تنوير لا يخاصم الشريعة: قاسم أمين والحجاب

تنوير لا يخاصم الشريعة

قاسم أمين والحجاب*

قاسم أمين

يُعد قاسم أمين (1863–1908) من أبرز دعاة النهضة في العالم العربي، ارتبط اسمه بتحرير المرأة من خلال كتابيه تحرير المرأة (1899)، والمرأة الجديدة (1900). لم يدع أمين صراحة إلى “نزع الحجاب” كما شاع بين منتقديه، فقد ميّز بين الحجاب والعزلة، فلم ينتقد “الحجاب” الإسلامي (ستر الجسد بما يحقق العفاف)، وإنما كان ينتقد ما أسماه “الاحتجاب” أو “الحجاب الاجتماعي”، أي عزل المرأة التام داخل البيت وحرمانها من التعليم والمشاركة في الحياة العامة. وقد قال في تحرير المرأة: “ربما يتوهم ناظر أنني أرى الآن رفع الحجاب بالمرة، لكن الحقيقة غير ذلك؛ فإنني لا أزال أدافع عن الحجاب، وأعتبره أصلا من أصول الأدب التي يلزم التمسك بها، غير أني أطلب أن يكون منطبقًا على ما جاء في الشريعة الإسلاميَّة، وهو على ما في تلك الشريعة يخالف ما تعارفه الناس عندنا؛ لما عرض عليهم من حب المغالاة في الاحتياط والمبالغة فيما يظنون عملا بالأحكام، حتى تجاوزوا حدود الشريعة، وأضروا بمنافع الأمة”.. من ناحية أخرى فقد عارض أمين تغطية الوجه لأنه لا يُعد – من وجهة نظره – شرطًا دينيًا ملزمًا، كما أنه – بحسب تصوره – يُعيق مشاركة المرأة في الحياة العامة. ولكنه في كل الأحوال لم يدعُ إلى التبرج والاختلاط غير المنضبط. وعليه فإن ما يُنسب إلى قاسم أمين من دعوة صريحة إلى نزع الحجاب بمعناه الإسلامي فيه قدر من التجاوز، إذ إن نقده انصبّ على ممارسات اجتماعية تقليدية كانت – في نظره – تكبّل المرأة باسم الدين دون أن يكون لها أصل شرعي متين.

ربما يتوهم ناظر أنني أرى الآن رفع الحجاب بالمرة، لكن الحقيقة غير ذلك؛ فإنني لا أزال أدافع عن الحجاب، وأعتبره أصلًا من أصول الأدب التي يلزم التمسك بها، غير أني أطلب أن يكون منطبقًا على ما جاء في الشريعة الإسلاميَّة، وهو على ما في تلك الشريعة يخالف ما تعارفه الناس عندنا؛ لما عرض عليهم من حب المغالاة في الاحتياط والمبالغة فيما يظنون عملًا بالأحكام حتى تجاوزوا حدود الشريعة، وأضروا بمنافع الأمة.

 والذي أراه في هذا الموضوع هو أن الغربيين قد غلوا في إباحة التكشف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تتصوَّن المرأة من التعرض لمثارات الشهوة، ولا ترضاه عاطفة الحياة. وقد تغالينا نحن في طلب التحجب والتحرج من ظهور النساء لأعين الرجال حتى صيرنا المرأة أداة من الأدوات، أو متاعًا من المقتنيات وحرمناها من كل المزايا العقليَّة والأدبية التي أُعدت لها بمقتضى الفطرة الإنسانيَّة. وبين هذين الطرفين وسط سنبيِّنه – هو الحجاب الشرعي – وهو الذي أدعو إليه. 

إني أشعر أن القارئ ربما يستجمع قواه لمقاومتي فيما أطلب من الرجوع بالحجاب إلى الحد الشرعي، ويستنجد جميع الأوهام التي خزنتها في ذهنه أجيال طويلة ليدافع عن العادة الراسخة الآن، ولكن مهما استجمع من قوة الدفاع عنها، ومهما بذل من الجهد للمحافظة عليها فلا سبيل إلى أن تبقى زمنًا طويلا. 

 ماذا تفيد الشجاعة والثبات في المحافظة على بناءٍ آل أمره إلى الخراب والتهدم، وقد انقض أساسه، وانحلت مواده، ووصل حاله من الاضمحلال؛ إلى أنك ترى في كل سنة تمر جزءًا منه ينهار من نفسه؟ أليس هذا كله صحيحًا؟ أليس حقًا أن الحجاب في هذه السنين الأخيرة ليس كما كان من عشرين سنة؟ أليس من المشاهِد أن النساء في كثير من العائلات يخرجن لقضاء حاجاتهن ويتعاملن بأنفسهن مع الرجال فيما يتعلق بشئونهن، ويطلبنّ ترويح النفس حيث يصفو الجو َّويطيب الهواء، ويصحبن أزواجهن في أسفارهم، ونرى أن هذا التغير حدث في عائلات كانت أشد ُّالطبقات تحرجًا من ظهور النساء؟ إذا قارنا بين ما نشاهد اليوم وبين ما كان عليه النساء من عهد ليس بالبعيد عنا حيث كان يشين المرأة أن تخرج من بيت زوجها، وأن يرى طولها أجنبي، وكان إذا عرض للمرأة سفر اتُخذ كل احتياط ليكون سفرها ليلًا حتى لا يراها أحد من الناس، وحيث كانت أم الرجل أو أخته أو بنته تستحي أن تجلس معه على مائدة واحدة – إذا قارنا بين هذا وذاك نجد بلا شك أن هذه العادة آخذة في الزوال من نفسها.

 وكل من عرف التاريخ يعلم أن الحجاب دور من الأدوار التاريخية لحياة المرأة في العالم. قال لاروس تحت كلمة خمار: «كانت نساء اليونان يستعملن الخِمار إذا خرجن َّ ويخفين وجههنّ بطرف منه، كما هو الآن عند الأمم الشرقية.» وقال: «ترك الدين المسيحي للنساء خمارهن، وحافظ عليه عندما دخل في البلاد؛ فكن يغطين رءوسهن إذا خرجن في الطريق وفي وقت الصلاة، وكانت النساء تستعمل الخمار في القرون الوسطى خصوصًا في القرن التاسع؛ فكان الخمار يحيط بأكتاف المرأة، ويجرّ على الأرض تقريبًا. واستمر كذلك إلى القرن الثالث عشر؛ حيث صارت النساء تخفِفّ منه الى أن صار كما هو الآن: نسيجًا خفيفًا يُستعمل لحماية الوجه من التراب والبرد، ولكن بقي بعد ذلك بزمن في إسبانيا وفي بلاد أمريكا التي كانت تابعة لها».

ومن هذا يرى القارئ أن الحجاب الموجود عندنا ليس خاصًا بنا، ولا أن المسلمين هم الذين استحدثوه، ولكنه كان عادة معروفة عند كل الأمم تقريبًا، ثم تلاشت طوعًا لمقتضيات الاجتماع، وجريًا على سنة التقدم والترقِّي، وهذه المسألة المهمة يلزم البحث فيها من جهتيها الدينية والاجتماعيَّة.

 (1) الجهة الدينية 

لو أن في الشريعة الإسلاميَّة نصوصًا تقضي بالحجاب على ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين لوجب عليَّ اجتناب البحث فيه، ولَما كتبت حرفًا يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرة في ظاهر الأمر؛ لأن الأوامر الإلهيَّة يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة. لكننا لا نجد نصًا في الشريعة يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة. وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم؛ فاستحسنوها، وأخذوا بها، وبالغوا فيها، وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين براء منها؛ ولذلك لا نرى مانعًا من البحث فيها، بل نرى من الواجب أن نُلم بها ونبين حكم الشريعة في شأنها وحاجة الناس إلى تغييرها.

جاء في الكتاب العزيز »قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضنّ من أبصارهنّ ويحفظنّ فروجهنّ ولا يبدين زينتهنّ إلا ما ظهر منها وليضربنّ بخمرهنّ على جيوبهنّ ولا يبدين زينتهنّ إلا لبعولتهنّ أو أبائهنّ أو آباء بعولتهنّ أو أبنائهنّ أو أبناء بعولتهنّ أو إخوانهنّ أو بني إخوانهن أو بني أخواتهنّ أو نسائهنّ أو ما ملكت أيمانهنّ أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربنّ بأرجلهنّ ليُعلم ما يخفين من زينتهنّ وتوبوا الى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون».

أباحت الشريعة في هذه الآية للمرأة أن تُظهر بعض أعضاء من جسمها أمام الأجنبي عنها، غير أنها لم تسمّ تلك المواضع، وقد قال العلماء إنها وكلت فهمها وتعيينها إلى ما كان معروفًا في العادة وقت الخطاب، واتفق الأئمة على أن الوجه والكفين مما شمله الاستثناء في الآية، ووقع الخلاف بينهم في أعضاء أُخر كالذراعين والقدمين. 

 جاء في ابن عابدين: «وعَورة الحرَّة جميع بدنها حتى شعرها النازل في الأصح، خلا الوجه والكفين والقدمين على المعتمد، وصوتها على الراجح، وذراعيها على المرجوح؛ وتُمنَع المرأة الشابة من كشف الوجه لا لأنه عورة؛ بل لخوف الفتنة، وإن أمن الشهوة لأنه أغلظ؛ ولذلك ثبتت به حرمة المصاهرة كما يأتي في الحظر، ولا يجوز النظر إليه بشهوة كوجه الأمرد[1]؛ فإنه يحرم النظر إلى وجهها ووجه الأمرد إذا شك َّفي الشهوة، أما بدونها فيُباح ولو جميلا».

وذُكر في كتاب الروض في المذهب الشافعي: «نظر الوجه والكفين عند أمن الفتنة من المرأة للرجل وعكسه جائز، ويجوز نظر وجه المرأة عند المعاملة، وعند تحمل الشهادة، وتُكلَّف كشفه عند الأداء».

 وجاء في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق لعثمان بن علي الزيلعي: «وبدَن الحرة عورة إلا وجهها وكفها وقدميها لقوله تعالى: “وَلا يُبِدين زينتهن إلا ما ظهر منها” والمراد محل زينتهن، وما ظهر منها: الوجه والكفان. قاله ابن عباس وابن عمر، واستثنى في المختصر الأعضاء الثلاثة للابتلاء بإبدائها؛ ولأنه – عليه الصلاة والسلام – نهى المحْرمة عن لبس القفازين والنقاب، ولو كان الوجه والكفان من العورة لما حُرِم سترهما بالمخيط، وفي القدم روايتان، والأصح أنها ليست بعورة للابتلاء بإبدائها».

وحكم الوجه والكفين وأنها ليست بعورة معروف كذلك عند المالكية والحنابلة، ولا نطيل الكلام بنقل نصوص أهل هذين المذهبين. ومما يُروى عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: إن أسماءَ بنت أبي بكر دخلت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعليها ثياب رقاق، فقال لها: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه». وورد أيضًا في كتاب حسن الأسوة للسيد محمد صديق حسن خان بهادر: «وإنما رُخص للمرأة في هذا القدر؛ لأن المرأة لا تجد بُدًا من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة الى كشف وجهها خصوصًا في الشهادة والمحاكمة والزواج، وتُضطر الى المشي في الطرقات وظهور قدميها، وخاصةً الفقيرات منهن».

خوَّلت الشريعة للمرأة ما للرجل من الحقوق، وألقت عليها تَبعة أعمالها المدنيَّة والجنائية؛ فللمرأة الحق ُّ في إدارة أموالها والتصرف فيها بنفسها. فكيف يمكن لرجل أن يتعاقد معها من غير أن يراها ويتحقَّق من شخصيتها؟ 

ومن غريب وسائل التحقق أن تحضر المرأة مغلَّفة من رأسها إلى قدميها، أو تقف من وراء ستار أو باب، ويُقال للرجل ها هي فلانة التي تريد أن تبيعك دارها أو تقيمك وكيلًا في زواجها مثلا؛ فتقول المرأة بعت أو وكلت، ويكتفي بشهادة شاهدَين من الأقارب أو الأجانب على أنها هي التي باعت أو وكَّلت. والحال أنه ليس في هذه الأعمال ضمانة يطمئن لها أحد، وكثيرًا ما أظهرت الوقائع القضائية سهولة استعمال الغش والتزوير في مثل هذه الأحوال. فكم رأينا أن امرأة تزوجت بغير علمها، وأجَّرت أملاكها بدون شعورها، بل تجردت من كل ما تملكه على جهل منها، وذلك كله ناشئ من تحجبها، وقيام الرجال دونها يحولون بينها وبين من يعاملها.

كيف يمكن لامرأة محجوبة أن تتَّخذ صناعة أو تجارة للتعيُّش منها إن كانت فقيرة؟ كيف يمكن لخادمة محجوبة أن تقوم بخدمة بمنزل فيه رجال؟ كيف يمكن لتاجرة محجوبة أن تدير تجارتها بين الرجال؟ كيف يتسنَّى لزارعة محجوبة أن تفلح أرضها وتحصد زرعها؟ كيف يمكن لعاملة محجوبة أن تباشر عملها إذا أجَّرَت نفسها للعمل في بناء بيت أو نحوه؟

وبالجملة، فقد خلق الله هذا العالم، ومكَّن فيه النوع الإنساني؛ ليتمتَّع من منافعه بما تسمح له قواه في الوصول إليه، ووضع للتصرف فيه حدودًا تتبعها حقوق، وسوَّى في التزام الحدود والتمتع بالحقوق بين الرجل والمرأة من هذا النوع، ولم يقسم الكون بينهما قسمة إفراز[2]، ولم يجعل جانبًا من الأرض للنساء يتمتَّعن بالمنافع فيه وحدهن، وجانبًا للرجال يعملون فيه في عزلة عن النساء، بل جعل متاع الحياة مشتركًا بين الصنفين، شائعًا تحت سلطة قواهما بلا تمييز- فكيف يمكن مع هذا لامرأة أن تتمتَّع بما شاء الله أن تتمتَّع به مما هيَّأها له بالحياة ولواحقها من المشاعر والقوى، وما عرضه عليها لتعمل فيه من الكون المشترك بينها وبين الرجال إذا حُظِر عليها أن تقع تحت أعين الرجال إلا من كان من محارمها؟ لا ريب أن هذا مما لم يسمح به الشرع ولن يسمح به العقل؛ لهذا رأينا أن الضرورة أحالت الثبات على هذا الضرب من الحجاب عند أغلب الطبقات من المسلمين كما نشاهده في الخادمات والعاملات وسكان القرى حتى من أهل الطبقة الوسطى، بل وبعض أهل الطبقة العليا من أهل البادية والقرى، والكل مسلمون، بل قد يكون الدين أمكن فيهم منه في أهل المدن! 

 إذا وقفت المرأة في بعض مواقف القضاء خِصمًا أو شاهدًا كيف أن يسوغ لها ستر وجهها؟ مضت سنون والخصوم وقضاة المحاكم أنفسهم غافلون عما يهم في هذه المسألة متساهلون في رعاية الواجب فيها. فهم يقبلون أن تحضر المرأة أمامهم مستترة الوجه وهي مدَّعية أو مدَّعى عليها أو شاهدة، وذلك منهم استسلامًا للعوائد. وليس بخافٍ ما في هذا التسامح من الضرر الذي يصعب استمراره فيما أظن. ذلك لعدم الثقة بمعرفة الشخص المستتر؛ ولما في ذلك من سهولة الغش. كل رجل يقف مع امرأة موقف المخاصمة من همه أن يعرف تلك التي تخاصمه، وله في ذلك فوائد كثيرة، من أهمها صحة التمسك بقولها. ولا أظن أنه يسوغ للقاضي أن يحكم على شخص مستتر الوجه، ولا أن يحكم له. ولا أظن أنه يسوغ له أن يسمع شاهدًا كذلك. بل أقول إن أول واجب عليه أن يتعرف وجه الشاهد والخصم خصوصًا في الجنايات، وإلا فأي معنى لما أوجبه الشرع والقانون من السؤال عن اسم الشخص وسنِّه وصناعته ومولده؟ وماذا تفيد معرفة هذه الأمور كلها إذا لم يكن معروفًا بشخصه؟ 

 والحكمة في أن الشريعة الغراء كلَّفت المرأة بكشف وجهها عند تأدية الشهادة كما مرّ ظاهرة؛ وهي تمكُن القاضي من التفرس[3] في الحركات التي تبدو على الوجه، والعلامات التي تظهر عليه فيقدر الشهادة بذلك قدرها.

 لا ريب أن ما ذكرنا من مضار التحجب يندرج في حكمة إباحة الشرع الإسلامي لكشف المرأة وجهها وكفيها- ونحن لا نريد أكثر من ذلك. 

 واتفق أئمة المذاهب أيضًا على أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلى المرأة التي يريد أن يتزوجها، بل قالوا بندبه عملًا بما رُويَ عن النبي – صلى الله عليه وسلم- حيث قال لأحد الأنصار – وكان قد خطب امرأة-: «أنظرت إليها؟» قال: لا، قال: «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدَم بينكما[4]

هذه هي نصوص القرآن وروايات الأحاديث وأقوال أئمة الفقه كلها واضحة جليَّة في أن الله تعالى قد أباح للمرأة كشف وجهها وكفيها، وذلك للحِكم التي لا يصعب إدراكها على كل مَن عقل. 

هذا حكم الشريعة الإسلاميَّة كله يسر لا عسر فيه، لا على النساء ولا على الرجال، ولا يُضرب بين الفريقين بحجاب لا يخفى ما فيه من الحرج عليهما في المعاملات، والمشقة في أداء كل منهما ما كُلِّف به من الأعمال سواء كان تكليفًا شرعيٍّا أو تكليفًا قضت به ضرورة المعاش. 

 أما دعوى أن ذلك من آداب المرأة فلا إخالها صحيحة؛ لأنه لا أصل يمكن أن ترجع إليه هذه الدعوى. وأي علاقة بين الأدب وبين كشف الوجه وستره؟ وعلى أي قاعدة بُنِي الفرق بين الرجل والمرأة؟ أليس الأدب في الحقيقة واحدًا بالنسبة للرجال وللنساء وموضوعه الأعمال والمقاصد لا الأشكال والملابس؟ 

وأما خوف الفتنة الذي نراه يطوف في كل سطر مما يُكتَب في هذه المسألة تقريبًا فهو أمر يتعلَّق بقلوب الخائفين من الرجال، وليس على النساء تقديره، ولا هن مطالبات بمعرفته. وعلى من يخاف الفتنة من الرجال أن يغُضَ بصره، كما أنه على من يخافها من النساء أن تغض بصرها. والأوامر الواردة في الآية الكريمة موجهة إلى كل من الفريقين بغض البصر على السواء؛ وفي هذا دلالة واضحة على أن المرأة ليست بأولى من الرجل بتغطية وجهها. 

عجبًا! لِمَ لم تؤْمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهن؟ هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة واعتبر الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه. واعتبرت المرأة أقوى منه في كل ذلك حتى أبيح للرجال أن يكشفوا وجوههم لأعين النساء مهما كان لهم من الحسن والجمال. ومنع النساء من كشف وجوههنّ لأعين الرجال منعًا مطلقًا خوف أن ينفلت زمام هوى النفس من سلطة عقل الرجل فيسقط في الفتنة بأية امرأة تعرضت له مهما بلغت من قبح الصورة وبشاعة الخلق؟ إن زعم زاعم صحة هذا الاعتبار رأينا هذا اعترافًا منه بأن المرأة أكمل استعدادًا من الرجل، فلم توضع حينئذٍ تحت رقه في كل حال؟ فإن لم يكن هذا الاعتبار صحيحًا فلِم هذا التحكم المعروف؟

على أن البرقع والنقاب مما يزيد في خوف الفتنة؛ لأن هذا النقاب الأبيض الرقيق الذي تبدو من ورائه المحاسن وتختفي من خلفه العيوب، والبرقع الذي يختفي تحته طرف الأنف والفم والشدقان، ويظهر منه الجبين والحواجب والعيون والخدود والأصداغ وصفحات العنق، هذان الساتران يُعدان في الحقيقة من الزينة التي تحث رغبة الناظر، وتحمله على اكتشاف قليل خفي بعد الافتتان بكثير ظهر. ولو أن المرأة كانت مكشوفة الوجه لكان في مجموع خلقها ما يرد في الغالب البصر عنها. 

ليست أسباب الفتنة ما يبدو من أعضاء المرأة الظاهرة، بل من أهم أسبابها ما يصدر عنها من الحركات في أثناء مشيها، وما يبدو من الأفاعيل التي ترشد عما في نفسها. والنقاب والبرقع من أشد أعوان المرأة على إظهار ما تظهر وعمل ما تعمل لتحريك الرغبة؛ لأنهما يخفيان شخصيتها فلا تخاف أن يعرفها قريب أو بعيد فيقول فلانة أو بنت فلان أو زوجة فلان كانت تفعل كذا؛ فهي تأتي كل ما تشتهيه من ذلك تحت حماية ذاك البرقع وهذا النقاب. أما لو كان وجهها مكشوفًا فإن نسبتها إلى عائلتها أو شرفها في نفسها يشعرانها الحياء والخجل، ويمنعانها من إبداء حركة أو عمل يتوهم منه أدنى رغبة منها في استلفات النظر إليها. 

والحق أن الانتقاب والتبرقُع ليسا من المشروعات الإسلاميَّة لا للتعبُّد ولا للأدب، بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده، ويدلنا على ذلك أن هذه العادة ليست معروفة في كثير من البلاد الإسلاميَّة، وأنها لم تزل معروفة عند أغلب الأمم الشرقية التي لم تتدين بدين الإسلام. 

 إنما من مشروعات الإسلام ضرب الخُمر على الجيوب، كما هو صريح الآية، وليس في ذلك شيء من التبرقُع والانتقاب. 

هذا ما يتعلق بكشف الوجه واليدين، أما ما يتعلَّق بالحجاب بمعنى قصر المرأة في بيتها والحظر عليها أن تخالط الرجال؛ فالكلام فيه ينقسم إلى قسمين: ما يختص بنساء النبي –عليه الصلاة والسلام -، وما يتعلَّق بغيرهن من نساء المسلمين، ولا أثر في الشريعة لغير هذين القسمين. أما القسم الأول فقد ورد فيه ما يأتي من الآيات: 

“يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبيّ إلا أن يؤذن لكم… وإذا سألتموهنّ متاعًا فسئلوهنَ من وراء حجاب، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن،ّ وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، إن ذلكم كان عند الله عظيما” (الأحزاب/53)

“يا نساء النبي لستن كأحدٍ من النساء إن اتقيتنّ فلا تخضعنَ بالقول فيطمع الذي في قلبهِ مرضٌ وقُلنّ قولًا معروفا. وقرن في بيوتكنّ ولا تبرجنَ تبرج الجاهلية الأولى” (الأحزاب/32-33)

ولا يوجد اختلاف في جميع كتب الفقه من أي مذهب كانت، ولا في كتب التفاسير في أن هذه النصوص الشريفة هي خاصة بنساء النبي –صلى الله عليه وسلم -، أمرهن الله سبحانه وتعالى بالتحجب َّوبيَّن لنا سبب هذا الحكم؛ وهو أنهن لسن كأحد من النساء. ولما كان الخطاب خاصًا بنساء الرسول – عليه الصلاة والسلام -، وكانت أسباب التنزيل خاصة بهن َّلا تنطبق على غيرهن؛ فهذا الحجاب ليس بفرض ولا بواجب على أحد من نساء المسلمين. 

وأما القسم الثاني فغاية ما ورد في كتب الفقه عنه حديث عن النبي – صلى الله عليه وسلم – نهى فيه عن الخلوة مع الأجنبي وهو: «لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم». قال ابن عابدين «الخلوة بالأجنبية حرام إلا لملازمة مديونة هَربت ودخلت خربة، أو كانت عجوزًا شوهاء أو بحائل[5]، وقيل الخلوة بالأجنبية مكروهة كراهة تحريم. وعن أبي يوسف ليست بتحريم».

وقال: «إن الخلوة المحرمة تنتفي بالحائل، وبوجود محَرم أو امرأة ثقة قادرة، وهل تنتفي أيضًا بوجود رجل آخر؟ لم أره» 

ربما يُقال إن ما فرضه الله على نساء نبيه يُستحب اتباعه لنساء المسلمين كافة، فنجيب أن قوله تعالى: “لَستنّ كأحدٍ من النساء” يشير إلى عدم الرغبة في المساواة في هذاَ الحكم، وينبِّهنا إلى أن في عدم الحجاب حكًما ينبغي لنا اعتبارها واحترامها، وليس من ِ الصواب تعطيل تلك الحكم مرضاة لاتباع الأسوة، وكما يحسن التوسع فيما فيه تيسير أو تخفيف، كذلك لا يجمل الغلو فيما فيه تشديد وتضييق أو تعطيل لشيء من مصالح الحياة، وعلى هذا وردت آيات الكتاب المبين. قال تعالى: “وما جعل عليكم في الدين من حرج” (الحج/78). وقال: “يا ايها الذين آمنوا لا نسئلوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم” (المائدة/101). ولو كان اتباع الأسوة مطلوبًا في مثل هذه الحالة لما رأينا أحد الخلفاء المشهورين بشدة التقوى والتمسك بالسنة في عائلته على ما يخالف الحجاب. وأستدل على ذلك بذكر الواقعة الآتية:

بعث سلمة بن قيس برجل من قومه يخبر عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بواقعة حربية، ِفلما وصل ذلك الرجل إلى بيت عمر قال: «فاستأذنت وسلَّمت فأذن لي فدخلت عليه فإذا هو جالس على مسح متكئ على وسادتين من أرم محشوتين ليفًا، فنبذ إليَّ بإحديهما فجلست عليها وإذا بَهْو[6] في صُفَّة[7] فيها بيت عليه ستير[8]، فقال: «يا أم كلثوم غداءنا» فأخرجت إليه خبزة بزيت في عرضها ملح لم يُدق. فقال: «يا أم كلثوم ألا تخرجين إلينا تأكلين معنا من هذا؟» قالت: «إني أسمع عندك حّس رجل.» قال: «نعم ولا أراه من أهل البلد.» قال فذلك حين عرفت أنه لم يعرفني قالت: «لو أردت أن أخرج إلى الرجال لكسوتني كما كسا ابن جعفر امرأته وكما كسا الزبير امرأته، وكما كسا طلحة امرأته.» قال: «أوَ ما يكفيكِ أن يقال أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب وامرأة أمير المؤمنين عمر؟» فقال: كُلْ، فلو كانت راضية لأطعمتك أطيب من هذا»[9] 

 وفضلًا عن كون الشرع لا يوجب ذلك الحجاب فإنه مجرد عن الفائدة، بل فيه مضرات شتى نأتي على بيانها في المبحث الآتي: 

(2) الجهة الاجتماعيَّة 

 إنا نطلب تخفيف الحجاب ورده إلى أحكام الشريعة الإسلاميَّة لا لأننا نميل إلى تقليد الأمم الغربية في جميع أطوارها وعوائدها لمجرد التقليد، أو للتعلُّق بالجديد لأنه جديد؛ فإننا نتمسك بعوائدنا الإسلاميَّة ونحترمها، ونرى أنها مزاج الأمة التي تتماسك به أعضاؤها، ولسنا ممن ينظر إليها نظره إلى الملابس يخلع ثوبًا كل يوم ليلبس غيره. وإنما نطلب ذلك؛ لأننا نعتقد أن لرد الحجاب إلى أصله الشرعي مدخلا ً عظيمًا في حياتنا المعاشية. لسنا في مقام استحسان أمر واستقباح آخر لما فيه من موافقة الذوق أو منافرته، وإنما نحن بصدد ما به قوام حياة المرأة، أو ما به قوام حياتنا. 

بيَّنا عند الكلام على تربية المرأة ما لها من المزايا الجليلة والآثار الحسنة التي تترتَّب عليها في شئون نفسها وشئون بيتها، وفي الاجتماع الذي هي فيه. وذكرنا أن من أكبر أسباب ضعف الأمة حرمانها من أعمال النساء، وأن تربية الطفل لا تصلح إلا إذا كانت أمه مرباة. وقررنا أن الولد ذكرًا كان أو أنثى لا يملك صحة، ولا خلة، ولا ملكة، ولا عقلًا، ولا عاطفة إلا من طريقين: الوراثة والتربية. واستدللنا على أن الولد يرث من أمه قدر ما يرث من والده على الأقل، وأن تأثير الأم في تربية الطفل بعد ولادته أعظم من تأثري أبيه. ونريد أن نبرهن هنا على أن تربية الأم نفسها لا يمكن أن تتم َّ إذا استمر حجاب النساء على ما هو عليه الآن حتى إذا انتهى القارئ من تلاوة هذا الباب رأى كيف ترتبط المسائل بعضها ببعض، وكيف أن أصغرها يتوقَّف عليه أعظمها: 

إذا أخذنا بنتًا وعلَّمناها كل ما يتعلَّمه الصبي في المدارس الابتدائية، وربَّيناها على أخلاق حميدة، ثم َّ قصرناها في البيت ومنعناها عن مخالطة الرجال فلا شك أنها تنسى بالتدريج ما تعلَّمته وتتغير أخلاقها على غير شعور منها، وفي زمن قليل لا نجد فرقًا بينها وبين أخرى لم تتعلم أصلا؛ ذلك لأن المعارف التي يكسبها الإنسان وهو في سن الصبا لا يحيط بدقائقها ومناشئها؛ ولذلك لا يكون علمه فيها علمًا تامًا كاملًا. وإنما يتم َّ له شيء من ذلك إذا بلغ سن الرجولية، واستمر على مزاولة العمل والاشتغال؛ فالصبي يحفظ أسماء الأشياء أكثر مما يفهم معانيها، وأكبر فائدة يستفيدها في هذا الطور من التعليم إنما هي التعود على العمل، وحب استطلاع الحقائق، والاستعداد للدراسة. فإن وقف سير التعليم في هذا السن اضمحلت المعلومات المستفادة، وانتثرت من الذهن شيئًا فشيئًا، وكان ما مضى من الوقت في التعلم زمنًا ضائعًا.  

ولما كان السن الذي تحجب فيه المرأة – وهو ما بين الثانية عشرة والرابعة عشرةَّ من عمرها – هو السن الذي يبتدئ فيه الانتقال من الصبا إلى الرجولية، وتظهر فيه حاجة المرأة كما تظهر حاجة الرجل إلى اختبار العالم والبحث في الحياة وما تستدعيه، وهو السن الذي تُزْهر فيه الملكات وتظهر الميول والوجدانات، وهو السن الذي يتعلَّم فيه الإنسان نوعًا آخر من العلم أنفس مما تعلمه في المدارس، وهو علم الحياة، وطريق تحصيلِ ذلك العلم إنما هو بالاختلاط مع الناس واختبارهم واستعراف أخلاقهم. وفي هذا السن يبتدئ الإنسان يعرف شعبه وملته، ووطنه، ودينه، وحكومته. وفي هذا السن يبتدئ استعداد كل شخص وميله وكفاءته في الظهور؛ فيندفع إلى الأعمال اندفاع الماء في المنحدرات، وهو سن الآمال والرغائب والنشاط، فإن حجبت فيه الفتاة، وانقطعت عن هذا العالم بعد أن كانت المواصَلة بينه وبينها مستمرة؛ وقف نموها، بل رجعت القهقري، وفقدت كل ما كان يزيِّن نفسها، ونسيت كل معارفها، وخابت كل مساعيها، وضاعت آمالها وآمال الناس فيها، ولا ذنب عليها في ذلك؛ فهي عاجزة مسكينة قضت عليها عادة سخيفة بالحرمان المؤبَّد من الترقِّي والكمال.

ربما يُقال إن في طوع المرأة وإمكانها أن تستكمل تربيتها وتتم دراستها في بيتها، وهو وهم باطل؛ فإن الرغبة في اكتساب العلم والتشوف لاستطلاع ما عليه الناس في أحوالهم وأعمالهم، وحب استكشاف الحقائق، وكل ما يستميل النفس إلى المطالعة والدرس لا يتوفر للمرأة مع حجابها؛ ذلك لأن الحجاب يحبس المرأة في دائرة ضيِّقة فلا ترى ولا تسمع، ولا تعرف إلا ما يقع فيها من سفاسف الحوادث، ويحول بينها وبين العالم الحي؛ وهو عالم الفكر والحركة والعمل فلا يصل إليها منه شيء، وإن وصل إليها بعضه فلا يصل إلا محرفًا مقلوبًا. أما إذا استمرت المواصلات بينها وبين العالم الخارجي؛ فإنها تكتسب بالنظر في حوادثه وتجربة ما يقع فيه معارف غزيرة تنبث فيها من المخالطات والمعاشرات والمشاهدة والسماع ومشاركة العالم في جميع مظاهر الحياة، وقد يكفي في إعانتها على كسب ذلك كله، والانتفاع منه ما حصلته بالتعلم من المعارف الأولى إذا حسنت الفطرة وجادت القريحة.

وعلى فرض أن المرأة يمكنها في احتجابها أن تستكمل ما نقص منها علمًا وأدبًا بقراءة الكتب يعد من قبيل الخيالات إن لم تمكنه التجربة ويؤكده العمل، ولو عاملنا إخوتها الصبيان كما نعاملها وحجبناهم في البيوت حتى بلغوا سن الخامسة عشرة لكانت النتيجة واحدة. بل لو أخذنا رجلًا بلغ الأربعين من عمره، وحجبناه عن العالم، وألزمناه أن يعيش بين أربعة جدران وسط النساء والأطفال والخدم لشعر بانحطاط تدريجي في قواه العقليَّة والأدبيَّة، ولا بُد أن يأتي يوم يجد فيه نفسه مساويًا لهم. فإذن يكون من الخطأ أن نتصور أننا متى علَّمنا بناتنا جاز لنا أن نحجبهنَّ متى بلغنَّ سنًا مخصوصًا، وأن مجرد ذلك التعليم الأول يكفي في التوقِّي من الضرر؛ لأن الضرر في الحجاب عظيم، وهو ضياع ما كسبنه بالتعلُم وحرمانهنَّ من الترقِّي في مستقبل العمر، والأمر في ذلك واضح لا يحتاج إلى دليل. ويكفينا أن نرجع إلى أنفسنا ونخطر ببالنا ما كنا عليه في الخامسة عشرة من عمرنا، فيتبين لنا أننا كنا أشبه بالأطفال لا نكاد نعلم شيئًا من العالم، ولا نعرف للحياة قيمة، ولا نميِّز كمال التمييز بين ما لنا وما علينا، ولا تمتاز لدينا حقوقنا وواجباتنا، وليس لنا عزيمة ثابتة في مجاهدة أنفسنا، وأن أكبر عامل له أثر في تكميلنا هو استمرار تعلمنا وتربية عقولنا ونفوسنا استمرارًا لا انقطاع معه، وأن ذلك لم يتم لنا بقراءة الكتب، بل بالمشاهدة والممارسة والمخالطة، وتجربة الناس والحوادث. 

وفي الحقيقة، إن تربية الإنسان ليس لها سن معين تنقطع بعده، ولا حد معروف تنتهي عنده. فهي لا تُنال بحفظ مقدار من العلوم والمعارف يجهد الإنسان نفسه في اكتسابه في سنين معدودة ثم يقضي حياته بعد ذلك في الراحة. 

 التربية ليست ذلك الشيء البسيط الذي يفهمه عامة الناس حيث يتصورون أنها عبارة عن تخزين كمية من المعارف المقررة في بروجرامات المدارس ثم َّامتحان ثم شهادةِّ ليس بعدها إلا البطالة والجمود، وإنما التربية هي العمل المستمر الذي تتوسل به النفس إلى طلب الكمال من كل وجوهه، وهذا العمل لا بُد منه في جميع أدوار الحياة حيث يبتدئ من يوم الولادة، ولا ينتهي إلا بالموت. 

 وإذا أراد القارئ أن يتبين صحة ما أسلفته من مضار الحجاب على وجه لا يبقى للريب معه مجال، فما عليه إلا أن يقارن بين امرأة من أهله تعلَّمت، وبين أخرى من أهل القرى أو من المتجرات في المدن لم يسبق لها التعليم، فإنه يجد الأولى تُحسن القراءة والكتابة وتتكلَّم بلغة أجنبية، وتلعب البيانو، ولكنها جاهلة بأطوار الحياة بحيث لو استقلَّت بنفسها لعجزت عن تدبير أمرها وتقويم حياتها. وأن الثانية مع جهلها قد أحرزت معارف كثيرة اكتسبتها من المعاملات والاختبار وممارسة الأعمال والدعاوي والحوادث التي مرت عليها، وأن كل ذلك قد أفادها اختبارًا عظيمًا؛ فإذا تعاملتا غلبت الثانية الأولى. 

والذي يجب علينا هو معالجة المضار التي يُظن أنها تنشأ عن تخفيف الحجاب، ولا توجد طريقة أنجع في ذلك العلاج إلا التربية التي تكون هي الحجاب المنيع والحصن الحصين بين المرأة وبين كل فساد يُتوهم في أية درجة وصلت إليها من الحرية والإطلاق.

 سيقول معترض إن التربية والتعليم يُصلحان أخلاق المرأة، وأما الإطلاق فربما زاد في فسادها، فنجيب أن الإطلاق الذي نطالب به هو محدود بحظر الخلوة مع أجنبي، وفي هذا الحظر ما يكفي لاتقاء المفاسد التي لا تتولد إلا من الخلوة. أما الإطلاق في نفسه فلا يمكن أن يكون ضارًا أبدًا متى كان مصحوبًا بتربية صحيحة؛ لأن التربية الصحيحة تكوِّن أفرادًا أقوياء بأنفسهم، فالاستقلال في النساء كالاستقلال في الرجال يرفع الأنفس من الدنايا ويبعد بها عن الخسائس؛ لذلك يجب أن يكون هو الغاية التي نطلبها من تربية النساء.

والحق أنا غالينا في اعتبار صفة العفَّة في النساء، وفي الحرص عليها، وفي ابتداع الوسائل لحفظ ما ظهر منها وتفخيم صورتها حتى جعلنا كل شيء فداءها، وطلبنا أن يتضاءل ويضمحل كل خلق وكل ملكة دونها. نعم العفَّة أجمل شيء في المرأة وأبهى حلية تتحلى بها، ولكن العفَّة لا تغني شيئًا عن بقية الصفات والملكات التي يجب أن تتحلى نفس المرأة بها من كمال العقل، وحسن التدبير، والخبرة بتربية الأولاد، وحفظ نظام المعيشة في البيت، والقيام على كل ما يُعهد إليها من الشئون الخاصة بها، بل نقول إن لهذه الصفات دخلًا كبيرًا في كمال العفَّة. 

إن الإفراط في الحجاب من الوسائل التي تبادر عقول السذج وتركن إليها نفوسهم، ولكنها يمجُها كلّ عقل مهذب وكل شعور رقيق.

متى تهذب العقل ورقّ الشعور أدرك الرجل أن المرأة إنسان من نوعه لها ما له وعليها ما عليه، وأن لا حقّ لأحدهما على الآخر بعد توفية ما فرضته الشريعة على كل منهما لصاحبه إلا ما يعطيه كلٌ من نفسه بمحض إرادته وحسن اختياره.  

متى تهذَّب العقل ورق الشعور في الرجل عرف أن حجاب المرأة إعدام لشخصها، فلا تسمح له ذمته بعد ذلك أن يرتكب هذه الجريمة توسًلا إلى ما يظنه راحة بال واطمئنان قلب. 

متى تهذَّب العقل ورق الشعور في الزوج؛ وجد من نفسه أن لا سبيل إلى اطمئنان قلبه في عِشرة امرأة جاهلة مهما كان الحائل بينها وبين الرجال. 

متى تهذَّب العقل ورق الشعور في الرجل أدرك أن الذ شيء تشتاق إليه نفسه هو حب يصل بينه وبين إنسان مثله بحسن اختيار وسلامة ذوق، لا بمجرد نزعات الهوى ونزوات الشهوة؛ فيسعى جهده فيما يقويه ويشد عُراه، ويبذل ما في وسعه للمحافظة عليه.

متى تهذَّب العقل ورق الشعور في الرجل والمرأة لا تقتنع نفوسهما بالاختلاط الجسداني وحده، بل يصير أعظم همهما طلب الائتلاف العقلي والوحدة الروحيَّة. 

إن طبيعة العصر الذي نحن فيه منافرة للاستبداد، معادية للاستعباد، ميالة إلى سوق القوى الإنسانيَّة في طريق واحد، وغاية واحدة. فهذا الطائف الرحماني الذي طاف على نفوس البشر فنبَّه منها ما كان غافلًا لا بُد أن ينال منه النساء نصيبهن؛ فمن الواجب علينا أن نمد إليهن يد المساعدة، ونعمل بقول النبي –صلى الله عليه وسلم – «اتقوا الله في الضعيفين المرأة واليتيم»، ولا شيء أدخل في باب التقوى من تهذيب العقل، وتكميل النفس، وإعدادها بالتعليم والتربية إلى مدافعة الرذائل ومقاومة الشهوات، ولا من حسن المعاملة واللطف في المعاشرة. فعلينا أن نجعل الصلة بيننا وبينهن صلة محبَّة ورحمة لا صلة إكراه وقسوة. هذا ما تفرضه علينا الإنسانيَّة، وتطالبنا به الشريعة، وهو مع ذلك فريضة وطنيَّة يجب علينا أداؤها حتى تكون جميع أعضاء المجتمع عندنا حيَّة عاملة قائمة بوظائفها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* منقول باختصار من:

قاسم أمين (2010). تحرير المرأة. ط. 1. وندسور: مؤسسة هنداوي. ص ص. 37 – 59.

[1] أمرد: مَ طلع شاربه ولم تنبت لحيته.

[2] قسمة إفراز: المقصود أن الله عز وجل لم يعزل الزجال عن النساء أو النساء عن الرجال، مميزًا أحدهما على الآخر.

[3] التفرس: التثبت والنظر.

[4] يُؤدم بينكما: أن يكون بينكما محبة واتفاق.

[5] الحائل: ستر يفصل بينها وبين الأجنبي.

[6] بَهْو: الساحة في مقدم البيت.

[7] صُفَّة: مقعد بالقرب منه مظلل.

[8] سُتير: تصغير ستر وهو الغطاء.

[9] تاريخ الطبري، جزء خامس.

عن قاسم أمين

شاهد أيضاً

الأمومة في الإسلام

د.شوقي الأزهر

أ. خديجة تمعزوستي

إن الأمومة ولوازمها من أهم ما يكيف حقيقة الأنوثة ويميز بين الذكر والأنثى على المستوى البيولوجي والنفسي والاجتماعي. وقد اعتبرت نصوص الوحي الأمومة جانبًا محوريًا من أدوار المرأة الاجتماعية المتنوعة.

الأسرة المسلمة بين الاتفاقات الدولية والمقاصد العليا للشريعة

د. رشا عمر الدسوقي

إن المحرك الرئيسى والقوى الدافعة للمؤتمرات النسوية للأمم المتحدة والتي تصيغ وثائقها وتبلور قراراتها الخاصة بالمرأة هي الحركة النسوية "النوعية،" Gender Feminism، الناشط الأساسي في منظمة النساء للبيئة والتنمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.