الأخلاق في القرآن

العنوان: La Morale du coran = مبادئ علم الأخلاق في القرآن.

(رسالة دكتوراه باللغة الفرنسية من جامعة باريس (السوربون)، بتاريخ 1947).

المؤلف: محمد عبد الله دراز (1894- 1958).

مكان النشر: القاهرة.

الناشر: دار المعارف.

تاريخ النشر: 1951.

الوصف المادي: 717 ص.، 24 سم.

نبذة عن المؤلف:

درس د. عبد الله دراز بالأزهر وحصل على الشهادة العالمية، وعيّن مدرسا، ثم أستاذا للتفسير بكلية أصول الدين، ثم حصل على منحة دراسية للدراسة بجامعة السوربون الفرنسية عام 1936، فأقام في فرنسا اثنتي عشرة سنة مضت كلها جدا وانكبابا على استيعاب الثقافة الغربية من منابعها الأصلية، وتأملا مقارِنا، وهناك درس على يد كبار المستشرقين مثل: بروفنسال، وماسينيون،  وأنهى رسالته التي حملت عنوان “مبادئ علم الأخلاق في القرآن الكريم” والتي نال عنها درجة الدكتوراه في فلسفة الأديان بمرتبة الشرف الأولى عام 1947.

تألفت رسالته من دراستين: الأولى مدخل إلى القرآن الكريم وهي دراسة تمهيدية موجزة حول تاريخ القرآن، والثانية دستور الأخلاق في القرآن الكريم وتقع في حوالي سبعمائة صفحة، قدم خلالها رؤية متكاملة للنظرية الأخلاقية القرآنية في شقيها النظري والعملي. وإنجاز الرسالة الأساسي أنها استخلصت -للمرة الأولى- الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعها، وقدمت مبادئها وقواعدها في صورة بناء نظري متماسك مستقل عن كل ما يربطه بالمجالات القريبة منه، وهو ما أحدث انتقالا بها من دائرة التعاليم الوعظية التي تستهدف تقويم السلوكيات إلى الدائرة المعرفية.

خلف دراز تراثا فكريا راقيا لم يتجاوز أربعة عشر مؤلفا تراوحت بين الكتب والبحوث، وأهمها كتبه النبأ العظيم، ومبادئ القانون الدولي العام في الإسلام، وبحوث ممهدة لتاريخ الأديان. أما بحوثه فأبرزها: الربا في نظر القانون. وعلى ندرتها فقد شكلت إضافات معرفية سدت فراغا في حقول الفلسفة الإسلامية وعلم الك  لام وتاريخ الأديان.

كان دراز “ابن الأزهر، وابن السوربون”. وقد أتاحت له الدراسة المعمَّقة لكلٍّ من الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية من منابعهما الأصلية بناء رؤية تركيبية تحليلية فريدة، بعيدا عن السطحية التبسيطية، التي أصابت الكثيرين ممن وقفوا عند حدود الثقافة الموروثة الراكدة أو الغربية الوافدة. كان متعمقا في روحانيات الغزالي والحكيم والترمذي وأبي طالب المكي، متضلعا بفلسفة “ديكارت” و”كانط” و”برجسون“. وقد امتاز دراز بفضل هذا الفكر التركيبي برحابة الأفق، وعمق التحليل، ودقة الاستدلال، مع حجاج مقنع، وبلاغة ساحرة استمدَّها من بلاغة القرآن الكريم.

         الكتاب الذي بين يدينا هو رسالته التي حصل عنها على درجة الدكتوراه من جامعة باريس، وهي مكونة من مقدمة وخمسة فصول، وهي بالترتيب: مبدأ التكليف، مبدأ المسئولية، مبدأ الجزاء، مبدأ النية، مبدأ الجهد. يليها ملحقين الأول مكون من خمسة فصول بعنوان عام الأخلاق عمليا؛ وهي خمس محاور للأخلاق في صورها التطبيقية اعتمد فيها د. دراز على جمع آيات القرآن الكريم التي تناولت هذه المحاور وعرض ترجمتها باللغة الفرنسية، مع ذكر الآيات بلغة القرآن في الهامش السفلي. ثم ملحق أخير جمع فيه “صفات المسلم الحق”، وهي مجموعة من الآيات أيضا التي فصلت صفات المؤمنين.

وفيما يلي عرض للكتاب.

المقدمة:

يبدأ المؤلف أطروحته مستشهدا بقول أحد علماء الأزهر الأجلاء و هو الشيخ شمس الدين الذهبي، ومفادها أن كل طرح جديد يجب أن يأتي إما بإبداع ، أو استكمال لما لم ينته، أو توضيح، وتصحيح لخطأ، ويعتبره المؤلف مبدأ يجب أن يكون ديدن كل كاتب وميثاق كل مؤلف.

ومن هذا المنطلق يبدأ تناول الموضوع، مؤكدا على أصالة ما تقدمه أطروحته عن “مبادئ علم الأخلاق في القرآن”، حيث يعرض:

  • الوضع السابق للمسألة:

تطرق الباحثون الغربيون لهذا المبحث، ولكن لم يقدم أي منهم مبادئ الأخلاق العامة في الإسلام، أو صياغة قواعد ممارستها، فاقتصرت جهودهم على دراسة بعض آيات خاصة بالعبادة أو السلوك اعتراها بعض الأخطاء الجوهرية بسبب ترجمات غير دقيقة، أو لعدم الإلمام باللغة أو بالفكرة العامة عن الإسلام.

أما عن المكتبة العربية، فإنها لم تهتم بإبراز مبحث الأخلاق في الإسلام إلا على طريقة أفلاطون والفلاسفة اليونان : الخير والشر ، القبح والجمال. أو أنها قدمت وجهات نظر المؤلفين عن الإسلام ككل، غير مرتكزة على الآيات القرآنية المتعلقة بالأخلاق.

فظهرت بعض المؤلفات التي لم تستوف جميع الجوانب: سواء من حيث عدد الآيات، أو من حيث مباحث الأخلاق، أو من حيث المنهج المتبع.

  • تقسيم الرسالة ومنهج البحث:

يوضح الكاتب أن قانون الأخلاق ينقسم إلى نظرية وتطبيق، ويعقد مقارنة بين الجانب التطبيقي في القرآن وبين فلسفة الحضارات القديمة.

ويبين أن آيات القرآن الكريم تناولت الجانب النظري بشكل كامل وواف من حيث صياغة المبادئ الأخلاقية. أما على الجانب التطبيقي فقد تميز القرآن بعرض حكمة الأولين، ليبني فوقها ويستكمل صرح الأخلاق الذي كان موجودا، مكونا بذلك وحدة مترابطة، ليتفرد بالجانب الإبداعي: هو استكمال ما قبله عن طريق (الجمع، والتوفيق، والإتمام).

أما المنهج الذي اتبعه الكاتب فيختلف عن الدراسات السابقة فهو يعتمد على :

– استخراج عدد من الآيات التي توضح مختلف قواعد السلوك مع تفادي التكرار،  

– عدم اتباع تسلسل سور القرآن الكريم، ولكن تناول الآيات وفقا للمسائل المطروحة، وتقسيمها داخليا إلى عناوين فرعية تجمع الآيات التي تتناول جانبا تطبيقيا معينا.

وهكذا يكون برنامجا كاملا للحياة العملية: كيف يكون تصرف المرء على المستوى الشخصي، أو العائلي،أو الإنساني عامة، ما هي علاقة الحاكم بالمحكوم، والدول بالشعوب، كيف يؤدي المؤمن شعائر العبادات… وكل ذلك بطريقة واضحة ومحددة.

         يشكل القرآن دوائر للأخلاق قد تتداخل ولكن يظل كل منها محتفظا بالوضوح ويتمايز عن غيره. قد يتساءل بعض الناس: لماذا لم يحدد القرآن كل المسائل مثل تلك المتعلقة بالحكم أو غيره، ينبه الكاتب بأن هناك حكمة في القرآن في المُبلَغ به والمسكوت عنه. غياب كيف، ولماذا، هي حكمة أرادها الله سبحانه وتعالى، فهي تخفيف عن المسلمين، وفسحة لهم لممارسة قدراتهم العقلية والبدنية والنفسية.

الأخلاق نظريا:

نلاحظ أن تناول الجانب النظري في القرآن الكريم يختلف عن تناول الفلاسفة لمبحث الأخلاق؛ من حيث طريقة العرض، ومن حيث المصادر، فمنهج الفلاسفة هو التفكير والتدرج للوصول إلى النتيجة، أما القرآن فمصدره الوحي الذي يغمر الروح بالحقائق دفعة واحدة.

أما من حيث المقاصد والغايات فيقتربان: فهما يبحثان في مسألة الوجود، وتحديد كيفية تحقيق السعادة.

والتقارب الأكثر وضوحا هو دعوة القرآن المستمرة لإعمال العقل، والتفكر والتأمل والتدبر، والبرهنة على ما يقدمه، وقدرته على الإقناع والتأثير، فهو لا يشجع على التفكير الفلسفي فحسب، بل إنه يمد الفلاسفة بالبراهين ومباحث التفكير. ويضم القرآن أيضا جوهر ما تبحث فيه الفلسفة الدينية وهو منشأ الإنسان ومصيره، ونشأة العالم، والمبادئ العامة، والأسباب والغايات، ومفاهيم مثل الروح والرب… إلخ

يرسي القرآن بالفعل أسسًا نظرية للأخلاق، ويجيب عن مفهوم الواجب في القرآن وأنه أصل في نفس الإنسان التي تميز بين الحق والباطل، وأن العقل والوحي طريقان لهدف واحد. وبالتالي فإن مواصفات قانون الواجب وحدوده وشروطه عالمية، ومسؤلية الإنسان إذًا هي البحث عن الفضيلة وتحقيقها.

الدراسة المقارنة:

يعقد الكاتب مقارنة بين مبادئ الأخلاق في القرآن مع المدارس الفكرية في الإسلام، وكذلك مع النظريات الغربية المعاصرة، بعيدا عن الانحياز، معتمدا فقط على حسن الإدراك وتقديم الأدلة.

وهكذا ينتهي د. عبد الله دراز من المقدمة، ليشرع في أول فصول الرسالة بعنوان:

نظرية الأخلاق كما يقدمها القرآن، مقارنة بالنظريات القديمة والمعاصرة.

الفصل الأول : مبدأ التكليف (الإلزام)

الإلزام هو حجر الأساس في أي منظومة أخلاقية، ومن ثم يرفض الكاتب كل منظومة تساوي بين الواجب والأحساس بالجمال. ويلفت إلى أن القرآن الكريم ميز في التعبير اللفظي بين كل من: أمر، ومكتوب، وفرض.

يبدأ الكاتب بعقد مقارنة عن:

1- مصادر الإلزام: أولها نظرية برجسون، حيث يرجعها إلى: 1- الضغط الاجتماعي: وهو تلبية الأدوار الاجتماعية، على غرار النظام المتبع داخل خلية النحل: أو بمعنى آخر التقيد بالواجب الاجتماعي.

 2- الانجذاب الإنساني الطبيعي للصواب: وهو تطلع النفس إلى المثالية، وقيادة المجتمع لذلك بدلا من الانسياق وراءه.

ثم يفند الكاتب هذه النظرية حيث يرى تناقضا جليا فيها؛ حيث إن الواجب المدفوع بالإكراه يفقد كونه مبدأ أخلاقيا، ينبع من النفس التي تتمتع بالحرية والاختيار. وعلى الطرف الآخر يذكر تأكيد القرآن على تحرير النفس البشرية بعدم اتباع الهوى، وعدم اتباع السلف.

         ثم يعرض نظرية كانط، ويعتقد الكاتب أن هناك ثمة مقاربة بينها وبين ما يرسيه القرآن من قواعد للأخلاق. فوفقا لهذه النظرية العقل هو الأساس في التمييز بين الصواب والخطأ، كذلك في القرآن فإن سنة الله في عباده هي إلهام العقل التمييز بين الخير والشر: “فألهمها فجورها وتقواها”، “وهديناه النجدين”، ويهتم القرآن كثيرا بالملكات الفكرية، والمشاعر السامية النبيلة، ويستحثها للتحرك تحت إمرة العقل.

         ثم يأتي لعرض نظريات علماء الكلام من معتزلة وأشاعرة وغيرهم؛ فقد اختلفوا حول مدى الاحتكام إلى العقل الإنساني وحده، ومناط الفكر، فمنهم من قال بقدرته على التمييز في كل المسائل، ومنهم من نفى عنه كل قدرة. وبين أولئك وهؤلاء، يبقى السؤال: هل من مجال أو أكثر لا يمكننا فيه الاعتماد على العقل البشري؟ في رأي الكاتب أن أول هذه المجالات هي العبادات؛ فيجب تحديد شعائرها عن طريق الخالق عز وجل. ولكن عندما تتعارض القناعات بين الناس، فيكون عقل في مواجهة عقل، وحجة مقابل حجة، فما هو الجدير بالاحتكام إليه؟ يجيب بأن الحكمة الإلهية، والقانون الإلهي، والوحي الإلهي، هي محددات التفكير الإنساني، وموجهات تصرفاته، وتوجهاته، ومكملات ما لايمكن للعقل تصوره أو بلوغه. فهل يعني ذلك اننا بصدد مصدرين للالتزام الخلقي: الوحي والعقل؟ على حد قول الكاتب، كلا، فهما طبقتين لنفس المصدر؛ فالعقل هو ما يرشدنا للنور الإلهي.

         ويأتي المؤلف لمصادر التشريع الإسلامي، وهي أربعة كما يعرضها بعض المفكرين: القرآن، السنة، الإجماع، والقياس … ويتساءل الكاتب هل يمكن أن يكون هناك رأي آخر؟ ليجيب على هذا التساؤل يبدأ بعرض هذه المصادر:

         أولا : القرآن الكريم : هو كلام الله عز وجل، وهو الوحي المبلغ على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو مصدر التكليف ( الإلزام) الذي لا جدال عليه.

         ثانيا: السنة النبوية: وهي مجموع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته، وفيها تفسير وتفصيل وتوضيح لأحكام القرآن الكريم. وفي أكثر من موضع يأمر الله المؤمنين باتباع النبي وطاعته، لأن ذلك من طاعة الله.

         ثالثا: الإجماع: يؤكد الكاتب في هذا الصدد على اكثر من نقطة : أولا من يطلق عليهم صفة العلماء يجب أن يتوافر فيهم شروط أساسية. أما النقطة الثانية : فهي أن الأوامر القطعية في القرآن، لا مجال للإجماع فيها، ولكن دوره في المسائل المستجدة : أخلاقيا، أو قانونيا، أو توضيح حالات خاصة في العبادات. وأخيرا النقطة الثالثة: وهي عدم اشتراط اجتماع العلماء لمناقشة مسألة ما، ولا يشترط انتخابهم أو تعيينهم، بل تعرض عليهم كل على حدة بعيدا عن أي تأثير، وما يستقر عليه رأي الأكثرية منهم يعتبر هوالأرجح وهو الإجماع، شريطة أن يكون واضح الحجة، وثابت المرجعية في نصوص القرآن والسنة.

 وأخيرا: القياس: اختلفت المصادر الفقهية في اعتبار القياس مصدرا للتشريع، فاكتفت الظاهرية والتفسيرية بالمصادر الثلاثة السابقة، بينما اعتمده غيرهم من المدارس أسوة بالسلف والتابعين. والقياس هو اعتبار مسألة ما نموذجا، يقيسون عليها المسألة موضع البحث، على أن تستمد بالضرورة من القرآن والسنة والإجماع.

         ويجيب الكاتب على التساؤل الذي طرحه، أنه بإمعان النظر في مصادر التشريع الإسلامي، ، نتبين أنها تنهل كلها من معين واحد، ألا وهو القرآن الكريم.

         ويعود إلى مصدر الإلزام الأخلاقي في القرآن الكريم، ويلفت إلى روعة البيان القرآني في توضيح السبب وراء كل أمر إلزامي. ويعدد الأمثلة المؤيدة لرأيه، نذكر إحداها في آية الدين، من سورة البقرة، حيث يذكر الله تبارك وتعالى العلة من هذا الأمر الإلهي المنظم لشئون دنوية، وسبب الحض على تدوين الدين وهو : “ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا”. ويخلص إلى أن الإلزام في القرآن ينبع من إحالة القرآن إلى جوهر الفعل الأخلاقي، وقيمته الذاتية.

2- خصائص الإلزام الأخلاقي:

تتميز القوانين بطبيعتها الإلزامية، ومساواة الجميع أمام القانون، وإمكانية تطبيقها في كل الظروف. وهكذا هو قانون الإلزام الأخلاقي في القرآن فهو عام وعالمي وإلزامي.

بالفعل، تتوجه جل الأوامر في القرآن إلى عموم الناس، بصيغ مختلفة، منها على سبيل المثال : “يا أيها الناس”، “ليكون للعالمين نذيرا”. وصفة العموم لا تعني فقط شموله لكل فرد في كل مكان أو زمان، ولكن أيضا إمكانية تنفيذه في مختلف الظروف، أو ظروف مشابهة تنطبق على الجميع.

واتباعا لمنهجه في الرسالة، يبدأ الكاتب بتفنيد نظرية غربية في المقابل، وهي نظرية كانط عن الواجب. ويوضح وجهة نظره اختلافا أو اتفاقا معها. ويفرق في هذا السياق بين مفهومين: الضرورة المنطقية والضرورة الأخلاقية، فالأولى هي التوافق بين أجزاء الفكرة الواحدة، أما الثانية فهي تطور الفكرة لتصل إلى تحققها في الواقع.

ويوضح أن قانون الواجب عند كانط يتميز بأنه مبني على: 1- مبدأ الحرية، 2- إعمال العقل، 3- القيمة الداخلية للفعل. أما ما يميز قانون الإلزام في القرآن، فهو أخذه في الاعتبار بـ: 1- الطبيعة البشرية، 2- الواقع الفعلي للحياة، 3- درجات تحقق الفعل.

خصائص الإلزام في القرآن الكريم:

إمكانية الاضطلاع بالتكليف :

أولا: عدم الاستطاعة يُسقط التكليف.

ثانيا: كل ما يجول بالخاطر، أو يخالط النفس من أفكار، لا يقع في نطاق التكليف أو الإلزام، حيث لاطاقة لبشر بما تحدثه به نفسه، فهو محاسب على ما يصدر منه بالفعل من أفعال أو أقوال. وفي هذا الصدد يتناول المؤلف بالتفنيد بعض آراء المتحدثين من الأشاعرة والمعتزلة، في القول بالحرية والتكليف ( أو التخيير والتسيير).

ثالثا: اللطف في التكليف، بعد استبعاد كل ما لا يمكن إطاقته، مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما يمكن القول أن الأديان جميعا، بل قل المنطق البشري اتفق عليه، يأتي دور اللطف في التكليف، وهو ما صاغه البيان القرآني في عدة آيات منها : “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”، “يريد الله أن يخفف عنكم”. ويوضح المؤلف أن هذا اللطف ليس خاصا بالمسلمين فقط، وإنما “الإصر” الذي كان على من قبلهم كان بسبب ظلمهم، أو أنهم حرَّموا أشياء على أنفسهم فشقوا عليها، وإنما جاء الإسلام ليرفع هذه المشقة، ويقر الرحمة في تعاليمه.

وهناك مظهر آخر من مظاهر التيسير، وهي تخفيف التكاليف إذا طرأت ظروف تعيق تنفيذها؛ فبعض الأحيان يكون هناك نسخ للأمر، أو تخفيف، أو تأجيل، أو إلغاء، إنه اللطف والرحمة في شرع الله.

ومن مظاهر اللطف كذلك، التدرج في تحريم ما كان سائدا قبل الإسلام. مثل تحريم الخمر، فقد ذُكر في أربع مواضع فقط، الثلاثة الأولى على سبيل الكراهة لإعداد النفوس لتقبل التحريم الذي لم يذكر إلا في الموضع الرابع والأخير.

حكمة إلهية أخرى في التكاليف، ومظهر من مظاهر التخفيف، وهو عدم فرضها جملة واحدة، وإنما تهيئة نفوس المؤمنين لتقبلها، حيث كانت المرحلة المكية لترسيخ العقيدة، ثم تلتها المرحلة المدنية التي شهدت نزول الوحي بالتكاليف، واحدا تلو الآخر، حتى لا يكون هناك مشقة على النفوس.

  • تحديد الواجبات وتباين طبقاتها (وهيكلتها):

ليس هناك اتفاق، بالطبع، بين البشر، على حدود الواجب أو قدر الالتزام به. لذلك فالشرع الإسلامي يضع لكل فعل محدد درجتين من الخيرية: الأول هو الواجب الذي لا يمكن التفريط فيه (لنقل الفرض)، والثاني هو الخير الموصى به، وهو (الفضل) الذي لا يجاوز الطاقة، أي بلا إفراط. وللتوضيح يورد مثال العبادات؛ فهناك أساسيات لا يمكن تركها، وهي الفروض: (الصلوات الخمس، الزكاة، صوم رمضان،..)، وهناك الفضل، وهي النوافل: (السنن الرواتب، الصدقات، صوم التطوع،…)، وهو مقام الإحسان. وعلى الطرف الآخر، فيما يخص النواهي، تقسم بدورها لدرجات: من التحريم، إلى الكراهة. وبينهما درجتان لغير المنهي عنه، وهما: الجائز، والمباح. جدير بالذكر أن المباحات لا تأتي لنقض الفرض، ولكنها تخفيف لشروط تنفيذه، مراعاة لظروف قد تطرأ على الإنسان، بغية إبعاد المشقة عنه.

فهل يمكن لعقل بشري مهما بلغت رجاحته ودقته، تحديد مثل كل هذه الطبقات من المفاهيم؟ 

          تقابل بعض المعاني داخل مبدأ الإلزام على المستوى التطبيقي:

  • الوحدة والتعدد:

هذا المفهوم يعبر عن صعوبة الجمع بين وحدة القانون وتنوع الطبيعة التي يطبق من خلالها، وبين الحفاظ على بساطة القاعدة، وتعقيدات تطبيقاتها في الحياة…إلخ.

  • السلطة والحرية:

إن مصطلح التكليف يقتضي بالضرورة وجود سلطة تصدر هذا التكليف، ووجود حرية يتم تقليصها، فما هي سطوة التكاليف إزاء الحريات؟ هل هي سلطة إجبار، فلا وجود لقيمة الضمير؟ أم حرية مطلقة مرجعها التقييم الشخصي لكل فرد عن جدوى التكليف؟ للإجابة عن هذه الإشكالية ، يعرض المؤلف باستفاضة، متبعا المنهج الذي أوضحه، مقارنة بين آراء الفلاسفة “كانط” و”روه”، من ناحية، وبين المنظور القرآني، مبينا حدود الحرية، ومناط التكليف.

خاتمة الفصل الأول:

بعد تفنيد آراء الفلاسفة، كانط، و”روه”، وغيرهم في عدم الاعتماد على القوانين المطلقة من أجل تحديد المبادئ الأخلاقية للإنسانية كافة، يقدم د. عبد الله دراز، توضيحا للقوانين الربانية في القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بإيجاز: أن المشرِّع عز وجل، قد وضع قوانين عامة على المؤمن اتباعها، واجتناب نواهيها، وفقا لضميره الذي اودعه الله إياه، وبما يتناسب مع معطيات ظروفه الخاصة، قدر اجتهاده، وقدر تقواه،وقدر إطاقته، بقول آخر : إعمال الحرية الفردية في إطار يقينه بمراقبة الله له في جميع أحواله، وإطلاعه سبحانه على ما تخفي الصدور.

نلفت إلى تشبيه موفق من الكاتب، ساعد كثيرا في تقريب فكرته عن السلطة والحرية، وهي طرح مثال لعبة الشطرنج؛ حيث تحكمها قوانين محددة يعرفها كل اللاعبين ويلتزمون بها، بينما يحتفظون بحرية اختياراتهم في تحريك ما يشاؤن من قطع اللعبة. هي إذًا، حرية الحركة ضمن قوانين محددة، تهيئة للوصول إلى الهدف. 

بينما نلاحظ أن استعمال لفظ [1]“Mahométisme”، بدا متأثرا بكتابات المستشرقين ، والأحرى استعمال كلمة الإسلام، أو تعاليم نبي الإسلام. ولكننا قد نرجع السبب إلى أن هذا اللفظ كان شائعا قديما في الكتابات الغربية، وإلى الآن في المعاجم الأوروبية. ويقع على عاتق الباحثين المعاصرين تصحيحه، وكذا تصحيح كتابة اسم النبي صلى الله عليه وسلم Mohammad .

الفصل الثاني: مبدأ المسئولية

يستتبع مفهوم التكليف مفهومان أساسيان هما المسئولية والجزاء.

  • تحليل الفكرة العامة للمسئولية:

هناك ثلاث مجالات للمسئولية، وهي: المسئولية الدينية، والاجتماعية، والأخلاقية. وهناك وجهة نظر ترى بأن الأنواع الثلاثة مرجعها المسئولية الأخلاقية وجوهرها الضمير؛ حيث يحيل القرآن في غير موضع إلى الضمير كونه الوازع في السلوك : “لا تخونوا الله وتخونوا أماناتكم “. ووجهة نظر أخرى ترجع الأنواع الثلاثة إلى المسئولية الدينية، حيث إن الإيمان بوجود الله، يستتبع اليقين باستحقاقه سبحانه بالعبادة، وبالطاعة فيما أمر بالالتزام بأي مسئولية.

  • شروط المسئولية الأخلاقية والدينية:

أ- المسئولية الفردية: يبرهن الكاتب على أن آيات القرآن تؤكد على مسئولية كل فرد عن أفعاله :” وأن ليس للإنسان إلا ما سعى”. إلا في موقفين: موقف في الشر : المضل يتحمل مسئولية من تسبب في إضلالهم مع عدم نقصانهم من ذنوبهم شيئ، وفي الخير : الآباء الصالحون تتبعهم ذريتهم، شرط صلاح الذرية. وهذا لا يتعارض مع المسئولية الفردية عن العمل.

ويتعرض الكاتب لفكرة الشفاعة وعلاقتها بالمسئولية الفردية: فيتساءل هل تغير الشفاعة مصير الفرد وتورثه جزاء لا يستحقه؟ ويجيب معضدا رأيه بالآيات في الهامش مفادها أن الشفعاء هي مرتبة يوليها الله عز وجل لمن يشاء، والشفيع يشفع لمن يرضى الله عنهم، وأنه في النهاية بمثابة شاهد نفي، أو محام دفاع يذكر مآثر المشفوع له علانية يوم القيامة. ويؤكد على أن الشفاعة لاتنفع من لا يستحق، حتى لو كانت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ويذكر الحديث: “… إنك لا تعلم ما أحدثوا بعدك، فيقول: سحقا سحقا.”.

ب- العلم شرط أساسي لجزاء عادل: الشرط الثاني من وجهة نظر الكاتب، هو ضرورة معرفة عواقب الفعل. وهناك مصدران معرفيان لعواقب الفعل : داخليا: الضمير والعقل والقلب، وخارجيا: ما يبلغنا به ربنا تبارك وتعالى على ألسنة رسله، “حتى يبين لهم ما يتقون”. ومن عدل الله سبحانه وتعالى انه لا يحاسب الناس إلا عما عملوا بعدما علموا.

وينتقل إلى نوع هذا العلم : هل هو علم جمعي أم فردي؟ ويعرض مختلف آراء الفقهاء في هذه المسألة.

ويحدد المستثنون من المسئولية، إما كليا أو لظروف قد تطرأ عليهم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “رفع القلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى (المجنون) حتى يشفى، وعن الصبي حتى يكبر.”

ويلفت إلى نقطة هامة في أمر الصبي، أن ذكره في هذا الموضع هو من باب عدم المشقة عليه، وأن الإسلام قد عُني بحقوق الطفل، ومكانته والاهتمام به. وأولى اهتماما خاصا لتهيئته لتحمل المسئولية وكأنه تدريب متدرج : 1- آداب الاستئذان في المنزل. 2- تعلم الصلاة تدريجيا؛ من عمر سبع سنوات، ثم العقاب عليها في عمر عشر سنوات وهو ما قبل عمر التكليف، ليحاسبه الله عليها بوصوله سن البلوغ. 3- تعليم الآداب العامة، وذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم سبطه الحسن طفلا بعدم أخذ تمرة من الصدقات لأنها لا تحل لآل البيت.

جـ – عنصر لصيق الصلة بالمسئولية وهو الإرادة :

فالأعمال غير الإرادية (عن طريق الخطا) لا تدخل في نطاق المسئولية؛ فالفعل مناط المسئولية هو ما كان مقصودا بالنية وبالمعرفة وبالإرادة، ويستشهد بالآية الكريمة : “وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم” (33،5). ويميز بين درجات يقع فيها نفس الفعل ولكن تختلف درجة النية أو المعرفة الأكيدة، وتنقسم إلى: عمد بشبهة، عمد بتأويل، عمد بغير شبهة، تأويل قريب، تأويل بعيد. ويتناول بالمقارنة نظرية كانط عن الواجب من حيث نقاط التشابه والاختلاف.

د- الحرية :

         يطرح تساؤل: إذا توافرت للفعل شروط المعرفة بالقانون، والقصد، ومعرفة السبب، ولكن هذا الفعل جاء نتيجة لظروف ما، فهل يتوفر له عنصر الحرية؟

يعرض لآراء عديد من الفلاسفة الغربيين من الحتمية إلى الحرية التامة، ويفند هذه النظريات، ومنهم شوبنهاور، وسبينوزا، وكانط، وهيوم، وديكارت، ومدارس الفكر الإسلامي. ويوضح نقطة هامة، وهي أن الاختيار الذي يقصده هو ما يكون إيجابيا وسلبيا في ذات الوقت، أي اختيار فعل بعينه ورفض غيره، و أن يكون نابعا من اختيار مستقل غير تابع للظروف، وغير متأثر بضغط. ويتوسع في طرح فرضيات فلسفية، وآراء شتى مدارس الفكر، والفلاسفة على اختلاف توجهاتهم. ومن هذه المسائل : حرية الإرادة، حرية الاختيار، وطبيعة الانسان، من خلال أمثلة عديدة لتوضيح فكرته، ليصل أخيرا إلى أسس مبدأ الحرية في القرآن الكريم:

  • عدم التنبؤ بأفعالنا المستقبلية “وما تدري نفس ماذا تكسب غدا”
  • قدرة الإنسان على الارتقاء بنفسه أخلاقيا أو الانتكاس بها : ” قد أفلح من زكاها وقد خاب من زكاها”.
  • عدم قدرة أي مؤثر خارجي على ممارسة قوة الإجبار على قراراتنا : “وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي”.
  • التنديد الشديد لأي فعل يصدر تأثرا باتباع الهوى أو التقليد: “إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون”.
  • الرحمة الواسعة في حالة القهر الفعلي كالتعرض لتهديد الحياة من العدو، أو من الطبيعة الخارجية كالمجاعات، أو حتى إكراه الإماء على البغاء إن هن أردن تعففا. ويفسر بالتفصيل أسباب الرحمة الإلهية في حال الإجبار الخارجي، والمراقبة الدقيقة للنية من وراء العمل، والتي هي مناط المسئولية : “إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان”.

ثم يتعرض لمفهوم الرُخَص التي أقرها الله للإنسان في ظروف محددة.

بعد ان أثبت حرية الإرادة البشرية، ينتقل إلى مفهوم القدر وكيفية تناوله في الفلسفات المختلفة، ويشير إلى مؤلفه الصادر باللغة العربية بعنوان: “المختار” الذي يناقش فيه هذا المفهوم بالتفصيل. ويعرض آراء المعتزلة والجبرية والقدرية، ثم آراء المذاهب السنية في الجمع بين المشيئة الإلهية والإرادة البشرية، وأيهما أسبق، والجدل بين هذه المدارس وتلك، ويورد في النهاية رأيه، مبنيا على نصوص آيات القرآن الكريم، وتفسيرها : فالقدر ليس الإجبار كما يتصوره بعض المفكرين، ولكنه ببساطة في تفسيره، هو سبق العلم الإهي.

ثالثا: المسئولية الاجتماعية:

يعرض الفلسفة الرومانية اليونانية، ثم المفهوم في اليهودية والمسيحية، ونظرية فوكونيه وعيوبها. ثم يأتي للمفهوم الإسلامي، حيث يبين أن شروط المسئولية تتغير عندما تتعلق بأفراد المجتمع، ويبين الفرق بين المسئوليات الأخلاقية، والجنائية، والمدنية. ويوضح نقطة إيجابية في المسئولية عن الخطأ، فالإنسان المسلم البالغ العاقل، مسئول ماديا عما يتسبب فيه من إتلاف للمتلكات غيره عن طريق الخطأ، ولا يعاقب عليها جنائيا إلا إذا كان قصدا عمدا.

الخاتمة: العدل في تكليف المسئولية مرده إلى أنها تقع على المسلم، البالغ، العاقل، المطلع على التكاليف ومايترتب عليها من جزاء، وعلى دراية بها وقت وقوع الفعل. فهو مسئول عن أفعاله التي يأتيها بإرادته الحرة؛ مسئولية فردية، بعيدا عن تحمل تبعات من سبق، أو أي قرار جماعي. وكذلك المسئولية القانونية هي رهن بإرادة الإنسان الحر الواعي.

الفصل الثالث: مبدأ الجزاء

يعرفه الكاتب بأنه رد الفعل القانوني إزاء الأفراد المكلفين، المسئولين.

  • الجزاء الأخلاقي:

يجب أن يكون الجزاء معروفا مسبقا وواضحا ومحددا تجاه كل مخالفة لأمر محدد، وإلا فقد التكليف فحواه.   

أول مظاهر الجزاء الأخلاقي هو الندم، الذي يعقبه توبة. ومن شروط التوبة عدم التسويف، ثم يليها فعلين إجابيين وهما إصلاح ما وقع في الماضي، والإحسان في الأفعال المقبلة.

وفي حالة عدم التمكن من إصلاح ما فات، فعلى الأقل يمكن محو آثاره بفعل الأعمال الصالحة، لقوله تعالى : “إن الحسنات يذهبن السيئات”. وهذا في حال الذنوب في حق الله.

أما عن الذنوب في حق العباد، فتستوجب التوبة، والتحلل من هذا الذنب من صاحب الحق (سواء الذنوب الصغيرة أو الكبيرة: بداية من الوشاية إلى القتل). وإن لم يتم هذا في الدنيا، فيؤخذ من حسنات مقترف الذنب يوم القيامة، أو يضاف إليه من أوزار صاحب الحق.

  • الجزاء القانوني:

يضع الإسلام عقوبات محددة لعدد من المخالفات وتسمى الحدود، أما باقي المخالفات فتقع في مجال التعزيرات. ويلفت لنقطة هامة في هذا الصدد، حيث يوضح عمق فلسفة تطبيق الحدود. فالبرغم من ادعاءات بعض الأصوات بأن تطبيق الحدود تنطوي على افتقاد الرحمة، إلا إنه يؤكد على أن تطبيقها هو أمان ورحمة للمجتمع كافة. ويذكر قاعدة: كلما كان العقاب على الذنب رادعا، كلما قلت فرص وقوعه، ومن ثم تقلص تطبيق الحد.

كما يعدد الشروط المفروض توافرها في الظروف الموجبة لتطبيق الحد، ممل يقلل من فرص تطبيقه (ويذكر على  سبيل المثال ضرورة توافر أربعة شهود في واقعة الزنا، وهو ما لا يتوقع توافره، وإنزال العقوبة على من يتهم المحصنات هو نفسه بالجلد إن لم يأت بالشهود، وحتى في حالات اعتراف أحدهم على نفسه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي قد اعطاه أكثر من فرصة للتراجع، وأثبت قاعدة أن الستر أولى.)

أما ما عدا المخالفات الموجبة للحدود، فكل مخالفة لقانون الأخلاق أو القانون الاجتماعي ترجع إلى تقدير القاضي لتحديد العقوبة وهي ما تعرف بالتعزيرات.

  • أسلوب الدعوة في القرآن، وموقع الجزاء الإلهي:

يبدأ الكاتب بعرض فكرة يتناولها المستشرقون، مفادها أن رسالة الإسلام اجتمع حولها الكثير من الأتباع، نظرا لما وعدتهم به من جنات، وأنهار، وهو ما يخالف طبيعتهم الصحراوية الجافة، فكانت حافزا لهم لاعتناقها لنوال هذا الجزاء. وينتقد هذه النظرية موضحا أن رسالة الأنبياء السابقين كان فيها وعد بنفس الجزاء لأتباعها وإن اختلفت أماكن وظروف عيشهم.

أما عن الدعوة في القرآن الكريم، فبالرغم من أن الإيمان بالله يقتضي التسليم بكل ما أمر، إلا أن الإقناع بالحجة هي الطريقة المتبعة، وذلك عن طريق:

  • التعليل الداخلي:

البرهنة الداخلية هي إرجاع السبب في فرض أمر معين إلى قيمة أخلاقية إيجابية لصيقة بهذا الأمر، أو صفة مذمومة تفسر النهي عن فعل بعينه، أو قيمة مطلقة مثل الصواب والخطأ، أو العدل والظلم، أو قيمة خاصة بالفرد مثل البصيرة أو عدم وجودها، أو نقاء القلب أو عدمه.

  • اعتبار الظروف المحيطة:

هي نظرة الأخرين لنا وتقديرهم لتصرفاتنا، هذا في إطار المجتمع. ولكن إن أمن المرء الاطلاع على سره، وكان الإغواء بالذنب كبيرا، والوقوع فيه وشيكا، فما الذي يمنع الإنسان من اقترافه؟ في هذه الظروف يلفت القرآن في آياته إلى اطلاع الله عز وجل: “الذي يعلم السر وأخفى” ، “ونحن أقرب إليه من حبل الوريد”. دون الإشارة إلى الحديث عن الجنة والنار.

وينقسم أسلوب الدعوة إلى أربعة أنواع تتناسب مع طبيعة شخصيات البشر:

النوع الأول: هو الشخص المتقبل لأوامر الله، ويناسبه ذكر فضل الله ورحمته، وموافقة هذه الإرادة الطائعة لأوامر خالقها.

النوع الثاني: وهو المتبع للقوانين، مع احتمال الوقوع في الخطأ، ويناسبه التذكير بأن الله محيط بأفعاله، يراه حيث كان،  وأن الأمر المذكور هو من باب الواجب.

النوع الثالث: متقبل لسماع الأوامر، ولكنه يتأثر بالظروف المحيطة به التي قد تدفعه لترك أمر الله، ويناسبه أسلوب حض أكثر حزما: وجوب القيام بالفعل مع التحذير من تركه، وكأنما هناك احتمال مسبق بمجاوزة الأمر.

النوع الرابع والأخير: هو الرافض للأوامر، وهم الكافرون، الذين يرفضون القانون جملة وتفصيلا، ويناسبهم أسلوب وعظ يبرز قبح وفداحة ما يقترفون من ذنوب.

جـ – اعتبار العواقب:

العواقب الطبيعية: بالنسبة للعواقب المباشرة لتأدية الأمر أو تركه، مثل أثرها في الصحة أو المرض أو غير ذلك من الأمور المادية، فذكرها قليل. أما العواقب المعنوية، فجاءت على المستويين الفردي والاجتماعي. ومن الطرق المتبعة في الإقناع هي تقدير الطبيعة البشرية وميولها وضعفها، مع تقديم المقابل في حالة طاعة أوامر الله.

العواقب غير الطبيعية: أو الجزاء الإلهي، يعرض الكاتب الآراء المختلفة للفلاسفة والمفكرين، ليصل إلى عرض تناول القرآن الكريم لهذه الفكرة. فمن عدل الله عز وجل ألا يكون المسلمون والمجرمون متساوين في الجزاء، سواء في الدنيا أو في الآخرة، وهنا يبدأ في تفصيل الجزاء الإلهي:

طبيعة الجزاء وأشكاله: بينما تبشر التوراة بالجزاء المادي في الدنيا فقط، ويبشر الإنجيل أتباعه بانتظار الجزاء في الآخرة فقط، يجمع القرآن بين الجزاء الدنيوي والأخروي.

أ – الجانب المادي: يذكر هذا الجانب بشكل قليل ولكن بشكل جامع بفضل بلاغة الأسلوب القرآني : “ومن يتق الله يجعل له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب“.

أما العقاب الإلهي المباشر لمن يخالف أمر الله، فمنها أمثلة فردية مثل صاحب الجنتين، أو أصحاب الجنة، ومنها عقاب جماعي لأمم بأسرها مثل أقوام عاد و ثمود.

ب – الجانب الحياتي : يطمئن الله المؤمنين بولايته وهدايته في الحياة الدنيا، وعلى الجانب الآخر يتوعد الكافرين بالخزي في الدنيا والآخرة. ولكن يبقى هناك عنصر أو شرط هو التزام المؤمنين بشرع الله وأوامره، فإن تخلوا عنه أوكلهم لأنفسهم. أما الطرف الآخر، وهم الكافرون، فبالرغم من استحقاقهم للعذاب في الآخرة لكفرهم بالله، إلا أنه، ومن عدل الله في الأرض، فإنه يجعل الغلبة في جانبهم إن التزموا جادة الأخلاق والعدل. 

جـ- الجانب الفكري والأخلاقي: وهو الجانب الثالث من الجزاء الإلهي، والمتعلق بالهداية العقلية أو القلبية: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”. أما من يتبع هواه ضد القانون وضد العقيدة فإن الله يورثه قسوة في قلبه وضلالا في أفكاره ، وكذلك حال من يزيغ عن الهدى بعد أن هداه الله إليه.

د- الجانب الروحي: وهو الفوز بحب الله سبحانه وتعالى ورضاه، بفضل من لدنه عز وجل، وبالأعمال الصالحة، ذكرت الآيات أن الله يحب (المحسنين، المقسطين، الصابرين، المتقين، التوابين، المتطهرين). فمن يعظم أوامر الله في قلبه فإن الله يرفعه في مقام رضاه وحبه. وفي المقابل من يستهن بأوامره عز وجل، فإنه يستنزل سخط الله عليه، وإبعاده عن رضاه، ذكرت الآيات أن الله لا يحب: (المفسدين، الفساد).

         الجزاء الإلهي في الحياة الآخرة: يقسم الكاتب الآيات التي تناولت ذكر الجزاء الأخروي إلى مجموعات:

  • آيات ذكرت الاسم المطلق للجزاء دون توصيف: جنة أو نار.
  • آيات لم يذكر فيها الاسم مطلقا، ولكن كناية عن ما ينتظر كلا الفريقين (فوز، بشرى)، أو (عذاب عظيم، ويل).

ج- آيات تضمنت وصف روحي و ظاهري بأسلوب الإثبات والنفي؛ في وصف نعيم الجنة: أسلوب إثبات: ذكر النعيم الذي أعده الله للمؤمنين، وأسلوب نفي: صرف العذاب عنهم، وكذلك في حال الكافرين، وصف بالإثبات: تعرضهم لشتى انواع العذاب، ووصف بالنفي: حجب أي متع من النعيم عنهم.

المرحلة الفاصلة بين الدنيا والآخرة : (البرزخ)

بداية من لحظة الموت يبدأ أول جزء من الجزاء؛ فالمؤمنون تتلقاهم الملائكة قابضة الأرواح بالبشرى، وأما الكافرون فيتوعدونهم بالعذاب. ثم يُعرض على كلا الفريقين مستقره النهائي، في أثناء وجوده في القبر.

     يعقد الدكتور عبد الله دراز في نهاية هذا الفصل مقارنة دقيقة بين الأوصاف التي ذكرت في نعيم الجنة مقابل ما ذكر من عذاب النار:

متعة روحية مقابل عذاب نفسي، نعيم حسي وصورة كاملة لحياة أهل الجنة في نعيم مقيم، في مقابل عذاب بدني وخزي نفسي لأهل النار، صورة حية أيضا لما يتعرضون له من صنوف العذاب.

وفي خاتمة هذا الفصل يعرض عدد الآيات المذكورة على كل محور مما تناوله في الفصل، مشيرا إلى أن هذه الأعداد تؤكد تنوع أساليب الدعوة عن طريق الحض على اتباع أوامر الله  سبحانه وتعالى بالإقناع تارة، وبالترغيب والتخويف تارة أخرى.

نلفت إلى ملاحظة، في آخر هذه الفصل، وقبل الخاتمة، يجمع د. دراز على هيئة فهرس، يحيل إليه خلال الفصل، الآيات الخاصة بكل محور من محاور الجزاء في النسق الأخلاقي، ويقسمها إلى عمود أ: سور مكية، وعمود ب: سور مدنية.

الفصل الرابع. مبدأ النية والدوافع

يبدأ موضحا بأن لكل فعل نية، ولهذه النية سبب أو دافع، وتتوجه لغاية أو مقصد.

أولا: النية أساس صحة الفعل: يجب توافر النية التي تتضمن المعرفة والإرادة، ويميز بين عدة حالات من خلال أمثلة متنوعة عن وجود النية قبل الفعل، أو تلك التي تصدر كرد فعل، أو استجابة لمؤثرات خارجية.

ثانيا : النية وطبيعة الفعل الأخلاقي:

يتساءل هل صلاح النية، وراء فعل سيء، يجازى الإنسان عليها، وتنفي عن الفعل صفة الفساد؟ وما نتيجة فساد النية في فعل مشروع؟ يؤكد أن صلاح النية لا يستقيم لتبرير الخطأ، كما إنه لا يصلح قول ولا عمل إلا بنية، “ولا يصلح قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة.”

ثالثا: سبق النية للعمل:

يقسم المؤلف الواجبات إلى نوعين: واجبات نحو ذواتنا (وهي علاقتنا بالله تعالى لأنها تنفع الإنسان نفسه، والله غني عنها)، وواجبات تجاه الآخرين. ولكن هذا لا يعني أن واجباتنا تجاه انفسنا هي أعمال قلبية فقط، أو مقتصرة على العبادات، ولكن هناك أعمال ظاهرة مأمورون بها منها حفظ النفس، وعدم التفريط أو التقتير في الإنفاق، ومن جهة أخرى علاقتنا بالآخرين لا تخلو من النوايا القلبية مثل بر الوالدين، وصلة الأرحام.

ويفرق بين مرحلتين لكل فعل؛ الأولى قرار (نية) للقيام بفعل موافق للشريعة، والثانية هي مرحلة تنفيذ هذا القرار. ويعود للتساؤل: هل تقيل النية عثرات الفعل؟ وللإجابة عليه يحيل إلى حديث، يصفه بالضعيف ولكنه يناسب المقام وهو: “نية المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته”، واعتمد فيه على تفسير الإمام الغزالي بأن كل عمل مجازى بباطنه: النية، وظاهره : الفعل نفسه.

رابعا: هل يمكن الاكتفاء بالنية؟

هل النية هي الإرادة؟ أم هي تذبذب، أو رغبة؟ أول الأحوال التي يسوقها هي وجود رغبة في القيام بالفعل الصواب، الموافق للواجب والقانون، ولكن الهوى يعارض هذه الرغبة. والحالة الثانية هي الفكرة السيئة التي تلوح للخاطر ولكن لا تغدو خاطرة لا يتبعها تنفيذ، فهذه لا تقع في نطاق الحساب.

إذًا هل تستوي النية عند وقوع الفعل أو عدم وقوعه؟ يجيب أن الوضعين لا يستويان، ويوضح بالأمثلة أن هناك درجات مختلفة.

دوافع الفعل:

يعتبر المؤلف أن الدافع هو نية ثانية للفعل،ـ هي النية غير المباشرة، ويناقش: أ- دورها وطبيعتها: هي التي تحدد الهدف الذي من أجله يقوم الإنسان بالفعل. وينطلق المؤلف من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : “إنما الأعمال بالنيات، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.” ففي نهاية الحديث يذكر سبب الهجرة، فالفعل واحد ولكن النية غير المباشرة أو الهدف هو الذي يتغير. ويصل الكاتب في تحليله أن القصد أو الدافع قد يتعذر حتى على الشخص نفسه تبين النية فيه، ويقول الغزالي إن هذه النية أو الميل طبيعي في كل إنسان، ولا يملك عليه سلطانا. ويقيس هذه النية العميقة بالنسبة للمبادئ العقلية والدينية.

ثم ينتقل إلى:

ب- تصنيف الدوافع: يبدأ بتقديم تعريف للنية الطيبة: وهي إنصراف الإرادة الطائعة، عن كل رغبة أو إجبار، من داخلها أو خارجها، لتتلقى الأمر من خالقها.

ثم يوضح أن النفس مجبولة على البحث عن رغد العيش، وأن هناك ستة أنواع من النفوس ولكل طريقتها في تلبية هذا المطلب:

  • اتباع الهوى، تحقيق رفاهية العيش بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة.
  • البعد عن مخالفة القانون بسبب القيود الخارجية (مع وجود سوء الطوية).
  • الامتناع عن الكسب غير المشروع، إنطلاقا من طبيعىة الشخص أو عدم تعوده عليه، دون أن يكون هناك انحياز أخلاقي لقيم الصواب أو الخير.
  • البحث عن رفاهية العيش بطرق مشروعة، بدافع طبيعة الفرد التي تطلع إلى الأفضل في نطاق غير المنهي عنه.
  • البحث عن رفاهية العيش بطرق مشروعة، مع وجود نية أو مقصد شرعي وراء العمل، مثل توفير حياة كريمة لمن يعول، أو كسب المال للتصدق على المحتاجين، أو لمقصد أبعد وهو تحمل الأمانة التي أوكلها الله عز وجل للإنسان، وإقامة الخلافة على الأرض.
  • الامتناع عن رغد العيش، زهدا في الدنيا، وعدم الانشغال بها، أو السعي من أجلها، ولكن الاستسلام التام لأمر الله، والانشغال بطاعته.

ثم يطرح تساؤل: لماذا ننفذ القوانين؟ هل هو اتباع للواجب فحسب ؟ أم طاعة لله عز وجل؟ وهنا يأتي تساؤل آخر: عن مراتب المؤمنين في الطاعة : طاعة إجلال لله؟ أم حب له؟ أم خشية من العذاب وطمعا في رحمته؟ هل هو تمسك بتنفيذ ما يتطلبه القانون؟ أم انصياع للأمر الرسمي، دون حتى التفكر وراء سببه؟

هذه المراتب النفسية للمؤمنين تعرض لها كل من “المكي”، و”الترمذي”، ولكن “الشاطبي” في كتابه “الموافقات”، كان له باع طويل في التدقيق حول مسألة : هل الواجب الذي نقوم به هو من أجل المقصد البعيد من ورائه؟ أم إنه من أجل طاعة الله وترك تحصيل الهدف على الله عز وجل؟ ويتبنى الشاطبي الموقفين ويبرهن على كل منهما. ثم يبدي عليه الكاتب بعض الملاحظات، قبل أن ينتقل إلى بيان مظهرين للنية الموضوعية: الأول: النية تقف عند حدود الأمر المجرد: طاعة لله تعالى، والثاني: هو محاولة البحث فيما وراء الأمر، أو فهم الحكمة أو القصد، مع الطاعة التامة. ويؤكد على أهمية سبق النية في الطاعة المطلقة، حيث إن أفعال الخير مثل العدل أو الصدقات، يمكن أن يقوم بها غير المسلمين التزاما بالواجب الإنساني، دون أن يكون ذلك طاعة لله، فهنا يفقد الفعل مقصده.

ومن ثم ينتقل إلى إشكالية النية الشخصية، أو المصلحة. ولها حالتين أيضا: إما أن تكون استجابة للقانون و للخير في حد ذاته، أو أنها استجابة لمصالحها. ومن هذه الثنائية تنتج ثلاثية التقسيم إلى : فعل محمود، فعل مذموم، وفعل مشروع، وثلاثية الفرض والنهي والمباحات.

جـ- النية المحايدة: هي التي لا تسعى لفعل مذموم، ولا ترقى لفعل مطلوب، ولكنها استجابة لمقتضيات الحياة، فهي على مستوى القيم الأخلاقية حيادية، لا تستتبع جزاء ولا عذاب. ويقدم حجة المتشددين، ورد المعتدلين حول هذا الخلاف؛ فالمتشددون يرون أن الإنسان خلق ليعبد الله ويطيعه، أما إذا اهتم بالمقاصد، فسوف يخالف ما خُلق من أجله. ويرد المعتدلون بأن السعي لتحقيق ما أمر الله به، مع طلب البحث عن المقصد، لا ينفي عنه الجزاء. يقارن الكاتب بين النظريتين، ويؤيد، في النهاية، نظرية المعتدلين.

دالنية السيئة:

هو الابتعاد الواعي وبإرادة حرة عن الطريق الذي حدده الله. وتنقسم النية السيئة بدورها إلى :

 1- نية الإيذاء: يقصد بها القبول بأوامر الله ظاهريا مع إضمار نية السوء، أو تحويل ما شرِّع الأمر من أجله (ويضرب مثالا الزواج: فبالرغم من حث الآيات كل من الزوجين على الحفاظ على هذا الميثاق الغليظ، إلا أنها تحذر الرجل من إصراره على استمرار الزواج وهو يضمر نية إيذاء الزوجة نفسيا أو ماديا). ويفرق بينها وبين النفاق.

2- نية التهرب من الواجب: وهي ليست إيذاء للآخرين، ولكن التحايل على القانون لكسب شخصي. وهو نوعان :الأول: الحفاظ على ما يمتلك بالفعل، النوع الثاني: السعي لكسب المزيد بشتى الطرق.

  • نية اكتساب نفع غير مشروع: وهي إظهار ما يوافق القانون، وإضمار ما يخالفه: مثل الغش في البيع.
  • نية الرياء: قصد إظهار العبادة (موافقة الأمر الإلهي)، شرط أن يراه الناس، بغية كسب مدحهم، وإعجابهم، وهذه النية تحبط العمل كما أوضحت الآيات في القرآن الكريم ، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
  • نقاء النية، واختلاط الدوافع: ويميز فيه بين أنواع كثيرة من الطاعة؛ ومنها التي يخالطها حب الظهور، أو التي تتأثر بمدح الناس بعد الاستجابة لأمر من أوامر الله بنية خالصة، ويبين الدرجات التي صنفها إياها الغزالي، وينبه إلى الخطر الذي نبه إليه الغزالي وهو الشرك الخفي.

وفي الخاتمة يقول إن الشرط الأول لكي يكون الفعل أخلاقيا هو أن يصدر من إرادة طائعة للقانون، وهذه الإرادة تنقسم إلى نية ودافع، ويلفت إلى أن القرآن الكريم قد أكد على ضرورة أن تكون هذه الإرادة الطائعة خالصة لوجه الله تعالى.

الفصل الخامس: مبدأ الجهد

يبين د.عبد الله دراز أن النية يتبعها الفعل، ويحتاج هذا الفعل إلى بذل جهد: ظاهري (السعي)، أو باطني (المجاهدة). ولكي يستحق أي منهما صفة الأخلاقي، فلابد أن يكون في اتجاه الفضيلة ووفق ما أمر الله تعالى به.

أولا: الجهد والتلقائية: قد يكون بذل الجهد من أجل الخير أو بذل التضحية، ميل طبيعي في الإنسان، لذلك فهذا الجهد لا يكون ذا طابع أخلاقي إلا إذا بُذل بقصد الخير. ويعرض وجهتي نظر فلسفيتين، ويعرض موقف علماء المسلمين، ثم يصل إلى كيفية عرض هذه القيمة في القرآن الكريم وقد جاءت على ثلاث أشكال من الجهد:

جهد استبعادي: يقصد به مجاهدة الهوى، أو صد الميل إلى الرغبات المذمومة. وفي بعض الأحيان ترك ما أحل الله من نعم، ابتغاء مرضاة الله، مثل الصوم، فيكون جزاء الإنسان من الله عز وجل الهداية. ولا تهدف المجاهدة إلى العزوف عن الدنيا، ولكنها التوجه بإرادة طائعة إلى ما أمر به الله حبا له، وتقربا إليه: “والذين آمنوا أشد حبا لله”. إلى أن يصل رد المنكر إلى مرتبة التلقائية، بلا تكلف جهد أو مشقة، وهذا فضل من الله يؤتيه من يشاء: “يهديهم ربهم بإيمانهم”. ومكابدة الجهد هو السبيل إلى بلوغ إلى هذه المرتبة.

جهد خلاق: بعد مجاهدة النوازع الممقوتة، والمحرمة، لا يسع المرء الحياد، فهذا في حد ذاته عمل غير محقق لقيمة أخلاقية. بل يجب اعتماد موقف إيجابي، ولا ينبغي أن يكون الحافز هو الميل الطبيعي للخير، بل لابد من وجود إرادة لإنجاز خير معين، بوسائل ومقاصد مشروعة.

فالعمل هو الجهد الخلاق، وتكررت صيغ الحض على العمل في العديد من آي القرآن الكريم، ومنها : “ونعم أجر العاملين”. لذلك فالقول بالقدرية، والتواكل، هو العدو الأول للقيم الأخلاقية في الإسلام. وإنما هو العمل ثم التوكل على الله للتوفيق في القصد: “فأما من اعطى واتقى وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى”. ويناقش في هذا الإطار ما يثار حول مفهوم مجاهدة المعصوم من الأنبياء، ودرجاتهم، ودرجات الأولياء.

ثانيا: الجهد البدني:

يوضح، مبدئيا، رفض الإسلام لأي وجهة نظر تعتبر إيقاع الألم البدني هدفا في حد ذاته، فهذا يفتقد لكل قيمة أخلاقية. أما إذا كان الجهد البدني مطلوب، للقيام بواجب أو أمر إلهي، فإن الله ورسوله يستحثان المؤمنين عليه، مثل الصلاة على وقتها، الصوم إذا طال النهار أو قصر، الجهاد في سبيل الله أيا كانت الظروف. ولا يستثني جهاد الكلمة: “كلمة حق عند سلطان جائر”، وما يستتبعها من أذى بدني قد يلحق بقائلها.

ويسوق المؤلف ثلاثة أمثلة لتوضيح ارتباط الجهد بالقيمة الأخلاقية: ففي مثال غوث الملهوف تكمن القيمة الأخلاقية في الجهد نفسه، على عكس الصلاة حيث لا تنبع القيمة الأخلاقية من الحركات البدنية، بدليل الرخص التي أعطاها الله عز وجل للمريض والخائف، والمجاهد في سبيله، والصوم وهو نموذج بيني للمثالين السابقين، فالإجهاد البدني المصاحب للصوم ليس مطلوبا لذاته، ولكنه ترويض للإرادة الإنسانية لطاعة خالقها، ومن فضل الله تخفيف الصوم عن المريض والمسافر، و”الذين يطيقونه”.

ويلخص قيمة الجهد في أنه: لا يجب السعي إليه كقيمة في حد ذاته، ولا ينبغي التهرب منه إذا كان القيام بالواجب يتضمن اللجوء إليه.

ثم ينتقل لمناقشة نقطة أخرى في ضوء هذا التعريف: وهو الصبر والكرم: وهي مسألة يناقشها علماء القيم والأخلاق الإسلامية: أيهما أعلى قيمة الصبر في الضراء أم الكرم في السراء؟ في رأيه لا يجوز عقد مقارنة بينهما يترتب عليها تفضيل أي منهما على الأخرفهما متساويان كقيمة أخلاقية، ومن ذلك مساواة المؤمن الغني المحسن، بالفقير الصابر.

النقطة الثانية هي أيهما أفضل: العزلة ام المخالطة؟ هنا تختلف المعادلة فلا يستوي من ينأى بنفسه عن المصاعب (الإغراءات)، ومن يواجهها في شتى مواقف الحياة. ولا تعتبر العزلة أفضل إلا في وقت الفتن.

ثالثا: الجهد والتلطف: من لطف الإسلام أنه لا يكلف نفس إلا وسعها، فكل عمل مشروط بظروفه، وهناك دائما حدين لا ينبغي تجاوزهما (لا إفراط ولا تفريط)، ثم يجمل رأيه بأن هذه القيمة مرهونة بالأخذ بالعزم والحزم دون تكلف المشقة. ويستشهد بقول الله عز وجل” وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج”، وغيرها من الآيات.

ويفصل الكاتب بين الظروف الخارجية التي تحول دون القيام بالواجب، وهي تستوجب المجاهدة والمثابرة لإتمام الطاعة، وبين الصعاب التي تواجه الإنسان على المستوى الشخصي : مرض، سفر، والتي لم يحدد فيها درجة معينة (مرض لأي درجة، أو مسافة السفر)، هذا يترك لتقدير الإنسان وفق ضميره، وحرصه على أداء فرائض الله تعالى.

وفي الخاتمة، يعقد مقارنة مع نظرية أرسطو،عن الوسط العدل، حيث الفضيلة هي الوسط بين رذيلتين، ويفندها، ويقارنها بمفهوم الاعتدال في القرآن الكريم، ليخلص إلى أن الوسط العدل في القرآن بالنسبة للجهد، هو الطموح إلى الكمال قدر المستطاع، اتباعا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم “فسددوا، وقاربوا، وأبشروا”

ويصل إلى الخاتمة العامة :

يؤكد الكاتب أن رسالة القرآن موجهة للعالمين، فهي تعاليم عن الواجبات الملموسة، والطرق الملائمة للقيام بها باتباع القاعدة الأخلاقية. وهذه القاعدة ترتكز على خمسة أعمدة هي: التكليف، المسئولية، الجزاء، النية، الجهد. وقد ناقشها عن طريق عقد مقارنات بين قيم الإسلام والنظريات الفلسفية الماضية والمعاصرة، وكذلك بطرح التساؤلات والإجابة عليها بالدليل والحجة. 

وخلص إلى نتائج نجملها فيما يلي:

القيم في القرآن الكريم تتصف بالدينية، ليس لأنها تنصب على العبادة المجردة لله، ولكن لأن المسلم من خلال تعامله مع غيره، أو من خلال كل ما يمر به في حياته، يتمثل الله سبحانه وتعالى رقيبا عليه، فيجد نفسه متعلقا بالله عز وجل في كل أفعاله، لا لتحقيق مجد شخصي، ولا حتى إرضاء لضميره، وبالتأكيد ليس رياء للناس، ولكن فقط  طاعة لله، واستجابة لما أمر به ابتغاء وجهه، ومرضاته.

ويختار د. دراز كلمة واحدة تجمع القيم الإسلامية وتعبر عنها، وهي التقوى؛ فهي الحب والخشية، وهي الدافع والمانع.

ثم يبدأ د. عبد الله دراز في عرض، ما نعتبره، الملحق الأول:

الأخلاق عمليا:

يكتب د. دراز مقدمة عن الأخلاق عمليا، وهي جمع وحصر للآيات المتعلقة بخلق معين، ثم تصنيفها في عناوين خاصة بكل محور. في كل من هذه المحاور يجمع الآيات، ليس بترتيب السور ولكن بترتيب منطقي خاص بكل محور.

جدير بالذكر ، أنه لا يشير إلى هذا الجزء بالفصل السادس، ولكنه جزء مستقل يبدأ فيه بالفصل الأول وعنوانه:

  • الأخلاق على المستوى الفردي:

تنقسم بدورها إلى عدة تجسيدات للواجبات، منها على سبيل المثال: طلب العلم، كظم الغيظ، التواضع، مجاهدة الهوى، وغير ذلك مما تناوله بالتفصيل. كما يوضح النواهي، أو المحرمات، ومنها: الغلول، والكذب، الانتحار، المكر، النفاق، البخل، الإسراف، الرياء، العجب والفخر، التعلق بالدنيا، الانحراف، تناول المسكرات، ..إلخ. وأخيرا، المباحات، مثل: الاستعمال المعتدل للطيبات التي أحلها الله، الرخص حال الاضطرار. ويندرج تحت كل محور منها آيات تنظمه وتضبطه.

  • الفصل الثاني الأخلاق في نطاق الأسرة:

تنقسم أيضا إلى: أ- واجبات تجاه الوالدين والأبناء: الإحسان للوالدين، والتواضع لهما، وطاعتهما، واحترام حياة الأبناء، رعاية الأبناء وتربيتهم. ب- واجبات بين الزوجين: بداية من تفصيل النساء المحرمات في الزواج، وصفات الزوجات الصالحات، وشروط تعدد الزوجات (ويفرد لها الكاتب هامشا مطولا لشرح الآيات وبيان حكمة الله سبحانه وتعالى في تحليله). ثم الحياة الزوجية؛ وأهدافها: المودة والرحمة، وطلب الذرية، وتساوي الحقوق، والواجبات، وأحوال الطلاق، والمواريث. ويجمع فيها الآيات التي تناولت هذه الموضوعات.

 

  • الفصل الثالث الأخلاق على مستوى المجتمع:

المحظورات: القتل، السرقة، الظلم، خيانة العهود، التجسس، وغيرها.

الأوامر: رد الأمانات، كتابة الديون، الوفاء بالعهود، حق أداء الشهادة، الصلح بين الناس، عتق الرقيق، حفظ حقوق الأيتام، نشر العلم، دفع السيئة بالحسنة، الإحسان، الصدقات…إلخ.

الآداب العامة: الاستئذان، رد السلام، خفض الصوت، الاجتماع والمناجاة على البر والتقوى، تبادل أطيب الكلام، والاستئذان عند مفارقة الجماعة.

  • الفصل الرابع القيم على مستوى الدولة:

العلاقة بين الحاكم والمحكوم (الشعب): أ- واجبات الحاكم : الشورى، ثم تنفيذ الرأي الغالب بالعدل، إقامة النظام، حفظ الممتلكات العامة، وعدم الغلول، وعدم المحاباة للأغنياء، الحكم بين أهل الكتاب بما أُنزل في كتبهم، الحكم بين الناس بالعدل.

ب- واجبات الرعية: الانضباط، الالتفاف حول الحق، التشاور في الأمور العامة، طاعة الرسول، البعد عن الفساد، إعداد قوة مشتركة، الرقابة الأخلاقية، التحرز من موالاة العدو.

القيم في العلاقات الخارجيةحال السلم: الاهتمام بنشر السلام، بدون إكراه، عدم فرض الهيمنة، واحترام حسن الجوار…

حال الحرب: عدم البدء بالقتال، عدم الاقتتال وقت الأشهر الحرم، ولا في البلد الحرام. توضيح الأحوال المشروع فيها الحرب: الدفاع عن النفس، ونصرة الضعفاء، قتال المعتدين، عدم التقهقر أمام العدو، الثبات، والصبر حال لقاء العدو، عدم مهابة الموت، عدم الاستسلام، مع قبول طلب السلام من الطرف الآخر، وعدم الكر على العدو المستسلم.،الوفاء بالعهود، معيار الفضل لدى الله.

  • الفصل الخامس القيم الدينية:

واجبات تجاه الله سبحانه وتعالى: الإيمان به، وبما أنزل، الطاعة التامة، التفكر في آياته، وفي خلقه، شكر نعم الله، الصبر في البلاء، التوكل عليه، عدم القنوط من رحمته، الوفاء بالنذور،   وحفظ الأيمان، وذكر الله كثيرا، إقامة العبادات والشعائر لله، الحج لبيته العتيق، دعوته رغبا ورهبا.

بعد نهاية هذه الفصول يورد المؤلف جزءا جديدا بعنوان: حصر للفضائل الإسلامية التي يميز بها الله المسلم الحق :

هي مجموعة آيات تتناول البر والإيمان، وخشية الله، والعطف على اليتيم، والتوكل على الله وذكر الله، وغير ذلك مما تتضمنه الايات من صفات المؤمنين.

وختم بالفهارس للمراجع العربية والأجنبية، يليه فهرس أسماء الأعلام، ثم فهرست أبجدي للكلمات، وأخيرا فهرست  تحليلي للرسالة.

لا يسعنا في نهاية هذا العرض إلا الدعاء للدكتور عبد الله دراز أن تكون هذه الرسالة علم ينتفع به، ففيها من الثراء والقيمة العلمية والروحية ما يعجز القلم عن خطه. هي تصحيح لرؤية الشريعة السمحة في أبهى صورها، بلا صخب، أو ادعاء، بل بالحجة البالغة، الدامغة. هي تقريب للثقافات والحضارات، للأفكار والمعتقدات. وإدماج بين العلم والعمل، بين الدعوة والتطبيق.

ترجمة وعرض:

أ. أميرة مختار

باحثة ومترجمة مصرية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] تعني الديانة المحمدية

عن أميرة مختار

شاهد أيضاً

Ethics in the Quran

By: Dr. Muhammad Abdullah Draz

Translated into Arabic& Presented by: Ms. Amira Mokhtar

Translated into English by: Ms. Rehab Jamal Bakri

Dr.Draz starts his Thesis by quoting a statement of a prominent Azhari scholar called Al-Shiehk Shams Ad-Deen Al-Ẓahaby which indicates that the main objective of any new work must be to "create something unexpected, omplete something unfinished, clarify something confused…or rectify something erroneous.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.