الصفحات التالية من كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب”*
لعلي عزت بيجوفيتش**
ثُنائية أعمدة الإسلام الخمسة
الصلاة ليست مجرد تعبير عن موقف الإسلام من العالم، وإنما هي أيضا انعكاس للطريقة التي يريد بها الإسلام تنظيم هذا العالم. فالصلاة تعلن أمرين : أولهما، أنه يوجد هدفان إنسانيان أساسيان. وثانيهما، أن هذين الهدفين – رغم انفصالهما منطقيا – يمكن توحيدهما في الحياة الإنسانية، حيث أنه لا صلاة بدون طهارة، ولا جهود روحية بدون جهود مادية واجتماعية تصاحبها. إن الصلاة أكمل تصوير لما نطلق عليه ” الوحدة ثنائية القطب” في الإسلام. ونظرا لما في الصلاة من بساطة, فإنها قد اختزلت هذه الخاصية إلى تعبير تجريدي، وأصبحت بذلك المعادلة أو “الشفرة” الإسلامية.
الصلاة في الاسلام باطلة بدون وضوء، بينما في الدين المجرد يمكن أداء الصلاة مع وجود (القذارة المقدسة) التي عرفتها بعض نظم الرهبنة في كل من المسيحية والهندوسية. فالرهبان الذين يتجنبون النظافة يشعرون شعورا دينيا أصيلا أن إغفال البدن – بل الإهمال المتعمد لنظافته – يقوي العنصر الروحي في الصلاة. وينطلق هذا المنطق من افتراض أن الصلاة، من حيث المبدأ التي قامت عليه، ستكون صلاة أصدق إذا “تخلصت” من أي إضافة أو عناية بالبدن. فكلما قل حضور البدني كلما زاد التأكيد على الروحي[1].
يشكل الوضوء والحركات في الصلاة الجانب العقلي فيها, ووجود هذا الجانب لا يجعل الصلاة قاصرة على جانبها الروحي المجرد وإنما يضيف إليها النظام والصحة معا, فهي ليست تأملا صوفيا فحسب بل نشاطا عمليا أيضا.
والحركات الخارجية للصلاة بسيطة إلى حد ما، ولكنها تشمل جميع أعضاء الجسم تقريبا. إن خمس صلوات في اليوم مع الوضوء (أو الغسل) – أولها يجب أداؤها قبل بزوغ الشمس، والأخيرة في المساء – وسيلة فعالة ضد الخمول والاسترخاء.
فالثنائية تتكرر في الوضوء: الوضوء نظافة صحية، ولكن هذه النظافة “ليست فقط معرفة، وإنما فضيلة كذلك” [2]. فقد أضفى عليها الإسلام شيئا باطنيا. وهذه الصفة تعتبر من “الناحية المنهجية” خصوصية إسلامية. والنتيجة أن الإسلام قد رفع الطهارة إلى مستوى الفكرة وربطها عضويا بالصلاة. حيث يقرر القرآن – خلافا لما قد يتوقعه أصحاب الدين المجرد –
” إن الله يحب المتطهرين” (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة – 222).
إن عبارة مثل “النظافة من الايمان” لاتوجد إلا في الإسلام، فالبدن في جميع الأديان الأخرى المعروفة “خارج الاعتبار”[3].
إن مواقيت الصلاة، وكذا الصيام والحج، تعتمد جميعا على حقائق فلكية معينة. وقد يبدو تصريح القرآن: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (البقرة – 177). أقرب إلى مفهوم الدين المجرد. إلا أن الصلاة الإسلامية بمفهومها السائد، تشتمل على العناصر المادية (الطبيعية) كما تشتمل على عناصر روحية على حد سواء. ومن هذه الناحية تنتمي الصلاة إلى عالمنا الذي يحدده الزمان والمكان. وكان التطور السريع لعلم الفلك في قرون الإسلام الأولى وثيق الصلة بحاجة المسلمين إلى التحديد الدقيق للمكان والزمان. ولدينا أسباب عديدة للاعتقاد بأن هذا التطور كان هدفا من أهداف الإسلام.
هذا الجانب من الصلاة (سمه إن شئت الجانب الدنيوي أو العملي أو الطبيعي) يزكي بقوة صفة أخرى، هي الصفة الاجتماعية. فالصلاة ليست مجرد اجتماع الناس لأداء الصلاة في جماعة, ولكنها أيضا مناسبة للعلاقات الشخصية المباشرة، وبهذا الاعتبار، تكون الصلاة ضد الفردية والسلبية والانعزال. فإذا كانت الحياة تفرق الناس، فإن المسجد يجمعهم ويمزجهم. إنها مدرسة يومية للتآلف والمساواة والوحدة ومشاعر الود. ويتوج هذا الاتجاه الاجتماعي في الصلاة، صلاة الجمعة، فهي تكاد تكون صلاة حضرية سياسية. تقام في الأجازة الأسبوعية، في مسجد مركزي جامع يحضره بعض رجال الدولة. وخطبة الجمعة قبل الصلاة جزء لا يتجزأ من الصلاة، وهي بصفة أساسية رسالة سياسية. وقد يقول المسيحيون إن هذا يتعارض مع مفهوم الصلاة، وهو استنتاج يتفق مع الطريقة المسيحية في التفكير، ولكنه استنتاج غير مبرر من وجهة نظر الإسلام.
والتحول من الدين المجرد إلى الإسلام ظاهر بوضوح في مسألة الزكاة. ففي “المرحلة المكية” كانت الزكاة تمنح للفقراء على سبيل التطوع (صدقات). ولكن عندما تأسس مجتمع المدينة – وهي اللحظة التاريخية التي تحولت فيها الجماعة الروحية إلى (دولة) – بدأ محمد (ص) يعامل الزكاة باعتبارها التزاما قانونيا ( فريضة شرعية)، أي ضريبة يدفعها الأغنياء للفقراء. وهي، على قدر علمنا، أول ضريبة من نوعها في التاريخ. كأن الاسلام قد أنشأ الزكاة عندما أضاف عنصر الإلزام القانوني إلى المؤسسة المسيحية للصدقة، أو كما أطلق عليها “رسلر” “الصدقة الإلزامية”. إنه المنطق نفسه الذي حول الصلاة التأملية المجردة إلى صلاة ” إسلامية”، هو نفسه الذي جعل من الصدقة التطوعية زكاة ملزمة، والنتيجة النهائية أنه حول الدين المجرد إلى إسلام.
وبإعلان الزكاة بدأ الإسلام يتخذ وضع الحركة الاجتماعية، فلم يعد يعمل كدين مجرد فحسب. وقد أخذت الزكاة ثقلها الحقيقي بتشكيل المجتمع السياسي للمدينة، والدليل على هذه الخاصية للزكاة أنها ذكرت في القرآن ثماني مرات فقط في سور الفترة المكية، بينما ورد ذكرها في السور المدينة إثنتين وعشرين مرة.
لقد جاء فرض الزكاة استجابة لظاهرة ليست في حد ذاتها واحدية الجانب. فالفقر ليس قضية إجتماعية بحتة. فسببه ليس في العوز فقط, وإنما أيضا في الشر الذي تنطوي عليه النفوس البشرية. فالحرمان هو الجانب الخارجي للفقر، وأما جانبه الباطني فهو الإثم (أو الجشع)، وإلا فكيف نفسر وجود الفقر في المجتمعات الثرية؟ إننا في النصف الثاني من القرن العشرين ولا يزال ثلث البشرية يعاني من نقص مزمن في التغذية. فهل يرجع هذا إلى نقص في الغذاء، أم إلى نقص في الشعور؟ إن أي حل لمشكلة الفقر ينبغي أن يتضمن الاعتراف بالذنب، وإضافة إلى ذلك لابد أن يصحبه توبة وندم. فكل حل إجتماعي لابد أن يتضمن حلا إنسانيا. بمعنى أنه لا ينبغي الاكتفاء بتغيير العلاقات الاقتصادية، بل أيضا العلاقات الإنسانية. يجب إحداث التوزيع العادل، وكذلك التنشئة الصحيحة للناس التي تقوم على الحب والتعاطف.
إن الفقر مشكلة ولكنه إثم أيضا. ولا يعالج الفقر بنقل ملكية بعض السلع، وإنما أيضا من خلال التضامن الشخصي، والقصد، والشعورالودي. فلا شيء يمكن إنجازه على الوجه الصحيح بمجرد تغيير ملكية سلع العالم طالما بقيت في النفوس الكراهية والاستغلال والاستبعاد. وهذا هو السبب في إخفاق الثورات الدينية المسيحية، والثورات الاشتراكية جميعا. “فعلى مدى ألفي سنة لم ينقص حجم الشر في العالم، ولم تستطع امبراطورية مقدسة أو امبراطورية ثورية الوصول إلى غايتها المأمولة”[4]. فقد كانت الثورة الدينية – دينية أكثر مما يجب، وكانت الثورة الاجتماعية – اجتماعية أكثر مما يجب. لقد توهم الدين أنه سيكون أكثر تمكينا برفضه للسياسة والعنف، واحتفظت الاشتراكية، كواجب أساسي لها، إقناع خبرائها أن العنف هو الطريق الوحيد وأن الصدقة مجرد خدعة. إنما يحتاج الإنسان دينا هو في الوقت نفسه سياسة، وسياسة هي في الوقت نفسه أخلاق.
يحتاج إلى مفهوم للصدقة يمكن أن تتحول إلى التزام اجتماعي أو ضريبة.. وهكذا نصل إلى تعريف “الزكاة”.
إن الزكاة مرآة للناس. حيث يتوقف عليهم أن تكون الزكاة ضريبة مفروضة أو عطاء تطوعيا من إنسان لإنسان آخر، وتحتاج الزكاة إلى صناديق مالية وإلى قلوب مفتوحة معا. إنها نهر كبير من السلع تفيض من قلب إلى قلب… من إنسان إلى إنسان. الزكاة تقضي على الفقر بين المحتاجين وتقضي على اللامبالاة بين الأغنياء. إنها تقلل من التفاوت المادي بين الناس، وتقربهم بعضهم من بعض[5].
إن غاية الإسلام ليست هي القضاء على الأغنياء، وإنما القضاء على الفقر.. فما هو الفقر؟ إنه نقص في الأشياء الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها للحياة العادية. أن يمتلك الانسان أقل من الحد الأدنى اللازم لإقامة الحياة .. أن يكون تحت ” مستوى الحد الأدنى للمعيشة”. ومستوى الحد الأدنى للمعيشة مقولة طبيعية وتاريخية تمثل مجموع السلع اللازمة للإنسان ولأسرته بما يسد احتياجاتهم المادية والاجتماعية. وليس محتما أن يقلص المجتمع جميع الناس إلى مستوى واحد. ولكن قبل أي شيء أن يوفر لكل إنسان الحد الأدنى من مستوى المعيشة الذي أشرنا إليه. الأهداف الاجتماعية للإسلام مقصورة على القضاء على الفقر، ولاتمتد إلى تسوية الملكيات بين الجميع، فإن التبريرات الأخلاقية والاقتصادية لمثل هذه التسوية مشكوك فيه.
كل مجتمع مستقر يدعمه – بالإضافة إلى المعايير الأخلاقية والإنسانية – مبدأ البقاء. وقَدَر المجتمع الإسلامي أن يبلغ الحد الأقصى من الناحية الإنسانية ومن ناحية الكفاءة معا. فليس إسلاميا أن تهدد الاعتبارات الإنسانية استقرار المجتمع، وبالعكس، إذا سمح التأكيد المغالى فيه على الكفاءة والقوة باهدار المبادئ الأساسية للحرية وحقوق الإنسان والإنسانية فدستور المجتمع الإسلامي يتحدد بالتحام هذين الشرطين المتعارضين: أقصى الإنسانية وأقصى الكفاءة.
إن الاعتبارات القانونية المتصلة بالزكاة قاصرة على كم تعطى مما تملك لمن؟ إلا أن مؤسسة الزكاة تعتبر أن مبدأ التضامن في حد ذاته هو الأهم من مجرد الِنسَب المستحقة والأرقام. وطبقا لهذا المبدأ، يمثل التزام أغنياء المجتمع بكفالة فقرائه الأهمية الحاسمة في القضية. ولا يساورنا أدنى شك أنه اذا قام نظام إسلامي صحيح, فإنه سيناضل من أجل تحقيق الهدف من هذا المبدأ، بصرف النظر عن مستوى الدخل أو إحصاءات السكان.. تجاوزت حدا معينا أو لم تتجاوز .. المهم أن يتحقق المبدأ بالتزام فريق الأغنياء في المجتمع بالإنفاق على فقراء المجتمع لسد احتياجاتهم اللازمة للحياة. وحيث أن الزكاة حق للفقراء (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ) فإنه سيتم توفيرها بالقوة إذا لزم الأمر[6].
وفقا لبعض المراجع، ذكر الإلزام بالعطاء أو التوصية به في إثنين وثمانين موضعا بالقرآن. ونتيجة لإصرار التعاليم الإسلامية على العطاء، جرت ثورة هادئة في المجتمعات المسلمة تبلورت في مؤسسة “الأوقاف”. والوقف، من حيث انتشاره وأهميته، لا يوجد له مثيل في البلاد غير الإسلامية. فلا تكاد توجد دولة إسلامية واحدة ليس فيها ممتلكات كبيرة مخصصة للأوقاف وخدمة الخير العام. ولم يذكر الوقف في القرآن, ولكنه لم يظهر في المجتمعات الإسلامية بمحض الصدفة، إنما كان ظهوره نتيجة لسيادة روح التضامن ولتأثير وظيفة الزكاة التعليمي في المجتمعات المسلمة. هذه الخبرة الإنسانية توفر الأمل في أن غايات اجتماعية معينة يمكن تحقيقها بدون عنف. إن الوقف، أو السلع المادية في خدمة الغايات الأخلاقية, يبرهن لنا على أن تغييرات كبرى يمكن تحقيقها في مجال الاقتصاد بدون تدخل المصالح المادية. من هذه الناحية، يعتبر الوقف مناقضا لما يطلقون عليه ” القوانين الطبيعية للاقتصاد”. إنه شذوذ من وجهة نظر الاقتصاد السياسي, ولكنه من حيث ثنائيته (كنوع من الاقتصاد بواعثه إنسانية روحية)، هو ممارسة إسلامية صحيحة.
هل تؤثر الزكاة سلبيا على جهود الناس لتحسين ظروفهم بواسطة عملهم؟
بعض الناس يذهب إلى هذا الرأي. ولكن قبل كل شيء ينبغي أن ندرك أنه توجد كثرة من المشكلات لا يمكن حلها بواسطة جهود الأفراد مثل القصور الطبيعي، والعجز والكوارث الطبيعية وما يجري في مجراها. ففي هذه الناحية، تعتبر الزكاة عونا ماليا لا يختلف عن غيره من أنواع العون التي عرفتها المجتعات الحضارية وغير الحضارية. وقد خصص في ميزانية الحكومة الأمريكية سنة 1965 بليون دولار ” لمساعدة الفقراء الأمريكيين”[7]. ولم يبد أحد خوفه من أن مثل هذا المبلغ الضخم من المال يمكن أن يؤثر على طاقة شعب من أكثر الشعوب العالم حبا في المغامرة[8].
هذا التحليل التفصيلي للصلاة والزكاة – وهما أبرز الممارسات الإسلامية – يدلان على ثنائية جوانية. ولكن إذا نظرنا إليهما من الخارج وجدنا لهما وظائف مختلفة واضحة في إطار البنية الإسلامية. من هذا المنظور، نرى الصلاة عنصرًا روحيا والزكاة عنصرًا اجتماعيا… الصلاة موجهة للإنسان والزكاة موجهة للعالم… في الصلاة صفة شخصية، وفي الزكاة صفة اجتماعيا.. الصلاة أداة للتنشئة، والزكاة جزء من النظام الاجتماعي. ويكاد يتفق جميع المفكرين الإسلاميين على أن هناك تعزيزا متبادلا بين الصلاة كعبادة شخصية، والزكاة كموقف اجتماعي في اتساق مع الصلاة. هذه الفكرة أدت إلى استنتاج أن الصلاة بدون زكاة تعتبر باطلة.
إن التوحيد بين فريضتي الصلاة والزكاة تأكد في القرآن، الذي يؤكد اعتماد إحداهما على الأخرى بصفة مستمرة. وقد روى عبدالله بن مسعود عن رسول الله (ص)، أنه قال ما معناه (لقد أمرتم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فمن لا يؤدي الزكاة لا صلاة له). ولا يوجد تفسير إلا أنها دعوة ضد فصل الأعمال عن الإيمان أو فصل الإنسان عن الدنيا، وهي دعوة إسلامية في صميم جوهرها. وقد استخدم أبو بكر – الخليفة الأول – المنطق نفسه عندما قرر استخدام القوة ضد قبيلة رفضت دفع الزكاة، وقد ذكر أنه قال في هذا الموقف: ” والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة”.
إن المعادلة القرآنية المألوفة التي تجمع بين الصلاة والزكاة ليست إلا صيغة معينة من معادلة أخرى “ثنائية القطب” أكثر تكرارا وأكثر عمومية وهي ” آمن وافعل خيرا”[9]، والتي يمكن اعتبارها الأساس الجوهري للأوامر الدينية والأخلاقية والاجتماعية في القرآن، تشير إلى هذا المعنى بوضوح الآية (277) من سورة البقرة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). هذه المعادلة تحدد العمودين اللذين لا بديل لهما, واللذين يقوم عليهما الإسلام كله. ولعله من المناسب النظر إلى هذه المعادلة باعتبارها أول صيغة للإسلام وأرفعها. فالإسلام بكامله يقع تحت صيغة “الوحدة ثنائية القطب”.
إن النطق بالشهادتين الذي يعلن به الشخص اعتناقه للإسلام يؤدي أمام الشهود لما ينطوي عليه هذا العمل من معنيين: الأول، هو الانضمام إلى جماعة روحية ولا ضرورة فيه لوجود شهود، ولكن الشخص الذي اعتنق الاسلام، رجلا كان أو امرأة ينضم إلى جماعة لها جوانبها الاجتماعية والسياسية والتي تتضمن التزامات قانونية وليس فقط التزامات أخلاقية. والمعنى الثاني، أن يلحق إنسان بدين ما لا يستلزم وجود شهود حيث أن هذه علاقة بين الإنسان وربه. فمجرد عقد النية أو اتخاذ قرار باطني كاف تماما بهذا الخصوص. والالتحاق بدين في وجود الآخرين به عنصر من عناصر الإعلان، وهو غير ضروري من وجهة نظر الدين المجرد. ولكن الاسلام ليس دينا مجردا.
في الصوم أيضا جانب مشابه بلا شك. فقد اعتبر المسلمون الصوم خلال شهر رمضان مظهرا لروح الجماعة. ولذلك فإنهم حساسون لأي انتهاك علني لهذا الواجب. فالصيام ليس مجرد مسألة إيمان … ليس مجرد مسألة شخصية تخص الفرد وحده، وإنما هو التزام إجتماعي. هذا التفسير للصيام كشعيرة دينية غير مفهوم عند الأديان الأخرى. إن الصيام الإسلامي وحدة تجمع بين التنسك والسعادة بل حتى المتعة في حالات معينة .. إنه أكثر الوسائل التعليمية – طبيعية وقوة – التي وضعت موضع الممارسة الإنسانية إلى يومنا هذا.
فالصوم يمارس في قصور الملوك وفي أكواخ الفلاحين على السواء.. في بيت الفيلسوف وفي بين العامل. وأعظم ميزة فيه أنه يمارس ممارسة حقيقية.
فما شأن الحج (إلى الكعبة) وهو العمود الخامس من أعمدة الاسلام؟ هل هو شعيرة دينية، معرض تجاري، تجمع سياسي، أم أنه كل هذا في شيء واحد؟ من المؤكد أنه شعيرة دينية، ولكنه في صيغته الإسلامية كل في واحد.
إن الثنائية التي يتميز يها الإسلام واضحة في أمور أخرى كثيرة، أنظر إلى هذه الآية من القرآن: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ …) سورة المائدة الآية (89). وهكذا ترى الأعمال الاجتماعية المفيدة في العالم الخارجي لها أولوية على الأعمال الروحية الخالصة، فالأخيرة تطبق فقط كبديل عندما يستحيل أداء الأولى … وفي هذه الآية كان الصيام بمثابة الندم… كفارة ودعاء بطلب المغفرة[10]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* علي عزت بيجوفيتش (2010). الإسلام بين الشرق والغرب/ ترجمة محمد يوسف عدس؛ تقديم عبد الوهاب المسيري. القاهرة: دار الشروق.
** علي عزت بيغوفيتش (1344 هـ / 1925 – 1424 هـ / 2003، أول رئيس جمهوري لجمهورية البوسنة والهرسك بعد انتهاء الحرب هناك، هو فيلسوف إسلامي، مؤلف لعدة كتب أهمها الإسلام بين الشرق والغرب. ولد في مدينة بوسانا كروبا البوسنية لأسرة بوسنية عريقة في الإسلام.
[1] من بين المراجع الإكليريكية البارزة الذين أخذوا هذا الجانب من الصلاة إلى أقصى مداه “يعقوب الرسولي”. ويصور المدى الذي يمكن أن يصل إليه الإهمال المتعمد للبدن ما ذكر عن تجنب النظافة في بدايات القرون الوسطى فيما يلي: “كان ينظر إلى النظافة على أنها شيء بغيض … وكان الرهبان رجالا ونساء يفاخرون بأن الماء لم يمسس أقدامهم إلا عندما كانوا يضطرون لعبور الأنهار”. أنظر “برتراند رسل” Bertand Russell: The History of western philosophy (London: n.p.,,1946)p.371.
[2] أنظر: “جان جاك روسو” Jean Jacques Rousseau : Emile, trans… (London: Dent
[3] لنتذكر أن الحمامات العامة التي بناها الرومان قد اختفت بعد انتشار المسيحية، وعلاوة على ذلك كانت الكنيسة تغلق الحمامات وتبني الأديرة. والإسلام على عكس ذلك كان يبني الحمامات قرب المساجد ولا يوجد مسجد في العالم بدون نافورة ماء على الأقل. وليس في هذا صدفة.
[4] أنظر: ألبيير كاموAlbert Camus: L’ Homme Revolte ( Paris: Gallimard,1951)
[5] من الطبيعي أن يكون التدخل الاجتماعي للدولة هو أكثر الطرق فاعلية لتحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن المؤسسات الاجتماعية بأسلوبها اللاشخصي وبتأثيرها الذي لا يميز بين المعدمين وبين من هم أقل حاجة ينسف الأساس الذي تقوم عليه الجماعة الصحية السعيدة.
[6] نذكر هنا على سبيل المقارنة الفكرة التي سماها “ملتون فريدمان” (الضريبة المعكوسة) وهو اقتصادي أمريكي حائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية .. وتقوم وزارة المالية وفقا لاقتراح ملتون بدفع هذه “الضريبة” لجميع الذين يكسبون أقل مما يكفيهم، “إن الفقر كان من الممكن أن يختفي منذ زمن طويل اذا كانت الاعتمادات الاجتماعية توجه حقا إلى من يحتاجونها بالفعل بدلا من بعثرتها على خدمات اجتماعية لا تتسم بالكفاءة وباهظة التكاليف”.
Miton Friedman: Social Security: Universal or Selective (Washington, American Enterprise Institute of Public Research, 1972).
[7] تتألف هذه الفئة من المواطنين الأمريكيين الذين يقل دخلهم السنوي عن ألفي دولار أمريكي.. وقد جرى احصاء أفراد هذه الفئة فكانوا 35 مليونا في ذلك الوقت.
[8] لقد أثبت عكس هذه الفكرة البروفسور “لسترتورو” Lester Turroum من معهد “ماساشوسيت للتكنولوجيا”فقد قررأنه لا يوجد تصادم بين العطاء الإجتماعي والكفاءة الإقتصادية، وأن البرامج يمكن أن تكون منتجة اقتصاديا كما أنها عادلة اجتماعيا وقد رفض البروفسور “تورو” فكرة أن العطاء الاجتماعي على نطاق واسع يهدد التوازن الاقتصادي للأمة و”يفسدالناس” بل إنه قرر أن الأمم التي بها أضيق فجوة بين الأغنياء والفقراء تتفوق على الولايات المتحدة وهي السويد وسويسرا والدنمارك والنروج وقريبا ألمانيا. وهذه الطريقة “الثالثة” المركبة تبرهن على أنها أقرب إلى الإنسانية، ولذلك فهي الأكثر كفاءة أيضا
[9] كما في قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن شيء في الإسلام لا يسأل بعده أحدا إذ قال له : أمنت بالله ثم استقم.
[10] كذلك رؤي عن الرسول (ص): ” من رأى منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه فإن لم يستطيع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان” – وحكمة إيراد هذا الحديث في هذا السياق أن النبي (ص) قد جعل الحركة القلبية أو الرفض الداخلي في ضمير الإنسان أضعف الإيمان، ولذلك قدم عليه في تغيير المنكر العمل المادي المباشر. (المترجم).