مونديال قطر 2022
في مواجهة اللابديل الغربي
أ. يارا عبد الجواد*
مقدمة:
هو الأكثر إثارة للجدل، لم يكن الأمر في مونديال قطر مجرد مساحات خضراء يتجاذب أطرافها الكرة بقدر ما كانوا يتجاذبون القيم والأفكار ويتعارفون فيما بينهم. لقد شهدت الملاعب القطرية، ضمن فعاليات هذا المونديال، مباريات ثقافية وسياسية وليست فقط كروية، في ظل تجربة فريدة من نوعها، فلأول مرة تستضيف دولة عربية وإسلامية منافسات كأس العالم لكرة القدم، فكان المتابعون، من مختلف أنحاء العالم، متأهبين لما سيرونه في هذه البقعة التي طالما زعم الغرب أنها تعاني التخلف والرجعية والهمجية، وإذا بهم يتعرفون على قاطنيها المختلفين في قيمهم ومرجعيتهم وعاداتهم.
لقد غاب عن المجتمع العلماني الحداثي الغربي مفاهيم كثيرة وقيم أكثر، وتجرد أفراده (أو كادوا) من معنى الإنسانية المركبة التي لا تنفصل فيها القيم عن الحياة بمختلف جوانبها سواء كانت سياسية، أو اقتصادية، أو رياضية، أو ترفيهية. أظهر المونديال هذا الالتحام بين القيم وبين هذه الجوانب، معززًا بذلك مفهوم الهوية العربية والإسلامية، فارضًا بهذا التمسك احترامه على كل من وطئ أرضه من الآخرين المختلفين الذين لم يتم إقصاؤهم أو ممارسة أي شكل من أشكال العنصرية ضدهم، بل شهدوا بأنفسهم أرقى أنواع الترحيب.
بناءً على هذا يأتي هذا المقال مبينًا لخصوصية هذا المونديال في تقديم نموذجٍ، ليس كاملًا بالطبع وليس خاليًا من نقاط الخلل وفقًا لنموذجنا المعياري الإسلامي، لكنه مثَّل تجربة تستحق الإشادة، نظرًا لما ساهم به من زعزعة لنموذج الغرب المعرفي، الذي يصور نفسه بأنه النموذج العالمي الأوحد، مقصيًا بذلك كل النماذج الأخرى وكل الثقافات الأخرى. ومن هنا عمل المونديال على توفير ساحة سمحت ولو بشكل نسبي بمواجهة فكرة اللابديل الذي يحاول الغرب فرضه على العالم، ليقول إن هناك نماذج ثقافية أخرى بقيم أخرى، بتاريخ آخر، قادرة على أن تعبر عن نفسها، وأن تستعيد وجودها الحضاري من جديد.
أولًا: النموذج الأوحد: رؤية نظرية:
في كتاب الشر السائل لزيجومنت باومان وليونيداس دونسكيس يقول “إننا نعيش في عالم اللابدائل، إنه عالم يفترض واقعًا واحدًا للجميع، إنه عالم يطلق كلمة “مجذوب” وفى أفضل الأحوال “غريب الأطوار” على كل من يعتقدون بأن كل شيء له بديل، … وفى هذا المناخ المنتشر يسود الاعتقاد بأنه لا بدائل للمنطق السياسي المعاصر ولا لاستبداد الاقتصاد، ولا للمواقف تجاه العلم والتكنولوجيا والعلاقة بين الطبيعة والإنسان”. هذا الوصف الدقيق الذي يصف به دونسكيس العالم المعاصر يجعلنا نتساءل حول مسألة البديل للنموذج المعاصر المهيمن، المنطلق من الجذور الغربية، والذي يقدم نفسه بأنه النموذج العالمي، ولا يتقيد بخصوصيته الثقافية ليمنح الآخر مساحة للتعبير عن نفسه، وهذا ما يمكن وصفه بالمشروع الغربي للهيمنة عن طريق ادعاء العالمية (Universalism)، وهو جزء من المشروع الحداثي الغربي الذي وضع الحضارة الغربية في موضع المالك للحقيقة المطلقة، وجعلها هي ذاتها مقياس الحضارة، منحيًا بذلك كل الثقافات الأخرى. وإلى هذا الملمح يشير الباحث الألماني “وولف جانج”، حيث يبين أن المشروع التنويري الغربي منذ بدايته عمل على تدمير التنوع في إطار تحقيق التجانس العالمي “homogenization of the world”، ومن هنا يهدف النموذج التنموي الغربي، بشكل مأساوي، إلى توحيد البشرية عن طريق التنمية، وعليه أصبح على الشعوب أن تنفصل عن تاريخها وجغرافيتها، وكذلك عن روابطها الاجتماعية. وهذا المسلك الغربي له جذوره التي تعضده، فتاريخ الغرب الاستعماري هو تاريخ إبادة وتدمير للدول والشعوب وثقافاتها، ولكن الغرب نجح دائمًا أن يظهر -عن طريق التلاعب بالمصطلحات وتغيير مضامين المفاهيم- بمظهر منقذ العالم، من هنا كان تأثير العالمية كنتاج لعصر التنوير مدمر للخصوصيات الثقافية، حيث أدت الطرق المختلفة للتواصل مع العالم إلى خلق نوع من الوحدة المطلقة والتنميط، تمثل في وحدة الرأسمالية العالمية، والاعتقاد بأن الحضارة الغربية هي الطريق الأفضل والوحيد لتنظيم العالم[2].
ثانيًا: مونديال قطر 2022 بين أزمة الهوية الغربية والتدافع الحضاري:
انطلاقًا من الاعتقاد الغربي بالأفضلية والاستعلاء الثقافي تعاني الهوية الغربية من أزمة ازدواجية المعايير والحدود المشوهة بين الخصوصيات الثقافية والمشترك الإنساني، فبينما هي تدعو لاحترام ثقافة الآخر تحاول فرض ثقافتها على العالم تحت مظلة ادعاء الترادف بينها وبين العالم والإنسانية والعمران البشري[3]. كما تحاول فرض هذا الاعتقاد على جميع الأصعدة، وبالطبع لم تستثن كرة القدم كلعبة رياضية عالمية من هذا المنظور الغربي للعالم، حيث اعتبر الغرب أنها لعبة ذات خصوصية غربية[4]. فمنذ نشأتها في انجلترا بشكلها الحالي في منتصف القرن التاسع عشر، كانت كرة القدم ميدانًا للتنافس الجيوسياسي بين الدول؛ حيث ظل العالم الغربي لعقود يؤمن أن هذه الرياضة جزء من ثقافته وإرثه المجتمعي، ونظرًا لتفوق الفرق الأوروبية في هذه اللعبة -لأسباب عديدة تعود في غالبيتها إلى النفوذ الغربي الرأسمالي الذى مكن هذه الدول من إنشاء أندية احترافية، واستقطاب أفضل اللاعبين من دول العالم المختلفة، ومن ضمنها دول العالم النامي في آسيا وإفريقيا- أصبح للدول الغربية، أو على وجه التحديد للدول الأوروبية، النفوذ الأكبر في اللعبة والقدرة على تحديد قواعدها وضوابطها، وربما أيضًا تحديد حيز مشاركة الدول الأخرى فيها[5]. من هنا أحدث حصول قطر على موافقة الاتحاد الدولي لكرة القدم لاستضافة المونديال ضجة كبيرة نظرًا لكونها أول دولة عربية إسلامية تحتضن منافسات كأس العالم لكرة القدم على أرضها.
وفي هذا الإطار كان مونديال قطر 2022 واحدًا من الأحداث الكاشفة لازدواجية المعايير الغربية بشكل كبير، ومتحديًا لهيمنة النموذج الغربي، ابتداء باعتراض الكثير من دول الغرب على فوز قطر باستضافة كأس العالم، بادعاء أنها ليست صاحبة تاريخ كروي يسمح لها باستضافة كأس العالم، (لم يحدث مثل هذا الاعتراض عندما فازت الولايات المتحدة باستضافة كأس العالم عام 1994، ولم يكن لها حتى دوري كرة قدم محترف)[6]، مرورًا بمقاومة كثير من الدول للسعي القطري للتمسك بالهوية الثقافية العربية والإسلامية، عن طريق إبراز قيم هذه الهوية وسماتها، ورفضها بعض الأفكار والقيم الغربية مثل المثلية الجنسية وبيع الخمور داخل الملاعب، مع الأخذ في الاعتبار أن مظاهر المحافظة على الخصوصية الثقافية قد تمت في ظل المبدأ الإسلامي “لتعارفوا”، الذي يوازن بين مراعاة المشترك الإنساني من جهة وبين حفظ الحدود القيمية والنظم الأخلاقية من جهة أخرى، أي وفق مبدأ يؤكد على قيمة التعايش مع الآخر مع مراعاة عدم الذوبان فيه، وهذا ما يبدو أن الغرب الذي يريد أن يصهر العالم في بوتقته، يرفضه بشده.
فالصراع وليس التعارف هو المبدأ الذي تأسس عليه المشروع الغربي، فمفردات المشروع الحداثي الغربي تنحصر في الصراع الحضاري والهيمنة والعولمة، وأن البقاء دائما للأقوى بمنظور مادي، ومن هنا نجد أن فكرة صراع الحضارات وليدة المشروع الحداثي الغربي، الذي يرى العالم بعينه فقط، وبنظرة تحكمها العنصرية والرفض لكل ما سواه[7]، ولا غرابة في أن صموئيل هنتنغتون مؤسس نظرية صراع الحضارات قد خصص جزءًا مهمًا من كتابه لمهاجمة الحضارة الإسلامية، بوصفها عدوًا تاريخيًا للغرب، من وجهة نظره، ولا يمكن فصل هذا التحليل عما يحدث من تنامي لظاهرة الإسلاموفوبيا التي يدعم مناصروها “الصور النمطية السلبية المنتشرة عن الإسلام والمسلمين في وسائل الإعلام”، وهو ما حاول المونديال أن يقدم بديلًا إيجابيًا له[8].
في المقابل نجد النموذج الحضاري الإسلامي لا ينظر للحضارات الأخرى نظرة صراع وجودي أو هيمنة بل نظرة “تدافع” لنصرة القيم الإنسانية ونصرة الحق[9]، فالنموذج الإسلامي لا ينكر تعددية الأمم والحضارات بل على العكس يرى أن التعددية والاختلاف من سنن الله عزوجل في الكون ولكن التدافع الحضاري هو السبيل للتعامل مع هذه التعددية، وفى هذا السياق يقول الدكتور محمد عمارة في كتابه (الحضارات العالمية تدافع أم صراع) “والبديل الإسلامي لصراع الحضارات ليس حالة السكون في علاقة الحضارات بعضها بالبعض الآخر لأن في السكون مواتًا ربما أفضى إلى التبعية والتقليد اللذين ينتهيان إلى الواحدية والمركزية الحضارية، وإنما البديل الإسلامي لفلسفة الصراع هو فلسفة التدافع بين الحضارات، وهذا التدافع هو حراك اجتماعي وثقافي وحضاري، أي تنافس وتسابق بين الحضارات يعدل المواقف الظالمة والممارسات الجائرة والعلاقات المنحرفة دون صراع يصرع الأطراف الأخرى فيلغي التعددية، وإنما بالحراك والتسابق الذي يعيد العلاقات المختلة إلى درجة التوازن والعدل في العلاقات بين مختلف الفرقاء”، ومن هنا نجد أن المِلل المتعددة والشرائع واللغات والقوميات قد نمت وازدهرت في كنف الدولة الإسلامية وحضارة الإسلام، وذلك على عكس الحضارة الغربية ذات النزعة الصراعية التي لم تستطع أن تحتوي حتى التعددية المذهبية داخل النصرانية، ولازالت هذه النزعة مستمرة ترسم للغرب منهجًا أساسه العدوان والصراع ضد كل الحضارات الأخرى وخاصة حضارة الإسلام[10].
ثالثًا: مظاهر التدافع الثقافي والتمسك بالهوية في مونديال قطر 2022:
إذا أردنا الوقوف على بعض مظاهر الخصوصية الثقافية التي شهدتها ساحة المونديال والتي هي تعبير وتطبيق عملي جزئي لمسألة “التدافع الحضاري” التي تشمل معنى التزاحم والتسابق والتعبير عن الذات الثقافية والتفاعل مع الآخر بين قبول بعض ما عنده ورفض البعض الآخر، ضمن رؤية تؤمن بوجود قيم مطلقة وثابتة، هذا التدافع الذى يقف في وجه الاستعلاء الثقافي الغربي الذى يريد فرض شكلًا واحدًا من الثقافة والقيم ضمن العولمة الثقافية، فإننا نجد مجموعة من المظاهر التي شكلت في مجموعها خصوصية لهذا المونديال كونه أول مونديال يقام على أرض عربية إسلامية تميزت ساحتها بمجموعة من السمات التي تعبر بشكل نسبي -ولا نقول مطلق- عن الهوية العربية الإسلامية، التي ترفض مجموعة من المعايير الغربية، كفصل القيم الأخلاقية الدينية عن الحياة، والدعوة للتطبيع مع كل الأفكار الغربية، حتى وإن كانت شاذة وتنطلق من جذور تنافي قيم مجتمعات أخرى. من هنا فإن ما شهده المونديال من تدافع ثقافي بين التمسك بالهوية العربية والإسلامية في مقابل رفض المعيارية الغربية في عدة جوانب قد لفت أنظار العالم، ومن هذه التجليات:
أولًا: الحضور البارز للقضية الفلسطينية، فقد كان العلم الفلسطيني أيقونة واضحة في المونديال، عندما يرفع ترتفع حوله الأصوات وتلتف حوله الهتافات، وذلك في مقابل غياب السردية الإسرائيلية، والعلم الإسرائيلي بطبيعة الحال، فقد ظهر في المونديال حجم النبذ والرفض لإسرائيل والإسرائيليين من قبل العرب والمسلمين، حتى لو كان هؤلاء الإسرائيليون يحاولون التواصل من واقع كونهم صحافيين أو غير ذلك، ففي حوار بين صحفي إسرائيلي ومجموعة من اللبنانيين أصر اللبنانيون على نفي وجود شيء اسمه إسرائيل في مقابل وجود فلسطين، وهنا رد الصحفي الرد الروتيني المعتاد المتوقع بأن هناك إسرائيل وهي أمر واقع[11].
وفي هذا السياق كان بعض المشجعين يقومون برفع العلم الفلسطيني، وآخرون يظهرون وهم يرتدون الشال الفلسطيني، وذلك بجانب لاعبي المنتخبات العربية الذين حرصوا على رفع العلم الفلسطيني بجانب علم دولتهم، يأتي هذا في وقت زادت فيه الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الشعب الفلسطيني، ومحاولات إسرائيل لتوسيع مشاريعها الاستيطانية في قطاع غزة، لذا كان حضور القضية الفلسطينية في المونديال بمثابة رسالة لإسرائيل والحكومات الداعمة والمطبعة معها، وللعالم الغربي -الذي يسعى بكل قوة في ملف التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني- بأن القضية ما زالت حية لدى الشعوب العربية والإسلامية، وهو ما اعترفت به وسائل الإعلام الإسرائيلية التي كتبت عن توجس إسرائيل من تجدد التضامن العربي فيما بعد المونديال، بما يقضي على أحلامها وعلى مشروعها الهادف إلى جر مزيد من الدول العربية إلى صف التطبيع[12].
ثانيًا: وجود مجموعة من الرسائل العقدية والقيمية الدينية جزءًا من المونديال، تَمَثَّل ذلك في حرص الدوحة على تعريف ضيوفها بتراثها العربي الإسلامي الذي تعرض لكثير من التشويه من قبل دوائر غربية معادية للعرب وللحضارة الإسلامية[13]. من مظاهر ذلك استهلال البطولة بتلاوة آيات من القرآن الكريم من قبل شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. كما حاولت قطر استغلال زخم الحدث الذي يضم فئات وجنسيات وأديان مختلفة في الدعوة إلى الإسلام، وذلك بنشر أعداد كبيرة من اللوحات والجداريات في شوارع البلد تحمل آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة، مترجمة للغة الإنجليزية خاصة، وذلك لتعريف شعوب العالم بأخلاق الإسلام السمحة، وأخلاق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، مع وضع عدد من الفنادق خاصة بالعاصمة الدوحة “باركود” في غرفها للتعريف بالإسلام بكل لغات العالم. من ناحية أخرى تم منع بيع المشروبات الكحولية في ملاعب كأس العالم من قبل اللجنة المنظمة لفعاليات كأس العالم بقطر، وذلك بعد حصولها على اعتراف الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بذلك[14].
في هذا الإطار أيضًا قدمت المساجد المحلية جولات متعددة اللغات للزوار، كما أتاح المركز الثقافي الإسلامي في الدوحة القيام بجولات افتراضية في مدينة مكة المكرمة، فضلًا عن قيام الأكشاك في الأماكن السياحية بتقديم نسخ مجانية من القرآن الكريم، كما توافرت كتيبات للتعريف بالإسلام في أروقة الفنادق[15].
ثالثًا: يأتي البعد الثقافي والتمسك بالهوية العربية، ضمن الخصائص الواضحة لهذا المونديال، حيث تم الاحتفاء بالهوية العربية والطابع العربي التقليدي؛ الزى العربي والمشروبات والمأكولات العربية إلى غير ذلك من مظاهر الثقافة العربية، كما ظهر نوع من الوحدة العربية متمثل في المزج بين الأناشيد الوطنية للدول العربية المشاركة بالبطولة مع أعلام تلك الدول[16]، ومن أهم مظاهر التماسك التي ظهرت في هذا المحفل تأسيس رابطة الجمهور العربي وهى مبادرة فريدة من نوعها تهدف إلى توحيد المشجعين العرب من خلال تحفيز وقوفهم بجانب المنتخبات العربية المشاركة في البطولة تحت هتافات واحدة وروح واحدة تعزز من الهوية العربية[17].
رابعًا: البعد السياسي الذي تحول معه شعار الفيفا “في كرة القدم لا مكان للسياسة” إلى نقيضه، فكما عكس المونديال تداخلًا بين الرياضة والقيم الدينية، وبين الرياضة والهوية الثقافية، فإنه كان أيضًا مليئًا بالإسقاطات والمشاهد التي لا تخلو من أبعاد سياسية واضحة، ابتداءً بالحضور القوي للقضية الفلسطينية، وحضور العديد من رؤساء الدول وبالأخص الرئيس المصري والرئيس التركي وكذلك ولي العهد السعودي، في إطار تجمع غير مسبوق لهؤلاء الرؤساء الثلاثة، بعد فترة طويلة من القطيعة والخلافات بين كلٍ من مصر والسعودية من جانب وتركيا وقطر من جانب آخر. ثالثًا جاءت بعض المباريات تحمل العديد من الرسائل السياسية، ولعل أهمها وأكثرها وضوحًا مباراة أميركا وإيران، حيث كان مما تداوله المعلقون بشكل طريف أن هاتين الدولتين لأول مرة يخوضان الصراع خارج العراق، كما أن آخر لقاء بين الدولتين في كأس العالم كان عام 1998 في فرنسا لتعود المواجهة بينهم مرة أخرى بعد مرور 24 عاما ولا يزال الصراع بينهما مستمرًا. وعلى صعيد المنتخبات كان الحضور السياسي ظاهرًا أيضا، فعلى سبيل المثال رفض المنتخب الإيراني ترديد النشيد الوطني احتجاجًا وتضامنًا مع المحتجين في الشوارع الإيرانية آنذاك بعد مقتل مهسا أمينيى على أيدي شرطة الأخلاق[18]. بالإضافة إلى ذلك يأتي موقف وزيرة الداخلية الألمانية التي ارتدت شعار المثليين كإشارة لدعم عناصر منتخب بلدها الذين كمموا أفواههم أثناء التقاط صورة الفريق، اعتراضًا على السياسات القطرية الرافضة لمجتمع الميم[19].
الخاتمة:
يظهر من خلال ما تجلى في المونديال من مظاهر التدافع والتعارف الحضاري مشهد اعتزاز بالذات تفتقده الشعوب العربية والإسلامية التي تعاني من الوقوع تحت سطوة الهيمنة الغربية في كل مناحي الحياة، وتعمل على إفقاد هذه الشعوب ذاكرتها التاريخية والثقافية والقيمية عن طريق إحلال قيم أخرى ومعايير أخرى وتاريخ آخر، ومن هنا كان المونديال -دون مبالغة فيما أحدثه من أثر ودون إغفال لما فيه من جوانب خلل وتشوهات في تقديم النموذج الإسلامي المثالي- تجربة ونموذجًا، أحيا أملًا في وعي الشعوب التي لا تجد ساحات آمنة للتعبير عن نفسها، في ظل أمر واقع يفرض نموذجًا واحدًا، ويكمم الأفواه والعقول حتى عن التمسك بالقضايا الكبرى، فالشعور بالوحدة العربية والإسلامية، ومحاولة التمسك بالقيم والهوية الثقافية وقضايا الأمة الكبرى، كالقضية الفلسطينية، أظهر أن هذه الشعوب وهذه الأمة مازالت حية على الرغم من شتى أنواع الحروب التي تواجهها، والتخلف الحضاري الذي تعانيه، كما أظهر أن اللابديل الغربي أسطورة يمكن تبديدها بنموذج آخر، أقام حضارة عاشت ما يقرب من عشرة قرون، ومازال قادرًا أن يحيا من جديد، وأن يأخذ مكانه على الساحة العالمية مرة أخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحثة في العلوم السياسية.
[1] زيجمونت باومان، ليونيداس دونسكيس. الشر السائل: العيش مع اللابديل. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر. 2018، ص. 23.
[2] Chad Tallman. The threat of western universalism. International Letters of Social and Humanistic Sciences. vol.10. September 2013.
[3] عطية عدلان. مونديال قطر وأزمة الهوية الغربية. الجزيرة. 5 ديسمبر 2022. متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3jglzPG
[4] Thomas Ross Griffin. National identity, social legacy, and Qatar 2022: the cultural ramifications of FIFA’s first Arab World Cup. Soccer and Society. vol.20. no.7-8. 21 October 2019.
[5]محمد بسيوني عبد الحليم. كيف أصبحت كرة القدم أداة للتنافس الجيوسياسي العالمي. إنترريجونال للتحليلات الإستراتيجية. 25 نوفمبر 2022. متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3WLvsCz
[6] US columnist: Qatar World Cup highlights Western double standards. China Daily, 29 November 2022. available on: https://bit.ly/3XPPugF
[7] عزة مختار. التدافع الحضاري صراع أم سنة كونية. بصائر الفكر، 26 ديسمبر 2019، متاح على الرابط التالي:
[8] عبد الموجود الدرديري. مونديال قطر والتعارف الإنساني. الجزيرة، 23 نوفمبر 2022. متاح على الرابط التالي:
[9] عزة مختار. التدافع الحضاري صراع أم سنة كونية. مرجع سابق.
[10] محمد عمارة. الحضارات العالمية تدافع أم صراع. القاهرة: نهضة مصر. ديسمبر 1998. ص. 18-21.
[11]، سري سمور. مونديال قطر 2022 استحضار الصراعات الثقافية. الجزيرة. 27 نوفمبر 2022. متاح على الرابط التالي:
[12] رضوى الشريف. قراءة في رسائل مونديال قطر 2022. مركز شاف للدراسات المستقبلية وتحليل الأزمات والصراعات (الشرق الأوسط وإفريقيا). 14 ديسمبر 2022. متاح على الرابط التالي: https://bit.ly/3XFXoZD
[13] المرجع السابق.
[14] حسان زهار. انطلاق أول مونديال بملامح “إسلامية”. الإخبارية. 20 نوفمبر 2022. متاح على الرابط التالي:
[15] LUIS ANDRES HENAO. Qatar offers World Cup visitors an introduction to Islam. AP news. 17 December 2022. available on: https://bit.ly/3R9eP2z
[16] رضوى الشريف. قراءة في رسائل مونديال قطر 2022. مركز شاف للدراسات المستقبلية وتحليل الأزمات والصراعات (الشرق الأوسط وإفريقيا). مرجع سابق.
[17] إنشاء رابطة الجمهور العربي لتشجيع المنتخبات العربية. الدستور، 20 أكتوبر 2022. متاح على الرابط التالي:
[18] رضوى الشريف. قراءة في رسائل مونديال قطر 2022. مرجع سابق.
[19] محمد جرادات. ثقافة الاستكبار الغربي في مونديال قطر. الميادين. 3 ديسمبر 2022. متاح على الرابط التالي: