القراءات الحداثية للقرآن: وظيفة التأويلية الحداثية للقرآن في الخطاب المعاصر

القراءات الحداثية للقرآن

وظيفة التأويلية الحداثية للقرآن في الخطاب المعاصر

أ. طارق حجي*

رغم كثرة تلك الدراسات التي تتناول «القراءات الحداثية للقرآن»، سواء بشكلٍ تثميني أو بشكلٍ ناقد، إلا أنه يبدو وكأن معظم هذه الدراسات تنخرط مباشرة في نقاش طبيعة هذه التأويلية ونتائجها وتفاصيلها الجزئية، من مفاهيم وتقنيات، دون أن تتساءل أولًا حول سبب ظهور هذه التأويلية ضمن فضاء الخطاب الحداثي العربي والإسلامي من الأساس، وحتى حين تتجه للبحث في سبب ظهور هذه التأويلية فإنها غالبًا ما تتجه لافتراض أسباب خارجية — مثل تأثير بعض الحقول كالاستشراق على التلقي العربي المعاصر للقرآن،[1] مما يجعلها في الحالتين تفوِّت الاهتمام بطبيعة الخطاب الفكري العربي والإسلامي المعاصر الذي نشأت في سياقه الخطابي والمعرفي هذه القراءات، فلا تبحث صلة نشأة هذه القراءات بكل تموجات وانعطافات هذا الخطاب، وبعلاقة هذا الخطاب بخطاب النهضة، وبرؤيته للإسلام والحداثة والعلاقة بينهما، وهي صلة أساسية يعقدها هذا الخطاب ويلح عليها ويضعها كأساس لرهاناته، مما يجعل تجاهلها أو تفويتها لصالح سياقات أخرى مفترضة، حائلا دون فهم الطبيعة الداخلية لانبناء هذا الخطاب والرؤية الدقيقة التي ينظر بها لدوره في مسار التنوير، والهدف الذي يعقده على تقديم تأويلية حداثية للقرآن.

ومحاولة فهم هذه الطبيعة الداخلية للخطاب الحداثي المعاصر وبالتالي فهم ما الذي يعقده هذا الخطاب على تقديم “تأويلية حداثية للقرآن”، هو أمر له الأسبقية المنطقية والتحليلية لكل اشتغال على تفاصيل برامج هذه القراءات أو نتائجها التأويلية، هذا من حيث كون القرآن ورغم أنه قد انتظم في العقل العربي والإسلامي منذ بداية اللقاء بالحداثة الاوروبية، في “موقع مركزي”[2] تؤطره “علاقة تأويلية”[3] بالأساس، إلا أن هذه العلاقة كانت تتوقف عند محاولة إيجاد تأويلات للقرآن حول قضايا بعينها؛ خصوصًا ما يتعلق بالمرأة والسياسة والاجتماع والطبيعة، أي تلك المساحات التي حتَّمت الحداثة الكولونيالية وإحرجات الحمولة الفكرية المصاحبة لها على اصطناع “مسافة” من شكل تدبيرها التقليدي، ولم تتحول إلى محاولة بلورة “تأويلية قرآنية” بالمعنى الأوسع؛ سواء على مستوى مساحته والتي أريد لها أن تتخطى التشريعات إلى العقائد والقصص،[4] أو على مستوى حضوره وطبيعته والذي أريد له أن يتسع ليشمل “مجمل الأطر والمفاهيم والرؤى الناظمة لطبيعة النص ودوروه ووظيفته،”[5] إلا مع ظهور «القراءات الحداثية للقرآن»، مما يجعل هذا الانتقال في فضاء الفكر الحداثي المعاصر ذا دلالة خاصة تحتاج لفهمها.

ولا يمكن في ظننا تفسير هذا الانتقال من “التأويلات الجزئية” إلى إنتاج “تأويلية شاملة  للنص” بأي شكل بالبقاء داخل هذه القراءات وتفصيلات برامجها وتقنياتها وسجالاتها، بل يتطلب الأمر النظر خارجها، أو بمعنى أدق النظر لطبيعة كونها بالأساس أكثر من مجرد “برامج قراءة” تتضمن أطر وأدوات وتقنيات لإنتاج/ اكتشاف المعنى، بالنظر لها بدلًا عن هذا كجزء من مسيرة التحديث، فالقراءة الحداثية والتي يُمثِّلها رواد ليسوا مجرد باحثين في تخصصات ذات صلة بالقرآن بل أفراد من “انتليجيسيا حداثية” تؤرقها هموم النهوض، هي في عمقها وكما يتجلى في اشتغال روادها انعطاف في نمط العلاقة بين الحداثة والإسلام، ومحاولة لتكريس نمط جديد في إدارة العلاقة بينهما، يتحرك فوق مساحة “القرآن” بما هي فضاء أنطولوجي وابتسمولوجي خاص ومركزي ضمن العقل العربي، انعطاف يُنظر له كما سنوضح كعلاج لكل إخفاقات خطابات النهوض والتنوير من محمد عبده إلى حسن حنفي مرورًا بطه حسين وزكي مجيب محمود.

لذا فإننا في هذه المقالة سنحاول إيجاد إجابة لهذا التساؤل الأولي والمبدئي، ما هو سبب ظهور تأويلية حداثية للقرآن، أو بمعنى أعمق، ما الذي جعل القرآن هدفا مركزيا لعملية التحديث، وكيف أضحت «القراءة التأويلية الحداثية» له في منظور رواد الخطاب الحداثي المعاصر مخرجًا من كل إخفاقات التنوير، وهذا من أجل فهم أدقّ لملامح هذا الاشتغال المعاصر، الذي يجعل هذه التأويلية رهانه وعنوانه الأساس، وآفاقه، عبر تجاوز النقاشات الجزئية معه كـ”برامج قراءة” إلى النقاشات الكلية معه كـ”خطاب حول الدين والحداثة والعلاقة بينهما”، فهذا التجاوز هو ما يحقِّق في ظنننا إدراكًا أعمق لطبيعة هذا الخطاب وحدوده المنهجية.

ونقاشنا هنا سيكون بالأساس من خلال تتبع تلك الصورة التي يرسمها الخطاب الحداثي المعاصر عن مسيرة التحديث وعن موقعه فيه، فهذه الصورة وكما سنوضح تفصيلا هي التي تتيح لنا فهم الهدف الذي يعقده هذا الخطاب على تقديم تأويلية حداثية شاملة للقرآن، وفهم كيف تمثل هذه التأويلية وفقا له المخرج من مآزق الخطاب الحداثي طوال مسيرته.

ونوضح بداية أن هذا لا يعني بطبيعة الحال اتفاقنا مع هذه الصورة أو اعتبارها معبرة بدقة عن تمرحلات الخطاب الحداثي، فالأهمية الأساسية من استحضارها وتتبعها هو كونها وكما أسلفنا تمثل المنطق الداخلي لاشتغال الخطاب الحداثي المعاصر، ونافذة لفهم طبيعة إدارته العلاقة بين الإسلام والحداثة، وتبين رهاناته الخاصة في التعامل الخاص المقترح الذي يحاول بلورته مع القرآن، وهو ما يجعل تتبعها محققا لهدف المقال الأساسي؛ أي استيضاح سبب المركزية التي أخذها هدف إنجاز تأويلية حداثية للقرآن في الخطاب الحداثي المعاصر.

  • الإسلام والحداثة في الخطاب الحداثي، البحث عن تركيب مبدع:

عملية بناء تاريخ تيار أو اتجاه ما، ليست عملية محايدة أو موضوعية بالضرورة، بل تمثِّل هذه العملية في ذاتها أحد استراتيجيات الاتجاه في بناء ذاته، مما يجعلها عملية مرتبطة بتصورات هذا الاتجاه عن طبيعة المسار الخطابي والمعرفي الذي ينتظم فيه وطبيعة إشكالاته وأفق حله ودوره فيه، وحين نتحدث عن «القراءات الحداثية للقرآن»، سيلفت نظرنا، كون هذه القراءات —ولأنها لم تكن فقط مجرد قراءة في القرآن، بل هي قراءة في التحديث وفي علاقته بالإسلام — تتم فوق فضاء النص القرآني، فإن هذا قد جعل كتابات روادها في كثير منها عبارة عن قراءات في تاريخ التحديث العربي والإسلامي وطبيعته، وبحثًا في الأسباب التي أدّت إلى عدم تحقيقه ثماره على المستويين الفكري والواقعي، وبلورةً للدور الذي تلعبه هذه القراءة والتأويلية المقترحة في تجاوز هذا الإخفاق.

وبالتالي نستطيع توصيف هذا الاشتغال الطويل لـ«القراءات الحداثية» على تاريخ التحديث وعلاقته بالإسلام ضمن ما يسميه محمد الحداد ببناء «نواة أرثوذكسية»،[6] والنواة الأرثوذكسية هي كما يمكن استفادته من الحدّاد عبارة عن خطّ «وهمي» ممتد يخلقه خطاب فكري ما ليجمع بين مرجعيات لخطابه تعطيه شرعيةً وسلطة رمزية وامتدادًا في شكل محدّد (معاد تركيبه) من التاريخ حيث يتم بناء خط ممتد من المفكرين في التاريخ، يعطي الشرعية والبعد التاريخي لفكر ما. وأهمية دراسة هذه النواة بالنسبة لدراستنا «القراءت الحداثية» تأتي من كونها تتعلق كما أسلفنا ببناء هذا الخطاب لموقعه ولدوره، والأهم لتصوره لدلالة «القراءة الحداثية للقرآن» —الأداة المركزية والعنوان الأبرز على هذا المنعطف المعاصر في الخطاب الحداثي، ودور إيجاد «تأويلية قرآنية حداثية» في الخروج من أزمات التنوير.

لذا فإننا سنبتدئ بعرض كيفية تأريخ رواد هذا الخطاب ومنظِّريه لتاريخ علاقة الحداثة بالإسلام، ومآزق هذا التاريخ وكيف تُمثِّل قراءة القرآن حداثيًا أفق الحل لمآزق هذا المسار، ثم نحاول نمذجة هذا التأريخ في شكل “نواة أرثوذكسية”، لنُبرِز كيف ينظر رواد هذا الخطاب لموقعهم ضمن مسار طويل من صلة الحداثة بالإسلام في الاشتغال العربي، مسار مر بكثير من الإخفاقات ومحاولات الإصلاح، من أجل فهم طبيعة إخفاق التنوير وأسبابه كما يراها رواد هذا الخطاب، وما الذي يُنتظر من «قراءة حداثية للقرآن» أن تقدمه في سياق الخروج منه، مما يعيننا على إجابة سؤال المقال الأساسي: لماذا أصبح من الضروري ضمن مسيرة الخطاب الحداثي تقديم تأويلية حداثية للقرآن؛ تشمل منهج قراءته؛ بالمعنى الأوسع والأشمل والذي لا يقف عند آليات القراءة بل يشمل مجمل ” المفاهيم المؤطّرة للنصّ ووظيفته وحركته “؟[7]

في فصل مهمّ من كتابه “ثورات العرب، خطاب التأسيس” يؤرِّخ علي مبروك لمرحلة مهمّة من مراحل التحديث العربي، وهي مرحلة تأزُّم الخطاب النهضوي العربي في نسخته الأولى «الخطاب الإصلاحي من الطهطاوي لعبده»، وما تبعها من محاولة «التأسيس الثاني لخطاب النهضة»، مما يعني كون التحديث العربي وفق مبروك قد مرّ بمرحلتين الأولى هي مرحلة التأسيس مع الخطاب الإصلاحي النهضوي، والثانية هي مرحلة التأسيس الثاني، وسبب ظهور الثانية هو أزمة الأولى.

وأزمة التحديث في مرحلته الأولى —وفقًا لمبروك— لا تتعلّق فحسب بكونه قد بدأ سياسيًّا، حيث ابتدأ التحديث بمحاولات الدول استحضار المؤسّسات الحديثة، وإرسال البعثات وإجراء التنظيمات، بل الأزمة هي أن هذه «السياسوية» في مقاربة الحداثة لم تقتصر على فعل السّاسة المنشغلين بطبيعة حقل السياسة بالجاهز والبراني، «بمنطق قطف الثمرة وليس أبدًا تقليب التربة وغرس البذرة»،[8] وما يتبع هذا من مقاربة للحداثة تقوم بنزع نتاجاتها من سياقاتها الفكرية التي تؤسِّسها «التنظيمات دون ديموقراطية — التكنولوجيا دون منهج علمي» فتنتهي إلى تحديث (براني سطحي)، بل إنها قد تعدَّت حقل السياسة لتعمل على تشكيل الخطاب الفكري النهضوي نفسه سياسويًّا، وهذا — وفقًا لمبروك — يتضح تمامًا في هذا الخطاب ومنذ لحظة تدشينه مع الطهطاوي «مُنظِّر دولة الباشا الحديثة» وإلى محمد عبده؛ فقد جاءت مقاربة هذا الخطاب للحداثة مقاربة سياسوية، تهتم لمعلول الحداثة لا لعلتها، للجانب الخارجي من الحداثة، لا للجانب الأعمق المؤسِّس لها، فقامت بالفصل النفعي بين نتاجات الحداثة الفكرية وبين ما يؤسِّسها معرفيًّا، تمهيدًا لدمجها في النظام الفكري التقليدي.[9]

فكما يُؤكِّد نصر أبو زيد فإنّ الطهطاوي وعبده روّاد هذا الخطاب ورغم أنهم كانوا قد تجاوزوا بالفعل التعامل مع الغرب كتكنولوجي، كما تعامل معه السّاسة، إلى الوعي بالفكر الحداثي في عمقه،[10] إلا أن هذا الاهتمام وبسبب هذه السياسوية التي يشير لها مبروك كان لا يزال يقتصر على الاهتمام بنتاج الفكر الغربي لا مناهجه، مما يجعل مقاربته «الفكرية» أيضًا مقاربة برّانية.

هذه السياسوية المسيطرة على الخطاب وما نتج عنها من سمات لتعامل الخطاب مع الحداثة —وفقًا لمبروك— أدَّت إلى فشل هذا الخطاب على مستوى الفكر والواقع، على المستوى الأول نشأ الخطاب ذرائعيًّا وانتقائيًّا ونفعيًّا يقيم طلاء فكري حداثي براني فوق مضمون تقليدي «أثر السياسة على حقل المعرفة وفقًا لنصر أبو زيد»، أما على هذا المستوى الأخير فقد كان الفشل مدويًا حيث انتهى للاحتلال الذي يدلّ على سطحية التحديث المنشود،[11] لذا ومع تعقُّد أزمة هذا الخطاب كان لا بد من البحث عن حلّ لتجاوز إشكال التأسيس ذاته، فكان لا بد من نقل ثِقَل المقاربة من (البراني) إلى (الجواني)، من (السياسي) إلى (الثقافي)، من (النتاجي) إلى (المنهجي)[12].

ابتدأت إعادة التأسيس لخطاب النهضة (التأسيس الثاني) ونقل مركز ثقل الخطاب من السياسة للثقافة، ومن النتاجي للمنهجي، مع كتابات طه حسين وعليّ عبد الرازق ثم زكي نجيب محمود «روّاد العلمانية الإسلامية وفقًا لتصنيف محمد جابر الأنصاري»[13]،[14]، فهذه الكتابات هي التي ابتدأت في تغيير نمط العلاقة مع الحداثة بالتركيز على مناهجها لا على نتاج أفكارها، وبتشغيل هذه المناهج أو “الحداثة كمنهج” على المساحات المختلفة من الظاهرة الدينية، فوفقًا لنصر أبو زيد فإنّ معادلة التوفيق قد تحرَّكت قليلًا مع طه حسين حيث تحوَّل الغرب معه لـ(أداة منهجية)،[15] مُشغَّلَة على تراث الشعر الجاهلي وعلى قصص القرآن، إلا أن هذه المعادلة قد عادت للوراء مرّة أخرى مع نهايات خطاب العميد، وكذلك مع نهايات خطاب زكي نجيب، حيث تم إقصاء المناهج الغربية المستحضرة “المنهج الديكارتي في حالة الأول” و”الوضعي المنطقي في حالة الثاني” عن مساحة الدِّين والتراث، والذي نُفِيَ لخانة الوجدان بعيدًا عن أي مقاربة علمية،[16] ليتأسَّس بهذا “تجاور عميق” داخل الخطاب الحداثي، بين مساحات يدرسها العقل الحديث ومساحات تقف خارجه بعيدًا عن أي دراسة.

وسبب من أسباب تثمين مبروك لتجارب القراءة الحداثية، مثل تجربة نصر أبو زيد هي أنها محاولة لاستعادة الطريق بعد هذا الانحراف الذي حدث بتراجع خطابات طه حسين وزكي نجيب عن تقديم قراءة عقلانية للدين، وتلوُّن خطابات هذه الفترة في مقاربتها للدين والتراث بلون رومانسي واضح كما تشي مرحلة “على هامش السيرة” للعميد والكتابات الأخيرة لزكي نجيب، إلى جانب كتابات العقاد وخالد محمد خالد وهيكل وغيرهم، وهذا عبر استعادة هذه «القراءات الحداثية» تطبيق المنهجيات العقلانية الحديثة على التراث، وعلى بعض مساحات الظاهرة الدينية، بل على القرآن ذاته، لتجاوز (التجاور) في اتجاه (التركيب المُبدِع).

وتُشكِّل هذه الاستعادة بعدًا من أهم أبعاد خطاب نصر أبوزيد، حيث إنه وكما يعبر محمد أركون ” يعرض بوضوح تربوي رائع شروط إمكانية تطبيق التحليل الألسني الحديث على القرآن بصفته نصًّا لغويًّا،”[17] حيث عمل نصر أبو زيد وعبر الاستعانة بالنظريات اللغوية الحديثة مع سوسير وشلايرماخر على تأسيس مفهوم تاريخية النص و”أرخنته” أي كشف ارتباطه بسياقه التاريخي واللغوي، بشكل يبرز ضرورة قراءته تاريخيًا ويبرز أهمية التاريخ في عملية اكتشاف/إنتاج معناه.[18]

ينطبق هذا أيضا على خطابات الشرفي ويوسف الصدّيق وفضل الرحمن مالك ومجمل رواد القراءات الحداثية كذلك؛ فخطاب الشرفي يمكن اعتباره خطابا حول قراءة الإسلام حداثيًا بهذا المعنى للحداثة أي “الحداثة كمنهج”، حيث يحاول الشرفي أو يدعو لتطبيق المناهج العلمية الحديثة على كل مساحات الدين الإسلامي دون استثناء، من أنظمة ومؤسسات وشرائع وشعائر وقصص، وهذا بحثًا عن ما يعتبره “تأليف حي” بين الإسلام والحداثة يتجاوز اجتهادات خطاب النهضة التي ينظر إليها باعتبارها اجتهادات إسقاطية وتلفيقية تفتقد “السند العلمي”؛ وهو السند الذي توفره الحداثة فقط حين يُنظر لها كـ(أداة منهجية)[19].

كذلك فالصدّيق يسعى للدمج بين الإسلام والحداثة، ربما عبر أكثر الطرق الممكنة عمقًا وجذرية، حيث يعتبر الصدّيق أن الإسلام والحداثة يشتركان في نفس المنبع من الأساس، وهو الأفق الهليني والفلسفة اليونانية التي مثلت أساس العقل الأوروبي بكل أنواره، ويمثل اشتغال الصدّيق حول البحث عن “مساحة هيلينة” داخل القرآن نوعًا من التحديث الجواني للعقل العربي، يتجاوز كل الأدوات الموروثة في المعرفة بالقرآن وقراءته وتصور طبيعته ليتصل بالقرآن كـ”نص صاعد في معارج العقل الفلسفي،”[20] هذا العقل الذي يمثِّل جوانية الحداثة المرادة ومصدرها وعلتها. مما يجعل تأويلية الصدّيق المقترحة للقرآن هي عمق نقل العلاقة بين الحداثة والإسلام في الخطاب الحداثي من التجاور إلى التركيب، ومن البرانية إلى الجوانية، حيث يبرز كيف ينتمي القرآن والحداثة في الأساس لذات “الأصل/ الأب” المحجوب في التصورات التقليدية المؤطرة للنص منذ لحظة جمعه.

كما يصرّ فضل الرحمن مالك في كتابه: (الإسلام وضرورة التحديث) على إرجاع فشل التحديث في الهند إلى أنماط التعامل البرّاني مع الحداثة، وما نتج عنها من تجاورات بين التقليد والحداثة «والتي لا تختلف كثيرًا عن الحال في العالم العربي»، ويعتبر أنّ الحلّ هو تحديث مؤسَّس من داخل الإسلام لا مجاور له،[21] من حيث يُشكِّل الإسلام الواقع —لا الواقعة— المحتاج تهيئة بتعبيرات عليّ مبروك لتنبت منه الحداثة.

وبالطبع هذه الاستعادة التي نجدها في كتابات نصر أبو زيد والشرفي والصدّيق وفضل الرحمن مالك ومحمد أركون وغيرهم، لعملية تطبيق المناهج الحديثة على القرآن، هي جزء من طيف أوسع داخل الفكر العربي المعاصر، فالانتقال من الاحتفاء بنتاجات الحداثة الفكرية إلى استلهام مناهجها كان هدفًا لعددٍ كبيرٍ من المشاريع في مرحلة ما بعد هزيمة حزيران 1967 «التأزم الثاني للخطاب في الفكر والواقع»،[22] ومشاريع نقد التراث باستخدام منهجيات غربية حديثة من أهم الأمثلة على هذا، فهي تحاول تغيير نمط المقاربة مع الحداثة والتراث بتكوين وعي علمي منهجي/(الحداثة كأدة منهجية) بالتراث، لا أفكاره، بل  “أبنيته المعرفية” على وجه التحديد.[23]

لكن الحقيقة فإن هذا الانتقال من السياسي لـ(المعرفي)، ومن البراني للجواني، وهذه الاستعادة الموصوفة لمسار “التـأسيس الثاني،” كان لا بد له ألا يتوقف عند التراث بل أن يتركَّز وينعكس على العلاقة بالقرآن تحديدًا، وهذا من حيث إن القرآن يُمثِّل وفق الرؤية الحداثية؛ المركز في هذا المَنفِي في جانب الوجدان بعيدًا عن أيّ تحليل علمي من جهة[24] — بتعبيرات أبو زيد عن زكي نجيب محمود، ومن جهة أخرى من حيث يُمثِّل تَصوُّر طبيعة القرآن المُؤسِّس لطرق التعاطي معه المستوى المعرفي الأعمق لتأسيس العقل العربي،[25] فهو المركز المعرفي للتراث وأبنيته المعرفية، «هذا العقل الذي تم تحميله مسؤولية الإخفاق»، والذي تُعْتَبَر سياسويته العميقة المُتَبَدّية في كونه «تفكيرًا بالأصل/التفكير في القرآن كأصل مفارق/التفكير غير التاريخي في القرآن ثم في كل أنظومة فكرية» سببًا مركزيًّا للانبناء السياسوي لخطاب النهضة (أي اشتغال هذا الخطاب بمنطق الجاهز والبراني على حساب المعرفي، واتجاهه إلى المجاورة والتلفيق بين “الإسلام” و”الحداثة” منظورًا لهما كأنظمة فكرية مطلقة نتيجة تغييب الوعي التاريخي)، “الخطاب السلفي في عمقه” وفقًا لرواد القراءة الحداثية.[26]

بهذا كان لا بد للقرآن أن يكون مركز التفكير لهذا المنعطف الجديد، الطامح لاستعادة الطريق وتجاوز التأزُّم المتكرِّر، فإعادة تأسيس خطاب النهضة، وإنشاء تحديث جواني معرفي لا يتوقف عند استيراد أفكار الحداثة، بل يعيد إنتاج شروط ميلادها، ووفق الرؤية التي قدمها رواد هذا الاتجاه لتاريخ محاولات التحديث السابقة وعيوبها، وكذلك وفق رؤيتهم لطبيعة العقل العربي؛ من حيث صلته بالتراث ومركزية القرآن وطرائق قراءته فيه وتأسُّسه على آلية “التفكير بالأصل” التي تقف عائق عن أي قراءة جوانية تركيبية للحداثة، لا يمكن له أن يمرّ إلا عبر بوابة (درس النصّ القرآني درسًا علميًّا).

حيث تصبح عملية إخضاع القرآن للمناهج التاريخية المعاصرة في قراءة النصوص هي طريق الخروج عن المناهج التقليدية التي شكَّلت مركز العقل المعرفي المراد تجاوزه، فهي عين ما يسميه محمد أركون بـ«الزحزحة»، كعملية هدفها نزع القرآن من «حقل اللاهوت» بكلّ حمولاته المفاهيمية والمنهجية، بل والشعائرية المؤطِّرة لتناول القرآن في العلمي وفي اليومي، ليصير من الممكن موضعته في حقل العلوم الحديثة بمنهجياتها ذات الأساس المعرفي المغاير،[27] فتصير هذه الموضعة الجديدة للقرآن أساسًا لنشأة عقل جديد قادر على إنتاج قراءة تاريخية تركيبية مبدعة لعلاقة الإسلام بالحداثة.

لو حاولنا الآن وبعد تتبع هذه الصورة التي ينظر بها الخطاب الحداثي المعاصر لتاريخ التحديث ولموقعه فيه، أن نقوم بعملية نمذجة هذا التأريخ الذي قدمته «القرءات الحداثية» في «نواة أرثوذكسية»، سنجد أن هذا «الخط الوهمي» في خطابي طه حسين وزكي نجيب ثم أمين الخولي (1895-1966) ومحمد أحمد خلف الله (1904-1989) (خطاب التأسيس الثاني للنهضة) قد تم مده  إلى محمد عبده (1849-1905)، باعتباره مُؤسِّس «الإصلاح الديني» ومبتدِئ «عقلنة الدِّين»، وهذه العملية بالطّبع تطلَّبت «إعادة تركيب» لخطاب عبده وسياقه، حيث تمّ تغليب الرؤية العقلانية على خطابه والرغبة في إنجاز التحديث على رهاناته.[28] والذي فرض عملية إعادة التركيب هذه لخطاب الأستاذ الإمام، ووضْعه في بداية النواة الأرثوذكسية الجديدة للخطاب هو انتقال الخطاب الحداثي مع روّاد التأسيس الثاني من «العقلانية المجاوِرة للإسلام» غير العابئة به إلى محاولة «التركيب المُبدِع» و«التأليف الحي» بين الحداثة والإسلام،[29] مما حتّم خلْق هذه النواة بهذا الشكل.

وهذه النواة الأرثوذكسية التي تبلوت في مرحلة «الـتأسيس الثاني» سيتم استثمارها من قِبَل الخطاب الحداثي المعاصر وأثناء صياغته لدوره وموقعه وللسمات التي تفرقه عن غيره —عن «خطاب عبده ثم خطاب العميد وزكي نجيب»— وتضْمَن له إنجاز التنوير الذي فشل في إنجازه السابقون، لكن عبر تعديل هامّ للغاية، حيث سيتم اتهام خطاب عبده بـ«التلفيق» بين «التراث» و«الحداثة» —وهو الوصف الذي لا يمكن أن يتّصف به أيّ خطاب إلا بعد تمايز الخطابات تجاه هذه القضايا،[30] ثم تشخيص سبب عدم قدرة خطاب عبده على إنجاز التنوير المراد بتلفيقيّته تلك، والتي تُرْبَط بسيطرة «التفكير بالأصل/آفة العقل المعرفي التراثي المُتشكِّل حول القرآن» على خطابه واستمرارها من بعده إلى كلّ خطاب يخفق في إنجاز التنوير، بما فيها خطابات العميد وزكي نجيب محمود التي لم تستطع إنجاز خطوة «القراءة العلمية/ التاريخية» للقرآن.[31]

 من هنا يمكن للخطاب الحداثي المعاصر أنْ يُقَدِّم خطوة «الدراسة التاريخية والاجتماعية للدِّين وللقرآن» — مركز القراءة الحداثية للدّين/القرآن، والتي تُمثّل أداة الخطاب الرئيسة وميزته الأعمق— على أنها الخطوة الأساس، والطريق الملكي لإنجاز التنوير وللخروج من إخفاق المحاولات السابقة «المتوارثة» لخطيئة «التفكير بالأصل» و«غياب الوعي التاريخي».

نستطع القول إذن، إنه ومع الخطاب المعاصر فإنّ الخط الوهي الذي يشكل النواة الأرثوذكسية سيصبح كالتالي: «عبده — العميد وزكي نجيب — خلف الله — الخطاب الحداثي المعاصر»، هذا يجعل تلك النواة  تؤدِّي وظيفة إضافيّة للخطاب الحداثي المعاصر فوق وظيفة إعطاء الشرعية والامتداد في التاريخ، حيث تجعله انعطافة حاسمة وغير مسبوقة في هذا التاريخ، فتوزيع عناصر النواة هنا يحضر للدلالة لا على تطوّر، بل على تغاير، لا على اتصال، بل على انفصال حاسم، يجعلنا نقول: إن هذا التوزيع يُمكِّن الخطاب من تقسيم النواة لأنوية داخلية -«نواة متصلة تربط عبده — العميد — زكي نجيب، كسلسلة تحمل سمة التفكير بالأصل التراثية (عائق التنوير)، ونواة منفصلة «الثلاثة معًا — الخطاب المعاصر» تنفصل على أساس تجاوز الخطاب المعاصر فكرة التفكير بالأصل وتفعليه الوعي التاريخي بـ «قراءة القرآن تاريخيًّا»- تساعده في بلورة دوره المفترض وموقعه الفريد.

لذا نستطيع القول، إنّ الخطاب المعاصر قد استثمر هذه النواة التي صنعها رواد خطاب إعادة الـتأسيس وعدّل توزيع عناصرها في ضوء بناء نواته الجديدة الخاصة، وكان هذا التعديل والبناء أحد الأدوات التي استخدمها الخطاب المعاصر في تكريس فكرة تفرُّده في حلقة الفكر الحداثي وقدرته وحده على تحقيق ما يعتبره “التركيب المبدع”، بسبب تحرّره من السمات التي تحملها (وتتوارثها!) خطاباته المرجعية القائمة معه في ذات “النواة” العامة، وهذا تحديدًا عبر «القراءة الحداثية/العلمية/التاريخية للقرآن».

بهذا يبدو أن مركزية “قراءة القرآن حداثيًا/علميًا/تاريخيًا،” وكونها وحدها تُمثِّل الحل لاخفاقات التنوير، بارزة في كل اشتغال لهذه القراءات، سواء داخل برامجها التي تعطي عملية “القراءة العلمية/التاريخية” للقرآن المركزية الأكبر في عملية “التحديث الجواني” للعقل المعرفي العربي والإسلامي وأدواته، أو في بناءها تاريخ التحديث وموقعها المفترض فيه، والدور المفترض لقراءة القرآن حداثيًا/تاريخيًا/علميًا في تجاوز إخفاقاته، مما يجعلنا نقول إن (القرآن) هو مناط التحديث المركزي لـهذا المنعطف المعاصر في تاريخ علاقة الحداثة والإسلام، والذي يريد لتلك العلاقة أن تكون تركيبية، متجاوزة للتجاور الذي يجد سببه المركزي — وفق هذا الخطاب — في كون العقل العربي عقلا يفكر بـ”الأصل المفارق،” ويغيِّب إدراك كل وعي تاريخي/”علمي” بالأنظمة الفكرية التي يقاربها، وأن محور هذا التحديث هو إيجاد تأويلية حداثية للقرآن.

  • القرآن والحداثة:

ربما لا يتوقف سبب مركزية تحديث قراءة القرآن عند رواد الخطاب الحداثي المعاصر وتحويله لموضوع للدرس عبر المناهج الحديثة “أو عبر الحداثة كمنهج” على هذا البعد المتعلِّق بآليات القرءاة التراثية المُشكِّلة لعمق العقل المعرفي العربي المراد تجاوزه، وكون هذه السمات بتغييبها الوعي التاريخي، وارتهانا للتفكير بالأصل/غير التاريخي، هي التي تعوق وفقا لرؤية هذا الخطاب الانتقال من التجاور إلى التركيب بين الحداثة والإسلام، بل يتخطاه نحو أبعاد أكثر تعلقًا بصلة القرآن ذاته: طبيعته وأعمق وأشمل أطر تلقيه — لا نمط قراءته — بالحداثة ذاتها — لا طرق تلقيها — أنطولوجيًا ومعرفيًا، هذا لأن القرآن — ومن وجهة نظر حداثية — يُشكِّل بقداسته وعلوّه عن الدرس وخروجه عن «الوضعية الجديدة للدّين في العالم الحديث» بتعبيرات الشرفي — حيث «أصبح الدّينُ مدروسًا ومفسَّرًا، لا مفسِّرًا لكلّ الظواهر الاجتماعية والطبيعية»[32]— ووصفه ذاته بالأزليّة والأسبقيّة على التاريخ؛ عائقًا أمام تأسيس التصوّرات الحداثية، وهذا لسببين من الممكن اعتبار الأول سببًا أنطولوجيًّا والثاني سببًا معرفيًّا.

أمّا عن السبب الأنطولوجي، فإنّ القرآن ووصفه ذاته بالأزليّة والأسبقيّة على التاريخ — وهو وصف قرآني بالأساس، مُتكرِّس في “مفردات المرجعية الذّاتية القرآنية” التي تحكي نظرة القرآن عن ذاته وتربطه بـ«اللوح المحفوظ» و«أم الكتاب»—[33] يُواجِه الحداثة ذاتها في عمقها الأنطولوجي، من حيث كون علاقة الفكر الحديث بالأزلية، هي —كما يخبرنا داريوش شايغان— «علاقة نسيان» بالأساس!
 فقد بدأ الفكر الحديث بما يسميه شايغان «مكافحة الذاكرة»، فهجوم بيكون على «الأصنام الذهنية»، أو بلورة لوك لمقولة «الصفحة البيضاء»، أو ديكارت لمقولة «العقل الفطري»، من أجلِ تأسيس العقلانية الحديثة، هو هجوم على «الذاكرة الأزلية» أو «الأمانة»،[34] (أيْ مجمل الصور التي يحملها الإنسان عن عالم الأزل)، والتي كانت جزءًا من الوعي الإنساني قبل الحداثة، حيث كان الإنسان قبل عصر الحداثة يعيش ضِمْنَ ما يسميه سيد حسين نصر «الفلسفة الخالدة»، فيحيا تفكيرًا شهوديًّا لا يتوقّف عند هذا العالم أو عند هذه اللحظة، بل يتخطّاها نحو «أركتيبات» أو «نماذج بدئية أزليّة» تُمثِّل ذاكرة تجمع كافّة الكينونات والموجودات، وكلّ استذكار «ذِكْر» لهذه «الميثات» و«الأكتيبات» هو استذكار ليوم «ألستُ بربّكم» كما يسميه شايغان، وكان الإنسان «الحبري»[35] باستجابته للرسالة يصلُ لهذا المعين الميثي الأزلي الفياض الذي يُمَثِّل مصدر وجود الإنسان ومآله ومعناه. والحداثة بما هي اهتمام بالزمن وبالحادِث، وبما هي رفض لكلّ نموذج مسبق، وكلّ ماهية سالفة؛ فهي نسيان هذه الأركتيبات والميثات والصور النوعيّة الأزلية، فهي «تاريخ انهيار الرموز»[36] بتعبير جيلبير دوران، مما يجعلها تكافح هذا المعين الرمزي الأزلي لإحلال نظرتها المغايرة.

ولأن القرآن بما يحمله — في وصفه لذاته — من انفتاح على الأزلية يُشكِّل أركتيبًا يصلُ الإنسانَ بشهود رسالة «ألستُ»؛ فإن أي فكر يتطلع لاستيلاد الحداثة معرفيًا سيكون مدعوَّا بالضرورة لتقديم قراءة للقرآن تُفَكِّك بالأساس هذه الأزلية ذاتها، عبر إعادتها لأنْ تكون مجرّد «حيلة كلامية سياسية» متأخرة مُقحَمة على القرآن، وعبر إغراق قصصه «الصور النوعية الأزلية» التي تؤسِّس «العالم الديني» في قلب التاريخ والواقع، في جدالات الأحقيّة التاريخية والواقعية،[37] ومن ثمَّ تحويل النص لنص تاريخي لا يحمل أي انفتاح على عالم الأزل.

أما السبب الثاني الذي تواجه فيه الحداثة ذاتها القرآن ذاته فهو سبب معرفي، يتعلق بعلاقة “الوحي —التنزيل” بما هو أعمق سمات العناية الإلهية بـ”القانون” المستقل عن الإرادة، فالحداثة ومن ناحية معرفية تنطلق من استقلال القوانين عن أي إرادة متعالية، ويمثِّل القرآن من حيث كونه كتاب ينظر لذاته ككتاب أتى من خارج القوانين “وحي — تنزيل[38]” بل وحطم هذه القوانين — وفق الرؤية التراثية، تفتيتًا لفكرة استقلال القانون عن الإرادة/العناية، وهو تفتيت تأتي معارضته للرؤي الحداثية من كونه لا يتوقف عند القرآن، بل من حيث كون القرآن هو وكما أسلفنا مركز العقل المعرفي العربي، فإن غياب القانون في تصور هذا العقل للقرآن سينتقل لمساحات الاجتماع والسياسة والتاريخ ويُشكِّلها وفق ذات الرؤية المغيِّبة للقوانين الداخلية لهذه الظواهر، مما يوقف أي إمكان لتشكُّل عقل معرفي حداثي قائم على استقلال هذه المساحات بقوانيها الخاصة، ومما يفضي لتحوُّل الوحي/الخرق/العناية إلى مرجعية معرفية وإيتيقية للمجتمع، وهو ما يعارض دلالة العلمنة والتحديث بمعناها العميق كرفض لهذه المرجعية كما يوضح عادل ضاهر.[39]

وتلك الصلة الكبيرة بين “تاريخية القرآن/ دمجه في المنظور الحديث” و”مسألة القانون وتكريسه”، ظاهرة في عمل ثلاثة من رواد القراءات الحداثية، نصر أبو زيد ويوسف الصدّيق ومحمد مجتهد شبستري.
فعمل نصر أبو زيد يقوم على ما نسميه “تكريس برادايم القانون” محل ” برادايم الإرادة” في السياسة والاجتماع والمعرفة،[40] ويُمثِّل القرآن موضع أساس في هذا، حيث عبر قراءته وفق “قوانين تشكُّل النصوص — أي نصوص” وهي الرؤية المستفادة من شلايرماخر، تتكرس رؤية مركزية القانون محل رؤية مركزية الإرادة الإلهية في أعمق مساحات العقل المعرفي العربي، من هنا تكون “القراءة التاريخية للقرآن” عند نصر هي أساس بناء عقل معرفي عربي جديد قائم على القانون بدلًا عن الإرادة في كل المساحات، فيصبح هذا العقل قادرًا وفقًا له على تصور (اجتماع غير منبني على الإرادة) و(سياسة غير منبنية على الاستبداد) و(علم طبيعة غير منبني على خرق العلل وعلى مركزية العلة الواحدة)،[41] وهذه الروابط بين السياسة والمجتمع وبين المعرفة، وكون حقل المعرفة بالطبيعة والمجتمع يجد مرتكزه في قراءة القرآن هي الروابط التي ألحّ عليها نصر طوال خطابه، وتعتبر هي محاولة نصر الأهم في تعميق رهانات النهضة “السياسة، العلم” معرفيًا ضمن العقل العربي، وتظهر كأعمق رهانات تأسيسه “القراءة الحداثية/التاريخية للقرآن” والتي تجعل هذه القراءة في الأخير هي محاولة لتأسيس هموم التحديث العربي الرئيسة بشكل معرفي يتجاوز المؤسسات والنظريات إلى صنع عقل قائم على رفض العناية والانطلاق من “استقلال القانون” كأعمق ما يعنيه تأسيس “عقل حديث”.

كذلك فقد شغل تراجع الوحي والتدخُّل الإلهي لصالح الإدارة العقلية للمجتمع والمعرفة مركزًا أساسيًا في عمل يوسف الصدّيق، الذي قدَّم قراءة لسورة الكهف قائمة على كونها منعطف لتحرُّر العقل واستقلاله، حيث يرى الصديق إن قصتي (ذي القرنين/الإسكندر) و(موسى والعبد الصالح) هما تعبير عن انسحاب النبوة لصالح السياسة العقلانية “الإسكندر/ كملك فيلسوف تتلمذ على أرسطو وفيليب” ولصالح العقل الرشيد “العبد الصالح الذي يراه يشبه أرسطو ذاته” – في رؤية مسبقة تغلب المساحة الهيلينية على مجمل مساحات السرد القرآني وتفقد الشخصيات الكتابية في القرآن أهميتها لصالح شخصيات الفكر اليوناني،[42] وأن مجمل التصوير القرآني للقصص النبوي هو تمهيد لانسحاب النبوة من العالم، فهذا القصص وفقًا له أتى ليسرد علامات مسار نبوة جاءت لختم النبوة من أجل تحرير العقل، أي من أجل نزع المعيارية الابسيمية والايتيقية عن الوحي.

أما شبستري فيربط بوضوح أكبر بين عملية “القراءة الحداثية/التاريخية” للنصوص الدينية وبين الرؤية الكونية الحداثية القائمة على القانون التاريخي واستقلاله واكتفائه وعدم التدخّل في مجراه، ويعتبر أن رؤية النقد التاريخي بأركانها التي تتأسّس عليها رؤيتها الكونية لا تتوافق مع الرؤية الدينية القائمة على التدخل الإلهي وعلى تعالي مضامين وألفاظ النصوص المقدّسة.[43]

بهذا يتضح كون تحديث طبيعة “القرآن” والأطر العامة الناظمة لتلقيه، وليس فقط آليات قراءته، هو أمر شديد الأهمية من أجل إكمال مسار التحديث بشكل معرفي كما يودّ رواد الخطاب الحداثي المعاصر، حيث تقف سمات القرآن المعارضة للحداثة وعلى رأسها؛ انفتاحه على (عالم الأزل والرموز) المفارق لـ”العقل/القانون،” ومعياريته الابستيمية والايتيقية كتجلي لعالم العناية، حاجزًا أمام أي تركيب معرفي ممكن مع الحداثة، أو أمام أي تهيئة ممكنة لاستيلادها عربيًا وإسلاميًا.

ما يظهر إذن من تتبع تلك الصورة التي يرسمها الخطاب الحداثي المعاصر لتاريخ التحديث ولعلاقته به والدور الذي يضعه لانعطافته ضمن هذا المسار، هو أن تقديم قراءة تأويلية حداثية للقرآن، والمركز منها القراءة التاريخية له، تمثِّل وفق هذا الخطاب التجسيد للحظة انعطاف العلاقة بين الإسلام والحداثة، الانعطاف الذي يبغي نقل هذه العلاقة من كونها تجاورية وبرانية، إلى كونها عملية تحديث جواني ومعرفي، وهذا يجعل هذه التأويلية المقترحة للقرآن تُمثِّل من وجهة نظره الحل لكل إخفاقات الخطاب الحداثي كما يراها رواده، هذا من حيث تستحضر هذه التأويلية الحداثة  لا كمجموعة مؤسسات وأفكار يراد فرضها على واقع فكري مغاير، بل كـ”أداة منهجية” مُطبَّقة على القرآن؛ طبيعته وأعمق الأطر الناظمة لتلقيه وآليات قراءته كعمق لـ “العقل المعرفي العربي” المراد تغييره ونقله من الـ(تفكير بالأصول) إلى (الوعي التاريخي)، وكذلك من حيث هي أفق الدرس الجديد القادر على أن ينزع عن القرآن تلك السمات التي تعيق اندماجه في سياق فكر الحداثة من ناحية أنطولوجية ومعرفية، من هنا نفهم كيف يكون لتقديم تأويلية للقرآن أهمية قصوى داخل هذا الخطاب حتى باتت المناداة بها علما عليه.

ويتبين من خلال هذه الرؤية التي حاولنا عرضها في هذا المقال كون النظر لهذه القراءات من خلال تحليل موقعها ضمن الخطاب الحداثي له فائدته في قدرته أن يطلعنا على الطبيعة الداخلية لانبناءها ولصلتها بالقرآن، وهو ما يحول الصلة النقدية بها من كونها مجرد برامج قراءة لكونها في العمق خطاب جديد حول الحداثة والإسلام، ونظن أنه ومع الحاجة الكبيرة لاستكشاف علاقات هذا الخطاب بالخطابات المعرفية الأخرى وبالسياقات غير المعرفية كذلك، إلا أن اكتشاف هذه الطبيعة الداخلية لانبناء هذا الخطاب بالصورة التي حاولنا إيضاحها يظل هو الخطوة الأولى في تقديم قراءة نقدية لهذه القراءات تتبين حدودها المعرفية والمنهجية بصورة دقيقة.

وربما يكون أول تساؤل نقدي ينبغي طرحه على هذه القراءات، هو دلالة ما تعنيه بـ”التركيب المبدع” و”التأليف الحي” في وصف العلاقة التي تنشدها بين الإسلام والحداثة، فبأي شكل يمثل تحويل الإسلام/القرآن كموضوع للحداثة نوعا من التركيب والتأليف، إن التركيب والتأليف يتطلب في المقابل عملية حوار بين طرفي التركيب، حيث يمكن الإنصات بلغة جادمر لما يقوله كل طرف، وهذا يغيب تماما حين تتحول الحداثة لأفق يتم التفكير به لا فيه، وحين يتحول القرآن لمجرد موضوع للقراءة عبر هذا الأفق وحده، وهذا يذهب بنا للسؤال الأوسع، بأي شكل يمثل الخطاب الحداثي المعاصر انعطافا حقيقيا في العلاقة بين الحداثة والإسلام بالشكل الذي يثري هذه العلاقة؟ وبأي شكل يكون للتأويلية الحداثية هذه الفائدة المتصورة حتى داخل الخطاب الحداثي المعاصر نفسه ووفق رهاناته الخاصة؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  باحث مصري، له عدد من المقالات البحثية والأعمال المنشورة. مهتم بالقراءات المعاصرة للقرآن، والمناهج المعاصرة لعلوم الأديان، والاستشراق.

[1]  لا ننفي وجود صلة بالكتابات الاستشراقية أو بالاستشراق كحقل معرفي، أو كتشكيل خطابي عن صورة الآخر وصورة الذات، إلا أنّ هذا لا ينفي السياقات المخصوصة لنشأة هذه القراءات عربيًّا وإسلاميًّا، والذي يوفِّر البدء منها في تحليل هذه القراءات الوقوف على العلاقة المنهجية المعقّدة بكثيرٍ من نتاج حقل الدراسات القرآنية الغربية، حيث إنها ليست دومًا علاقة تأثُّر أو قبول، بل أحيانًا تكون هذه العلاقة علاقة رفض، وأحيانًا أخرى تكون علاقة تجاهل، وفي أحيان أخرى عدم تنبُّه لمنجزاتها المفاهيمية والمنهجية من الأساس!

[2]  ترى يوهانا بينك الباحثة الألمانية ذات الاهتمام الواسع بالتفاسير والقراءات المعاصرة، في كتابها ” Muslim Qurʾānic Interpretation Today: Media, Genealogies and Interpretive Communities، تفاسير المسلمين اليوم”، أن القرآن شهد مركزية كبيرة في العصر الحديث تتجاوز مركزيته في التقليد، وقد خضع تصورها لكثير من الانتقادات، إلا أننا نتفق مع ما نتصوره المعنى الدقيق لافتراضها، والذي يعني أن القرآن لم يكن يُنظر إليه في التقليد الإسلامي بهذه الصورة الحديثة التي تتطلب عزله عن شبكة التقليد، بله التعامل معه في مواجه هذا التقليد، وهي الصورة التي تكرست منذ النهضة، حيث حضر القرآن لمركز فكر النهضة بصورة استدعائية غرضها بالأساس تعميق واقعة (اهتزاز التقليد) المترتبة على التحديث الكولونيالي وبفعل الترسانة الفكرية المصاحبة له وتقييماتها حول تاريخ التقليد الإسلامي ومدى قدرته على التمدن والحضارة، لعرض وصفي ونقدي لكتاب بينك، انظر: عرض كتاب: تفاسير المسلمين اليوم، ريمون هارفي، ترجمة: هدى عبد الرحمن النمر، موقع تفسير.

[3]  نستطيع القول بأنّ نقاشات النهضة كانت في جانبٍ رئيسٍ منها، نقاشات استدعائية وتأويلية للقرآن؛ استدعائية بمعنى أنها قامت باستدعاء النصّ القرآني لمواجهة التقليد «المهتز»، أو فلنقل لتكثيف واقعة اهتزازه، وتأويلية بمعنى أنها حاولتْ تقديم تصوّرها عن عدم مصادمة الإسلام لِقِيَمِ المدنيّة والعِلْم الحديث عن طريق تقديم تأويلات لعددٍ من الآيات القرآنية مختلفة عن التقليد؛ في مضموها بالأساس، وفي منهجها أحيانًا. مما يجعلنا نقول: إن الخطوة الأولى التي قام بها العرب والمسلمون لإحداث «المسافة الضرورية» مع التقليد كانت هي اصطناع علاقة جديدة مع القرآن، هي في عمقها «علاقة تأويلية».

ولا شك فهذه «العلاقة التأويلية» كان لها أثرٌ كبيرٌ على الملامح والأُطُر الناظمة لحضور القرآن وتصوّر طبيعته ومناهج دراسته، وهذا الأثر مستمرٌّ إلى السياق المعاصر الذي يُعَدّ تكثيفًا لهذه «العلاقة التأويلية» -أو التأويلية كعلاقة وحيدة بالقرآن- بتجاوزه صراع التأويلات حول آيات بعينها -تخصّ العلم والمدنيّة والمرأة والمجتمع- نحو الصراع حول «مناهج التأويل».

[4]  مساحة التشريعات كانت هي الأهم دومًا في التناول النهضوي ثم الحداثي للقرآن، نذكر على سبيل المثل الكتاب الهام “نحو ثورة في الفكر الديني” لمحمد النويهي، كذلك كتاب “من هنا نبدأ” لخالد أحمد خالد.

[5]  في المرحلة الأولى من رفض التقليد وخصوصًا التقليد التفسيري، في أعقاب الصدام بالحداثة الكولونيالية وترسانتها الفكرية المصاحبة، كان هذا الرفض عبار عن أخذ مسافة سلبية من هذا التقليد، حيث نجد أن القراءات الناشئة حول القرآن في هذه المرحلة كانت قراءات لا تنشغل بصورة كبيرة بقضية تأسيس المنهج ولا تُجْرِي نقاشًا منهجيًّا مع الطرائق التقليدية في التفسير، بل إنها تتخفَّف من الأدوات التراثية وتحاولُ إنجاز طريقة جديدة في التفسير، جِدَتها مضمونية واتجاهية في الغالب، أي تتعلّق بمضامين التفسير وبالاتجاه العام لها -وربما ظرفية وانفعالية كذلك تتعلّق بالردّ على إحراجات فكرية غربيّة-، أما في المنهج فكانت جِدَتها في معظمها سلبية، تعمل على «تنقية» القرآن من صدأ الخرافات والإسرائيليات وتجريد تفسيره من ثِقَل الاصطلاحات الفنيّة، مما يجعلنا نُصَنِّف التفاسير والقراءات في هذه المرحلة في علاقتها بالتقليد على أنها «قراءات ضد-التقليد».

[6] حفريات تأويلية في الخطاب الإصلاحي، محمد الحداد، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2002، ص211،212.

[7]  الإنسان والقرآن وجهًا لوجه، التفاسير القرآنية المعاصرة، قراءة في المنهج، احميدة النيفر، دار الفكر، دمشق، ط1، 2000، ص17.

 [8]ثورات العرب، خطاب التأسيس، علي مبروك، دار العين، القاهرة، ط1، 2012، ص94.

[9] ثورات العرب، خطاب التأسيس، علي مبروك، ص93.

 [10]يفصل بعض الدارسين مثل غالي شكري بين مرحلة تحديث محمد علي والتي يمثلها فكريًّا الطهطاوي، وبين مرحلة محمد عبده والأفغاني، حيث يعتبر هذه الأخيرة انعطافة ومرحلة جديدة تتعلّق بتحديث المجتمع، وتصرّ على كون عملية النهوض هي عملية روحية وعقلية وليست فقط سياسية، ويعتبر شكري أن بروز دور الشعب في هذه المرحلة بالثورة العرابية دليل على انتقال التحديث من الصراع الفوقي إلى المشاركة الشعبية في صنع الأقدار، ويمثّل طه حسين -وفقًا لغالي شكري- ذروة هذه المرحلة بتخلّصه من التوفيق بين الدّين والعلم -لصالح العلم- مع عبده والأفغاني، إلى الفصل الكامل بينهما، إلا أن هذا الفصل الذي يتحدّث عنه شكري قريب جدًّا مما يقصده مبروك ونصر بالدراسة العلمية للدّين، والتي هي تجاوز للفصل والتجاور السكوني نحو «التركيب المبدع». انظر: النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث، غالي شكري، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992، ص189، 253.

 [11]معظم تحليلات روّاد القراءة الحداثية للواقع العربي والإسلامي وللحظات الفشل السياسي قائمة على نظرة ثقافوية ترجع هذه الوقائع للفكر العربي القديم والنهضوي، ويعدّ هذا تجاهلًا كبيرًا لكلّ العوامل غير المعرفية الحاسمة تمامًا في تشكيل هذا الواقع، ورغم أنّ تجاهل السياقات الاجتماعية والاقتصادية في تحليل الظواهر يعتبر أمرًا غريبًا في ظلّ قراءةٍ تُدَافع عن ضرورة احترام السياقات الداخلية والمباشرة والمادية في تحليل الظواهر، وتشدِّد على ضرورة فهم الأثر الحاسم للسياقات التاريخية والاقتصادية والسياسية في تشكيل الإسلام والقرآن، إلا أنّ هذه الثقافوية تتماشى تمامًا مع كون هذا الخطاب يقدّم قراءته «العلمية» للقرآن كالعامل الحاسم في إنتاج الحداثة، ومع كونه ينظر للحداثة كفعل معرفي بالأساس، بعيدًا بالطبع عن مدى دقّة هذه الرؤى في ذاتها.

[12] في هذا السياق يقرأ مبروك نشأة الجامعة المصرية، كمحاولة لتجاوز أزمة الخطاب عبر إيكال مهمّة إثارة الأسئلة الكبرى والتأسيس الفلسفي للحداثة إليها وإلى كلية الآداب تحديدًا. انظر: ثورات العرب، خطاب التأسيس، علي مبروك، ص106.

[13] الفكر العربي وصراع الأضداد، محمد جابر الأنصاري، المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1999، ص92.

[14] رغم أن مصطلحي «العلمانية الإسلامية» و«التأسيس الثاني للنهضة»، يصفان تقريبًا نفس الخطاب ونفس المرحلة من تطور الخطاب الحداثي العربي، إلا أنَّ ثمة اختلافًا بين مدلول المصطلحَيْن لابد من الإشارة إليه، فبينما يعتبر مبروك أن هذه المرحلة هي مرحلة من مراحل تجاوز التلفيق والتجاور والتساكن في الخطاب التنويري العربي نحو تأسيس علاقة بالحداثة وبالإسلام تتحوّل فيها الحداثة إلى أداة منهجية مُشَغَّلَة على الإسلام، فإنَّ محمد جابر الأنصاري يعتبر أنّ هذه المرحلة هي عودة للتوفيقية مرّة أخرى وتراجع للخطاب العلماني والعقلاني، ومرحلة جديدة من مراحل تأجيل الحسم في صراع الإسلام والحداثة، وظنّنا أنَّ هذا الاختلاف ناتج من مساحة الخطاب التي يشير إليها ويفسِّرها المصطلح، حيث إن الأنصاري يُحدّد مرحلة «العلمانية الإسلامية» بفترة صعود التوفيقية وخصوصًا في صورتها الرومانسية، وهو ما يناسب مثلًا خطاب طه حسين في مرحلة «على هامش السيرة»، لكنه لا ينطبق على «مرحلة الشعر الجاهلي» وهي التي تدخل في اصطلاح مبروك «التأسيس الثاني للنهضة»، ونحن نميل إلى استخدام مصطلح «العلمانية الإسلامية» بصورة مُوسَّعة، بحيث يشمل انتقال الخطاب الحداثي من التعامل الداعي للتنوير في قيمه بمعزل عن الانشغال بالإسلام، إلى التعامل الذي ينطلق من عملية تحديث الإسلام ذاته، ليقترب من مصطلح «التأسيس الثاني للنهضة»، لكن في ذات الوقت يتعدّاه ليشمل مرحلة تلوَّن الخطاب باللون الرومانسي في فترة أواخر الثلاثينيات وإلى الستينيات وتمثل ذروتها كتابات العقاد وهيكل وخالد ومحمد خالد والكتابات المتأخرة لطه حسين، بل ربما لأبعد من هذا وفقًا لتحليلات الأنصاري.

[15] النص، السلطة، الحقيقة، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 1995، ص32.

[16] النص، السلطة، الحقيقة، نصر حامد أبو زيد، ص42.

[17]  الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، محمد أركون، ترجمة: هاشم صالح، الساقي، بيروت، ط1، 1999، ص64

[18]  انظر: القراءة الحداثية للقرآن في خطاب نصر حامد أبو زيد، ثانيا: تأسيس مفهوم التاريخية، منشور على موقع تفسير.

[19]  الإسلام بين الرسالة والتاريخ، عبد المجيد الشرفي، دار الطليعة، ط2، 2008، ص57.

[20]  انظر: يوسف الصديق والقراءة الفلسفية لقرآن، طارق حجي، منشورة على موقع تفسير.

[21] الإسلام وضرورة التحديث، فضل الرحمن مالك، ترجمة: إبراهيم العريس، دار الساقي، بيروت، ط1، 1993، ص162.

[22] في مقدمته للترجمة الإنجليزية لكتاب (نقد الخطاب الديني) يُسيِّق الهولندي كارول كيرستن نشأة المقاربات التاريخية للنصّ وللتراث بهزيمة حزيران.

Critique of Religious Discourse, Nasr Hamid Abu Zayd, TRANSLATED by; Jonathan Wright, Yale University Press, 2018,p 2.

[23] إذا كان علي مبروك يعتبر أنّ هزيمة عرابي ودخول الإنجليز مصر يعتبر نتاج لفشل الخطاب واقعيًّا ومُعبِّرًا عن أزمته الأولى التي تحتاج لتأسيس ثانٍ، فإنّ معظم المفكّرين العرب اعتبروا هزيمة حزيران 67 هي النتاج الأكبر لفشل التنوير والتحديث، وأنها التعبير عن خطاب مأزوم يحتاج لإعادة تأسيس، ولعلّ هذا يوافق أيضًا بقية تحليل مبروك لتأدية الجامعة لدورها المطلوب، حيث يعتبر أن الجامعة التي كانت محاولة لتجاوز الأزمة هي نفسها ولدت مأزومة، مما يجعل الخطاب يحتاج إلى تأسيس جديد، وبالطبع هذه الطريقة في تحليل الظواهر تتجاهل الأبعاد الاجتماعية والسياسية والدولية الحاسمة في إنتاج هذه الظواهر، لتحليل للعوامل الدولية والاجتماعية والفكرية لسقوط دولة محمد عليّ ثم دولة ناصر من منظور آخر هو منظور التحليل الاجتماعي للثقافة. انظر: النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث، غالي شكري، بخاصة، نتائج البحث، مقارنة بين عصرين ورؤيا لمستقبل: أ- الخاتمة.

[24] النص، السلطة، الحقيقة، نصر حامد أبو زيد، ص45.

[25] النص، السلطة، الحقيقة، نصر حامد أبو زيد، ص19.

[26]  الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط5، 1994م، ص35.

[27] يشير أركون تحديدًا في دراسته للوحي «لضرورة استخدام كلّ مصادر التفكير والمعقولية الحديثة التي تقدّمها لنا علوم الإنسان والمجتمع من أجلِ زحزحة إشكالية الوحي في النظام الفكري والموقع الإبستمولوجي الخاصّ بالعقلية الدوغمائية إلى فضاءات التحليل والتأويل التي يفتتحها الآن العقل الاستطلاعي الجديد المنبثق حديثًا»، وهي استراتيجية مستمرة في كتابات أركون، حيث يجري تعديلًا على كلّ المفاهيم المتعلقة بالقرآن، القرآن والآية فيجعلها «الظاهرة الإسلامية» و«الظاهرة القرآنية» و«الوحدة النصية المتمايزة» من أجل أن يتخلّص من الحمولة اللاهوتية المشحونة بها هذه المفاهيم. انظر: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الإسلامي، محمد أركون، ترجمة: هامش صالح، الطليعة، بيروت، ط2، 2005، ص27، 75، هامش هاشم صالح في ص119.

[28] فخطاب عبده هو خطابٌ متصارع عليه ويحضر كمرجعية في كثير من الأنوية الأرثوذكسية لكثيرٍ من التيارات، منها التيار الإسلامي المعاصر، كما ينطلق تحليل الحداد، هذا رغم أنّ التمايزات الدقيقة بين الخطابات التحديثية والإسلامية رؤيةً ورهانًا لم تحدث من الأساس إلا بعد عبده! وكما يشير الحداد فإنّ هذه الاستعادات تعدّ نوعًا من السطو على خطاب عبده تتناسى الطبيعة الخاصة له وتسقط عليه تقسيمات وتمايزات لم تحتدّ وتتمايز إلا بعده. يُراجع: محمد عبده، قراءة جديدة في خطاب الإصلاح الديني، محمد الحداد، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2003.

[29] حيث يمكن تقسيم الخطاب الحداثي في علاقته بالإسلام والحداثة لمرحلتين، الأولى: «الخطاب الحداثي الكلاسيكي» (المجاوِر/ المنفصِل/ المعارِض)، والذي يُقدِّم رؤيته للتحديث؛ كمناداة بأهم أفكار الحداثة «العقلانية، الحرية»، وكدعوة لتكريس التحديث السياسي والمعرفي عبر استجلاب المؤسسات الحديثة «البرلمان، الجامعة المدنية، الصحافة» كمؤسسات بديلة للمؤسسات التقليدية، واستحضار النظريات العلمية الحديثة حول نشأة العالم ونشأة الإنسان «نظرية نيوتن، نظرية كوبرنيقوس، نظرية فرويد، نظرية داروين» كنظريات بديلة للسردية الدينيّة التقليدية «نظرية الخلق ومركزية الأرض وتعالي الإنسان»، وهذا في موازاة شبه تامة/ تعارض مباشر لـ«الواقع التاريخي الذي يحياه العرب» وكذا لـ«الإسلام» الذي يُشَكِّل المرجعية الروحية والمعرفية وجوهر التجربة التاريخية ومصدر أنماط التذوُّت لهذه الشعوب، أي في موازاة ومعارضة لـ «التقليد»، وبالتالي فالتحديث في هذه المرحلة كان تحديثًا «فوقيًّا» بمعنى أنه لا يمكن أن يكون إلا مفروضًا من أعلى لا نابعًا من تطوّرات الفكر والواقع العربي «تطوُّر التقليد»؛ مما يجعله ضد حركة التاريخ، وبالطبع -وبالتالي- «سياسويًّا» بمعنى أنه -والحال كذلك- لا يمكن له أن يوجد إلا عبر وجود قوة سياسية حاكمة تتبنّاه وتفرضه ضد الواقع والتاريخ، فهو «تحديث النخبة ضد الأمة» كما يمكن أن نستعير من برهان غليون، و«لا مباليًا/ مجاوِرًا/ معارِضًا/ مُنفصِلًا» عن البنى المعرفية التقليدية التي تؤطِّر الفكر والممارسة، والثانية: مرحلة «محاولة التركيب المُبدِّع» بين حدي معادلة النهوض «الحداثة» و«الإسلام» بدلًا من واقع «المجاورة/ الانفصال» بينهما.

[30] لا يمكن فصل قضية قراءة خطاب عبده وفقًا لمفاهيم الانتقاء والتلفيق والاستعارة والذي أضحى شائعًا في الكتابات حول هذا الخطاب عن عملية السطو المتأخّر على هذا الخطاب ووضعه كمرجعية لخطابات لاحقة عليه ذات إشكالات مختلفة عنه، حيث تفرض عليه رؤية لم تتكوّن إلا بعده تتمثَّل في وجود طريقين متمايزين للنهضة إسلامي وتحديثي قام هو بالتلفيق بينهما، والأهم أنها تفرض عليه تمايز التراث والحداثة في اللحظة التي يبني فيها نَصّه، بحيث يمكن له -وفقًا لهذا- التلفيق بينهما، وهو أمر غير دقيق؛ حيث لا يوجد أيام عبده تراث ولا حداثة بالمعنى الذي نقصده الآن حين نستخدم هذه المفاهيم بل نصوص وأفكار حاضرة عبر «إدماجها تأويليًّا» على ما يصف محمد الحداد، ولم يتح هذا الموقف الانتقائي إلا لاحقًا بعد تمايز التيارين وبعد تمايز المصادر الحداثية ترجمة والمصادر التراثية تحقيقًا، فضلًا عن تبلور ما يسميه الجابري بالاستقلال النسبي لقضية الأصالة والمعاصرة عن كونها مشكلة اجتماعية وواقعية إلى كونها «إشكالية فكرية»، مما يعني أنه لا يمكن الحديث عن تلفيق وانتقاء وتأرجح بين «أصلين» إلا في لحظة لاحقة وربما تمثّل أوجّها مع زكي نجيب محمود، وسيطرة فكرة التلفيق في قراءة خطاب عبده جعلت البعض يقرّها حتى مع الالتفات لما يحتم إعادة النظر فيها، فمثلًا نجد صلاح سالم في كتابه (جدل الدين والحداثة) يتبنّى وصف خطاب عبده بالتلفيق مع كونه يلتفت لكون التمايز بين «المثقف» و«الفقيه» -بما يعنيه هذا في عمقه من تمايز بين طرق الإصلاح ومرجعياته وطبيعته ومداه وأهدافه- حدث بعد عبده، والتلفيق يكون بعد التمايز بالطبع لا قبله.

بالطبع ثمة بعض الدراسات التي استطاعت الإفلات من هذه الترسيمات، فقدّمت لخطاب عبده قراءة ربما تكون أكثر دقّة في تبيّن مواقفه تجاه الحداثة والتراث والعقل والدِّين بشكلٍ يجهد أن يراعي اللحطة الخاصّة لخطاب عبده، ربما أهمها مثلًا قراءة برهان غليون في كتابه (الوعي الذاتي) لخطاب عبده كخطاب لا يوفّق بين الدِّين والعلم، بل يفتح في العقل العربي عبر الإصلاح الديني آفاقًا لتقبّل العلم الحديث، وهو قريبٌ من رؤية الحدّاد في كتابه (محمد عبده، قراءة جديدة في خطاب الإصلاح الديني) -وإن كانت هذه الأخيرة أكثر تدقيقًا- والتي ترى ضرورة قراءة هذا الخطاب وفقًا لآليات «التأويل الإدماجي»، والتي يربطها بالأفق التأويلي قبل الفيلولوجي في عصر النهضة العربي، وهو أفق يجعل التأويل عبارة عن عملية تسييج للآراء التي يحتملها النصّ، في تحليل بارع منه لفكرة الهامش وعلاقته بالنصّ في الكتابات قبل الحديثة. انظر: الوعي الذاتي، برهان غليون، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1992، ص61، جدل الدِّين والحداثة، من عصر التدوين العربي إلى التنوير الغربي، صلاح سالم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 2016، ص390.

[31]  النص، السلطة الحقيقة، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط1، 1995، ص34.

 [32]في الشأن الديني، عبد المجيد الشرفي، ص6، منقول عن إسلام المجدّيين، محمد حمزة، دار الطليعة، ط1، 2007، ص69.

[33]  دراسة مجمل مفاهيم المرجعية الذاتية للقرآن والتي تحيل إلى القرآن ذاته وموضعه ضمن باقي الكتب وصلته بمصدره وبعلاقته بالمجتمع، هي دراسة تعرف اتساعًا كبيرًا في حقل الدراسات الغربية، حيث عمل على اكتشافها عدد من الباحثين مثل دانيل ماديغان وأنجيليكا نويفرت وآن سيلفي بواليفو، ومعظم هذه الدراسات تعتبر أن عملية ظهور سلطة قرآنية قائمة على ارتباط النص بأصل سماوي مفارق، هو أمر مكرّس داخل النص نفسه، فالنص شديد الوعي بسلطته ومرجعيته وقداسته، ودائم الإحالة على ارتباطه بكتاب سماوي مفارق منذ لحظة مبكرة من تاريخ تشكله، على عكس النصوص التي تشكلت مرجعيتها بأثر رجعي، في هذا السياق تقول أنجيليكا نويفرت “«هناك مجموعة من السور الأولى التي تؤسّس علاقةً وارتباطًا بالكتاب السماوي؛ ولذا نجد الآيات [11-16] من سورة عبس تَرِدُ كأنها منبثقة أو مختارة من النصّ الأصلي السماوي: {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس: 11-16]». انظر: وجهان للقرآن، أنجيليكا نويفرت، ترجمة: حسام صبري، منشورة على موقع تفسير، ص23.”،

[34] انظر: الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية، داريوش شايغان، دار الهادي، ط1، 2007، ص25، 98.

 [35]الإنسان الحبري هو مفهوم للسيد حسين نصر يقصد به الإنسان الوسيط أو الجسر أو صانع الجسور بين السماء والأرض، وهو ما يطابق الإنسان في الحضارات التقليدية قبل الحداثة، حيث يعيش الإنسان في عالم له مبدأ ومحور، ويقابله بالإنسان البروميثي وهو إنسان النظرة الحديثة الأرضي منقطع الصلة بالسماء. انظر: الإنسان الحبري والإنسان البروميثي، سيد حسين نصر، ترجمة: محمود يونس، منشورة على موقع منتدى المعارف الحكمية، وهي الفصل الخامس من كتابه (المعرفة والمقدّس)، Knowledge and the Sacred (New York: SUNY Press, 1989).

[36] يدرس دوران في كتابه (الخيال الرمزي)، العلموية الحديثة وآثارها على سيطرة العلامة على الرمز، فيتناول العلموية منذ نشأة الفلسفة الحديثة مع ديكارت الذي رفض الخيال والإحساس كسيّد للخداع، ثم يتتبّع مصير الرمز في المقاربات النفسية والاجتماعية والأنثروبولوجية البنيوية «التحويلية- التي تحول الرمز إلى مرموز دون سرّ»، كما يحاول العودة للوراء للبحث فيما يعتبره جذور معاداة الأيقونة في الحضارة الغربية في بعض النظريات الفلسفية والدينية في العصور الوسطى. للتوسّع: الخيال الرمزي، جيلبير دوران، ترجمة: علي المصري، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1991.

[37] يشير بول تيليش لكون الحقيقة الدينية القائمة في القصص الديني والرموز الدينية لا يمكن مقارنتها أو محاكمتها للحقيقة التاريخية أو العلمية التجريبية؛ حيث إنها تمثّل مستوى مختلفًا من الحقيقة، قائمًا على «تهشيم» العالم «العادي»، سواء الزماني أو المكاني، لإبراز فعال «المقدّس» المتجلي في هذا العالم لإعادة تأسيسه، وهذه الرؤية لمستويات الحقيقة وعلاقتها بصلة الدّين بالعالم الطبيعي وبالتاريخ، تغيب تمامًا عن الرؤية الحداثية، التي تميل سريعًا لإخضاع القصص الديني لأسئلة لا تناسب طبيعته. انظر: بواعث الإيمان، بول تيليش، الفصل (5)، المعنون بحقيقة الإيمان، من ص87 إلى ص113.

[38]  تعتبر أنجيليكا نويفرت أن بُعد التنزيل هو أحد الأبعاد الهامة في فهم مفاهيم القرآن عن ذاته، وتضعه ضمن “مثلث مفاهيمي” تعتبره معبرًا عن رؤية القرآن لذاته وموضعه ضمن الكتب الأخرى وعلاقته بالمجتمع، وهي مفاهيم “الهدى” و”التنزيل” و”البيان”، وفي هذا السياق تقول نويفرت منتقدة تجاهل نصر أبو زيد لـ «التنزيل» -البعد الرأسي للنصّ- في فهم القرآن والمنغرس في مفاهيم القرآن عن ذاته، واقتصاره بدلًا عن هذا على تحليل البعد الأفقي له -القرآن بعد ما تموضع بشريًّا-: إن «القرآن يزعم أنه كلام نزل من لدن مرسِل متعالٍ… فلا يشتمل المشهد فحسب على النبيّ الذي يخاطبه القرآن بصيغة «أنت»، ولا على الأمة التي يخاطبها القرآن بصيغة «أنتم» أو «هم»، بل ثمة متكلم غائب عن المشهد يتكلم بصيغة «أنا» أو «نحن». فأن يتكلّم هذا الغائب منذ البداية ويدّعي منزلة عالية لهي حقيقة تضفي على كلامه بُعْدًا مقدّسًا لا يمكن محوه من التحليل العلمي»، الدراسات القرآنية والفيلولوجي التاريخ النقدي، انطلاق القرآن من التراث الكتابي وتغلغله فيه وهيمنته عليه، أنجيليكا نويفرت، ترجمة: محمد عبد الفتاح، ص10، موقع تفسير

[39]  الموقف من معيارية الوحي والنصّ الديني، وعلاقة مناشط المجتمع مثل المعرفة والسياسة والموقف من القيم بالوحي هو -كما يقول الفيلسوف عادل ضاهر- جوهر دلالة «العلمنة الصلبة»، وأساسها الفلسفي الذي يتجاوز المسائل التاريخية والسياسية -مثل الخلاف مع الإكليروس، وجود طبقة إكلريكية من عدمه- والتي لا ترتبط بالعلمنة إلا على مستوى العرض لا الجوهر، النتيجة والمعلول لا السبب والعلة، في هذا الإطار يثمّن ضاهر التفات أنطون سعادة ومحمد أركون من بين المفكّرين العرب لهذه الدلالة الفلسفة العميقة للعلمنة، والتي تدرك كونها موقفًا إبستمولوجيًّا مختلفًا للعقل وموقفًا أنطولوجيًّا وإيتيقيًّا مغايرًا، إننا هنا في ذات الجدل بين الفلسفي والتاريخي، الجوّاني والبراني، العلّة والمعلول. انظر: الأسس الفلسفية للعلمانية، عادل ضاهر، دار الساقي، بيروت، ط2، 1998، ص38، 39.

[40]  انظر: القراءة الحداثية للقرآن في خطاب نصر أبو زيد، ثانيا: تأسيس مقولة التاريخية، طارق حجي، موقع تفسير.

[41]  نقد الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط2، 1994، ص82.

[42]  للتوسع، يراجع: يوسف الصديق والقراءة الفلسفية للقرآن، طارق حجي، موقع تفسير

[43]  انظر: الهرمنيوطيقا، الكتاب والسنة، محمد مجتهد شبستري، ترجمة: حيدر نجف، التنوير، لبنان، ط1، 2013، الفصل الرابع عشر: النصوص الدينية ورؤية النقد التاريخي، ص149-155.

عن طارق حجي

شاهد أيضاً

توظيف علم الدلالة المعجمي في حقل التفسير القرآني

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

العنوان: توظيف علم الدلالة المعجمي في حقل التفسير القرآني

المؤلف: عبد الرحمن طعمة

في إعجاز القرآن

محمد الطاهر بن عاشور

لم أر غرضًا تناضلت له سهام الأفهام. ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى، مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن، فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.