصطلحات في بدايات التأسيس لأي خطاب أو علم على نحو من السهولة والبساطة قصد تجاوز التعقيد والإشكالات الواردة، وهذا الأمر كما ينسحب على أي علم من العلوم في بداية نشأته، كذلك ينسحب على علم السنن الإلهية بمختلف فروعه. ولذلك فإن فهم البنية العميقة للسنن الإلهية كعلم قائم بذاته مستقل في مصطلحاته ومعجمه وفهارسه متوقف إلى حد كبير على إدراك وتحرير “جملته المفيدة” كأول خطوة من خطوات التأصيل وسلامة التوصيل.
فما هي الجملة المفيدة للسنن الإلهية؟، وماذا سيقدم لنا هذا المفهوم في فهم طبيعة وحقيقة النظام التداخلي للسنن، والذي توزعت مباحثه ومطالبه وموضوعاته بين علوم كثيرة ندت عن الحصر، ولعل هذا أحد الأسباب التي حالت دون تدوينه وتدويله كغيره من العلوم.
مفهوم الجملة المفيدة للسنن الإلهية:
يعرف الأستاذ علي جمعة في كتابه “الطريق إلى التراث”، مفهوم الجملة المفيدة للعلوم انطلاقًا من كونها المحدد المنهجي الذي يُفهم من خلاله أي علم من العلوم مهما كان الموضوع الذي يتناوله والقضايا التي يتبناها والإشكالات التي يطرحها، وهي بقدر ما تمثل مدخلًا منهجيًا نتعرف من خلاله على الصياغة اللغوية والمنطقية لأي علم من العلوم، تمثل كذلك إطارًا معرفيًا نضبط فيه المفاهيم ونحدد المصطلحات فلكل علم مصطلحاته واستقلاليته.
يقول الأستاذ علي جمعة: “هناك مفهوم محدد وتصور معين تتداخل فيه الصياغة اللغوية مع الصياغة المنطقية، وتشكل طابعًا عاملًا عند صياغة الأفكار، هذا المحدد الأول لهذه الصياغات هو الجملة المفيدة، ولقد اختلف مفهوم الجملة المفيدة – وكان بارزًا ومهمًا – بين علوم البلاغة والنحو والأصول والمنطق وغيرها، وتنقسم الجملة المفيدة إلى قسمين ظاهرين، وقسم ثالث غير ظاهر. واختلفت تسمية كل قسم من هذه الأقسام باختلاف العلوم التي تعاملت معها، فأهل المنطق يتحدثون ما أسموه بـ «الموضوع» و«المحمول»، والبلاغيون يقولون: «المسند والمسند إليه»، والنحويون يسمونها بـ: «المبتدأ والخبر» أو «الفعل والفاعل». ولذلك فالجملة المفيدة نفسها قد سميت بأسماء مختلفة، مثل: القضية، أو المسألة، أو الدعوى. وكل تلك الألفاظ السابقة متفقة المعنى”[6].
وعلى هذا المعنى فلا يخلو علم من العلوم في تاريخ الإنسانية دون أن يكون له جملته المفيدة، “ففي علم الفقه الموضوع – أو الجزء الأول من الجملة – هو فعل المكلف – والمحمول -أو الجزء الثاني الجملة- هو حكم من أحكام الله سبحانه وتعالى، فالصلاة والبيع والشراء كل هذه أفعال تصدر عن البشر، أما حلال وحرام وواجب، ومندوب ومباح ومكروه، فكل هذه أحكام شرعية نصف بها الفعل البشري. فإذا جمعنا بين الفعل والحكم عليه؛ فإننا نخرج بجملة مفيدة، أو مسألة، أو دعوى، أو قضية فقهية”[7].
وبهذه الصياغة والتوصيف للجملة المفيدة التي هي موضوع أي علم من العلوم يسهل تحديد وتصنيف العلوم في إطار ما يُسمى بفلسفة العلوم، كما يمكن تحديد موقعها ضمن علوم التراث، هل هو من العلوم الأصلية أو الفرعية؟ بالإضافة إلى تحديد المباحث والقضايا التي تلتقي وتشترك فيها هذه العلوم، مع إخراج فصول ومباحث وقضايا لا تتناولها إلا بالعرض. بغياب هذا المعيار تداخلت العلوم بشكل فوضوي أدى إلى إغراق بعض المسائل والقضايا المهمة في علوم لا علاقة لها بها، وهذا ما حرم الأمة من فائدتها.
ولعل أكبر ضحية لهذا التداخل الفوضوي في الجمل المفيدة للعلوم علم «المقاصد الشرعية» و«السنن الإلهية» بشعبه الاجتماعية والنفسية. فإغراق المقاصد في مباحث الأصول أدى إلى تأخر ظهورها، وهذا ما جعل الشاطبي أصدق مَن يعبر عن هذا الواقع، لما قال: “لقد كنا قبل شروق هذا النور – علم المقاصد – نتخبط خبط عشواء، وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء،.. فنضع السموم على الأدواء مواضع الدواء، طالبين للشفاء كالقابض على الماء، ولا زلنا نسبح بينها في بحر الوهم، فنهيم ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم ونستنتج القياس العقيم، ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم، ونمشي أكبابًا على الوجوه، ونظن أننا نمشي على الصراط المستقيم”[8].
فقد تفطن الشاطبي إلى ضرورة تحرير الجمل المفيدة للعلوم الإسلامية، وتحديد طرق إثباتها، وبالتالي معاودة صياغتها وصياغة الكثير من مباحثها ومسائلها، وإخراج ما ليس منها إلى غيرها، فقال -رحمه الله- وهو بصدد بيان وتحديد الجملة المفيدة لعلم أصول الفقه: “كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونًا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية”[9]، وبناء على هذا التحديد أخرج الشاطبي “من المعارف المتداخلة مع الأصول كل المعارف الخادمة لهذا العلم أو باصطلاحه المعارف العارية. كما أخرج من المعارف المتداخلة مع الأصول كل المعارف التي تدخل في الفقه ولا تدخل في أصوله، مثل بعض المسائل الكلامية واللغوية والنحوية التي أقحمت في هذا العلم والتي تبحث فيها علوم مستقلة معتبرة، وقد صاغ ذلك في صورة المبدأ التالي: ليس كل ما يفتقر إليه الفقه يعد من أصوله”[10].
هذا الوضع انسحب على شعب السنن الإلهية الاجتماعية والنفسية، وبقدر أقل على السنن الطبيعية، فتوزعت مصطلحاته ومادته بين تخصصات العلوم الشرعية والإنسانية، دون محاولة لتحريره والاستقلال به كعلم قائم بذاته.
الجملة المفيدة للسنن الإلهية:
السنن الإلهية علم قائم بذاته مستقل في جمله ومصطلحاته ومفرداته استقلالًا كاملا، وهو ذو شعب معرفية، وتخصصات وفروع متنوعة بتنوع مجالاته، فمنها السنن التي تخص الجانب الجواني النفسي في الإنسان كفرد مستقل، بغض النظر عن أبناء جنسه، وهذه يطلق عليها السنن النفسية، ومنها التي تخص جانب العمران والاجتماع البشري كجماعة لا كأفراد، ويسمى هذا النوع بالسنن الاجتماعية، والنوع الثالث من السنن هو السُّنن التاريخية، هي سُنَن وقوانين تعنى ببيان حركة التاريخ البشري صعودًا وهبوطًا، وهي محصلة تفاعل بين كل السنن الإلهية، ومعها تلك التي تحكم عالم المادة.
هذا التنوع في السنن يؤدي حتمًا إلى تنوع الجمل المفيدة الجزئية والفرعية[11] لهذا العلم، وهو ما أدى إلى صعوبة تقسيمها واستخلاصها وإفرادها بالبحث، والتنظير، والتقعيد، والتأصيل. وقد استمر هذا الحال في تاريخ الأمة قرونًا عديدة، رغم تأكيد القرآن والسنة النبوية على وجودها، حتى إن المساحة البيانية والمادة السُّننية التي أفردها القرآن الكريم في الإشارة إليها لم تحظ بالاهتمام الذي حظيت به علوم أخرى في إطار الدراسات القرآنية، أو في حقول العلوم والدراسات الإسلامية والإنسانية.
هذا الإهمال أدى إلى صعوبة الكتابة في موضوع السنن الإلهية، ما جعل ابن خلدون يقر بصعوبة البحث فيها، إذ يقول في مقدمته: “واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة، غريب النزعة، غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى إليه الغوص.. وكأنه علم مستنبط النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة ما أدري ألغفلتهم عن ذلك، وليس الظن بهم، أو لعلهم كتبوا في هذا الغرض واستوفوه ولم يصل إلينا.. ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهامًا، وأعثرنا على علم جعلنا سن بكره وجهينة خبره، فإن كنت قد استوفيت مسائله وميزت عن سائر الصنائع أنظاره وأنحاءه، فتوفيق الله وهداية، وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره مسائله، فللناظر المحقق من إصلاحه ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطريق، والله يهدي بنوره من يشاء”[12].
ومع أن عمل ابن خلدون في المقدمة يعتبر إنجازًا لا مثيل له في تاريخ العلوم الإسلامية والإنسانية قاطبة، إلا أن الضحالة والجهالة بالسُنن استمرت بعده قرونًا أخرى امتدت إلى يوم الناس هذا، وبقيت عبارة عن أقوال وكلمات ومفردات عابرة على الألسن والشفاه، تفتقد إلى البحث والممارسة والمدارسة، والكتابة العلمية وبذلك فلم يُظلم في تاريخ الأمة علم من العلوم كما ظُلمت علوم السنن الإلهية وشعبها المعرفية.
وقد يحتج البعض أن الصحابة لم يكتبوا في السنن، وهذا ليس بحق، فهم وإن لم يكتبوا في السنن إلا أنهم كانوا “مهتدين بها وعالمين بمراد الله من ذكرها، يعني أنهم بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم، ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها، وبما مُنحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سُنَن الله تعالى ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم التي استولوا عليها”[13].
تداخل الجملة المفيدة للسنن الإلهية:
كثيرا ما نجد تداخلًا في مواضيع الجملة المفيدة للسنن الإلهية. وقد أدى توزع مباحث السنن الإلهية بين العلوم إلى صعوبة في إفراد تعريفات جامعة مانعة لهذه السُّنن، فمنهم من يعرفها بالمعنى الأعم، ومنهم من يعرفها بالمعنى الأخص، ومنهم من يجعل من السنن الاجتماعية والنفسية والتاريخية شيئًا واحدًا لا فرق بينها ما دام أن موضوعها الإنسان، ومنهم من يخلط بينها وبين الأحكام والمقاصد الشرعية.
ولذا أشار الأستاذ علي جمعة إلى ضرورة التفريق بين السنن والمقاصد في معرض تقديمه لكتاب “السنن الحضارية” “أن نضع فروقًا واضحة بين أمور يشتبه على بعض الناس أنها من السنن، مثل المقاصد العامة، والقواعد الكلية، والقيم: العدل والإحسان والجمال، فكل هذه قيم وليست سُننا، ومثل المبادئ العامة كتقرير المسؤولية الفردية أو العلم للمؤاخذة (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ (الإسراء: 15)، أو السعي: ﴿وَأَن لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ (النجم: 39)، أو الأثر الفوري للقوانين: ﴿إلَّا مَا قَدْ سلف﴾ (النساء: 22). وهذه كلها قواعد ومبادئ عامة يستفيد منها أهل العلـــوم الاجتماعية والإنسانية، ولكنها ليست من السنن. كما يجب التفرقة بين السنة وبين كل من الوعد والوعيد، أو الحقائق: ﴿إن اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ (البقرة: 20)، ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لكم﴾ (غافر: 60)، فكل هذه ليست من السنن، ولكـــن مـــن الحقائق الإيمانية[14].
طرق إثبات الجملة المفيدة للسنن الإلهية
طبيعة الجملة المفيدة لهذا العلم تستوجب تداخلا كبيرا بين طرق إثبات نسبتها، ومن هذه الطرق، النقل من خلال القرآن الكريم؛ باعتباره كتاب وحي وإخبار إلهي عن طبائع الخلق وسننه فيهم. ومنها العقل، ثم الحس، فكل ما دلك عليه الحس بأنه سنَّة من السنن أو نوع من الأنواع، وبلغت بذلك قوة الدليل فهو منها. وقد أعلمنا القرآن بقوة وصحة هذا المسلك حين أوجب السير في الأرض للنظر والتدبر والاكتشاف والتحليل والتدبر، وهذا لا يتم إلا بتثوير هذه الحواس الممنوحة للإنسان واستعمالها في اكتشاف آيات الآفاق والأنفس.
فعلمنا مثلًا أن هذه سُنَّة من السنن ولتكن مثلًا سنة طبيعية مثل الجاذبية فكيف نحصل الدليل على أنها سُنَّة، أي ما الذي يثبت أنها كذلك؟ هل نبحث في الدليل النقلي أم في الدليل العقلي أم في الدليل الحسي، وقولنا إن “الهلع” سنة نفسية، من أين نحصل الدليل عليها؛ أي من أي الأدلة نوثّق نسبتها وجملتها المفيدة. وتقريرنا أن الاجتماع البشري مثلًا سنة إلهية اجتماعية يستوجب منا كذلك أن ننظر في دليلها وإقرارها وثبوتيتها، أو بعبارة الأستاذ طريقة إثبات نسبتها، فقد تكون سُنَّة بحسب الوضع البشري لا بحسب الوضع الإلهي التكويني، إذ إن الكثير مما درج الإنسان على حمايته وحفظه والعمل به يُعدُّ من قبيل ما تواضع الإنسان عليه، وهو في غالب الأحيان مخالف للشرع والتكوين.
وفيما يلي تفصيل المجموع هذه الطرق:
أولًا- إثبات النسبة بالدليل النقلي:
يعتبر الدليل النقلي من كتاب وسنة من أعظم الأدلة على ثبوت هذه السنن وفاعليتها لكونهما يمثلان المرجعية العليا المؤطرة للفكر والعقل الإسلامي، وحينما نتحدث عن الدليل النقلي من كتاب وسُنَّة؛ إنما نعني بذلك كل ما أشار إليه القرآن من أدلة وبراهين وقصص وأمثال وحكم وأحكام، مما يدل على معنى وفحوى السنن، سواء فُهم ذلك صراحة كأن يرد بألفاظ السنن المعهودة في القرآن، أو أن يرد بما يشير إلى سننيتها بكل أنواع الدلالة كدلالة السياق وغيرها.
هذه النصوص والأدلة كما أنها حاكمة على من نزلت عليهم أيام نزولها هي كذلك إلى قيام الساعة، ولذلك تبقى مصدريتها ومرجعيتها وقيوميتها في عالم الدلالة أقوى الطرق الدالة على السنن ما بقيت السماوات والأرض.
ومع ذلك؛ فإن الدلالة على هذه السنن، وإثبات نسبتها من خلال الآيات القرآنية ليست دلالة إخبار فقط، بل هي دلالة تستلزم عين المدلول؛ لأن “الآيات القرآنية هي العلامات، وهي الأدلة التي تستلزم عين المدلول؛ لأن مدلولاتها لا يكون أمرًا كليًا مشتركًا بين المطلوب وغيره، بل نفس العلم بما يوجب العلم بعين المدلول، كما أن الشمس آية النهار، فنفس العلم بطلوع الشمس يوجب العلم بوجود النهار، وكذلك آيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم نفس العلم بها يوجب العلم بنبوته بعينه”[15].
وهذا ما ينسحب على العلم بآيات السنن، كما أن موضوعها يوجب العلم بسننيتها، أي يثبت ويؤكد نسبتها، ولذا كان الدليل النقلي من أقوى الأدلة إثباتًا لنسبة الجملة المفيدة، خاصة ما يتعلق بالسنن الاجتماعية والنفسية أو التاريخية، ولا يُعني ذلك الاقتصار على ما أثبته القرآن فقط، بل القرآن ذاته يحيل إلى غيره من الأدلة المعتبرة، ولا يكتفي بمجرد إلفات النظر أو الإحالة عليها، إذ يوجب إعمال العقل والتدبر والسير في الأرض لاكتشافها.
وبهذا، فالقرآن يجرى في أدلته على سُنَن التوازن، إذ يوجب إحداث التوازن في مصادر المعرفة السُّننية، حتى تستوي وتتعاضد أثناء البحث عن نسبة الجملة المفيدة لهذه السنة أو تلك، وبذلك لا يمكن الاستعاضة بهذا الدليل عن ذاك، أو الاستقلال بدليل على حساب دليل آخر؛ لأن ذلك سيؤدي إلى إيجاد ثغرة معرفية أو منهجية بشكل من الأشكال.
ومن هنا ندرك قيمة التوازن التي صنعها الإسلام في مصادر المعرفة السنية، “والمنهج الإسلامي يقرر للمعرفة مصدرين: الوحي والوجود، ويتخذ من العقل والحواس وسائل إدراك، وقد يمثل العقل نفسه مصدرًا في بعض الأحيان لبعض أنواع المعارف، والإسلام – في شموله وتوازنه – لم يغفل مصدرًا من مصادر المعرفة لم يعطه اعتباره ولم يضعه موضعه اللائق به ودرجته الجدير بها، كما لم تسمح خاصية التوازن فيه بطغيان أي مصدر على مصدر آخر، فالوحي – وإن كان أوثق المصادر وأقواها – لــه مجالاته وميادينه ومواضع هيمنته، والكون والحياة والأحياء كذلك مصادر معرفة – بعد الوحي – لكل منها ميدانه، وإلى كل مصدر من هذه المصادر وجَّه الإنسان لتلقي المعرفة، فهو مطالب بأن تلقاها من کتاب الله المنزل (القرآن) وكتاب الله المفتوح (الكون)، في تناسق وتوازن لا تشوبه شوائب التنافي أو التعارض والتصادم”[16].
هذا التوازن في مصادر المعرفة تجد ملامحه في طريقة عرض القرآن الكريم للسنن الكونية بكل أنواعها؛ فالدليل النقلي عادة ما نستلهم منه ونثبت به النسب الخاصة بالسنن النفسية والاجتماعية والتاريخية، وهذا نظرًا لطبيعة هذا الدليل، أي لكونه كتاب هداية وتشريع في المقام الأول، ولأن الأمثال والأمثلة المضروبة والمسوقة فيه، إنما كانت في غالبها ذات طبيعة اجتماعية وتاريخية. أما السنن الطبيعية الواردة في القرآن فهي على أقل تقدير تصب في مقاصد الإعجاز، وصناعة العقل العلمي الإسلامي الذي يتخذ من القرآن منطلقًا وقاعدة للبحث في عالم الآفاق، والأنفس، واستكشاف درره، ونواميسه. كما أن المقصد من إيرادها وعرضها، التنبيه إليها وإلى مثيلاتها في الكتاب المفتوح، ومن هنا كان منهج القرآن في عرض السنن الطبيعية غير منهجه في عرض النفسية والاجتماعية.
“ففي الأولى مرّ القرآن عليها مرور الكرام ولكنه فصل في الثانية، باعتباره كتاب هداية للإنسان الذي قد يُفتن بعقله فيتجه يمينًا ويسارًا، فكان لا بد أن يطرق القرآن كل أبواب الاجتماع الإنساني ليهدي الناس في علاقاتهم ونظمهم الاجتماعية، بما يحقق المصلحة التي قد يعجز الإنسان عن الوصول إليها، حتى أن البعض ليرى أنه يمكن استمداد مقومات علم الاجتماع كاملة من القرآن الكريم، وباعتبار طبيعة هذه السنن كقوانين كلية شاملة مطلقة في الزمان والمكان لا يتوقع أن ترد في القرآن الكريم في تفصيلاتها وجزئياتها وطرق تعيينها وشروط انطباقها. وفي الوقت نفسه فإن القرآن لا يمكن أن يغادرها، فهي موجودة كلها في القرآن الكريم على سبيل الحصر، لكنه حصر يتسق مع طبيعتها ككليات وثوابت فهو حصر إجمال وإشارة وإن تأخر الوعي بهذه السنن أحيانًا”[17].
نماذج من إثبات النسبة بالدليل النقلي:
سنة حب المال:
إن قولنا مثلًا إن حب المال جملة مفيدة، أي أنها سُنَّة نفسية سلبية، وقد ثبت ذلك بالدليل النقلي في قوله تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمال له﴾ (الفجر: 20)، ﴿وَإِنَّهُ لِحُب الخير لَشَدِيد﴾ (العاديات: 8)، ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الكهف: 46)، ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا﴾ (المعارج: 20- 21).
ولكن كيف نثبت أو ننفي نسبة هذه الجملة أي العلاقة بين المبتدأ والخبر؟ أو بين الموضوع والمحمول أو بين المسند والمسند إليه، أي بين “المال” وبين “الحب”؟ فالمال سُنَّة كونية وحبه سُنَّة نفسية قارّة في صميم التكوين الإنساني. ثم كيف حكمنا عليها أنها سُنَّة سلبية؟ لا شك أن ذلك يظهر من العلاقة الخفية التي ربطت بين طرفي الجملة، أو “المال” و”الحب”، فهي وإن كانت سنة بحكم الانجذاب التكويني الحاصل، إلا أنها علاقة غير طبيعية أي سلبية، تقع موقع الابتلاء والتمحيص لإرادة الإنسان.
فإثبات نسبتها، وهي هنا سلبيتها، يتطلب النظر في مقاصد علاقة الإنسان بالمال، ونحن إذ ذاك نستنتج وفق التقرير القرآني أنها علاقة فطرية لازمة للإنسان ومحايثة له. ولكن المشكلة كل المشكلة أن هذه العلاقة بين الإنسان والمال قد تطغيه وتفنيه وتقضي على إنسانيته وعبوديته لله، وهذا ظاهر جلي حسب التوصيف القرآني والمصادقة الواقعية لقوله تعالى ﴿كَلَا إِنَّ الْإِنسَنَ لَيَطْغَى* أَن رَوَاهُ أَسْتَغْنَى﴾ (العلق: 6- 7)، أو نحو قول صاحب الجنتين ﴿وَدَخَلَ جنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيْدَ هَذِهِ أَبَدًا* وَمَا أَظنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِن رُدِدتُ إِلَى ربي لأجدنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلبا﴾ (الكهف: 35- 36)، ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الخير منوعًا﴾ (المعارج: 20- 21).
فالعلاقة بين الإنسان وحبه للمال غالبًا ما تؤول إلى هذه النتيجة، إما طغيان واستغناء عن الله، أو منع الإنفاق؛ لأن حبّه كسنَّة نفسية يولد سنة نفسية سلبية أخرى هي “سنة الشح”.
ونتائج هذه العلاقة السلبية بين المال والإنسان، هي التي جعلت من هذه السنة سنة سلبية؛ لأنها تؤول في الغالب الأعم إلى «الطغيان والكفر والشح» ووصف السلبية هنا، وصف يتعلق بنتائج هذا الحب، قال الطاهر بن عاشور في كتابه »التحرير والتنوير« عند قوله تعالى في المؤمنين المنفقين ﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حَبهِ، مِسْكِينَا وَيَتِيمَا وَأَسِيرًا﴾(الإنسان: 8)، ﴿وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حَبهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائلِينَ وَفِيْ الرقاب﴾ (البقرة: 177)، “قال :وفي قوله: ﴿عَلَى حُبِهِ﴾، مجاز في التمكن من حب المال مثل: ﴿أوَلَئكَ عَلَى هُدًى﴾ (البقرة: 5)، وهي في مثل هذا المقام للتنبيه على أبعد الأحوال من مظنة الوصف، فلذلك تفيد مفاد كلمة مع، وتدل على معنى الاحتراس كما هي في قوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبه مسكينًا﴾ (الإنسان: 8)،
قال الأعلم في شرحه: أي فكيف به وهو على غير تلك الحالة. وليس هذا معنى مستقلا من معاني “على”، بل هو استعلاء مجازي أريد به تحقق ثبوت مدلول مدخولها لمعمول متعلقها؛ لأنه لبعد وقوعه يحتاج إلى التحقيق والضمير للمال لا محالة والمراد أنه يعطي المال مع حبه للمال وعدم زهادته فيه، فيدل على أنه إنما يعطيه مرضاة الله تعالى، ولذلك كان فعله هذا برا”[18].
ومما لا شك فيه أن دلالة “على” في هذه الآيات تدل على سُننية “حب المال”، وأنها لا تنفك حتى عند أهل الإيمان؛ لأنها سُنَنية سلبية مقاصدها الابتلاء في العطاء: ﴿إِنَّا جعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الكهف: 7)، فهي تدفع الإنسان دفعًا إلى طريق التدسية والفجور وإظهار أوصاف النفس الخبيثة أو إلى التزكية والطهارة والتطهير والصلاح والإصلاح، ولكن الفرق والفارق والمفارقة بين” الذين يعطون المال على حبّه”، والذين “يمنعون المال لحبه”، هو تلك البؤرة العلّية في العطاء والمنع، أي حين يعطون وحين يمنعون، وهي سنة حب الله عز وجل.
ثانيًا- إثبات النسبة بالدليل العقلي:
يعتبر الدليل العقلي على غرار الدليل النقلي من أهم الأدلة والوسائل في إثبات الجملة المفيدة للسنن الإلهية، فهو جزء من التكوين الفطري للإنسان، وليس شيئًا طارئًا أو منفصلًا عنه، ولذلك جعله الله مناط التكليف وعليه مدار الفهم والإدراك والجزاء والعقاب، وبه تميز وتمايز عن الخلائق، وعليه فإن العقل وفقًا لهذا المنظور الاستخلافي بكل بساطة هو “العلم بوجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات ومجاري العادات”[19].
الدليل العقلي «عهد الله التكويني» للإنسانية:
يرى رشيد رضا شيخ المفسرين السُّننيين إلى أن البرهان والدليل والمسلمات العقلية جزء لا يتجزأ من سُنَن الله الكونية، ولذلك كان دور العقل في فهم سُنَن الله من أعظم وأجل الآلات، وقد عوتب المشركون والفسقة على تعطيل عقولهم ومداركهم في فهم الأمثال المضروبة في القرآن، والمثل عادة ما يحمل مضمون وموضوع سُنَّة من السنن؛ لذلك كان فهمها مشروطًا باستصحاب العقل لقوله تعالى ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَلِمُون﴾ (العنكبوت: 43).
فالله عز وجل جعل من هذه المسلّمات العقلية مثل ربط الدليل بالمدلول، والمقدمات بالنتائج، والأسباب بالمسببات، ومجاري العادات داخلة تحت مسمّى ومضمون “العهد التكويني والشرع” والذي يدخل فيه ﴿مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾، تكوينًا مثل الأوامر التكوينية السُّننية من وصل الأسباب بالمسببات والمقدمات بالنتائج، فالله أمر أن توصل المقدمات بالنتائج، والأسباب بالمسببات، والأثر بالمؤثر، ومن طلب النتائج والنهايات من غير أسبابها المفضية إليها فقد قطع ما أمر الله أن يوصل به، وأتى منكرًا من القول وزورًا مما تمجه سُنَن الله وعاداته.
ولذلك، فكل من عطّل العقل وما يتبعه من الأدلة العقلية يدخل في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ﴾ (الرعد: 25)، ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُوْلَيْكَ هُمُ الْخَسِرُونَ﴾ (البقرة: 27).
والميثاق اسم لما يوثق به الشيء ويكون محكمًا يعسر نقضه. والله تعالى قد وثق العهد الفطري بجعل العقول بعد الرشد قابلة لإدراك السنن الإلهية في الخلق، ووثق العهد الديني بما أيد به الأنبياء من الآيات البينات والأحكام المحكمات”[20].
وهذا ما حدا بالشيخ رشيد رضا إلى اعتبار العهد والأمر في الآية السابقة عهـدًا وأمرا تكوينيًا مرتبطًا بالسنن الإلهية، يدرك بالعقل أو الدليل العقل “فعهد الله تعالى هو ما أخذهم به بمنحهم ما يفهمون به هذه السنن المعهودة للناس بالنظر والاعتبار، والتجربة والاختبار، أو العقل والحواس المرشدة إليها وهي عامة والحجة بها قائمة على كل من وُهب نعمة العقل وبلغ سن الرشد سليم الحواس، ونقضه عبارة عن عدم استعمال تلك المواهب استعمالًا صحيحًا حتى كأنهم فقدوها وخرجوا من حكمها كما قال تعالى ﴿وَلَقَدْ ذَرَأَنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ َاذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أَوَلَئكَ كَالأَنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئكَ هُمُ الْغَفِلُونَ﴾ (الأعراف: 179)، وكما قال أيضًا: ﴿صُمٌ بُكُمُ عُمى فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 171)”[21].
وسطية الدليل العقلي بين الأدلة:
ومع هذا الإقرار والانبساط للدليل العقلي في إثبات نسب الجمل المفيدة للسنن الإلهية، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يبعدنا عن المركز الوسط والموقع الوسط، والسنة الوسط في الاحتكام إلى الدليل العقلي، فنغلب العقل على النقل، أو نجعل للعقل حاكمية تتجاوز حدود ما أعطاه له الشرع والتكوين، “وإذا كان العقل لا يملك أن يسرح في الشرعيات إلا بما يسرحه النقل والشرع ذاته”[22]، كما قال الشاطبي، فكذلك لا يملك أن يصول ويجول في الملكوتيات إلا في حدود مُلكيته، أي في حدود ما يملك من طاقة البحث والاستيعاب والتحليل والتركيب، فلا يدَّعي شيئًا يخالف الحكمة في الوجود بمجرد عجزه عن تفسير ظواهر وسنن الكون.
وما لم نكتشف حكمته علمنا أن عقولنا عاجزة عن إدراكه كما يقول ابن الجوزي: “فلم أزل أتلمح جملة التكاليف، فإذا عجزت قوى العقل عن الاطلاع على حكمة ذلك علمت قصورها عن درك جميع المطلوب، فأذعنت مقرة بالعجز، وبذلك تؤدي مفروض تكاليفها، فلو قيل للعقل: قد ثبت عندك حكمة الخالق بما بنى، أفيجوز أن ينقدح في حكمته أنه نقض؟ لقال: لأني عرفت بالبرهان أنه حكيم، وأنا أعجز عن إدراك علله، فأسلم على رغمي، مقرًا بعجزي”[23].
وهذا على غرار السنن الكونية والاجتماعية التي تنظم حركة المجتمع والكون، فقد ندرك شيئًا منها، وقد يعجز العقل عن إدراك كنهها أو طريقة عملها وسيرها، فالمؤمن يسلّم ويقر بالعجز، وهو يؤمن بقيومية ومصدرية الوحي، ولسان حاله يقول: ﴿كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبَّنَا﴾ (آل عمران: 7) “فالخلق كله وفق القرآن، مجال العقل والنظام، لكن العقل والنظام يعملان بطريقة مختلفة في مستويات الوجود المتباينة … ولو منح الإنسان استبصارًا حقيقيًا لما استطاع أن يجد خلال في الكون، وحيثما يلاحظ عدم الانتظام فعليه أن يدرك أنه لم ير الصواب بعد، إن الخلق يخضع للنظام في كل خطوة من خطواته .وسلطان القانون موجود في كل مكان، ومهما يكن من اختلاف القوانين التي تمثل في مستويات مختلفة”[24].
كما أننا، ونحن نستعمل الدليل العقلي أو العقل لا يجب أن ننفي شيئًا من المعقولات بحجة أنه يعارض شيئًا من الشرعيات، أو نسعى إلى عقلنة القضايا الغيبية التي أخبر بها الشرع بدعوى أن العقل المعاصر لا يلائمها، أو أن سُنَن الله في الكون لا تقبل هذا التفسير أو ذاك.
فالمغالاة في تفسير الظواهر أو تأويل الغيبيات بمألوف السنن الإلهية خطأ وقعت فيه «مدرسة المنار» أو بعض أعلامها، مع أن هدفهم كان بغرض القضاء أو التقليص من غلواء الخرافات التي طغت على عقول المسلمين في العصور المتأخرة.
ومن هنا فإن الاستعانة بالدليل العقلي لا يعني الاستعاضة به عن غيره، أو الاستقواء والاعتساف به على ما عجزت عقولنا عن تفسيره من حقائق الشرع والكون.. أي أن العقل ليس طريقًا إلى عقلنة كل شيء، فثمة أمور لا يستطيع العقل أن يعقلنها؛ لأنها خارج مجال العقل، أي أنها من الأمور الغيبية التي تخضع لسنن وقوانين عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
نسبية العقل في إثبات النسبة في الجمل المفيدة للسنن:
إن إثبات الجمل المفيدة للسنن بالدليل العقلي نسبي، يختلف في السنن الاجتماعية كما يختلف في السُّنن النفسية والسنن الشرعية والتاريخية، وهذا الاختلاف يرجع بالأساس إلى نوع الساحة التي تظهر فيها هذه السنن، فمنها مالا يقدر العقل على دخولها إلا بإذن، ولسان حاله يقول: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلَّمَنِ مِمَّا عُلَمْتَ رُشْدًا ﴾(الكهف: 66)، وتلك ساحة الشرعيات وسُننها، ومنها ما يقدر العقل على النفاذ فيها بسلاسة وطلاقة، فيأتي بدرر الحكم، وتلك ساحة الآفاق والأنفس، ومنها ما يعجز عن مجرد الاقتراب منها، فيرجع خاسئا وهو حسير وتلك ساحة الغيبيات.
ومع ذلك، فإذا كان العقل الإنساني وسيلة مبلّغة إلى الحق سواء في مجال الكشف أو في مجال التقدير والمعايرة، ولو لم يكن كذلك لما احتفل به القرآن ذلك الاحتفال. إلا أن وصول العقل إلى الحق كشفًا وتقديرًا ليس متعلقًا بمطلق الحركة العقلية، على اعتبار أنه بمقتضى كونه عقلًا يصل إلى الحقيقة حتما مثلما الوحي باعتبار كونه وحيًا يصيب الحق حتمًا، بل العقل وهو الوسيلة الإنسانية رهين في إصابته الحق لشروط وقيود وحدود تمثل كلّها عنصرًا أساسيًا في تحليل دور هذه الوسيلة في التنزيل الأرضي لمنهج الخلافة[25].
وما يجعل من اكتشاف النسبة في السنن الإلهية المختلفة نسبيًا هو طبيعة العقل والمسالك والطرق والمناهج التي يسلكها والحيثيات التي ترافقه وتعتوره أثناء التعقل، أي أثناء انتقال حركة العقل في الموجودات والمشاهدات فالعقل ليس وسيلة للكشف المباشر على الحق، بل يسلك إلى الحق طريقًا صارمًا عبر ما يسمى بالنظر والفكر، وهذا الطريق يتصف بالمرحلية والتدرج والترابط، فهو طريق المقايسة والموازنة، والانتقال بين المقدمات للوصول إلى النتائج وبين المعاليم للوصول إلى المجاهيل، وهذا الطريق الدقيق المسالك تحف به جملة من الأخطار التي تهدد بإعاقة العقل عن إصابة الحق؛ – فالإنسان خلق عجولًا، مما قد يعرضه لتعجل المراحل في النظر العقلي، ورُكب على نزاعات من الهوى قد تشوش عليه ترتيب تلك المراحل، وكل ذلك يؤول بالعقل إلى الوقوع في الخطأ من حيث خلقه الله وسيلة لمعرفة الحق”[26].
كل هذه المعطيات والحقائق تجعل من حركة العقل في الحياة حركة نسبية في الزمان والمكان، ولذلك تجد محصول ومحصلة هذه الحركة تختلف من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، بل إن اختلافها في عالم الشهادة المحسوس الواضح المعالم والرسوم أشد وأظهر منه في عالم الغيب، وهذا ما نقصد بقولنا إن إثبات النسبة في أي جملة من الجمل المفيدة للسنن نسبي، فطبيعة السنن الاجتماعية التي تتعلق بالاجتماع البشري رغم وضوحها واطرادها ومعلوميتها؛ فإنها تتراوح بين القطعية في النسبة والظنية وهذه القطعية والظنية تنسحب على جميع أنواع السنن.
وفيما يلي عرض موجز لدور العقل والدليل العقلي في اكتشاف الجمل المفيدة لهذه السنن ونسبها الموزعة والمتداخلة بين هذه الساحات:
ثالثًا: دور الدليل الحسي في إثبات الجملة المفيدة للسنن الإلهية:
يعتبر الحس مصدرًا من مصادر المعرفة وطريقًا من الطرق الموثوقة لإثبات الجمل المفيدة للسُّنن الإلهية، خاصة تلك التي تقع تحت طائلة وسلطان الحواس. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة حين قال ﴿وَلَا تَقِفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُ أوْلَئكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ (الإسراء: 36)
“فالقرآن يحض الإنسان على استعمال العقل والسمع والبصر وما إليها من طرق المشاهدة الصحيحة بجميع أساليب الحض، ثم مع ذلك يؤدبه من حيث استعمال هذه المواهب على وجهها الصحيح. فهذه الآية تنهاه من ناحية أن يجري مع الظن والوهم، وتدله من ناحية أخرى على طريق الوصول إلى ما ليس بوهم ولا ظن، أي إلى اليقين والحق عن طريق إحسان استعمال السمع والبصر والعقل ﴿كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ (الإسراء: 36)، ليس فقط أمر شديد بإحسان استعمال السمع والبصر والعقل وعدم إهمالهما، بل فيه أيضًا أمر بالاستمساك بما يهتدي إليه الإنسان من الحق عن طريقهما”[27].
وتكمن موثوقية الدليل الحسي في كونه مصدرًا من المصادر التي نصبها الله عز وجل للوصول إلى الحقيقة، فالإنسان في النهاية “مخلوق الله سبحانه وما فيه من حواس؛ إنما تعمل كذلك بقدرة الله سبحانه.. بما جعل في هذا الإنسان من استعدادات وللحواس من فعالية. وعلى ذلك فالإحساس ليس آليًا وليس ذاتيًا، بل هو محكوم بما جعل الله في المادة من سُنَن، وما في الآلات الحسية من طاقة أو قوة وما في النفس من استعداد، كل ذلك يسير وفق إرادة الله وحكمته وعلمه وعنايته بهذا الإنسان”[28].
هذه الحواس هي وسائط ورسل بين الإنسان والعالم الخارجي، وهي للعقل كالعيون تراقب وتترقب وتجمع الأدلة والشواهد والمصادر والمراجع، والعقل هو من يربط بينها ويفهرسها، “فالمعرفة يجب أن تبدأ بالمحسوس، وقدرة العقل على تحصيل المحسوس وسلطانه عليه هو الذي ييسر له الانتقال من المحسوس إلى غير المحسوس”[29].
والقرآن يؤكد هذه الحقيقة في أكثر من آية حين يجعل من الحواس آلة للاكتشاف والنظر والسير والتدبر ﴿قد خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكَذِبِين﴾ (آل عمران: 137)، ﴿وقل سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ﴾ (العنكبوت: 20) فالسير في الأرض والنظر في كيفية بدء الخلق يتطلب تحريكًا وتوظيفًا وتشغيلًا هائلًا للحواس، ولذلك لا يمانع القرآن أن تكون الحواس أبواب الاتصال – بل هي كذلك – بالمحسوسات الخارجية المادية، وأن يقوم العضو الحسي بحركة آلية أو مادية نحو المادة؛ لأن العضو بهذه الحركة يهيئ شروط الإدراك، والمادة والروح كلاهما مخلوقان الله سبحانه، ومن حكمته أن يجعل انسجامًا بينهما في الوجود من خلال نواميس وقوانين أعطاها لهما”[30].
ومع صدقية الدليل الحسي، تبقى أتم وأثبت السنن الاجتماعية والنفسية، تلك التي ازدوج في فهمها واستنباطها وتسخيرها الشرع والعقل والحس، ولذلك تتكامل وتتعاضد الأدلة في خدمة المعرفة السُّننية.
هناك سُنَن لا تُدرك إلا إذا اصطحب العقل النقل، وهناك سُنَن لا تُفهم إلا إذا ازدوج النقل مع العقل والحواس كلها متضافرة، وهذه مثل السنن الاجتماعية والنفسية التي تغوص في أعماق التكوين الإلهي للاجتماع البشري، وهناك سُنَن تستقل الحواس بفهمها وإدراكها والمصادقة عليها كالسنن الطبيعية، ولا يعني استقلال الحواس بها الاستغناء عن الدليل العقلي أو العقل، “فقد جعل القرآن دور الحواس مع العقل، ولم يجعلها مصدرًا مستقلًا؛ فإنها وإن كانت مهمة بحيث تعطيلها يؤدي إلى تعطيل العقل كما قال تعالى ﴿وَلَقَدْ ذَرَأَنَا لجَهَنَّمَ كَثيرًا من الجن والإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءّاذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أَوَلَئِكَ كَالأَنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُوْنَ﴾ (الأعراف: 179)، إلا أنه لم يجعلها مصدرًا مستقلا”[31].
بيد أن المدة التي تستغرقها الحواس للكشف عن السنن الإلهية، والحكم بقطعتيها أو ظنّيتها يختلف من السنن الاجتماعية التي تتعلق بالظاهرة الإنسانية، إلى السنن التي تتعلق بالظاهرة الطبيعية، ومرد هذا الاختلاف أن “اكتشاف طبائع الأشياء والسنن، أسهل بكثير من اكتشاف الطبيعة البشرية، وسنن الله تعالى في الأنفس والآفاق والمجتمعات، فطبيعة العلاقات التي تربط الإنسان بالزمان والمكان والأشياء تميل إلى الخفاء، كما تميل إليه السنن والنواميس التي تحكم كل ذلك، والسبب في هذا أن الإنسان يتمتع بالعنصر الروحي والإرادة الحرة، ولهذا فإن العناصر التي تؤثر في حركته وتنظم ردود أفعاله ووزن كل عنصر .. كل ذلك يصعب فهمه بدقة”[32].
الاستقراء الحسِّي السنني:
ومن فوائده “تحقيق الاقتصاد في التفكير، بتجميع الجزئيات وإدراجها تحت قاعدة عامة، تكون في النهاية معنى عامًا، وهو “الكلي” “المراد”[33].
– أفضلية الاستقراء على الاستنباط في الكشف السنني:
إن اعتماد القرآن المنهج الاستقرائي لاستنباط السنن بسبب كونه الأكثر فائدة ونجاعة وفاعلية للحصول على حقيقة السنن وطبيعتها، والتحقق من قطعيتها، إذ أن “السير الفكري في الدليل الاستقرائي – من الخاص إلى العام – معاكس للسير الدليل الاستنباطي – من العام إلى الخاص – الذي يصطنع الطريقة القياسية. ففي الدليل الاستنباطي تكون النتيجة دائمًا مساوية أو أصغر من مقدماتها أما في الدليل الاستقرائي فعادة ما تكون النتيجة فيه أكبر من المقدمات التي ساهمت في تكوين ذلك الاستدلال”[34]، ولذا قال الريسوني: “بأن الاستقراء هو أرقى المناهج، والمعارف الاستقرائية الكلية هي أرقى المعارف وأقواها”[35]، ذلك لأنه يحصل به ما لا يحصل بغيره من غلبة الظن واليقين ولولا وجود الاستقراء لأصبحنا نعيش في فوضي الجزئيات التي لا ضابط لها[36].
ولصدقية ونجاعة نتائجه اعتمده القرآن في الكشف عن السنن الإلهية، وذلك بالدعوة إلى السير والنظر والتدبر وتجميع الحقائق، وملاحظة الظواهر واستقراء العلل المكونة للسُّنن، بل لعل البرهان والدليل على ثبات السنن واطرادها هنا يتحقق من الاستقراء وليس من القياس، فالسير في الأرض واكتشاف السنن الحاكمة لحركة الحياة، أو فقه الحياة نلمحه في قوله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (آل عمران: 137)”[37].
والخلاصة أن إثبات الجملة المفيدة للسُّنن الإلهية مرّة يكون بالعقل، ومرة بالنقل، ومرّة بالحس وفي أحيان كثيرة تكون إثبات نسبة الجملة المفيدة لبعض السنن بكل هذه الطرق.. فكما أنه من الخطأ أن تثبت الجملة المفيدة للسُّنن الشرعية بالعقل أو الحس؛ لأنها سُنَن تثبت بالنص والدليل النقلي فكذلك الخطأ أن نثبت جملة مفيدة موضوعها من سُنَّة طبيعية بالدليل النقلي، مما يوقع النص القرآني أو النبوي في مرمى الاتهام وهو من ذلك براء؛ لأن النص القرآني وإن كان يحمل ما يحمل من الإشارات العلمية الإعجازية إلا أنه ليس كتابًا علميًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* منقول بتصرف من صفحات متفرقة من كتاب:
عادل بن بوزيد عيساوي (2012). فقه السنن الإلهية ودورها في البناء الحضاري. الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. 346 ص.
** ماجستير في الفكر الإسلامي، وله عدة بحوث علمية منشورة.
[1] عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني، منهج ابن خلدون في التعاطي مع النصوص الشرعية. مجلة إسلامية المعرفة العدد: 5۱، ص۱۹۸.
[2] انظر: الإمام الشاطبي، الموافقات في أصول الفقه، تحقيق عبد الله، دراز، د. ط بیروت: دار المعرفة، د.ت ۷۸-۷۷/۱؛ محمد بن نصر المقاصد الشرعية بين حيوية الفكرة ومحدودية الفعالية، أعمال الندوة العالمية: مقاصد الشريعة وسبل تحقيقها في المجتمعات المعاصرة، ١٤ – ١٦ رجب ١٤٢٧هـ، ٨-١٠ أغسطس ٢٠٠٦م، الجامعة الإسلامية العالمية، ماليزيا، ٦٨/١.
[3] ابن خلدون، المقدمة، تحقيق خليل شحادة، سهيل زكار (بيروت: دار الفكر، ١٤٣١هـ / ٢٠٠١م) ٠٥٠/١
[4] انظر: طه عبد الرحمن فقه الفلسفة القول الفلسفي (الرباط المركز الثقافي العربي، ١٩٩٩م) ص١٣٤.
[5] أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني أبو العباس، النبوات (القاهرة: المطبعة السلفية، ١٣٨٦هـ) ص ٢٦٣.
[6] المرجع السابق، ص: 225.
[7] المرجع السابق، ص: 225.
[8] الشاطبي، الموافقات، 1/19.
[9] المصدر نفسه، 1/42
[10] طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ط ا (بيروت: المركز الثقافي العربي، ۱۹۹۳م) ص ٩٤-٩٥
[11] يقول الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار عن السنن الإلهية «وهو العلم بسنن الله تعالى في قوة الأمم والشعوب وضعفها وعزها وذلها وغناها وفقرها وبداوتها وحضارتها وأعمالها ونحو ذلك. وفائدة هذا العلم في الأمم كفائدة علم النحو والبيان في حفظ اللغة، وفي القرآن الحكيم أهم قواعده وأصوله». انظر: رشيد رضا، تفسير المنار، 8/ 96.
[12] ابن خلدون، المقدمة 1/ 50.
[13] رشيد رضا، تفسير المنار، 4/115
[14] على جمعة، تقديم كتاب، سُنَن القرآن في قيام الحضارات وسقوطها، محمد هیشور، ط.1 (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، (۱۹۹۹م) ص ۱۲
[15] ابن تيمية الرد على المنطقيين، د.ط. (بيروت: دار المعرفة، د.ت) 1/115.
[16] طه جابر العلواني، تقديم كتاب الدكتور عبد المجيد النجار، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، ط۳ (فرجينيا: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ۲۰۰۰م) ص ۱۲.
[17] عبد الله، جاد، قضايا إشكالية في الفكر الإسلامي المعاصر، مستخلصات أفكار وندوات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1 (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ۱۹۹۷م) ص ۱۸۷.
[18] الطاهر بن عاشور التحرير والتنوير، 2/111.
[19] عضد الدين الإيجي، المواقف، تحقيق عبد الرحمن عميرة، ط ا (بيروت: دار الجيل، ۱۹۹۷م) ۸۷/۲
[20] رشيد رضا، تفسير المنار، 1/203.
[21] المرجع نفسه، 1/202.
[22] انظر: الشاطبي، الموافقات، 1/87.
[23] ابن الجوزي، صيد الخاطر، تحقيق: عبد القادر أحمد عطاء ط1 (بيروت: دار الكتب العلمية ١٤١٢هـ / ١٩٩٢م) ص ٤٥-٤٦.
[24] مصطفى لبيب عبد الغني، التصور الإسلامي للطبيعة، مجلة الحكمة العدد الثاني، ص ١٧٤.
[25] عبد المجيد النجار، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل (القاهرة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي) ص ٧٤.
[26] المرجع السابق، ص 74.
[27] محمد أحمد الغمراوي، في سنن الله الكونية، ص 12.
[28] راجح عبد الحميد الكردي نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة ط1 (السعودية: مكتبة المؤيد ١٤١٢هـ / ١٩٩٢م) ص ٥٧٩.
[29] محمد إقبال: تجديد الفكر الديني. ترجمة عباس محمود، ط ۲ (القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، ١٩٦٨م) ص ١١٠.
[30] المرجع السابق، ص ٥٨٠.
[31] راجح عبد الحميد الكردي، نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة، ص ٥٨٩.
[32] عبد الكريم بكار، ثلاثون سنة إلهية في الأنفس والمجتمعات، ص ۱0- 11.
[33] انظر: نوار بن الشلي، العقل الفقهي معالم وضوابط ط1 (القاهرة: دار السلام ١٤٢٩هـ / ٢٠٠٨م) ص 141؛
نعمان جغيم طرق الكشف عن مقاصد الشارع، ط1 (عمان) دار النفائس ١٤٢٢هـ / ٢٠٠٢م) ص ٢٣٥.
[34] انظر: محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، ط (بيروت: دار التعارف للمطبوعات، ۱۹۸۲م) ص ٥-٦.
[35] انظر أحمد الريسوني، الفكر المقاصدي قواعده وفوائده، سلسلة تصدر عن جريدة الزمن بالمغرب، الدار البيضاء، ۱۹۹۹م.
[36] نعمان جغيم طرق الكشف عن مقاصد الشارع، ط ا :(عمان: دار النفائس (۲۰۰۲م ص ٢٣٥.
[37] عمر عبيد حسنه تقديم كتاب أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، أحمد محمد كنعان، ص ٥.