الحياة السائلة

العنوان: الحياة السائلة.

المؤلف: زيجمونت باومان.

المترجم: حجاج أبو جبر.

تقديم: هبة رؤوف عزت.

الطبعة: ط. 1.

مكان النشر: بيروت.

الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

تاريخ النشر: 2016.

الوصف المادي: 206ص. ، 24 سم.

الترقيم الدولي الموحد: 6-122-431-614-978.

يأتي هذا الكتاب لزيجومنت باومان ضمن سلسلة السيولة التي بدأها بكتاب “الحداثة السائلة”، والذي وضع فيه باومان مشروعه الفكري والإطار التحليلي الكلى لتحولات الحداثة من صيغة الصلابة لصيغة السيولة، وتحدَث فيه عن سيولة العلاقات والمعاني، فالمسلمات والمقدسات والثوابت تتضاءل بما يؤدي إلى حياة مليئة بالمخاوف التي يرى باومان أنها قرينة عدم اليقين.

 ويعد هذا الكتاب نصًا شارحًا وتفصيلًا عمليًا وتطبيقًا لما أجمله في “الحداثة السائلة”، حيث يقوم باومان بتنزيل الإطار الكلي للحداثة السائلة على ما نعيشه في زمن السيولة في دائرة اليومي والشخصي. فيفصل فيه باومان مظاهر وتجليات الحداثة التي نعايشها في حياتنا اليومية وذلك بالانتقال من المستوى النظري إلى التحليل السوسيولوجي الواقعي لما يحياه الفرد بحق، حيث تهبط المعاني من سموها لتسكن دائرة السوق، وتغدو سلعًا. وما السلوك الاستهلاكي والمتمحور حول اللذة اللحظية إلا نتيجة –كما يرى باومان- خوف حقيقي من فقدان كل شيء ومواجهة المجهول.

وكعادة باومان فإن أسلوبه في الكتابة ليس سردًا منظمًا بقدر ما يأتى على هيئة شذرات تحتاج من القارئ أن يوصلها ببعضها حتى تكتمل لديه الصورة، وهذا مما يعكس ثراء الكاتب المعرفى.

يفتتح الكتاب بثلاث مقدمات: الأولى للمترجم، والثانية بعنوان “عن السيولة… ومعاركنا اليومية للدفاع عن إنسانيتنا” لأستاذ العلوم السياسية الدكتورة هبة رؤوف عزت، والثالثة بعنوان “عن العيش في عالم حديث سائل” لمؤلف الكتاب.

 وينقسم الكتاب إلى سبعة فصول:

الفصل الأول: الفرد تحت الحصار.

الفصل الثاني: من الشهداء إلى الأبطال، ومن الأبطال إلى المشاهير.

الفصل الثالث: الثقافة خارج السيطرة والإدارة.

الفصل الرابع: البحث عن مأوى في صندوق باندورا، أو الخوف، والأمن، والمدينة.

الفصل الخامس: المستهلكون في مجتمع حديث سائل.

الفصل السادس: تعلم السير على الرمال المتحركة.

الفصل السابع: التفكير في أزمنة مظلمة.

مقدمة عن العيش في عالم حديث سائل

يبدأ باومان كتابه بوضع خلفية عامة عن فكرة سيولة المجتمع الحديث وتجلياتها في تفاصيل حياتنا اليومية، وذلك في مقابل فكرة الصلابة التي اتسمت بها الحداثة في أول الأمر ليظهر المعنى بوضوح، مبينًا أن الحياة السائلة هى حياة تحيط بها المخاطر يعيش فيها الفرد حالة من اللايقين والخوف الدائم نظرًا لخوفه من التغير المستمر والمفاجئ التي تتسم به تلك الحياة، والتي تجعله دائمًا في حالة حركة خوفًا من أن يتخلف عن ركب السائرين في سباق الحياة المادية الاستهلاكية وضغوطاتها، فهى حياة تتسم بالسرعة والاستهلاك المستمر الذي لا يتوقف، فلا مكان فيها للثبات والتوازن، بل لابد للفرد أن يكون دائمًا على استعداد لبدايات جديدة وتجارب جديدة، وهذا بدوره يجعله لا ينتمى لمكان أو لزمان، ومن هنا يقع مفهوم الانتماء في معضلة وكذلك مفهوم الوفاء.

 وتكمن الأزمة الحقيقية في أن الفرد ليس له حرية اختيار أن يحيا هذه الحياة أم لا، فهى مفروضة عليه، وهنا يعاني من لا يرغب فيها وكذلك من لا يقدر عليها، أي لا يملك من القدرات المادية والمعنوية بما يسمح له بهذه الحركة الدائمة، بمعاناة كبيرة.

ويؤكد باومان في هذه المقدمة أن النفايات هي المنتج الأكثر انتشارًا في المجتمع الاستهلاكي الحديث السائل، فالترغيب الدائم في التحديث المستمر يجعل النفايات المنتج الرئيسي في هذا المجتمع، فالمستهلك دائمًا ما يعرض عليه الأجدد والأحدث، وإن لم يلاحق عجلة التحديث شعر بالحرج والخجل، فالفرد في هذا المجتمع مادة استهلاكية مستهدفة.

الفصل الأول

الفرد تحت الحصار

يتناول باومان في هذا الفصل مفهوم الفردية بتفصيل مبينًا ما طرأ عليه من تغيرات في ظل الحداثة السائلة، فيشير ابتداءًا إلى معضلة الفردية في المجتمع الحداثي، فهو مجتمع يعزز من قيمة الفردية ويطلب من الجميع أن يكونوا أفرادًا متمايزين، ومن هنا تظهر المعضلة، فالكل يسعى إلى الفردية فيتبعون استراتيجية واحدة فيتشابهون، وكأن باومان يريد القول أن الفردية شئ متأصل فينا فنحن نختلف في حقيقة ذواتنا بطبيعة الحال، ولكن عندما نجبر على أن نكون أفرادًا ونتكلف التفرد نصبح جميعنا متشابهون، لأننا نسعى جميعنا للتفرد بنفس الطريقة، وفى سبيل ذلك يضيع التفرد الإنسانى المطلوب وهو ما يتعلق بذواتنا وكينونتنا الداخلية ومشاعرنا الذاتية التي هي متفردة بطبيعتها.

ينتقل باومان في سرد تاريخي لظهور مصطلح الفردية في وعي المجتمع الغربي، ثم يشير إلى معنى الفردية الإنساني المطلوب والذي يتعلق بالاختيار الإنساني الحر، وهو ما تفقده المجتمعات الحداثية الاستهلاكية التي جعلت من الفردية غاية يلهث الجميع ورائها ولكن عن طريق الاستهلاك، فالفرد في المجتمع الاستهلاكي عليه أن يظل في حركة مستمرة ينتقل بسرعة بين الأقدم والأحدث ليحقق التفرد المطلوب، ذاك التفرد الذي لا يتعلق بالجوهر الإنساني ولكن الذي يتعلق بالقدرة الشرائية، ومن ثم يضيع في هذا السباق من يعانون الفقر ويلقى بهم في سلال القمامة كالمنتجات التي انتهت صلاحيتها، فالفردية وفقًا لهذا أصبحت كما يقول باومان امتيازًا للمستهلكين القادرين الذين يشكلون فرديتهم من أحدث التصميمات.

وفى سياق حديث باومان عن الفردية في المجتمعات الحداثية وما يرتبط به من إشكاليات تمس حرية الإنسان، يتطرق إلى مناقشة مسألة الهوية وأنها توقع الفرد في هذه المجتمعات في صراع يكون فيه بين متناقضين، البحث عن الحرية في اللاانتماء والفردية من جهة والحاجة إلى الأمن الذي يتحقق بالانتماء إلى الجماعة من جهة أخرى، ومن هنا تظهر ثقافة الهجين التي في ظاهرها –كما يقول باومان- تعددية ثقافية بينما هي في حقيقتها ليس إلا انصهار للأفراد في إناء احد، وهوية يحاول الفرد أن يضفيها على نفسه ولكن ليس لها مرجعية ثقافية حقيقية، فهى هوية لا علاقة لها بالتاريخ وإنما هى حبيسة الحاضر المتجدد دائمًا.

الفصل الثاني

من الشهداء إلى الأبطال من الأبطال إلى المشاهير

في هذا الفصل يتناول باومان أثر الحداثة السائلة على المعانى السامية، وكيف تؤثر عليها ليحكمها منطق السوق وتغدو سلعًا. وهنا يقف باومان على فكرة الشهادة والتضحية في سبيل قضية ما، وما تقترن به من جزاء أخروي لا يرتبط بالحسابات الدنيوية أو المكاسب المادية أو البراغماتية التي تصف الشهادة بأنها عديمة القيمة.

يفرق باومان في هذا السياق بين “الشهيد” و”البطل” فيقول: “أفضل ما يمكن أن يتمناه الشهداء يتمثل في دليل نهائي يبرهن على استقامتهم الأخلاقية، وتوبتهم من خطاياهم، وخلاص الروح. أما الأبطال فهم من أهل الحداثة، يحسبون المكاسب والخسائر، ويريدون ثمنًا لقاء تضحياتهم. فلا يوجد شيء يمكن أن نسميه “شهادة عديمة القيمة”، لكننا نستنكر “البطولة عديمة القيمة”، ونرفضها ونسخر منها، فهي تضحيات لا طائل ولا ربح من ورائها”.

وهنا يتصدى باومان للتحولات التي حدثت في مطلع العصر الحديث حيث كانت الأمم الصاعدة تحتاج إلى سلطة الدولة حتى تشعر بالأمن، وكانت الدولة الناشئة تحتاج إلى الحماسة الوطنية حتى تشعر بالقوة. فكانت الأمة بحاجة إلى دولة، والدولة بحاجة إلى أمة حتى يكتب لها البقاء، وكانت الأمة والدولة كلتاهما تحتاجان إلى “رعايا-أعضاء” مستعدين للتضحية بحياتهم في سبيل ذلك البقاء. فكان لابد لعصر بناء “الأمة-الدولة” أن يكون عصر البطولة وعصر الحماسة الوطنية.

 وقد شهدت الحداثة الصلبة تأليه للأمة، فصارت السلطة الجديدة، واشترك في هذه السلطة المؤسسات البشرية التي ادعت التحدث باسم الأمة. فلم يحدث إنكار “للمقدس” بقدر ما حدث انتقال له إلى إدارة جديدة، ومن هنا طرأ التحول على مفهوم الشهداء الذين جندتهم الدولة لخدمتها تحت مسمى يناسب جذورها المعرفية العلمانية وهو مسمى “البطل”.

والآن، وفي ظل المجتمع الاستهلاكي السائل لا مكان للشهداء ولا للأبطال، فهو مجتمع يحقر القيمتين اللتين استدعتا وجود الشهداء والأبطال، ويدينهما، فهو يحارب ضد التضحية بالملذات الحاضرة في سبيل الغايات البعيدة، أو إرجاء إشباع الآن في سبيل مكاسب أعظم في المستقبل. ففي المجتمع الحديث السائل الذي يروج للاهتمامات الاستهلاكية ويعيش عليها يتم الحط من قدر المُثل التي تحتفي بالكليات والمدى البعيد، ويحل المشاهير محل الشهداء والأبطال.

كانت شهرة الشهداء والأبطال تُستمد من أفعالهم التي يتم التأكيد على أهميتها الخالدة، أما الأسباب التي وضعت المشاهير في بؤرة الضوء هي كثرة صورهم وانتشار أسمائهم في البرامج العامة والحوارات الشخصية، وأصبح المشاهير يمثلون مادة لاصقة تربط بين أشتات الناس، إلا أنهم جماعات مفككة وهشة ومتقلبة وزائلة تُطوى بعد فترة وجيزة في صفحات النسيان.

الفصل الثالث

الثقافة خارج السيطرة والإدارة

ينتقل بنا باومان في هذا الفصل إلى الثقافة كمفهوم تغيرت ملامحه عندما وضع تحت إدارة السوق، وهو بطبيعته يأبى أن يكون تحت إدارة، فالثقافة ترتبط بروح الاستكشاف والتجريب والإبداع وقيمة الجمال، وهذا يتصادم ابتداءًا مع مفهوم الإدارة المعنية بالتوجيه وفق تخطيط محدد ومعين، فأهل الإدارة يقيسون الأداء الثقافي وفق معايير السوق الاستهلاكية، فالمستهلك هو الذي يحدد قدر الإبداعات الثقافية، فالخط الفاصل بين المنتجات الثقافية الناجحة (المستحوذة على الاهتمام العام) والمنتجات الثقافية المخفقة (العاجزة عن تحقيق ذيوع الصيت) ترسمه المبيعات وتقديرات الزبائن والعوائد والعلامات التجارية الممنوحة لها، وهذا ما ينطبق على فكرة “الكتب الأكثر مبيعًا” فهي الأفضل فقط لأنها الأكثر مبيعًا.

بالإضافة إلى ذلك، يقف باومان عند نقطة محورية مشيرًا إلى أن المأزق الذي وقع فيه الإبداع الثقافي في زمن الحداثة السائلة لا يرجع فقط للصناعة الاستهلاكية، وإنما يرجع أيضًا لصُناع الثقافة أنفسهم الذين تحولت الثقافة بهم إلى ثقافة حديثة سائلة، فأصبحت هى ذاتها تتسم بسمات سيولة العصر من قطيعة وتفكك وتجزئة، وليس ثقافة تعلم وتراكمات كما دونها المؤرخون والإثنوغرافيون في كتاباتهم، وفى هذا السياق يضرب باومان مجموعة من الأمثلة لفنانين تعبر أعمالهم ذاتها عن سيولة العصر أمثال جاك فيلغيه وتوم وولف وغيرهم.

الفصل الرابع

البحث عن مأوى في صندوق باندورا

أو الخوف، والأمن، والمدينة

يتعرض باومان في هذا الفصل إلى مفهوم “التقدم” الذي يرى أنه لم يعد يوحي بالآمال الكبرى والأحلام الجميلة، بل صار يشير إلى المعاناة والخوف والتهديد الدائم من “التخلف عن الركب”. ويرى باومان أن هناك ما يعرف “برأس مال الخوف”، وهي الأموال التي يمكن أن يدرها الشعور بالخوف وعدم الأمان، فشركات الدعاية والإعلان تستغل عن عمد المخاوف المنتشرة من شبح الإرهاب أو الخوف من الأطعمة غير الصحية أو غيره من صور الخوف من أجل زيادة مبيعاتها.

ويتعرض باومان إلى سمات الحياة في المدينة المعاصرة، فيشير ابتداءًا إلى سمة انتشار الخوف والهلع المستمر، حيث انعدام الأمن وانتشار الأخطار في المدن دفع إلى شيوع “المجتمعات السكنية المغلقة الأبواب”، فالاختفاء المقصود والمخطط هو أحد التيارات المنتشرة في العمارة الحضرية التي يقودها الخوف. اللاأمن يولد الخوف، لكن البديل لللاأمن ليس نعمة الهدوء بل غياب التلقائية والمرونة والقدرة على الإدهاش. فالنزوع إلى الانسحاب من الفضاءات العامة حيث يلتقي الجميع والتقوقع في جزر التماثل يتحول مع مرور الوقت إلى العائق الرئيسي للعيش مع الاختلاف، فهو يؤدي إلى ذبول مهارات الحوار والنقاش.

الفصل الخامس

المستهلكون في مجتمع حديث سائل

فى هذا الفصل الهام والمركزي –فى نظري- ضمن فصول الكتاب نظرًا لتسليطه الضوء على محور الحياة السائلة المتمثل في الاستهلاك، يأخذنا باومان في رحلة استكشاف المجتمع الاستهلاكي بتفاصيله، متناولًا سماته وتجلياته و آليات عمله وحال المستهلكون فيه بين السعي الدائم وراء سراب الإشباع والحرية المتوهمة الغائبة في حقيقتها.

ابتداءًا يتحدث باومان عن فكرة الإشباع باعتبارها مركزية في المجتمع الاستهلاكي وأحد ركائزه، فالمجتمع الاستهلاكي قائم على وعد بإشباع الرغبات البشرية بما يفوق ما كان بإمكان المجتمعات الماضية أن تشبعه أو تحلم بإشباعه، ولكن وعد الإشباع لا يحتفظ بسحره الا بعدم تحقق الإشباع حتى يظل الناس في حالة من الاستهلاك المستمر أملًا في الإشباع. ويعمل المجتمع الاستهلاكي على استدامة عدم الإشباع من خلال الحط من قيمة السلع الاستهلاكية بعد فترة قصيرة من ترويجها. فالنزعة الاستهلاكية تعني اقتصاديات الخداع والإسراف والنفايات، وهذه الاقتصاديات هي الضمان الوحيد لبقاء مجتمع المستهلكين.

ويربط باومان الاستهلاك المعاصر بمتلازمة استهلاكية تقوم على نفي فضيلة الإرجاء، والحط من قيمة الدوام في مقابل إعلاء قيمة الزوال، وهذه القيم تتعارض تمامًا مع قيم المتلازمة المتمركزة حول الإنتاج.

يري باومان أن الاستهلاك حاليًا يقوم على منطق “التحول الاستهلاكي” وهو ما تنبأ به المحلل فكتور لبلو الذي عبر عن ذلك بقوله “إننا نحتاج إلى أشياء تستهلك، وتحرق، وتبلى، وتستبدل، ونتخلص منها في سرعة لا مثيل لها”، وهنا يعرض باومان مجموعة من الأمثلة التي تعكس هذا المنطق الذي يقوم عليه المجتمع الاستهلاكي، كصناعة الأزياء وفكرة الموضة، وحتى العلاقات الإنسانية التي باتت يحكمها هذا المنطق، فالأفراد أصبحوا يملون من العلاقات طويلة الأمد فسرعان ما يكوِنون علاقات سريعة وينتقلون من علاقة إلى أخرى وهذا ينطبق حتى على العلاقات الزوجية، وبناء على ذلك تدهورت فضيلة الصبر في المجتمع. إذن فقد اخترق السوق جوانب الحياة التي ظلت خارج عالم التبادل النقدي حتى وقت قريب، فخضعت هذه القطاعات، التي لم تكن تعتبر من قبل للبيع، إلى منطق البيع والشراء باعتبارها منتجات، فأي شيء تلمسه السوق يتحول إلى سلع استهلاكية بما في ذلك الأشياء التي تحاول أن تهرب من قبضتها.

ينتقل باومان في الجزء الثاني من هذا الفصل إلى تناول إحدى تجليات الاستهلاك، وهو الاهتمام الضخم بالجسد، وهنا يتصدى لمسألة هامة تتعلق بسعي المجتمع الاستهلاكي إلى توجيه اهتمام الأفراد بشكل كبير نحو أجسادهم، فيذكر أن أكثر الكتب مبيعًا في الولايات المتحدة هما كتب الطبخ التي تقدم وصفات لأطباق شهية، بالإضافة إلى الكتيبات الإرشادية التي تعد بأنظمة غذائية صحية لها القدرة على جعل الأجساد رشيقة خالية من الدهون. ويبدأ جهاد دائم من أجل اللياقة البدنية من دون انتصار، مما يعيد تشكيل العالم خارج الجسد باعتباره ساحة لأخطار شديدة.

وهنا يسلط باومان الضوء على الانفصام الناجم عن الجمع بين هذه المتطلبات المتضاربة، حيث يناقش مسألة ان يصبح جسد المستهلك غاية وقيمة في ذاته وليس مجرد أداة، وما لذلك من دلالات تتعلق بانتقال المتع الجسدية إلى صدارة المشهد باعتبارها غاية الحياة النهائية. وعلى صعيد آخر يقف عند استغلال خبراء التسويق لذلك القلق المرتبط بعناية الجسد كمصدر أرباح لا ينضب، مؤكدًا على أن النزعة الاستهلاكية لا تتعلق بإشباع الرغبات بقدر ما تتعلق بإثارة الرغبة في رغبات أخرى.

يختتم باومان هذا الفصل بآلية عمل المجتمع الاستهلاكي على استهداف الأطفال باعتبارهم مستهلكين، فالأطفال هم مستقبل الأمة، ولأن قوة الأمة اليوم أصبحت تقاس بالناتج القومى الإجمالى، فمن الأجدر أن يتدرب الأطفال في سن صغيرة على دور المستهلكين وذلك ببث حالة من السخط الدائم في نفوس الأطفال من خلال إثارة رغبتهم في الأشياء الجديدة وإعادة تعريف ما سبقها باعتبارها أشياء قديمة عديمة القيمة.

ويشير باومان هنا إلى أن هذه الحالة التي ينشأ عليها الأطفال يحيط بها سمات آخرى من سمات المجتمع الاستهلاكي والتي تظهر في تفكك الأسر نتيجة عمل الوالدين ساعات طويلة بالخارج لزيادة دخل الأسرة لتلبية الرغبات التي لا تنتهي، مما يوضح أن استهداف المجتمع الاستهلاكي لا يتوقف على الأفراد، بل يستهدف البيئة الاجتماعية المحيطة به أيضًا.

الفصل السادس

تعلم السير على الرمال المتحركة

يركز باومان في بداية هذا الفصل على مسألة ارتباط السيولة بالسرعة واللايقين والتهديد المستمر بالتخلف عن ركب السائرين، والذي يتطلب من الفرد أن يكون في حالة دائمة من التجدد والتجديد. وهنا يسقط باومان هذه السمة على مسألة التعليم والمعرفة، فالتعليم في عصر السيولة يعتمد على الاستمرارية وإعادة التكوين في كل وقت وحين لأن المعرفة مثلها مثل أي شيء في هذا العصر السريع تبلى وتصبح بلا قيمة نتيجة للتغير المستمر، فالمعرفة تحتاج دومًا إلى تجديد، بل إن المهن تحتاج أيضًا إلى تغيير نظرًا للنمو الحاد للمعرفة الجديدة والتقادم السريع للمعرفة القديمة، وفى هذا السياق يتدخل السوق مستغلًا هذه الحالة في تحقيق المزيد من الأرباح، وظهر ما أطلق عليه “تنمية الموارد البشرية”. فنجد شركات متخصصة تقدم آلاف الكورسات المهارية –التى يختلط فيها الجيد بالرديء- لسد حاجة الناس لما يحتاجه سوق العمل المتجدد دائما.ً

وبناء على ذلك يتم تسليع التعليم –كما يقول باومان- وهذا بدوره يعزز من الفروق الاقتصادية والاجتماعية بين نخبة تنال حظًا كبيرًا من التعليم ومهارات العمل وبقية القوة العاملة التي لا تسعها القدرة المادية على ذلك، ومن ثم يساهم هذا في خلق عوائق جديدة أمام الحراك الاجتماعي فضلًا عن زيادة معدل البطالة والفقر.

وهنا يصف باومان هذا الوضع ” باللايقين المصنع” الذي أصبح أداة هيمنة في البيئة الحديثة السائلة، حيث انتشار الخطر وعدم الأمان وتضاؤل إمكانية التنبؤ بها والتحكم فيها، فالتخطيط المستمر والسوق على خلاف دائم.

وفى نهاية الفصل يشير باومان إلى أن طبيعة البيئة الحديثة السائلة وما تفرضه على أفرادها من ضرورة السعي الدائم وراء كل ما هو جديد في إطار مسألة “التقدم” والخوف من عدم اللحاق بركب السائرين لا يقابله اهتمام مماثل بالحياة السياسية وتطوراتها، مما زاد من الجهل السياسي واتساع الفجوة التي تفصل الرأي العام عن الحقائق المركزية للحياة السياسية، وهذا بلا شك يزيد من حالة الاضطراب الذي يعيشها الفرد، لأن الجهل يشل الإرادة لأنه يفضي إلى الجهل بخفايا المستقبل ومن ثم يضعف قدرة المجتمعات على حساب المخاطر المحتملة والتخطيط لتفاديها.

الفصل السابع

التفكير في أزمنة مظلمة

فى هذا الفصل الأخير من الكتاب واستكمالًا للخوض في طبيعة الحياة السائلة وبيئتها وسماتها ينتقل بنا باومان في عرض أشبه بالمقارنة بين الحداثة الصلبة والحداثة السائلة، ويحدد في هذا السياق مجموعة من الاختلافات، يتمثل أولها في أن الأفراد في البيئة الحداثية الصلبة كانوا يخططون لعالم أفضل يحقق لهم السعادة، ويسعون إلى هذه الغاية كمجموعة، أما أصحاب الحداثة السائلة فيسعون أيضًا للسعادة ولكن بشكل فردى. ثانيًا، تختلف النظرة لمسألة التغيير بين أصحاب الحداثة الصلبة والحداثة السائلة، فالأولى ترى في التغيير وسيلة لعالم أفضل، وهو الغاية من هذا التغيير، وأن التغيير عملية لها بداية ونهاية، ولكن الحداثة السائلة ترى التغيير غاية في ذاته وهدفًا لابد من ابتغائه للأبد. ثالثًا، تعمل الحداثة الصلبة على استنهاض الناس للعمل وقبول التغيير، أما أصحاب الحداثة السائلة فهم ليسوا في حاجة إلى دفع واستنهاض الناس، فهم في حركة دائبة لأنهم لابد أن يتحركوا وهم يتحركون لأنهم لا يستطيعون التوقف.

بعد هذا العرض يستدعي باومان كتابات تيودور أدورنو –التي تقوم في نظره بربط العالمين ببعض- حيث يرى أدورنو أنه لا يمكن فهم الحداثة السائلة دون استيعاب الحداثة الصلبة، وفى هذا الصدد يناقش باومان كتاباته بشيء من التفصيل، ثم يبين كيف تتقابل الحداثة الصلبة والحداثة السائلة حيث يتجلى ذلك في دور الدولة التي انقلبت منذ بداية العصر الحديث على القيود المحلية لتحرير الاقتصاد، والآن تأتى الحداثة السائلة بهيمنة سوقها لتتحدى سلطة الدولة ذاتها، حيث يتم اتهام الدولة الآن بفرض قيود عديمة الجدوى الاقتصادية على النشاط الاقتصادي، وأن الدولة عليها التخلي عن حقوق التدخل السياسي فيما يتعلق بتدفق رأس المال والسلع.

وفى نهاية الفصل والكتاب معًا يقدم باومان رسالة إيجابية للخروج من أزمة الحياة السائلة، فيؤكد على ضرورة الوعي بمشكلات الحاضر ونقدها بشكل علمي، كما يشدد على ضرورة التماسك الاجتماعي وإحياء المجال العام وذلك لتقديم بديل للعالم يتجاوز أزمة السيولة وما يرتبط بها من مشكلات تمس الحياة الإنسانية على الكوكب بأسره.

وبناءًا على ما سبق عرضه نؤكد أن الاستفادة الحقيقية من هذا الكتاب هو مساعدة القارئ على فهم ظواهر كثيرة شائعة في مجتمعاتنا المعاصرة، وتشخيص مدى خطورتها على إنسانيته وعلى وجوده الحقيقي الذي ينجرف الآن نحو الاستهلاك ومزيد من الاستهلاك مهما كلفه هذا الأمر من عناء وضياع للحياة وأمراض ناجمة عن التوتر واللهث وراء سراب الاستهلاك.

عرض:

أ. يارا عبد الجواد*

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  باحثة في العلوم السياسية.

عن يارا عبد الجواد

شاهد أيضاً

الفلسفة – المنهج – الفكر “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

التباسات الحداثة

المعرفة المستدامة

مغامرة المنهج

في نقد التفكير

سؤال السيرة الفلسفية

التاريخ الإسلامي “من مقتنيات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2024”

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

الحضارة العربية الإسلامية وعوامل تأخرها

إعادة ترسيم الشرق الأوسط العثماني

لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.