في علم الاقتصاد الإسلامي:
صياغة إسلامية لجوانب من دالة المصلحة الاجتماعية
ونظرية سلوك المستهلكين*
د. محمد أنس الزرقا**
لقد كان هناك كم هائل من الكتابات في الخمس والعشرين سنة الماضية بالنسبة للمجالات الاقتصادية الواسعة للنظام الإسلامي. وقد سارت هذه الكتابات في ثلاث اتجاهات رئيسية:
(أ) المقارنات التي تضع أمامنا تلخيصًا واسعًا للنظام الاقتصادي الإسلامي إزاء الرأسمالية والاشتراكية.
(ب) نقد النظم والفلسفات الاقتصادية غير الإسلامية.
(ج) بعض الشروح حول إحدى المسائل الاقتصادية، مثل الربا (الربا والفائدة)، وما يتصل بذلك.
إن الأستاذ محمد المبارك، المفكر المرموق والمراقب المرهف الملاحظة في مجال الفكر الإسلامي، قد عبر حديثًا عن الرأي بأن ما كُتب بالنسبة للنقطتين (أ) و (ب) يعتبر كافيًا، وأنه قد حان الوقت للتعمق في النظام الاقتصادي الإسلامي ذاته، وفهم خصائصه تمامًا ومنحه صياغة حديثة. وإنني أؤيد هذا الرأي، وآمل أن يكون هذا البحث خطوة في ذلك الاتجاه.
قضايا منهجية
هل من الممكن قيام علم اقتصاد إسلامي؟
إن علم الاقتصاد، كما أكدنا كثيرًا، هو علم واقعي. في حين أن الإسلام باعتباره دينًا، يعد معياريًا في المرتبة الأولى… وقد يصل أحدنا إلى الاستنتاج أنه ليس من الممكن قيام علم اقتصاد إسلامي ذي معنى أكثر من إمكانية قيام علم رياضيات إسلامي أو علم فيزياء ذرية إسلامية.
إنني سوف أقدم مناقشتي هنا موضحًا إمكانية قيام علم اقتصاد إسلامي متميز ذي معنى، وأن ذلك ليس من الممكن فحسب، بل إنه من الضروري. وباختصار فإن وجهة نظري هي أن علم الاقتصاد لا يخلو من الأحكام التقييمية، وأن الإسلام أيضًا لا يخلو من التأكيدات الواقعية التي تتحدث عن الحقيقة الإسلامية. إذن نستطيع الاستعاضة عن الأحكام التقييمية غير الإسلامية ببديلتها الإسلامية، ثم نضيف التأكيدات الإسلامية الواقعية، ثم نستخلص النتائج.
ولكن تلك المهمة في الواقع تعد أكثر سهولة من الناحية النظرية عنها من الناحية العملية، فهي ليست بأقل من بناء نظرية جديدة تقريبًا. ولكنه يجب علينا باعتبارنا مسلمين أن نأخذ ذلك على عاتقنا لو أننا أردنا الإسهام في حل المشاكل الإسلامية الحقيقية بواسطة حلول نابعة من الإسلام، وإذا كنا نرغب في إبطال صفتنا “كناقلين تلقائيين” للعلوم الاجتماعية الموجودة حاليا.
الأحكام التقييمية في النظرية الاقتصادية:
إن علم الاقتصاد كما ذكرنا، هو علم واقعي، وقد اتسم بتلك الصفة بعد أن تخلص من جميع ظلال الأحكام التقييمية التي كانت تنسب إليه في بعض الأحيان. ولكننا الآن نؤمن على نحو متزايد أن مجال الاقتصاد ينتابه الكثير من تلك “الظلال الكامنة”. وهكذا فإن القيم المتضمنة به هي:
(أ) الاختيار بين المتغيرات والافتراضات: تختلف الحقيقة الاقتصادية كثيرًا تبعًا للزمان والمكان، أي أنها تتأثر بالكثير من المتغيرات، ويستلزم ذلك معاينة المتغيرات التي تبدو وثيقة الصلة بالظاهرة التي نقوم بدراستها، وعادة ما تكون تلك المتغيرات كثيرة في عددها، وغالبًا ما تكون ذات طبيعة غير اقتصادية. وسوف نقوم بتصنيف تلك المتغيرات في ثلاثة أنواع:
– غير وثيقة الصلة بالظاهرة.
– خارجة عن الظاهرة، أي أنها تؤثر عليها بدون أن تتأثر بها.
– متغيرات باطنية النمو تتفاعل بعضها مع البعض وتتأثر بالمتغيرات الخارجية، وتلك هي المتغيرات التي تعتبر هامة بالنسبة للشرح والتنبؤ.
وهكذا، فإن اختيار المتغيرات وتصنيفها والمشكلات اللاحقة التي تواجهها ونضع لها حلًا نظريًا أو تجريبيًا ليس من الممكن إلا أن يتأثر بثقافة ومعتقدات الباحث، كما يتأثر بمخاوفه المتعلقة بالإنسانية والمجتمع.
(ب) اختيار الأساليب: يكشف أي أسلوب للبحث في المجالات النظرية أو التجريبية عن تصور معين للكون، ويشجع على تأكيد أشياء معينة.
فإن الأساليب الكمية مثلًا توجه الأهمية للأشياء المعرفة جيداً، والقابلة للقياس بسهولة وبدون تكلفة. وسوف تحوز مثل تلك الأساليب في العلوم الاجتماعية على نجاح أكبر “لو كان الباحثون راغبين فقط في تحديد اختيارهم بأسلوب معقول ومدروس بترو، وقائم على أساس ميزان محدد الأوجه وسهل القياس” وتحظى المشاكل والمفاهيم التي يمكن معاينتها في نطاق ذلك الإطار بأقصى الاهتمام المهني على حساب المشاكل والمفاهيم الأخرى. ويمكننا استخدام طرق بديلة للبحث قد تكون مرغوبًا فيها في مجالات معينة.
(ج) اختيار الغايات والوسائل: إن بعض المفاهيم الهامة في الاقتصاد تصبح ذات معنى فقط بعد تحديد هدف أو غاية معينة. ويعتبر مثلاً مفهوم الناتج القومي الإجمالي مقياسًا للإنتاج، ومقياسًا للعمل والرخاء، ذلك لأنه يقوم على أساس أحكام تقييمية معينة.
الاستنتاج: وهكذا، فإنه يوجد العديد من النواحي في النظرية الاقتصادية تقوم فيها الأحكام التقييمية بدورٍ حاسم، وفي مثل تلك النواحي نستطيع أن نسهم نحن المسلمين بطريقة مميزة نابعة من إسلامنا.
ونحن لسنا في حاجة إلى للقول بأن العديد من مجالات الاقتصاد هي واقعية بالفعل وليس من الممكن تغييرها سواء كان ذلك الإطار إسلامي أو غيره من الأطر (مثل الشروط من الدرجة الأولى والثانية للحصول على كمية معينة من الإنتاج بأقل تكلفة، عند معرفتنا عوامل الأسعار ودالة الإنتاج).
بعض التعبيرات الاقتصادية الواقعية في القرآن:
إن الإسلام لا يخلو من العبارات الاقتصادية الواقعية بالرغم من أنه يعتبر معياريًا في المرتبة الأولى. وتصور لنا الآيات التالية من القرآن هذه الفكرة. وتشير تلك الآيات إلى نزعات طبيعية معينة في الإنسان في “حالته البدائية”. ويقدم لنا الدين تأثيرات كابحة وملطفة.
(أ) {ولو بسط الله الرزق لعباده لبَغَوا في الأرض ولكن ينزل بقدرٍ ما يشاء إنه بعباده خبير بصير} (42-67). تصف تلك الآيات أحد آثار ازدياد الرخاء المادي على السلوك.
(ب) {إن الإنسان خلق هلوعا*إذا مسه الشر جزوعا*وإذا مسه الخير منوعا. إلا المصلين…} (70-19-22). إن الإنسان يرفض المشاركة حتى إذا كان يتمتع برخاء متزايد.
(ج) {زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب} (3- 14).
{وإنه لحب الخير لشديد} (100 – 8). لقد صور الإنسان بأنه شديد الولع والنهم للثروة. إن كلمة الخير تعني كل شيء مفيد ونافع، وهكذا فهي تتضمن الثروة ولكنها لا تقتصر عليها إطلاقًا ويصور الإنسان بأنه يتحمس دائمًا لمصلحته الخاصة.
(د) {وكان الإنسان عجولا} (17 – 11). وتؤكد العديد من الآيات الأخرى الفكرة العامة أن معدل إسقاط الإنسان للزمن من اعتباره هي فوق الصفر.
ومن الممكن أن نذكر العديد من الآيات القرآنية الأخرى، ونستطيع أن نستشهد بالحديث أيضًا، ولكن ما قدمناه من الأمثلة يكفي لنقل فكرة أن العبارات الاقتصادية الواقعية ليست قليلة في الإسلام.
العبارات المعيارية التي تعتبر واقعية تقريبًا والعكس بالعكس:
يوجد اختلاف بين العبارات الواقعية والعبارات المعيارية. وبالنظر إلى التصور الشائع بأن الوصايا الدينية تكون عادة معيارية، فإنني أجد من الهام بالنسبة للعالِم الاقتصادي المسلم أن يدرك أن مثل ذلك التمييز يكون مضللاً في بعض الأحيان بشكل خطير، ومن الضروري أن نقدم مثلا.
إننا سوف نرمز للتعبيرات المعيارية في هذا المثل بالحرف “م” وللتعبيرات الواقعية بالحرف “و”… وإن التعبيرات الواقعية فقط هي التي من الممكن أن تكون على صواب أو خطأ.
لقد رُوي أن أحد السياسيين من شمال أفريقيا قد أعلن بطريقة فظة ما يلي:
و1- “أن الصوم في رمضان يخفض المجهود ومن ثم الإنتاج”.
م1- “إن الحصول على قدر أكبر من الإنتاج يعد هدفا قوميا حيويًا”.
م2- “لذلك، فإن الصوم يكون ضد المصلحة القومية في مثل تلك البلدان الفقيرة”.
ولنستكمل الصورة ببعض العبارات الأخرى:
م3- {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} (2- 183).
و2- {... لعلكم تتقون…} (2- 183).
(لاحظ أن هذه الآية القرآنية تعد “م” جزئيا و “و” جزئيا”.
ونظرا إلى الاعتقاد الشائع بأن (و1) يرجح صحتها، فإنه من الواضح أن هؤلاء الذين يقبلون (م1) (ولعل م2 أيضا) ولا يزالون عازمين على الصوم (م3) إنما يعبرون عن حكم تقييمي بأن طاعة الله أهم من بعض الخسارة في الإنتاج. ولكنهم يجدون أن عليهم أن يكونوا دائمًا في موقف دفاعي، ومن المرجح أنهم لن يشعروا بالراحة أو السعادة.
و3- لقد ذكر السكرتير العام للأمم المتحدة في مذكرة عن منع الجريمة وكبحها (19 سبتمبر 1973) أن “الكثير من البلدان تواجه مشكلة الرشوة والفساد الأخلاقي، التي تمثل تكلفة اقتصادية خطيرة الأبعاد”.
و4- بالنظر إلى (م3) و (و2) يستطيع الإنسان أن يفكر بطريقة منطقية بأن الصيام يؤدي إلى خشية الله، التي تؤدي بدورها إلى تحسين المعايير الأخلاقية وتقليل الفساد والإهمال، وهكذا فإنه يؤدي في النهاية إلى زيادة الإنتاج.
لنفترض الآن أننا قد طبقنا بحثًا منظمًا للتحقق من (و1) و (و4) ووجدنا أن كليهما حقيقي- (و1) حقيقة في رمضان و (و4) حقيقة في الشهور الأخرى، وقدرنا آثارهما الكمية على الدخل القومي كل على حدة. ولنفترض أيضًا أن الجميع يقبلون م1:
إذا اتضح أن للصيام تأثيرًا سلبيًا على الإنتاج، حينئذ فإن أية من العبارات السابق ذكرها لن تتغير طبيعتها من م إلى و، أو العكس بالعكس.
ولكن لو اتضح أن للصوم تأثيرًا إيجابيًا على الإنتاج، فإنه سوف تحدث حينئذ الكثير من التغيرات الأساسية:
و1 سوف يخف وقعها كثيرًا بواسطة و4.
م2 سوف تصبح واقعية وخاطئة.
م3 سوف تصبح ما أطلق عليه عبارة “مختلطة” معيارية ولديها عنصر واقعي قوي، أو العكس بالعكس.
فلنقرأ الآية القرآنية بأكملها: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} {وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون” “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (2- 182- 84)
استنتاجات حول المنهج:
إن ما نصنفه غالبًا كعبارة معيارية مع التلميح في بعض الأحيان إلى أن المعنى المضاد قد يكون صحيحًا بنفس الدرجة يعتبر دليلًا على معلوماتنا أو على نقص هذه المعلومات. ويعتبر ذلك صحيحاً بصفة خاصة بالنسبة لجميع “الأوامر” و “النواهي” التي نجدها في الإسلام، فهي “عبارات مختلطة” تبدو معيارية “ظاهريًا” ولكنها مفعمة بنتائج واقعية. إن أعمال العبادة كثيرًا ما تبدو أنها معيارية.. ولكنها أيضًا تعد أمثلة رئيسية للعبارات المختلطة.
إن السلوك الاقتصادي للإنسان وما عداه يتأثر من بين أشياء أخرى بنظرته للحياة، ومعتقداته ومعاييره الأخلاقية، ولذلك فإن كل ما يؤثر على تلك المتغيرات يجب بالضرورة أن تترتب عليه نتائج اقتصادية بعيدة المدى.
لقد أكد بعض العلماء الاقتصاديين بشدة وجهة النظر التي تعطي أهمية عظيمة للتمييز بين العبارات المعيارية والواقعية، وإن أي إغفال لذلك التمييز يكون من الممكن تبريره فقط في الحالات النادرة التي نعمد فيها إلى إنفاق الوقت والمال للتحقق من العبارة قبل أن نقبلها. ومع ذلك فإن الوضع في الحياة الواقعية يختلف تمامًا. فإننا في الممارسة العملية دائمًا نقبل العبارة الواقعية وندعو الآخرين لقبولها بدون أن تكون لدينا أقل نية أو وقت أو مال للتحقق منها. لقد صرح ذلك السياسي من شمال أفريقيا بتلك العبارة وهو يعلم تمامًا أن أي شخص لن يقدم على محاولة دحضها بالرغم من أنها قابلة للدحض.
إنه من الملائم هنا أن نتذكر كيف يعلمنا الإسلام أن نتدبر وصاياه.
أولًا: إنه ليس هناك ادعاء بأن ما هو محرم يعد شيئا سيئًا تمامًا وما هو مفروض يعد شيئًا حسنًا تمامًا. ولكن الأمر، مثلما عبر عنه الشاطبي، هو أن كل وصية إسلامية يكون لديها في نفس الوقت تأثيرات مرغوب وغير مرغوب فيها، وأن الإسلام يضع قواعده على أساس التأثيرات الغالبة. وللحصول على مَثَل واضح بالنسبة لتلك الفكرة، نستطيع أن نقرأ الآيات القرآنية 2- 219 و 5- 90 المتعلقة بشرب الخمر، والميسر 9.
ثانيًا: لو كانت للإنسان معرفة ملائمة بالنسبة للنتائج المباشرة وغير المباشرة لأفعاله واتجاهاته… على كل من المدى القصير والطويل… لما كان هناك معنى لانشغال الدين بالأمور الاجتماعية. ولكن معرفة الإنسان في ذاتها لا تكفي. إن الله العليم الحكيم، نظرًا لاهتمامه بصالح الإنسان، قد زوده بعلامات وإرشادات حتى يوفر عليه الخسارة الفادحة إذا سقط ضحية لقصور معرفته أو أوهامه وانفعالاته.. وإن الغرض من ذلك الإرشاد الإلهي هو توجيه الإنسان إلى الوجهة السليمة في مساعيه الاجتماعية أو الفكرية، ولكنه لا يعني إحباط أو استبدال مثل تلك المساعي التي تشكل جزءًا هامًا من رسالة الإنسان في الحياة.
لقد زودنا الله بنوع من الخريطة المصغرة التي يقيم الإنسان أعماله على أساسها. ولو كانت للإنسان معرفة كاملة خالية من النزعات، لتوصل إلى استنتاجات مماثلة لوصايا وإرشاد الله.
لقد تم تأييد ذلك الأسلوب الفكري بواسطة عدد كبير جدًا من الآيات القرآنية حتى إننا لنعجز عن تقديمها هنا. أنظر على سبيل المثال في الآيات 2- 184 عن الصيام، 2-219-22 و 4-25-28 عن الزواج، 2-219 عن شرب الخمر والميسر، 2، 102 عن السحر، و 2-10-13، 4-83، 22-47، 23-1، 28-43-47، 28-50-51، 30-41 عن العديد من الأفكار العامة.
القضايا الفلسفية
الأسس الفلسفية لعلم الاقتصاد الكلاسيكي المحدث:
إن عنوان ذلك القسم يكون بلا معنى لو أقر الإنسان بدون تحفظ بالرأي السائد بين العلماء الاقتصاديين، وهو أن النظرية الاقتصادية الرئيسية تعد محايدة بالنسبة للقيم، ولذلك فإنها يمكن تطبيقها في أي مجتمع، وأنها مبدئيًا تستطيع أن تخدم معظم الغايات السياسية. إنني لا أؤمن تماماً بصحة هذا الرأي، وآمل أن تبرهن مناقشات هذا البحث على ذلك.
ويمكننا أن نلخص رؤية العلماء الاقتصاديين المنفصلة عن الدين، تلك التي صاغوا أفكارهم بالنسبة للكون في نطاقها فيما يلي:
إن الإنسان كائن (ليس حيوان) من نتاج الطبيعة، وإن وجوده ليس في حاجة لأن يكون له أي معنى أبعد من ذلك، إنه موجود بكل بساطة وهذا هو الأمر.
إن الإنسانية هي الحقيقة النهائية، وإن أهمية الحياة وأهدافها النهائية، لو كانت هناك أي منها، يجب السعي إليها في نطاق الحياة ذاتها وليس فيما وراءها.
إن كمال الجنس البشري من الممكن التوصل إليه بدون العَون الإلهي.
ويمكننا تلخيص التصور التقليدي التحرري للإنسان في أربعة مبادئ: المتعة، والعقلانية، والفردانية، والحرية.
وتتمثل المتعة، في مبدأ جيرمي بنثام للمتعة- والألم، وهو: إن الإنسان يقع تحت سيطرة عاملين رئيسيين، هما الألم والمتعة، وتعتبر المتعة هي الغاية العليا في الحياة. إن الإنسان كسول بطبيعته، أي أنه يكره بذل الجهد ويعتبره شيئًا مؤلمًا بالنسبة له.
وتعني العقلانية التكيف وفقًا للوسائل والغايات، واللجوء إلى الاختيار المتأني بين الأشياء البديلة سعيًا وراء إشباع حاجات الإنسان.
الفردانية هو تأكيد ضرورة الانفصال والاستقلال الذاتي لكل فرد عن غيره من الأفراد، وتكون النتيجة هي إقرار القيم عن طريق العمليات الداخلية للكائن الحي الإنساني.
أما الحرية فهي تعني تأكيد حرية الإنسان التامة في شكلها الأولي، وأن التقييد الرئيسي لتلك الحرية ينبع من أساليب تأهيل الفرد للعيش في المجتمع مع الآخرين، الذين يكونون أحرارًا بدرجة متكافئة. “وهكذا، فإن كل فرد يعتبر إنكاراً لحرية الآخرين”.
الافتراضات الكلاسيكية وسلوك المستهلك:
يفترض العلماء الاقتصاديون أن الدافع الرئيسي القوي للفرد المستهلك هو الرغبة في الاستهلاك الشخصي والحصول على الراحة. ويفترض أيضاً أن تلك الرغبة لا يمكن إشباعها، وأن المستهلك يحاول إشباعها إلى أقصى حد ممكن بما يتناسب مع العقل.
وليس من العصب أن نرى الصلة بين افتراضات العلماء الاقتصاديين بالنسبة لدالة المنفعة للمستهلك وبين مبادئ الفردانية والحرية (إن دالة المنفعة تلخص الأساليب التي يتأثر بمقتضاها إشباع حاجات الفرد عن طريق استهلاكه للبضائع المختلفة).
وهكذا إنه يتم تجميع كل العوامل غير الاقتصادية التي تؤثر على سلوك المستهلك وإعطاؤها اسم يتسم بالمهارة بحيث لا يستطيع أي شخص التدخل فيه وهو: الأذواق. وتعتبر الأذواق بالنسبة لصلتها مع دالة المنفعة كمتغيرات خارجية، وهكذا تستطيع التأثير في سلوك المستهلك بدون أن تتأثر بسلوك المستهلكين الآخرين. ولا تتضمن الأذواق الخصائص الديمغرافية وغيرها من الصفات الشخصية للمستهلك فحسب، ولكنها تتضمن أيضاً معتقداته وقيمه الأخلاقية، وتلك هي أكثر الأشياء أهمية بالنسبة لنا. ومن الممكن أن تتمثل تلك القيم في أي شيء، ولكنها لا يجب أن تكون شاذة للغاية إلى حد التعارض مع الافتراضات الآنف ذكرها، أو الافتراض النهائي الذي يمثل الأنانية الذاتية: أي استقلال المنفعة الفردية عن منفعة الآخرين.
ولكننا يجب ألا نغفل ذكر أن عدداً كبيراً جداً من العلماء الاقتصاديين قد قدموا اعتراضاتهم بالنسبة لافتراض استقلال المنافع، ومع ذلك استمروا في استخدامه في تحليلاتهم.
المعتقدان الإسلاميان وثيقا الصلة بالسلوك الاقتصادي:
يوجد الكثير جداً من المعتقدات الإسلامية وثيقة الصلة بالسلوك الاقتصادي حتى إننا لنعجز عن ذكرها جميعًا هنا. والآن، وسوف أبرهن هنا على قوة الصلة بين اثنين من تلك المعتقدات: أن الله هو المالك، وأن الحياة اختبار.
الله هو المالك:
إن فهم فكرة الملكية في الإسلام يشكل واحداً من أسس السلوك بالنسبة لكل من المستهلك والشركة.
عندما يولد الإنسان فإنه –إذا استخدمنا التشبيه- يدعى إلى مائدة الكون الواسع الذي أعده الله للإنسان. ولا تتضمن تلك المائدة الأشياء المادية على وجه الأرض وفي الكون فحسب، ولكنها تتضمن أيضاً القوانين الطبيعية (قوانين الله)، وجسم الإنسان ذاته، ومشاعره، وقدراته العقلية…الخ. إن جميع تلك الأشياء هي خلق الله وملكيته بمفرده.
إن الشيء الوحيد الذي يستطيع الإنسان أن يدعي عن حق أنه “يخصه” هو إرادته التي وهبها الله له “الحرية”. إن ما يحصل عليه الإنسان أو يكتسبه في الحياة الدنيا، سواء بطريقة فردية أو جماعية، يعد نتيجة لاستخدام إرادته في انتهاج الطريق الصحيح، وترك قوانين الله تقوم بالعمل في نطاق ملك الله. وحتى عندما يحصل الإنسان على شيء من عرق جبينه، فإنه في الحقيقة يوجه إرادته لاستخدام جسده ومشاعره، التي تعتبر خلق الله وملكيته، وفي تلك العملية يستخدم الإنسان الطعام ويتنفس الهواء الذي يعد من ممتلكات الله، وإن أي شيء يمتلكه الإنسان في المفهوم التقليدي القانوني، يُعَد شيئاً قد سمح له بأن “يحوز عليه” بالرغم من كونه ملكية شرعية لله.
{له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى} (20-6)
وسوف يشعر الإنسان بالإجلال والشكر، سواء كان هو المنتج أو المستهلك، عندما ترسخ في قلبه فكرة أن الله هو المالك، لأن الله قد وضع جزءاً من ثروته في عهدته. وحينئذ سوف يميل الإنسان إلى الاعتراف بحق الله في وضع الحدود الملائمة بالنسبة له للتمتع بالثروة واستخدامها، وأيضاً الاعتراف بحق الله في تعيين أشخاص آخرين أو تعيين المجتمع ليكون المطالب الشرعي بنصيب في تلك الثروة.
{آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير} (57- 7)
{… وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} (24-33)
الغرض الأوحد للحياة: اختبار الإنسان:
{تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا…} (67- 1: 2)
إن الحياة تعد بمثابة اختبار ولكننا لا نمر به جميعاً بطريقة متساوية، ومما يتفق مع العدل، فإننا أيضاً لا نحاسب بطريقة متساوية في يوم الحساب. ويقول الله {… فضلنا بعضهم على بعض} (17-21)، وذلك في كثير من النواحي: في المقدرة العقلية والبدنية، وفي البيئة المادية والاجتماعية، وفي القوة والمعرفة والثروة…الخ. وتكون بعض هذه الأشياء متوارثة وبعضها مكتسب بالجهد، وبعضها يجيء تبعاً للظروف، ولكن كل فرد سوف يكون مسئولاً أمام الله بالنسبة لجميع الأشياء التي فُضل فيها على الآخرين، وفي يوم الحساب سوف يُحاسب كل فرد.. عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به.
{وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} (6- 165).
ونستنتج حينئذ إن أي شيء يستخدمه الإنسان (كمستهلك أو منتج) لا يخلو من الالتزامات الأخلاقية حتى إذا كان خالياً من الالتزامات الاقتصادية. وإن ما يجب أن يقدمه مقابل ذلك هو الشكر للخالق المالك، أي أننا يجب أن نكون منتبهين لله في استخدامنا لتلك الأشياء، ونشارك في ثمراتها أصحاب الحق الشرعيين الآخرين.
إعادة اكتشاف دالة إسلامية للمصلحة الاجتماعية
إن دالة المصلحة الاجتماعية التي يتمنى الاقتصاديون المحدثون التوصل إليها قد صيغت قبل حوالي 800 سنة صياغة أصلية من قبل مفكرَين وفقيهَين مسلمَين هما الإمام أبو حامد الغزالي (المتوفى سنة 505هـ)، والإمام أبو إسحق الشاطبي (المتوفى سنة 700هـ)[1]. فالإمام الغزالي هو الذي قدم الصياغة الأصلية، ثم وسعها الشاطبي وشرحها وطورها إلى حد بعيد، وهناك عدد من الخلاصات الممتازة لأفكار هذين الإمامين في كتابات عدد من الفقهاء المعاصرين كالأستاذ المرحوم محمد أبو زهرة، والأستاذ مصطفى أحمد الزرقا الذي سأعتمد على تلخيصه في هذا البحث، والأستاذ المرحوم عبد الوهاب خلاف، والدكتور محمد معروف الدواليبي[2].
وإنني مدين لوالدي الأستاذ مصطفى الزرقا بإيضاحات مستفيضة جرت خلال مناقشات عديدة لهذا الجزء من البحث، وقد تفضل بتدقيق الأمثلة المبينة هنا والتي قدم عدداً منها، ولم أتردد استناداً إلى معونته في أن أعطي عند الضرورة أمثلة حديثة لإيضاح أفكار الإمامين الغزالي والشاطبي.
ما المقصود بدالة المصلحة الاجتماعية[3]:
يحسن البدء بشرح المعنى الرياضي للدالة، أية دالة كانت، ثم إيضاح المقصود بدالة المصلحة الاجتماعية، وبعد ذلك التعرف على تصور إسلامي لها.
إذا كان هناك متغير تابع (مثلا: درجة حرارة غرفة ولنرمز لها بالرمز: ح) تؤثر عليه بعض المتغيرات المستقلة (مثلاً عدد ساعات تشغيل المدفأة: س، ودرجة حرارة الجو الخارجي: د) فإننا نقول بأن (ح) دالة (أو تابع) للمتغيرين (س) و (د)، فمتى علمنا قيمة المتغيرين المستقلين أمكننا أن نستنتج قيمة (ح) أي درجة حرارة الغرفة.
وأحياناً يمكن التعبير عن دالة ما بصيغة رياضية محددة أي بمعادلة، لكن هذا لا يُشترط لوجود الدالة، بل يجوز التعبير عن الدالة بكلمات أو بأنظمة مكتوبة أو بقواعد منطقية، فمثلا قيمة الطوابع الواجب إلصاقها على طرد بريدي هي دالة لثلاث متغيرات مستقلة هي: البلد المرسل إليه، ووزن الطرد، وطريقة الإرسال بالجو أو بالبريد العادي. فمتى عرف موظف البريد وزن الطرد (وهو متغير مستقل قابل للقياس)، والبلد، وطريقة الإرسال (وهما متغيران مستقلان يعبر عنهما عادة بوصف وليس برقم) رجع إلى الدالة (وهي هنا أنظمة البريد المكتوبة) فاستنتج قيمة المتغير التابع أي قيمة الطوابع الواجب إلصاقها على الطرد البريدي.
إن الدوال (جمع دالة) في المثالين السابقين تجمعها على اختلافها صفة مشتركة وهي أن المتغير التابع في كل منها (درجة الحرارة، قيمة الطوابع) يعبر عنه بقيم عددية، وتسمى مثل هذه الدوال: دوال عددية “cardinal function” تمييزاً لها عن الدوال الترتيبية “ordinal function” ذات الأهمية الخاصة في النظرية الاقتصادية.
والدالة الترتيبية تختلف عن الدوال العددية التي ذكرناها في أنها لا تعطينا قيمة عددية للمتغير التابع بل تعطينا له ترتيباً “order” نستنتج منه ما إذا كان التابع قد ازداد أو نقص عما كان عليه. ومن الأمثلة على هذه الدوال الترتيبية: دالة المنفعة للمستهلك، ودالة المصلحة الاجتماعية التي سنوضحها بمثال.
إن دالة المصلحة الاجتماعية إذا كانت محددة ومعروفة فهي تسمح لنا بمعرفة ما إذا كانت مصلحة المجتمع تزداد أو تنقص في حالة انتقالنا من وضع اجتماعي معين إلى وضع آخر، ولنفترض كمثال مبسط أن مصلحة مجتمع ما (ص) دالة لثلاث متغيرات مستقلة هي: متوسط دخل الفرد، ونسبة الفقراء بين مجموع السكان، وعدد شاربي الخمر، ولنفترض أن علينا اختيار أحد الأوضاع الاجتماعية التالية:
الوضع | دخل الفرد | نسبة الفقر | شاربوا الخمر | المصلحة الاجتماعية |
الأول | 1000 ليرة | 20% من السكان | 12 ألف شخص | ص 1 |
الثاني | 1500 ليرة | 19% من السكان | 20 ألف شخص | ص 2 |
الثالث | 900 ليرة | 12% من السكان | 5 آلاف شخص | ص 3 |
إن دالة المصلحة الاجتماعية يجب أن تعطينا ترتيباً لقيم (ص) يبين أي الأوضاع المبحوثة أفضل.
ففي مجتمع يركز جل اهتمامه على زيادة دخل الفرد ولا يكترث بنتائج شرب الخمر نتوقع أن تعطينا دالة المصلحة الاجتماعية فيه الترتيب التالي:
ص2 أفضل من ص1 أفضل من ص3 ونرمز لذلك: ص2 > ص1 > ص3، وفي مجتمع ثان يقيم وزناً كبيراً لمكافحة الفقر والقضاء على آفة شرب الخمر قد يعتبر الوضع الثالث (الذي تنخفض فيه نسبة الفقراء ويقل عدد شاربي الخمر) هو الوضع الأفضل رغم أن الوصول إليه يقتضي التضحية ببعض الدخل، ودالة المصلحة الاجتماعية في هذا المجتمع الثاني تعطينا الترتيب الآتي:
ص3 أفضل من ص1 أفضل من ص2
ص3 > ص1 > ص2
ويعني ذلك عملياً تبني السياسات الاقتصادية والإجراءات العامة التي تكفل الوصول إلى ص3.
دالة إسلامية للمصلحة الاجتماعية:
قبل أن نستعرض أركان هذه الدالة الإسلامية حسبما صاغها الإمامان الغزالي والشاطبي، لا بد أن نقرر هنا نقطة البدء لهذا الموضوع وهي: أن الإسلام يرسي أهدافاً معينة للحياة البشرية، فكل الأمور (سواء أكانت أعمالاً أو أشياءً) التي تساعد على تحقيق هذه الأهداف تدعى مصالح أو منافع، لأنها تزيد أو تفيد النفع الاجتماعي، وعكسها المفاسد أو المضار.
لقد استعرض هذان الإمامان تعاليم الإسلام والأوامر والنواهي التي تضمنها القرآن الكريم والحديث الشريف وتوصلا إلى النتيجة التالية:
إن المصالح الاجتماعية في الإسلام لها ثلاثة مستويات: الضروريات، والحاجيات، والتكميليات (وتسمى أحيانا التحسينيات).
الضروريات: الضروريات تشمل كافة الأفعال والأشياء التي تتوقف عليها صيانة الأركان الخمسة للحياة الفردية والاجتماعية الصالحة بنظر الإسلام، وهذه الأركان هي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وصيانة هذه الأركان من أول مقاصد الشريعة، فتشمل الضروريات كافة التصرفات التي لا بد منها للحفاظ على هذه الأركان الخمسة، وكذلك الأوامر والنواهي المتعلقة بهذه التصرفات مثل:
- إقامة الواجبات الإسلامية الأساسية وهي الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج والدعوة في سبيل الله، وهذه تتعلق بالركن الأول وهو الدين.
- حرمة النفس الإنسانية وما يتصل بذلك من أوامر ونواه، وإباحة بل وإيجاب الأكل والشرب والملبس بما يصون الأبدان ويستر السوءات، واتخاذ المسكن، وما يتصل بمثل هذه الأمور كالبيع والشراء. وهذا يتعلق بالركن الثاني وهو حفظ النفس.
- تحريم الخمر وسواها من المواد التي تحجب العقل والإدراك.
- مؤسسة الزواج وما يتصل بها من أحكام كتحريم الزنا.
- حماية المال بمعناه الواسع وتحريم إتلافه، سواء أكان في ملك الشخص أو في ملك سواه، وتحريم العدوان على أموال الآخرين.
- الجهاد للدفاع عن الأهداف السابقة، واكتساب العلم والمعرفة بالقدر الذي يتوقف عليه الحفاظ على ما سبق، والفعاليات الاقتصادية بالقدر الضروري للمحافظة على الأركان الخمسة: كإنتاج الأغذية مثلا.
الحاجيات:
وتشمل الأفعال والأشياء التي لا تتوقف عليها صيانة تلك الأركان الخمسة، ولكن تتطلبها الحاجة لأجل التوسعة ورفع الحرج، ومن الأمثلة على هذه الفئة التمتع بالطيبات التي يمكن أن يستغني عنها الإنسان ولكن بشيء من المشقة كالعقود وأنواعها.
ويعتبر من الحاجيات كثير من الحرف والصناعات والفعاليات الاقتصادية التي تقع منتجاتها أو الخدمات التي تقدمها ضمن صنف الحاجيات، أي ضمن القدر الكافي لإزالة الحرج ودفع المشقة، فعلى سبيل المثال يصعب الاستغناء عن تغطية أرض البيت حين البرد، فإنتاج نوع بسيط من الأغطية يكفي لدفع البرد يعتبر من الحاجيات، وعندما تتوافر مثل هذه البسط يعتبر السجاد وصناعات السجاد من التكميليات.
وتحسن الإشارة إلى أن تغير وسائل العيش وصوره قد تحول بعض الأعمال أو الأشياء من صنف لآخر. فمثلا تعتبر المجاري العامة في المناطق الريفية قليلة السكان من الأمور التكميلية، في حين تعتبر من الحاجيات في المدن المكتظة بالسكان الشائعة في الوقت الحاضر، إذ لولا هذه المجاري لوقع الحرج والمشقة ولتعرض السكان إلى مخاطر صحية. وكذلك فإن تأمين وسائل النقل العامة في التجمعات السكانية الصغيرة لا يعتبر حاجيًا بل تكميليًا، في حين يدخل في زمرة الحاجيات تأمين وسائل النقل للسفر بين هذه التجمعات السكانية. أما في التجمعات السكانية الكبيرة الممتدة على مساحات واسعة فتعتبر وسائل النقل العامة من الحاجيات، وعند توافرها بصورة مقبولة تعتبر وسائل النقل الخاصة من قبيل التكميليات.
وتشمل الحاجيات أيضًا تلك الأعمال والأشياء التي لا تتوقف عليها صيانة الأركان الخمسة، لكنها تساعد وتسهل سبل المحافظة على هذه الأركان الخمسة فمن ذلك:
(أ) طباعة الكتب المتعلقة ببعض الضروريات (كالدعوة في سبيل الله، أو نقل بعض المعارف الضرورية).
ولو كانت طباعة الكتب يتوقف عليها الحفاظ على الأركان الخمسة لوجب تصنيفها في الضروريات، لكن المفترض أن من الممكن الحفاظ على هذه الأركان بطرق أبسط من طباعة الكتب، كالمشافهة والكتابة باليد.
(ب) حفظ الصحة والفعاليات المتصلة بها وتشجيع التربية البدنية لتقوية الجسم (ويلاحظ أن حفظ الحياة والفعاليات المتصلة به هو من الضروريات).
وأخيرًا تشمل الحاجيات اكتساب المعرفة وتشجيع التربية والتعليم وتنمية الثروة العامة والخاصة إلى الحد اللازم للتوصل إلى الحاجيات المذكورة آنفا، وهذا هو تطبيق مباشر للقاعدة الفقهية الشهيرة القائلة بأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
التكميليات:
وتشمل الأعمال والأشياء التي تتجاوز حدود الحاجيات أو بعبارة أدق تشمل الأمور التي لا تتحرج الحياة ولا تصعب بتركها ولكن مراعاتها مما يسهل الحياة أو يحسنها أو يجملها.
فمن الأوامر التي تقع في هذه الفئة تلك المتصلة بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات، كآداب السلوك الإسلامي في الطعام والشراب والكلام واللباس والتحية والنظافة…. إلخ، وكذلك الأوامر المتصلة بالاعتدال إجمالاً وعدم الإفراط والتفريط، ويشمل ذلك الأمر بالاعتدال في الإنفاق لقوله تعالى {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما} (25/ 67).
ومن التكميليات تحسين نوعية العمل والإنتاج لقوله صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب العبد المتقن عمله)[4]. على أن ترك الإتقان إذا كان يفوت “حاجة” أو “ضرورة” فإنه حينئذ يصبح من الحاجيات أو من الضروريات.
ومن التكميليات الراحة والهِوايات البريئة والاستجمام والفعاليات المتصلة به بالقدر الضروري للمحافظة على راحة العقل والبدن واسترداد النشاط والقوة.
وتشمل التكميليات أيضاً مقادير معتدلة من الأشياء البريئة التي تؤمِن الراحة، ويمكن أن يستغنى عنها الإنسان دون صعوبة، كالسجاد والأثاث الجيد وطلاء المنزل. كما تشمل مقادير معتدلة من الأشياء التي تتخذ للتمتع والزينة كالزهور والمجوهرات.
فإذا تجاوزنا حدود التكميليات، فإننا ندخل في منطقة الإسراف والترف الذي يعتبره الإسلام مفسدة للفرد والمجتمع وينهى عنه بشكل واضح.
قواعد الترجيح:
قمنا هنا بعرض الأهداف التي يضعها الإسلام للفرد والجماعة على النحو الذي صاغه الإمامان الغزالي والشاطبي، والتي يعتبر الوصول إليها أمراً يفيد ويزيد المصلحة الاجتماعية، وإن ما تضمنته هذه الفروع على أهميته لا يؤلف إلا جزءاً من دالة المصلحة الاجتماعية كما يتصورها الاقتصاديون المعاصرون، إذ أن هذه الدالة تتضمن جزءاً أساسياً آخر هو قواعد الترجيح التي تساعد على حسم الخلاف بين الأهداف الاجتماعية المختلفة، فدالة المصلحة الاجتماعية إذن تتألف من جزأين: أولهما مجموعة الأهداف، وثانيهما قواعد الترجيح، وسنوضح هذه الفكرة بشيء من التفصيل.
إن دالة المصلحة الاجتماعية تسمح لنا أن نختار من بين مجموعة أوضاع أو أحوال اقتصادية واجتماعية محددة (وتسمى البديل) التي تحقق المصلحة الاجتماعية إلى أبعد مدى، وعندما تكون الحالات المعروضة كلها مؤذية للمصلحة الاجتماعية فإن الدالة المذكورة تسمح لنا بتحديد أيها أقل ضرراً، ويغلب في الواقع أن يؤدي سعينا لتحقيق هدف اجتماعي معين إلى إبعادنا عن هدف اجتماعي آخر، فالاختيار الاجتماعي لوضع ما كثيراً ما يستلزم حسم الخلاف بين الأهداف الاجتماعية المختلفة أو ترجيح بعضها على بعض، فلا بد لدالة المصلحة الاجتماعية في عرف الاقتصاديين من أن تتضمن قواعد للترجيح تسمح بحسم الخلاف الذي قد ينشأ بين الأهداف الاجتماعية.
والسؤال الذي يتبادر للذهن في هذا المقام هو: هل يقدم الإمامان الغزالي والشاطبي قواعد للترجيح، أي هل يكملان تحديد المصلحة الاجتماعية؟ الحق أن هذين الإمامين أكملا تحديد دالة المصلحة الاجتماعية (وإن لم يسمياها طبعاً بهذا الاسم المستحدث) وبيان ذلك فيما يلي:
ينبغي أن نلحظ بادئ ذي بدء أن هذين الفقيهَين الأصوليين العظيمين لم يقدما مجرد مجموعة من الأهداف الإسلامية بل قدما ما يسمى في لغة الرياضيات مجموعة مرتبة “Order Set” أي مجموعة رتبت عناصرها بشكل هرمي، ففي أعلى مستوى نجد الضروريات وتليها الحاجيات ثم التكميليات ويقدم الإمام الشاطبي فضلاً عن ذلك كثيراً من الملاحظات والتحليلات عن ترتيب العناصر ضمن كل فئة من هذه الفئات الثلاث، لكن الشاطبي لا يقدم –بالطبع ولا يمكن لأحد أن يقدم أصلاً- ترتيباً كاملاً لكل ما يمكن أن يقع ضمن الفئة الواحدة.
إن قاعدة الترجيح الأساسية والسهلة التطبيق التي يقدمها هذان الإمامان هي بكل بساطة: إن الأفعال والأشياء المتعلقة بفئة ذات مستوى أدنى تهمل إذا تعارضت مع أهداف فئة ذات مستوى أعلى. فلا يراعى مثلاً حكم تكميلي إذا كان في مراعاته إخلال بما هو ضروري أو حاجي، لأن الفرع لا يراعى إذا كان في مراعاته والمحافظة عليه تفريط في الأصل، ويلحظ أن هذه القاعدة البسيطة ممكنة التطبيق ضمن الفئة الواحدة أيضاً حين تكون عناصر تلك الفئة مرتبة أي متفاوتة في القوة، فبعضها أدنى أهمية وبعضها أعلى.
ومن الأمثلة المشهورة على هذه القاعدة كما يذكر الفقهاء إباحة كشف العورة شرعاً لتشخيص الداء أو للمداواة، لأن ستر العورة رغم التوكيد عليه شرعاً هو من الأمور التحسينية، أما التشخيص والعلاج فهو من الضروريات إن كان لا بد منه لإنقاذ الحياة، أو من الحاجيات فيما سوى ذلك.
إن هذه القاعدة على بساطتها وأهميتها البالغة لا تكفي وحدها للترجيح في كثير من الحالات الواقعية في الحياة الاجتماعية التي تتصف على الغالب بأن التصرف الواحد فيها له آثار متعددة تمس أهدافاً اجتماعية كثيرة، فتحسن لهدف وتسئ إلى آخر، والسؤال هو: أين نلتمس الجواب في هذه الحالات؟ إننا نلتمس الجواب في الفقه الإسلامي، فالإمامان الغزالي والشاطبي فقيهان أصوليان شهيران ويعتمدان القواعد الفقهية للترجيح.
وهكذا نجد أن لدينا مصدراً رائعاً وغنياً نستمد منه قواعد الترجيح اللازمة لدالة المصلحة الاجتماعية هو الفقه الإسلامي الحافل بقواعد تحدد الأولويات وتبين كيفية الترجيح عند تعارض الأهداف الاجتماعية أو تعارض المصالح بين الأفراد. إن الفقه الإسلامي فضلاً عن كونه تراثاً فكرياً اجتماعياً وقانونياً هو قبل ذلك وفوق ذلك نظام مفصل للقيم مستمد من الهداية الإلهية التي نعتقد –كمسلمين- أنها المصدر الوحيد الصحيح لإصدار الأحكام القيمية أو لترجيح مصالح بعض الناس على بعض.
ومن الطريف أن نلاحظ أن الاقتصادي الأستاذ (بنجامين وورد B-ward) من جامعة كاليفورنيا قد اقترح عام 1972م أن يبني اقتصاديون أحكامهم عن المصلحة الاجتماعية على التراث القانوني الأنجلو- أمريكي، وقد أشار الأستاذ “وورد” إلى بعض الصعوبات التي تكتنف مثل هذه المحاولة ولكنه خلص إلى النتيجة التالية: “من الجدير أن نسعى لهذا الهدف لأنه أخلاقي من جهة وممكن التحقيق من جهة أخرى”.
وأكتفي هنا بالإشارة إلى أن بعض الصعوبات التي تحدث عنها الأستاذ وورد لا توجد في الفقه الإسلامي لاتفاق المسلمين على أنه يستند إلى مصدر إلهي.
نتائج عن العلاقة بين الفقه وعلم الاقتصاد الإسلامي:
أصبح جلياً مما تقدم أن من الممكن القيام بتحديد جيد لدالة إسلامية للمصلحة الاجتماعية، وهذا أمر بالغ الأهمية للمجتمع ولصانعي السياسات الاقتصادية وللفقهاء الاقتصاديين المسلمين، ونستشهد هنا بما قاله في مقام آخر مفكر مسلم معروف هو الأستاذ محمد المبارك: “إن الموجه للاقتصاد في النظم المعاصرة هو الربح وفي النظام الإسلامي هو النفع البشري”[5].
وهذا يدل على أن تحديد ما هو نافع للبشر أي ما هو مصلحة من وجهة نظر الإسلام هو الأساس الذي لا يستغني عنه لصياغة أية اقتراحات إسلامية عملية في المجالين الاجتماعي والاقتصادي.
إن هذه الفقرة القصيرة السالفة قد لا توضح لغير الاقتصاديين الأهمية العملية العظيمة لدالة المصلحة الاجتماعية، وألتفت الآن إلى العلاقة بين الفقه وعلم الاقتصاد، وهي علاقة تكشفها إلى حد بعيد فكرة دالة إسلامية للمصلحة الاجتماعية.
فالفقهاء المسلمون بالتعاون مع المتخصصين في العلوم الاجتماعية -ومنها علم الاقتصاد- لهم دور رئيسي في تحديد تفاصيل دالة المصلحة الاجتماعية الصالحة للتطبيق في المجتمعات المعاصرة، وبهذا التحديد تنتهي مرحلة الضياع الفكري الذي يعاني منه الاقتصاديون المسلمون، إذ يمكنهم أن ينطلقوا من هذه الدالة إلى اختيار مواضيع مثمرة لبحوثهم الوضعية “Positive Economic Studies” الاختصاصية وما عليهم إلا أن يختاروا تلك المتغيرات والعلاقات الوثيقة الصلة بدالة المصلحة الاجتماعية الإسلامية.
{قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} (5-15: 16).
ثم يقدم الاقتصاديون إلى الفقهاء نتائج دراستهم الوضعية الاختصاصية والبدائل المختلفة للسياسات الاقتصادية التي يمكن اتباعها، موضحين في كل حالة آثار كل بديل على تلك المتغيرات الرئيسية في دالة المصلحة الاجتماعية الإسلامية. ويمكن للفقهاء والاقتصاديين بعد ذلك وليس قبله أن يستعينوا بالدالة المذكورة، وبتراثنا الفقهي العظيم الذي يرفدها، لتقديم حلول إسلامية للمشاكل الاقتصادية المعاصرة.
لقد قدم الإمامان الغزالي والشاطبي مساهمة فكرية أصيلة للعلوم الاجتماعية عندما صاغا دالة إسلامية للمصلحة الاجتماعية مستمدة من الكتاب المبين وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما زالت مساهمتهما وثيقة الصلة بما نهتم به نحن الاقتصاديون اليوم.
علاقة جزئية في دالة المنفعة للمسلم: علاقة الاستهلاك في الدنيا بثواب الآخرة:
بعض عناصر لموقف الإسلام من السلوك الاقتصادي للفرد:
“إن رضا الفرد تابع لمتغيرات كثيرة أحدها هو مقدار ما يستهلكه الفرد من السلع والخدمات”، هذه كلمة وضعية أعتقد أنها مقبولة تمامًا من وجهة نظر علم الاقتصاد الحديث، لكن نلحظ اختلاف موقف الإسلام عن موقف علم الاقتصاد الحديث من السلوك الاقتصادي للفرد، وليس مرد هذا الاختلاف منحصراً في أن الإسلام نظام قيمي من حيث الأصل بينما أن علم الاقتصاد علم وضعي، بل لهذا الاختلاف أسباب أخرى أيضاً.
فعلم الاقتصاد فرع جزئي من فروع المعرفة، يركز اهتمامه على عدد محدود من المتغيرات أهمها الدخل والأسعار، ويجمع المتغيرات الأخرى (المؤثرة على السلوك الاقتصادي وعلى دالة المنفعة للفرد) في زمرة واحدة يسميها: الأذواق “tastes”، ويعتبرها خارج نطاق الدراسة الاقتصادية كما يفترض أنها خارجية “exogenous” تؤثر في السلوك الاقتصادي ولا تتأثر به[6]، فيضع الاقتصاديون الأذواق جانباً ويوجهون اهتمامهم الاختصاصي إلى تحليل تأثير الأسعار والدخل على رضا الفرد (أو على ما يسمى دالة المنفعة أو دالة الاختيار للفرد) وإلى التحويلات التي تطرأ على سلوكه الاقتصادي عندما تتغير الأسعار والدخل. ويفترض الاقتصاديون في تحليلهم هذا أن الفرد عقلاني يتصرف بحيث يصل إلى أقصى ما يستطيع من الرضا أي إلى أكبر ما يمكن من منفعة.
فإذا انتقلنا إلى الإسلام، وجدنا أنه نظام كامل للحياة يسعى لتحقيق مصلحة الفرد والجماعة، وهو لذلك يعالج كل متغير يؤثر في هذه المصلحة، بصرف النظر عن الفرع الجزئي من فروع المعرفة الذي نصف فيه هذا المتغير (كعلم الاقتصاد أو علم النفس…. إلخ). والمتغيرات الوحيدة التي يعتبرها الإسلام خارجية حقاً (أي تؤثر في الإنسان ولا تتأثر به) هي القوانين الإلهية الطبيعية ومنها فطرة الإنسان الأساسية، فالإسلام لا يُخرج من نطاق اهتمامه تلك المتغيرات العديدة الأخرى المؤثرة في دالة منفعة المستهلك والمسماة “بالأذواق” بل هو يتناولها بالتمحيص والتوجيه ويؤكد على تأثيراتها المتبادلة فيما بينها، كما يؤكد على النتائج المتعددة للسلوك، تلك النتائج التي تمتد عبر الزمان والمكان والأشخاص.
ولا يميز الاقتصاديون في تحليلهم بين اختيار الفرد -الذي تعتبر منه دالة المنفعة (دالة الاختيار)- وبين مصلحته الحقيقية، بل يفترضون عادة تطابق الاختيار مع المصلحة، أما الإسلام فيلحظ –بل يؤكد- إمكانية الاختلاف بين الأمرين، قال الله تعالى {كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرٌ لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون} (2- 216).
وقد أتى الإسلام لتحقيق أقصى ما يمكن من مصلحة الفرد (والمجتمع) الحقيقية، لكنه مع ذلك يسعى أن يتم الأمر بالاختيار الطوعي للفرد ومع مراعاة إرضائه إلى أبعد حد ممكن، والأمثلة على هذا كثيرة في القرآن الكريم والحديث الشريف.
والإسلام ينظر إلى دالة المنفعة للفرد على أنها جزء داخلي “endogenous” من نظام الإسلام الشامل، فنجد كثيراً من الأوامر والنواهي والترهيب والترغيب والتوجيهات غايتها:
(أ) إزاحة (تحريك) دالة المنفعة للفرد بحيث تتطابق مع مصلحته الحقيقية.
(ب) إدخال متغيرات جديدة في دالة المنفعة للفرد وتعديلها بحيث تزداد منفعة الفرد عند تزايد المصلحة الاجتماعية وتتناقص عند تناقصها، لأن الإسلام يلحظ الاختلاف الكثير الوقوع بين دالة الاختيار للفرد وبين مصلحة المجتمع.
فالإسلام يحقق تحويلاً في دالة المنفعة للفرد بحيث يجعلها تتكامل مع المصلحة الاجتماعية وباقي أجزاء النظام الإسلامي. وهذا التحويل التكاملي يؤدي إلى نتائج ذات أثر بعيد في باقي أجزاء النظام الإسلامي، مثلاً في أسلوب تنظيمه وتوجيهه للنشاط الاقتصادي وفي تخفيف الطبقية الاجتماعية.
إن الملاحظات السابقة عن موقف الإسلام من السلوك الاقتصادي الفردي يمكن تلخيصها بكلمتين، إحداهما وضعية والأخرى قيمية: الارتباط المتبادل “Inter Dependence”، والتكامل “Integration”، فالإسلام يلحظ تماماً الارتباط المتبادل بين المتغيرات المختلفة في نظامه الشامل ومن جملتها المتغيرات المختلفة في دالة المنفعة للفرد، ويسعى في تعاليمه لتحقيق التكامل بين هذه الدالة وبين باقي أجزاء نظامه.
مقدمة لبحث علاقة جزئية في دالة المنفعة للفرد المسلم:
إن من جملة الاختلافات في دالة المنفعة بين “الإنسان الاقتصادي” “Homo Economicus” والإنسان المسلم Homo Islamicus”” أن دالة المنفعة للإنسان المسلم يظهر فيها متغير جديد هو الثواب (أو العقاب) في الحياة الآخرة.
ويتفاعل هذا المتغير الجديد بقوة مع المتغيرات الأخرى الاقتصادية وغير الاقتصادية التي تدخل دالة المنفعة مما يؤكد على ضرورة دراسته بعناية، وسأتناول في هذا القسم من البحث العلاقة بين ثواب الآخرة وبين متغير اقتصادي هام يؤثر على منفعة الفرد وهو مجموع استهلاكه من السلع والخدمات.
ويستند بحثنا لهذا الأمر إلى تعاليم الإسلام الواضحة في مصدريه الرئيسيين وهما القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما استندت إلى بعض الآراء والشروح لعلماء وفقهاء المسلمين، وقد اعتمدت الأحاديث الصحيحة والحسنة دون سواها، وفي نهاية هذا البحث فردنا لهذه النصوص التي استندنا إليها (والتي يتجاوز عددها 70 نصا) ملحقا خاصا صنفت فيه النصوص تحت عشرة عناوين رئيسية متوازية تقريبا مع تسلسل بحثنا هذا، وإضافة لذلك، أحلنا في كل فرع من فروع البحث إلى أرقام النصوص المتعلقة به.
افتراضات ممكنة عن علاقة الثواب بالاستهلاك
إن ثواب الفرد في الآخرة يتعلق بعقيدته وبحصيلة جميع نواياه وأعماله في هذه الحياة وسنقتصر هنا على دراسة العلاقة الجزئية بين الثواب (ث) ونوع واحد من أنواع العمل وهو الاستهلاك (هـ). قد يتوقع المرء بادئ ذي بدء أن يكون الثواب مرتبطاً عكسياً بالاستهلاك على صورة منحنى تحويل “Transformation Curve ” كالذي يظهر في الرسم البياني المجاور، فإن كنت ترغب في رضا الله وثوابه فلا بد أن تضحي بشيء من الاستهلاك ثمناً لذلك، وكلما ضحيت بكمية أكبر من الاستهلاك ازداد ثوابك بمقدار هذه التضحية.
إن هذه النظرة قد تصدق على بعض الديانات الأخرى لكنها بعيدة جداً عن وجهة نظر الإسلام في هذا الموضوع كما سنرى.
وقد يخطر على بال دارس مسلم بالاقتصاد الرياضي أن يتصور هذه العلاقة على أنها نهاية عظمى مقيدة “Constrained Maximum”، فبحسب هذا التصور يسعى الفرد المسلم للوصول باستهلاكه إلى أقصى قيمة ممكنة مع التقيد بقيود دينية معينة (بالإضافة إلى القيد الشائع لدى الاقتصاديين وهو عدم تجاوز إنفاق الفرد لدخله الشخصي)، ولكن هذه الفرضية الجديدة لا تصح من وجهة النظر الإسلامية لأسباب أهمها مناقضتها للمبدأ الإسلامي القائل بأن ثواب الآخرة هو الهدف النهائي للمسلم.
{وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا} (28/77).
فإذا قبلنا بهذا الاعتراض فقد يخطر في بال المختص في الاقتصاد الرياضي فرضية بديلة هي أن الفرد المسلم يسعى للوصول إلى أقصى قيمة ممكنة لثواب الآخرة مع التقيد باستهلاك معين في هذه الحياة، على أن هذه الفرضية الأخيرة وإن كانت أبعد عن الخطأ من سابقتها، ولكنها ليست صحيحة، فالنظر إلى الموضوع أصلاً على أنه بحث عن نهاية عظمى مقيد هو نظر خاطئ فيما أرى، ودليلي على ذلك أن من المعلوم في بحث النهايات العظمى المقيدة في الرياضيات أن تجاهل قيد ملزم “Binding Constraint” يزيد النهاية العظمى ولا يمكن أن يخفضها، بينما يعلمنا الإسلام أن تجاهل “القيود” الدينية على الاستهلاك أو على السلوك يخفض منفعة الفرد ولا يزيدها، وهذا يدل على أن تصور أوامر الدين ونواهيه على أنها قيود على السلوك هو تصور خاطئ، إذ هي في حقيقتها هداية تزيد منفعة الفرد وتؤمن مصلحته الحقيقية في هذه الحياة، وإذا كان عاملاً والتزم بها فإنه يزيد ثوابه في الآخرة أيضاً، فهل يصح بعد ذلك أن نتصور أوامر الدين ونواهيه على أنها قيود، فلو أن معمل السيارات أوصاني بتغيير الزيت كل كذا كيلو مترا، فهل يصح أن أنظر لهذه الوصية على أنها قيد على سلوكي؟
نستنتج مما تقدم أنه لا بد من النظر لهذا الموضوع نظرة مختلفة عن كل الفرضيات السابقة.
ملاحظات عامة حول الرسم البياني:
تمثل في هذا الرسم البياني على المحور الأفقي كمية الاستهلاك (هـ) في هذه الحياة وعلى المحور العمودي ثواب الآخرة (ث)، والمسافات على هذين المحورين ترتيبية وليست عددية، بمعنى أنها تعبر عن فكرة (أكثر أو أقل) ولا تعبر عن كميات رقمية محددة. فمثلا النقطة (هـ3) قد تبدو في الرسم البياني وكأنها تمثل أربع أضعاف كمية الاستهلاك الذي تمثله النقطة (هـ1)، لكن الرسم البياني الحاضر لا يصح فيه مثل هذا الاستنتاج بل كل ما يدل عليه هو أن هـ3 أكبر من هـ1، وأ، هـ2 أصغر من هـ3… وهكذا… وهذه الملاحظة صحيحة أيضاً عن النقاط على محور الثواب (ث).
ويلحظ على المحور العمودي (ث) أنه يمثل كلاً من الثواب والعقاب، فالثواب موجب وتمثله نقاط أعلى من مستوى الصفر، والعقاب سالب وتمثله نقاط تحت مستوى الصفر، في حين أن مستوى الصفر بالذات يمثل وضعاً ليس فيه ثواب ولا عقاب.
كيف نقرأ الرسم البياني؟
إن أية نقطة على هذا الرسم تمثل وضع إنسان ما، ويقابلها أمران: استهلاكه الممثل على المحور الأفقي، وثوابه الممثل على المحور العمودي، فالنقطة (ث4) تدل على استهلاك مقداره (هـ4) وعلى ثواب مقداره (ثَ)، والنقطة (ع3) تدل على استهلاك مقداره (هـ3) وعلى عقاب مقداره (عَ)، والنقطة (هـ2) بما أنها واقعة على المحور الأفقي نفسه تدل على استهلاك مقداره (هـ2) وعلى ثواب معدوم إذ يقابلها على المحور العمودي النقطة صفر. وأخيراً، النقطة (ب) تمثل إنساناً يستهلك ما مقدراه (هـ1) ويناله شيء من العقاب لأنه تحت مستوى الصفر.
مستويات الاستهلاك: من الواجب إلى الحرام:
تظهر في الرسم أربعة خطوط عمودية مرسومة بشكل متقطع، وهي الخطوط ح حَ/، ض ضَ/، ك كَ/، ف فَ/ وسنبين دلالتها فيما يلي، وهي تستند إلى مفاهيم الضروريات والحاجيات والتكميليات التي سبق عرضها في دالة المصلحة الاجتماعية.
فالخط العمودي (ح حَ) يمثل مستوى الاستهلاك الذي لا بد منه لحفظ الحياة (النفس)، فلا يمكن أن يوجد أحد إلى يسار هذا الخط، أي لا يمكن أن يستهلك أحد أقل من هـ1.
والخط العمودي (ض ضَ) يمثل مستوى الاستهلاك اللازم للحفاظ على باقي الأركان الخمسة بعد النفس (الدين والعقل والنسل والمال).
والخط العمودي (ك كَ) يمثل “مستوى الكفاية” وهذا هو مستوى الاستهلاك الذي يؤدي للفرد الحاجيات الكافية لما يلي:
(أ) لجعله مستغنياً عن الآخرين مالياً، بل قادراً على معونتهم عند اللزوم[7].
(ب) لجعله مستغنياً عن الآخرين نفسياً، أي قانعاً بما قُسم له، وشاكراً ربه عليه، غير حاسد من أوتوا من الرزق أكثر مما أوتي[8].
(ج) لجعله قادراً على تأمين مستوى الكفاية لمن يعولهم شرعاً كالزوجة والأولاد والأبوين المحتاجين…الخ، ومن المخالفة الصريحة لأحكام الشرع أن يهمل رب الأسرة ذلك حتى بحجة انشغاله بالعبادة أو بالواجبات الإسلامية العامة.
وأخيراً، يمثل الخط العمودي (ف فَ) حد الإسراف، فهو يبين مستوى الاستهلاك المقابل لأقصى حد مسموح به شرعاً من التكميليات، فإن تجاوزه الفرد (إلى اليمين) فقد دخل في حيز الترف والسرف الذي ينهى عنه الإسلام[9].
ويمكن للمرء أن يستنتج من استعراضنا لمستويات الاستهلاك المختلفة التي تمثلها الخطوط العمودية (ح حَ، ض ضَ، ك كَ، ف فَ) أن هذه المستويات ليست متماثلة عند جميع الناس بل أنها تعتمد على العديد من الاعتبارات التي تشمل فيما تشمل التزامات الفرد العائلية وحالته الصحية والنفسية ومدى ضبطه لنفسه وتقواه، لكن هذه المستويات قابلة للتحديد بالنسبة لأي شخص معين.
الاختبارات المتاحة للمستهلكين:
تمثل الخطوط الغليظة في الرسم البياني الاختيارات المفتوحة أمام المستهلك، وكل نقطة عليها تمثل وضع شخص ما، ويمكن للمستهلك أن يختار أعلى مستوى من مستويات الاستهلاك يسمح به دخله، فمن المستويات الممكنة مثلاً ما تمثله النقاط هـ1 إلى هـ5، أما ثواب أو عقاب المستهلك (الممثل على المحور العمودي ث) فلا يتحدد بصورة متميزة بمجرد معرفتنا لمستوى استهلاكه[10]، فمثلاً لو اختار الفرد أن يستهلك ما تدل عليه النقطة هـ4 في هذا الرسم فإن استهلاكه هذا قد يتوافق مع العقاب ع4 أو مع الثواب ث4، كما يمكن أن يبقى دون ثواب ولا عقاب عند النقطة هـ4 نفسها على المحور الأفقي، لكن لا ينبغي أن نستنتج من ذلك أن الثواب لا علاقة له بالاستهلاك، لأن عدة أجزاء من الخطوط الغليظة يعتمد فيها الثواب على الاستهلاك فمثلا المستقيم (ب هـ3) العلاقة عنده بين الثواب والاستهلاك إيجابية، بمعنى أن زيادة الاستهلاك تزيد الثواب (أو تخفض العقاب)، والمستقيم (ث7هـ5) العلاقة عنده بينهما سلبية بمعنى أن زيادة الاستهلاك تقلل الثواب، وكذلك فإن العلاقة بينهما سلبية عند المنحنيات المرسومة فوق المستقيم ث3 ث7.
درجات الثواب:
إن الثواب والعقاب في الآخرة هو متغير مستمر وليس متغيراً متقطعاً، ولكننا لتيسير المناقشة نخص بالذكر خمس مستويات مختلفة للثواب على الاستهلاك، فمستويات الثواب الثلاثة الأولى هي:
- الثواب المعدوم.
- الثواب العظيم (ثَ) أي الجنة.
- العقاب الشديد (عَ) أي النار.
والذي يضع الفرد في أحد هذه المستويات الثلاثة أمران اثنان: عقيدته ونيته حول الاستهلاك من جهة وسلوكه الاستهلاكي من جهة أخرى، وسنوضح ذلك فيما يلي:
الثواب المعدوم:
يقابله في الرسم هـ1 هـ5 الواقع على المحور الأفقي، ويمثل هذا المستقيم وضع إنسان مسلم خالي الذهن، فهو يستهلك الحلال دون أن تكون لديه نية صالحة حول هذا الاستهلاك، فلا يثاب عليه، كما أنه لا يعاقب لأنه لا يستهلك أي حرام، لكنه إذا تجاوز في استهلاكه النقطة هـ5 فإنه قد ارتكب مخالفة محددة هي الإسراف وهو معاقب.
الثواب العظيم (الجنة):
ويقابله في الرسم المستقيم (ث1ث7) ولا يحتاج الفرد للوصول إلى هذا الثواب العظيم أن يضحي باستهلاكه، لكن يجب عليه أن يسلم إرادته لله أي أن يكون مسلماً حقاً، وأن مفهوم “إسلام النفس لله” يعني في معرض الاستهلاك الأمور التالية:
- أن يدرك الفرد تماماً أنه إنما يستهلك من رزق الله وبإذن الله، وأن يكون على استعداد للإقلاع عن استهلاك أي شيء يحرمه الله، وأن الأدعية المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم التي يقرؤها المسلم عند استهلاكه أو استعماله لمختلف الأشياء إنما تنشئ في نفس المسلم وتقوي فيه هذا المفهوم الذي هو الأساس المتين لكي يُبني عليه موقف الشكر لله الذي له في الفرد والمجتمع آثار عديدة.
- أن يكون الفرد شاكرا لله ويظهر شكره بأن:
- يغير نمط استهلاكه بحيث يستعيض عن الحرام بالحلال.
- أن يشرك الآخرين معه في استهلاكه إلى الحد المفروض شرعاً كتأدية الزكاة وسواها، ولا يُطلب منه شرعاً إشراك الآخرين معه إلا إذا كان مقتدراً على أن يتجاوز حد الكفاية ك كَ.
العقاب الشديد (النار):
ويقابله في الرسم الخط (ع1ع5)، أن الأفراد الذين يقفون عند هذا الخط ليس سبب وجودهم عنده أنهم يستهلكون أكثر من الأفراد الذين يقفون عند الخط (ث1ث7)، بل السبب أنهم رفضوا أن يسلموا أنفسهم لله على النحو الذي شرحناه آنفا، حتى إنه من الممكن لبعض مَن يقفون عند الخط (ع1ع5) أن يكون استهلاكهم محصوراً في الأمور الحلال، لكنهم لا يستهلكون الحلال لأن الله أباحه، كما أنهم لا يبالون أن يستهلكوا الحرام لو كانوا يحبونه، وهذه النوايا المستكنة في النفوس يعطينا القرآن أمثلة عنها، وهي إجمالا أنماط من التصرف تدل على نسيان الله وتجاهله، أو كفران بنعمته أو عدم الاكتراث بالآخرة، ومن أمثلتها:
(أ) استهلاك المحرمات.
(ب) عدم الاكتراث بالمحتاجين والضعفاء في المجتمع عموماً وبين الأقارب خصوصاً، وعدم الاكتراث هذا معاقب حتى عندما يتعلق بالحيوانات المحتاجة كما هو واضح في أحاديث نبوية عديدة.
(ج) رفض الإنسان إشراك الآخرين في بعض استهلاكه في الحدود التي يفرضها الإسلام.
الزهد الأعجمي والكسل والبخل:
ويمثله في الرسم مستقيم (ب هـ3)، ويقف عند هذا المستقيم فرد مسلم يستهلك أقل من حد الكفاية ك ك على الرغم من أنه يستطيع الوصول إلى حد الكفاية، فهو إما أن يكون ميسور الحال لكنه يبخل على نفسه، وإما أن يكون فقيراً لكن بإمكانه أن يعمل ويكتسب فيصل إلى حد الكفاف، فامتناعه عن الوصول إلى حد الكفاف دون عذر واضح يدل على أنه كسول أو بخيل أو زاهد زهداً أعجمياً، وهو معاقب في هذه الحالات كلها لأن مستوى الكفاية ك كَ هو الحد الأدنى من الاستهلاك الذي يجب أن يسعى المسلم للوصول إليه إن استطاع ولا يقبل الزهد قبل الوصول إلى هذا الحد.
فعندما يتحرك الفرد من النقطة (ب) في اتجاه النقطة (هـ3) يزداد ثوابه (أو على الأصح يقل عقابه) لأنه يزيد استهلاكه، وعندما يصل إلى النقطة (هـ3) أي إلى حد الكفاية (ك كَ) فإن نيته إما أن تبقيه عند النقطة (هـ3) ذات الثواب المعدوم، وإما أن ترفعه إلى مستوى الثواب العظيم (ث3).
لكن من الناس من لا يستطيع الوصول إلى حد الكفاية (ك كَ) رغم محاولته ذلك، فهو فقير وليس في يده حيلة. ومثل هذا الإنسان لا يستحق عقاباً أخروياً على ترك الكفاية لأنه فقير، ولكن في مصيره تفصيل بحسب نيته: فإن كان خالي الذهن وقف عند مستوى الثواب المعدوم، وإن كان ذا نية صالحة ارتفع إلى مستوى الثواب العظيم، وإن كان ذا نية سيئة هبط إلى أتعس منطقة في الرسم البياني وهي الممثلة بالمستقيم (ع1ع3) فهنا يقع الفقير ذو النية السيئة، فهو محروم في الدنيا ومعاقب في الآخرة.
الإيثار والزهد الإسلامي:
يمثله في الرسم البياني المنحنيات الواقعة فوق المستقيم (ث3ث7)، إن فرداً يقف عند النقطة (ث8) له دخل يسمح له بأن يكون استهلاكه عند النقطة (ث6) ولا تثريب عليه لو وصل إليها، لكنه عوضاً عن أن يفعل ذلك خفض استهلاكه إلى المستوى المقابل لـ (ث8)، بغية تحقيق هدف نبيل، فقد يكون هذا الهدف معونة الآخرين المالية أو الإنفاق في سبيل الله أو تخصيص بعض جهوده لأهداف اجتماعية نبيلة عوضاً عن أن يخصصها لاكتساب المزيد من الرزق الحلال، والمفهوم ضمناً أن هذه الأهداف النبيلة التي يسعى مثل هذا الفرد لتحقيقها تتجاوز الحد الأدنى المفروض شرعاً على كافة المسلمين.
ومن الضروري في هذا المقام إيضاح مفهوم الزهد الإسلامي المتميز عن الزهد الأعجمي، إن حرمان النفس من الحلال لمجرد الحرمان لا يثاب عليه المسلم بل لا يقره الإسلام أصلاً، أما الحرمان الذي يثاب عليه فهو الذي لا بد منه لتحقيق هدف نبيل، ذلك أن ترك الحلال والزهد فيه لمجرد الترك أو لمعاقبة النفس مفهوم أجنبي عن الإسلام، فالحرمان وسيلة ولا يمكن أن يكون غاية أبداً، وهذا فرق جوهري بين الإسلام وديانات أخرى تشجع حرمان النفس لمجرد الحرمان.
المنحنيات المرسومة فوق المستقيم (ث3ث7) تمثل الإحلال الاختياري للثواب محل الاستهلاك عن طريق الإيثار وعن طريق الزهد الإسلامي، ومثل هذه التصرفات الاختيارية الطوعية يحبذها الإسلام ويشيد بفاعليها ويثيبهم الله عليها ثواباً عظيماً.
ويلحظ أن المنحنيات المذكورة محدبة نحو نقطة الأصل لتظهر المبدأ الإسلامي الذي يتضمنه الحديث الشريف “درهم سبق ألف درهم”، أي أن تضحية قليلة من المقل قد تنال ثواباً أعظم من تضحية أكبر يقدمها غني.
كما يلحظ أيضاً أن المنحنيات لا تقطع الطريق المستقيم (ك كَ) بل تقاربه مقاربة لأن الإسلام عادة لا يقر صدقة التطوع ممن لم يصل إلى مستوى الكفاية، والاستثناءات التي قد يستشهد بها خلافاً لهذا المبدأ والتي تؤكد أن الإسلام حبذ مثل هذه التضحيات محصورة فيما أظن بحالات طارئة فردية أو جماعية كالحالات التالية:
(أ) حالة الحرب وغيرها من الطوارئ الاجتماعية والتي تقع خارج نطاق السلوك العادي للمستهلك، والإسلام يقدم لمثل هذه الحالات الاستثنائية توجيهات محددة تخرج عن نطاق بحثنا هذا.
(ب) لإنقاذ شخص آخر من ضرر عظيم أو دائم، ففي مثل هذه الحالة يسمح الشرع للفرد بأن يضحي إلى حد قد يرجع به إلى دون مستوى الكفاية (ك كَ)، لأنه يعطي مَن هو أشد منه حاجة.
ففي هذه الحالات الاستثنائية يمكن للمنحنيات المذكورة أن تقطع المستقيم (ك كَ) وأن تقارب مستقيم الضروريات (ض ضَ).
نتائج:
لقد تركزت مناقشاتنا في هذا القسم من البحث على العلاقة المباشرة فقط بين الاستهلاك والثواب من حيث كونهما متغيرين من جملة المتغيرات التي تدخل في دالة المنفعة للفرد المسلم، والآن نستخلص هنا بعض النتائج العامة من المناقشة السالفة:
أولا: إن من أهداف الإسلام الرئيسية أن يساعد الإنسان على مجابهة حقيقة كبرى هي: أن هناك حياة وثواباً بعد الموت، وهذا الثواب أعظم بكثير من أي خير يمكن أن يناله الإنسان في هذه الحياة، كما أن عقاب الآخرة أشد بكثير من أي شقاء يمكن أن ينزل بالإنسان في هذه الحياة، إن هذه الحقيقة الكبرى بل الهائلة قد تحمل الإنسان على أن يهمل السعي الاقتصادي وسواه من نشاطات الحياة، لكن الله سبحانه الرحيم العليم وازن هذه الحقيقة الكبرى بحقيقة كبيرة أخرى هي فطرة الإنسان التي فطره عليها وهي غريزة استعجال النتائج وابتغاء الطيبات عاجلة لا آجلة.
ومن رحمة الله بنا أنه لم يضع لنا نظاماً للحياة تصطرع فيه هاتان الحقيقتان، بل اختار لنا نظاماً يسعى لتحقيق الانسجام بينهما بعدة طرق، وإحدى هذه الطرق هو أنه حرم أنماط السلوك المتطرفة في أي اتجاه كان، فالزهد العجمي محظور كما أن الترف محظور وكلاهما يتناقضان مع أهداف رئيسية في النظام الإسلامي.
ثانيا: إن التصرف العقلاني للمستهلك المسلم يحدو به أن يختار لنفسه مكانا ما بين حد الكفاية (ك كَ) وحد الإسراف (ف فَ)، لكن هذين الحدين متباعدان حقاً ويتركان بينهما مجالاً كبيراً للاختيار يخشى معه أن يتولد في نفس المستهلك صراع بين إيمانه بعظيم ثواب الآخرة وميله الفطري لاكتساب الطيبات في هذه الحياة الدنيا، وقد تفادى الإسلام وقوع هذا الصراع بأن جعل استهلاك الفرد يتكامل مع ذاتيته الإسلامية ومع دوره الاجتماعي.
فالإسلام يعتبر السلوك الاستهلاكي إحدى الطرق التي يعبر بها الفرد عن شكره لله، والمسلم العاقل يسعى جهده ليجعل نمط استهلاكه يحقق له ثواب الله في الآخرة، وأن سعيه في هذا السبيل يعبر عن عقيدته ويقويها ويزيد استعداده لإشراك الآخرين في بعض ما عنده.
وثمة مظهر آخر من مظاهر تكامل الاستهلاك في النظام الإسلامي مع العقيدة، فكل إنسان بصرف النظر عن عقيدته ينال بعض الرضا مما يستهلك، لكن رضا المسلم باستهلاكه أعمق من ذلك لعلمه أنه ما دام ذا نية صالحة فيه، فإن استهلاكه نفسه يصبح عبادة يتمتع بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمد أنس الزرقا (1978- 1979). صياغة إسلامية لجوانب من دالة المصلحة الاجتماعية ونظرية سلوك المستهلك. 3 ج. مجلة المسلم المعاصر. ع. 15، 16، 17.
** أستاذ الاقتصاد بجامعة الملك عبد العزيز بجدة.
[1] الغزالي: المستصفى ج. 1 ص. 139- 144. والشاطبي: الموافقات ج. 3 ص. 8- 25، 176- 186.
[2] أبز زهرة: مالك (إمام المذهب) الزرقا: المدخل الفقهي العام، ج. 1 ص. 100- 103، ج. 2 ص. 604. خلاف: أصول الفقه ص. 163 وما يليها. الدواليبي: المدخل إلى علم أصول الفقه ص. 412- 418.
[3] أضاف الكاتب هذه الفقرة إلى الترجمة العربية.
[4] انظر ابن تيمية: الكلم الطيب ص. 11.
[5] المبارك: نظام الإسلام: الاقتصاد، مبادئ وقواعد عامة، ص. 202.
[6] دالة (تابع) المنفعة utility function في عرف الاقتصاديين الحديثين هي العلاقة التي تبين الرضا أو الإشباع الذي يناله الفرد من استهلاكه لكميات من السلع المختلفة، فهذه الدالة هي التي تعبر عن تفضيل المستهلك لمجموعة من السلع على كافة المجموعات الأخرى المتاحة له، ويفترض أن تفضيله لمجوعة من السلع يدل على أنها تمنحه قدرًا أكبر من الرضا بالمقارنة مع أية مجموعة أخرى كان بوسعه أن يشتريها، وبعبارة أكثر عمومًا تسمى دالة المنفعة أيضًا “دالة الاختيار” choice Function أو دالة التفضيل preference function للتأكيد على أنها تعبر عن التصرف الذي يفضله الفرد ويختار العمل به عوذًا عن تصرفات أخرى كان يمكنه العمل بها في حالة اقتصادية معينة، ويعتبر الاقتصاديون “الأذواق” بما فيها من متغيرات كثيرة أنها من جملة ما يؤثر في دالة الاختيار للفرد.
[7] وجدير بالذكر أنه ليس على المسلم أن يستدين لأداء فريضة الحج بل عليه أن يعتمد على نفسه، حتى أنه غير ملزم بقبول هدية تغطي نفقة الحج لأنه قد يكون غير راغب في تحمل منة الهدية.
[8] وقد أكد الإمام ابن الجوزي كثيرًا في كتابه صيد الخاطر على أن المسلم، وبخاصة رجل العلم، يجب أن يعمل ويكتسب من الدخل ما يصل به إلى هذا الحد من الاكتفاء النفسي.
[9] لا أعلم أن الإسلام يضع حدًا أعلى لدخل الفرد أو لإنفاقه، وهذا لا يتنافى مع قولنا بوجود حد أعلى للاستهلاك هو حد الإسراف والترف فما يزيد من الدخل عن هذا الحد يجب فيما أظن أن ينفق “في سبيل الله” أو أن يستثمر.
[10] وبلغ الرياضيات نقول إن الثواب ليس تباعًا وحيد القيمة للاستهلاك.