إشكالية النسخ في قراءة الوحي: دراسة نقدية

إشكالية النسخ في قراءة الوحي دراسة نقدية(*)

أ. جميلة تِلوت(**)

مقدمة:

يعد النسخ آلية من آليات فهم الخطاب الشرعي في حالة التعارض والتنافي بين النصوص الشرعية، فهو مرتبط به في الأدبيات التفسيرية، ويعتبر النسخ من المباحث المدروسة في أكثر من حقل معرفي؛ فقد بحث في الحقل التفسيري، كما درس في الحقل الأصولي، خصوصا عند الحديث عن التعارض والترجيح، وذلك لمعرفة كيفية الترجيح بين النصوص بنسخ أحدهم حين يتعذر الجمع أو الترجيح بينها بإحدى الآليات المعتبرة، وهكذا صار النسخ مبحثا أصيلا في الثقافة الإسلامية.

لكن أصالته لا تمنع من التساؤل حول ماهيته ووظيفيته، خصوصا أنه يرتبط بالنصوص المؤسسة لهذه الثقافة، فهو يرتبط بالوحي المقدس، ويثير إشكالات جمة حول خصائص هذا الوحي، حيث لا يخفى أن ادعاء النسخ يوقع في جملة إشكالات.

وأول ملاحظة تتبدى للمطالع للكتابات التي عالجت موضوع النسخ من المتقدمين الاختلاف في تعيين الآيات المنسوخة، حيث نجد الآيات التي ادُعِي فيها النسخ متفاوتة، فكتاب قتادة بن دعامة (117هـ) عالج حوالي أربعين قضية نسخ، والنحاس (245هـ) حوالي 134 آية، وابن الجوزي 148 آية، وابن البارزي (683هـ) 249 قضية(1)، وأحصى السيوطي في الإتقان عشرين آية، وليس إطلاق النسخ في هذه الأمثلة على مدلول واحد، وهذا التعدد الدلالي لمفهوم النسخ هو الذي يفسر لنا هذا التفاوت في الإحصاء الاجتهادي، بين مكثر ومقل، فما هو مفهوم النسخ؟

وكيف يمكن القول إن هذه الآية منسوخة، بمعنى ألغي حكمها واستمرت تلاوتها، ومن خصائص القرآن الاستمرارية الزمانية والمكانية؟ وكيف يمكن أن نجمع بين دعوى النسخ وأحادية الكتاب وإحكامه؟

وللإجابة عن الأسئلة السالفة الذكر وجب ذِكر أسئلة قبلية مؤسسة؛ وهي تنقسم إلى أسئلة نظرية، وأخرى تطبيقية.

فأما الأسئلة النظرية فيأتي على رأسها التساؤل عن مفهوم النسخ. فما هو مفهوم النسخ كما قرره القرآن الكريم؟ وما استعمالاته في المدونات التفسيرية الأولى؟ أي ما مفهوم النسخ في مرحلة القراءة الأولى؟

إن التركيز على الدلالات الرئيسية للنسخ في النص المؤسس، القرآن الكريم، بالإضافة إلى ما صح من الأحاديث النبوية، وكذا النصوص التراثية الأولى سيكون المدخل الأنجع لمعالجة دعوى النسخ من مدخل مفاهيمي سليم.

ومن الأسئلة النظرية كذلك التساؤل عن خصائص الخطاب الخاتم ومدى توافق النسخ أو تعارضه معه، فهل المفهوم الذائع للنسخ يتناسب وخصائص الخطاب القرآني؟

ثم يأتي السؤال التطبيقي ليبحث عن أدلة عملية لهذه الدعوى في البيان النبوي، فهل يوجد نص نبوي يؤسس لدعوى النسخ كما جاءت في الدراسات القرآنية المتقدمة والمتأخرة؟

وكيف يمكن استثمار آليات فهم النصوص عند تعارضها دون الإخلال بخصائص هذا النص وركائزه؟

ولا بد أن أؤكد أن نقد دعوى النسخ يثير حرجا، لكنه أمر لا بد منه، لتعلقه بتفسير النص الديني قديما وحديثا؛ الأمر الذي يستدعي مناقشة جادة لهذه المسألة بآليات علمية من صميم التداول المعرفي.

وسأعمد في ورقتي إلى الحفر عن جذور هذا المفهوم، ثم تبين تطوره الدلالي في المرحلة الأولى مع بعض المقارنات الضرورية، ليتم الانتقال بعد ذلك إلى الحديث عن وظيفية النسخ وأثره على العمل التفسيري، وحتى لا تكون الورقة نظرية بحتة، فإني سأعمد إلى مناقشة بعض الآيات الواردة في المدونات التفسيرية التأسيسية، والتي ادعي فيها النسخ ونرى صحة هذا الادعاء من عدمه في أفق اقتراح آلية تعمل على الجمع بين النصوص التي ظاهرها التعارض؛

أولا: ظهور الفكرة: جيل التلقي

إذا رمنا البحث عن حقيقة الفكرة فعلينا الرجوع أولا إلى الأحاديث النبوية باعتبارها الأنموذج الأمثل للقراءة، وباستقراء هذه الأحاديث لن نجد ذكرا للنسخ أو إشكالاته، لأن التعارض ممتنع بوجوده صلى الله عليه وسلم فهو “البيان”، فأي إشكال عَنَّ للصحابة كانوا يرجعون إليه لبيانه وتفسيره وتوضيحه.

لكن يمكن أن يقال إنه من خلال هذا البيان تمييز الناسخ عن المنسوخ والمعمول به عن غير المعمول به، لكننا لن نجد ذلك في الأحاديث بتصريح واضح بلفظة “النسخ”.

كما أن الأحاديث التي دللوا بها على دعوى النسخ كانت في فترة متأخرة عن فترة النبوة، حيث كانت دعوى النسخ من فهم العلماء لا من تصريح النبي صلى الله عليه وسلم “البيان”.

لذلك فإن الظهور العملي لفكرة النسخ بدأ مع الصحابة، رضوان الله عليهم، حيث سنجد استعمالا للمفهوم، بمعانيه المختلفة، وهذا الظهور الجنيني للفكرة هو الذي سيتطور بعد ذلك إلى ما صار يعرف بـ “نظرية النسخ”، فمن أجل فهم هذه المرحلة “الجنينية” للفكرة في مرحلة القراءة الثانية، أي بعد مرحلة النبوة، وجب الرجوع إلى مرويات الصحابة، ولما كانت مرويات ابن عباس رضي الله عنه (68هـ) الأشهر في هذه المرحلة فإني قمت باستقراء ما ورد فيها بخصوص النسخ ليتجلى لنا تصوره، حيث سيعيننا ذلك على تلمس معنى النسخ في هذه المرحلة، وهي مرحلة البداية الرئيسية، وما أتى بعدها فقد تأسس عليها.

وقد وقع اختياري على “موسوعة مدرسة مكة في التفسير” حيث خصص صاحبها د. أحمد العمراني الأجزاء الثلاثة الأولى لتفسير ابن عباس رضي الله عنه، وجمع فيها أقوال ابن عباس من مختلف التفاسير وكتب السنن وغيرها من الأدبيات الشرعية، وهذه الأقوال ليست على درجة واحدة من الصحة فمنها الصحيح والحسن والضعيف بل والموضوع، لكن هذه الأقوال على اختلاف درجات صحتها انتشرت في الأدبيات التفسيرية ووجهت فهم النص الديني.

واستقرأت ما ورد في الموسوعة بشأن النسخ عند ابن عباس، وتجاوزت الأحاديث بهذا الخصوص خمسين حديثا من غير المكرر، فيها تسعة أحاديث تشير إلى الجانب النظري للنسخ تعريفا وأهمية، وما بقي فإما في نسخ الشرائع ولا يتجاوز ذلك خمسة أحاديث أو النسخ بين الآيات وهو يجاوز الثلاثين بالمكرر، والنسخ لا يقتصر على الأحكام وإنما يتجاوزه إلى مجال الأخبار(2)، رغم أنه انتشر في الأدبيات المتأخرة أن النسخ لا يكون في الأخبار، الأمر الذي يستلزم وقفة جادة مع مقصود ابن عباس بالنسخ في هذه المرحلة.

وانطلاقا من أقواله نجد أن للنسخ أهمية كبرى حيث يندرج ضمن المعرفة بالقرآن، وبذلك فسر ابن عباس الحكمة في قوله عز وجل: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة:269](3)، وأراد بالمحكم الناسخ وبالمتشابه المنسوخ(4)، كما فسر قوله تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت) [الرعد:39] هو القرآن كان يمحو ويثبت وينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء وينسخ ما شاء ويثبت ما شاء وهو المحكم (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد:39] قال: جملة الكتاب وأصله(5). وارتفعت مكانة الناسخ والمنسوخ حين فسر قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد:17] قال: لما أنـزل الله القرآن آمنا به، فكان هدى فلما تبين الناسخ والمنسوخ زادهم هدى(6).

لكن لا تصح هذه الروايات كلها، لأنها في الغالب تذكر في معرض الحديث عن أهمية الناسخ والمنسوخ فيحشد لذلك الصحيح والضعيف، لكن هذا سيعين على فهم كيفية تشكل أهمية النسخ في العقل التفسيري بعد ذلك، لكن يظل السؤال مثارا عن حقيقته، وهذه الحقيقة ستتجلى لنا عند النظر في التطبيقات العملية.

لذلك، فإننا إذا نظرنا في تطبيقات النسخ نجد أن مفهوم النسخ إما أن يكون بين الشرائع، فيكون كتاب الإسلام ناسخا لكل الكتب السابقة(7).

أما إذا اتجهنا صوب النسخ في المسائل الشرعية فنجد أن معناه متعدد، فتارة يقصد به التبديل(8) وتارة التخصيص أو التقييد أو التوضيح، وفي الأغلب يقصد به تخصيص العموم، وتقييد المطلق، وهذا بيان ذلك؛

1- تخصيص العموم:

عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) [البقرة:221] قال: نسخ من ذلك نكاح نساء أهل الكتاب؛ أحلهن للمسلمين، وحرم المسلمات على رجالهم(9). لكن هذا النسخ ليس محل وفاق، فهناك اختلاف في الكتابي هل هو مشرك كما جاء في الآية أم يحمل على ديانته وإن طالها التحريف فيميز بين الكتابي والمشرك؟(10)

ومن ذلك أيضا قول ابن عباس في تفسيره، قال عز وجل: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وقال: (وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) [الطلاق:4]، فنسخ من ذلك وقال: (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [الأحزاب:49]، (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) [الأحزاب:49]”(11).

وقال أيضا رضي الله عنه في تفسيره لقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) [البقرة:228] قال: وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا، فنسخ ذلك فقال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ)(12).

ونفس الأمر يقال بالنسبة لمسائل الوصية فعن ابن عباس أنه قام يخطب الناس، فقرأ لهم سورة البقرة، فبين لهم فيها، فأتى على هذه الآية: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) [البقرة:180] قال: فنسخت هذه ثم قرأ حتى على هذه الآية: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) إلى قوله: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ) فقال: وهذه(13).

ويؤكد هذا المعنى ما جاء في تفسيره لقوله تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا) [النساء:8] حيث قال: إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، لا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون الناس، والٍ يرث، وذاك الذي يرزق، ووالٍ لا يرث، فذاك الذي يقول بالمعروف، يقول: لا أملك لك أن أعطيك(14).

2- تقرير حكم:

عن ابن عباس قال: (وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ ۖ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىٰ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء:15] وذكر الرجل بعد المرأة ثم جمعهما فقال: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) [النساء:16] فنسخ ذلك بآية الجلد فقال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور:2] (15).

لكنه لم ينـزل في شأن المرأة الزانية حكم إلا في سورة النور، فكان تقرير الحكم يعتبر نسخا، وليس هذا رفعا وإزالة لحكم سابق، لأنه لم يثبت أن الله U شرع حكما في حق من أتت الفاحشة.

3- توضيح للمشكل:

عن سعيد بن مرجانة، قال: جئت عبد الله بن عمر، فتلا هذه الآية: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) [البقرة:284] ثم قال ابن عمر: لئن أخذنا بهذه الآية لنهلكن، ثم بكى ابن عمر حتى سالت دموعه، فقال ابن عباس: يغفر الله لعبد الله بن عمر لقد فرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما فرق ابن عمر منها، فأنـزل الله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة:286] فنسخ الله الوسوسة وأثبت القول والفعل(16)، فهنا توضيح للمشكل، حيث أشكلت الآية على الصحابة رضي الله عنهم فنـزلت الآية التي تثبت عدم المحاسبة بحديث النفس.

4- رفع الحكم:

وهذا المعنى هو المشتهر لدى جمهور الأصوليين والمفسرين، ومن النماذج التي يمثل بها نسخ آية السيف لكثير من الآيات، وهو تمثيل مشكل كما لا يخفى، لكن جرى التمثيل به استنادا إلى بعض المرويات التفسيرية، وتظل مرويات ابن عباس رضي الله عنه الأشهر، مع الاختلاف في صحتها ومفهوم النسخ المقصود فيها.

فعن ابن عباس في قوله U: (إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) [النساء:90] قال: نسختها براءة: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) [التوبة:5] (17).

وعن ابن عباس في قوله U: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) [الأنفال:61] قال: نسختها هذه الآية: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) إلى قوله: (صَاغِرُونَ) [التوبة:29] (18).

وكثير من الآثار المروية عن ابن عباس في هذا الباب لا تصح، لذلك نجد من جمع بين النصوص وأعملها جميعها رافعا التعارض بينها(19).

5- البيان والتوضيح:

عن ابن عباس، قال U: (إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [التوبة:39] و(مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ) إلى قوله: (يَعْمَلُونَ) [التوبة:120-121] نسختها الآية التي تليها: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً) [التوبة:122]. فمعنى نسختها هناك بينتها وأوضحتها.

فانطلاقا من استقراء أقوال ابن عباس يتضح لنا أن مدلوله للنسخ متعدد؛ فهو إما تخصيص للعموم أو تقييد للمطلق أو توضيح للمشكل أو رفع للحكم أو غير ذلك.

فعند نقل أثر وردت فيه لفظة “النسخ” عند ابن عباس أو غيره، ممن ينتمون لجيل التلقي، يجب تبين مدلول النسخ، حيث إن المقصود عند المتأخرين مباين لما كان الأمر عليه عند المتقدمين، ولا يصار إلى مدلول الرفع إلا بقرينة مرجحة، خصوصا أنه باستقراء أقوال ابن عباس يتضح أن إطلاق النسخ بمعنى “تخصيص العموم” هو الأكثر لا معنى “رفع الحكم”، مما يستلزم ضرورة التثبت عند تحديد مدلول النسخ عند الاستشهاد بهذه الآثار، بالإضافة إلى ضرورة التمييز بين الصحيح والضعيف منها.

وعليه، فلا يفهم كل إطلاق للنسخ أنه رفع كلي لحكم الآية، ولو لم تكن في مجال الأخبار، حيث إنه لا نسخ في الأخبار كما استقر عند المتأخرين بخلاف المتقدمين، ذلكم أن النسخ يعم في مجال الأخبار لا بمدلول إزالة الحكم، وإنما بدلالاته الأخرى.

ويتأكد لدينا أن النسخ مسألة اجتهادية حيث نجد كثيرا من الأحاديث ادعي فيها النسخ ثم جاء ابن عباس لينفي هذه الدعوى ويبين أنها محكمة(20)، فليس النسخ إرادة إلهية لا يجوز خلافها، وإنما هو اجتهاد قد يصيب الناظر وقد يخطئ فيه، وتظل القاعدة المقدمة في الباب أن الجمع بين النصوص أولى من ترجيح أحدها.

ثانيا: بداية النسخ عند المفسرين: مرحلة التأسيس

لمعرفة بداية النسخ في مرحلته التفسيرية الأولى، أي نهاية القرن الأول والقرن الثاني، كان من اللازم الرجوع إلى تطبيقات النسخ الموجودة إما في أقوال التابعين أو تابعيهم، ولما كانت التفسيرات التي وصلتنا لهذه المرحلة قليلة، فإني سأقتصر على أمثلة تطبيقية استقرائية من تفسير مجاهد (104هـ) وهو تابعي لكنه ينقل كثيرا عن الصحابي ابن عباس، ثم كتاب معاني القرآن للفراء (207هـ) وهو من أوائل كتب التفسير(21).

1- النسخ عند مجاهد (104هـ):

القارئ لهذا التفسير لن يجد حضورا قويا للنسخ، كما هو شأن مرويات ابن عباس رضي الله عنه أو شأن المتأخرين، حيث أكثروا من روايات النسخ، وحتى الروايات المذكورة في هذا التفسير فجلها عن ابن عباس، كما نجده يرد على بعض دعاوى النسخ، مما يؤكد أن النسخ مسألة اجتهادية أساسا.

– فعن عطاء عن ابن عباس في قوله U: “{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] قال: «يتكلفونه ولا يستطيعونه» {طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 184] «فأطعم مسكينا آخر» {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} [البقرة: 184] «وليست منسوخة». قال: ابن عباس: “ولم يرخص في هذه الآية إلا للشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام، والمريض الذي علم أنه لا يشفى… عن مجاهد، قال: «كانوا يصومون، فإذا أمسوا أكلوا وشربوا وجامعوا، فإذا رقد أحدهم حرم ذلك عليه إلى مثلها من القابلة، وكان منهم رجال يختانون أنفسهم في ذلك، فخفف الله عنهم، وأحل لهم الطعام والشراب والجماع قبل النوم وبعده في الليل كله»(22).

فنلحظ هنا نفي النسخ على لسان ابن عباس، مما يظهر أن القول بالنسخ كان منتشرا ومعمولا به على اختلاف دلالاته، فهو مسألة اجتهادية اختلافية لا توقيفية.

– (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُـمَا ۖ فَإِن تَابَـا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًـا) عن مجاهـد، في قولـه {فَآذُوهُـمَا} [النساء: 16] يعني: «سـبا، ثم نسـختها». {الزَّانِيَـةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}(23).

وهذا من الأمثلة المنتشرة في الأدبيات التفسيرية والأصولية المتقدمة والمتأخرة، لكن هل يفهم من النسخ هنا نسخ الحكم الكلي، خصوصا أننا نجد في الحديث الذي يستدلون به أن الذي يرجم الزاني المحصن لا البكر؟ والراجح أن المقصود تخصيص عموم الآية لا رفع حكمها كليا، وقد سبق بيان ذلك في التأسيس لمفهوم النسخ عند ابن عباس.

– (لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَـىٰ كُـلِّ شَـيْءٍ قَـدِيرٌ) [البقـرة:284].. عن ابن عبـاس، قال: ” لما نـزلت {وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] نسختها الآية التي بعدها {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَـتْ وَعَلَيْهَـا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] “(24).

وقد سبق معنا هذا المثال، والمقصود من النسخ في هذا المقام رفع التوهم وتوضيح للمشكل الذي وقع للصحابة عند نـزول الآية.

فهذه هي جل الأمثلة الواردة في تفسير مجاهد، ونلحظ أنه لا يرد فيها معنى النسخ بمدلول الرفع، وعلى فرض وروده فهو مدلول من بين مدلولات أخرى، لكن يظل المفهوم الكلي للنسخ مطلق البيان، نظرا للتعارض الذي يقع عند محاولة الجمع في فهم النصوص، فيرى الناظر أنها متعارضة فيحتاج أن يرفع هذا التعارض إما بتخصيص العموم أو تقييد المطلق أو غير ذلك من الآليات التي تجمع بين الأدلة الشرعية.

2- النسخ عند الفراء في كتابه “معاني القرآن” (207هـ):

ومجموع الأمثلة الدالة على النسخ في هذا التفسير ثلاث:

قال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) [البقرة:184]، يقال: وعلى الذين يطيقون الصوم ولا يصومون أن يطعم مسكينا مكان كل يومٍ يفطره. ويقال: على الذين يطيقونه الفدية يريد الفداء. ثُمَّ نسخ هذا فقال تبارك وتعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) من الإطعام(25).

وقد تكون نصبا من قوله «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ» «شَهْرُ رَمَضانَ» توقع الصيام عليه: أن تصوموا شهر رمضان.

وقوله: “فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ” دليل على نسخ الإطعام. يقول: من كان سالما ليس بمريض أو مقيما ليس بمسافر فليصم “وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ” قضى ذلك. “يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ” فِي الإفطار فِي السفر “وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ” الصوم فيه(26).

وقد سبق بيان معنى النسخ في هذه الآية في أحاديث ابن عباس فليس الأمر محل وفاق.

وقوله: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) يقول من قتالِهم فِي شيء، ثُمَّ نسختها: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة:5] (27).

وآية التوبة هي المشهورة أنها “آية السيف” والتي نسخت عددا من آيات القرآن، ونلحظ أن النسخ في هذا المثال الأخير اجتهادي، حيث لا يوجد نص يدل أن آية السيف نسخت هذه الآية، وإنما هو اجتهاد من المفسر حين تعارضت بين يديه النصوص.

– قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثى بِالأُنْثى) [البقرة:178].

فإنه نـزل فِي حيين من العرب كان لأحدهما طول على الآخر فِي الكثرة والشرف، فكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهور، فقتل الأوضع من الحيّين من الشريف قتلى، فأقسم الشريف ليقتلن الذكر بالأنثى والحر بالعبد وأن يضاعفوا الجراحات، فأنـزل اللَّه تبارك وتعالى هذا على نبيه، ثُمَّ نسخه قوله «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» [المائدة:45] إلى آخر الآية. فالأولى منسوخة لا يحكم بها»(28)، وإن كانت القراءة السياقية تظهر أن لا تعارض بين الآيتين، لأن آية المائدة تحكي ما كتبه الله U في التوراة، وآية البقرة تقرر حكم القصاص وتحدده في شريعتنا(29).

فمن خلال الأمثلة السابقة يظهر لنا أن النسخ آلية لرفع التعارض بين النصوص؛ فتارة يكون آلية للجمع بتخصيص العموم وتقييد المطلق ورفع التوهم فيكون النسخ بهذا الإطلاق “آلية بيانية”؛ وتارة يكون آلية للترجيح المطلق، أي إلغاء حكم النص ويتجلى ذلك عند إلغاء العمل بآية عند ورود النص المتأخر، وليس هناك نص يفيد هذا الإلغاء الكلي للحكم، فيغدو النسخ بهذا الإطلاق “آلية إلغائية”، لأنه يترتب عليه رفع حكم نص، والأصل في الأحكام الدوام لا الرفع والإلغاء.

ومن خلال هذه الأقوال التفسيرية مجتمعة ستتضح لنا مكانة النسخ في التفسير، فهذه الآثار هي المؤسسة لنظرية النسخ والتي اجتهد فيها حتى بلغت الآيات المنسوخة عددا كبيرا، لكن محل الإشكال في اعتبار المدلول الأصلي للنسخ هو رفع حكم الآية بمجرد معرفة المتأخر من المتقدم، فيصير التاريخ حَكما على “الحكم” دون تثبت من مدلول النسخ عند المتقدمين، فليس تخصيص العموم أو تقييد المطلق أو توضيح المشكل بمحل نـزاع واختلاف، وإنما محل النـزاع الحقيقي هو مدلول إزالة الحكم بشكل أبدي، وهذا ما سيظهر بشكل بارز عند التأصيل للنسخ.

وسيتعمق التأصيل للنسخ بشكل أعمق على يد أهل الأصول، حيث جمّعوا الروايات المتعلقة بالنسخ وقاموا بالتأصيل له من الكتاب والسنة حتى يصير مبحثا أصيلا.

ثالثا: بداية النسخ عند الأصوليين: مرحلة التأصيل

إذا استعمل “النسخ” في التفاسير مفعَّلا، فإننا سنجده في كتابات أهل الأصول مؤصلا، وهذا التأصيل ينطلق أساسا من النماذج التطبيقية، إلا أنه يتميز بالبحث عن مشروعية النسخ في الكتاب والسنة ليصير مبحثا أصيلا في التراث الإسلامي.

وحين الحفر عن لفظة النسخ في أدبيات القرن الثاني الهجري لن نجد استعمالا واسعا للمفهوم بله التأصيل له، لكن مع الإمام الشافعي، وهو من أعلام القرن الثاني الهجري (150هـ-204هـ)، ستغدو المسألة أكثر وضوحا، لذلك سأقتصر في هذا المقام على تأصيله باعتبار كتابه الأصولي أول ما بلغنا من الأدبيات الأصولية، وهو ينتمي لمرحلة بداية قراءة الوحي، فهو من المحاولات التأصيلية الجادة لفهم الخطاب الشرعي، والتي وجهت مسار الدرس الأصولي، كما أطَّرت عددا من أدبيات فهم النصوص (علم أصول التفسير/علم أصول الفقه).

وقد ألفت “الرسالة” في القرن الثاني الهجري، وقد كانت مسألة الناسخ والمنسوخ من القضايا المشكلة في هذا التاريخ، أي القرن الثاني الهجري، حيث إنه من أسباب تأليف رسالة الشافعي سؤال عبد الرحمن بن مهدي للشافعي عن عدد من المسائل من بينها بيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، ثم جعل الشافعي معرفة ناسخ كتاب الله ومنسوخه من جماع علم كتاب الله(30).

لذلك سأعمد إلى عرض ملامح نظرية النسخ كما جاءت مع الشافعي ليتيسر بعد ذلك النظر فيها بمنهاج معرفي يتناسب وخصائص الوحي الخاتم.

1- مفهوم النسخ:

النسخ في اصطلاح الشافعي يأتي في مقابل الإثبات، حيث قال إن الله فرض فرائض في الكتاب أثبتها، وأخرى نسخها: رحمة لخلقه، بالتخفيف عنهم، وبالتوسعة عليهم، زيادة فيما ابتدأهم به من نعمه. وأثابهم على الانتهاء إلى ما أثبت عليهم: جنته، والنجاة من عذابه، فعمَّتهم رحمته فيما أثبت ونسخ(31).

فنرى أن النسخ أتى مقابل الإثبات في هذا السياق، أي أن المعنى الأصلي للنسخ هو إزالة الحكم.

ثم يبين الشافعي معنى النسخ في عبارة صريحة إذ يقول: ومعنى “نسخ”: ترك فرضَه، كان حقا في وقته، وتركُه حقا إذا نسخه الله، فيكون من أدرك فرضه مطيعا به وبتركه، ومن لم يدرك فرضه مطيعا باتباع الفرض الناسخ له(32).

ومعنى الشافعي للنسخ يقارب معنى إزالة الحكم ورفعه، وهو الذي استمر في الأدبيات الأصولية بعد ذلك، فصار الدلالة المركزية، فإذا أطلق مفهوم “النسخ” دون قرينة انصرف معناه إلى رفع حكم شرعي بدليل شرعي مع التراخي.

2- أقسام النسخ:

يرى الإمام الشافعي أن الكتاب ينسخ بالكتاب لا بالسنة، لأنها تبع للكتاب، بمثل نـزل نصا، ومفسرة معنى ما أنـزل الله منه جُملا(33)، لذلك كان من القواعد المتعلقة بالنسخ عند الشافعي أن الشيء ينسخ بمثله، فالقرآن ينسخ القرآن والسنة تنسخها السنة، لأن الله لم يجعل لآدمي بعده ما جعل له(34).

وتحرج الشافعي من نسخ السنة بالقرآن خصوصا إذا لم يؤثر عن رسول الله السنة الناسخة، فيجوز أن يقول في عدد من السنة أنها منسوخة كنسخ الرجم مثلا بحد الجلد.

لكن مع ذلك نجد الإمام الشافعي يقول بنسخ السنة لبعض الآيات انطلاقا من حديث وقع عليه إجماع العلماء.

3- تأصيل النسخ:

وقد استدل الشافعي في تأسيسه للنسخ على جملة آيات:

 أولها: قوله تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد:39]، ومعنى الآية يمحو فرض ما يشاء، ويثبت فرض ما يشاء.

ثم استدل بقوله U: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:106]. فأخبر الله أن نسخ القرآن وتأخير إنـزاله لا يكون إلا بقرآن مثله(35).

كما استدل بقوله عز وجل: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ۙ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ) [النحل:101] (36).

وهذه الاستدلالات كلها تشير إلى أن المعنى الرئيس للنسخ هو رفع الحكم لا التخصيص أو التقييد، يدل على ذلك معاني “التبديل والمحو”، ومن هنا نفهم انتشار القول بالنسخ على أنه رفع للحكم الأصلي عند المتأخرين.

4- التمثيل للنسخ:

دلل الشافعي بأمثلة تطبيقية على وجود النسخ في القرآن والسنة، وهذه الأمثلة ستجلي لنا أكثر تصوره للنسخ في هذه المرحلة.

أ- نسخ فرض الصلاة قبل الصلوات الخمس:

وقد ذكر هذا المثال تحت عنوان “الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه”، وقد سمع من بعض أهل العلم أن الله أنـزل فرضا في الصلاة قبل فرض الصلوات الخمس، فقال: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) [المزمل:1-4] ثم نسخ هذا في السورة معه، فقال: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ)…[المزمل:20]. ولما ذكر الله بعد أمره بقيام الليل نصفه إلا قليلا أو الزيادة عليه فقال: (أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ) [المزمل:20] فخفف فقال: (عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ) قرأ إلى (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل:20].

ثم يقول الشافعي: فكان بينا في كتاب الله نسخ قيام الليل ونصفه والنقصان والزيادة عليه بقول الله: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)(37).

لكن معنى الآية يحتمل النسخ وغيره(38)، ثم يقول: فكان من الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين، فوجدنا سنة رسول الله تدل على ألا واجب من الصلاة إلا الخمس، فصرنا إلى أن الواجب الخمس، وأن ما سواها من واجب من صلاة قبلها: منسوخ بها استدلالا بقول الله: (فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ) وأنها ناسخة لقيام الليل ونصفه وثلثه وما تيسر(39).

فيظهر لنا الاحتمال القوي الذي يعتري دلالة الآي، وأن النسخ دلالة من بين دلالات أخرى تحتملها الآيات.

ب- نسخ الصلاة إلى بيت المقدس:

ومن الأمثلة التي ذكرها في باب النسخ نسخ القبلة، حيث وجه الله رسوله للقبلة في الصلاة إلى بيت المقدس، ثم نسخ الله قبلة بيت المقدس، ووجهه إلى البيت(40)– أي البيت الحرام.

وعن ابن عمر قال: “بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن النبي قد أنـزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة، فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة”.

ويمكن أن يصلى لجهة الشام في صلاة الخوف فقط، كما يقول الشافعي، والاستدلال بالكتاب في صلاة الخوف قول الله: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا) [البقرة:239] وليس لمصلى المكتوبة أن يصلي راكبا إلا في خوف ولم يذكر الله أن يتوجه للقبلة(41)، وجاء في الحديث: “فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها”(42).

وهذا من الأمثلة المنتشرة في أدبيات النسخ خصوصا أو التفسير عموما، واستثنى الشافعي صلاة الخوف، وليس للاضطرار حكم الاختيار.

ج- نسخ غلبة العشرين للمئتين بالمائة للمئتين في القتال:

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) [الأنفال:65].

ثم أبان في كتابه أنه وضع عنهم أن يقوم الواحد بقتال العشرة وأثبت عليهم أن يقوم الواحد بقتال الاثنين فقال: (قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [الأنفال:66].

وعن ابن عباس قال: “لما نـزلت هذه الآية (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) كتب عليهم ألا يفر العشرون من المائتين فأنـزل الله: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) إلى (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فكتب أن لا يفر المائة من المائتين”(43).

ثم يقول الشافعي: وهذا كما قال ابن عباس إن شاء الله وقد بيَّن الله هذا في الآية وليست تحتاج إلى تفسير(44).

د- نسخ الحبس والأذى بالجلد ونسخ الجلد بالرجم:

(وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا) [النساء:15-16].

ثم نسخ الله الحبس والأذى في كتابه، فقال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور:2] فدلت السنة على أن جلد المائة للزانيين البكرين.. فعن “عبادة بن الصامت”، أن رسول الله قال: “خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم”…فدلت سنة رسول الله أن جلد المائة ثابت على البكرين الحرين، ومنسوخ عن الثيبين، وأن الرجم ثابت على الثيبين الحرين، لأن قول رسول الله: “خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم”، أول ما نـزل، فنسخ به الحبس والأذى عن الزانيين.

فلما رجم النبي “ماعزا” ولم يجلده، وأمر “أنيسا” أن يغدو على امرأة “الأسلمي”، فإن اعترفت رجمها: دل على نسخ الجلد عن الزانيين الحرين الثيبين، وثبت الرجم عليهما، لأن كل شيء أبدا بعد أول فهو آخر.

فدل كتاب الله، ثم سنة نبيه، على أن الزانيين المملوكين خارجان من هذا المعنى”(45).

فنرى أن النسخ في هذا المثال يعم في رفع الحكم كما في الشطر الأول، حيث ارتفع حكم الحبس والأذى بالجلد، ويشمل أيضا تخصيص العموم، حيث خصص الجلد المذكور في الآية بأنه خاص في الزاني البكر لا المحصن، وجعلوا عقوبة المحصن الرجم كما جاء في الحديث، جمعا بين الأقوال.

هـ- نسخ الوصية:

وقد ذكر الشافعي هذا المثال تحت عنوان: “الناسخ والمنسوخ الذي تدل عليه السنة والإجماع”، قال الله تبارك وتعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة:180].

قال الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة:240].

فأنـزل الله ميراث الوالدين ومن ورث بعدهما ومعهما من الأقربين وميراث الزوج من زوجته والزوجة من زوجها.

فكانت الآيتان محتملتين لأن تثبتا الوصية للوالدين والأقربين والوصية للزوج والميراث مع الوصايا فيأخذون بالميراث والوصايا ومحتملة بأن تكون المواريث ناسخة للوصايا.

فلما احتملت الآيتان ما وصفنا كان على أهل العلم طلب الدلالة من كتاب الله، فما لم يجدوه نصا في كتاب الله طلبوه في سنة رسول الله، فإن وجدوه فما قبلوا عن رسول الله فعن الله قبلوه بما افترض من طاعته(46).

ثم يقول الشافعي: “ووجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنه من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي قال عام الفتح لا وصية لوارث ولا يقتل مؤمن بكافر ويأثرونه –من الأثر- عن من حفظوا عنه ممن لقوا من أهل العلم بالمغازي. فكان هذا نقل عامة عن عامة وكان أقوى في بعض الأمر من نقل واحد عن واحد وكذلك وجدنا أهل العلم مجمعين عليه”(47).

وبعد ذلك يؤكد الشافعي أنه روى حديثا منقطعا، يقر أنه ليس مما يثبته أهل الحديث، ويقول إنه قبله من نقل أهل المغازي وإجماع العامة عليه(48).

ثم ينقل عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا وصية لوارث”، فاستدللنا بما وصفت من نقل عامة أهل المغازي عن النبي أن “لا وصية لوارث” على أن المواريث ناسخة للوصية للوالدين والزوجة، مع الخبر المنقطع عن النبي وإجماع العامة على القول بذلك.

وكذلك قال أكثر العامة إن الوصية للأقربين منسوخة زائل فرضها إذا كانوا وارثين فبالميراث وإن كانوا غير وارثين فليس بفرض أن يوصى لهم(49). ويذكر الشافعي أن طاوسا وقليلا معه قالوا نسخت الوصية للوالدين وثبتت للقرابة غير الوارثين، فمن أوصى لغير قرابة لم يجز. فلما احتملت الآية ما ذهب إليه طاوس من أنَّ الوصية للقرابة ثابتة إذ لم يكن في خبر أهل العلم بالمغازي إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا وصية لوارث” وجب عندنا على أهل العلم طلب الدلالة على خلاف ما قال طاوس أو موافقته(50). ثم استدل الشافعي على رأيه بحكم رسول الله في ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم فأعتقهم عند الموت فجزَّأهم النبي ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة. ثم قال: فكانت دِلالة السنة في الحديث بينة بأن رسول الله أنـزل عتقهم في المرض وصية(51). ودل ذلك على أن وصية لميت إلا في ثلث ماله ودل ذلك على أن يرد ما جاوز الثلث في الوصية(52). ولا يخفى أن الشافعي لا يقول بنسخ السنة للكتاب إلا إذا وافقها الإجماع.

ويظهر لنا أن خيوط “نظرية النسخ” بدأت فعليا مع الشافعي في “الرسالة”، وقد فصَّل فيها القول تأصيلا وتمثيلا، لكننا نلحظ أن أقسام النسخ كانت ترجع إلى الحكم فقط، فلم يكن يكثر التفريق والتشعيب تبعا للقسمة العقلية كما وجد عند المتأخرين فقسموا النسخ إلى نسخ تلاوة دون الحكم، ونسخ الحكم دون التلاوة، ثم نسخهما معا، وغير ذلك من الأقسام.

كما أن النسخ كان مفهوما واسعا لا يقتصر على مجرد رفع الحكم وإنما يتجاوز ذلك إلى التخصيص والتقييد، وإن كان المعنى الأصلي هو رفع الحكم كما يظهر من استدلاله وبيانه.

بالإضافة إلى أن تعيين الناسخ من المنسوخ ليس مسألة توقيفية بل اجتهادية ترجع إلى اجتهاد الناظر، وهذا يتعارض مع ما جاء في بعض التعريفات بحيث ألحقوا اجتهاد الناظر في تعيين الناسخ من المنسوخ إلى اعتباره حكما ثابتا، فمثلا البصري المعتزلي يقول في المعتمد في حد النسخ: “قول صادر عن الله U أو منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيد إزالة مثل الحكم الثابت بنص صادر عن الله أو بنص أو فعل منقولين عن رسول الله مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا”(53) وهذا الرأي ليس خاصا بالمعتزلة وإنما بجل المتكلمين من أهل الأصول، بل جل القائلين بالنسخ من المتأخرين؛ فهذا الجويني يقول: “ويرجع حاصل القول في المسألة إلى أن النسخ لا يقع إلا بأمر الله تعالى ولا ناسخ إلا الله والأمر كيف فرض جهات تبليغه لله تعالى فهذا القدر فيه مقنع”(54).

ونلحظ أن الشافعي مثَّل بعدد من الأمثلة التي انتشرت بعد ذلك في الأدبيات الأصولية والتفسيرية أنها نماذج للنسخ، نسخ القبلة ونسخ الصلاة، ثم نسخ الجلد للزاني المحصن، ثم نسخ الوصية للوارثين، وهو نتيجة لتعارض ظاهري بين النصوص.

ومن هنا سنناقش هذه الاستدلالات التي تأسس عليها القول بالنسخ ثم الأمثلة المذكورة لتتجلى لنا الرؤية وتتضح.

 فهل الاستدلالات التي ذكرها الإمام الشافعي قطعية أم أنها محتملة للخلاف؟ وما قوة الآيات المستدل بها على وجود النسخ؟ ثم هل يمكن النظر في الأمثلة المذكورة والجمع بينها بآلية أخرى غير آلية النسخ، بمعنى رفع الحكم؟

رابعا: النسخ: دراسة نقدية للتأصيل والتمثيل

بعد أن استعرضنا تأصيل الشافعي لمسألة النسخ واستدلاله عليها وتمثيله لها كان من اللازم إعادة النظر في هذه الاستدلالات والتمثيلات، خصوصا أنها أطرت أدبيات تفسير النصوص بعد ذلك، بل تطور النسخ إلى أن صار مبحثا مستقلا في الأدبيات الأصولية والتفسيرية على حد سواء.

  • دراسة نقدية للتأصيل:

أول ما يمكن البدء به في هذا المقام دراسة الآيات المستدل بها للتأصيل للنسخ، وتظل تلكم الآيات التي وردت فيها لفظة النسخ أقوى الآيات في الباب؛ فهل يقصد بالنسخ في القرآن “النسخ التشريعي”، أي نسخ الأحكام داخل الشِّرعة الواحدة، أم أن يقصد به “النسخ الشرائعي”، أي نسخ شريعة الإسلام لما سبقها من الشرائع؟

وللجواب عن هذا السؤال وجب البدء بدرس مفهوم النسخ كما جاء في القرآن الكريم، بعيدا عن معاجم اللغة التي دونت في مراحل متأخرة وتأثرت بالإطلاقات التي ذكرها أهل التفسير، فامتزجت عندهم المعرفة المعجمية بالمعرفة الأصولية، لذلك نجد مدلول رفع الحكم ضمن ما حددوه، وعليه كان الرجوع للاستعمال القرآني هو فيصل التفرقة وفصل المقال في الباب.

 فما هو مفهوم النسخ في القرآن؟ وما القوة الحجاجية الاستدلالية للآيات الأخرى المستدل بها على النسخ؟

أ- مفهوم النسخ:

وردت مادة “نسخ” في القرآن أربع مرات(55):

الأولى في سورة البقرة: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:106]، وهي أقوى ما يستدل به في الباب.

الآية الثانية: (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف:154]. والنسخة هنا بمعنى المنسوخ كالمكتوب في لوح أو صحيفة(56)، فليست هذه الآية محلا للاستدلال.

الآية الثالثة: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحج:52]. قيل: إن السبب الذي من أجله أنـزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الشيطان كان قد ألقى على لسانه في بعض ما يتلوه مما أنـزل الله عليه من القرآن ما لم ينـزله الله عليه، فاشتدّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم واغتمَّ به، فسلاه الله مما به من ذلك بهذه الآيات(57). ومعنى فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي فيذهب الله ما يلقي الشيطان من ذلك على لسان نبيه ويبطله. ثم يخلص الله آيات كتابه من الباطل الذي ألقى الشيطان على لسان نبيه، ونقل الطبري معنى يستنسخ عن ابن عباس(58). وهذا الرأي يستند على قصة الغرانيق وهي قصة مكذوبة لا أصل لها(59).

ويذهب بعض المفسرين إلى أن إلقاء الشيطان يكون بالوسوسة، فالله بهديه وبيانه ينسخ ما يلقي الشيطان، أي يزيل الشبهات التي يلقيها الشيطان ببيان الله الواضح، ويزيد آيات دعوة رسله بيانا، وذلك هو إحكام آياته، أي تحقيقها وتثبيت مدلولها وتوضيحها بما لا شبهة بعده إلا لمن رين على قلبه(60).

فهذه الآية لا علاقة لها بالنسخ كما استقر عند المفسرين والأصوليين ولا تصلح للتأصيل فهي ضعيفة حجاجيا واستدلاليا.

الآية الرابعة: (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:29]. ومعنى نستنسخ هنا الكتاب أي “إنا كنا نستكتب حفظنا أعمالكم، فثبتها في الكتب وتكتبها”(61).

وعليه، فإن الآية الأولى تعتبر الآية المركزية في صياغة مفهوم النسخ، حيث انتشر في الأدبيات الفقهية والأصولية والقرآنية الاستدلال بها على دعوى النسخ، الأمر الذي يستدعي دراسة سياق الآية وسباقها ولحاقها حتى نتبين المفهوم المؤسس، والناظر لقوله تعالى: (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا) لن يجد فيها ما يشير إلى النسخ بمفهومه المتأخر، أي نسخ الأحكام بمعنى الرفع والإزالة، فلا يلزم من نسخ الآية نسخ الحكم أو الأمر الإلهي، حيث إن للآية في القرآن معان متعددة، جمعها الأصفهاني في كتابه “المفردات في غريب القرآن”: “فقد تدل تارة على البناء العالي كما جاء في قوله تعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) [الشعراء:128]، وتدل تارة على الآيات المعقولة التي تتفاوت بها المعرفة بحسب تفاوت منازل الناس في العلم كما جاء في قوله تعالى: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [الجاثية:3] (62)، وقد تدل على معان أخرى بحسب السياق.

والآيات في هذا المساق تتحدث عن إتيان موسى قومه بالبينات ثم اتخاذهم العجل (وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ) [البقرة:92]، ثم تفصل الآيات بعد ذلك الكلام عن بني إسرائيل بعد أن ضربوا بالبينات والآيات عرض الحائط، لينتقل بعد ذلك للحديث عن البينات التي أنـزلها على أمة رسوله (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ۖ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ) [البقرة:98] فالآيات البينات هي القرآن الكريم، فهو “الآيات المنـزلة”.

ليرجع الخطاب القرآني بعد ذلك للكلام عن بني إسرائيل واتباعهم ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ويرجع الخطاب مجددا للحديث عن الذين آمنوا وألا ينهجوا مثل الكفار (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [البقرة:103-108].

فنرى كيف أن السياق لم يكن يقصد الآيات بمعنى الحكم الشرعي، وإنما الآية بمعنى البينة والدليل كما جاء في سياق الحديث عن آيات بني إسرائيل، فالغرض ما ننسخ من آية بينة مثل ما أنـزلنا لبني إسرائيل نأت بخير منها، والقرآن الكريم خير الآيات وأبينها ولا شك، وهذا ما يدل عليه السياق القبلي (السباق) والسياق البعدي (اللحاق) للآية محل الاستدلال، ويتأكد ذلك بقوله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ) أي أن قوم محمد صلى الله عليه وسلم سألوا محمدًا مثل ما سئل موسى u أن يأتيهم بآية بينة، أي أن تأتيهم آية خارقة شأن آيات بني إسرائيل، فأظهر القرآن أنه سيأتي بما هو أفضل، ولا توجد آية أبين من القرآن الكريم.

فإذا جاز الاستدلال بهذه الآية على النسخ فسيكون على “نسخ الشرائع” أو ما يمكن تسميته بـ “النسخ الشرائعي” لا نسخ الأحكام، أي “النسخ التشريعي”، وأما الأول، أي نسخ الشرائع، فليس محل خلاف، وإنما النـزاع في نسخ الأحكام.

ونخلص إلى أن الاستعمال القرآني “لنسخ الآية” لا علاقة له بما وجد بعد ذلك، حيث إن المفهوم وإن استعمل تارة بمعنى الرفع والإزالة، أو الكتابة، فإن الآية المذكورة هنا غير المقصودة في كتب التفسير والأصول.

لذلك فلتقوية هذا المدلول التجأ النظار إلى آيات أخرى تكون أقرب على الدلالة على النسخ من الآيات المذكورة.

ب- نقد الاستدلال على النسخ من القرآن والسنة:

– الاستدلال من القرآن:

تعتبر الآيات التي وردت فيها “لفظة النسخ” أهم الآيات في التأصيل للنسخ والاستدلال عليه من القرآن، ولما ثبت أن الآيات لا تصلح حجة للاستدلال، بقيت عندنا آيات المحو والتبديل والتي تعتبر حجة مركزية، وهذا بيان ذلك:

قال تعالى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [الرعد:39].

اختلف في معنى هذه الآية فقال بعض أهل التأويل: يمحو الله ما يشاء من أمور عبادِه، فيغيّره، إلا الشقاء والسعادة، فإنهما لا يُغَيَّران(63). وقال آخرون: معنى ذلك: أنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت من كتابٍ سوى أمّ الكتاب الذي لا يُغَيَّرُ منه شيء(64). وقال آخرون: بل معنى ذلك أنه يمحو كل ما يشاء، ويثبت كل ما أراد(65).

وليس في الآية ما يدل أن المقصود نسخ الحكم المنـزل في القرآن أو السنة، فلا نختلف أن المشيئة الإلهية فوق كل شيء، وإنما محل الخلاف هو إلغاء الله U لآية في كتابه أثبتها ورفع حكمها، أو أثبتها مدة ثم رفعها من كتابه. فهذا محل الخلاف، والآية لا تدل عليه.

قال عز وجل: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [النحل:101].

 والناظر لسباق الآية ولحاقها يظهر له أن “الآية المبدلة” هي آيات الأقوام السابقة أو كتبهم التي استبدلت بـ”الآية المنـزلة”، فيكون تبديل الآية المقصودة هي آيات الأقوام السابقة والتثبيت يكون بآية القرآن الخاتمة. وعليه فالمقصود هو “نسخ الشرائع” لا نسخ أحكام القرآن، وهذا ما نجده في بعض التفاسير(66)، وقد روى الطبري عن مجاهد أنه قال: “نسخناها، بدّلناها، رفعناها، وأثبتنا غيرها”(67).

وما يمكن أن نخلص إليه بعد هذا العرض أنه لا يوجد في القرآن ما يمكن التدليل به على “دعوى النسخ” بمعنى الرفع النهائي لحكم الآية، حيث لا نجد دليلا قطعيا يفيد هذا المعنى، وإنما هذه الدعوى متأخرة نسبيا، وفي مرحلة التأصيل الأول حاولتْ التوسل بالآيات التي وردت فيها لفظة النسخ، أو مركب “نسخ الآية”، والحال أن مدلول اللفظة مباين لما استقر عليه الأمر ثم توسلت بالآيات التي قد تدل على النسخ بالمعنى، ولما كان السياق مفسرا ومخصصا فإن بعض هذه الآيات المركزية كانت تشير إلى نسخ الشرائع لا نسخ آيات الله الخاتمة، ولا يمكن قياس نسخ أحكام الله المستمرة على نسخ الشرائع لوجود الفارق، بالإضافة إلى انتفاء الاختلاف في “النسخ الشرائعي”، وثبوته في “النسخ التشريعي”.

– الاستدلال على النسخ من السنة:

أما استدلال النظار الأوائل بالسنة فلم يكن بالانطلاق من حديث وردت فيه لفظة النسخ أو معناها، حيث لم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك تم الالتجاء للاستدلال على ذلك ببعض الأحاديث التي قد تفسر أنها دليل على “وجود النسخ”، وأهمها حديث النهي عن ادخار اللحوم.

– أنموذج النهي عن ادخار اللحوم:

وهذا المثال يكثر ذكره في الأدبيات الأصولية والتفسيرية بدءا برسالة الإمام الشافعي ومن بعده تدليلا على وجود النسخ في السنة، حتى إننا نجده المثال المركزي على النسخ في السنة، لذلك يمثل كثير من الأصوليين والفقهاء بهذا الحديث ضمن مباحث النسخ، مثلا يقول الشافعي: “وحديث عائشة من أبين ما يوجد في الناسخ والمنسوخ من السنن”(68)، ويقصد بذلك روايتها لحديث النهي عن ادخار اللحوم.

 ويقول الدهلوي: “ويعرف النسخ بنص النبي صلى الله عليه وسلم كقوله : “كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها”(69)، والحال أننا لا نجد نصا من النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك كان أنموذج النهي عن ادخار اللحوم مثالا معبرا عن إشكالية النسخ في تفسير النصوص.

ولتحقيق المسألة يجب الرجوع إلى الرواية الكاملة وهي المخرجة في صحيح مسلم، فعن عبدالله بن أبي بكر عن عبدالله بن واقد قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، قال عبدالله بن أبي بكر فذكرت ذلك لعمرة فقالت صدق سمعت عائشة تقول: دف أهل أبيات من البادية حضرة الأضحى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادخروا ثلاثا ثم تصدقوا بما بقي) فلما كان بعد ذلك قالوا يا رسول الله إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ويجملون منها الودك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما ذاك؟) قالوا نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال: (إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا) (70).

لكن رغم ذلك هناك من يتمسك بأن النهي عن الادخار منسوخ مطلقا. ومعنى أنه منسوخ أنه لا يعمل به ولو عادت العلة، واستدل في ذلك بما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يأكلن أحدكم من لحم نسكه بعد ثلاث.

ويقوي أصحاب هذا الرأي، كما نجد عند الشافعي، برواية عن علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يأكلن أحدكم من لحم نسكه بعد ثلاث”.

لكن الاستدلال بهذا الفعل لوحده للتدليل على النسخ مدخول من أوجه؛

أولا: احتمال أن العلة كانت ما زالت قائمة وقت هذا الحديث فلم يحتج إلى الرجوع إلى الحكم، كما لا يستفاد من قوله أن الحكم منسوخ، وإنما هو استمرار للنهي عن حكم الادخار لقيام العلة، فيوجد الحكم بوجودها.

ثانيا: عدم بلوغ علي رضي الله عنه الحديث الذي ذكرت فيه العلة، وهذا الذي رجحه الإمام الشافعي في الرسالة(71).

وعليه، فإن تشريع الشارع حكما آخر والسكوت عن الأول دون تصريح بالنسخ لا يعني أن الحكم الأول منسوخ لا يعمل به، كما في حالة النهي عن الادخار، لأن النهي كان لعلة، وإذا عادت عاد النهي من جديد، فلا يمكن ادعاء النسخ ما دام الشارع لم يصرح بذلك، وهذا ما يعرف عند أهل الأصول بدوران الأحكام مع العلل وجودا وعدما.

فليس الحديث حجة في الاستدلال على النسخ كما قد يتصور.

  • نقد التمثيل:

انطلاقا من النظر في الأمثلة السابقة والمدلل بها على النسخ، يظهر لنا أن النصوص المذكورة يمكن الجمع بينها، وانطلاقا من محاولة الجمع سيظهر لنا أن عددا من الآليات أكثر نجاعة من النسخ، أي النسخ بمعنى رفع حكم الدليل لا تقييده أو تخصيصه، وهي مقدمة على دعوى النسخ لجملة أسباب منها؛ أن الإعمال مقدم على الإهمال والجمع أولى من الترجيح كما هو مستقر عند جماعة أهل الأصول.

كما أن النسخ يكون بنص شرعي والأمثلة السابقة تخلو من النص الشرعي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برفع حكم أو إزالته، وهذا ما لا نلحظه في النماذج السابقة.

والجمع يتيسر بالنظر في النصوص مجتمعة فيمكن إعادة النظر بتأويل النصوص بالضوابط المقبولة علميا نحو آلية التخصيص أو التقييد أو التوضيح أو الدوران(72)، وهذه الآليات كانت منضوية تحت نظرية النسخ كما جاء عند المتقدمين، لكن طغيان مفهوم “رفع الحكم وإزالته” بالنظر إلى التراخي أو معرفة المتقدم من المتأخر هو الذي هيمن على الأدبيات التفسيرية، وصار النسخ إذا أطلق قصد به إلغاء الحكم.

كما يمكن الجمع بالنظر في سياقات النصوص الكلية والجزئية، والتمييز بين ما أزيل حكمه وما تدرج في تشريعه، وانطلاقا من مناهج إعمال النصوص يمكن استنباط عدد من القواعد التأويلية الجامعة.

لذلك، فلو تأملنا كل الأمثلة التي ذكرت نماذج على النسخ في العمل التأصيلي لظهر لنا أنها أمثلة مدخولة، حيث يمكن الجمع بين الأحاديث بشتى آليات الجمع، لكن سأكتفي بالأمثلة الأشهر والتي تظل أكثر الأمثلة إشكالا، وليُقس ما لم يقل.

– آلية تقرير الحكم: مثال تحويل القبلة

إذا تأملنا مسألة تحويل القبلة والنصوص الواردة بخصوصها، سنجد أنه لم يرد خطاب شرعي على الصلاة جهة بيت المقدس، وإنما استصحبت جهة الصلاة، أي القبلة، المعروفة عند أهل الكتاب وهي بيت المقدس إلى أن ورد الأمر الإلهي بالتحول إلى جهة بيت الله الحرام.

فعندنا خطاب شرعي واحد محكم، وهو الأمر بالصلاة جهة بيت الله الحرام، أما الصلاة جهة بيت المقدس فكان على سبيل الاستصحاب لا الأمر الإلهي الملزم، وفرق بين النسخ والاستصحاب إلى حين ورود الخطاب، فكان تغير القبلة تقريرا لحكم جديد لا رفعا لحكم سابق.

– آلية التدرج التشريعي: مثال الخمر

 ذهب الكثيرون إلى أن الله عز وجل نسخ جواز شرب الخمر، والحال أننا لا نجد نصا يدل على هذا الجواز وإنما هو تدرج تشريعي، فالله U بيّن في الأول مرتبتها فقال سبحانه: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) [البقرة:219] والعاقل من ابتعد عما قل نفعه وكثر إثمه، لكن هناك من لم ينصع لهذا الأمر، فحرم الله U الصلاة في حالة السكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) [النساء:43]، وهذا الأمر دائم ليس منسوخا لأن مناط الأمر هنا تحريم صلاة السكران لا تحريم الخمر، وهو مناط مختلف عما ادعي فيه النسخ، كما أن تحريم صلاة السكران دائم في كل سكران وفي كل عصر وحين، فليس منسوخا، ثم جاء نص التحريم الخاتم المعروف الخاص بالخمر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:90] ومعلوم عند أهل اللغة أن اجتنبوه من أعلى درجات التحريم.

فليس هناك أي نسخ في هذه الآيات، فالله U لم يبح الخمر ثم حرمها وإنما تدرج في تشريعها إلى حين مجيء الخطاب الإلهي الخاتم، فمناط النسخ، بمعنى رفع الحكم، هو وجود خطابين متعارضين، وليس هناك أي تعارض لمن اعتمد النظرة الكلية بين النصوص.

– آلية القراءة السياقية: مثال قيام الليل

انتشر في الأدبيات التفسيرية أن قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) [المزمل:1-4] منسوخ بقوله سبحانه: (عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل:20].

ولو تأملنا الخطاب في سورة المزمل لوجدنا أن الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم “يا أيها المزمل” “قم” “انقص” “زد” “رتل” “إنا سنلقي إليك قولا ثقيلا” فالخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أصالة، تمهيدا للقول الثقيل، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة فقد اقتدى به المسلمون في قيام الليل (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ)، فالناس عملوا على الاقتداء به فخشي صلوات ربي عليه أن يكتب عليهم قيام الليل(73).

فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يشق على المسلمين كما يشق على نفسه، فالأمر موجه له أصالة، فأمرهم أن يعملوا بحسب قدرتهم ولا يكلفوا أنفسهم فوق طاقتهم.

كما أن الآيات تحتمل تأويلا آخر، وهو أن الخطاب في الآية الثانية مباين للأولى، حيث إن قوله تعالى: (عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) يرجع إلى قراءة القرآن وعلم ما فيه لا إلى قيام الليل وتدل على ذلك قرينة (لَّن تُحْصُوهُ)، والخطاب هنا يرجع إلى قراءة القرآن لا إلى قيام الليل، فلما انفكت جهة النـزاع، لم يعد هناك تعارض بين النصوص أصلا، والذي أعان على رفع التعارض قراءة الآيات في سياقها الجزئي والكلي، والقراءة السياقية هي أنجع الآليات لإعمال مبدأ الجمع أولى من الترجيح فضلا عن النسخ.

– آلية تخصيص العموم: عقوبة الرجم

وردت عقوبة الزنا بشكل صريح في سورة النور، وهي سورة مدنية، يقول سبحانه: (الزَّانِيَـةُ وَالزَّانِـي فَاجْلِـدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَـا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلا تَأْخُذْكُـم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُـمْ تُؤْمِنُـونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِـرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور:2] وقيل إن الآية منسوخة بأحاديث الرجم.

والآية صريحة قطعية الثبوت والدلالة في أن عقوبة الزنا هي الجلد مائة جلدة أمام طائفة من المؤمنين، دون تفريق بين المتزوج وغير المتزوج، بين الذكر والأنثى، كلاهما سواسية في العقوبة، وقد يفهم من الآية أيضا أن هذه أقصى عقوبة يمكن إيقاعها بالزانية والزاني (وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ). ثم انتشر القول بنسخ جزء من هذه الآية بالرجم، فقالوا إنها خاصة بالزاني غير المحصن، كما جاء مع الشافعي، مستدلين في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: “خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم”(74).

وليس هناك تصريح نبوي بوجود النسخ، وحتى إن افترضنا القول بالرجم فعلى أساس أنه مخصص لعموم الحد الوارد في الآية، فيكون الجلد للزاني غير المحصن، والرجم للزاني المحصن، وهذا جمع وليس نسخا، وإن أطلق النسخ فمن باب تخصيص العموم لا رفع الحكم.

ونفس الأمر يقال بالنسبة لمسألة الوصية المنتشرة في الأدبيات التفسيرية، حيث اختلف في دعوى النسخ في آيات المواريث بين مؤيد ومعارض، ومجرد الاختلاف يشير إلى ضعف القول بالنسخ الذي يفترض أن يكون بدليل شرعي لا مجرد اجتهاد، لكن لما كان التعارض في ذهن العلماء، حيث قد يفتح الله على عالم برفعه، جاءت بعض الأقوال التي عملت على الجمع بين آية الوصية وحديث “لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة”، وهو حديث انفرد به أبو أمامة، وهو جزء من خطبة الوداع، وهذا يفترض أن يرويه أكثر من راو واحد، فالانفراد بمثل هذا التفصيل في محل اجتمع فيه القوم أمام الرسول يجعل الرواية قابلة للتضعيف، وهذا ما ذهب إليه د.جاسر عودة حيث رأى أن في الرواية مغمزا(75).

ومن القائلين بعدم النسخ طاوس وغيره حيث يرى هذا الفريق أن آية الوصية “ليست منسوخة بل مخصوصة لأن الأقربين أعم من الوارث، فكانت الوصية واجبة لجميعهم فخص منها من ليس بوارث لآية الفرائض والحديث، وبقي حق من لا يرث من الأقربين على حاله(76).

“فقد تحمل الآية على من حرم الإرث من الأقربين أو الوالدين غير الوارثين –لاختلاف الدين مثلا عند من يقول بذلك أو لغيره من الأسباب-، وقد تحمل أيضا على من له ظروف خاصة تقضي بزيادة العطف عليه كالعجزة والضعفاء وكثيري العيال من الورثة”(77).

– الآلية الدِّلالية: مثال حكم من أتى الفاحشة

قال عز وجل في سورة النساء: (وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا) [النساء:15-16].

وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور:2].

والفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال، وفي هذا السياق فإن الفاحشة تحتمل أن تكون فعل “الزنا” أو”اللواط” أو”السحاق” أو غير ذلك… وقد ورد في القرآن وصف الزنا بالفاحشة في قوله عز وجل في سورة الإسراء: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) [الإسراء:32]. كما ورد وصف اللواط بالفاحشة في قوله تعالى: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت:28]، فليست كل فاحشة زنا، وإنما كل زنا هي بالضرورة فاحشة.

وقد ذهب الكثيرون إلى القول إن آية “جلد الزاني” الواردة في سورة النور نسخت هذه الآية، والحال أنه بالنظر في الآية سنجد أن الفاحشة المقصودة ليست فاحشة الزنا، والله أعلم، وإنما الآية خاصة بعقوبة الفاحشة بين الذكور لوحدهم (اللواط)، وبين الإناث لوحدهن (السحاق)، والقرينة التي ترجح هذا القول الأسماء الموصولة؛ ف”اللاتي” اسم موصول لجماعة النساء، و”اللذان” خاص بالمثنى للمذكر .

لذلك يبطل القول إن آية سورة النور نسخت آيات النساء، لعدم اتحاد جهة النـزاع، ومعلوم أن النسخ، بمعنى رفع الحكم، لا يكون إلا بنص، ولا يوجد نص يدل أن هذه الآية أبطلت حكم الأولى.

كما أن المقتضيات اللغوية تؤكد أن الغرض الذي سيقت له آية النساء غير غرض سورة النور، فكل آية بَيَّنَت عقوبة فاحشة من الفواحش.

ولما كان الجمع أولى من الترجيح والإعمال مقدما على الإهمال، فإن القول بالنسخ يبطل للاعتبارات السابقة، وعليه، فالنصوص محكمٌة، فلا تعارض ولا نسخ، ومنه كانت؛

– عقوبة فاحشة “السحاق” الإمساك في البيت.

– وعقوبة فاحشة “اللواط” الأذى، وهذا مناسب لحركة الرجال إذ لا يصح في حقهم الإمساك في البيت مثل النساء. والأذى كلمة واسعة فيمكن تحديدها شأن بقية العقوبات التعزيرية.

– وعقوبة فاحشة “الزنا” الجلد مائة جلدة أمام طائفة من المؤمنين.

فهذه هي بعض الآليات المقترحة للجمع بين النصوص، حيث تم النظر في الأمثلة الأكثر انتشارا، والتي ادعي فيها النسخ في المرحلة التأسيسية واستمر هذا القول إلى المراحل اللاحقة، مع الأخذ بعين الاعتبار التطور المفهومي الذي عرفه مصطلح “النسخ”، حيث إن عددا من هذه الآليات يندرج ضمن مفهوم “النسخ” كما جاء في مرحلة القراءة، نحو آلية تخصيص العموم مثلا، لكن لما نضج المصطلح وصارت دلالة رفع الحكم هي المركزية كان من اللازم التركيز على آليات معرفية أخرى من أجل نظر يغلب إعمال النصوص والجمع بينها.

خامسا: النسخ وخصائص الخطاب القرآني

القصد في هذا المقام مقاربة النسخ بمعنى إلغاء الحكم وإزالته، باعتبارها الدلالة الشائعة والذائعة والفاشية في الدراسات القرآنية والتفسيرية وكذا الأصولية ما تقدم منها وما تأخر، فتجد أن أشهر تعريف للنسخ هو رفع حكم شرعي بدليل شرعي مع التراخي، ولا يخفى أن هذا التعريف يعرض جملة من الإشكالات، والتي تجب مناقشها ومقارنتها مع خصائص الخطاب القرآني المنفتح على حركة الزمن، والانتباه إلى خطورة الإسراف في دعاوى النسخ في مناقضة خصائص الخطاب الخاتم.

وقد مر معنا كيف أن التأصيل العلمي للنسخ لا يسلم من النقد والرد والاعتراض بما يجعله مبحثا تفسيريا وأصوليا هشا، لكن خطورة النسخ، بمعنى الرفع لا بمعانيه الجمعية، تتجلى في كونه يتناقض مع خصائص الخطاب الخاتم، فالخطاب القرآني، كما يقول طه جابر العلواني: “مطلق ومتحدًّى به مع ثبوت العجز عن الاستجابة للتحدي. وللقرآن خصائصه العديدة ومعرفة خصائص الخطاب القرآني وأساليبه كفيلة بمنع القول بالجواز العقلي والوقوع الشرعي في خطاب إلهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعصمة هذا الكتاب، وكونه معادلا للكون وحركته، مستوعبا لكل تصاريف تلك الحركة، تشبه آياته وكلماته وحروفه في مواقعها منه مواقع النجوم في السماء بحيث لو غير موقع نجم واحد، أو خرج عن مداره، أو اتخذ لنفسه مدارا مغايرا لاختل نظام المجموعة كله. وكذلك مواقع “نجوم القرآن” منه وآياته وكلماته وحروفه. وحين نلاحظ هذا فإننا لا نستطيع قبول إعمال “نظرية النسخ” في القرآن العزيز المجيد”(78).

ومن الخصائص الكلية للقرآن الكريم:

الديمومة والاستمرارية: فآيات الله مستمرة أبد الدهر، لا توجد منها آية لا تعمل عند وجود موجباتها، فلا يمكن تخيل وجود آيات نتبرك فقط بقراءتها دون تدبر ما فيها من أحكام، لأن ذلك مناقض لديمومة الوحي وصلاحيته لكل زمان ومكان. لذلك فعند وجود مقتضيات تطبيق الآية فإنها تطبق وتفعل، والذي قالوا بنسخ بعض الآيات ورفع حكمها نهائيا لم يستندوا على بيان نبوي صريح، لأنه لا يوجد تفسير نبوي لنسخ بعض الآيات، وإنما هو عمل اجتهادي أساسا، حيث تتعارض الأقوال في ذهن المجتهد، فيلجأ للنسخ بعد تعذر الجمع والترجيح، فيعمل آلية النسخ، لكن إذا استحضر الناظر في النصوص الشرعية أن الخطاب الشرعي خطاب مستمر ستخف غلواء القول بالنسخ وسيلتجئ إلى آليات أكثر تناسبا مع ديمومة النص الشرعي وصلاحيته لكل زمان ومكان.

الوحدة البنائية للخطاب: وميزة هذه الخاصية، كما يقول د. طه جابر العلواني، أنها تجعل من القرآن وإن تعددت آياته وسوره وأجزاؤه وأحزابه كالكلمة الواحدة أو الجملة الواحدة، فيمتنع التعارض أو التناقض بين أجزاء الكلام الواحد بله الكلمة الواحدة، وهذه الخاصية تتعارض مع القول بالنسخ بمعنى “رفع الحكم وإزالته”، إلا إذا كان المقصود بالنسخ الاستثناء أو تخصيص العموم أو تقييد المطلق(79).

فالتعارض في ذهن المجتهد لا في أصل الأمر، فكلام الله نور وأنواره لا تتعارض، وكل تدبير لهذا التعارض يجب أن يتأطر بالوحدة البنائية للخطاب فتقرؤه في كليته ونسقيته لا في جزئيته وتبعيضيته.

خاتمة:

يظهر لنا من استقراء أقوال ابن عباس رضي الله عنه أن النسخ يعبر عن دلالات متعددة أشهرها تخصيص العموم ، فيكون بذلك آلية للجمع لا الترجيح، ثم دلالة رفع الحكم، فيغدو بذلك آلية ترجيحية، وعليه فإن النسخ في هذه المرحلة يتراوح بين كونه آلية للجمع وآلية للترجيح، فليس مسلكا مستقلا بنفسه باعتبار الذائع من استعماله، وهذا ما استمر إطلاقه حتى في أدبيات القرن الثاني الهجري، فالنسخ في مرحلة البداية الأولى، أي القرن الأول وأوائل القرن الثاني الهجري خصوصا، آلية تفسيرية بيانية عامة لا تستلزم وجود التعارض بين النصوص أصلا، وإنما وظيفته الأولى مطلق البيان.

والنسخ بمعانيه الأولى، أي التقييد والتخصيص والتوضيح ومطلق البيان، عمل اجتهادي يرمي إلى الجمع بين النصوص ورفع التعارض عنها.

أما النسخ بمعناه رفع الحكم وإزالته، وهو أحد المعاني المذكورة في مرحلة القراءة ثم صار الدلالة المركزية بعد مرحلة التأصيل، فيجب أن يكون بدليل شرعي، حيث إن إثبات الحكم توقيفي، ورفعه ينبغي أن يكون بتوقيف من الشارع، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح أن هذه الآية نسخت تلك الآية، أو أن هذا الحديث نسخ ذاك أو غير ذلك من أضرب النسخ التي استقرت بعد ذلك عند المتأخرين، وعليه فإن محل النـزاع الحقيقي هو هذا المدلول المتأخر للنسخ والذي صار عملا اجتهاديا يرجع إلى ناظر المفسر، ولو أن التنظير رسخ أنه عمل توقيفي لا يكون إلا بنص!

لذلك فالحديث عن النسخ في مرحلة القراءة الأولى لهو الخطوة الأولى في تبين “رحلة المصطلح”، خصوصا مرحلة البدء، حيث سيتيسر لنا فهم عدد من الأمثلة التي قيل بنسخها، وكيف كان للمصطلح تأثيرا على فهم هذه الأحاديث في مرحلة لاحقة، فالنسخ من المصطلحات التي كانت لها حمولة دلالية كثيفة في المرحلة الأولى، ثم ما لبث أن صار مصطلحا ذا دلالة مركزية أساسية وهي “رفع الحكم”، وهي محل الخلاف والنـزاع، بخلاف بقية الدلالات الأخرى، فصار النسخ بذلك آلية مستقلة من آليات تدبير التعارض بين النصوص، والتحق التقييد والتخصيص والتوضيح بآليات الجمع، فغدا النسخ والجمع آليتين متباينتين في حين كانا آليتين متكاملتين، بل كان الجمع جزءا من النسخ.

وقد استقر في الأدبيات الأصولية (سواء أصول التفسير أو أصول الفقه) بعد مرحلة التأصيل، أي بدءا من أواخر القرن الثاني وما بعده، أن النسخ من أهم آليات تدبير التعارض بين النصوص، حتى إننا نجد مبحث النسخ ضمن مباحث رفع التعارض، وهو تعارض في ذهن المجتهد لا في أصل الأمر، لأن نصوص الشارع نور والأنوار لا تتعارض، لكن الفهم قد يقصر عن إدراك وجه الجمع فيها.

وحين تتعارض النصوص فإنه يلجأ للجمع بينها أولا فيتم إعمال الأدلة جميعا، لأن الجمع أولى من الترجيح، والإعمال أولى من الإهمال، وإذا تعذر الجمع يلجأ للترجيح بينها وذلك بإعمال دليل وإهمال آخر لتعذر الجمع، ثم يلجأ بعد ذلك إلى النسخ، والفرق بين النسخ والترجيح أن الدليل المرجوح قد يعمل به إذا ظهر وجه العمل به، أما المنسوخ فلا يعمل به، ويلجأ للنسخ بمعرفة المتقدم من المتأخر فيؤخذ بالمتأخر ويعتبر ناسخا ويترك المتقدم ويعد منسوخا، وإذا كنا نجد في الأدبيات الأصولية اشتراط النص على النسخ بأن يثبت بدليل شرعي، فإن المفسرين للنصوص تساهلوا في هذا القيد فالتجؤوا للنسخ بمجرد معرفة المتقدم من المتأخر، وأهملت آيات كثيرة باسم النسخ، الأمر الذي يستدعي معالجة جادة لهذه المسألة في ضوء الآليات المعرفية المقبولة، في أفق اقتراح آليات جَمعية تسعى للإعمال بين النصوص جميعها ولا تهملها باسم النسخ، فالمفروض أن النسخ آلية لتدبير الاختلاف بين النصوص، لكن الواقع غير ذلك، حيث صار آلية مهيمنة على تفسير النصوص، فتركت الآليات الأصلية والتجئ للاستثنائية.

فالنسخ عملية اجتهادية أساسا، وليس إرادة إلهية أبدية سرمدية لا يمكن مخالفتها، الأمر الذي يستدعي مراجعة هذه الآلية بشكل علمي ومتناسب مع خصائص الخطاب الشرعي باستحضار ديمومة هذا الخطاب واستمراريته وكذا وحدته البنائية.

والذي جعلني أركز على هذه المسألة هو أن النسخ صار مكونا هاما من مكونات التفسير والحديث والفقه والأصول والكلام، فهو مكون مركزي في الثقافة الإسلامية، حتى جعل من شروط المفسر العلم بالناسخ والمنسوخ، وذلك لتعامله المباشر مع النص الشرعي، وأهميته للفقيه لا تقل عن ضرورته للمفسر “لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ومعرفة الحلال والحرام”(80)، كما يقول القرطبي، ونجده عند أهل الكلام في مباحث “النبوة”، وذلك لإثبات نسخ الشريعة الإسلامية لشرائع الأديان السابقة.

لكن وظيفته تجاوزت كونه آلية من آليات رفع التعارض والتناقض بين النصوص، حيث تدخلت السلطة المذهبية، فصيرت صير النسخ آلية أساسية للإبقاء على آراء المذهب وإن لم يوجد تعارض بين النصوص، فتحول إلى وسيلة لنصرة المذهب، يدل على ذلك قول الكرخي (340هـ): “الأصل أن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق”(81).

وخلاصة المقال أن التأصيل للنسخ، بمعنى رفع الحكم، كما استقر في الأدبيات الأصولية المؤسسة لا يقوى أمام النقد، كما أن التمثيلات يمكن الجمع بينها بمختلف آليات الجمع تخصيصا وتقييدا وتوضيحا وغير ذلك.

بالإضافة إلى أن القول بالنسخ يحيلنا إلى علاقة النص مع الواقع، حيث يصير التاريخ حكَما على النص لا العكس، فتصير المحايثة الواقعية معكوسة، وتلغى المفارقة التي تضمن استمرارية النص لكل زمان ومكان، وهذا الربط بين العناصر الزمكانية والنص في صورة آلية النسخ نتج عنه إلغاء لعدد من الأحكام التي جاء بها الوحي الخاتم، وتحيلنا هذه المسألة إلى محدد أكثر عمقا وهو علاقة النص بالزمان والمكان والإنسان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

(*) بحث مقدم إلى الندوة الدولية “قراءة الوحي: خطاب البداية” التي نظمها مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة – المغرب، أيام 23-24 أكتوبر 2015. والبحث منشور في مجلة المسلم المعاصر في العدد 161- 162 (2016)، ص ص. 29- 79.

(**) باحثة بالسلك العالي المعمق- دار الحديث الحسنية. الرباط، المغرب/ عضو مركز المقاصد للدراسات والبحوث، الرباط.

  1. قام بهذا الإحصاء د. حاتم الضامن، مقدمة تحقيق ناسخ القرآن لابن البارزي.
  2. من أمثلة النسخ في الأخبار وعنه رضي الله عنه في قوله تعالى: “إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ…” الآية: قال: هذا منسوخ، وقوله: “وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ” [الذاريات: 19] قال: منسوخ، نسخ كل صدقة في القرآن الآية، التي في التوبة: “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ” [التوبة:60]. الدر المنثور 1/614، موسوعة، 1/ 215.
  3. عن ابن عباس في قوله: “وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا” يعني: المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه أو محكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه وأمثاله. جامع البيان، 3/ 89. موسوعة، 1/ 283.
  4. عن ابن عباس قوله: “هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ” المحكمات: ناسخه، وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به قال: “وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ” والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه، ومؤخره، وأمثاله، وما يؤمن به، ولا يعمل به. جامع البيان، 3/476، موسوعة، 1/304. عن ابن عباس في قوله تعالى: “يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ” قال: ما نسخ وما لم ينسخ. تفسير ابن أبي حاتم، 2/600. موسوعة، 1/306. عن ابن عباس قال: إن هذا القرآن ذو شجون وفنون وظهور وبطون، لا تنقضي عجائبه، ولا تبلغ غايته، فمن أوغل فيه برفق نجا، ومن أوغل فيه بعنف غوى، أخبار وأمثال وحرام وحلال، وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل، فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء وإياكم وزلة العالم. الدر المنثور، 2/150. روح المعاني، الألوسي، 1/ 7. موسوعة مدرسة مكة في التفسير، 1/ 306.
  5. تفسير عبد الرزاق: 1/293، موسوعة، 2/ 909. عن ابن عباس “يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ” قال: من القرآن يقول: يبدل الله ما يشا ء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله “وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ” يقول: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب: الناسخ والمنسوخ، وما يبدل وما يثبت، كل ذلك في كتاب. جامع البيان، 13/169. موسوعة، 2/ 910.
  6. جامع البيان، 26 /52. موسوعة، 3/ 1419.
  7. عن ابن عباس قوله: “لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ” إلى “وَلا نَصِيرًا” تحاكم أهل الأديان: فقال أهل التوراة: كتابنا خير من الكتب، أنـزل قبل كتابكم، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم فقال: “لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ” وخير بين أهل الأديان فقال: “وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا” [النساء:125]. جامع البيان، 5/ 289، موسوعة، 1/466-467. – عن ابن عباس قال: قال أهل الإسلام: لا دين إلا دين الإسلام، كتابنا نسخ كل كتاب ونبينا خاتم النبيين، وديننا خير الأديان، فقال الله تعالى: “وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ”. جامع البيان، 5/ 299، موسوعة، 1/ 468.
  8. عن علي عن ابن عباس في قوله تعالى: “مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ” يقول: ما نبدل من آية. الدر المنثور، 1/ 252. البيهقي، شعب الإيمان، 2/ 361/ 2045.
  9. الدر المنثور، 1/614، موسوعة، 1/215.
  10. لمزيد من التفصيل ينظر، زيد، مصطفى. النسخ في القرآن الكريم: دراسة تشريعية تاريخية نقدية، ج. 2، ص. 598 وما بعدها.
  11. سنن أبي داود، 1/695، ح2282، وحسنه الألباني. موسوعة، 1/ 232.
  12. تفسير ابن كثير، 1/481، سنن أبي داود، باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث. 1/ 233.
  13. جامع البيان، 2/581، موسوعة، 1/255. عن ابن عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع والثمن، صحيح البخاري، ح 2596، موسوعة،1/386.
  14. فتح الباري، 5/487، ح 2759. موسوعة، 1/ 382. عن عكرمة عن ابن عباس قال: محكمة وليست منسوخة. مصنف ابن أبي شيبة، 2/225، 30902. موسوعة، 1/382. وعن ابن عباس في قوله تعالى: “وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ…” قال: ورثة “وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ” قال: كان المهاجرون لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ورث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخر النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نـزلت: “وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ” نسخت، ثم قال: “وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ” إلا النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث، ويوصى له. فتح الباري، 4/ 595، موسوعة، 1/ 416.
  15. سنن أبي داود، ح4413. موسوعة 1/392-393. عن ابن عباس في قوله تعالى: “وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ” وقوله: “لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ” [الطلاق:1] وقوله: “وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ” [النساء:19] قال: كان ذكر الفاحشة في هؤلاء الآية قبل أن تنـزل سورة النور بالجلد والرجم، فإن جاءت اليوم بفاحشة مبينة فإنها تخرج فترجم، فنسختها هذه الآية: “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ” [النور: 2] والسبيل الذي جعل الله لهن الجلد والرجم. الدر المنثور، 2/455. موسوعة، 1/392. عن ابن عباس في قوله تعالى: “فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ” [النساء:15] قال: فكان ذلك في الفاحشة في هؤلاء الآيات قبل أن تنـزل سورة النور في الجلد والرجم، فإن جاءت اليوم بفاحشة بينة، فإنها تخرج وترجم بالحجارة، فنسختها هذه الآية: “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ” تفسير ابن أبي حاتم، 8/ 2518، موسوعة، 3/3.
    – عن ابن عباس قال: كانت متعة النساء في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة، ليس معه من يصلح له ضيعته ولا يصلح بحفظ متاعه، فيتزوج المرأة إلى قدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته، فتنظر له متاعه وتصلح له ضيعته، وكان يقول: “فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ” نسختها “مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ” وكان الإحصان بيد الرجل يمسك متى شاء ويطلق متى شاء. تفسير ابن أبي حاتم، 3/919، موسوعة، 1/ 407.
  16. صحيح مسلم، كتاب التفسير، ح200. موسوعة، 1/ 297. – وعن ابن عباس قوله: “وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ” فإنها لم تنسخ، ولكن الله U إذا جمع الخلائق يوم القيامة، يقول الله U: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي” . جامع البيان، 3/147، موسوعة، 1/ 298-297.
    – عن ابن عباس قال: “وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ” قال: نسخت فقال: “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا” . الدر المنثور، 2/130، موسوعة، 1/ 298 .
    – عن ابن عباس: “وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ” قال: لما نـزلت اشتد ذلك على المسلمين وشق عليهم، فنسخها الله فأنـزل الله U: “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا” . المعجم الكبير، 11/ 457، ح12296، موسوعة، 1/ 299.
    – عن ابن عباس قال: لما نـزلت: “وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ” [البقرة:284] قال: نسختها الآية التي بعدها: “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا”  تفسير مجاهد، 246، موسوعة، 1/ 300..
  17. تفسير ابن أبي حاتم، 3/1027، موسوعة، 1/ 445. عن ابن عباس في قوله تعالى: “قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ” قال: نسخ هذه الآية آية السيف: “فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ” [التوبة:5]. الدر المنثور، 3/290، موسوعة، 2/586. 34- عن ابن عباس: أما قوله: “وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ” ونحوه مما أمر الله المؤمنين بالعفو عن المشركين، فإنه نسخ ذلك قوله: “فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ” [التوبة:5] جامع البيان، 7/308. موسوعة، 2/ 604.
  18. الدر المنثور، 4/99، موسوعة، 2/ 743.
  19. ينظر: زيد، مصطفى، النسخ في القرآن الكريم: دراسة تشريعية تاريخية نقدية، ج2، 513.
  20. عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ: “وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ” قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا. فتح الباري، 8/226. موسوعة، 1/162-163. عن ابن عباس قوله: “وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ” فإنها لم تنسخ، ولكن الله U إذا جمع الخلائق يوم القيامة، يقول الله U: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي” . جامع البيان، 3/ 147، موسوعة، 1/ 298-297.
  21. ثم حاولت استقراء الآيات من كتاب تفسير القرآن الجامع لابن وهب (197هـ) لكن لم أظفر بمثال فيما بحثت عنه.
  22. تفسير مجاهد، تحقيق: محمد عبد السلام أبو النيل، مصر: دار الفكر الإسلامي الحديثة، ط1، 1989،1/ 220-221.
  23. تفسير مجاهد، 1/ 270.
  24. تفسير مجاهد، 1/ 246.
  25. الفراء. معاني القرآن، تح: أحمد يوسف النجاتي، محمد علي النجار، عبد الفتاح إسماعيل الشلبي، مصر: دار المصرية للتأليف والترجمة، ط1، د.ت.ط، 1/ 112.
  26. معاني القرآن، 1/ 113.
  27. معاني القرآن،1/ 366.
  28. معاني القرآن، 1/ 108-109.
  29. النسخ في القرآن الكريم، ج2، ص632.
  30. ينظر: الرسالة، ص119.
  31. الرسالة، ص. 166.
  32. الرسالة، ص. 178.
  33. الرسالة، ص. 166.
  34. الرسالة، ص. 168.
  35. الرسالة، ص. 167.
  36. الرسالة، ص. 168.
  37. الرسالة، ص. 172.
  38. الرسالة، ص. 172-173.
  39. الرسالة، ص. 173.
  40. الرسالة، ص. 177.
  41. الرسالة، ص. 180.
  42. الرسالة، ص. 181.
  43. الرسالة، ص. 182.
  44. الرسالة، ص. 183. وفي الأم قال: “وهذا كما قال ابن عباس إن شاء الله تعالى مستغنى فيه بالتنـزيل عن التأويل”. ينظر هامش الرسالة، ص183.
  45. الرسالة، ص. 183-184-185.
  46. الرسالة، ص. 190.
  47. الرسالة، ص. 191.
  48. الرسالة، ص. 191.
  49. الرسالة، ص. 191-193.
  50. الرسالة، ص. 193-194.
  51. الرسالة، ص. 194.
  52. الرسالة، ص. 195.
  53. البصري، أبو الحسين. المعتمد في أصول الفقه، تح: خليل الميس، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1403، 1/366.
  54. الجويني، عبد الملك. البرهان، تحقيق: صلاح بن محمد بن عويضة، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1997، 2/253.
  55. عبد الباقي، محمد فؤاد، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، القاهرة: مطبعة دار الكتب المصرية، د.ر.ط، 1364هـ، ص. 698.
  56. ابن عاشور، تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد (التحرير والتنوير)، تونس: الدار التونسية للنشر، د.ر.ط، 1984، 9/ 121.
  57. الطبري، ابن جرير. جامع البيان في تأويل القرآن، تح: أحمد محمد شاكر، دمشق: مؤسسة الرسالة، ط1، 2000، 18/663.
  58. جامع البيان، 18/ 668.
  59. لمزيد من التفصيل ينظر : الألباني، محمد ناصر الدين. نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق، دمشق: المكتب الإسلامي، ط3، 1996.
  60. التحرير والتنوير، 17/ 296.
  61. الطبري. جامع البيان، 22/ 83.
  62. الأصفهاني، الراغب. المفردات في غريب القرآن، تح: صفوان عدنان الداودي، دمشق: دار القلم؛ بيروت: الدار الشامية، ط1، 1412هـ، مادة “أي”، 1/ 101.
  63. جامع البيان، 16/ 477.
  64. جامع البيان، 16/ 480.
  65. جامع البيان، 16/ 481.
  66. جاء في تفسير القرطبي (671هـ) مثلا: المعنى بدلنا شريعة متقدمة بشريعة مستأنفة. القرطبي، أبو عبد الله. الجامع لأحكام القرآن، تح: سمير البخاري، الرياض: دار عالم الكتب، د.ر.ط، 2003. 10/176.
  67. جامع البيان، 17/ 296.
  68. الرسالة، 263.
  69. الدهلوي، شاه ولي الله. حجة الله البالغة، تح: سيد سابق، بيروت: دار الجيل، ط1، 2005، ص. 294.
  70. صحيح مسلم، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم، 28/ 1971.
  71. الرسالة، 262.
  72. أي دوران الأحكام مع العلل وجودا وعدما كما جاء في مسألة النهي عن ادخار اللحوم.
  73. ينظر جامع البيان، 12/ 304.
  74. صحيح مسلم، كتاب الحدود، حد الزنا، 1690.
  75. عودة، جاسر. نقد نظرية النسخ: بحث في فقه مقاصد الشريعة، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2013، ص74.
  76. ينظر: الزرقاني، محمد بن عبد الباقي. شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، تح: طه عبد الرؤوف، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، ط1، 2003، 4/ 122.
  77. ندا، النسخ في القرآن بين المؤيدين والمعارضين، ص60، نقلا عن عودة، جاسر. نقد نظرية النسخ، ص74.
  78. نحو موقف قرآني من النسخ، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، ط1، أبريل 2007، ص. 60-61.
  79. لمزيد من التفصيل ينظر: العلواني، طه. نحو موقف قرآني من النسخ، ص. 61-62.
  80. تفسير القرطبي، تفسير الآية 106.
  81. الكرخي، أبو الحسن عبيد الله. أصول الكرخي، مطبوع ضمن أصول البزدوي، تح: عصمت الله عنايت الله، كراتشي: مطبعة جاويد بريس، ص314. ولا أقصد من إيراد هذا الكلام التقليل من شأن صاحبه وقائله، إلا أنه يجلي لنا الواقع المذهبي.

لائحة المصادر والمراجع:

  1. الشافعي، محمد بن إدريس. الرسالة، شرح وتحقيق: أحمد محمد شاكر، القاهرة: دار الآثار، ط1، 2008.
  2. تفسير مجاهد، تحقيق: محمد عبد السلام أبو النيل، مصر: دار الفكر الإسلامي الحديثة، ط1، 1989.
  3. الفراء، معاني القرآن، تح: أحمد يوسف النجاتي، محمد علي النجار، عبد الفتاح إسماعيل الشلبي، مصر: دار المصرية للتأليف والترجمة، ط1.
  4. العمراني، أحمد. موسوعة مدرسة مكة في التفسير (مج1-2-3)، القاهرة: دار السلام، ط1، 2011.
  5. عبد الباقي، محمد فؤاد. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، القاهرة: دار الكتب المصرية، د.ر.ط، 1364هـ.
  6. تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد (التحرير والتنوير)، ابن عاشور، تونس: الدار التونسية للنشر، د.ر.ط، 1984.
  7. الطبري، محمد بن جرير. جامع البيان في تأويل القرآن، تح: أحمد محمد شاكر، دمشق: مؤسسة الرسالة، ط1، 2000.
  8. الأصفهاني، الراغب. المفردات في غريب القرآن، تح: صفوان عدنان الداودي، دمشق: دار القلم؛ بيروت: الدار الشامية، ط1، 1412هـ، مادة “أي”.
  9. القرطبي، أبو عبد الله. الجامع لأحكام القرآن، تح: سمير البخاري، الرياض: دار عالم الكتب، د.ر.ط، 2003.
  10. الدهلوي، الشاه ولي الله. حجة الله البالغة، تح: السيد سابق، بيروت: دار الجيل، ط1، 2005.
  11. العلواني، طه جابر. نحو موقف قرآني من النسخ، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، ط1، أبريل 2007.
  12. الكرخي، أبو الحسن. أصول الكرخي، مطبوع ضمن أصول البزدوي، تح: عصمت الله عنايت الله، كراتشي: مطبعة جاويد بريس.
  13. زيد، مصطفى. النسخ في القرآن الكريم: دراسة تشريعية تاريخية نقدية. المنصورة: دار الوفاء، ط3، 1987.
  14. الزرقاني، محمد بن عبد الباقي. شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، تح: طه عبد الرؤوف، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، ط1، 2003.
  15. نقد نظرية النسخ: بحث في فقه مقاصد الشريعة، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2013.
  16. الجويني، عبد الملك. البرهان في أصول الفقه، تحقيق: صلاح بن محمد بن عويضة، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1997.
  17. البصري، أبو الحسين. المعتمد في أصول الفقه، 1/366. تح: خليل الميس، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1403.
  18. الألباني، محمد ناصر الدين. نصب المجانيق لنسق قصة الغرانيق، دمشق: المكتب الإسلامي، ط3، 1996.

عن جميلة تِلوت

شاهد أيضاً

توظيف علم الدلالة المعجمي في حقل التفسير القرآني

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

العنوان: توظيف علم الدلالة المعجمي في حقل التفسير القرآني

المؤلف: عبد الرحمن طعمة

في إعجاز القرآن

محمد الطاهر بن عاشور

لم أر غرضًا تناضلت له سهام الأفهام. ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى، مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن، فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.