ماذا تعني الصهيونية المسيحية؟ كيف نشأت؟ وكيف نمت وتطورت عبر القرون الخمسة الأخيرة؟ وكيف انعكست أطروحاتها ومبادئها في تشكيل وصياغة السياسات العالمية، وسياسات المنطقة العربية على وجه الخصوص؟ تساؤلات مهمة لابد وأن تعني القاريء العربي، مسلماً كان أم مسيحياً. إن إجابة تلك التساؤلات تفتح أبواباً كثيرة لفهم وتدبر ما يحدث في منطقتنا العربية الآن…وفي هذه اللحظة الحرجة التي نشهدها جميعاً.
يجيب كتاب The Politics of Apocalypse: History and Influence of Christian Zionism (سياسات الحرب الفانية: تاريخ وتاثير الصهيونية المسيحية) عن تلك التساؤلات. وهو الكتاب الذي يعد من أمهات المراجع المتحدثة عن الصهيونية المسيحية، والذي صدر بقلم الحبر اليهودي Dan Cohn – Sherbok (دان كون – شيربوك)، أستاذ مادة اليهودية بجامعة “ويلز” Wales بولاية “لامبتر”Lampter البريطانية، والمؤلف لما يزيد عن خمسين كتاباً حول هذا الموضوع.
الكتاب الصادر عن Oneworld Publications (وان وورلد بابليكيشونز)، في أوكسفورد، عام 2006، والمؤلف من 221 صفحة ومن سبعة عشر فصلاً، يتناول نشأة ونمو الصهيونية المسيحية عبر تسلسل زمني، بادئاً منذ القرن الثامن عشر الميلادي ومنتهياً في القرن الواحد والعشرين. يستشهد الكتاب بأهم الأشخاص والمؤسسات والجماعات والدول والاتفاقيات التي كان لها باعٌ كبير في تشكل وصياغة وتطور الصهيونية المسيحية التي أفضى تطبيقها في النهاية إلى قيام دولة إسرائيل في عام 1948. ولم ينته تأثير الصهيونية المسيحية عند هذا الحد، بل إن تأثيرها ما زال سارياً في مفاصل منطقتنا العربية والإسلامية إلى يومنا هذا. فما الحروب الجارية الآن في المنطقة – من فلسطين إلى العراق إلى سوريا إلى ليبيا إلى اليمن – إلا إفرازاً من إفرازات الحركة الصهيونية المسيحية المتمددة والمتشعبة في الدوائر السياسية الغربية التي تصنع – بكل أسف – السياسات العربية.
ولعل انسحاب الولايات المتحدة الأخير – يونيو 2018 – من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ليس إلا إطلالة واحدة من ضمن إطلالات كثيرة بثتها وما زالت تبثها تلك الحركة التي تعتبر إسرائيل مباركةً من الرب، والشعب اليهودي مُختاراً من الرب؛ ومن ثم لا يجوز أبداً تجريمه بأي عنصرية من قبل مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة. ولعل هذا يُرينا مدى التأثير الذي ما زالت تمارسه تلك الحركة – حتى هذه اللحظة – على القيادات السياسية الأمريكية، مما جعل الرئيس الأمريكي “دونالد ترمب” يقر بانسحاب بلاده من ذلك “المجلس” حتى لا يكون طرفاً في أي قرار قد يكون سبباً في إدانة انتهاكات إسرائيل الدائمة والمتكررة لحقوق الإنسان الفلسطيني. ومن الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا وما زالتا من أكثر الدول مساندةً ودعماً لتلك الحركة، كما سنرى لاحقاً.
محتوى الكتاب ومضمونه:
يتألف الكتاب من سبعة عشر فصلاً، متدرجاً كالتالي: الفصل الأول عن “المسيحيين وإعادة الشعب اليهودي”، منتقلاً إلى الفصل الثاني تحت عنوان “تطور عقيدة العودة اليهودية”، ثم “اليهود والمسيحيون في الأرض المقدسة”، ثم “الصهيونيون المسيحيون والصهيونية اليهودية العلمانية”، ثم “البروتستانت، المتجولون والمستوطنون”، ثم “خطوات تجاه الدولة اليهودية”، ثم “الصهيونية اليهودية واليهود المناهضون للصهيونية”، ثم “التنصيريون المسيحيون والمستوطنون اليهود”، ثم “إعلان بلفور والصهيونية المسيحية الأمريكية”، ثم “الاضطراب السياسي والوطن اليهودي”، ثم “فلسطين في فترة ما بعد بلفور”، ثم “المسيحيون والدعم اليهودي للدولة اليهودية”، ثم “العرب، اليهود والصهيونيون المسيحيون”، ثم “الرؤية لتشاؤمية الأمريكية ما قبل الألفية American Premillennial Dispensationalism”، ثم “الصهيونيون المسيحيون والشرق الأوسط”، ثم “الصهيونية المسيحية والأرض المقدسة”، وختاماً “الخلاصة”.
يفتتح “شيربوك” الكتاب بمقدمةٍ موجزة – لا تتعدى الصفحتين – يتناول من خلالها شرحاً سريعاً للحركة الصهيونية المسيحية؛ حيث يصفها بكونها أسرع الحركات الدينية المسيحية تصاعداً ونمواً في الولايات المتحدة الأمريكية. فمن ضمن كل عشرة أمريكيين هناك أمريكي واحد ينتمي إلى تلك الحركة أو ذلك الزخم الديني الذي بات مكتسحاً للمجتمع الأمريكي وللحياة السياسية الأمريكية بشكلٍ ملحوظ. تتمحور تلك الحركة حول إيمانٍ عميق بالنبوءة الإنجيلية القائلة بأنه عودة أبناء الرب الإسرائيليين إلى الأرض المقدسة (فلسطين) – لبناء دولتهم – ستكون آذاناً بانتظام كل شيء في هذا الكون، مما سيُفضي بعد ذلك إلى تحرك العالم نحو العد التنازلي من نهاية التاريخ كما هو مُخطط من قبل الرب. يعتقد معتنقو تلك الحركة بأن إقامة دولة إسرائيل ستُسهل يد الرب لكي ترفعهم إلى السماء وتخلصهم من الدمار الذي سيلحق بكوكب الأرض، حيث سيشاهدون من السماء حرب Armaggedon (أرماجدون)، وهي الحرب الفانية والمعركة الحاسمة التي ستدمر هذه الأرض.
يعتقد الصهيونيون المسيحيون – كما يشير الحبر اليهودي – بأن تخطيطات الرب للإنسانية تتحقق بالفعل، وأن النبوءة الإنجيلية في طريقها نحو التطبيق، متخذين من ذلك إطاراً لفهم الأحداث الحالية في الشرق الأوسط. وهم في دعوتهم لتلك النبوءة لا يجذبون فقط جماهير غفيرة بل يسعون أيضاً لجمع أموال طائلة ينفقونها على دعوتهم؛ ولعل في نموذج رجل الأعمال والإمبراطور الإعلامي الأمريكي الصهيوني المسيحي “بات روبيرتسون Pat Robertson” مثالاً واضحاً بل وصارخاً لذلك. فهو الذي أنشأ قناة الـ Christian Broadcasting Network (الشبكة المسيحية الإذاعية) التليفزيونية التي تعد من أكبر وأضخم الأبواق الإعلامية للحركة الصهيونية المسيحية في العالم، والتي تدر أرباحاً سنوية تصل إلى 97 مليون دولار خالية من الضرائب.
إن عقيدة الحرب الفانية أو الـ Apocalypse Theology لا تقدم تطوراً جديداً، وإنما هي قديمة ذات جذورٍ عتيقة. وهدف هذا الكتاب – كما يؤكد الحبر اليهودي – يتمثل في الرجوع إلى جذور تلك العقيدة، حينما تمت إعادة قراءة الإنجيل بشكلٍ جديد، أفرز مسيحيةً جديدةً متحالفةً ومتعاضدةً مع إسرائيل إلى يومنا هذا. لقد أضحت عقيدة “أرماجدون” حركة عظمى تشكل الأحداث العالمية…وهذا الكتاب يقدم مدخلاً لذلك العالم المذهل الذي بات فيه الدين يتعانق مع السياسة.
خطوات تمهيدية رئيسية في القرنين الـ18 والـ19:
تضمن القرنان الثامن والتاسع عشر الميلادي بروز العديد من الجماعات والحركات والمؤسسات والأفراد التي ساهمت جميعاً في دعم الحركة الصهيونية المسيحية. تضافرت وتشابكت جميع تلك العناصر مع بعضها البعض لتفرز في النهاية واقعاً جديداً… فرض نفسه تدريجباً على السياسات العالمية. ولعلنا نلاحظ مدى الإصرار في سعي تلك الجماعات والحركات والمؤسسات والأفراد لنيل مرادها ومقصدها….حتى ولو كان هذا المقصد (وهو مقصد إقامة دولة إسرائيل) سيتحقق بعد قُرابة قرنين.
تمثلت أهم تلك الحركات – كما يشير الكتاب – في حركة إعادة قراءة الإنجيل Restoration التي استهدفت إيجاد فهم جديد للإنجيل يُشرع ويبرر عودة اليهود الثانية إلى موطنهم الأصلي في فلسطين؛ وهو ما يُسمى الإنجيل العبري. وقد كان للبيوريتانيين أو التطهريين Puritans دوراً محورياً في ذلك. وهم جماعة من الإنجليز المسيحيين البروتستانت الذين نادوا بإصلاح و”تطهير” الكنيسة الإنجليزية من “الممارسات الكاثوليكية” في القرنين السادس والسابع عشر الميلادي. لقد كان دور البيوريتانيين في دعم المد الصهيوني المسيحي ملموساً وظاهراً الأمر الذي كان يثير قلق الدوائر الإسلامية واليهودية على حد سواء، على حد قول “شيربوك”. فاليهود كانوا قلقين على يهوديتهم كما كان المسلمون قلقين على إسلامهم من آثار ذلك المد الصهيوني المسيحي.
وكان من ضمن الحركات المهمة أيضاً – في دعم المد الصهيوني المسيحي – حركة الصهيونية اليهودية العلمانية التي خرجت من رحم الحركة القومية الأوروبية الحديثة في خلال القرن التاسع عشر الميلادي، حيث ارتأت أن الحل الوحيد لإشكالية كره اليهود هو تصالح المجتمع اليهودي مع هويته القومية وإعادة ميلاده سياسياً. ومن الجدير بالذكر، أن الحركة الصهيونية اليهودية العلمانية لم تعر اهتماماً لمسألة العودة الثانية للمسيح؛ وإنما انصب اهتمامها كله على ضرورة استيطان اليهود بالأرض المقدسة وإنشاء دولتهم. فالمسألة بالنسبة لهم ليست فقط أرضاً مقدسةً بل أرضاً آمنةً للشعب اليهودي، كما يؤكد أهم منظري الحركة الصهيونية اليهودية العلمانية، “ليو بينسكر” Leo Pinsker و”موزيس هيس” Moses Hess. وعلى الرغم من الخلافات الفكرية والمرجعية بين الصهيونيين اليهود العلمانيين الذين يؤمنون بوجوب إيجاد دولة إسرائيل وبين نظرائهم الأورثوذكس – الذين لا يؤمنون بوجوب إقامة دولة إسرائيل – إلا أنهم توحدوا في النهاية حول هدف واحد؛ وهو ترسيخ مبدأ العودة اليهودية إلى فلسطين، كما يؤكد الكاتب.
وإذا كان لتلك الحركات دوراً محورياً في دعم مباديء وأطروحات وأهداف الصهيونية المسيحية، فإن المؤسسات والجماعات لا يقل دورها أهميةً وتأثيراً عن دور الحركات. ولعل مؤسسة “جماعة لندن لنشر المسيحية في وسط اليهود” London Society for Promoting Christianity Amongst the Jews – التي أقامها المسيحي البيوريتاني البريطاني “جوزيف فراي” Joseph Frey – تعتبر من أبرز تلك المؤسسات التي دشنها البيوريتانيون في نهايات القرن الثامن عشر. وهي تلك المؤسسة التي تبعها تدشين مؤسسة أخرى – لا تقل أهمية عن سابقتها – وهي مؤسسة “جماعة لندن اليهودية” أو LJS))London Jewish Society التي أسسها أيضاً “جوزيف فراي”، وقام بدعمها المسيحيون البريطانيون. وكذلك مؤسسة ـChristadelphians البريطانية التي أُسست في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والتي قامت على فكرة وجوب عودة اليهود إلى الأرض المقدسة من أجل تحقيق خطط الرب؛ وأن تلك العودة يمكن تحقيقها بمساعدة بريطانيا العظمى. خلاصة القول، كما يوضح الكتاب، أنه تم تنمية الصهيونية المسيحية في داخل بريطانيا العظمى وبدعمٍ مباشر من الكنيسة الإنجليكية الإنجليزية.
أما جماعات التنصير – التي سعت نحو الإتيان باليهود إلى فلسطين ثم دفعهم إلى اعتناق المسيحية البروتستانتية – فقد كان دورها رئيسياً في دعم التيار الصهيوني المسيحي. فبفضل جهود تلك الجماعات، صار في فلسطين وجود بروتستانتي، يعيش جنباً إلى جنب مع الوجود اليهودي والوجود الإسلامي. وعلى الرغم من عدم اتفاق الصهاينة اليهود العلمانيين مع مساعي التنصير التي كانت تدفع بها تلك الجماعات، وعلى الرغم من اختلافاتهم حول المرجعية والإطار النظري لمسألة العودة الثانية إلى فلسطين، إلا أنهما اتفقا في النهاية على ضرورة تنفيذ المخطط الإلهي بشأن عودة اليهود إلى فلسطين.
إلا أن هذا لم ينفي وجود صدامات ومواجهات –في نهايات القرن التاسع عشر – بين اليهود الذين استوطنوا في فلسطين وبين الجماعات الصهيونية المسيحية والتنصيرية؛ إذ رفض المجتمع الاستيطاني اليهودي تلك المساعي التنصيرية، وأصر على إقامة مؤسسات يهودية على الأرض المقدسة.
وانتقالاً إلى أهم الشخصيات التي كان لها باع كبير في نشر الصهيونية المسيحية وتطبيقها على الأرض، فهي لا حصر لها؛ منهم السياسيون والكُتاب والأدباء والشعراء والدعاة. فها هو الكاتب والداعية والمفكر ” جون نيلسون داربي” Nelson Darby John الذي ذاع صيته في أوائل القرن التاسع عشر في بريطانيا، داعياً إلى رؤيته القائلة بأن للكنيسة وإسرائيل دورين رئيسيين في تحقيق الخلاص الرباني مستقبلاً. ولا يُنسى لـ “داربي” دوره في التمهيد لإيجاد “جماعة لندن اليهودية”.
ويعتبر “داربي” من أبرز الشخصيات التي دعت إلى عقيدة الـPremillennial Dispensationalism ؛ وهي عقيدة متعلقة بالعلم الأخروي؛ ترتكز على الاعتقاد بأن المسيح عليه السلام سيعود يوماً بجسده إلى الأرض (المجيء الثاني) قبل أن يؤسس مملكته الألفية بالقدس، حيث سيبدأ العهد الذهبي من السلام. فالـPremillenialism تعني باختصار ما قبل الألفية؛ أي عودة المسيح قبل بداية الألفية. أما الـDispensation فهي تعني الاعتقاد بمجيء سبع سنوات عجاف قبل المجيء الثاني للمسيح عليه السلام؛ وهي سبع سنوات من الشدائد التي تتمثل في أفعالٍ شيطانية يقودها المسيخ الدجال ضد المسيح عليه السلام. إلا أنه تبعاً لذلك الاعتقاد، فإن الشعب اليهودي سوف يحفظه الرب ليعيش في ظل المملكة الألفية، حيث سيكون لإسرائيل وظيفة مختلفة عن وظيفة الكنيسة، وحيث سيكون لليهود موضع السيطرة على العالم، وحيث سيأخذ اليهود وضعهم المميز مرةً أخرى في التاريخ. وملخص القول، إن هذه العقيدة تنظر إلى التاريخ باعتباره مُقسماً من قبل الرب إلى فترات أو عصور محددة؛ تُدار وتُدبر بطريقةٍ معينة.
ومن الجدير بالذكر، أنه بينما كان اليهود منخرطين في بناء الوطن اليهودي في فلسطين، كان الصهيونيون المسيحيون بالولايات المتحدة – من أمثال “داربي” – مشغولين بالعلم الأخروي وبصياغة نظريات نهاية التاريخ المرتبطة بتخطيط الرب وبمملكة الألفية كما أشرنا فيما سبق. حتى بعد قيام دولة إسرائيل، ظل الصهاينة المسيحيون يتحدثون عن نظريات نهاية التاريخ. فبينما كانت إسرائيل تحارب العالم العربي فيما بعد 1948، وبينما كان الصراع متوقداً ومتصاعداً في الأرض المقدسة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كان أتباع “داربي” لا يزالون يتحدثون عن تلك النظريات التي وُصفت من قبل الكثير من المسيحيين بالتشاؤمية المفرطة التي تفترض أن الإنسانية قد فشلت في محاولاتها لإرضاء الرب، بل وأن الكنيسة ذاتها سيتم استبدالها بإسرائيل لتحقيق أهداف ومخططات الرب.
وبالرغم من انحسار تأثير “داربي” في بريطانيا، إلا أن تأثيره استمر في الولايات المتحدة الأمريكية على شخصيات إنجيلية مثل “جيمز بروكس” James Brooks و “ويليام بلاك ستون” William Blackstone و”سكوفيلد” C.I. Scofield؛ وكذلك تمدد تأثيره على مدارس الإنجيل ومؤتمرات النبوءات.
ومن المفكرين والدعاة الإنجليز أيضاً – الذين برزوا في القرن التاسع عشر والذين دعوا إلى بناء وطن يهودي في فلسطين – “تشارلز هادون سبورجون” Charles Haddon Spurgon، وكذلك “إدوارد إيرفينج” Edward Irving الذي عُرف بدعوته لمؤتمرات تناقش كيفية عودة اليهود إلى القدس بطريقة تفصيلية؛ وهي مؤتمرات Albury وPowerscourt التي كانت تنعقد في بريطانيا، والتي كانت بمثابة برلماناً نبوئياً يعقد بشكل دوري. وكذلك اليهودي الألماني اللوثري “تسيمبيل” C.Z.Zimpel الذي كتب كتاباً بعنوان “اليهود في إسرائيل” Israelits in Jerusalem؛ وكذلك الأمريكي “ويليام بلاك ستون” William E. Blackstone الذي كتب كتاباً بعنوان “المسيح قادم” Jesus is Coming. وقد سبق تلك القائمة، كُتاب آخرون في القرن الثامن عشر – معظمهم إنجليز – منهم: “إدوارد ويتيكير” Edward Witaker و”جوزيف أيير” Joseph Eyre و”توماس بورنيت” Thomas Burnet والروائي “ماري أن إيفانس” Mary Ann Evans.
وكذلك “سير هنري فنش” Sir Henry Finch – عضو البرلمان البريطاني – الذي اعتبر من ضمن الـ”بيوريتانيين” و”الطهرانيين” المرموقين الداعين إلى وجوب عودة الأمة اليهودية إلى فلسطين قبل المجيء الثاني للمسيح عليه السلام؛ والمؤمنين بأن اليهود سيعتنقون المسيحية في نهاية الأمر. وكان من أهم كتبه: The World’s Great Restoration or Calling of the Jewish, (and with them) all the Nations and Kingdoms of the Earth, to the Faith in Christ.
ومن أبرز الدعاة أيضاً في هذا المضمار التنصيري الهولندي “جون نيكولايسون” John Nicolayson الذي كانت جهوده ظاهرة في قيادة حملات التنصير بفلسطين، حيث سعى في جلب اليهود إلى فلسطين ودفعم إلى اعتناق المسيحية البروتستانتية. وكذلك وزير الخارجية البريطاني “لورد بالميرستون” Lord Palmerston ثم السياسي البريطاني “لورد شافتسبيري” Lord Shaftesbury الذي كان من أهم المتجولين المسيحيين في فلسطين، والذي قدم نماذج تطبيقية عن كيفية بناء وطن يهودي بفلسطين تحت السيطرة البريطانية. ومن الذين ساعدوا أيضاً في نشر المسيحية البروتستانتية بالقدس، في النصف الأول من القرن التاسع عشر، “جيمس فين” James Finn، حيث قام بتدشين جماعة الكنيسة التنصيرية وكنيسة المسيح المقدس. وكانت جميع تلك المساعي تقام تحت رعاية القنصلية البريطانية التي كانت ترسي قواعد الحياة المسيحية البريطانية في فلسطين.
ومن ضمن الشخصيات المؤثرة أيضاً في تلك الفترة “تيودور هيرتسيل” Theodor Herzel الذي كان مرتبطاً بالصهيونية العلمانية الحديثة، والذي دأب على إثارة قضية عودة اليهود إلى أرض فلسطين في أعلى الدوائر السياسية والدبلوماسية، كمايشير الكتاب. كان “هيرتسيل” يستهدف مشروعاً واقعياً لا طوباوياً، ساعياً عبر “الجماعة اليهودية” و”الشركة اليهودية” نحو تطبيق مشروعه السياسي. وعلى الرغم من معارضة مشروع “هيرتسيل” من قبل أكثر من جهة – سواء أوروبية أو إسلامية – إلا أن بريطانيا العظمى ظلت مؤيدةً له ولمشروعه حتى بعد وفاته. ولم يعلم “هيرتسيل” أن مشروعه سوف يتحقق – بفضل الدعم البريطاني – بعد أن وافته المنية بحوالي أربعين عاماً.
ويُلاحظ مما سبق أن معظم الشخصيات والمؤسسات والجماعات الداعمة للمشروع الصهيوني المسيحي في القرنين الثامن والتاسع عشر كانت إنجليزية الأصل والمنشأ. فبريطانيا العظمى – بنظامها السياسي ومفكريها وكتابها وأدبائها ومثقفيها – كانت بمثابة الوتد الحقيقي للمد الصهيوني المسيحي في تلك الفترة. كانت بريطانيا العظمى متفردةً – دون الدول – في دعم تلك الحركة…وظلت متفردةً حتى جاءت الولايات المتحدة الأمريكية لتسلب منها ذلك الدور قبيل النصف الثاني من القرن العشرين حتى يومنا هذا، كما ورد في الكتاب المعني.
خطوات فاصلة في القرن الـ20 قبيل إقامة دولة إسرائيل:
من أهم الخطوات الفاصلة التي تم اتخاذها بشأن دعم المد الصهيوني المسيحي في القرن العشرين كانت كالتالي: نشر إنجيل “سيروس إنجيرسون سكوفيلد” Cyrus Ingerson Scofield في عام 1909؛ وهو الإنجيل الذي تم توظيفه كمؤثر رئيسي على الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة، والذي تمت قراءته من قبل ملايين الأمريكيين. فيكفي القول، أنه في منتصف القرن العشرين، كان هذا الإنجيل مُستخدماً من قبل نصف جماعات الطلاب الإنجيلية الأمريكية، حيث صار هو الوثيقة الرئيسية للأصولية المسيحية.
ومن أبرز الخطوات أيضاً “إعلان بلفور” Balfour Declaration في عام 1917، الذي كان بمثابة نقطة تحول في تاريخ الحركة الصهيونية المسيحية، والذي أعطى لليهود ما لم تعطه الحروب الصليبية؛ ثم انعقاد مؤتمر باريس في عام 1919 الذي أعلن الانتداب البريطاني على فلسطين؛ ثم قدوم الهجرات اليهودية المكثفة من روسيا وبولندا في عام 1925؛ ثم ظهور حركات يهودية متطرفة وغير قانونية، اصطدمت مع العرب والبريطانيين سواء، مثل ال”هاجانه” Haganah و”إرجون” Irgun؛ وأخيراً قدوم “هاري ترومان” Harry Truman إلى البيت الأبيض في عام 1948 وضغطه سياسياً من أجل إقامة دولة إسرائيل التي أقيمت بالفعل في نفس عام تقلده الرئاسة.
خطوات داعمة بعد إقامة إسرائيل:
لم تتوقف الخطوات الداعمة بعد قيام دولة إسرائيل، بل استمرت وتضاعفت كما يوضح الكتاب. فنجد دعم قرارات الأمم المتحدة المؤيدة لإقامة دولة إسرائيل في عامي 1947 و1948؛ ونجد مساندة الرئيس الأمريكي “ليندون جونسون” Lyndon Johnson الذي أكد على المرجعية الإنجيلية للدولة اليهودية؛ ونجد مساندة الرئيس الأمريكي “دونالد ريجان” Donald Reagan الذي أكد على حقيقة إعادة اليهود من قبل الرب إلى موطنهم الأصلي؛ ونجد حرب إسرائيل مع منظمة التحرير الفلسطينية بجنوب لبنان في عام 1982 بهدف الضغط عليها من أجل ترك خيار المقاومة والرضوخ إلى حل براجماتي؛ ونجد تدفق كتابات “هال ليندسي” Hal Lindsey و”تيم لاهاي” Tim La Haye المتأثرة بالرؤى التشاؤمية حول نهاية العالم واستبدال الكنيسة بإسرائيل.
ونجد طغيان الثلاثي Hal Lindesy – Pat Robertson – Jerry Farewell على وسائل الإعلام الأمريكية منذ عام 1967؛ ونجد تدشين السفارة المسيحية الدولية في تل أبيب في عام 1980، وهي السفارة التي أنشئت بهدف تعليم مسيحيي العالم مباديء الصهيونية المسيحية؛ ونجد بناء “مؤسسة هيكل القدس” من أجل إعادة تشييد الهيكل في الثمانينيات؛ ثم نجد تدشين خطوات معاهدات السلام في عام 1992 التي سرعان ما تحطمت بمقتل رئيس الوزراء الإسرائيلي “إسحاق رابين” ثم مجيء “نتنياهو” رئيساً للوزراء في عام 1996.
ومن الجدير بالذكر، حدوث تحولات كبرى في الحياة السياسية الأمريكية منذ عام 1976، إذ حدثت تحالفات واضحة بين جماعات الضغط الأمريكية واللوبي الصهيوني، وتسارع مضي الحركة الإنجيلية قُدماً في الدوائر السياسية الأمريكية، وزاد تأثير الكنائس الإنجيلية والبروتستانتية في مقابل الكنائس الكاثوليكية والرومانية، وزاد تأثير اليمين المسيحي على صناعة القرار السياسي الأمريكي، ولا سيما منذ وصول “ريجان” إلى الرئاسة الأمريكية في عام 1980، حيث تعتبر إدارته أكثر الإدارات دعماً لإسرائيل في التاريخ الأمريكي.
ومع دخول الألفية الثالثة، تسارعت وتيرة الأحداث التي أعطت مزيداً من الدعم للمد الصهيوني المسيحي على حساب مصلحة العرب والمسلمين: فكانت أحداث سبتمبر في 2001 التي شيطنت الفلسطينيين – بل والمسلمين جميعاً – واضعةً إياهم في خانة الإرهاب؛ ثم كانت عمليات الدرع الواقي لـ”آرييل شارون” Ariel Sharon في 2002 التي اقتحم بموجبها غزة والضفة الغربية من جديد بزعم محاربة الإرهاب الفلسطيني؛ ثم كان توليه رئاسة الوزراء في عام 2003.
وفي وجه جميع تلك الخطوات الشرسة الساعية لدعم الحركة الصهيونية المسيحية كانت هناك خطوات عربية مضادة…تقاوم وتكافح، كما أوضح الكتاب. فكان هناك دور المفتي الأكبر للقدس “الحاج أمين الحُسيني” في حشد العرب والمسلمين عبر المساجد والجوامع ضد الحركة الصهيونية، فانتشرت على آثار دعوته انتفاضات عربية واسعة في عامي 1936 و1937؛ وكان هناك استخدام العرب لسلاح النفط في عام 1973 والذي أتبعه قرار الأمم المتحدة الذي شبه الصهيونية بالعنصرية؛ وكانت هناك انتفاضة 1987بالضفة الغربية وغزة التي قدمت بديلاً إسلامياً للكفاح والمقاومة ضد المشروع الصهيوني بعد رضوخ منظمة التحرير الفلسطينية لحلول السلام الدولية؛ تلك الانتفاضة التي أظهرت عالمياً وجه إسرائيل القبيح.
ولم تتوقف الأحداث عند هذا الحد، إلا أن أحداث الكتاب قد توقفت عند عام 2006، وهو عام صدور الكتاب. فالأحداث الداعمة للمد الصهيوني المسيحي استكملت خطاها بعد عام 2006؛ فعدم اعتراف المجتمع الدولي بفوز حركة “حماس” في الانتخابات التشريعية في عام 2007؛ وهي الحركة الداعمة للمقاومة الإسلامية ضد المشروع الصهيوني؛ والمُضي قدماً في سياسة بناء “شرق أوسط جديد”، تلك السياسة التي تبناها الرئيس الأمريكي السابق “جورج دبليو. بوش” منذ توليه الرئاسة في عام 2000. وهي سياسة تستهدف العمل على إسقاط الدول والمجتمعات العربية واحدة تلو الأخرى بهدف إيجاد شرق أوسط جديد مُستلَب من قبل الاحتلال الصهيوأمريكي؛ وهو ما نشهد ثماره اليوم؛ من العراق إلى سوريا إلى اليمن إلى ليبيا؛ وأخيراً سعي إسرائيل وراء تصفية القضية الفلسطينية نهائياً عبر “صفقة القرن” التي ظهرت أول ملامحها في نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس في عام 2018….كلها أحداث تقول وتشهد صراحةً بأن المد الصهيوني المسيحي يزداد توسعاً واجتياحاً.
والحقيقة، إن المتفحص لمباديء الصهيونية المسيحية المناصرة لعودة اليهود إلى فلسطين ليتعجب أشد العجب: فهل يُعقل أن يناصر المسيحيون اليهود الذين شرعوا في قتل المسيح عليه السلام لولا أن رفعه الله إليه؟ بل إن مزج اليهودية بالمسيحية لأمر يثير الدهشة؛ فهل من المنطقي أن يتمسح اليهود في المسيح عليه السلام مدعين أنه سيبارك إسرائيل بعد نزوله الثاني إلى الأرض، وهم الذين افتروا عليه وعلى أمه السيدة مريم أشد أنواع الافتراء والكذب والبهتان؟ إن ما تفترضه الصهيونية المسيحية يجافي الوحي والمنطق والعقل والتاريخ؛ وهو ما يدعني إلى الافتراض بأن نظريات واطروحات الصهيونية المسيحية ما هي إلا تبريراً وتسويغاً وتغطيةً للممارسات السياسية الوحشية التي ارتكبها الأوروبيون والأمريكيون – سياسيون وكُتاب ومفكرون– بحق الفلسطينيين العرب خاصة، وبحق جميع العرب والمسلمين عامة. ما تلك النظريات إلا تغليفاً للفعل السياسي القبيح الذي استحل واغتصب أرضاً عربية ليقيم مكانها دولةً استيطانيةً احتلاليةً إسمها إسرائيل.
وأكبر دليل على مزاعم الصهيونية المسيحية الباطلة، هو خروجها من الرحم الأوروبي الذي كان شديد الظلم…شديد البغي…شديد الطغيان.. تجاه السكان اليهود. وتاريخ اليهود في أوروبا خير شاهد على ذلك. فالقارة الأوروبية التي انبثقت منها تلك الحركة كانت شاهدةً على مظالم بحق اليهود لا تعد ولا تحصى. وهو ما يؤكد الفرضية القائلة بأن أطروحات الصهيونية المسيحية لم تكن إلا ضرباً من النفاق والتدليس لتحقيق غرض سياسي وهو: التخلص من يهود أوروبا من ناحية، وبناء دولة إسرائيل لتصير شوكةً في ظهر العالم الإسلامي من ناحيةٍ أخرى. لم تكن تلك الأطروحات إذن إلا تبييضاً لوجوه السياسيين والمفكرين الغربيين. ملخص القول: لقد تم توظيف المسألة اليهودية الدينية من أجل كسب نقاط وأهداف سياسية.
إن اختلاق إنجيل جديد يدعي بأن القدس هي عاصمة إسرائيل هو تحريف محض يقره الكثير من المسيحيين العرب والغربيين الذين يؤمنون بحقيقة طرد اليهود من الأرض المقدسة بعد محاربتهم للمسيح عليه السلام. إن مزاعم الصهيونية المسيحية – التي تدحض المسيحية الحقيقية – لشاهدةٌ ولآيةٌ ظاهرةٌ على كم الافتراء الذي مارسه بعض من أوتي الكتاب، فقاموا بتحريف الحق وهم يعلمون تمام العلم أنه الحق.
عرض:
د. شيرين حامد فهمي
دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة.