إدمان الإنترنت ومشكلة تبديد الوقت: رؤية إيمانية

الصفحات التالية من كتاب الماجريات* لإبراهيم بن عمر السكران**

إدمان الإنترنت ومشكلة تبديد الوقت

رؤية إيمانية

 (فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، ولا سيما إذا كان طالباً ما لم يحصل له، فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه، فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور، وذكر ماجَرَيات النفس والهزل واللعب، ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك، ولا يستغني القلب إلا بعبادة الله تعالى)[1].   ذكر الإمام ابن تيمية في نصه السابق من جملة ما يتسلى به محزون الخطايا ذكر “ماجَريَات” النفس والهزل واللعب، وكلمة “الماجَريَات” تعني الأحداث والوقائع والأخبار، وهي في أصل بنائها اللغوي تم توليدها بأسلوب التركيب المزجي، فأصلها من كلمتين وهما (ما) الموصولية بمعنى الذي، و(جرى) بمعنى وقع وحدث، فلما اتسع استخدامهم لها وكثر ترددها على لسانهم جُمِعت الكلمتان في كلمة واحدة، وعوملت كمفردة واحدة “ماجَرَي”، ثم أُدخِلت عليها اللواصق كألف التعريف “الماجرى”، وجمعت جمع المؤنث السالم ” الماجَريَات “، وهي من جنس كلمة الماصدقات والماورائيات والمابعد ونحوها.

وكلمة ” الماجَريَات ” استعملها المؤرخون والأدباء في العصر الإسلامي الوسيط كما نجدها عند ابن خلكان والسخاوي وغيرهم بمعنى الأخبار والأحداث، ثم صارت تعرض في كلام علماء السلوك الإسلامي للتعبير عن اشتغال المسلم بالأخبار والأحداث التي لا نفع فيها، كما سبق النقل عن أبي العباس ابن تيمية في كون من هجمت عليه هموم الخطايا يسلي نفسه بذكر ماجريات  النفس والهزل واللعب.

وفي رسالة أرسلها ابن القيم لأحد إخوانه حيث يقول: (فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل، ونصحه لكل من اجتمع به، قال الله إخبارًا عن المسيح (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ)..، ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة، ومحقت بركة لقائه، فإنه يضيع الوقت في الماجَريَات ويفسد القلب)[2].

يرصد ابن القيم هنا حالة الشخص الذي إذا اجتمعت به أخذ يحدثك عن الماجَريَات والأخبار والأحداث التي لا تنفع، ويعتبر هذا من خلو البركة بحسبه من هذا الشخص.

الطاقة الذهنية:

هذا المدخل السابق في النظر للإشكالية هو من جهة حديث المجالس والاجتماعات، والأمر لا يقتصر على هذا عند ابن القيم بل في موضع آخر من كتبه عالج الموضوع من زاوية أدق وأعمق، وهي زاوية “الطاقة الذهنية”، فالإنسان يملك في النهاية كمية معينة من وقود التفكير، فينبغي للمرء أن يكون حاذقاً في صرف طاقته الذهنية في المواد المجدية، يقول ابن القيم فصل عَقَده في كتابه “الفوائد” في بيان أساس هذا المفهوم (أصل الخير والشر من قبل التفكر، فإن الفكر مبدأ الإرادة)[3].

ثم واصل وسبر وقسَّم مسارات التفكير البَشَري الثمانية فقال: (وأنفع الفكر: الفكر في مصالح المعاد، وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد، وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار، ويليها أربعة: فكر في مصالح الدنيا، وطرق تحصيلها، وفكر في مفاسد الدنيا، وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء)[4].

ثم بدأ ابن القيم يستعرض نماذج من الأفكار الشريفة، وأتبعها بذكر نماذج أخرى من الأفكار الرديئة فقال:

(وبإزاء هذه الأفكار: الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق..، ومنها الفكر في جزئيات أحوال الناس، وماجَرَياتهم، ومداخلهم ومخارجهم، وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة).[5]

فهذا تحليل بديع لكون المنطلق هو (التفكير)، وأن من الخسارة أن يتم إحراق طاقة التفكير في “الماجَريَات” وأحوال الناس، بدل أن يتم تركيز مجهر التفكير في الموضوعات النافعة، فليس الإشكال أن تقضى الاجتماعات بذكر الماجَريَات، بل يرى ابن القيم أنه حتى في خلوة المرء بنفسه يجب أن لا يستهلك طاقته الذهنية في التفكير في هذه الحكايات والأحداث الجزئية العابرة، بل يستعملها استعمالاً منظماً في الأهداف الفاضلة الكبرى.

تأجيل الماجَريَات:

هذه الرصديات السابقة التي ذكرها الإمامان ابن تيمية وابن القيم تدور حول شريحة أضاعت وقتها في الماجَريَات، سواء لتسلية النفس عن حزن الخطايا، أو في ثرثرة المجالس، أو تبذير طاقة التفكير. وفي رصد آخر يقتنص ابن القيم الوجه المقابل من المشهد، وهو الشريحة التي تعلقت بالمعالي وكيف تعاملت مع الماجَريَات، ففي كتابه ” مدارج السالكين” تعرض ابن القيم لشرح منزلة السر وذكر الأخفياء الذين جاءت فيهم النصوص، كالذي رواه مسلم بن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)[6]، وكان من جملة ما ذكر من خصائصهم وأحوالهم أن قال:

(أهل هذه الطبقة، أثقل شيء عليهم: البحث عن ماجَريَات الناس، وطلب تعرف أحوالهم، وأثقل ما على قلوبهم سماعها، فهم مشغولون عنها بشأنهم، فإذا اشتغلوا بما لا يعنيهم منها فاتهم ما هو أعظم عناية لهم، وإذا عَدّ غيرهم الاشتغال بذلك وسماعه من باب الظرف والأدب وستر الأحوال؛ كان هذا من خدع النفوس وتلبيسها، فإنه يحط الهمم العالية من أوجها إلى حضيضها، وربما يعز عليه أن يحصل همة أخرى يصعد بها إلى موضعه الذي كان فيه، فأهل الهمم والفِطَن الثاقبة لا يفتحون من آذانهم وقلوبهم طريقًا إلى ذلك، إلا ما تقاضاه الأمر وكانت مصلحته أرجح، وما عداه فبطالة وحط مرتبة)[7]

ففي هذه المعالجة لابن القيم يتحدث عن منزلة يبلغها أهل المقامات العالية في الإيمان، وهو أنهم لا يتكلفون صرف أنفسهم عن الاشتغال بالماجَريَات والأخبار والأحداث وحكايات الناس، بل يجدون في أنفسهم استثقالا أصلاً، لاشتغال قلوبهم بما هو أجل وأعلى.

كما يشير ابن القيم إلى شيء من الحيل النفسية التي تداهم المؤمن في سيره إلى الله، وهو أنه قد يأتيه من يزيّن له الاشتغال بالماجَريَات والأحداث والأخبار من باب الّظرف والأدب والتلطف للناس وستر الأحوال الإيمانية وإخفائها عنهم، ويكشف ابن القيم أن هذا “من خدع النفوس وتلبيسها”..

ومن دقائق المعاني في هذه المعالجة الجوزية التنبيه إلى أن فتح الباب للماجَريَات يحط الهمة وربما تعسر إعادتها، والانهماك في الماجَريَات يؤدي إلى انحلال الدافعية وهبوط العزيمة، والركون والإخلاد والاستنامة للواقع، حتى ذكر ابن القيم أن العودة لسابق العزيمة قد يتعسر، ويستعصي استرداد الهمة، كما في نصه السابق (فإنه يحط الهمم العالية من أوجها إلى حضيضها، وربما يعز عليه أن يحصل همة أخرى يصعد بها إلى موضعه الذي كان فيه).

بواعث الماجَريَات:

وحين تعرض أبو حامد الغزالي لآفات اللسان في إحياء علوم الدين ذكر أمثلة من الماجَريَات والأخبار والأحداث والوقائع التي يشتغل الناس بها فقال:

(وحد الكلام فيما لا يعنيك: أن تتكلم بكلام لو سكتّ عنه لم تأثم، ولم تستضر به في حال ولا مآل، مثاله: أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك، وما رأيت فيها من جبال وأنهار، وما وقع لك من الوقائع، وما استحسنته من الأطعمة والثياب، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم، فهذه أمور لو سكتّ عنها لم تأثم ولم تستضر..)[8].

ونبه أبو حامد على أن من الدوافع التي تجر الإنسان للخوض في هذه الحكايات والأخبار غير النافعة هو الرغبة في إيناس الجلساء!، حيث يقول أبو حامد: (وأما سببه الباعث عليه: فالحرص على معرفة ما لا حاجة به إليه، أو المباسطة بالكلام على سبيل التودد، أو تزجية الأوقات بحكايات أحوال لا فائدة فيها)[9].

وربما لاحظ القارئ أن هذه الأمثلة التي ذكرها أبو حامد للماجَريَات هي من ” أحاديث الشأن الخاص”، حيث يضيع المرء الوقت في الحديث عن أسفاره ومشاهداته الخاصة، ويذكر لنا ابن الجوزي (597ه) أمثلة للماجَريَات ليست من الشأن الخاص، بل من أحاديث الشأن العام، حيث يقول ابن الجوزي:

(ولقد شاهدت خلقاً كثيراً لا يعرفون معنى الحياة، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس..، ومنهم من يُقطَّع الزمان بكثرة الحديث عن السلاطين، والغلاء والرخص، إلى غيرذلك، فعلمت أن الله تعالى لم يُطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه وألهمه اغتنام ذلك، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)[10].

هذان المثالان اللذان ذكرهما ابن الجوزي رحمه الله، وهما أخبار الساسة والرؤساء والمسؤولين وقصصهم، والثاني أخبار الأسعار والسلع، ذكرهما وهو في القرن السادس الهجري، والمدهش حقاً أنهما ما يزالان موضوعَين يستهلكان مجالسنا اليوم.

ومن الأوصاف السلبية المستعملة في لغتنا العصرية اليوم التي توصف بها مثل هذه الماجَريَات والحكايات، وصفها بأنها “كلام فارغ”، وهو تعبير شائع في اللسان اليومي المعاصر، وقد لفت انتباهي أن هذا التركيب استعمل – أيضًا – لدى علماء المسلمين في القرون المتقدمة، ومن ذلك قول ابن الجوزي  وهو يتوجع من أحوال بعض المنتسبين للعلم في عصره:

(كان المريد في بداية الزمان إذا أظلم قلبه، قصد زيارة بعض الصالحين، فانجلى ما أظلم، واليوم متى حصلت ذرة من الصدق لمريد، وكاد همه يجتمع وشتاته ينتظم، فخرج فلقي من يومأ إليه بعلم أو زهد، رأى عنده البطالين يجري معهم في مسلك الهذيان الذي لا ينفع، وأهون ما عليه تضييع الأوقات في “الحديث الفارغ”، فما يرجع المريد عن ذلك الوطن؛ إلا وقد اكتسب ظلمة في القلب، وشتاتاً في العزم، وغفلة عن ذكر الآخرة، فيعود مريض القلب، يتعب في معالجته أياماً كثيرة)[11].

وقد كان للفقيه المربي ابن سعدي رحمه الله استنباط قرآني لطيف حول الاشتغال بالماجَريَات، حيث أدرجها في عموم مفهوم “لهو الحديث” الوارد في فواتح سورة لقمان في قول الله (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) لقمان: 6 .

حيث يقول ابن سعدي رحمه الله: “لهو الحديث” أي: الأحاديث الملهية للقلوب، فدخل في هذا كل كلام محرم، وكل لغو وباطل وهذيان، من الأقوال المرغبة في الكفر والفسوق والعصيان، ومن غناء ومزامير شيطان، ومن الماجَريَات الملهية التي لا نفع فيها في دين ولا دنيا)[12].

ومن التأصيلات العلمية لموقع الماجَريَات، والتي ذكرها أهل العلم، إدراجهم لها في حديث المغيرة بن شعبة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)[13].

ففي هذا الحديث جملتان، وهما: “قيل وقال” و”كثرة السؤال”، فأيهما يشمل ما نحن بصدده؟ الحقيقة أن أهل العلم ذكروا احتمال شمول كلا الجملتين للانشغال بالماجَريَات، فقد قال العلامة القاضي عياض (ت 544 ه )في كتابه إكمال المعلم :

(ومعنى “قيل وقال”: الخوض في أخبار الناس وحكايات ما لا يعنى من أحوالهم، قيل كذا، وقال فلان كذا، فقيل كذا..، و”كثرة السؤال” فيه تأويلات..، وقد يكون كثرة السؤال عن أخبار الناس وأحداث الزمان وما لا يعنى من الأمور، والاشتغال بمثل هذا، فتكون بمعنى النهى عن “قيل وقال”)[14].

وكلمات القاضي عياض هذه تناقلها شراح الحديث من بعده مؤكدين على هذا التفسير والاستنباط.

حسناً، هذه منزلة الماجَريَات في نصوص الشارع وتحليلات العلماء والفقهاء، فلننتقل الآن إلى صيغة جديدة معاصرة في تصدير الماجَريَات عبر الوسائل الشبكية.

الماجَريَات الشبكية:

في العام 1995م سبك الطبيب النفسي الأمريكي إيفان جولدبيرج مصطلح “اضطراب إدمان الانترنت” (Internet Addiction Disorder)  والذي بات يشار له اختصاراً (IAD)، ولكن لم يكن الأمر موضع اهتمام فعلي[15].

ثم في العام 1996م عرضت المتخصصة النفسية الأمريكية د. كيمبرلي يونج في مؤتمر متخصص دراسة جادة في تتبع الموضوع بعنوان (إدمان الانترنت: ظهور اضطراب عيادي جديد) وعرضتها في المؤتمر السنوي للجمعية النفسية الأمريكية، والذي عقد في تورنتو، ونشرت الورقة بعد ذلك في أحد الدوريات النفسية المتخصصة[16].

ولكن كيف استطاعت د. يونج دراسة هذه الظاهرة كإدمان مع أنها غير مصنفة مرضياً في الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية (DSM) الذي اعتمدته الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA) والذي يعتبر المرجع الحاكم في هذا الحقل في الأمريكتين؟ الحقيقة أن د. يونج أخذت من هذا الدليل بإصداره الرابع آنذاك (DSM-IV, APA, 1994) معيار “اللعب المرضي للقمار” وتوصلت الدراسة إلى أن عدداً من أفراد العينة من مستخدمي الانترنت يعاني من نفس الأعراض المصاحبة “للعب المرضي للقمار”، المعتمد في الدليل الرسمي، مما يعني انه تخريجًا على المعايير المعتمدة هناك “استخدام مرضي للانترنت”، وأعيد التأكيد أن هذه النتيجة تخريجية لا تطبيقية.

وتقول د. يونج ملخصة النموذج البحثي المستعمل، والنتيجة التي توصلت لها، في هذه الدراسة المبكرة المشار لها، التي كانت في أواسط التسعينات الميلادية:

(تشير النتائج الحالية إلى أن بعض مستخدمي الشبكة أصبحوا مدمنين على الانترنت قريباً من الحالة التي يصبح فيها آخرون مدمنين على المخدرات والكحول والقمار، والتي تظهر في الإخفاق الدراسي، وتدهور الأداء المهني، بل حتى الانفصال الأسري. والبحث العيادي حول الإدمانات السلوكية ركّز على لعب القمار القهري والإفراط في تناول الطعام، والسلوك الجنسي القهري…، وباستعمال “اللعب المرضي بالقمار” كنموذج، فإن إدمان الانترنت يمكن تحديده بأنه حالة “اضطراب التحكم في الاندفاعية” والتي لا تتطلب مواد مُسِكرة)[17].

ثم انهمرت الدراسات والبحوث الأكاديمية والعيادية حول الموضوع وكثرت بصورة لافتة، وشارك فيها باحثون من جنسيات مختلفة، وبرز الاهتمام الرسمي أيضاً بالموضوع.

وفي المركز الطبي بجامعة ستانفورد قام خمسة من الباحثين بإجراء دراسة توصلوا فيها إلى أن واحداً من كل ثمانية أمريكيين يعاني من أحد أعراض الاستعمال المرضي للانترنت، ونشرت الدراسة عام 2006م[18].

وأفاد 20% من طلاب جامعة هارفارد أن استخدام الانترنت بات يعرقل تحصيلهم الدراسي وأنهم يسألون عن علاج لهذه الحالة[19].

وتزامناً مع تفاقم المشكلة تبنت بعض وزارات الصحة في بعض الدول إنشاء ونشر المراكز الاستشارية التأهيلية لعلاج إدمان الانترنت، حتى أنه في العام 2007م بلغت عدد المراكز الاستشارية لعلاج إدمان الانترنت في كوريا الجنوبية (140) مركزاً [20]!

وبحسب ما لاحظته في البحوث ذات الصلة فإن كوريا الجنوبية أكثر الدول قلقاً حيال الموضوع، واهتماماً بعلاجه، وينقل المختصون عنها حالات في غاية الغرابة لإدمان الشبكة والانهماك فيها واستحواذها على الشخصية، كالسهر طوال الليل دون نوم، وترك الذهاب لقضاء الحاجة بما يتسبب بأضرار الاحتباس، وإهمال الضرورات الحياتية، الخ.

إدمان التواصل الشبكي (SNS addiction):

ينبّه الباحثون في هذا الحقل إلى أنه ليس المراد بالإدمان الشبكي إدمان الآلات المادية المحسوسة لهذه الأجهزة التقنية، وإنما مرادهم – بطبيعة الحال – إدمان المحتوى ذاته في صورة شبكات التواصل الاجتماعي وغرف الدردشة وألعاب الفيديو والقمار الإلكتروني والمواد الإباحية ونحوها، ويحظى الإفراط في الانهماك في شبكات التواصل الاجتماعي بدراسات خاصة تسمى اختصاراً (SNS addiction)، وهو يعنينا في موضوع كتابنا هذا أكثر من غيره من صور الإدمان الشبكي، لأنه هو أكثر المحتويات الشبكية قدرة على اصطياد الشرائح الجادّة المشغولة بالعلم والإصلاح.

التصفح القسري:

ومن الملاحظ أن بعض الناس أثناء الأوقات الجادة المخصصة للمهام، كاجتماع عمل أو حضور درس أو مذاكرة لاختبار أو بحث علمي أو ساعة ذِكْر وتلاوة ونحو ذلك، تتسلل يده مراراً إلى هاتفه الذكي ويفتح شبكات التواصل مثلاً، ويبدأ إبهامه في تمرير الصفحات، فهل هذه مجرد عادة (habit) أم هي أدمان (addiction)؟ المتخصصون في هذا الحقل يشيع بينهم التأكيد على أن الفارق بين العادة والإدمان هو صفة “القهرية” (compulsive)، فالعادة تظل محكومة بالقدرة على السيطرة على الإرادة، بخلاف الإدمان الذي يتحول إلى سلوك قهري.

الأعراض الانسحابية:

من المفاهيم التقليدية المعروفة في الإدمان الكيميائي ما يسمى ” الأعراض الانسحابية” (withdrawal symptoms)[21]، وهي حالة تصيب الجسم عند التوقف المفاجئ عن المواد التي أدمن عليها، حيث يبدأ انسحاب السموم من الجسم، وهذه الأعراض المصاحبة مثل التوتر والقلق والغثيان ونحوها، ومن الملاحظات الطريفة التي تشير إليها دراسات هذا الموضوع، أن العينات محل الدراسة التي تم تشخيصها بأنها مدمنة على الانترنت، وهو إدمان سلوكي وليس كيميائي، ظهر عليها أيضا “الأعراض الانسحابية” عند التوقف المفاجئ عن استخدام الانترنت، فيظهر عليها الغضب والقلق والتوتر والانزعاج[22].

وهذه الحالة التي تذكرها هذه الدراسات تؤكدها التجارب الشخصية أيضاً، وما زلت أتذكر أحد الأصدقاء تأخر كثيراً في تسليم رسالته العلمية، ولاحظ أن شبكات التواصل تلتهم عليه وقته وتفترس تركيزه الذهني والنفسي، فقرر حذف حسابه، ويروي هذا الصديق كيف يشعر بتوتر في اليوم الاول، وكيف كانت تقرصه يده للدخول لما اعتاد عليه، بل حدثني شخصياً وهو مندهش كيف لاحظ أبناؤه فظاظته في التعامل معهم في الساعات الأولى التي حرم نفسه فيها من الدخول لشبكات التواصل، وهذه الحالة هي عينها ” الأعراض الانسحابية” (withdrawal symptoms) التي رصدتها الدراسات التجريبية الجادة في هذا الحقل.

إغراء أم مهرب؟

ومن التصورات الشائعة: الظن أن العامل الجوهري في الإدمان الشبكي هو بفعل الجاذبية الاستثنائية للمحتوى على الانترنت بحيث يخلب المرء عن المهام الأخرى، وهذا التصور غير دقيق البتة، فقد أكدت دراسات هذا الحقل أن الإدمان الشبكي كثيراً ما يكون “آلية هروب نفسي”Psychological escape mechanism” للفرار من تعقيدات المهام والمطالب العلمية والعلمية، كما يقول مثلاً بعض الباحثين (هذا النوع من التفكير المكروب قد يقود إلى استخدام قهري للإنترنت لتوفير آلية هروب نفسي لتحاشي المشكلات الحقيقية أو المتخيلة)[23].

ومما يؤكد – مثلاً – هذه النتيجة التي يذكرها الباحثون أن المرء يلاحظ في التجارب الشخصية أن الطلاب يتكثف شعورهم بالإلحاح النفسي الداخلي لزيارة مواقعهم المفضلة على الشبكة في أوقات ضغط المهام، كأوقات الاختبارات الدراسية أو في أوقات العبادة الجادة في رمضان ونحو ذلك، وليس ذلك لإغراء هذه المواقع بقدر ما هو حيلة ذاتية للتنفس خارج ضغط المهام المكتظة أو الثقيلة.

التصفح الملثم:

ومن أكثر الظواهر التي كشفتها دراسات هذا الموضوع لفتًا للانتباه هو محاولة المفرط في استعمال الانترنت الكذب أو إخفاء الوقت الحقيقي الذي مكثه في استعمال الانترنت، وإظهار أنه وقت قليل وعابر، حتى أن عددا من دارسي هذا الموضوع اعتبره من علامات الإدمان الشبكي، كما يقول بعض الباحثين (العلامات التي قد تشير إلى إدمان الانترنت تشمل الآتي:… محاولة إخفاء أو تمويه كمية الوقت المستغرقة على الشبكة)[24].

ويعتبر هذا السلوك الطريف أحد أدوات مقياس اختبار إدمان الانترنت (IAT)، حيث يوجد في هذا المقياس سؤال يقول (كم عدد المرات التي حاولت فيها إخفاء مدة مكثك على الشبكة؟)[25]

وهذه الحالة التي تشير لها هذه الدراسات هي بصراحة أكثر عَرَض استحوذ على انتباهي، فالدراسات الإنسانية التي يقرؤها الباحث ويتفاعل مع نتائجها ورصدياتها تتفاوت دوافعه في هذا التفاعل، فتارة تجده يقتبس منها مادةّ في بحوثه ويستشهد بها لا لأنها كشفت له جديداً وإنما لأنها برهنت له ظاهرة يعرفها من قبل، فهو يستفيد من هذه الدراسة ليحول الفكرة من مجرد ملاحظة شخصية إلى معطى بحثي تطمئن له النفوس، وتارة أخرى يقتبس من هذه الدراسات ويحيل إليها لا لأنها أيضا كشفت له جديداً؛ بل لأن الدارس استطاع صياغتها في جملة فنية  اصطلاحية تمكّن من تداولها كمعطى بدلاَّ من كونها صورة عائمة في الذهن تشرق في غير وقتها وتغرب حين الحاجة لها، وأما هذه النتيجة التي نحن بصددها وهي ” إخفاء وقت المكث على الشبكة” فبكل صراحة لم أتفطن لها مسبقًا باعتبارها مظهراً من مظاهر التعامل المرضي مع الانترنت، وحين قرآت هذه الدراسات حول هذا الَعرَضَ بدأت الذكريات تنساب حول بعض الأحداث التي فسرها لي هذا المفهوم.

لقد تذكرت مثلاً أحد الأصدقاء وهو يبوح لي بمعاناته ويفضي لي بمعاركة النفسية مع الاستغراق في الشبكة، كان يقول لي أنه يخجل من أن يتفطن الناس لمدة جلوسه على شبكات التواصل، لدرجة أنه أحياناً يمسك هاتفه الذكي بطريقة مُمالة لئلا يرى المجاورون حقيقة ما يصنعه ويوهمهم أنه يراجع بهاتفه مجرد أمرٍ عارض هام.. وحكى لي أحد طلبة العلم المميزين انه يدخل متخفياً إلى شبكات التواصل، بل ويشبع شهوة التعليق أحياناً بأسماء مستعارة؛ كل ذلك لئلا ينصدم الآخرون باستهلاك وقته في هذه الشبكات وهم يظنونه طالب جاد لا يطيق رفع عينيه عن كتابه..

ولا أحصى كم سمعت طويلب علم يردد أنه لا يعلم ما في هذه الشبكات وأنه مشغول، وربما أبدى التعجب في البداية لبعض ما ينقله الجلساء عنها، حتى إذا ثار الحديث عن آخر المعارك الشبكية نسي نفسه وتحدث حديث المتابع لأدق تفاصيلها.. لكنه يخفي متابعته خجلاً من الناس أن تتخلخل صورته الذهنية العلمية السامقة في تصوراتهم.. وكم للنفوس من أغوار نائية سحيقة..

العمى الزمني:

ومن الظواهر التي كشفتها هذه الدراسات بشكل مبكر ما يسميه بعض الباحثين التواء أو التفاف الزمن (Terminal Time Warp) أو الثقوب الزمنية، وهو استعارة لظاهرة فلكية افتراضية بحيث يبدو المتصل كأنما يقفز من لحظة زمنية أخرى، ويقصدون به مشكلة (فقد الإحساس بالزمن) أثناء الاتصال بالشبكة، يقول بعض الباحثين وهو يشرح مشكلة أحد المراجعين له:

(تحكي روبن ذكرياتها قائلة ” في أحدى المرات بقيت على الشبكة لمدة طويلة حتى أنني سمعت زقزقة العصافير وأمكنني رؤية الشمس تشرق خارج نافذتي قبل أن أدرك أن الساعة بلغت السادسة الذي هو وقت استيقاظي من النوم”. لقد وقعت روبن في قبضة “التفاف الزمن” (Terminal Time Warp)، وهي ظاهرة يعانيها إلى درجة ما كل مستخدمي الانترنت تقريباً، خلال رحلتهم على الشبكة..، إنه من الشائع أن تفقد متابعتك للوقت، وحينما شخص أو شيء ما يدفعك لحساب كم الوقت الذي مضى وأنت على الانترنت؟ ربما تهزك الحقيقة، أربع ساعات؟! لقد بدت وكأنها فقط 15 دقيقة!)[26].

هذا الكتاب الذي أشار لتشخيص هذه الظاهرة، أعني انسياب الوقت في ملاحقة الماجَريَات على الشبكة دون شعور، نشرته الباحثة عام 1998م، وما زادت التطبيقات الشبكية الجديدة هذه الحالة إلا تعقيداً.

مدمنو البيانات (Data holics):

من العقبات المعروفة في البحوث العلمية شح المعلومات في موضوع البحث التي تجعل الباحث يقلب الكتب وهو كاسف البال ويراسل المختصين فلا يعود بطائل ويصبح البحث كالجبل فوق رأسه، ولكن ليس هذا كل شيء، ليس شح المعلومات هو المشكلة  فقط، فإن الكثرة المفرطة في المعلومات موضوع البحث هي أيضّا عقبة أخرى أكثر شيوعاً اليوم، فترى الباحث كلما ظن أنه استوعب منطقة البحث وحرثها جيداً، انفتحت عليه أبواب ومساحات  أخرى فيتشعب ويتفرع ويتعنقد حتى تخور قواه، فلا يسعفه الوقت لدراسة هذه المعلومات المتدفقة المتناسلة، وبذات الوقت يعز عليه أن يختم البحث ويستخلص النتائج وما زالت بعض معطياته مجهولة له، وخصوصاً إذا كان الباحث من المصابين بشهوة الاستقصاء .

فما الذي يحدث في هذه الحالة؟ الحقيقة أن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن تخور قواه فيدع الباحث البحث على ما هو عليه، ويجعله مجرد مستندات محفوظة في جهازه المحمول، ويبدأ رحلة “مشروع بحث جديد” هروباً من الضغط النفسي السابق،ويصبح يتحدث عنه في مجالس أصحابه أن عندي بحث في كذا ولكن تمر السنون وهو يردد هذه الجملة.

وهذه الإشكالية في شهوة أو عقدة الاستقصاء سبق أن تحدث عنها كثير من مشاهير المشتغلين بالبحث العلمي، وباعثها الخفي هو “عائق تطلب الكمال”.

والحقيقة أن طوفان المعلومات والقدرات البحثية المهولة التي وفرتها شبكة الانترنت زادت من احتمالات هذه العقبة، ولذلك أطلق بعض الباحثين على أصل هذه الظاهرة لقب مدمني البيانات (Dataholics)، وهو لقب أعم يشمل كل من أصيب بالشراهة في مطاردة وجمع المعلومات على الشبكة[27].

ويرى باحثون آخرون أن الإمكانات المعلوماتية الاستثنائية لشبكة الانترنت ساهمت في زيادة ما كانوا يسمونه سابقاً الإغراق المعلوماتي أو الإفراط في تحميل المعلومات (Information Overload) وهو مصطلح له تاريخ سابق ليس هذا موضع عرضه، لذلك يقول بعض الباحثين:

(إدمان الانترنت مصطلح فضفاض يغطي تشكيلة واسعة من السلوكيات ومشكلات التحكم في الدافعية، والأنواع الفرعية الخمسة لإدمان الانترنت هي كالتالي:..) ثم ذكر النوع الرابع فقال (4- الإفراط في تحميل المعلومات: شبكة الانترنت خلقت نوعًا جديداً من السلوك القهري يشتمل على الإفراط في تصفح الشبكة والبحث في قواعد المعلومات، وهؤلاء الأفراد يبددون كمية غير مناسبة من الوقت في بحث وجمع وتنظيم المعلومات)[28].

تسلسل التصفح:

كيف تمكنت الماجَريَات الشبكية أن تجرّ المتابع داخل الدوامة الزمنية دون الشعور بالوقت؟ يبدو لي أن مفتاح فهم الظاهرة هو قضية “تسلسل التصفح”، فالمادة الشبكية هي منظومة روابط (لينكات) يفضي بعضها إلى بعض، ومواد قصيرة متتالية يرتكز أغلبها على العرض البسيط المثير، ولذلك يستمر المتابع في هذه السلسلة التي تسلمك حلقاتها للأخرى، فهذا التجدد والتغيّر المتتالي في المواد القصيرة المعروضة هو السنارة التي لا يقاومها المستخدم، وتزيد شبكات التواصل عنصراً آخر وهو معطى “التفاعلية”، فالمعروض ليس مواد مجهزة للعرض بل مواد يشارك فيها الطرف  المستهلك نفسه في الجدل، ويحتف بذلك الخديعة النفسية كالقول بأنني سأمكث دقائق وأغادر، أو سأرى الأحداث قليلاً وأقفل التصفح، وهذا ما يمكن تسميته التصفح المتمادي أو التصفح المستطرد، وهو حالة من التفرع والتشعب في المتابعة .

النبأ المتدحرج:

كانت الصورة التقليدية في متابعة الأخبار أن يستمع المتابع الأخبار من المحطات  الإذاعية، وقد يطالع بعض مقالات مشاهير كُتّاب الرأي التي تحلل وتربط المعطيات الإخبارية، ثم جاءت الفضائيات وفتحت مساحة هائلة إضافة للنقل الحي وهو الحوارات واللقاءات الساخنة على مدرجات الأحداث مع اللقاء بالفاعلين وجهاًَ لوجه والإفضاء بشهاداتهم، ولكن يظل المشاهد غير قادر على التحكم في وقت العرض وفي الوصول المباشر لموضع اهتمامه.

وأما المتخصص فقد يزيد بمطالعة الدراسات المتخصصة التي تدرس ما هو أوسع من الأحداث اليومية إلى دراسة التفسيرات والخلفيات والبنى الكلية ونحوها.

ثم جاءت الخدمات الإخبارية بواسطة الشبكات، وتعزز هذا بطفرة الهواتف الذكية (smart phone)، ثم انفتاح عالم شبكات التواصل (SNS)، فانتقلنا إلى سلسلة جديدة أشد تمادياً من كل ما سبق، وهو دخول عنصري “الفورية” و”التفاعلية”، من خلال ما يمكن تسميته (مسلسل الخبر والتعليق والتعليق على التعليق)، فالمتابع بمجرد أن يسمع الخبر سواء كان عالمياً أم محلياً تجده يسارع لفتح شبكات التواصل لا ليبحث عن “تحليل متخصص”، بل ليرى تعليقات  الناس وردود أفعالهم وقد ينخرط فيها، فتثير التعليقات ردوداً، وردوداً على الردود، في متتالية تعليقية متناسلة لا تتوقف، وقد يزيد الاندماج إلى درجة التنقل عبر المسارات التواصيلة، فتجد المتابع يصوّر عبر هاتفه الذكي تعليقاً أو مساجلة من أحد شبكات التواصل وينقلها لشبكة أخرى ويجري عليها جدلاً جديداً، فيصبح كأنما هو بشكل مستمر داخل صالون افتراضي سجالي حول الأحداث والوقائع.

هذا يعني أننا اليوم أمام الفيضان الرقمي للأنباء وتفاعلات شبكات التواصل والهواتف الذكية الملازمة؛ أصبحنا أمام مشهد أكثر تركيباً للمتابع العام، فلم تعد المسألة متابعة الأخبار التي هي “الخبر الخام” أو الخبر المحلل من متخصص، بل القضية يمكن تسميتها ب “الخبر المُضاعف”، لأنه يتدحرج ويستطير ويترامى ويتعنقد عبر “مسلسل الخبر والتعليق والتعليق على التعليق” في صورة فورية ودون الارتباط بأوقات عرض فضائية، ودون الحاجة لغرفة مناسبة لوضع الشاشة، بل الهاتف الذكي الذي أصبح صالوناً افتراضياً سجالياً يلازم المرء في كل أحواله مكانياً وزمانياً، في مجلسه وبين أهله وأصدقائه وفي مقر عمله بل صار بعض الناس لا يستطيع التوقف عن التصفح في أماكن الخلاء وقضاء الحاجة، بل بلغ الأمر أن صارت أوقات الانتظار في المسجد تدعك يد المدمن ليستخرج هاتفه الذكي ويواصل المتابعة، وهكذا في أوقات زمنية متفاوتة أيضاً، حتى أن كثيراً من الناس يستفتح أول شيء بعد استيقاظه بالاستعراض السريع لآخر المعروض التواصلي الذي وقع أثناء نومه!

لحظات التسلل:

ثمة حالات كثيرة طبعاً للتسلل الشبكي، لكن يمكن لنا أن نرصد من حالات التسلل للفضول الشبكي ثلاث حالات: وهي حالة ضغط المهام، وحالة الاسترخاء بين المهام، وحالة استفتاح العمل، فأما حالة الضغط فإن البعض حين يمر بإثقال علمي أو عملي، مثل أن يكون في لحظة ضغط الصياغة بعد جميع المعلومات أو ضغط استخلاص نتيجة بحثية أو ونحوها، فقد تجده يفزع للتصفح، وهذه بلا شك حالة هروب أكثر من كونها خضوع لجاذبية، وقد سبقت الإشارة إليها.

وأما الحالة الثانية للتسلل فهي حالة الاسترخاء بين المهام، فالتسلل للهاتف الذكي أثناء القراءة أو البحث أو الحفظ واستذكار الدروس هو حالة تخفف من الإجهاد الذهني أثناء إرهاق النظر العلمي، ولذلك مثلاً تزداد دافعية الخروج للهاتف الذكي في كل مرة ينتهي الناظر العلمي فيها من صياغة فقرة أو الانتهاء من “وحدة ذهنية” معينة، وهذا يعني – أيضاً – أنه يمكن النظر للجهد الذهني باعتباره يقاس سيره بالوحدات وليس خطاً متصلاً.

وأما الحالة الثالثة للتسلل الشبكي فهي حالة استفتاح العمل، أي البداءة أحيانا بالتصفح ثم الانتقال للمهام العلمية والعملية من البحث والقراءة، فإذا أخذ المرء مجلسه للعمل قال لنفسه سآخذ جولة سريعة على شبكات التواصل ثم أنكب على البحث والقراءة والاستذكار وأركز في العمل، والواقع أنها فخ نفسي حيث تذهب زهرة المدة المخصصة للعمل بما فيها من صفاء ونشاط في التفرج والتصفح العشوائي، ثم يحاول التدارك كل مرة بعد أن لا يبقى لمهامّه إلا فتات الزمن ونشارة الوقت.

ويمكن أن يكون التسلل الشبكي في لحظة أخطر، فحين تتهدج التسابيح وينجمع الهم على الإخبات والاستكانة لرب العالمين، ويعكف القلب في محراب التعبد، وتتعاقب الواردات الرحمانية، فلا يزال شيطان الخطرات ينزغ وينفث حتى تندسّ كف الالتفات تنتر شاشات الفضول، فيتبلبل القلب ويتشعث الهم، وتتبعثر الخطرات في خلجان المرادات..

الاستمراء بمواطأة النظراء:

هل ما نتحدث فيه منذ اليوم هو معلومات غريبة أو ملحوظات فريدة؟ لا طبعًا، بل أنا أجزم أن عامة القراء سبق أن فكّروا في الإشكاليات الشبكية المطروحة آنفًا، بل ثمة مستوى آخر، وهو أن كثيراً من القراء سبق أن تألموا من هذه الحال ثم برد الأمر عندهم.

ما السبب في ذلك؟ السبب هو أن النفس البشرية بطبيعتها “قَطَويَّة” تستروح بالمشابهة كما قال الإمام ابن تيمية (الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض)[29].

فما دام طالب العلم يرى طائفة من المنتسبين للعلم والثقافة والتغيير منخرطين في هذه الشبكات التواصلية فإنه يخف وقع الأمر في نفسه، حتى لو كان بينه وبينهم فرق في تنظيم الوقت والتحكم فيه.

المهاترات الشبكية:

بكل صراحة لا شيء يهرش الكَدَر ويكبس الغمّ على نفسي مثل أن أرى شاباً كان للتو قد ثنى رجليه على متون العلم أو لبس نظارته للثقافة الجادة؛ ثم انتحى يهريق عمره يتتبّع المهاترات الفكرية والتيارية ومماحكات القضايا الصغيرة على الشبكة، يطارد تعليقات سوقيّة بليدة بعد أن كان يتقفر العلم الشريف، وبعد أن كان يشح بوقته على أمور مشروعة صار يجود بزهرة شبابه على اللغو الشبكي، بل كان هذا الشاب نفسه قبل مدة قريبة يسأل بحرقة كيف يتعامل مع الولائم الاجتماعية والاجتماعات العائلية والأسرية بحيث لا تأخذ من وقته لطلب العلم، برغم أن تلك الاجتماعات العائلية إما بر بالولدين أو صلة للرحم، ومع ذلك كان حينها كاسف البال متحيّراً بسبب فوران همته للعلم، واليوم… يريق تلك الساعات التي ضنّ بها على صلة رحم في ملاحقة تُرّهات شبكية نقرها عابثُ مستلقٍ على ظهره ذات مساء طبولي…

ومن عجائب ابن آدم أنه قد يتذمر من ضيق الوقت، وينوح من الالتزامات والانشغالات؛ ثم إذا خلا بنفسه أطعم وقته مسبعة الماجَريَات..

حجية كثرة الطَّرْق:

من مشكلات التكوين عبر شبكات التواصل، وخصوصاً ذات النصوص او المشاهد القصيرة، أن الاتجاهات المنحرفة تعتمد فيها على “كثرة الطرق” للدعوى، دون برهنة، أو بحجة شعارية هشة من الداخل، لكنها مع كثرة الطرق تأخذ شرعية تشبه شرعية الكثرة الانتخابية لا شرعية العلم والبرهان والدليل، وهذه الحالة تؤثر على التفكير العلمي تأثيراً سلبياً عميقاً، بما ينتهي إلى حالة يمكن تسميتها حالة “شلل المقدرة الاستدلالية”، عبر تورم المعرفة بالدعاوى والفرضيات والمزاعم، وضمور العلم بالحجج والبراهين والأدلة، وهذا يفضي تدريجياً إلى التوهان والحيرة واللاحسم.

بعد أن استعرضنا بعض مظاهر الماجَريَات الشبكية نعيد تأكيد السؤال: ما المطلوب؟ هل المطلوب مقاطعة هذه الوسائل المذهلة في قدراتها واعتزالها؟ لا طبعاً، بل هذا رد فعل تجاوزي شديد الضرر، بل المطلوب هو “التوازن” في معاملة نظم الاتصالات، وإيلاء هذه المشكلة حقها من العناية، وأن لا تقودنا مشاهدة النظراء إلى التساكت المتبادل وتجاهل المعضلة، وخصوصاً في المرحلة الذهبية للتحصيل العلمي، فمن كانت هذه الشبكات قد لكزته في دوامة الماجَريَات فيفترض به الوقوف الصارم مع الذات وإعادة تنظيم العلاقة لتكون “متابعة منتجة” ومتناسبة مع القدر المطلوب فلا تغطى على مهامه الأخرى العلمية والعملية، ولا تبعثر جمعية قلبه على الله..

يعبر الناس عن الزمن بوحدات كثيرة كالأيام والساعات والدقائق الخ، ومن ألطف تلك الألقاب ما روي من التعبير عن الزمن ب “الأنفاس وهذا التعبير عن الوقت بالأنفاس نافقٌ في مدونات السلوك، بحيث ينظر لكل نفَسٍ من الأنفاس باعتباره وحدة عُمريّة كاملة، كما قال شمس الدين ابن القيم رحمة الله (الأوقات تعد بالأنفاس)[30].

وهذا النظر إلى “الزمن كأنفاس” يثمر للمرء كمال اليقظة بأن لايضيع نفَسٌ في غير ذخر، كما قال أبو حامد الغزالي (ت 505 ه) رحمه الله (فإن كل نفَسٍ من أنفاسِ العُمْر جوهرةٌ نفيسةُ لا عوض لها)[31]، والمرء أمام هذه الجواهر في سباق ورهان محموم على أن يسجل في كل نَفس ذخرًا يلقاه غداً.

إذن فإن ظاهرة اختطاف التنين الشبكي لاستقلال الأفراد واختلاس أوقاتهم وحرفهم عن مسارهم وتحويلهم لكائن سبهللي، لم تعد من قبيل النياحة العامية التقليدية التي تبعثها صدمة الوهلة الأولى أمام طفرات النمو التقني، والمألوفة في تاريخ التقنية وردود فعل الثقافات تجاهها، لا، بل هذه الحالة اليوم صارت عينة بحث تعاورتها الدراسات النفسية والاجتماعية، حتى بات هذا الحقل له أديباته النشرية ومراكزه الاستشارية المتخصصة في بعض الدول، وكشفت هذه الدراسات عن كثير من التركيبات المدهشة أثناء تشريحها لهذه الظاهرة، خصوصاً بعد أن بلغت مستوى “السلوك القهري”.

وأخيراً يجب أن لا نستسلم لحالة الانجراف في دوامة الماجَريَات بسبب تتابع كثير من الناس على ذلك.. ويجب أن تكون هناك نقطة توقّف تعاد فيها الحسابات بشكل دقيق… فبسبب هذا الغوص في الماجَريَات اليومية باتت أنفاس الزمان تغادر فارغة.. وجمعية القلب على الله تتبعثر.. والكتب المُشتراه على حالها منذ آماد .. والإنتاج الإصلاحي قد تجمّد .. وآل الأمر إلى “كثرة الكلام وقلة العمل”… ولا شيء أكثر حزناً من أن يتوهم الماجرياتي أنه في قلب عملية التغيير وفقه الواقع وهو مجرد مراقب ومتفرج لاغير…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إبراهيم بن عمر السكران (2015). الماجريات. ط. 1. الرياض: دار الحضارة للنشر والتوزيع. ص ص. 37: 71، 314- 315، 324، 328.

** إبراهيم بن عمر السكران، باحث ومفكر إسلامي، مهتم بمنهج الفقه الإسلامي وبالمذاهب العقدية والفكرية، له العديد من المؤلفات والأبحاث والمقالات المنشورة وله عدد من الكتب المطبوعة.

[1] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (ص: 1/54).

[2] ابن القيم، رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه، تحقيق عبدالله المديفر، طبعة المجمع، (ص:3)

[3] ابن القيم، الفوائد، تحقيق عزير شمس، طبعة المجمع،( ص: 287).

[4] المصدر السابق، ذات الصفحة

[5] المصدر السابق، (ص: 288).

[6] صحيح مسلم، (2965).

[7] ابن القيم، مدارج السالكين، تحقيق حامد الفقي، دار الكتاب العربي، (ص: 3/181)، وفي الأصل: “عماجريات”، وانظر الطبعة التي حققت في رسائل جامعية: دار الصميعي، (ص: 4/ 3131).

[8] الغزالي، إحياء علوم الدين، دار المنهاج، (ص: 5/407).

[9] المصدر السابق، (ص: 5/410).

[10] ابن الجوزي، صيد الخاطر، دار القلم، (ص: 241)

[11] ابن الجوزي، صيد الخاطر، دار القلم، (ص: 369)

[12] ابن سعدي، تيسير الكريم الرحمن، تحقيق سعد الصميل، دار ابن الجوزي، (ص: 3/1347).

[13] البخاري (2408)، مسلم (593).

[14] القاضي عياض، إكمال المعلم بفوائد مسلم، تحقيق يحيى إسماعيل، دار الوفاء، (ص: 5/569).

[15] Yan Z. (ed), Encyclopedia of Cyber Behavior, IGI Global, 2012, p. 755.

[16] Young K., Internet addiction: the emergence of a new clinical disorder, Cyber Psychology and Behavior, 1 (3), 1998, pp. 237 – 244.

[17] Ibid.

[18] Aboujaoude E., Koran L.M., Gamel N., Large M.D.& Serpe R.T., Potential markers for problematic Internet use, CNS Spectrums, The International Journal of Neuropsychiatric Medicine, 11(10), 2006, pp. 750 – 755.

[19] Weintraub p., et al., Internet addiction. In Ruiz P. & Strain E. (ed), Lowinson and Ruiz’s Substance, Lippincott Williams, 5ed, 2011, p. 407.

[20] Fackler M., In Korea a boot camp cure for Wed obsession, The New York Times, November 18, 2007.

[21] Feldman R. s., et al, Principles of   Neuropsychopharmacology, Sinauer Associates, p. 604, 649.

[22] Shek D., et al, Internet addiction. In Pfaff D. (ed), Neuroscience in the 2lst Century: From Basic to Clinical, Springer, 2012, pp. 2777 – 2782.

[23] Yonug K.& de Abreu C.(eds), Internet Addiction, John Wiley & Sons, 2011, p. 8.

[24] Bosij p,. The Dark Side of the Internet, Greenwood Publishing Group, 2006, p. 198.

[25] Aboujaoude E.& Koran L., (eds), Impules Control Disorders, Cambrideg University Press, 2010. P. 294.

[26] Young K., Caught in the Net, Joha Wiley & Sons, 1998, p. 36.

[27] Colman A., Dictionary of Psychology, Oxford University Press, 2015, p. 187.

[28] Shaw M. & Black D., Internet addiction: definition, assessment, epidemiology and clinical management, CNS Drugs, 22(5), 2008, p. 335.

[29] ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (ص: 28/150)

[30] ابن القيم، مدارج السالكين، تحقيق رضوان جامع، مؤسسة المختار، الطبعة الأولى، 1422ه – 2001 م، (ص: 2/ 363).

[31] الغزالي، إحياء علوم الدين، دار الخير، الطبعة الثانية، 1413ه – 1993م، (ص: 6/6).

عن إبراهيم السكران

شاهد أيضاً

الرؤية المزدوجة لعنصر الزمن

أ. مهجة مشهور

انشغل الفلاسفة القدماء والمحدثين بمفهوم الزمن، باعتبار أن الزمان ومعه المكان هما إطاران للوجود، وهما بوتقة لمطلق حدود عالم الإنسان وآفاق عقله ووعيه.

التدين الرقمي

أ. مهجة مشهور

مع ظهور الثورة التكنولوجيا الرقمية أصبح الإنترنت بتطبيقاته الهائلة وإمكاناته اللامتناهية وبخدماته التي تتميز بالسرعة والدقة وسعة التخزين العالية جزءاً لا يتجزأ من مجتمعاتنا المعاصرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.