الجذور الإسلامية لفكرة الإصلاح الغربي

الصفحات التالية من كتاب “في نقد الحاجة إلى الإصلاح”* لمحمد عابد الجابري**

الجذور الإسلامية لفكرة الإصلاح الغربي

ما هي الجهة التي جعلت منها مرجعية الحداثة الأوروبية سلفاً لها تستوحيه وتعتمده في معركتها من أجل الإصلاح والتحديث. الجواب عن هذا السؤال جعل منه الفكر التاريخي الأوروبي الحديث جواباً جاهزاً: إنه السلف اليوناني الروماني! فالنهضة والإصلاح في أوروبا إنما انطلقا من الارتباط بالتراث اليوناني الروماني، المتميز باهتمامه بشؤون الدنيا، وبإعلائه من قيمة الإنسان.

صحيح أن هذا الجواب الجاهز يفتح صدره أحياناً لهامش صغير ينص على أن ذلك كان من خلال جسر أولي ومؤقت شكّله ” العرب “، فتعّرف الأوروبيون من خلاله على التراث الفلسفي والعلمي اليوناني، ثم تجاوزوه سريعاً. ومانريد بيانه نحن هنا هو أن الأمر لا يتعلق بمجرد “جسر أولي ومؤقت”، بل يتعلق بسلف محرض ومؤثر ومقدم لمفاهيم وتصورات جديدة “وخارقة للعادة”. ذلك أن الحقيقة التاريخية هي أن رواد الحداثة الأوروبية ظلوا ينظرون، منذ القرن الثاني عشر الميلادي وإلى القرن الثامن عشر، إلى التراث العربي الإسلامي، بالاعتبار والانبهار نفسهما اللذين ننظر بهما نحن اليوم إلى منجزات الحداثة الأوروبية ومفاهيمها وشعاراتها.

وبما أن موضوعنا الأساسي هو “الإصلاح” فسنركز على هذا الجانب لنبين ذلك الدور الكبيرالذي كان للكتب العربية التى ترجمت إلى اللاتينية أو عملت لها ملخصات في تأسيس فكرة  الإصلاح وتعهدها ونشرها. وسنركز هنا على جانب لم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه، وهو الدور الذي كان، في هذا المجال، لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية، ثم إلى اللغات الإقليمية في أوروبا.

يحدثنا الباحثون الأوروبيون المختصون في فكر القرون الوسطى وفكر النهضة ( الأوروبية) أن المبادرة إلى ترجمة القرآن إلى اللاتينية قد جاءت من أحد رجال الدين المسيحي، وأن الدافع إليها كان التعرف على الإسلام لمقاومته. وكان ذلك في إطار الصراع الطويل المرير بين دولة الإسلام في الأندلس وبين جارتها، وكانت كلها مسيحية تحت قيادة الإمبراطورية البابوية الرومانية. وفي إطار هذا الصراع الذي كان دموياً، حروباً وغزوات، قام بطرس الجليل رئيس ديركلوني (Pierre le venerable 1092 – 1156) بجولة في الحدود الفرنسية مع الأندلس بين عامي 1141 – 1143، فتعرف هناك على الإسلام والمسلمين، وخلص من هذه الزيارة إلى أنه لابد من نقل الصراع مع المسلمين إلى مجال الفكر أيضا. قال: ” يجب أن نقاوم الإسلام لا في ساحة الحرب، بل في الساحة الثقافية”. لقد أدرك أنه ” لإبطال العقيدة الإسلامية يجب التعرف عليها (حسب تعبيره) … وأنه سواء وصفنا الضلال المحمدي – كذا – بالنعت المشين: بدعة، أو بالوصف الكريه: وثنية، فإنه لابد من العمل ضده، ولابد من الكتابة ضده”. وأضاف: إن ” هذا السمّ القاتل (العقيدة المحمدية – كذا) الذي تمكن من إصابة أكثر من نصف الكرة الأرضية” يجب التصدي له بالقلم وليس بالسيف وحده.

وتحدثنا مراجعنا في هذا الموضوع (في مقدمتها: ريجيس بلاشير: مدخل إلى القرآن) أنه حصل على مساعدة أسقف طليطلة المعروف رايموند دو توليدي (Raymond de Tolede)، مما مكنه من تشكيل لجنة لترجمة القرآن كان من أبرز أعضائها المدعو بيير الطليطلي الذي كان يجيد العربية وربما كان مسلماً تنصّر. وتضيف هذه المراجع أنه مع أن الترجمة التي أنجزتها هذه اللجنة كانت ناقصة تعتمد التلخيص، فإنها لقيت إقبالاً كبيراً: لقد تولى طباعتها أحد رجال ” النزعة الإنسانية” من اللاهوتيين في سويسرا سنة 1543، كما ظهرت طبعة أخرى لأحد رجال هذه النزعة نفسها عام 1547. وقد نقلت هذه الترجمة إلى الألمانية سنة 1616، ثم إلى الهولندية سنة 1641. وفي سنة 1647 قام الفرنسي أندري دي ريي (Andre du Ryer) الذي قضى في مصر كقنصل لبلاده سنوات تعلم خلالها اللغة العربية، بنقل هذه الترجمة إلى الفرنسية بأسلوب مبسط تحت عنوان قرآن محمد (Alcoran de Mahomet). “وقد استُقبلت بترحاب كبير لأن الجمهور كان يومئذ مهتماً بالعالم الإسلامي أكثر مما يتُصور عادة”. ثم توالت طبعات هذه الترجمة بحيث صدرت خلال خمس سنوات خمس طبعات على الأقل في باريس وأمستردام. ثم ظهرت ترجمة إلى الانكليزية عام 1688 وإلى الهولندية عام 1698. وهكذا: فخلال قرن من الزمان تتابعت في فرنسا وإنكلترا وهولندا خمس طبعات من هذه الترجمة الأولى بتعديل  أو بدونه، وقد ظهرت الطبعة الأخيرة منها باللغة الفرنسية في أمستردام سنة 1770، وقبل ذلك كانت قد ظهرت في بادو (Padoue) المدينة العلمية الإيطالية في ذلك الوقت ترجمة جديدة للقرآن قام بها ماراكي (Marracci) سنة 1698، ومعها كتاب في الرد على القرآن.

كان الغرض الأصلي  من ترجمة القرآن هو مقاومة الإسلام، كما ذكرنا, وفي هذا الغرض استعملها رجال الدين المسيحي، وقد شكل ذلك نوعا من المرجعية للمستشرقين المعروفين بالطعن في الإسلام وإعلان العداء له.

غير أن عبارة هيغل ” مكر التاريخ” تأبى إلا أن تحقق نفسها في هذا المجال أيضا. ذلك أن هذه الترجمات التى نقلت معاني القرآن إلى اللغات اللاتينية، ثم إلى اللغات الأوروبية الإقليمية، قد وظفت أيضا ضد رجال الدين المندمجين في نظام الكهنوت، فأصبحت عنصراً أساسياً في الصراع ضد الكنيسة. وهكذا سارع “الإنسانيون” (Humanistes) وهم فئة ناشئة من المثقفين كانوا يفكرون ويعملون خارج نظام الكنيسة وضداً عليها، سارعوا إلى توظيف ترجمات القرآن للاستعانه بها في تعزيز موقفهم ونشر ثقافة جديدة تعتبر الإنسان غاية في حد ذاته وتعلي من شأنه كفرد حر لايحتاج في تعامله الديني، عقيدة وسلوكاً، إلى وسيط آخر (الكنيسة). وأكثر ما كان يشدهم إلى القرآن هو استغناؤه عن الكنيسة وإعلاؤه من شأن الإنسان، في مثل قوله تعالي: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) الإسراء – 70 . إن تنصيص القرآن على أن الله فضل الإنسان وكرمه تكريما، كان يقدم دعماً قوياً للنزعة الإنسانية التي خرج من جوفها الإصلاح الديني في أوروبا والنهضة الأوروبية بكيفية عامة، كما سنرى. وقد واصل رجال النزعة الإنسانية هؤلاء، أمثال لو كونت دي بولانفيي (Le Comte de Boulainvilliers) الذي امتدح الإسلام ضداً على الكاثوليكية الرسمية، معركتهم ضد الكنيسة منوّهين بالإسلام وموقفه من الإنسان. كما تواصل الاهتمام بالقرآن وترجمته، فظهرت سنة 1734 ترجمة جديدة له في لندن قام بها ج. سايل (G. Sale)، فانتشرت بسرعة في عدة بلدان أوروبية، وخصوصاً أنها كانت مصحوبة بمدخل حول العرب وتاريخهم، الأمر الذي اهتم به الجمهور اهتماماً كبيراً، كما اهتم بها رجال ” الأنوار” أمثال فولتير، فكانت مصدراً لمعرفتهم بالإسلام.

كانت النزعة الإنسانية (Humanisme) في الفكر الأوروبي – التي ازدهرت في القرن السادس عشر، والتي تعتبر بمثابة الأرضية الفكرية التي أسست لحركة الإصلاح الديني والنهضة الأوروبية عموماً – انعكاساً مباشراً لتأثر المفكرين الأوروبيين، ابتداء من القرن الثاني عشر، بالثقافة العربية الإسلامية ونظرتها إلى الإنسان بوصفه أرقى المخلوقات. ذلك ماعبر عنه أحد أبرز مؤسسي هذه النزعة في أوروبا، الإيطالي جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا (1486) (Giovanni Pico della Mirandola) الذي ألف كتاباً بعنوان: في الكرامة الإنسانية (De dignitate hominis) قال فيه: ” لقد قرأت في كتب العرب أنه ليس في الكون شيء أكثر روعة من الإنسان”.

يقول لوكوف في كتابه الرائد المثقفون في القرون الوسطى: لقد كان هؤلاء ” الإنسانيون “، ” الذين ظهروا في أوروبا في القرن الثاني عشر واعين بأنهم ينتمون إلى جيل ثقافي جديد، وكان معاصروهم يسمونهم ب ” المحدثين “. غير أنهم مع وعيهم الحداثي لم يكونوا يتنكرون لفضل القدماء، بل بالعكس كانوا يعلنون أنهم يقتدون بهم ويستفيدون منهم ويقفون على أكتافهم. يقول أحد هؤلاء: ” لا يمكن الانتقال من ظلمات الجهل إلى نور العلم إلا بقراءة وإعادة قراءة كتب القدماء بشغف حي ومتزايد. فلتنبح الكلاب، ولتغمغم الخنازير، فإن ولائي للقدماء سيبقى قائماً، وسأظل منصرفاً إليهم بكل اهتمامي، وسيجدني الفجر كل يوم منهمكاً في قراءة مؤلفاتهم”!  و” القدماء” المعنيون هنا هم العرب ومن خلالهم اليونان. ويقول آخر(وهو المعلم برنار دي شارتر، نسبة إلى أحد أهم المراكز العلمية في فرنسا يومئذ: “نحن أقزام محمولون على أكتاف عماليق، وإذا كنا نشاهد أكتر مما شاهدوا ونرى أبعد مما رأوا، فليس ذلك لأن بصرنا أحد أو لأن أجسامنا أطول، بل لأنهم يحملوننا على أكتافهم في الهواء ويرفعوننا بكل طول قاماتهم الهائل”.

الإصلاح في أوروبا وسلطة الموروث العربي:

عندما يذكر ” الإصلاح ” في أوروبا ( ” الإصلاح ” كاسم علم)، فإن الذهن ينصرف مباشرة إلى الإصلاح الديني الذي شهده القرن السادس عشر، والذي ارتبط باسم رائده الأول الراهب الألماني  مارتان لوثر (Martin Luther) (1483 – 1546) الذي أدت حركته إلى قيام المذهب البروتستانتي منشقاً عن الكنيسة الرسمية الكاثوليكية. وإذا كان معظم المؤرخين الأوروبيين لهذا الإصلاح يركزون على العوامل الداخلية – فإن آخرين يبرزون، إلى جانب ذلك، فعل العامل الخارجي الذي يتمثل آنذاك في الموروث العربي الإسلامي. لقد أبرزنا ذلك الدور الهام الذي كان لترجمة معاني القرآن إلى اللاتينية، وهو الدور الذي تعكسه بكيفية مباشرة تكرار طبعات هذه الترجمة والتلخيصات التي عملت لها وانتشارها السريع في جميع أنحاء أوروبا منذ منتصف القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر.

غير أن الإصلاح الديني الذي قام به لوثر لم يكن ” البداية “، بل كان نتيجة لحركة فكرية عرفت بحركة ” الإنسانيين “، وهذه بدورها كانت استمراراً لتيار فكري تجديدي ظهر في القرن الثالث عشر الميلادي ” الرشدية اللاتينية “. وهكذا، فإذا كان هذا التيار الفلسفي الجديد قد انتسب صراحة إلى ابن راشد، فإن تيار الإصلاح الديني الذي قاده لوثر، وإن لم ينتسب رسمياً إلى القرآن والترجمات التي عملت له، فإنه لا بد من أن يكون قد استوحى بصورة أو أخرى ما تميزت به العقيدة الإسلامية من إسقاط للخطيئة الأصلية بتوبة آدم، وبنفي كل وساطة بين الله والإنسان وتأكيده أن ” الإيمان” هو وحده الرابطة التي تربط بين الله والمؤمنين، وأنه لا كنهوت في الإسلام …الخ، وهذه الأعمدة الأساسية التي قام عليها الإصلاح الديني الذي تزعمه لوثر موجهاً سهامه إلى الكنيسة كنظام كهنوتي اجتماعي متسلط. وقبل أن نفصل القول في هذا الجانب ينبغي أن نقول كلمة عن الجانب الأول، أعني تأثير الفكر الفلسفي العربي الإسلامي في ما عرفته أوروبا من الإصلاح والنهضة منذ القرن الثاني عشر إلى الثامن عشر.

ومن الجدير بالإشارة أن ترجمة أعمال ابن رشد إلى اللاتينية والعبرية قد بدأت في أواخر حياته (توفى سنة 1198 ميلادية)، أي قبل ترجمة معاني القرآن. وكانت البداية الحقيقية لليقظة الأوروبية التي توّجت بالإصلاحي الديني. أما قبل ذلك، فقد كانت أوروبا تعيش فعلاً في ما أطلق عليه رجال النهضة ” ظلام القرون الوسطى” أو ” الظلامية”. ويقدم لنا جاك لو كوف (في كتابه: المثقفون في القرون الوسطى) فكرة عن هذا الظلام ودور العلم العربي في انقشاعه، فيقول: لم يكن للعلم ” في أوروبا وجود، قبل القرن الثاني عشر خارج الأديرة. وحتى داخل هذه الأخيرة لم يكن الاشتغال بالعلم يتجاوز استنساخ المخطوطات الدينية في ثوب قشيب. لقد كان الاهتمام منصباً، لا على ما في هذه المخطوطات، بل على إجادة الخط وعلى التزيين والترصيع”. ويضيف: ” إنه في القرن الثاني عشر، حيث لم يكن للغرب بعد إلا أن يواصل تصدير المواد الأولية إلى العالم العربي الإسلامي – إذ لم تكن صناعة النسيج قد تجاوزت مرحلتها الجنينية – فإن المنتوجات النادرة والأشياء الثمينة كانت تأتي من الشرق، من بيزنطة ودمشق وبغداد وقرطبة”. وهكذا، ف ” مع التوابل والحرير جاءت المخطوطات (العربية) إلى الغرب المسيحي بالثقافة اليونانية العربية”. وقد برزت منطقتان رئيسيتان لاستقبال المخطوطات الشرقية: إيطاليا من جهة، وإسبانيا من جهة أخرى. إن ” القناصة” المسيحيين للمخطوطات اليونانية والعربية قد امتدت بهم الرحلة إلى مدينة باليرمو، حيث انهمك الملوك النورمانديون في صقلية أولاًً، ثم فريدريك الثاني من بعدهم، انهمكوا داخل بلاطاتهم التي كانت تستعمل ثلاث لغات – اليونانية واللاتينية والعربية – في بعث الحياة في أول مدرسة إيطالية نهضوية. كما امتدت الرحلة بأولئك الباحثين عن المخطوطات إلى طليطلة (في الأندلس) التي كانت قد تم استرجاعها من “الكفار” (= المسلمين) سنة 1078 والتي انهمك فيها المترجمون المسيحيون تحت رعاية المطران ريمان (1125 – 1151) في الترجمة، ترجمة المؤلفات العربية، مستعينين بتراجمة من اليهود والإسبان والمسلمين، وكان على رأس هذه الكتب مؤلفات ابن رشد.

ويتساءل لوكوف: “وماذا حمل هذا الرعيل الأول من الباحثين إلى الغرب، هؤلاء المثقفين، تراجمة القرن الثاني عشر”؟ وبعد أن يذكر أسماء عدد كبير منهم، يجيب قائلاً : ” إن هذا الرعيل الأول قد سد جوانب النقص التي خلفها الإرث اللاتيني في الثقافة الغربية: النقص الذي يتمثل في غياب الفلسفة والعلوم”. ولكي نأخذ فكرة واضحة عن سلطة العلم العربي في هذا المجال نستمع إلى بعض هؤلاء المثقفين أعلام القرن الثاني عشر الميلادي في أوروبا يحدثوننا عن العقل العربي وعلومه.

كان أديلار دي باث ( Adelard de Bath) مترجماً من العربية وكان فيلسوفاً في الوقت نفسه. سأله رجل ” تقليدي” (Tradition liste) ذات يوم أن يدخل معه في مناقشة حول الحيوانات، فرد عليه قائلاً: ” من الصعب عليّ أن أتحدث معك عن الحيوانات، فأنا تعلمت، في الواقع، من أساتذتي العرب اتخاذ العقل هادياً ومرشداً، في حين أنك أنت قانع بالخضوع لسلطة مخرفة (الكنيسة) خضوع أَسْر وعبودية. وهل هناك من اسم آخر يمكن إطلاقه على تلك السلطة سوى أنها قيود وأغلال؟ فكما أن الحيوانات البلهاء تقاد بواسطة حبل، ولا تعرف لا إلى أين ولا لماذا هي مقتادة، وتقنع بمسايرة الحبل الذي يجرها، فكذلك الأغلبية منكم، إنها سجينة  انقياد حيواني، مكتوفة مستسلمة لمعتقدات خطيرة تفرضها سلطة الكتاب” (المقدس).

ويشتكي مثقف آخر، من هؤلاء المثقفين الحداثيين في القرن الثاني عشر الميلادي، من الاختناق الذي كان يسود البلاد المسيحية ومن اضطهاد رجال الكنيسة للمفكرين الأحرار، مما جعله يفكر في الرحيل إلى أرض العرب، حيث الحرية الفكرية مكفولة. يقول بيير أبيلار ( Pierre Abelard) ” الله يعلم كم مرة فكرت، تحت ضغط يأس عميق، في الرحيل عن الأرض المسيحية والعبور نحو الوثنيين (= المسلمين – كذا ) للعيش في سلام، دافعاً الجزية لأعيش مسيحياً بين أعداء المسيح”.

ولم يكن اضطهاد السلطات الكنسية لهؤلاء المثقفين الحداثيين لينال من الرغبة في الانتماء المعرفي إلى العرب. فلقد كان الجيل الجديد لايثق إلا في ما يأتي من العرب أو ينسب إليهم. يقول أديلاردي باث في هذا الصدد: ” في جيلنا عيب متجذر فيه. إنه يرفض جميع ما يبدو أنه صادر من عند المحدثين. ولذلك، فعندما تكون لدي فكرة شخصية أريد نشرها بين الناس، فإني أنسبها إلى غيري مدعياً أن ” فلاناً هو الذي قال بها، ولست أنا صاحبها، ولكي يثق الناس بي ثقة كاملة، أقول عن جميع آرائي : إنها من ابتكار فلان ولست أنا قائلها، ولكي أتجنب العواقب الوخيمة التي تنجم عن اعتقاد الناس في أنني، أنا الجاهل، أستقي أفكاري من أعماقي، فأني أقدمها لهم بصورة تجعلهم يعتقدون أنني استقيتها من دراساتي العربية. أنا لا أريد أن أكون مرفوضاً إذا كان ما أقوله لا يروق للعقول المتخلفة، فأنا أعرف المصير الذي ينتظر العلماء الحقيقيين بين السوقة من الناس، ولذلك تراني أدافع، لا عن قضيتي، بل عن قضية العرب”.

ويقول آلان دي ليبيرا الذي صدر له في العقد الماضي كتاب بعنوان التفكير في العصر الوسيط، أكد فيه هو الآخر على أهمية الدور الذي كان لما أسماه ” التراث المنسي” في الغرب، التراث العربي المترجم إلى اللاتينية، في ظهور فئة “المثقفين” في أوروبا العصر الوسيط. وإذا كان دي ليبيرا يحذو حذو لوكوف، فإنه يكمله ويحاول تجاوزه بإلقائه الضوء على دور ” الفلاسفة” الذين تمكنوا من اختراق أسوار الجامعات والتحول إلى مثقفين ” يخاطبون الجمهور” ويتكلمون في قضايا سياسية بخطاب فلسفي مستعار من العرب ومن ابن رشد خاصة. إنها ” الرشدية اللاتينية” التي يبرزها دي ليبيرا كخطاب ل ” المثقفين الجدد” الذين هيمنوا على الحياة الثقافية في أوروبا خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ويبرز دي ليبيرا الأصل العربي لهذا الخطاب فيقول: ” إن هذا الخطاب الفلسفي / الكلامي لم يولد من تلقاء نفسه، بل لقد تعلمه أصحابه واستضمروه واستوعبوه، انطلاقاً من مصادر محددة معروفة، هي ذلك التصور للحياة الفلسفية الذي صاغه فلاسفة بلاد الإسلام، الورثة الأوائل للفلسفة اليونانية في القرون الوسطى. إن اقتباس المثل الأعلى الفلسفي العربي مع مقدماته الكوسمولوجية والفلكية والسيكولوجية والأخلاقية قد ساعد على نشر الفلسفة خارج الجامعة (التي كانت تحت هيمنة رجال الدين). لقد تمكن النموذج العربي الإسلامي ل ” الفيلسوف “من أن يفرض نفسه على قسم من المجتمع المسيحي بواسطة فلاسفة جامعيين، لأنه نموذج تشكل في عالم بدون جامعات كنسية رسمية، ولأنه أيضا نموذج يجعل الدراسة تتوج بالحكمة ويعد بالاستمتاع بتجربة ثقافية خالصة (= بلذة عقلية)، عند آخر مراحل اكتساب المعرفة”.

ولما كان المجال لا يتسع لتفصيل القول أكثر في مظاهر سلطة العلم العربي في أوروبا النهضة والإصلاح، فسنقتصر على الإشارة إلى الطريقة التي وظف بها أولئك “المثقفون الجدد” نظرية ابن رشد في الفصل بين الدين والفلسفة. لقد عمد ابن رشد، بعد المشاكل التي أثارتها محاولة الفارابي وابن سينا دمج الدين في الفلسفة، والفلسفة في الدين – وهي المحاولة التي بدت للغزالي متهافتة، فتصدى لنقضها وبيان بطلان نتائجها – إلى تصحيح الوضع، فبيّن كيف أن الدين بناء مستقل بنفسه له أصوله الخاصة، وأن الفلسفة كذلك بناء مستقل بنفسه لها هي الأخرى مقدماتها الخاصة، وأن التقاء البناءين وتآخيهما وتكاملهما أمور يجب أن تلتمس، لا في الأصول ولا في البنائين، بل في الغاية والهدف، من حيث إن كلا منهما إنما يرمي في نهاية المطاف إلى تحقيق الفضيلة.

هذا النوع من الفصل بين الدين والفلسفة تلقفه الرشديون اللاتين وقرأوه على ضوء صراعهم مع الكنيسة، فقالوا ب “نظرية الحقيقتين” ونسبوها إلى ابن رشد: الحقيقة الدينية، والحقيقة العقلية، وإنه يجب الأخذ بهما معاً حتى لو تعارضتا. وفي هذه الحالة يجب القول: ” هذه هي النتائج التي يقودني إليها عقلي باعتباري فيلسوفاً، ولكن بما أن الله لا يمكن أن يكذب ، فإني أسلم بالحقيقة التي كشفها لنا بالوحي وأتمسك بها بواسطة الإيمان”. وواضح أن هذا النوع من التوظيف لنظرية ابن رشد في علاقة الدين بالفلسفة – وهو ما لم يكن ليخطر بباله ولا ليوافق عليه – كان الهدف منه إثبات سلطة العقل مستقلة عن سلطة الكنيسة ونداً لها، الأمر الذي يعني إعطاء الفلاسفة الشرعية نفسها التي لرجال الدين. وهكذا يتحول الفصل الرشدي، العربي الإسلامي ، بين الدين والفلاسفة إلى فصل ” رشدي لاتيني” بين الكنيسة والفلسفة، الأمر الذي مهد الطريق إلى المناداة بالفصل بين الكنيسة والدولة … إلى اللائكية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*. محمد عابد الجابري (2005). في نقد الحاجة إلى الإصلاح. ط. 1. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ص ص. 61- 69.

** محمد عابد الجابري؛ مفكر وفيلسوف ولد في مدينة فجيج بالمغرب في 27 ديسمبر 1935، حصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة. كلية الآداب. جامعة محمد الخامس. الرباط 1967، وحصل على دكتوراة الدولة في الفلسفة.من نفس الكلية والجامعة 1970. عمل أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي بكلية الآداب، جامعة محمد الخامس الرباط منذ 1967، حصل على العديد من الجوائز.

وللإطلاع على نبذة مختصرة عن محمد عابد الجابري وببليوجرافية لمؤلفاته المقتناة بالمركز اضغط هنا.

عن محمد عابد الجابري

شاهد أيضاً

روح الإسلام والبناء المجتمعي

أ. مالك بن نبي

لمشكلات الإنسان طبيعتها الخاصة، فهى تختلف اختلافاً كلياً عن مشكلات المادة، ولايمكن أن تطبق عليها دائما حلول تستقي براهينها من الخارج. فجميع أنواع الحلول ذات الصيغة الاجتماعية التي نقتبسها عن بلاد أخرى ثبتت لها فيها صلاحيتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.