العنوان: الجذور العربية للرأسمالية الأوروبية.
المؤلف: جين هيك.
ترجمة: محمود حداد.
الطبعة: ط. 1.
مكان النشر: بيروت.
الناشر: الدار العربية للعلوم.
تاريخ النشر: 2008.
عدد الصفحات: 495 ص.؛ 23 سم.
الترقيم الدولي الموحد: 6-289-87-9953-978.
ينقسم الكتاب بعد المقدمة إلى ثلاثة أجزاء أساسية جاءت تحت العناوين التالية:
الجزء الأول: الانحطاط المسيحي. ويتكون من فصل واحد جاء بعنوان حالة الركود في أوروبا المسيحية خلال العصور الوسطى.
الجزء الثاني: الهيمنة الإسلامية، ويتكون من 3 فصول:
- الانفجار التجاري الإسلامي خلال القرون الوسطى.
- التطبيق العملي لعقيدة السوق الحرة الإسلامية.
- ازدهار “الرأسمالية التجارية” في مصر الفاطمية.
الجزء الثالث: الإسلام والانتعاش المسيحي، ويتكون من فصلين:
- متطلبات التجارة وتحول أوروبا.
- تحول أوروبا خلال العصور الوسطى: انتصار الأفكار.
يقوم هذا الكتاب على معارضة أطروحة العالِم البلجيكي هنري بيرين التي قدمها في أوائل القرن العشرين والتي سيطرت على الدراسات الاستشراقية وظلت ملهمة لتوجهاتها. وتدور هذه الأطروحة حول أن قيام الدولة الإسلامية كان سبب دخول أوروبا الغربية في العصور المظلمة من خلال قطع طرق التجارة بين الدول الأوروبية وآسيا، مما ترك أوروبا دون أسواق تجارية مما أدى إلى امتناع تصريف البضائع وتراجع حركة الاقتصاد. ويحاول هيك من خلال هذه الدراسة قلب هذه الأطروحة.
المقدمة
تصدير العقيدة الإسلامية الاقتصادية
في مقدمة الكتاب يحاول الكاتب وضع الخلفية التي سينطلق منها في دراسته حول جذور الرأسمالية الغربية السائدة عالميًا في الوقت الراهن، فيعمل على البرهنة على كونها انبثقت من ثقافات وديانات سابقة خاصة تلك السائدة في الشرق الأدني. وفي هذا السياق يطرح الكاتب فكرة “تحدي التأريخ”، نظرًا لكون تاريخ العرب والمسلمين وبالأخص التاريخ الاقتصادي الذي كُتب في أوروبا مليئ بالأخطاء العلمية، وأبرز الأمثلة تحميل هنري بيرين الإسلام مسئولية تخلف أوروبا في القرون الوسطى. وفي المقابل يؤكد الكاتب على استفادة الاقتصاد الأوروبي من ازدهار الاقتصاد في الدولة الإسلامية في العصور الوسطى.
وبناء على ذلك يطمح الكاتب من خلال هذه الدراسة إلى تدارك نقص الدقة التاريخية فيما يتعلق بالإنجازات التجارية والاقتصادية في مجتمعات الشرق الأدنى التي جاءت نتيجة للانتصار السياسي والعسكري للإسلام في القرن الأول الهجري/ السابع الميلادي وأثر ذلك على مسار الاقتصاد الأوروبي.
وفي هذا الإطار يؤكد هيك على أن الأحداث الاقتصادية في الشرق الإسلامي وأوروبا المسيحية خلال القرون الوسطى لم تتطور في حالة من الخواء التجاري، على العكس من ذلك كانت مرتبطة بقوة بشبكة معقدة من التجارة الدولية، وبالتالي سلكت اقتصاديات الشرق الأدنى وأوروبا الغربية في القرون الوسطى مسارات متوازية بشكل كبير.
وهنا يؤكد هيك أن نتائج هذه الدراسة تدعم بشكل كبير الفرضية القائلة بأن التطورات المتشابهة بين كلا الجانبين كانت سببية، حيث نقل تجار دول المدن الإيطالية نتيجة لاتصالاتهم التجارية مع المسلمين العديد من تقنياتهم التجارية الجديدة والمتطورة، خاصة المدن التي يدعي العديد من المؤرخين التجاريين بأن الرأسمالية ولدت فيها مثل البندقية جنوة ومرسيليا وأملفي وغاييتا وبيزا.
يشير هيك هنا إلى عدة توضيحات مهمة أولها أن مسلمي القرون الوسطى لم يبتكروا العديد من الأدوات التجارية التي نقلوها لأوروبا، بل أحسنوا استخدام وتكييف الإرث الذي تركه اليونان والرومان، ثانيًا أن مصطلح التجارة الإسلامية مصطلحًا يستخدم بشكل خاطئ لأن التجارة في العالم الإسلامي لم تكن تقتصر على المسلمين وإنما كانت تمارس من قبل مجموعة متنوعة من الوسطاء التجاريين تضم يهود وأقباط وفرس وهندوس وإيطاليين تحت رعاية الخلفاء المسلمين العرب وبالتوافق مع المبادئ الأساسية للشريعة الإسلامية.
ويرى هيك أن أحد الأسباب الهامة التي أكسبت مسلمو القرون الوسطى القوة الاقتصادية هي القدرة على الموائمة والتكيف بين التعاليم الإسلامية ومتطلبات الواقع الاقتصادي، حيث يرى هيك أن علماء المسلمين كانوا يفعلون ذلك من خلال كتب الحيل والمخارج.
ثم يختم هيك مقدمته ببيان أن الدراسة سوف تقدم ثلاث حجج تدحض فرضية بيرين وتبين أنها فرضية يمكن عكسها اليوم:
الحجة الأولى: أن المسلمين أمنوا الطلب الاقتصادي الأساسي بالإضافة إلى العديد من الأدوات التجارية التي أدت إلى انتشال القارة الأوروبية من العصور المظلمة، ومن خلال القيام بذلك نقلت إلى الغرب العديد من الأدوات الرأسمالية الحديثة.
الحجة الثانية: أن الدولة الإسلامية ازدهرت في حين كانت أوروبا الغربية غارقة في مستنقع النظام الإقطاعي في القرون السطى، لا سيما أن الفقهاء المسلمين كانوا أكثر مهارة فكريًا من نظرائهم المسيحيين في تطوير أساسات منطقية تأويلية تكيف عقائدهم الدينية مع المعاملات الرأسمالية من أجل مواكبة المتطلبات التجارية العصرية.
الحجة الثالثة: أنه عندما خرجت أوروبا من العصور المظلمة كان خلاصها في جزء كبير منه عائدًا إلى المتطلبات المتزايدة لتجارة المسلمين.
الجزء الأول
الانحطاط المسيحي
الفصل الأول
حالة الركود في أوروبا المسيحية خلال العصور الوسطى
يبين هيك في هذا الفصل الأدلة التي تبرهن على أن مسلمي القرون الوسطى لم يكونوا السبب في توقف النشاط الاقتصادي في أوروبا الغربية، وأن هذا الركود يرجع إلى أسباب داخلية نابعة من التطورات الاجتماعية والاقتصادية والدينية الداخلية، كما أن البنية التحتية للإمبراطورية الرومانية بدأت تضعف منذ العصر الثالث الميلادي أي قبل أربعمئة سنة من ظهور الإسلام.
أ- العوامل الاجتماعية الاقتصادية: يذكر هيك أن هذا القرن شهد العديد من المحن حيث انتشر الطاعون والحرب الأهلية والتعديات البربرية مما أضعف البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية في أوروبا الغربية، فأصبح العمل نادرًا للغاية وترك العمال أعمالهم وتراجعت معظم النشاطات التجارية، وفي المقابل زادت النفقات الخاصة بالجيش وارتفعت الضرائب بشكل كبير. ومع تفاقم الضغوطات الضرائبية ارتفع الميل إلى المراوغة القانونية وغير القانونية عند كبار مسؤولي الدولة ومالكي الأراضي وقد أدى هذا إلى إفلاس الدولة في مقابل تمكن مجموعات صغيرة من أصحاب الامتيازات من خلال تهربهم من الضرائب أن يجمعوا الأموال وينشئوا أنظمة اقتصادية واجتماعية مصغرة منفصلة عن السلطة المركزية، ومن هنا كانت نهاية العالم الروماني وبداية العصور الوسطى.
ووفقًا لذلك فبحلول القرن السابع الميلادي/الأول الهجري كانت الإمبراطورية الغربية في المراحل الأخيرة من تفككها السياسي والاقتصادي والإنحطاط التجاري.
ب- الكنيسة: يذكر هيك أن التطور الذي سرع التدهور الاقتصادي هو التدخل المتزايد للكنيسة في الشؤون الدنيوية للدولة ثم السيطرة عليها، فوفقًا للعقيدة المسيحية آنذاك فقد ساد ازدراء الدنيا وترغيب الناس في الفقر وتحريم الربا، ويشير هيك أيضًا أن عملية شراء السلع والاحتفاظ بها وإعادة بيعها بسعر أكبر هو بالنسبة للكنيسة مكسب غير شريف، وأن الكنيسة ساوت الربا بكل عملية تجارية تحمل الفائدة حتى لو بيعًا تجاريًا يهدف إلى الربح وبالتالي يرى هيك أن بهذا الدستور الكنسي الذي كان يحكم الدولة قامت الدولة بإلغاء متعمد للحوافز الاقتصادية الضرورية للمشاركة في أي مسعى إنتاجي وبالتالي تراجع القطاعان الصناعي والتجاري، وأصبح النشاط التجاري هو العقود التجارية التي تقوم على استبدال سلعة بسلعة. وبالتالي ألغت الكنيسة دافع الربح والقدرة على أخذ الفائدة على رأس المال والسعي الفطري وراء الربح الذي يميز كل جهد اقتصادي إنتاجي في نظام السوق الحرة، من هنا يرى هيك أن الاقتصاد كان معطلًا بسبب التطبيق الحماسي للعقيدة الكنيسة ومذهبها.
ومع انهيار البنية التحتية الإدارية المحلية بسبب الانحطاط الاقتصادي سعت الكنيسة إلى تعديل إدارتها مما أدى إلى الظهور السريع للنظام الإقطاعي.
وبدأ رجال الكنيسة والرهبان أنفسهم يلعبوا دورًا كبيرًا في تسيير الشؤون الاقتصادية مما أدى إلى استيلاء الكنيسة على معظم المهام الاقتصادية، وبالتالي أصبحت الكنيسة غنية جدًا على حساب الشعب والدولة فبالإضافة إلى الأموال التي تحصل عليها من التجارة والصناعة والضرائب والمدفوعات الشهرية التي يدفعها الآثمين للتكفير عن ذنوبهم، فإنها كذلك تحصل على تبرعات المواطنين الذين نذروا حياتهم للفقر اتباعًا لتعاليمها.
لقد مكنت هذه الثروة الضخمة الكنيسة من لعب دور متزايد في الحياة الاجتماعية الاقتصادية في أوروبا وأمنت لها لاحقًا الرأسمال الاستثماري الضروري للمباشرة في تمويل الحملات الصليبية التي بدأت منذ القرن الخامس الهجري.
وبناءً على ذلك يشير هيك إلى أن المسلمين العرب لم يكونوا وراء الوضع الاقتصادي البائس للقطاع الخاص في أوروبا خلال القرون الوسطى وإنما هيمنة الكنيسة وتركيزها الشديد على الفقر وتحريمها للفائدة الرأسمالية وبالتالي منع محفز الربح
الجزء الثاني
الهيمنة الإسلامية
الفصل الثاني
الهيمنة الإسلامية: الانفجار التجاري الإسلامي خلال القرون الوسطى
– الأساسات الصناعية عند بداية تجارة المسلمين:
يعود الكاتب هنا إلى المدخلات الصناعية الأساسية لتجارة المسلمين وذلك من أجل إدراك مدى التوسع التجاري الإسلامي عالميًا في المرحلة التأسيسية الممتدة من القرن الثاني حتى الرابع الهجري. ومن العوامل الهامة في هذا الازدهار الاقتصادي، كان نشوء البلدات العسكرية في الأراضي التي فتحها المسلمون بهدف ترسيخ هذه الفتوحات، حيث كانت هذه البلدات محفز قوى للنمو الاقتصادي حيث سرعت تطوير تسهيلات النقل من أجل الربط بين هذه البلدات عبر شبكة عسكرية متماسكة مما ساهم في حصول نشاط تجاري وصناعي كبير، ومن ثم حصلت طفرة في الإعمار والتجارة بين هذه البلدات.
وفي هذا السياق يذكر هيك أمثلة من أعمال الخلفاء الراشدين، منها شبكات الآبار والقنوات التي بناها الخليفة عثمان بن عفان على امتداد طريق مكة –البصرة، كذلك تشكيل قوات أمن خاصة لحماية القوافل من قطاع الطرق، وهذا مما يعكس جهود القطاع العام في دعم نمو القطاع الخاص.
أيضًا من العوامل الأخرى الهامة التي ذكرها هيك نظام خدمة الدولة المعروف باسم العطاء، وهو عبارة عن رواتب نقدية أساسية تُدفع للمسلمين كلهم بمبالغ متفاوتة، وكانت هذه الرواتب عامل حاسم في إيجاد قوة شرائية فعلية داخل الدولة الإسلامية وبالتالي تحفيز طلب المستهلك، هذا بالإضافة إلى تراكم رأس المال في خزينة الدولة الإسلامية بسبب الغنائم.
يقول هيك أن هذا التراكم لرأس المال مع زيادة عدد الأيدي العاملة المنتجة والاقتصادية وارتفاع عدد سكان المدن نتيجة للفتوحات وزيادة الطلب، كل ذلك أدى إلى تحفيز مختلف الأنشطة التجارية وبالتالي تطور الاقتصاد الصناعي والزراعي، ونفذت مشاريع ضخمة لتنمية البنية التحتية مما ساهم في رخاء اقتصادي مبكر لدار الإسلام.
هذا بالإضافة إلى حصول تبادل دولي ضخم للسلع بين الأقاليم المفتوحة والشرق، وبينها وبين شبه القارة الهندية وآسيا الجنوبية الغربية وأفريقيا وأوروبا، وبالتالي برز اقتصاد عالمي ديناميكي يقوم على رأس المال وظهرت طبقة من التجار العالميين العرب وغير العرب في دار الإسلام لكي يمولوا فرص السوق سعيًا نحو بناء ثروات مالية.
تطور التجارة الإسلامية
أ- توسع تجارة المسلمين في عصر الخلفاء الراشدين: يبدأ هيك هنا ببيان أن تطور الصناعة والتجارة خلال حكم الخلفاء الراشدين كان مرتكزًا على الأنظمة الاقتصادية الراسخة منذ العصر الجاهلي، حيث يرى أن التحول الديني العميق الذي ولده الإسلام كان بمثابة جزءًا مكملًا في الامتداد الإنتاجي والتجاري الذي كان قائمًا بالفعل خاصة في مكة كمركز تجاري قوي، ولم يكن نقطة اقتصادية بنائية. وفي هذا السياق ذكر هيك العوامل التي كانت سببًا في بروز مكة كمركز اقتصادي منها مكانها الاستراتيجي وقدسيتها الدينية حيث وجود الكعبة، وبالتالي كانت تجذب التجار والمستهلكين، هذا بالإضافة إلى توفر المعادن الثمينة بها مما جعل لديها سيل من الرأسمال الفائض.
ينتقل هيك إلى الحديث عن الديناميكية الاقتصادية في الدولة الإسلامية المبكرة، مؤكدًا على أنه بالرغم من ظهور الإسلام والفتوحات المرافقة له التي غيرت الأبعاد الإقليمية لتجارة غرب شبه الجزيرة إلا أنهما لم يبدلا كثيرًا من عواملها الإدارية الضمنية أو محفزاتها الاقتصادية. في هذا السياق ركزت التجارة الإسلامية المبكرة على البحر الأحمر كوسيلة نقل أساسية بين آسيا وافريقيا، هذا فضلًا عن الدروب البرية والمرافئ المركزية والثانوية التي تنقل مختلف أنواع البضائع عبرها في حالة من النشاط والديناميكية التجارية الواسعة، وقد امتزجت هذه القنوات التجارية مع العوامل المادية والاقتصادية التي مولت النشاط التجاري وجعلت لدولة الإسلام إرثًا وحركة تجارية راسخة استمرت دينامكيتها خلال حكم الخلفاء الراشدين وحوالي 89 عامًا خلال حكم الأمويين وحوالي قرن من حكم العباسيين.
ب- الأمويون وانتقال التجارة المسلمة نحو الشمال: مع انتقال الخلافة الإسلامية من الخلفاء الراشدين إلى الأمويين، أي انتقال اقتصادها من المدينة إلى دمشق، أدي ذلك إلى ظهور اختلافات في طرق تدفق التجارة، فلم تعد مكة والمدينة في صدارة مراكز تجارة القوافل، وفي هذا السياق تخلى الخلفاء الأمويون عن الدروب البرية المتعِبة واعتمدوا بشكل كبير على الخطوط البحرية أى عبر البحر الأحمر والخليج العربي، حيث حدث توسع تجاري كبير، ورافق هذا التوسع درجة استثنائية من الوحدة التجارية والأمن الداخلي اللذين أرساهما الفاتحون، في الوقت نفسه زالت إقطاعيات روما وبلاد فارس والتي كانت تكبح المبادلات التجارية بين الشرق الغرب، حيث باتت الآن الأرض ممتدة من المحيط الأطلسي حتى سهول آسيا الوسطى تحت إدارة مركزية واحدة.
يقول هيك أن دار الإسلام تحت الحكم الأموي أصبحت أعظم قوة بحرية وكونت أسطول ضخم ونجحت في الإستيلاء على قبرص، ثم إنهاء السيطرة البيزنطية على خطوط الشحن البحري المحيطة بالبحر المتوسط، وبالتالي تحكموا بأهم ممرات البحر المتوسط ومرافئ الدول المحاذية له، فعلى حد وصف بيرين يقول: “بينما أصبح بحرنا الروماني بحيرة مسلمة”.
ومن العوامل الهامة في الازدهار الاقتصادي في هذه المرحلة بالإضافة إلى تسهيل الدروب البحرية والبرية الأساسية وانتشار الأمن ومن ثم توسع التجارة، كانت العملة التي فرضتها الدولة الإسلامية من العوامل الهامة، حيث أعار الخليفة عبد الملك بن مروان اهتمام كبير إلي جودة العملة، حيث مثلت تحدي للعملة البيزنطية التي كان لها السيطرة على المنطقة، فقد ساهمت هذه النقود المعدنية في التدفق السريع للتجارة الإسلامية عبر تمويلها بواسطة عملة عالية القيمة. وعلى المستوى المحلي أعطت هذه العملة دافعًا قويًا للطفرة التجارية والبنائية الهائلة التي ميزت قرون الحكم الإسلامي الأولى مما دفع إلى تحقيق نشاط اقتصادي في جميع أنحاء الدولة.
ج- ذروة التجارة في العصر العباسي: مع انتقال الخلافة الإسلامية من الأمويين إلى العباسيين انتقل مركز الحكم من سوريا إلى العراق، وبالتالي وجد دار الإسلام نفسه واقعًا بشكل مباشر عند نقطة التقاء التجارة عبر القارات. ثم بنيت مدينة بغداد عام 145 هجري/ 762 ميلادي في موقع تجاري استراتيجي من الناحية البرية والبحرية، كما كانت متصلة بشبكة معقدة من المراكز التجارية داخل العراق نفسها مثل البصرة، والموصل، والكوفة، وسامراء.
يذكر هيك أن دار الإسلام كان يدخلها أجود أنواع المنتجات من أسواق دولية مختلفة كما أصبحت بغداد سوقًا كبيرة للتجارة، وهنا سيتجه هيك نحو تحليل هذا الاهتمام العباسي بالتجارة.
يبين هيك أن بغداد كانت صلة وصل في نشاطها التجاري، فمن أسواقها تحركت الدروب التجارية باتجاه الخارج في جميع الاتجاهات، وداخليًا كانت أهم مدن بلاد ما بين النهرين المتصلة فيما بينها بشبكة متداخلة من الأنهار والقنوات. وقد كانت الدروب البحرية والبرية الخارجية التي بنتها هذه الشبكة الداخلية تتشعب باتجاه الخارج انطلاقًا من بغداد. ثم يخوض هيك في ذكر تفاصيل كيفية اتصال المدن ببعضها عبر الدروب البرية والبحرية سواء داخليًا أو خارجيًا إلى الشرق والهند والصين وأقصى غرب دار الإسلام، مبينًا أن جزءًا من هذه التجارة لم يقم به التجار المسلمون، بل وسطاء مثل الروس والخزر واليهود الرذنية، وهي مجموعات متجولة من التجار.
وفي سياق اهتمام الخلفاء العباسيين وإدراكهم للدور الذي تلعبه التجارة في الحفاظ على حيوية الاقتصاد اهتموا اهتمامًا كبير بصيانة شبكة الطرق، فوضعوا إشارات مرورية عند التقاطعات، وقاموا بزرع شبكة من محطات الاستراحة. كما تمركزت المواقع العسكرية في الثغور البعيدة عن وسط المدن للحفاظ على أمن المناطق حيث تعبر أهم الدروب التجارية.
وفي هذا الإطار يقول هيك أنه انتشرت سريعًا شبكة تجارة دولية ضخمة تحت حكم العباسيين الأوائل وقد كان هذا نتيجة جهد المسلمين الأوائل ونتيجة لتنظيم العقائد الاقتصادية الإسلامية، مما أدي إلى حصيلة اقتصادية حية مكنت دار الإسلام لاحقًا من أن تكون الدولة التجارية الأكثر ديناميكية وتأثيرًا التي عرفها العالم في هذا الوقت.
د- الفاطميون بعد انهيار الخلافة العباسية: يذكر هيك أنه بعد انتقال مركز الخلافة من بغداد إلى القاهرة قاد الفاطميون البلاد مستفيدين من القوى الاقتصادية للدولة التي كانت موجودة بالفعل. ولكن بالتزامن مع ذلك بدأت الخلافة العباسية المتمركزة في بغداد تتصدع داخليًا بسبب ثورة الزنج في شمال شرق الجزيرة العربية في أواسط القرن الثالث الهجري وكان ذلك نذير للفوضى التي حلت بالبلاد لاحقًا. بالإضافة إلى ذلك حدثت سلسلة من الأزمات المالية أثرت على الاقتصاد بشكل كبير، وبدأ هنا الميل الاجتماعي والاقتصادي نحو الإقطاعية. في مقابل ذلك كان الفاطميون يتجهون صعودًا في مسار الازدهار الاقتصادي في مصر ويرجع هيك ذلك لسياسة عدم التدخل في السوق التي طبقها الفاطميون.
الفصل الثالث
التطبيق العملي لعقيدة السوق الحرة الإسلامية
بعد أن قام هيك في الفصلين السابقين بتقديم طرح يتسم بالطابع الوصفي لحال الاقتصاد الإسلامي منذ عصر النبوة وحتى قيام الدولة الفاطمية، فإنه في هذا الفصل يخوض بشكل تفسيري أعمق في أسباب هذا الازدهار مسلطًا الضوء على العقيدة الاقتصادية عند مسلمي القرون الوسطى.
1- الربح الخاص والرغبة بزيادة رأس المال:
يذكر هيك سعي مسلمي القرون الوسطى انطلاقًا من إباحة القرآن الكريم للتملك إلى امتلاك العقارات الخاصة، كما ركزوا على امتلاك أصول مادية مستقرة قابلة للاستثمار من بينها المال النقدي والمخزون التجاري. وكان الخلفاء ملتزمين بالحفاظ على القيم الفعلية لعملاتهم بهدف تأمين حركة تجارية مزدهرة.
ويشير هيك إلى أن التعاليم الإسلامية التي تحث على طلب الربح عبر وسائل رزق شريفة كان حافزًا كبيرًا لسعي المسلمين وراء الربح الخاص. وفي هذا السياق يذكر هيك مجموعة من أحاديث النبي ص – بالمعنى دون اللفظ – تحث على طلب الرزق والربح الشرعي.
ثم يسوق هيك كلام بعض علماء المسلمين في التجارة وفنونه، وقد ذكر على سبيل المثال كلام ابن خلدون في تعريف مظاهر دافع الربح الإسلامي مختصره “اشتراء الرخيص وبيع الغالي” وهو ما يعتبره هيك وصفًا لسياسة عدم التدخل الذي سبق بها المسلمون آدم سميث بقرون، وذلك انطلاقًا من ملاحظتهم التجريبية المباشرة القائمة على ديناميكيات اقتصاداتهم.
وقد ترافق مع الدرجات العالية من دافع الربح في الأسواق الإسلامية حساسية السوق المتجاوبة مباشرة مع عرض وطلب السوق، ويذكر تعريف ابن تيمية للربح كدالة سعر تتقلب استجابة للعرض والطلب.
2- أدوات العمل الرأسمالية المشتركة:
في هذا الجزء يناقش هيك بشكل أساسي مسألة تحريم الربا، وتمييز الفقهاء المسلمين بين المكسب التجاري والمكسب الرأسمالي الذي يحمل الفائدة، مع التأكيد على أن المكاسب المالية الإنتاجية ليست جميعها محرمة في الإسلام بل سمحت العقيدة بالزيادات من التجارة، وفي هذا السياق يتحدث هيك عن إحدى التطورات الاقتصادية الهامة التي تحمل أهمية أيديولوجية وعملية ضخمة، وهو تطور التأويل عند الفقهاء المسلمين الذين حاولوا شرعيًا أن يكوَنوا فكرة عن كيفية القيام بتجارات جائزة قادرة على جمع رأسمال مشترك من أجل تمويل المساعي الاقتصادية واسعة النطاق بشكل مربح أكثر. ثم يخوض هيك في بيان آليات التمويل المشتركة هذه، ومنها السماح للتجار بتوحيد مواردهم المالية في مشاريع تنطوي على المجازفة، بأن يسمح لرأسمالهم الخاص أن يثمر بين أيدي الآخرين، ونظرًا للطلب المتزايد على مبالغ مالية ضخمة تهدف إلى تمويل المبادرات التجارية المتوسعة باستمرارلرجال أعمال دار الإسلام، أصبح من الضروري أن يحصل الأغنياء غير التجار على إذن شرعي يسمح لهم بالمشاركة في تمويل مجازفات تجارية كبيرة، وفقًا لذلك أدى هذا الطلب إلى تأليف القانونيين المسلمين أعمال تأويلية معقدة – بحسب وصف هيك – تحت اسم “كتب الحيل والمخارج”، وهي مؤلفات تحوي أدوات شرعية لبعض الممارسات التي يبدو أنها تخالف في ظاهرها تحريم العمليات التي تحمل فائدة، ويذكر هيك مثالًا على ذلك فيقول: “ثمة طريقة لتفادي الربا يبيع زيد لعمر بوشلًا من القمح مقابل منتج آخر، بينما يبيع عمر بعدئذ بوشلين من القمح مقابل شئ آخر. مع أن السلع المقدمة مقابل القمح قيمتها صغيرة، تعطى من أجل دفع ثمن القمح، فليس هناك ربا بما أن السلع المتبادلة ليست متساوية من حيث النوع أو الوزن”. في هذا الإطار يذكر هيك بعض الأعمال والمؤلفات لعلماء مسلمين تصف مثل هذه الآليات غير المباشرة، مثل كتاب “المخارج في الحيل” للشيباني و”بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع” للكاساني و”الموطأ” لمالك ابن أنس وغيرهم.
يتعمق هيك أكثر في تفاصيل هذه العمليات الخاصة بالمشاركات الرأسمالية الجائزة، مؤكدًا على أن الحاجة لتركيبة مشتركة فعالة لتأمين رأس المال لتمويل المجازفات التجارية لم تكن من اختراع المسلمين، بل سبقهم فيها الرومانيون واليونانيون وغيرهم وكانت لهم جهود في ذلك.
ومن الآليات التي اعتمدها مسلموا القرون الوسطى في مسألة تأمين رأس المال التمويلي التي يذكرها هيك أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمح بنظام مكفول من الدولة للقروض الخالية من الفائدة، كما كان هناك أيضًا تسهيلات تسليف من القطاع الخاص.
ثم يخوض هيك في كلام الفقهاء عن التشريعات التجارية الجائزة، ويختار من ذلك مدونة للمدرسة الحنفية تقوم على تقسيم الشركات إلى شركات ملك وهي خاصة بملكية العقارات، وشركات عقد وهي ترتبط بشكل كبير بتطور الرأسمالية التجارية داخل دار الإسلام لأنها كانت تضم أربعة أنواع من الشركات المسموح بها:
– شركات الأموال، حيث يوافق كل شريك على المساهمة بجزء من رأسماله على شكل مال بالإضافة إلى المساهمة ببعض المهارات أو العمل.
– شركات العمل، حيث تشكل مهارات العمل رأسمال الشركة بما في ذلك المهارة والعمل المشترك.
– شركات الوجوه، حيث يوافق شركاء لا يملكون رأسمالًا على أن يبيعوا ويشتروا بالدين ويتقاسموا الأرباح.
– شركات المضاربة، وهي الشكل الأكثر انتشارًا حيث يؤمِّن بعض الشركاء الرأسمال المالي بينما يوفر آخرون المهارات البشرية.
ثم يذكر هيك الجهود الكبيرة التي بذلها العلماء الحنفيون في تحديد الصفات الشرعية لعقد المضاربة باعتباره تقنية استثمار نقدي. ومما يتمتع به هذا العقد أن التاجر يعتبر الوكيل الائتماني لرأسمال المستثمر، وبالتالي فإحدى سمات هذا العقد أن الممول يصبح مبعدًا تمامًا عن استثماره، وبالتالي يصبح للتاجر بصفته وكيلًا ائتمانيًا الحرية الكاملة ليختار بين مجموعة واسعة من النشاطات التجارية. وقد وضع الفقهاء وسائل لحفظ حقوق كلٍ من الممول والوكيل.
بالإضافة إلى ذلك كان التجار المسلمون مدعومين بمجموعة واسعة من الأدوات المالية الإضافية التي تعتبر اليوم حديثة، ومن بينها الحوالة والوديعة والصك/ الشيك، وقد دعمت شبكة واسعة من الصيارفة المتمركزين في أهم المدن هذه الأدوات المالية. وقد شكل هؤلاء قطاعًا مصرفيًا أوليًا، وقد تطور قطاع مصرفي أكثر منهجية مع تطور دار الإسلام وأصبح للصراف دور كبير ليس فقط في تمويل المجازفات التجارية للقطاع الخاص، بل في تأمين سندات الضريبة للحكومة. ومن أجل إدارة هذه الوظائف المالية أنشأت الدولة العباسية عام 316 هجري وكالة مصرفية مركزية باسم “ديوان الجهابذة”. ويشير هيك أخيرًا أن المسلمين لم يكونوا يحصلون على الفائدة الربوية من كل هذه المعاملات.
الفصل الرابع
ازدهار “الرأسمالية التجارية” في مصر الفاطمية
يستكمل هيك في هذا الفصل ما قد توقف عنده في نهاية الفصل الثاني في شأن الدولة الفاطمية، حيث يتناول بصورة أكثر تفصيلًا ازدهار الممارسة الرأسمالية في عهد الدولة الفاطمية، الذي يرى أنها لم تبلغ أوجها إلا في هذا العهد الفاطمي حيث بلغت مصر ذروتها الاقتصادية وكانت ذات ثراء فاحش على حد وصفه.
1- فتح الفاطميين لمصر: يقول هيك أنه برز في مصر دولة رأسمالية مكتملة النمو ذات اقتصاد سوق حرة، ثم يصف حال الاقتصاد في ذلك الوقت والعوامل التي أدت إلى ازدهاره.
كان الفاطميون يرون أن التوسع التجاري أداة فعالة للتعبير السياسي، حيث جعلوا التجارة أداة أساسية لتوساعتهم الخارجية، ومن أجل تعزيز هذه المصالح التجارية كرست الحكومة موارد هائلة لبناء المرافئ وتوسيع الأسطول البحري.
2- المحيط الاقتصادي الكلي “المتمركز حول النيل” عند الفاطميين: ينتقل هيك إلى تفحص المظاهر الأساسية لنظام الرأسمالية التجارية عند الفاطميين، فيذكر أولًا طبيعة الاقتصاد الداخلي في مصر الفاطمية الذي كان يتألف من حلقتين متداخلتين، حلقة داخلية تتشكل من أعمال الاقتصاد الكلى التي كانت تتحكم بها الدولة، وحلقة خارجية تتألف من أعمال الاقتصاد التفصيلي التي يديرها رجال أعمال القطاع الخاص العاملين داخل بيئة تسيطر عليها السوق الحرة.
فأما داخل الاقتصاد الكلي، فالدولة اشتركت مباشرة في إنتاج مجموعة محدودة من السلع الاستراتيجية وفي تسويق أخرى. وقد عملت الحكومة على تعزيز وتنظيم بعض القطاعات الرئيسية في حركة سوق القطاع الخاص، ومن أجل ذلك تمتع التجار والحرفيون بحماية خاصة وامتيازات وحوافز مالية لتشجيعهم على الاستمرار، من هذه الامتيازات والتسهيلات توفير الدولة للتجار مناطق عامة لتسويق منتجاتهم.
وقد كانت بيئة السوق المربحة تشجع التجار على المجازفات التجارية، وقد كان ذلك عاملًا أساسيًا في النهضة الاقتصادية، والمساهمة الفعلية في التطور التدريجي نحو شكل متحرك من الرأسمالية التجارية التي تم تصديرها إلى جنوب غرب أوروبا.
3- بلوغ الرأسمالية التجارية الكمال في مصر الفاطمية:
أ- دافع الربح الخاص والسعي وراء الزيادة في قيمة الرأسمال، برز سعي الفاطميون وراء الربح الخاص من خلال:
– امتلاك العقار الخاص: فقد كانت الحكومة تعمل على الحفاظ على حقوق الملكية الفردية، حيث طبقت الحكومة نظام الملكية الخاصة من خلال صكوك ملكية رسمية، فقد كان لدى الفاطميين نظامًا قانونيًا احترم وعزز الحقوق الفردية لامتلاك عقار خاص.
– السعي وراء الربح الخاص: يذكر هيك أن أسواق مصر في ذلك الوقت كانت شديدة التنوع، فقد سعى التجار بجهود مستمرة لكسب رأسمال جديد ومن ثم تشغيله إنتاجيًا في مجازفات تجارية مربحة، وقد كان السبب في ذلك يعود إلى البيئة المواتية للمشاريع التجارية التي تمتعت بها مصر، كما أن الحكام الفاطميين كانت لهم مصلحة مالية مباشرة من تعزيز أرباح القطاع الخاص لأن هذه الأرباح الضخمة كانت ضرورية لتمويل السعي وراء الاستمرار في تطبيق سياسات النظام الملكي السائدة. بالإضافة إلى ذلك ومن أجل تعزيز المصالح التجارية للقطاع الخاص يشير هيك إلى الدور الذي لعبه الفقيه الإسماعيلي “النعمان” كمستشار قانوني للفاطميين في إيجاد أساليب لتسويغ السعي وراء الربح بطريقة تتناسب مع الحظر الإسلامي لعمليات الربا. ويذكر هيك أيضًا أن الأدب العقائدي الخاص بعلم الاقتصاد في تلك الفترة شدد على دافع الربح تشديدًا خاصًا حيث كتب في ذلك السرخسي والدمشقي والغزالي.
– البحث عن رأسمال نوعي: كانت وفرة رأس المال حافزًا كبيرًا يدفع الاقتصاد الكلي للفاطميين، ومن أجل الحفاظ على هذا الامتداد التجاري احتاج الفاطميون تمويل هذه التجارة بعملة ذات قيمة عالية، وفي هذا السياق يذكر هيك أن الأدلة تظهر أن الفاطميين نجحوا في أول 150 عامًا من حكمهم – باستثناء فترة قصيرة في أواسط حكم الخليفة الحاكم بأمر الله – في تأمين نقد مغطى بالذهب بشكل يتوافق مع أعلى المعايير المالية خلال القرون الوسطى. كما تؤكد الأدلة على أن تميز العملة الفاطمية كان يعود إلى مجموعة من العوامل: فقد تمتع الفاطميون، أولًا، لحوالي قرن بقدرتهم على الحصول على ذهب بالغ الصفاء من إفريقيا الوسطى، والعامل الثاني كان العناية الشديدة بعمليات صك النقود الفاطمية، إذ جعل الإشراف على صك النقود من أجل الحفاظ على سلامة العملة مهمة دينية بيد قاضي قضاة الدولة. كما أمر الصيارفة بسحب النقود الأقل قيمة من التداول. وقد كان هذا الاهتمام أحد العناصر التي حافظت على نشاط الاقتصاد الفاطمي في القرن الأول من حكمهم. كما كانت بداية انحطاط عملتهم متزامنة مع انهيارهم السياسي وزوال دولتهم فيما بعد.
ب- الآليات المشتركة الفعالة لاستثمار الرأسمال الخاص: يبين هيك في هذا الجزء أهم التسهيلات التجارية التي تمتع بها تجار ذلك العصر وساهمت في تشكيل القدرة على تحريك رأس المال الاستثماري وتحويله إلى مشاريع مثمرة، ومن هذه التسهيلات كانت البنى التحتية المشتركة، إذ جعلت التسليف ممكنًا لتمويل العمليات التجارية، وقد أخذ شكل البيع بالدين. كما لجأ التجار إلى تشكيل مختلف أنواع الشركات التي سمحت بها الشريعة الإسلامية ومنها عقود المضاربة، وقد اتبعت هذه الشركات الصيغة القانونية التي حددها الفقهاء المسلمون
ج- الأدوات “الائتمانية” للرأسمالية التجارية: يذكر هيك أن تجار مصر الفاطمية كانوا يلجؤون بكثرة إلى الأعمال المصرفية التجارية المشتركة وغيرها من الأدوات الائتمانية البارزة للتبادل النقدي، فعلى سبيل المثال كان هناك مجتمع مالي رسمي من الجهابذة والصيارفة يعمل في المراكز المدينية للدولة، واشتملت هذه المراكز على تشكيلة كبيرة من الأدوات الائتمانية، من بينها هذه الحوالة، والرقعة (وهي شكل من أشكال السند الإذني تستخدم تجاريًا مثلما تستخدم البطاقة الائتمانية اليوم).
فقد كان النشاطات التجارية للصيارفة لا تقتصر على الأعمال المصرفية التقليدية، بل قدموا مجموعة مهمة من الخدمات المصرفية التجارية مثل إدارة إصدار قروض مصرفية والقيام بعمليات بيع تبادلي وصرف نقدي للعملات والقيام بحوالات مالية بالنيابة عن الزبائن.
في نهاية الفصل يشير هيك إلى أن تجار جنوب أوروبا اندفعوا نحو مصر للاستفادة من إمكانيات سوقها وبالتالي ستتجه الدراسة نحو تحليل التفاعلات في الاقتصاديات بين الدولة الإسلامية وأوروبا.
الجزء الثالث
الإسلام والانتعاش المسيحي
الفصل الخامس
متطلبات التجارة في أوروبا
1- النهضة الاقتصادية الأوروبية في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي:
يرى هيك أن القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي وحتى أوائل القرن السادس الهجري قد شهد تغيرات عميقة وتدريجية في النظام الاقتصادي الذي قامت عليه حضارة أوروبا الغربية، فلم تتوسع تجارتها حول حوض البحر المتوسط فقط، بل امتدت إلى أبعد من ذلك بكثير، فيما ازدادت كميات السلع المتاجر بها وأنواعها ازديادًا ملحوظًا. وقد ساهم هذا التحول في تزايد المتطلبات التجارية في الشرق الأدني لا سيما في مصر، حيث لجأ المسلمون إلى أوروبا نظرًا لحاجتهم إلى موارد استراتيجية لكي يجمعوا المداخيل التي يحتاجونها لتجهيز آلاتهم الحربية والصناعية، وقد استخدموا في شراء ذلك الموارد المعدنية الثمينة التي حصلوا عليها من الفتوحات. فقد استفادت أوروبا كثيرًا من حاجة الشرق لموادها الخام، هذا بالإضافة إلى تدفق مجموعة واسعة من السلع الجديدة معتدلة السعر إليها، وفي هذا الإطار حفزت التجارة مع الدولة الإسلامية الاقتصاديات الأوروبية المحتضرة آنذاك بشكل كبير حيث ولد هذا النشاط انتعاش اقتصادي في أوربا، وساهم في إحداث تغيرات في حجم التجارة واتجاهاتها، فقد كانت دار الإسلام حتى القرن السادس الهجري هي الشريك التجاري الأكثر تطورًا ثم بدأت أوروبا مع زيادة النشاط الإقتصادي تستعيد توازنها التجاري.
2- هنري بيرين والجدال حول التجارة الأوروبية بين الشرق والغرب:
يقوم هيك في هذا الجزء بتفنيد فرضية المؤرخ البلجيكي هنري بيرين في كتابه “محمد وشارلمان” الذي حمَّل فيه العصور المظلمة في أوروبا جزءًا كبيرًا من مسؤولية ظهور الإسلام، حيث يرى بيرين أن الفتوحات الإسلامية أدت إلى تحويل اقتصاد أوروبا من الاقتصاد النقدي إلى الاقتصاد الإقطاعي الطبيعي، كما أدت إلى تغير شكل الحكومة في أوروبا وفي العلاقة بين الكنيسة والدولة.
ويذكر هيك في هذا الإطار أن الكثير من العلماء ناقشوا نظرية بيرين وشككوا في صحتها. وعلى الرغم من ذلك ينتقد هيك عدم قيام أي مؤرخ – من وجهة نظر أوروبية – بدراسة شاملة للتشوهات الخطيرة التي طالت الإدراك التقليدي لتاريخ الشرق الأدنى الاقتصادي بسبب هذه الفرضية.
علاوة على ذلك يفترض بيرين أن التجارة بين أوروبا ودار الإسلام توقفت، في حين تدل الأدلة القاطعة -كما يقدم هيك – أن الغرب كان يستورد الكثير من السلع وخاصة الفاخرة من دار الإسلام. ويبين هيك أن بيرين يسند افتراضه حول توقف التجارة إلى اتجاهات عداء إسلامي نظري مفترض، اعتبر أنها حثت المسلمين على حصار المتوسط وحظر نشاطاته التجارية عنها، وقد بنى بيرين هذا الاستنتاج على أساس تسع مواجهات بحرية تمت بين الشرق والغرب بين 642 م-715م، وهنا يطرح هيك السؤال التالي: هل من الممكن أن تكون هذه المواجهات هي التي مزقت تمامًا وحدة المتوسط الشرقي بكامله كما يقترح بيرين؟
يحاول هيك الإجابة عن هذا السؤال مستعينًا بمجموعة أوسع من مراجع القرون الوسطى ليصل إلى نتيجة مفادها ندرة الأسباب القابلة لإثبات صحة ما ذكره بيرين، هذا بالإضافة إلى أن بيرين لم ير أنه قد حصل توقف تجاري خلال الفترة بين 645 م- 715 م وهي الفترة التي كانت فيها الأعمال العدائية البحرية الإسلامية المزعومة في أوجها، إنما غاية الأمر أنه وجد التجارة في حالة سيئة – ولم تتوقف تمامًا – بسبب هذه المواجهات التي بدأت حين انتهت الفتوحات الإسلامية وبدأ الخطر البحري المسلم بالانحسار. ويستزيد هيك في هذه النقطة بالإشارة إلى أن هذه المواجهات المذكورة لم تتم أبدًا مع سفن تجارية، ولكن غالبيتها كانت تحصل مع الأساطيل الحربية البيزنطية. وهنا يطرح هيك السؤال مجددًا: هل يمكن أن تكون الأعمال العدائية الإسلامية البحرية المزعومة في البحر المتوسط خلال القرون الوسطى، هي السبب وراء تعطيل الأنماط التجارية الكلاسيكية لدرجة أنها أدت إلى غرق أوروبا المسيحية في مستنقع الإقطاعية؟، وهنا يؤكد هيك على أنه في ضوء الأدلة المتوفرة، فإن هذا الاحتمال مستبعد.
3- أدلة تظهر حالة التجارة المبكرة بين الشرق والغرب خلال القرون الوسطى:
يذكر هيك أن هناك أدلة دامغة تثبت أن تبادلًا تجاريًا نشطًا كان يحصل بين دار الإسلام وأوروبا، ويذكر هنا العديد من السلع التي كانت تصل أوروبا من دار الإسلام بين المعادن والأسلحة والأخشاب والأقمشة والتوابل والتحف الفنية وغير ذلك، وكانا يتبادلان أيضًا الوفود التجارية في عصر الدولة العباسية، وكان شارلمان والخليفة العباسي هارون الرشيد يتبادلان الهدايا الثمينة.
يورد هيك بعض المصادر التي تحوي أدلة تدعم فكرة غزارة التبادل التجاري بين دار الإسلام وأوروبا المسيحية، وأن مخزون النقود المعدنية المكتشف في مناطق مختلفة من أوروبا يثبت ذلك. هذا بالإضافة إلى أن أدلة العملة القديمة تثبت أن أوروبا قلدت أحيانًا النقود الإسلامية في نقشها كما في قياسها ووزنها نظرًا لعلو قدرها وقيمتها في المنطقة.
في هذا السياق يشير هيك إلى تأكيد المصادر على ضخامة التبادل التجاري بين دار الإسلام وأوروبا المسيحية خلال القرن الثاني والثالث الهجري، حيث كانت الحضارة الإسلامية متفوقة اقتصاديًا وتجاريًا على غرب أوروبا. وعلى الرغم من أن الغرب لم يمتلك في هذه المرحلة مجموعة واسعة من السلع ليصدرها إلى الشرق الإسلامي، إلا أن ماقدمه بالفعل هو الدعم اللوجستي الحربي الاستراتيجي: أى الرقيق والخشب والأسلحة الحديدية، وفي هذا السياق يشير المؤرخ الاقتصادي الأوروبي لوبيز وجود ميزان مدفوعات إيجابي لصالح أوروبا في التجارة بين العباسيين والأوروبيين.
4- الأبعاد البنيوية للتجارة الفاطمية- الأوروبية:
يشير هيك أنه بالتزامن مع هذه التجارة النشطة بين الشرق والغرب والتي اتسعت مع قيام الدولة الفاطمية وامتداد شبكتها التجارية عالميًا، كان هناك تزايدًا في نقل أفكار التجارة – أى الأيديولوجيات الاقتصادية -لاسيما من الجبهة الإسلامية، والتي ساهمت لاحقًا – ببلوغها الذروة خلال الحملات الصليبية – في الانتعاش التجاري الأوروبي المسيحي، وذلك من خلال مساعدة أوروبا للخروج من إقطاعية العصور المظلمة.
يذكر هيك أن التركيز الأساسي للامتداد التجاري للفاطميين كان نحو أوروبا الغربية ودول المدن الإيطالية التي قادت التجارة الغربية في شرق أفريقيا الشمالية ولعبت دور الوسيط للتجارة بين الشرق والغرب. وعلى هذا الأساس بنى الفاطميون والإيطاليون شراكة تجارية مثمرة، حيث وفر الإيطاليون الكثير من المواد الأولية التي كانت بمثابة دعم لوجيستي للفاطميين، فضلًا عن كونهم حافظوا على وجود تجاري بارز في مصر خلال القسم الأكبر من الحكم الفاطمي. وقد ثبت أن حتى الحملات الصليبية لم تعق كثيرًا مسار هذه العلاقة، حيث حافظ التجار الفاطميون بثبات على سياساتهم التجارية القديمة والحيادية خلال تلك الفترة.
5- تأثير الحملات الصليبية في التجارة الإيطالية – الإسلامية
أ- الصادرات الأوروبية إلى المشرق:
يتناول هيك الحملات الصليبية في بُعدها الاقتصادي متجاوزًا رمزيتها الدينية، مبينًا أهميتها كحدثًا اقتصاديًا باعتبارها نقطة تحول في تاريخ العلاقات التجارية بين الشرق المسلم والغرب المسيحي، حيث شكل وصول الصليبيين أول إشارة مهمة حول عودة الاتصال التجاري المباشر بين أوروبا الغربية والشرق الأدني من دون وسطاء يهود، وسوريين، وإيطاليين، وإغريقيين. فقد كان التجار المسافرين إلى دول المدن الإيطالية القديمة في المقدمة الفعلية للحركة الصليبية، وقد كانت استراتيجيتهم الاقتصادية هدفها أن يربحوا امتيازات رسمية وغير رسمية في أنحاء الشرق الأدنى كلها، فيحققون بذلك شبه احتكار في تجارة العبور لمنتجاتهم، وبالتالي وضعوا تسهيلاتهم البحرية تحت تصرف الصليبيين فتلقوا بالمقابل امتيازات تجارية قيمة وامتيازات إرساء السفن لإنشاء أمكنة تجارة حرة اقتصادية خاصة في مرافئ فلسطين وسوريا.
وقد أدت المكاسب التي حصلت عليها دول المدن الإيطالية كوسيط تجاري في الحملات الصليبية إلى تقدم مصالحها الاقتصادية تدريجيًا على المصالح الدينية التي قامت عليها الحركة، وقد ساهم هذا في انتعاش أوروبا وانتشالها من العصور المظلمة، ليس فيما يخص توسع التجارة الأوروبية الغربية فقط، بل أيضًا فيما يخص التطوير المستمر للتقنيات التجارية الأوروبية.
ويذكر هيك أيضًا أن التجارة الإيطالية التي دعمت الحملات الصليبية دعمت أيضًا الشرق المسلم، ويستدعي في هذا السياق رسالة كتبها صلاح الدين الأيوبي إلى الخليفة العباسي في بغداد متعجبًا من أن الإيطاليين كانوا مستعدين لتقديم مختلف التجهيزات الحربية الأساسية للمسلمين، مع إدراكهم التام بأن مثل هذه النشاطات التجارية العالمية تدعم الجهود الحربية الإسلامية وتضر بالقضية المسيحية، ولكنه السعي الدؤوب وراء الربح عبر غزو أسواق الشرق الأدنى.
ب- الصادرات المشرقية إلى أوروبا
يتحدث هيك هنا عن الاستفادة الأوروبية الكبيرة من تجارة الحملات الصليبية، فيقول: “بينما كانت دول المدن الإيطالية قد جمعوا ثروات هائلة بفضل نقل الفرسان المسيحيين ومعداتهم الحربية إلى الأرض المقدسة، أتى كذلك تجار من مرسيليا وغيرها من مدن جنوب فرنسا وكتالونيا إلى المشرق ليستفيدوا من هذا الازدهار البارز للتجارة، ولينقلوا السلع الغربية إلى الشرق والسلع الشرقية إلى الغرب في تجارة معاكسة”. وفي هذا السياق استفاد الزبائن الأوروبيون أيضًا من تنوع السلع الاستهلاكية التي أحضرت إليهم عبر السفن الإيطالية العائدة إلى موطنها، وبالتالي باتت أسواق أوروبا تعتمد بشكل كبير على مثل هذه الشحنات الآتية من الشرق.
ج- نمو التجارة الغربية داخل المشرق
يبين هيك أن الاستثمارات الإيطالية في المشاريع الصناعية المشرقية ساهمت في ظهور سلسلة من السلع القابلة للتصدير والمصنعة خصيصًا وفق متطلبات المستهلك الأوروبي، وقد نجح الإيطاليون عبر إنشائهم مصانع محلية تشغلها يد عاملة محلية ايضًا في إنتاج شكل من الرأسمالية الاستعمارية في مناطق تخضع لسلطتهم القانونية ما أدى إلى ظهور تضافر اقتصادي يغذيه كل من الاستثمار الغربي واليد العاملة الشرقية.
د- تطور الأداة التجارية الغربية في المشرق
يشير هيك إلى أن الحملات الصليبية ساهمت في انهيار النظام الاجتماعي والاقتصادي في أوروبا، كما شجعت على تبادل الممتلكات وتحويل الثروة إلى رأس مال سائل وزيادة التداول النقدي، بالإضافة إلى تطوير إدارة مالية مركزية من خلال الرسوم الضرائبية الضرورية لدعم البناء الدفاعي للعمليات العسكرية، فقد أدرك التجار الأوروبيون العاملون في المشرق الأهمية التجارية للاقتصاد النقدي الذي وجدوه هناك، وبمجرد تأسيس الدول الصليبية حتى بدأ ملك القدس وأمير أنطاقية وكونت طرابلس بتزوير العملة الإقليمية المسيطرة ألا وهي الدينار الذهبي الفاطمي لتسهيل اندماج تجارهم في أسواق الشرق الأدنى، وعلى الرغم من أن الحملات الصليبية ستطور لاحقًا أشكالًا مختلفة من العملات لكنهم كانوا في حاجة ماسة للاستفادة من السمعة الحسنة للعملة الإسلامية لفترة طويلة.
وفي هذا السياق تشير الوثائق أن النقود التي صُكت في الشرق لعبت دورًا كبيرًا في التدفقات التجارية بين أوروبا والمشرق، وقد أدى هذا التداول الواسع للعملة الإسلامية في أوروبا إلى تسريع عودة أوروبا الغربية التدريجي إلى الاقتصاد النقدي. ولكن بالطبع لحق الضرر بهيبة عملة المسلمين بسبب التزوير الصليبي لها، وهذا الضعف الذي أصاب العملة أحدث فراغًا سرعان ما تحركت “دول المدن” الإيطالية لملئه.
يذكر هيك أيضًا أن التسليف كان مؤسسة رأسمالية أخرى دعمتها الحملات الصليبية، فقد تطلبت الحاجة إلى ممارسة التجارة بين أوروبا والشرق الأدنى تسهيلات مالية وائتمانية أكثر فعالية، وقد كانت هذه المتطلبات وغيرها جزءًا لا يتجزأ من العملية التجارية التطورية التي ستؤدي لاحقًا إلى ولادة الرأسمالية التجارية بشكل كامل في دول المدن الإيطالية من القرن الخامس الهجري وحتى السابع الهجري.
ه- التأثيرات الاقتصادية في أوروبا المسيحية
بدأ الصليبيون في استخدام حلقة متصاعدة من استثمار الرأسمال والربح وإعادة استثمار الرأسمال التي شكلت كلها حافزًا قويًا ساهم في إنعاش اقتصاد أوروبا الغربية خلال القرون الوسطى وذلك بفضل الطلب التجاري الناشط في الشرق الإسلامي آنذاك.
الفصل السادس
تحول أوروبا خلال القرون الوسطى: انتصار الأفكار
1- تحول التجارة الغربية بواسطة الممارسة التجارية الشرقية
بناءً على ما تم ذكره في الفصل السابق من بيان حركة النشاط التجاري بين الشرق والغرب، يذكر هيك مجموعة من النقاط الاستنتاجية أجمع عليها الباحثون في تاريخ أوروبا الاقتصادي حول مسار التاريخ الاقتصادي الغربي خلال القرون الوسطى وأبرز هذه النقاط:
– ثمة نهضة تجارية واسعة نشأت ثم طوقت أوروبا الغربية من القرن الخامس حتى السابع الهجري.
– ظهرت هذه النهضة للمرة الأولى في دول المدن الإيطالية، التي كان تجارها على اتصال مباشر مع الشرق المسلم.
– رافق هذه النهضة ابتداع بعض الأساليب التجارية التي أجمع المؤرخون على أنها تطورت لاحقًا لتصبح المبادئ والممارسات التجارية الخاصة بالرأسمالية الغربية الحديثة. وقد ظهرت هذه المبادئ والممارسات التجارية المبتكرة للمرة الأولى في دول المدن الإيطالية، حيث كان هدفها تحقيق الحد الأقصى من الربح عبر الأنشطة التجارية. وهنا تحولت إيطاليا إلى مهد الرأسمالية الغربية الحديثة.
2- نقل المصطلحات التجارية
يبدأ هيك تحقيق الغاية المذكورة آنفًا ببيان عملية نقل المصطلحات التجارية والتقنية من الشرق إلى الغرب خلال الممارسات التجارية في تلك الفترة، ومن ذلك أسماء بعض العلوم كالكيمياء والجبر وغير ذلك من المصطلحات والأسماء ذات الأصل العربي وكذلك أسماء الكثير من السلع وبعض المصطلحات البحرية، بالإضافة إلى عدد كبير من التعابير التي تدل على أعمال تجارية محددة من بينهما مصطلح “منكوس” وهو مشتق من اسم المفعول “منقوش” الدال على ظهور النقود المعدنية الإسلامية واستخدامها في أوروبا، وغير ذلك الكثير ذكره هيك بالتفصيل.
هذا بالإضافة إلى الاستبدال التدريجي للأعداد الرومانية بالأعداد العربية وانتقال علم الجبر وإدخال مفهوم الصفر إلى الغرب.
3- نقل الأيديولوجيات التجارية للسوق الحرة
يبين هيك أن مفهوم دافع الربح الخاص كان جوهريًا في الأيديولوجية الاقتصادية الإسلامية، وقد أسهم بقوته في الحث على التوسع التجاري الإسلامي، وكان من بين مناصري هذا الدافع محمد بن الحسن الشيباني في كتابه “الاكتساب في الرزق المستطاب”، حيث كان يشدد على أهمية المكاسب الخاصة والسعي وراء التجارة والحرف، وأن هذا يرضي الله أكثر من مكاسب القطاع العام. وفي هذا السياق أيضًا يذكر هيك مساهمات الدمشقي وابن خلدون في المقدمة حول السعي وراء الرزق المنتج والتنافسية في التجارة.
وهنا يوضح هيك أن التجار الإيطاليين أعجبوا بهذه المفاهيم التجارية الكامنة في السعي وراء الربح الخاص ذلك بعد قرون من الانغماس عقائديًا في فضائل الفقر.
ينتقل هيك إلى بيان الممارسة الفعلية للتجارة الرأسمالية وذلك ببيان حجم الاستثمارات التي قام بها التجار خلال الحملات الصليبية في الشرق، فعلى سبيل المثال تظهر معلومات مالية إجمالية من محفوظات جنوا الموثقة أن مجموع الاستثمارات الجنوية الساعية إلى تحقيق الربح في المشرق وحده تخطى 50000 ليرة جنوية، وهو مبلغ يشكل أربعين إلى سبعين بالمائة من كامل الرأسمال المسجل في الأوراق التجارية التي تم دراستها، هذا بالإضافة إلى المشاركة في أنشطة استثمارية مختلفة منها عقود المضاربة وبمبالغ ضخمة.
بهذه الطريقة تركت اقتصاديات الشرق الأدنى الإسلامي الناشطة تأثيرًا عظيمًا على اعتبار دافع الربح المحفز الأساسي للتجارة في إيطاليا من القرن الخامس الهجري وحتى السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي.
4- نقل النماذج النقدية الجديدة
يتحدث هيك عن قيمة العملة الإسلامية في القرون الوسطى، وأن قيمتها العالية جعلت عددًا من الحكام الأوروبيين يقلدونها في الوزن والشكل لتسهيل حسابات التبادل النقدي بين المناطق ولدعم هيبة إصداراتهم النقدية الخاصة. واستمرت عملية تقليد وابتكار النقود حتى ظهرت نتيجة جانبية للثورة التجارية الإيطالية –كما يذكر هيك – وهي الزيادة الهائلة في الطلب على العملة من أجل استيعاب تجارتها المزدهرة مع الشرق الأدنى، فقد أدى تمويل التدفقات الضخمة للسلع من وإلى الشرق إلى نشوء متطلبات لإصدار عملة جديدة، وبالفعل أصدرت كلٌ من صقلية والبندقية وجنوا وبيزا وفلورنسا نقودًا محلية باسمها، فمهدت بذلك الطريق لعودة الاقتصاد النقدي في أوروبا بعد الفترة الانتقالية الطويلة للقرون الإقطاعية.
وقد توفرت هذه النقود بسبب الكميات الضخمة من الذهب المنهمرة على أوروبا في مقابل مبيعاتها في المناطق الإسلامية وبدأت تدريجيًا تحقق مكانة دولية جيدة.
ولكن في المقابل ترك التزوير الصليبي تأثيرات مدمرة في النقود الذهبية الفاطمية مما أدى إلى لجوئها إلى تبني عملة قائمة على الفضة. وقد ولد تقليد الصليبيين للدينار الفاطمي فراغًا متزايدًا في العملة ما مهد الطريق أمام إدخال دول المدن الإيطالية العملات الجديدة إلى أوروبا. في هذا السياق يستدعي هيك ما قاله لوبيز: “عن قصد أو غير قصد أمن الشرق للغرب العملة الأكثر قيمة التي يحتاجها الأخير في عملياته التجارية الأوسع طوال العصر الفضي الطويل لأوروبا الكاثوليكية”.
5- نقل الأشكال الجديدة من الروابط التجارية
يذكر هيك أن الحكام الأوروبيين لم يقلدوا قطع المسلمين النقدية فقط، بل تبنوا كذلك العديد من أشكال الروابط المشتركة الخاصة بهم، فقد استدعت تحديات مشتركة في تبني حلول مماثلة، ومن بين هذه الحلول كانت عقود المضاربة المشتركة، وقد اتسع استخدامها بشكل كبير، وقد شكل هذا التطور قفزة نوعية في التاريخ التجاري الأوروبي. وقد ذكر روبير لاتوش المحلل لتاريخ أوروبا الاقتصادي أن المضاربة المشتركة كانت العملية الرأسمالية الأولى المذكورة في التاريخ القروسطي.
ويدل هذا الانتشار الواسع لعقود المضاربة المشتركة – كما يبين هيك – إلى أن التجارة بين أوروبا والشرق الأدنى كانت تنمو بمعدل أسرع من إمكانيات دور التجارة الإيطالية الفردية التي لم تعد قادرة على تكييف هذا النمو باستخدام مواردها المالية الخاصة المولدة داخليًا، ثانيًا وبسبب أن شروط اتفاقات المضاربة لم تفرض حد أدنى من الاستثمار على أحد، فقد سمحت هذه العقود ليس فقط بالمجازفات التجارية والاستثمارات الضخمة بل فتحت الباب لعدد متزايد من صغار المستثمرين أن يشاركوا فيما بدا شكل فريد من الرأسمالية الشعبية التجارية في كل أنحاء إيطاليا خلال القرون الوسطى.
6- نقل أدوات التجارة الجديدة
يقول هيك أن تزايد النشاط التجاري الأوروبي ولد الحاجة لأدوات تسليف حديثة بهدف توسيع مجال العمليات التجارية، وجعل الرأسمال في تناول من يملكون فرص سوق واعدة لكن ينقصهم المبالغ النقدية الضخمة الجاهزة، ومن أجل ذلك بدأت شبكة العمل المصرفي وأدواتها التسليفية والائتمانية بالظهور في أوروبا خلال أواسط القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، وقد عجَل الحجم المتصاعد للتجارة بين أوروبا والمسلمين من ذلك. وفي هذا السياق يذكر هيك ما قاله ألبيرت لييبر في دراسته حول نقل التقنيات التجارية القروسطية إلى الغرب بأن: “تجار إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية حصلوا على أول درس لهم في استخدام الأساليب التجارية المعقدة من نظرائهم في الجانب الآخر من المتوسط وكان معظمهم من المسلمين”.
ويشير هيك أنه على الرغم من أن التاريخ الغربي لنظام المصارف ذات الودائع التي تحمل الفائدة يعود في الأصل إلى زمن الإغريق والرومان إلا أنه في تلك الفترة ظهر مجددًا في أوروبا الغربية كممارسة تجارية قروسطية بعد فجوة فرضتها الكنيسة لعدة قرون.
وقد توسع مدى الخدمات المالية المقدمة بشكل كبير في تلك الفترة، إذ مارس الصيارفة مهامًا جديدة مثل إصدار شيكات موثقة وزيادة ميزات التسليف والمساهمة في قروض تجارية خارجية، وبدأت تحل المعاملات الورقية محل النقد في عمليات التحويل بين المصارف.
وقد سهلت هذه الخدمات المالية كلها التجارة المحلية والدولية بشكل كبير وهي خدمات كان العديد منها استعارات مباشرة من الشرق الأدنى.
7- إعادة تقييم الثورة التجارية الإسلامية الإيطالية
في نهاية الفصل يؤكد هيك بناءً على التحليلات السابقة على دور السوق المتحركة للتجارة بين المسلمين والإيطاليين حيث شكلت بوتقة للتقنيات التجارية الإسلامية من الشرق إلى الغرب. فقد استوعب التجار الإيطاليون الموجودون حينها في الشرق الأدني الأساليب والممارسات التجارية الأكثر تقدمًا في المنطقة ونقلوا الكثير منها إلى الغرب مما أحدث نهضة رأسمالية في الغرب مستمرة إلى يومنا هذا.
عرض:
أ. يارا عبد الجواد*
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحثة في العلوم السياسية.