الاجتهاد والتجديد بين التيار التقليدي والتيار الحداثي: علم التفسير نموذجًا

الاجتهاد والتجديد بين التيار التقليدي والتيار الحداثي:

علم التفسير نموذجًا

أ. مهجة مشهور*

إن إشكالية التجديد في المجال المعرفي الديني إشكالية حاكمة تحتاج إلى تأمل واجتهاد حتى يتسنى لنا تقييم ما يطرح على الساحة المعرفية، سعيا للتمييز بين ما هو إضافة معرفية حقيقية وما هو مجرد ترديد لفكر قديم من ناحية، أو تجديد من خارج السياق بحيث لا يعتد به في مجال التراكم المعرفي الديني من ناحية أخرى.

يجب التأكيد هنا على مسلمة أساسية، وهي أنه بدون التجديد يدخل الفكر والمعرفة نفق الاندثار والانسحاب من الساحة العلمية الحضارية. فلا جدال أن التجديد ضرورة معرفية لقيام الحضارات واستمرارها، فهو إذن قانون حاكم وسنة دائمة.

ولكن الخلاف يدور حول مناهج هذا التجديد، فيمكننا القول أن هناك ثلاثة مناهج في الإنتاج الديني التجديدي تعبر عن مأزق معرفي يحول دون تحقيق نقلة نوعية حضارية للإنتاج المعرفي الإسلامي.

أولا: يرى البعض التجديد على أنه استلهام كامل للنموذج المعرفي الغربي، ذلك النموذج الملهم الذي استطاع أن يجدد مناهجه ومداخلاته باسم الهرمنوطيقا، ولكننا ندخل في هذه الحالة في تبعية فكرية للغرب باسم “التجديد والمعاصرة”، نحاول استعارة من هذه المناهج ما يصلح منها وما لا يصلح، دون محاولة حقيقية لتطوير مناهجنا الخاصة.

ثانيا:  يرى البعض الآخر في التجديد نفضا للغبار عن المنتج المعرفي التراثي، فالتجديد عندهم ما هو إلا محاولة للعودة بالفكر إلى ما كان عليه يوم نشأ بحيث يبدو مع قدمه كأنه جديد، وذلك بتقوية ما هوى منه، وترميم ما بلى، حتى يعود بقدر الإمكان إلى صورته الأولى. هذا يعني أن التجديد عند هذا التيار هو إعادة إنتاج الماضي في صورة خطاب جديد، وذلك باسم “التجديد والأصالة” .

ثالثا: يرى البعض في التجديد محاولة لأخذ طرف من التراث وطرف من الحداثة، بدون تحليل تاريخي نقدي لكليهما، وهو نوع من التلفيق المعرفي غير المبدع، وهو ليس من التجديد في شيء.

وهنا يجب تقرير حقيقة في مجال التجديد والإبداع المعرفي، ذلك أن البحث في أي مجال معرفي يرتكز دائما -وبطريقة قد تكون لا شعورية لدى المجتهد المجدد- على نظام فكري ونسق ثقافي لا ينفك عنه، فهذا الفكر وهذا النسق يتكون من شبكة من الأفكار والقيم والتصورات والرموز تمثل مرجعية أساسية ومفاتيح معرفية لأي تجديد. فلا يمكن تصور التجديد المعرفي دون انتماء الباحث إلى مرجعية فكرية محددة.

ومن هنا يمكن تفهم الأنماط الثلاثة السابقة من الإنتاج المعرفي التجديدي، فالنمط الأول الحامل للواء التجديد والمعاصرة يستبطن شعوريا أو لاشعوريا النسق الغربي في الاجتهاد، ولذا فهو يطالب بتغيير آلة الاجتهاد والتجديد في البحث واستبدالها بتلك المناهج المنبثقة من الرؤية الكلية الغربية، فهو يرى أن لا تجديد ولا ابتكار في المناهج ما لم تطرح المفاهيم الأساسية الدينية للمراجعة، وأن الاجتهاد والتجديد يجب أن يتحرر تماما من المسلمات العقائدية حتى يقدم فكرا متطورا مجددا متفاعلا مع المرحلة الزمنية الذي يعبر عنها.فكما جاء على لسان محمد شحرور في ص. 27 من كتابه (القصص القرآني): ” ضرورة إحداث خروقات حقيقية في بنية هذا العقل … والمقصود هنا الاشتغال على تلك المفاهيم المؤسسة لوعي العقل الإسلامي ببنيته الذاتية..” 

أما التيار الثاني المتبني لفكرة إعادة إنتاج الموروث ونفض الغبار عنه انطلاقا من فكرة التجديد والأصالة، فهو يستبطن النسق الفكري المحافظ التقليدي، وبذلك يدعو إلى جهد تجميعي هادف إلى استيعاب الزاد المعرفي الموروث دون أي عمل تقويمي أو نقدي أو تجديدي، فهو يرى في التراث العلمي الديني غاية ما يحتاج اليه الفرد والمجتمع من أدوات حياة، فيقوم أتباعه بالتمسك بمفاهيم ومناهج وأساليب معرفية  ثابتة ومتوارثة، فتكون إسهامتهم إسهامات منكفئة على نفسها تتميز بالتكرارية وإعادة إنتاج القديم، وهم في هذا ينطلقون من ذهنية دفاعية عن هوية المسلم التي تبدو لهم مهددة بالضياع والتشتت. وهنا يجب التأكيد على أن لا شيء يعادل في خطره تعامل البشر مع الأفكار كمطلق يقبع في سكون وثبات خارج أي سياق، ويحتفظ بصلاحية تستعصي على أي تحد، في الوقت الذي يتميز فيه الفكر الإنساني بديناميكية منفتحة . هذا التيار ينطلق من النسق المعرفي الإسلامي ولكن لا يمكن وصفه بالتجديدي، فلا إضافة على مستوى تطويرمناهج البحث المستخدمة  ولا على مستوى قراءة الواقع وبالتالي فلا تطوير في المنتج المعرفي المعاصر.   

أما التيار الثالث القائم على التوفيق والمواءمة بين الموروث والحديث، فهو تيار ليس لديه منهج نقدي لهذين المنهجين المعرفيين، وليس لديه منهج تجديدي حقيقي، وإنما هو ينطلق مباشرة من النسق التراثي المعرفي ولكن بطريقة أولية بدائية في محاولة منه للحاق بقطار التجديد من خلال الاستعانة بشذرات من المناهج الغربية كي يضفي على عمله المعرفي صبغة التجديد.

أما التجديد في المجال المعرفي الديني كما نراه، فهو ذلك التجديد الذي يتم إنطلاقا من مبادئ ومسلمات النموذج المعرفي الإسلامي مع بناء منظومة من المناهج  المعاصرة التي تستوعب وتتجاوز العقل البحثي التقليدي الساكن للوصول إلى إنتاج معرفي معاصر ومبدع يحترم مسلماته العقائدية الأساسية ورؤيته الكلية . هذا التجديد لا يرى في احترام المسلمات العقائدية والرؤية الكلية نقيصة تحول دون التجديد المبدع، وهو في ذلك يعتمد على فكرة محورية أسس لها منذ عقود المفكر والفيلسوف د. عبد الوهاب المسيري –رحمه الله –وهي فكرة منهجية أطلق عليها “إشكالية التحيز”[1].

وتعني “إشكالية التحيز”وجود مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النماذج المعرفية والوسائل والمناهج البحثية التي توجه الباحث، هذه القيم والأفكار الكامنة متواجدة في كافة النماذج والمناهج المعرفية -الغربي منها والشرقي، الإسلامي والعلماني- ، وقد استهدف د. المسيري في مشروعه اكتشاف بعض التحيزات الغربية الكامنة في مصطلحاتنا ومناهجنا وأدواتنا البحثية وقيمنا المعرفية، باعتبار أن النموذج الغربي هو النموذج الكامن وراء معظم معارفنا وعلومنا، فهوالنموذج المسيطر حضاريا، والذي يتبدى في مصطلحات العلوم ومسلماتها ومنطلقاتها ومناهجها وتفاصيلها، واقترح د. المسيري استبدال هذه التحيزات المعرفية الغربية بمصطلحات ومناهج وأدوات وقيم معرفية لصيقة بالنموذج المعرفي الإسلامي. فيرى المسيري أنه نتيجة لبساطة النموذج المعرفي العقلاني الغربي وجاذبيته فقد أصبح محاولة اللحاق بالغرب هي جوهر جميع المشروعات المعرفية ومشروعات النهضة في عالمنا العربي والإسلامي. حتى محاولة بعض التيارات الفكرية التي تحاول استلهام النموذج الإسلامي أو العربي (تيار القومية العربية) في نقد ومراجعة مسلمات النموذج الغربي، ما هي في الحقيقة إلا محاولات لإعادة صياغة الهوية من الداخل على أسس غربية مع الحفاظ على هيئتها الخارجية العربية. فالهدف دائما هو “اللحاق بالغرب في تقدمه” بالتعريف الغربي للتقدم.

إذن يؤكد د. المسيري أن خلف كل رؤية كلية أو نماذجية معاييرها الداخلية التي تتكون من معتقدات وفروض ومسلمات وإجابات عن أسئلة كلية ونهائية تشكل جذوره الكامنة وأساسه العميق، وتزوده ببعده الغائي. وبالتالي فمناهج التجديد جميعها وليس فقط تلك الخاصة بالتجديد الديني ليست مناهج حيادية تماما وليست موضوعية تماما، إلا أن مسلمات الرؤية الكلية لأي طرح معرفي لا تعني تكبيله وإعاقته عن الانطلاق الإبداعي. 

هذا المفهوم سبقه اليه الأستاذ محمود شاكر في سياق حديثه عن المنهج، فقد نفى بشكل جازم إمكانية أن يكون المنهج محايدا، لذلك طرح فكرة “ما قبل المنهج”، ذلك المفهوم الذي ينبه إلى تلك الأبعاد المتصلة بالذات الانسانية وباللغة والمعتقد والرؤية الكلية للكون والحياة الإنسانية وبالثقافة. وهذه الأبعاد تشكل رؤية الباحث في سعيه للتجديد المعرفي وتحدد زاويته في النظر والتحليل والتفكير. فهو يرى أن “التجديد حركة دائبة في داخل ثقافة متكاملة”[2].

إذن فلا تجديد في المجال الديني بدون رؤية كلية تلحق هذا العمل التجديدي بالتراكم المعرفي الخاص به، تطور فيه وتدفعه إلى الأمام دون إخراجه من السياق.

  وبالتالي لا يتحرج المجدد في المجال المعرفي الديني من الإعلان عن انطلاقه من ثوابت النموذج المعرفي الإسلامي ورؤيته الكلية، هذه الثوابت والرؤية المستقاة من النص المؤسس، القرآن الكريم، بقدسيته وتفرده، فكل إبداع معرفي في المجال الديني لابد وأن يستحضر دوما هذا المركز الذي ينطلق منه، فهو المعين الغني والخصب بالمعاني والاحتمالات التي لا تنضب، والتي تجعل المجدد أيا ما كان مجال تخصصه واجدا فيه ضالته.

وبهذه المركزية للنص المقدس يمكن إعادة النظر في كل زمان ومكان للمنهجيات المستخدمة في تجديد الناتج المعرفي وإبداع مناهج بحث جديدة تستجيب لطبيعة مشاكل كل عصر، وهذا سيستتبع إعادة النظرفي كثير من التصورات والأفكار التي تكون قد اكتسبت مع طول الزمان قدسية ليست أهلا لها، وهذا يعني فك الحجر المعرفي عن انطلاق العقل البشري في مسيرة التجديد مع التأكيد على الالتزام المنهجي بإطار الرؤية الكلية الإسلامية. 

إذن فالتجديد في المجال المعرفي الديني ليس “اجتهادا في ظل الموروث تفرغ في حقيقتها التجديد من مضمونه الحق”[3] كما يدعي مفكري التيار الحداثي، ولكنه اجتهاد في ظل رؤية كلية متميزة عن أي رؤية كلية أخرى، لا يصلح الاجتهاد إلا في ظلها لكي يكون اجتهادا مبدعا في إطار من النموذج المعرفي الإسلامي وليس الغربي أو العلماني. وهذا أمر مشروع معرفيا تقبله المفكرون والعلماء في كل إبداعات الفكر التجديدي الغربي بمسلماته ومناهجه.

علم التفسير بين التيار التقليدي والتيار الحداثي:

القرآن الكريم نص ثابت، به حقيقة المراد الإلهي، والمتغير هو النتاج المعرفي للبشر الذين يجتهدون لفهم هذا النص وهم مزودون بمفاهيم وخبرات متفاوتة، منفعلون بالمكان والزمان والفضاء الفكري والثقافي المكون لوعيهم، وكلما اتسع إدراكهم وازدادت معارفهم ونجحوا في التسامي فوق خبراتهم الظرفية تمكنوا من الاقتراب من المعاني الكبرى والحقائق المعجزة المبثوثة في هذا النص الإلهي، فالقرآن الكريم نص مفتوح على تطور الوعي لدى الأجيال المتعاقبة، وعلى تقلبات الاهتمام وتصاعده من جيل إلى جيل، فيغترف منه كل جيل ما تيسر له من المعرفة ومستويات الكشف، ويترك للأجيال التالية وجوها أخرى للمعنى وإضاءات متجددة، وإلا كيف يكون القرآن الكريم المعجزة الخالدة إلى يوم الدين.

والعناية بتفسير ودراسة القرآن الكريم منذ تنزله على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم تفتر على مر السنين، فهناك وفرة في الإنتاج التفسيري للنص القرآني لم تضعف وتيرتها وإن اختلفت في مناهجها ومدارسها وتياراتها، كما أنها تختلف في طبيعة التناول من حيث كونها تصدر في صورة تفسير أفقي للقرآن الكريم تتناول آياته الكريمة تبعًا لترتيب سوره وآياته أم أنها تأخذ شكل الدراسات التحليلية لقضايا بعينها من خلال تجميع موضوعي لآيات القرآن الكريم. وهذا الإنتاج المعرفي الغزير الذي يتخذ من النص القرآني مركزا له ينتمي إلى كافة التيارات الفكرية حتى غير العربية منها، وهو يؤكد على محورية النص القرآني في المنظومة الفكرية والثقاقية العربية على الرغم من طبيعة التحولات التي عرفتها المجتمعات العالمية في علاقتها بالمقدس، فلا سبيل لفهم العقل والسلوك العربي والمسلم واستيعاب إنتاجه المعرفي إلا من خلال فهم هذا النص المؤسس لهذه العقلية وهذه المعرفة.

تستلزم هذه الأهمية المحورية من العلماء القائمين على هذا العلم المفتاحي (علم التفسير) السعي إلى تطوير مناهجهم والتنظير لمداخل جديدة تتناول النص المقدس تستكشف إمكاناته وتستخرج كنوزه وعطاءاته.      

وهذا لا يعني بأي حال الاستغناء عن التراكم المعرفي في مجال علم التفسير، فالقارئ للقرآن الكريم والمفسرون مهما تعددت مدارسهم لا يمكنهم بأي حال الاستغناء عن التفاسير التقليدية لتفهم المعاني الدقيقة للألفاظ والأساليب البلاغية والنحوية المستخدمة في هذا النص المقدس، فهذا الإرث العلمي الذي تراكم عبر قرون عديدة ينطوي على جهود علمية ضخمة لا يمكن تصور إزاحتها للبدء من الصفر في كل تجربة تفسيرية جديدة.

فاللجوء إلى تفسير القرآن الكريم دون الاستعانة بالبنية التحتية اللغوية واللفظية والتفسيرية والبلاغية والنحوية المكون منها الإنتاج التفسيري التقليدي تجاوز غير مشروع فهناك تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالمأثور، والتفسير التجزيئي الذي ينظر في مراد كل آية بالاستقلال عن الآيات الأخرى، وتلك الأخيرة قد تأخذ توجه فقهي أو لغوي أو إشاري أو كلامي أو بياني.

وهذا الاحتياج للتفسير التقليدي أدركه بعض القدماء كالسيوطي الذي ذهب إلى أنه: “لا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر بل لابد منه أولا، إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر، ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب”[4].

 ولكن هذه التفاسير رغم محوريتها تمثل بعض المشاكل، منها :

أولا: من حيث المضمون، بها الكثير من الاسرائيليات والروايات الضعيفة من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد بها مفاهيم  أثبت التطور العلمي تجاوزها.

ثانيا: من حيث اللغة، بعدها عن لغة العصر، فهي تحمل عبق المراحل التاريخية التي ألفت فيها، بكل ما يعني هذا من صعوبة التفاعل معها من جانب القارئ والباحث المعاصر، وبالتالي عدم القدرة على التوحد معها والانفعال بها. 

ثالثا: من حيث المنهج، فهي مسكونة أساسا بهموم اللفظ ومعانيه المباشرة، وبالتالي فقدرتها على الكشف عما وراء المدلول اللفظي واللغوي -المتفق عليه والمستقر إلى حد كبير- للوصول إلى المراد من الآيات والكشف عن كثافة وديناميكية العلاقات بين المعاني محدودة للغاية، فالمناهج المستخدمة في هذه التفاسير مناهج تقليدية لا تشبع نهم العقلية المعاصرة المطلعة على الناتج البشري حول العالم، وبالتالي فهي لا تشفي غليلها في الحصول على ناتج معرفي صالح لهذا العصر. 

إذن فالمفسرون المعاصرون مضطرون إلى إستئناف النظر في الآيات لصياغة رؤى ومناهج ومداخلات تتجاوز تلك المستخدمة في هذا الإرث التفسيري الضخم، وهم أيضا مضطرون إلى استخدام لغة يسهل على المسلم المعاصر أن يألفها ويتفاعل معها.

إلا أن نقطة انطلاق المفسر في سعيه إلى فتح دلالة الآيات القرآنية من خلال التعامل مع النص الثابت يجب أن تكون هي إعلاء قدسية القرآن الكريم باعتباره نص إلهي، بكل ما يعني ذلك من احترام المرتكزات المعرفية الحاكمة للتعامل مع هذا النص. إذ أن نزع القدسية عن هذا النص الإلهي ومعاملته كأي نص بشري -بحجة تحرير الباحث من القيود لينطلق في عملية الإبداع- يؤدي بالمغامرة بهذا الإبداع وخروجه عن السياق المعرفي الذي يستهدفه المجتهد، فلا يؤدي إلى تراكم معرفي معتبر في مجال تأويل القرآن الكريم، وإنما يصبح الأمر مجرد شذرات من الاجتهاد تتعدد أفقيا بتعدد الباحثين في مجال فهم القرآن الكريم.

وقد يتساءل البعض عن مساحة الاجتهاد والانطلاق الفكري في التعامل مع النص القرآني إذا ما تم الالتزام بقدسيته ومرتكزاته المعرفية بهذه المرتكزات المعرفية، إلا أن الإيمان بالمصدرية الإلهية للقرآن الكريم لا تحول دون الاجتهاد والابداع في التفسير والتأويل، ولكن يلزم أن يتم ذلك بمنهجية خاصة ومتميزة.

ويمكن في هذا المقام الإشارة السريعة إلى المرتكزات المعرفية لتفسير القرآن الكريم*:

أولًا: القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان: تعبر هذه الحقيقة عن قابلية النص القرآني على استمراره في التدفق الدلالي وانفتاحه الدائم على أية قراءات متجددة واعية.

ثانيًا: آيات القرآن الكريم هي الأبلغ والأفضل أدبيًا ولغويًا: فالقرآن سما باللغة إلى أعلى قدرات عطائها، وبتركيبيته الفريدة وببلاغته الخاصة فهو يتطلب مناهج اجتهاد مبدعة ومتطورة لفك شفرة هذا النص المقدس.

ثالثَا: قصص القرآن الكريم قصص حق: فبجانب احتواء القصص القرآني على الوعظ والعبرة وأبعاد تصويرية فنية وجمالية، فإنه يتضمن أبعادًا تاريخية منضبطة بكل ما يتضمنه من أشخاص وتفاصيل ووقائع.

رابعًا: آيات الأحكام في القرآن الكريم آيات محكمات: لا يمكن سحب صفة الثبات والحجية منها.

منهجية الاقتراب التأويلي لقرآن الكريم:

 بالاستقراء والتأمل نجد أن هناك تطابقا واضحا بين مناهج الاجتهاد في فهم القرآن الكريم وتفسيره ومناهج استكشاف حقائق وقوانين الكون وتفسيرها، فالمنهجان قائمان على فرضية أن كلا من القرآن الكريم “كتاب الله المسطور” والكون “كتاب الله المنظور” هما العنصر المركزي المستقل في البحث، أما الاجتهاد في فهمهما -وكل النتاج المعرفي والتكنولوجي والنظري للوصول إلى أسرارهما- فهو العنصر التابع المتغير.

إذن فللقراءتين منهج واحد ومقصد واحد. فالقراءة في الكون المنظور يستهدف الوصول إلى النظريات العلمية الحاكمة فيه، ومكامن الإعجاز والإبداع في خلق الله تعالى، واستجلاء أسرارهذا الكون وأسرار الإنسان المستخلف فيه، ويتم هذا العمل الضخم بإبداع الآلات والأجهزة واستنباط النظريات والوصول إلى طرق علمية قادرة على فك أسرار هذا الكون المخلوق من الله تعالى والمسخر للإنسان، فالبشر منذ بدء الخلق وحتى قيام الساعة في سعي مستمر لاكتشاف أسرار خلق الكون والإنسان وليس للعبث بقوانين وجودهما[5].

 كذلك القراءة في كتاب الله الموحى به تستهدف الوصول إلى إعجازه وهديه وما يخبؤه من كنوز وأسرار في المعنى والدلالات واللغة والبلاغة والعلم وغيره، فالقرآن الكريم بما يتضمنه من أسرار وإعجاز يجعل عملية الوصول إلى هذه الأسرار وهذا الإعجاز تحديا كبيرا، مما يستتبع ضرورة إبداع المناهج وسبل الكشف عن هذا الإعجاز وهذه الأسرار، مثله مثل كشف أسرار خلق الكون والإنسان. فالقرآن معجزة الله تعالى الباقية ليوم الدين، فلا رسل ولا معجزات إلا معجزة القرآن الدائمة والمتجددة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مدير مركز خُطوة للتوثيق والدراسات، وسكرتير تحرير مجلة المسلم المعاصر.

[1] عبد الوهاب المسيري(تحرير)، إشكالية التحيز. رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد. هيردن. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1998.

[2]. محمود محمد شاكر (1987). رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. القاهرة: مطبعة المدني. ص. 158.

[3]. محمد شحرور (2010). القصص القرآني: قراءة معاصرة. ج. 1. بيروت: دار الساقي. ص ص. 19- 20.

[4]. السيوطي (2008) الإتقان في علوم القرآن. ج. 2 ص. 523.

*. تم دراسة هذه المرتكزات المعرفية باستفاضة في بحث مستقل.

[5] “فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب”(البقرة، 258).

عن مهجة مشهور

شاهد أيضاً

توظيف علم الدلالة المعجمي في حقل التفسير القرآني

مركز خُطوة للتوثيق والدراسات

العنوان: توظيف علم الدلالة المعجمي في حقل التفسير القرآني

المؤلف: عبد الرحمن طعمة

في إعجاز القرآن

محمد الطاهر بن عاشور

لم أر غرضًا تناضلت له سهام الأفهام. ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى، مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن، فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل.

2 تعليقان

  1. مقال بحثي رائع …. شكراً جزيلاً… ونتمنى أن يثور المسلمون في كتاب ربهم. لان فيه علاجاً لكل ما هم فيه. تحياتي.

اترك رداً على Ahmad Baghdadi إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.