د. المسيري الإنسان

تمر خلال هذا الشهر – شهر يوليو – الذكرى العاشرة لوفاة عالم جليل وفيلسوف إنسان هو الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري، وفي هذه المناسبة يرى مركز خُطوة للتوثيق والدراسات إحياء ذكراه بنشر مقتطفات من حياته، كتبها بنفسه فى كتابه القيم “رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار” *.

ورغم أن هذه الأجزاء من كتاب  د. المسيري تشير إلى مراحل مختلفة من حياته: صباه وشبابه وكهولته – وأماكن مختلفة عاش فيها: دمنهور (مسقط رأسه) الإسكندرية والولايات المتحدة الأمريكية والسعودية وغيرها، فإن كل هذه الذكريات محملة ببعد معرفي ومعان عميقة تدفع القارئ إلى التأمل والتفكر في مفاهيم كلية مشتركة نعيشها جميعاً.

ولدت في دمنهور، عاصمة البحيرة، وهي مدينة صغيرة في دلتا مصر تقع بالقرب من الإسكندرية. وحينما نشأت فيها طفلاً، كانت تتميَّز بوجود عبق التاريخ فيها، برغم أنه لا توجد فيها آثار فرعونية أو قبطية أو إسلامية. وقد عرفت، ممن هم أعلم مني بالآثار، أن هذه هي الحال دائماً مع المدن الصغيرة التي تستمر فيها الحياة عبرالعصور (على عكس المدن التي يتوقف فيها التاريخ وتدفنها الرمال). فدمنهور من أقدم مدن العالم، وأنهاكانت عاصمة الوجه البحري قبل توحيد القطرين (يقال إنها هي ودمشق المدينتان الوحيدتان اللتان استمرت فيهما الحياة بدون انقطاع مع احتفاظهما باسميهما اللذين عُرفا بهما فى الماضي). كان يُقال لنا إن مسجد التوبة، الذي يقع بالقرب من المحطة ومن شارع خيري، أسسه عمرو بن العاص، وأن معركة كبيرة وقعت بين نابليون والمماليك قرب دمنهور (في شبراخيت على ما أذكر).

وحينما شببت عن الطوق، بحثت عن أصل عائلتي. وبطبيعة الحال، قيل لنا إننا من الأشراف، أي من أهل البيت. وكان أحد أعضاء العائلة يحتفظ بشجرة تبدأ فروعها من دمنهور في القرن العشرين وتنتهي عند مكة في أيام البعثة المحمدية ( ولعله لو زاد البحث قليلاً لأوصلها لآدم، وأدرك أننا سواسية كأسنان المشط!). وكانت إحدى علامات الأصالة أن يعرف الإنسان أسماء جدوده، ولذا كنت أعرف أن اسمي هو: عبدالوهاب محمد أحمد علي غنيم سالم عز المسيري، ولكن يبدو أن هذه عادة كانت في طريقها إلى الاندثار [ مثل كثير من العادات المشابهة الأخرى]، ولذلك لا أعتقد أن إخوتي الأصغر مني سنّا يعرفون أسماء جدودهم. وهم، على كل، مثل كثير من أبناء بورجوازية دمنهور الريفية، نشأوا في الإسكندرية لا في دمنهور.

المهم أنني كنت أشعر بنبض التاريخ حولي، مما ترك أثراً عميقًا فيّ، وجعلني مشغولاً به منذ نعومة أظفاري. والانشغال بالتاريخ يعني ألا ينظر الإنسان إلى واقعه بشكل مباشر، وألاَّ يستجيب له بجهازه العصبي أو بصفحة عقله البيضاء، وألاَّ يرى اللحظة الراهنة بحسبانها البداية والنهاية، إنما بحُسبانها نقطة يلتقي فيها الماضي بالمستقبل، وألاَّ يتصور أنه عالم بسيط يمكن اختزاله في قانون أو قانونين، وإنما يراه من خلال عدسات وبؤر وذكريات وتقاليد ورموز. أي أن الإنسان يواجه العالم من خلال إنسانيته وخريطته الإدراكية المركبة لا من خلال ماديته، وأنه كفرد ليس هو البداية والنهاية، وإنما هو امتداد للماضي في الحاضر، ومن ثَمَّ في المستقبل. وبطبيعة الحال، لم أكن أدرك كل هذا حينذاك، ولكن الإدراك الواعي ليس هو السبيل الوحيد الذي يتشكل من خلاله وجدان الإنسان!

كانت أسرتي تنتمي إلى ما يمكن تسميته “البورجوازية الريفية”، وهي بورجوازية في دخلها وفي فرديتها، ولكنها كانت تعيش خارج الإسكندرية والقاهرة، أي تعيش في الريف، فلم تتأثر بعناصر التغريب التي كانت تضرب بأطنابها في البورجوازية الحضرية، وفيما كان يسمّى بالأرستقراطية الإقطاعية (ذات الجذور غير المصرية وغير العربية). ولذا ظلت هذه البورجوازية الريفية محتفظة بالقيم المصرية والعربية والإسلامية، ولم تبحث عن الجاه والأبهة. (حينما كان أحد الأثرياء “يشتري” لقب البكوية أو الباشوية من جلالة الملك، كانوا يتعجبون في دمنهور من هذا السَّفَه). ومعظم أعضاء هذه البورجوازية كانوا أعضاء في حزب الوفد أو على الأقل متعاطفين معه (لم يكن والدي يشارك هذه الطبقة توجهاتها، فقد كان متعاطفاً للغاية مع الحزب السعدي!).

ولابد أن أذكر أنني أنتمي إلى جيل كان ينضج سياسيّا بسرعة مقارناً بأجيال هذه الأيام، فقد كانت لي “مواقف” سياسية وأنا مازلت بعد في السابعة. وفي الأربعينيات، على سبيل المثال، كنا لا نكف عن التفكير في مسألة الحرب ضد الإنجليز وتحرير مصر. فكنا عند خروجنا من مدرسة قرطسا الإبتدائية ( وكنت لا أتجاوز السابعة) نلوح للجنود الإنجليز الذين تنقلهم القطارات من مصر إلى الإسكندرية (أو العكس) ونشير إليهم بعلامة النصر V، فيخرجون لتحيتنا فنقذقهم بالحجارة ونجري لنختفي في شوارع دمنهور وحواريها التي كنا نعرفها تمام المعرفة.

كان هناك في دمنهور مجموعة من المباني على الطراز العربي، وواحد من أهم المسارح في مصر، يُقال إنه لم يكن يضاهيه في روعته إلا دار الأوبرا القديمة، إذ إن محافظ (مدير) البحيرة في الأربعينيات، الشاذلي باشا، قرر أن يترك بصمته على المدينة فأسس هذه المباني. وكان المنزل الذي أقطن فيه على طراز ” الآرنوفو Art Nouveau” (أى الفن الجديد). والآرنوفو فن وطراز معماري ظهر بين عامي 1890 – 1910 في أوربا كجزء من ثورة الإنسان الغربي الرومانسية ضد مجتمع الصناعة والآلة الذي كان يحاول أن ينظر إلى كل شيء في إطار المنفعة المادية.

ولكن دمنهور، مع هذا، كانت على مستوى من المستويات قرية كبيرة. يوجد في وسطها، على سبيل المثال، مشتل دمنهور الضخم الذي كان يحوي كثيراً من النباتات! كما كان يوجد عدد لا بأس به من الحدائق. ولا أدري هل اكتشفت في هذه الفترة شجرة المشمش، أو لا؟ براعمها البيضاء، التي تنمو لفترة قصيرة، لاتزال تسحرني، ولذلك أزور قرية “العمار” بجوار القاهرة مرة كل عام، أقضي يوماً تحت الأشجار، أشاهد براعم المشمش البيضاء التي تشبه الثلج وهي تتماوج مع الأوراق الخضراء. وحينما يهب النسيم تتساقط بعض البراعم علينا أنا وزوجتي. ومع القهوة التي أرتشفها والسيجار الذي أدخنه، أترك الزمان والمكان وأتذوق طعم الأبدية، ولو للحظات!.

والمجتمع الدمنهوري – شأنه شأن المجتمعات التقليدية – يرفض التبديد ويقدَّر “نعمة الله”، فإذا سرنا ووجدنا قطعة من الخبز كان علينا أن نلتقطها، وبعضنا كان يقبلها ثلاث مرات ثم يضعها إلى جوار الحائط حتى لا يطأها أحد بقدميه. وكانت خبرات التدوير (بالإنجليزية: ريسايكلنج recycling) قوية للغاية في المجتمع، فكان لا يُلقى إلا بأقل القليل في سلال القمامة. أما بقية الأشياء فكان يتم تدويرها: أوراق الجرائد – علب الأكل المحفوظ – قشرالبطيخ ولبه – بقايا الطعام. كل شئ كان يمكن إعادة توظيفه (علمت أن المجتمع المصري لا يزال من أكثر المجتمعات مقدرة على التدوير، مما يعني مقدرته على الاحتفاظ بتوازنه مع الطبيعة. ومع هذا يلاحظ أنه مع زيادة التقدم يتآكل نموذج التدوير ليحل محله نموذج التبديد). وكانت أمي متطرفة في حكاية التدوير هذه. فعلى سبيل المثال، تعلمت في أثناء الحرب العالمية الثانية، مع أزمة الكبريت، أن تحتفظ بلمبة “سهاري” وبجوارها قطع من الكرتون هي في واقع الأمر علب سجائر تم قصها. وكنا حينما نود إشعال “البابور البريموس”، نضع قطعة الكرتون في اللمبة لنشعلها فنستخدم الشعلة بديلاً للكبريت. وقد أعجبتها الفكرة فظلت تمارسها إلى يوم وفاتها في منتصف السبعينات وإن كان البوتاجاز قد حل محل البريموس. كما أن علب البودرة كانت تتحول، بعد غسلها جيداً، إلى أوان للملح والفلفل! ولم يكن الهدف هو “التوفير”، إذ لم يكن هناك توفير في العملية وإنما هو الالتزام بالتدوير، فكل شيء نعمة من الله سبحانه وتعالى.

ويبدو أنني ورثت شيئاً من هذا، سواء أكان حبي للأشياء القديمة، أم استخدامي للورق الذي سبق استخدامه (الورق الدشت)لأكتب على ظهره، أم ارتدائي الملابس حتى تبلى تماماً. وتشكو زوجتي من أن بعض الفقراء ممن تعطيهم ملابسي القديمة يقولون: “بلاش والنبي حاجات البيه” لأنهم لا ينتفعون بها على الإطلاق. وزوجتي توافقهم بطبيعة الحال، إذ ترى أن ملابسي القديمة تصلح بالكاد لأعمال النظافة. وابني لا يختلف عني كثيراً في هذا، فهو لايمتلك كثيراً من الملابس. وحينما ذهبنا إلى السعودية، لبس الثوب السعودي (شأنه شأن أقرانه السعوديين) وسعد كثيراً به، ولم يكلفنا هذا الشاب طيلة فترة ثلاث سنوات من سن الرابعة عشرة حتى سن السابعة عشرة، سوى ثمن ثلاثة أثواب سعودية تكلفت كلها حوالى 200 جنيه مصري. وهذا درس للطبقة المتوسطة التي تدلل أبناءها وتشتري لهم الملابس المكلفة، فتفسد كل شيء من حولها: الأبناء – الطبيعة – الدخل…إلخ.

أذكر مرة أننا كنا في الإسكندرية نصطاف، وقررت أن أبني مع أولادي تمثالاً من الرمل، فأخذ شكل دوائر متداخلة، وزيناه ببعض أعشاب البحر وغطيان زجاجات المياه الغازية، ثم أسميناه “تحية للتوازن البيئي وعقل الإنسان”، وهو اسم فلسفي ضخم بطبيعة الحال، كان يبدو مضحكاً حينما ينطق به أطفالي، ولكنني أفعل أشياء من هذا القبيل أحياناً، من قبيل المزاح ومن قبيل توسيع الأفق. فقد علّمت إبنتي، على سبيل المثال، مصطلحي: أحادي البُعد ومتعدد العناصر (بالإنجليزية: مونو فاكتوريال ومَلتي فاكتوريال mono factorial and multi factorial )، وحينما كانت تنطق بهما كانت تثير الدهشة في نفس من يتحدث معها.

هذا لايعني أن أولادي أصبحوا مختلفين تماماً عن أقرانهم، ولذا نجد أن أعياد الميلاد تحولت إلى هجمة سلعية حقيقية، وكذا عيدالأم، وبدأ المسوقون يخلقون مناسبات سلعية جديدة. ولذا نجد أنهم – شأنهم شأن بقية أطفال مصر – فقدوا كثيراً من الخبرات البيئية التي تضمن الاستمرار دون استهلاك الموارد الطبيعية. فحينما كنت طفلاً لم أكن أحصل على لعبة إلا كل سنة أو ربما عدة سنوات. وحينما كان والدي يعود من السفر، كان لا يحضر معه لعبًا وأشياء كما يفعل الآباء هذه الأيام، بل كان يحضر معه ” أبوفروة “، فنجلس في الشتاء بجوار الوابور ونبدأ في تحميره. وحتى الآن حينما أكون في استانبول أو برلين، حيث يُباع أبوفروة المشوي، أتوقف لأشتري بعضها وأجلس في إحدى الحدائق لأكلها ساخنة، وأستعيد بعض ذكريات الطفولة وأشعر ببعض الدفء العائلي. كما كانت لنا خبرات يدوية كثيرة، فنصنع مراكب من الورق وأراجوز ونستخدم الزراير وأشياء أخرى كثيرة لصنع اللعب.

أما أطفالي فعدد اللعب التي يتلقونها كبير، مما أفقدهم المقدرة على تدوير الأشياء القديمة وتصنيع لعب خاصة بهم، ذات طابع فردي. وقد تدهور الأمر تماماً مع حفيدي، الذي وقع ضحية الجريمة المنظمة التي تسمي أعياد الميلاد (أهم الطقوس العلمانية في مجتمعنا) فإذا كان عدد زملائه في الفصل 25، هذا يعني أنه يحضر 25 عيد ميلاد ويحضر 25 لعبة لزملائه، وهم بدورهم يفعلون الشئ نفسه، وفي يوم عيد ميلاده يصله عدد مخيف من اللعب، يغرق فيها تماماً. ( الطريف أن أحد تلاميذي أحضر له أراجوز مصنوع من الورق، فانصرف حفيدي عن بحر البلاستيك واتجه بكل جوارحه نحو الأراجوز الشعبي، وهذا يعني أن الدنيا بخير، وأن النفس البشرية قادرة على المقاومة وأن الفطرة الإنسانية، في نهاية الأمر، ورغم كل شيء، سليمة).

حينما عقدت حفل زفاف ابني، كنت أعرف أنه سيتبقى كثير من الطعام. فذهبت إلى السيد المدير المسئول في الفندق وسألته عما سيحدث لبقايا مأدبة العشاء، فأجابني بعجرفة غير عادية وباللغة الإنجليزية “جاربيج garbage” أي “قمامة”. فقلت له بهدوء شديد إنني ضد التبديد، وطلبت منه ألا يلقي بشئ، وسأحضر كراتين وأواني وحللاً لآخذ ما تبقى لتوزيعه على المحتاجين في المنطقة التي أسكن فيها. فنظر إلي بامتعاض شديد، بحسباني شخصاً غير متحضر، ولكنني أصررت على موقفي. غير أن قرب نهاية السهرة، جاء كبير الجرسونات، وأخبرني أن ما قاله المدير لا أساس له من الصحة، فالعاملون يأخذون البقايا ليوزعوها على أسرهم. وهنا أصبح للمسألة بُعد بيئي إنساني مختلف، فاتفقنا على اقتسام “القمامة”، يأخذون هم النصف، ونحن النصف الآخر لتوزيعه على المحتاجين في مكان سكننا، وقد كان. وتحول حفل الزفاف من لحظة تبديد وقمع إلى لحظة تدوير ورخاء ومشاركة.

وقد حدث الشئ نفسه حينما دخلت المستشفى لإجراء عملية جراحية في عمودي الفقري، فقد فوجئت بالقدر الكبير من الورد والشيكولاتة، والذي  يعبر عن حب أصدقائي، ولكن حسي البيئي الدمنهوري استيقظ مرة أخرى، وطلبت من مساعدي أن يتصل بأصدقائي ليخبرهم بمواعيد الزيارة وشروطها: ألا يحضر أحد ورداً أو شيكولاتة وأن يعطي لأحد المساكين مالاً ويطلب منه أن يدعو لي بالشفاء. وقد امتثل بعض الأصدقاء لطلبي. كما كانت زوجتي تقوم بتوزيع الورد والشيكولاتة التي جاءت إليَّ على الجميع خارج غرفتي.

وكان إيقاع الحياة في دمنهور هادئاً، فكان عندنا دائماً متسع من الوقت. كان اليوم ينقسم إلى قسمين: الصباح حين يعمل الناس، ثم بعد الظهر حينما يتزاورون، أو يذهبون إلى المتنزهات أو الحقول المجاورة، ويفصل بين القسمين القيلولة. ولم يكن الوقت يُبدد في الانتقال نظراً لصغر حجم دمنهور. كنا على سبيل المثال نصل إلى مدرسة دمنهور الثانوية (التي كانت تقع في أطراف المدينة آنذاك) في بضع دقائق. ولنقارن هذا بيوم العمل الأمريكي [ والمصري الآن] إذ يذهب كل عامل إلى محل عمله في الساعة الثامنة والنصف صباحاً على سبيل المثال ولا يغادره إلا في حوالي الثالثة أو الرابعة. وعادةً ما يستغرق حوالي ساعة ونصف الساعة في عملية الانتقال. وإذا أضفنا إلى كل هذا تزايد التفاصيل بشكل مذهل، نجد أن يوم الإنسان الحديث يُبدد تماماً ويجرد من أي إيقاع إنساني، بل إنه يهدد الحياة الأسرية ذاتها.

كما أن الإيقاع البطيء يعني أن الأفراد لا يتنقلون كثيراً، فالأب موجود والأم موجودة والأخوال والأعمام والخالات والعمات موجودون. وهذا يخفف إلى حد كبير  من عبء تنشئة الأطفال. فالأب يوجد على مقربة من المنزل يمكن استدعاؤه في أي وقت إن نشأت حاجة لذلك. وإذا أرادت الأم عون أحد من الكبار، عند غياب الأب، فهناك دائماً من يحل محله. ( ولذا أزعم أن المطلوب ليس “تحرير المرأة” وإنما “تقييد الرجل”. فالذي حدث أن حركية الرجل في العصر الحديث قد زادت بشكل غير إنساني، مما يعني بُعده أو غيابه عن المنزل، فيقع عبء تنشئة الأطفال على كاهل الأم وحدها إلى جانب أعبائها الأخرى).

كانت الأجيال في دمنهور متقاربة. كنا كلنا نسمع الأغاني نفسها تقريباً، ونلبس الملابس  نفسها، ونتحرك في الحيز نفسه، ونشارك في المناسبات نفسها، إذ كانت هناك مجموعة من القيم الأخلاقية والمعرفية والجمالية نؤمن بها جميعاً، لا فرق في ذلك بين الغني والفقير أو بين الكبير والصغير. لم يكن هناك رداء شبابي أو أغان شبابية أو أماكن يرتادها الشباب وحدهم، فكل الأجيال كانت متقاربة.

ويقف هذا على طرف النقيض مما يحدث الآن؛ فالفجوة بين الأجيال آخذة في الاتساع، والصراع بينها يزداد حدة، ولم تعد أحلام الكبار تشبه أحلام الشباب، ولم تعد الأحزان هي نفس الأحزان.

كان المجتمع يحدد كيف تُقام الأفراح والجنازات، كما كان يحدد المدة المسموح بها للفرح والحزن، كل شيء يتبع  إيقاعاً صارماً لا يلحظه أحد لأنه تم استبطانه تماماً، وتوحد به الجميع. كان الفرح في دمنهور مناسبة اجتماعية، فإن كان الفرح من أفراح الأثرياء فهذه كانت مناسبة يفرح فيها الجميع، إذ كانت الولائم تُقام للجميع ليأكلو ويشبعوا، فيما يشبه موائد الرحمن، وتوزع علب الحلوى على الجميع. على عكس أفراح هذا الزمان التي تتطلب استيراد الطعام من الخارج (لحم النعام والغزال والجرجير السويسري، على سبيل المثال) ليهنأ به الضيوف، فالفرح أصبح هو اللحظة غير الإنسانية التي يتم فيها استعراض الثروة والتباهي بها وتزداد فيها حدة الصراع الطبقي، بعد أن كان اللحظة الإنسانية التي يتم فيها إسقاط الحدود الاجتماعية مؤقتا، ويتم تقليل حدة الصراع الطبقي ليعبر الجميع عن إنسانيتهم المشتركة.

كنا في مجتمعنا التقليدي هذا نذهب إلى أداء صلاة الجمعة في مسجد الحبشي (أو مسجد التوبة)، أما الصلوات الأخرى فكنا نؤديها في أي مسجد ( أو زاوية) على مقربة من محل العمل. كانت الصلاة و الزكاة جزءاً من الحياة، وليستا مجرد “فروض” يؤديها الإنسان أو شعائر يقيمها. فالحياة بدون الصلاة والزكاة كانت لا معنى لها. ومثل كثير من أقراني كنت أجوَّد قراءة القرآن، وحاولت حفظ القرآن دون جدوى، على عكس صديق الطفولة (الدكتور عطية حامد) الذي كان يحفظ كل شيء عن ظهر قلب وبسرعة.

كان جدي الحاج أحمد علي المسيري، صاحب الضحكة المجلجلة والهيئة المهيبة، يعيش في الدور الأرضي في عمارته الكائنة في شارع الأنصاري، ويعيش بقية أبنائه الأربعة في شقق مختلفة في العمارة نفسها، أما ابنتاه فقد انتقلتا إلى بيتي زوجيهما، أي أنني نشأت في بيت كل من فيه “مسيري” إلا زوجات الإخوة الأربعة. في هذا الجو كانت أمي تتميَّز عن “سلفاتها” بأنها كانت أقلهن حداثة ورغبة في الإنجاز في رقعة الحياة العامة. كانت أمَّا لأولادها ولأولاد عمي ولكل من يأتي في طريقها، بل للخادمات (اللائي كانت تجلس معهن أحياناً على الأرض تأكل بعض الوجبات معهن في المطبخ. وعلى كل كانت الخادمة التي تُلحق بمنزلنا  لاتتركه إلا عروسة، فهي بمعنى من المعاني ابنة لها). وكل هذا كان يثير حفيظتي أحياناً، فذاتي الحديثة، ذات الحدود الواضحة، كانت قد بدأت تتحدد وتتبلور.

والإطار الذي تحركت فيه طفولتي هو الأسرة الممتدة، بكل ما في الكلمة من معان ففي الجيرة التي نشأت كان كل الأطفال معروفين للجميع، ولذا كان الوقت الذي أقضيه في الشارع ليس مجرد “صياعة”، وإنما وقت للتنشئة الاجتماعية، على عكس الشارع هذه الأيام. كما كان الصبية الكبار يراقبون الصغار وكأنهم أولياء أمورهم، مما كان يخفف العبء كثيراً على الوالدين.

كانت مدينة دمنهور  مدينة تجارية حديثة تسود فيها العلاقات التعاقدية التي تسود في المدن والمجتمعات الحديثة. ولكن تحت القشرة الحديثة كان هناك مجتمع تقليدي، جماعة مترابطة متراحمة لم تكن العلاقات فيها مبنية على المنفعة واللذة وحسب، إذ كانت هناك حسابات أخرى مادية وغير أنانية تشكل مكوناً أساسياً في هذه العلاقات. وأرجو ألا يُفهم مما أقول أنني أدعو إلى العودة إلى الماضي (فهذا على كلَّ مستحيل)، إذ أنني لا أنكر – كما أسلفت – وجود جوانب مظلمة للمجتمع التقليدي (فمثل هذا الإنكار أمر طفولي). كل ما أود تأكيده هو أن المجتمعات التقليدية كانت تحوي منظومات قيمية وجمالية لم يؤد تقويضها وتدميرها بالضرورة إلى مزيد من السعادة. كما أود الإشارة إلى أن الأشكال الحضارية الحديثة (عادةً المستوردة) ليست هي الأشكال الحضارية الوحيدة، بل هناك أشكال أخرى قد تكون أكثر ثراء وأكثر دفئاً، والأهم من هذا أنها تكون أكثر تجذراً، وضياع مثل هذه الأشكال هو خسارة حقيقية.

ولأنني عشت هذا الانتقال بكل جوانبه (وتدعم إحساسي به حينما انتقلت من دمنهور إلى الإسكندرية ومن الإسكندرية إلى نيويورك، أي انتقلت من مجتمعات أقل تعاقدية إلى مجتمعات أكثر تعاقدية، إلى أن وصلت إلى مانهاتن قمة التعاقد) أقول بسبب هذا كله أصبحت ملاحظاً قويّا لعلاقات التعاقد والتراحم، وأصبح التناقض بينهما أحد أهم المقولات الأساسية في خريطتي الإدراكية للعالم (النموذج المعرفي).

فعلى سبيل المثال كنت ألاحظ علاقة والدي بالعمال داخل متجرنا وبكل من يعملون عندنا. كان والدي ولا شك هو صاحب العمل الذي يدفع لهم أجورهم، يقتَّر ويغدق عليهم حسبما يراه هو مناسباً. ولكن التفاوت الاقتصادي (والصراع الطبقي) كانت تقلل من حدتهما العلاقات التقليدية التراحمية والواجبات الاجتماعية والأخلاقية الملقاة على عاتق والدي بحُسبانه “معلم كبير” وصاحب عمل. وأسلوب حياة العمال وصاحب العمل كان أسلوباً واحداً، الأعياد هي هي، والأحزان هي هي، واللغة هي هي، وطريقة الطعام هي هي. جميعهم كانوا يحتفلون بمولد النبي ولا يحتفلون بأعياد الميلاد أو رأس السنة. جميعهم كانوا  يلبسون بنفس الطريقة (فالملابس الغريبة لاتزال هامشية)، وجميعهم كانوا يُصلّوُن معاً، ويعملون معاً، ويقضون أوقات فراغهم معاً، وكان أولاد التجار والعمال والموظفين ينفضون عن أنفسهم انتماءاتهم الطبقية بعد الظهيرة ليشتركوا معاً في اللعب، فلم تكن اللعب الإلكترونية الحديثة قد ظهرت بعد. وكان يعاد تشكيل الهرم الحاكم حسب المهارات الشخصية. فبرغم أنني كنت ابن الحاج محمد المسيري الشهير بالحصافي فقد كنت خائباً، أفشل دائماً في أن أطير طائرتي الورقية (ومازلت فاشلاً فيه، وأحتار منه. فمهما كان نوع الطائرة الذي أشتريه، فهي تهوي بسرعة إلى الأرض دون سبب واضح!). ولذا كان عليَّ أن ألجأ إلى عمال محال والدي كي يساعدوني في ذلك.

ويتبديَّ هذا الصراع بين التراحمية والتعاقدية في الهدية. فنظام “النقطة” فى الأفراح المصرية يبدو كما لو كان عملية تبادلية مع أنه في واقع الأمر هو نظام للزكاة  وتوزيع أجزاء من الثروة . ففي داخل الأسرة الواحدة الممتدة يوجد دائماً الأغنياء والفقراء، فكان الجميع يعطون للعروس نقطة: مبلغاً من المال يُدس في يد العروس بحيث لا يراه أحد ولا يعرف مقداره. وفي إطار عملية التبادل الظاهرية هذه يتم إعادة توزيع الثروة، إذ يعطي الأثرياء نقطة تفوق بمراحل تلك التي يعطيها الفقراء لابنة الأثرياء.

وإدراك التراحم كإطار مرجعي نهائي، يظهر في موقف الفقراء من الزكاة، فهم يَعُدُّونها “حقاً” لهم وليس منحة يعيطها إياهم الأثرياء، فهي “واجب” عليهم. وهذا الإدراك لا يزال سائداً حتى في القاهرة. تقوم زوجتي بتوزيع الكفارة المفروضة لأنني لا أصوم بسبب هبوط السكر. وفي مرة أعطت أحد الفقراء مبلغاً من المال و أخبرته أن هذا زكاة إفطار الدكتور، فابتسم وقال: “حكمة ربنا، لو لم يمرض الدكتور، لما أكلنا نحن”. وأعتقد أن هذا الإدراك للزكاة بحُسبانها واجباً على الأثرياء وحقّا للفقراء هو ما يخفف من حدة الفقر في هذا البلد، وهو ما يعطيه شيئاً من الاستمرار.

وقد ولَّد فيّّ الانتماء للمجتمع التقليدي التراحمي كثيراً من المشاعر والسمات. ولعل المجتمع التقليدي التراحمي هو أيضاً الذي ولَّد فيّ الحرص على علاقاتي الإنسانية وصداقاتي. فأنا لا أدع الصداقات تضمر بتغير الزمان والمكان.

لقد تعلمت من المجتمع التراحمي أهمية الإنسان ككائن حر نبيل وأهمية العواطف وأهمية الإفصاح عنها.

ومن أهم القصص في حياتي الخاصة التي تلقي ضوءاً على جانب من شخصيتي، قصة زواجي من د. هدى. حينما قابلتها لأول مرة حدث لي ما حدث، وكان لابد من أن أتأمل فيه وأفهمه “عقليَّا” حتى يمكنني التعامل معه. وكنت حينذاك،عضواً في الحزب الشيوعي المصري. فطلبت النصح من مسئول الحزب، فأخبرني أنها “بورجوازية”، والزواج من مثلها يسبب مشكلات كثيرة، أي أن المسئول عني في الحزب طرح تصوراً عقلياً أيديولوجياً (طبقياّ) للحب والزواج. وهداني وجداني (وربما فطرتي السليمة) إلى أن أذهب لأمي أطلب منها النصح ( وهو أمر نادر للغاية، لعلي لم أفعله من قبل أو بعد) فسألتني سؤالاً بسيطاً للغاية وهو: “هل يشعر قلبك بالفرح حينما تراها؟” لم أجب عن السؤال، ولكنني أحسست ساعتها أن أثقالاً أيديولوجية وتحليلات طبقية مادية سقطت عن وجداني، وأن أغلال العقل والقلب بدأت تنفك، وقررت الارتباط بالدكتورة هدى. ولعل هذه كانت من أوائل أحداث حياتي التي يهتز فيها النموذج المادي الوظيفي كإطار للرؤية.

(من الطريف أن المكان المفضل لنا للقاء في فترة الخطوبة كان الدور العلوي ف ترام الرمل، فقد كان هادئاً وجميلاً، وكنا نطل على الإسكندرية كلها منه، وأحياناً نرى البحر، ونشأت علاقة بيننا وبين محصلي التذاكر، فإذا ركبت الترام بمفردي، كانوا يسألونني: “أين المزمازيل؟” كان الترام مكاناً يصلح للقاء المحبين، أما الآن فهو حلبة صراع داروينية!).

ومن خلال تأملاتي في تجاربي وتجارب الآخرين أصبح عندي رؤية ومفهوم للزواج. فكنت دائمًا أخبر نفسي وغيري أن السعادة لا تهبط هكذا من السماء، وإنما هي مثل العمل الفني، لابد أن يكد المرء ويتعب في صياغته وصنعه. والزواج، مثل العمل الفني أيضاً، ومثل أي شيء إنساني مركب، يحتوي على إمكانات سلبية وإيجابية، ولا يمكن فصل الواحد عن الآخر. وكثيراً ما كنت أخبر طالباتي بأن الحب الحقيقي هو أن يقبل الواحدُ الآخرَ ويعرف أن محاسنه مرتبطة تمام الارتباط بمثالبه. كما طوَّرت مفهوم “إعادة الزواج من نفس الزوجة”، إذ تتغير الظروف والأوضاع وتتغير الشخصية والتوقعات فيُعاد النظر في أسس العلاقة ويُعاد تشكيلها بما يتفق مع الرؤية الجديدة. وأزعم أنني تزوجت من زوجتي ثلاث مرات، المرة الأولى التقليدية، والثانية بعد حصولي على الدكتوراه، والثالثة بعد حصولها هي على الدكتوراه. ولعل مفهوم ” إعادة الزواج من نفس الزوجة” قد يحل بعض المشكلات التي يقابلها الناس في زيجاتهم، إذ يتصور كل طرف في العلاقة الزوجية أن الآخر نمط محدد لا يتغيَّر. وهو تصور غير إنساني، فثمة قدر من الثبات، ولكن ثمة قدراً من التغيًُر أيضاً، ولا بد أن يأخذ الإنسان كل شيء في الحُسبان.

كان للموت مهابته ووقاره في دمنهور التي نشأت فيها. فالموت، في المجتمعات التقليدية، شأنه شأن الحياة، أمر مهم وخطير لا يتحمل المساومة أو الهزل. وكان الناس يقبلونه كأمر طبيعي من أمور الحياة. حينما كانت جنازة تمر فإن الجميع كان يتوقف عن البيع والشراء ويتسابق الناس لحمل النعش والقيام بواجب العزاء، وإن مررنا على القبور كان علينا أن نقول: “السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن إن شاء الله بكم لاحقون”. وكانت زيارة المقابر جزءاً من حياة الناس اليومية، يزورون في المناسبات والأعياد من مات من أهلهم وأقاربهم، تماماً مثلما نزور نحن الأحياء.

ويبدو أنني لم أكن مستوعباً تماماً للمرض أو للموت على الرغم من إحساسي الشديد بالزمن، فقد ظلا بعيدين عني طيلة حياتي. ولم أحضر سوى جنازة أو اثنين طيلة حياتي، كما لم أذهب لتعزية أحد تقريباً ونادراً ما ذهبت لأعود أحد أصدقائي في مرضه، فكنت أكتفي بالمكالمات التليفونية أو بإرسال البرقيات.

ولابد أن انشغالي الشديد بالموسوعة قد شجع هذا الاتجاه فيّ، وجعلني قادراً على تسويغه لنفسي. فكنت أخبر نفسي بأن أصدقائي سيفهمون ماذا أفعل. ولكن يبدو، والحق يُقال، أن المسألة كانت أعمق من انشغالي بالموسوعة، إذ كان هناك داخلي اتجاه نفسي نحو التأمل والاحتفاظ بمسافة بيني وبين الأحداث، وهذا الاتجاه النفسي هو ما جعلني أسلك هذا السلوك. حينما توفى والدي، كنت في الولايات المتحدة، ولم يمكنني أن أذرف عليه الدمع. فسألت أستاذي عن سر هذا، فأخبرني بأن المسافة الجغرافية بين مصر والولايات المتحدة ضخمة وأن لهذا دخلاً كبيراً. ولم أبكيه إلا بعد زيارتي لقبره في دمنهور. أما والدتي، فقد ماتت وهى في الخامسة والسبعين، وكانت علاقتي بها قوية (وهذا ما اكتشفته بعد موتها؛ ففي حياتها كنت أظن أن رقعة الاختلاف بيني وبينها كبيرة، ولكنى أدرك الآن مدى تأثري بها). وذهبنا لتشييع جنازتها في دمنهور، وظللت صامتاً (مما أثار دهشة من حولي)، ولكني انفجرت باكياً عند قبرها ثم لزمني الصمت وغصت في التأمل.

كانت هذه علاقتي بالموت وبالمرض. إذ تحولا إلى موضوع فلسفي مجرد، أضعهما داخل إطار، و أخلق مسافة بيني وبينهما، وأتأمل فيهما وأغرق في التأمل، دون إحساس شخصي وجودي مباشر. ثم حدث في حياتي مازلزلني. بدأت كتابة الموسوعة وأنا في الثلاثينيات من عمري، وكنت أعمل فيها ليل نهار. أبدأ أحياناً في السادسة صباحاً ولا أنتهي إلا في الثانية عشرة مساءً. وعلى الرغم من تقدمي في السن، فإن حصتي من النشاط والصحة كانت آخذة في الازدياد بحيث كنت أكثر نشاطاً في الثامنة والخمسين مني في الخامسة والثلاثين. كما أن الله عافاني من أي مرض طوال هذه المدة (باستثناء نوبات المرض الخفيفة المعتادة التي تدوم عدة أيام ولا تعطل عن العمل، وعملية جراحية دامت عدة أيام). ولذا حينما كان أحد يحدثني عن التقدم في السن كنت لا أفهم ماذا يقول.

ولكن يوم أن انتهيت من الموسوعة، عرفت نبأ حزيناً للغاية (موت زوج ابنتي). وقد لاحظت في ذلك اليوم أنني بدأت أفقد المقدرة على النطق أحياناً. وكنت أظن أنه عيب في فكي. وظللت متماسكاً مدة شهرين تقريباً، ثم بدأت أشعر بدوار كلما فكرت أو مارست أي أحاسيس، وقد سقطت مرتين أو ثلاثاً على الأرض. ويبدو أن مرضي كان في معظمه نفسياً، نتيجةً للإرهاق الذي أصابني من جراء العمل المتواصل في الموسوعة ومن جراء الخبر الذي وصل إلىَّ وأنا مُنهك القوى تماماً بعد الانتهاء منها. فكان جهازي العصبي يتصرف بإرادته مستقلاّ عني، إذ قرر أن يستجيب وبحدة لأي شيء ولكل شيء حسبما يعن له، دون تدخل واع مني. لقد وضعت جهازي العصبي داخل ثلاجة مدة ربع قرن، كنت أتباهى في أثنائها بأنني أنظر إلى وقائع الحاضر نظرة مؤرخ. كما أنني كنت عبر كتابة الموسوعة أعامل نفسي، خاصة في مسألة الوقت، بيد من حديد. كنت حينما أجلس في الأوبرا للاستماع للموسيقى أو مشاهدة أي عرض، لا أكف عن التفكير في الموسوعة، ولا أكف عن الكتابة في أي ورقة تقابلني. وحينما كان أحد أصدقائي يزورني، أو كنت أروَّح عن نفسي، كنت أتصنع الابتسام والمشاركة في الحديث، وأنا هناك في عالم الموسوعة، أشعر بالذنب الشديد لضياع وقتي. وحينما كان حفيدي نديم يأتي من الولايات المتحدة، حيث كان أبواه يدرسان، كنت أخفي أوراقي تحت الأريكة وأبتسم في وجهه، وأتظاهر بأنني ألعب معه إلى أن تنادي عليه جدته، فأخرج الأوراق بسرعة وأستأنف الكتابة. بل كنت قبل أن أخلد للنوم أضع إشكالية ما في عقلي، ثم أنام على أن يستمر عقلي في التفكير، حتى أذا استيقظت في الصباح ألفيت بعض ملامح الحل قد تبلورت.

رفض جهازي العصبي كل هذا، وتمرد عليه وعليّ. فكنت حين أود عبور شارع ما على سبيل المثال، يخاف جهازي العصبي أحياناً من تلقاء نفسه، برغم معرفتي الواعية بأن العبور لن يسبب لي شيئاً. فكنت أضحك من توقفي، ولكن قدميَّ كانتا لا تتحركان. ومرة قبَّلني طفل صغير، فتأثر جهازي العصبي كثيراً وأصبت بدوار شديد كدت أسقط على أثره. ومرة أخرى رأيت خادمة صغيرة تحمل أثقالاً، فحزنت من أجلها، وأصبت بما يشبه الشلل، واستندت إلى السيارات الواقفة في الشارع إلى أن بلغت المنزل، وهكذا. وقد ذهبت إلى عشرات الأطباء، وقمت بكثير من الفحوصات، فلم تكشف الفحوصات عن شيء محدد.

وقد حضر لزيارتي صديقي الدكتور عبدالحليم إبراهيم عبد الحليم، المهندس المعماري، فأخبرته بأنني لا يمكنني أن أتحدث واقفاً، فضحك وقال: إذن فلتتحدث وأنت جالس. ونصحني بالرضا بحسبانه مدخلاً للشفاء. وبالفعل، قبلت حالتي وبدأت رحلة الشفاء والعودة منذ تلك اللحظة، فخلدت إلى الراحة التامة لأول مرة في حياتي تقريباً، وقضيت إجازة شهرين أمام البحر، امتنعت قدر طاقتي عن التفكير حتى استرددت جزءاً كبيراً من عافيتي (كنت أعمل أربع ساعات في الصباح وحسب). وأشير لهذه الفترة من حياتي بالزلزال أو الكابوس لأنها جاءت مفاجئة وكانت بالفعل كالكابوس، وذقت طعم المرض والموت لا كمقولات مجردة وإنما كتجربة عشتها بنفسي، واستوعبتها بشكل وجودي.

ويبدو أن الله سبحانه وتعالى بعد أن ترسّخ فيّ الإحساس بالموت، أراد أن يرسخ في أيضاً الإحساس بالمرض. فهذه المرة كان مرضاً ليس له أبعاد نفسية. فبعد أن شُفيت تماماً من الدوار الذي كان يصيبني، شعرت بألم خفيف في ظهري وأنا في رحلة إلى بيروت ودمشق، وحينما عدت إلى القاهرة ترددت على مستشفى فلسطين لأمور طبية، بما في ذلك العلاج لظهري. وتدهورت الأمور فجأة (خلال يومين) أصبحت بعدها عاجزاً تماماً عن الحركة، وكنت أحمل من مكان لآخر. وقد أخبرني أحد الأطباء بأن داخل كل واحد منا قنبلة زمنية تنفجر حين يأتي أوانها، ويبدو أن قنبلتي الزمنية المرضية انفجرت في ذلك اليوم. وقد تبين فيما بعد وجود ورم نتيجة مرض يسمَّى ميلوما – Solitary Mye loma (ميلوميا أحادية). وقد خدعني هذا الأسم بعض الوقت بسبب رقته المفرطة. وقد أخفى الطبيب حقيقة المرض عني، لأنه كما علمت، فيما بعد، مرض خطير، فهو شكل من أشكال السرطان الذي يصيب الخلايا الجذعية في النخاع العظمي (وليس الشوكي).

ورغم فجائية اكتشاف المرض، فقد تقبلت هذا الخبر بكثير من الهدوء والرضا، بل إننا حين كنا في شيكاغو أنا وزوجتي للاستشارة، كنا نحدد مواعيد الأطباء بما يتفق مع جدولنا “السياحي”. فقمنا بزيارة المتاحف والحدائق والمسارح، وقضينا واحداً من أجمل شهور حياتنا الزوجية. ( وهو أمر كان بمثابة مفاجأة كاملة للطبيب، فهم في الولايات المتحدة حينما يخبرون أحدا أن عنده سرطانا عادة ما يأتون بالمعالج النفسي حتى يمكنه تقبل وضعه الجديد.

وتعلمت الكثير في مرضي: تعلمت أنني أنا الذي لم أمرض مرة واحدة تقريباً في أثناء كتابة الموسوعة، بل وكنت أتحدث عن السيطرة على الجسد، والذي أعددت عشرات المشروعات البحثية فور الانتهاء منها – تعلمت حدود الجسد الإنساني وحدود المقدرة الإنسانية. وبدأت أتعاطف مع المعوقين أكثر من ذي قبل ( وإن كنت اكتشفت كيف أن يكون الإنسان المعوق يعوض نقط النقص فيه من خلال كفاءات أخرى يطورها). وتعلمت ما قاله لي أحد الأصدقاء إنه لا يوجد مرض وإنما يوجد مرضى، أي أنه لا توجد قوانين عامة (أو نماذج مجردة) وإنما يوجد أشخاص يصابون بمرض ما ويستجيب كل واحد منهم  للمرض بطريقة مختلفة. كما غمرني أصدقائي وتلاميذي بالمحبة، فعادني عشرات منهم ووصل إليَّ نهر جميل من الأزهار، كان يفيض من غرفتي على بقية المستشفى.

وهكذا تعلمت، أنا الذي لم أعُدْ أحداً في مرضه إلا نادراً، أهمية أن يقف المرء إلى جوار الآخرين في لحظات الشدائد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عبدالوهاب المسيري (2005). رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار. ط. 1. القاهرة: دار الشروق. 726 ص.

عن عبد الوهاب المسيري

شاهد أيضاً

عبد الوهاب المسيري: المفكر الإنسان

أ. مهجة مشهور

د. عبد الوهاب المسيري صاحب عقل مبدع وطاقة هائلة سمحت له بتقديم إنتاجا نظريا ثريا يتسم بالعمق والديناميكية، وقد تبلور هذا الإنتاج الثري في مشروع فكري متكامل ذو طابع منهجي، وتمثل الدراسات المتنوعة التي قام بها، بدءا من موسوعته عن الصهيونية ودراساته في الاجتماع وفي نقد الحداثة وفي النقد الأدبي وقصصه للأطفال، حالات تطبيقية لاختبار وتطوير أدواته المنهجية.

عبدالوهاب المسيري

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

عبد الوهاب المسيري (1938- 2008م)، هو مفكر عربي إسلامي، معني بالحضارة الغربية الحديثة، ويعتبر واحدًا من أبرز المؤرخين العالميين المتخصصين في الحركة الصهيوينة، تُرجمت بعض أعمال الدكتور المسيري إلى العديد من اللغات، وتضم القائمة التالية مقتنيات مركز خُطوة للتوثيق والدراسات من مؤلفاته أو المؤلفات التي كُتبت عنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.