الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون

الجمع بين القراءتين

قراءة الوحي وقراءة الكون*

أ. د. طه جابر العلواني**

 الأمر بالقراءتين:

لقد أمر الله تعالى نبيه – صلى الله عليه وآله وسلم – في مفتتح نزول القرآن وعند بدء الوحي بقراءتين، فقال تعالى: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلم،ْ علمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ١ – ٥]. وبما أن القرآن ليس فيا تكرار ولا ترادف، ولا تحتاج آياته الكريمة إلى استعمال المؤكدات، فإن كل كلمة من كلماته – وإن بدت مرادفة أو مماثلة لأختها – فإنها تشتمل على معنى آخر إن لم تدل عليه بلفظها وبالاستعمال القرآني لها فإنها تدل عليه في سياقها وسباقها[1] وموقعها[2]. وذلك من دلائل إعجازه الذي تعالى به على كلام المخلوقين. ولذلك فإن صيغة الأمر بالقراءة الذي جاء مرتين في هذه الآيات الخمس لا تعنى التوكيد أو الترادف أو التكرار كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين[3]. بل تدل على أمرين بقراءتين، لكل منهما معناها المراد بها، ولكل منهما خصائصها، ومجالها ومتعلقها ومناهجها وكيفياتها وميادينها. يعضد هذا ويعززه أن الأمر بالقراءة في الآية الأولى اقترن ﴿باسم ربك﴾.

 وكانت صلة الموصول – الذي – هي الخلق في: ﴿… الذي خلق* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق﴾ فهي أمر بتحصيل فعل القراءة وممارسته مع الاستعانة بالله – تعالى– فهو ربك الذي يعلم أَنَّكَ ﴿مَا كُنتَ تَتْلُو مِن قبله من كِتَابِ وَلَا تَخُطُهُ بِيَمِينِكَ﴾ [العنكبوت: ٤٨]، ولذلك ﴿سنقرِئُكَ فلا تنسى﴾ [الأعلى: ٦]. خلافًا لأي قارئ آخر معرض للنسيان والخطأ. فاقرأ باسمه هو، واستعذ به من الشيطان الرجيم. (والذي خلقك من علق)، وخلق النوع الإنساني – كله- منه قادر على أن يخلق فيك فعل القراءة، ولو لم تكن قارئًا من قبل، كما علم آدم الأسماء كلها، وكما علم أباك إبراهيم وسواه من الأنبياء والرسل. فاقرأ باسمه وعلى اسمه ومعه، وفي ذلك تنبيه من بداية الأمر على انفصاله – صلى الله عليه وآله وسلم – عن قومه الذين كانوا يبدأون أفعالهم مستعينين باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وكلها أوثان يصنعونها بأنفسهم، ولا تصنعهم، ويخلقونها ولا تخلقهم.

كما أن في قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ تنبيهًا إلى وجوب قراءة الخلق قراءة تبدأ بقراءة الذات الإنسانية من بداية الخلق إلى نهاية الحياة بأطوارها كلها. فمنهج القراءة في الخلق ينطلق من قراءة النفس باتجاه الكون والآفاق. فتلك هي القراءة السليمة المنهجية. والبدء بتوحيد الربوبية، لا بتوحيد الألوهية، فيه تنبيه إلى خطوة منهجية أخرى، هي الانطلاق من المحسوس باتجاه المجرد، لأن الإنسان أقدر على ملاحظة المحسوس منه على ملاحظة المجرد وإدراكه. فالخلق، وبدائع صنعه، ونظمه وسننه وقوانينه هي المحسوس المشاهد أو المدرك بأي وسيلة من وسائل الإدراك. والمجرد هو «التوحيد» بأنواعه، فهو ما يتوصل بصحيح النظر في ذلك المحسوس إليه. فإدراك المحسوس ليس نهاية المطاف، بل هو المقدمة لإدراك المجرد. وهنا يمكن أن يدرك الإنسان «فعل الغيب» في الواقع: فيَصِل إلى الربط الضروري بين الغيب بكل مكوناته، والإنسان والكون.

القراءة الأولى

الأمر الأول بالقراءة – إذن- هو أمر بقراءة[4] باسم الله أو على اسمه –تعالى- ومعه، لهذا الوحي النازل الذي سيتتابع نزوله حتى يتم قرآنا كريمًا مجيدًا مكنونًا مفصَّل الآيات، محكمًا مترابطًا متماسكًا متناسبًا متشابهًا تتلوه يا محمد على الناس، وتبينه لهم ليتعلموا منه الحكمة والهداية والرشد فتَزْكو نفوسهم، وتطْهُر حياتهم، ويهتدوا به في أداء مهام الاستخلاف، والقيام بواجب الائتمان، وحق العمران. وحين رد رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم – بأنه ليس بقارئ[5] لا شك في أنه فهم المطلوب، وهو قراءة ما سيُملى عليه وهو لا يعرف القراءة والكتابة، وليس له من العلم ما يقرؤه، ولذلك فإنه –تعالى- قد ربط القراءة باسم ربك، فكأنه قال له: إنَّك لن تكون وحدك في أداء هذا الفعل الذي لا تعرفه، بل سيكون معك ربك الذي أعطاك الكثير وهو قادر على أن يعلمك كيفية أداء ما أمرك به. ويزيد على ذلك: كما علم آدم الأسماء كلها، وكما علم إبراهيم وموسى وعيسى وسواهم من النبيين والرسل – عليهم السلام – من قبلك، فاقرأ باسمه واستعن به في القراءة يعنك ويصحبك ويكن معك فيها، وفى بيانها وتعليمها وإقامة الحجة بها على الناس.

وذكر الرب – جل شأنه – الإنسان، وذكر خلق الإنسان بالذات فيه طمأنة لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – بأن منحه القدرة على القراءة ليس بالأمر الصعب على ربه الذي خلق كل شيء، وخلق الإنسان من علق، بل هو عليه هين كما أن في ذكر الخلق تهيئة لذهنه الرشيد ونفسه الشريفة – صلى الله عليه وآله وسلم – لبيان النوع الثاني من القراءة.

القراءة الثانية

ألا وهي قراءة الكون والنظر في الخلق، ومعرفة ما دونته البشرية من فهم له، وتجارب فيه بأقلامها؛ فهذه القراءة هي التي صاغ القرآن المجيد بحسبها (دليل الخلق ودليل الإبداع، والتكليف بالنظر العقلي في الوجود، والنظر في آثار الأمم السابقة، ومعرفة ما حدث لها). فبذلك تكون القراءة المأمور بها قراءتين: قراءة في الكون المخلوق، وكل ما يتعلق به من عالم الخلق والتشيؤ، بما في ذلك تراث الأمم الذي دونته وآثارها. فبالقراءتين تدرك الفروق بين الأمم التي استفادت بالوحي واتبعته، واستنارت به، وبين الأمم التي تجاهلته، وتعاملت مع الطبيعة أو الكون – وحده – دون استنارة بهداية الوحي، أو أهملت الكون والتجارب البشرية والتاريخ ودروسه بحجة الاكتفاء بالوحي والاستغراق فيه. فمن أراد أن يقرأ الوحي بدقة وتدبر فإنه لا غنى له عن قراءة الكون وما فيه بالنظر في خبرات الأمم السابقة وتجاربها، ومعرفة الحضارات الغابرة وكيف سادت ثم بادت أو اندثرت. فلقد اعتنى القرآن به عناية فائقة، ولفت الأنظار إلى ذلك في سور كثيرة، وآيات كثيرة، لما في ذلك من عِبَر ودروس وعظات تجعل السالف قادرًا على إفادة الخالف مهما طال الأمد فيما بينهما. وتجعل الخالف يرى نتائج أفعال من سبقوه فيدرك أن أفعاله – أيضًا – سيكون لها من الآثار مثل ما لأفعال من سبقوه إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. وفى ذلك تكريس لمبدأ «المسئولية الفردية، والأثر الجماعي أو المجتمعي» فيتعلم الإنسان بذلك كيفية الانضباط في أفعاله وتصرفاته، ويتهيأ عقله ونفسه لقبول «مبدأ الجزاء والعقاب والثواب» ويتعلم النظر فيما يرث عن الآباء نظر الفاحص الناقد المعتبِر، فيتخلص من هيمنة مبدأ «الآبائية» وتقليدها ومتابعتها على الحق وعلى الباطل، ويدرك كذلك أن للأمم التي خلت ما كسبت، ولنا ما نكسب ولا يغني أحد عن أحد من الله شيئًا.

قراءة الكتابين

فهما -إذن- كتابان تجب قراءتهما -معًا- للخروج من إسار الأمية بكل أشكالها ومعانيها: كتاب منزل متلو معجز، وهو القرآن، وكتاب مخلوق مفتوح، وهو هذا الخلق والكون والتجارب البشرية فيه، ومنه التعامل مع الإنسان نفسه، فهو جزء من الخلق وابن شرعي للطبيعة: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُم ومنها نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخرى﴾ [طه: ٥٥].

القراءة إنسانية

وهذه القراءة تكون ابتداءً من الإنسان، فهو الذي لابد له من قراءتهما –معًا- لتوجد لديه المعرفة العمرانية الكاملة، التي تمكن الإنسان من الوفاء بالعهد، والقيام بمهام الاستخلاف، وأداء حق الأمانة، والقيام بمقتضيات العمران، والنجاح في اختبار البلاء. وهي معرفة لا تقوم على التلقي والتلقين وحدهما، بل على الأخذ عن الغير – أيضًا – من سابقين ولاحقين بالمراجعة والمطالعة وقراءة الكتب وكتابتها وتناقل الخبرات والمعارف بين البشر وعدم الزهد في المعرفة من أي وعاء خرجت والتعامل المنهجي معها.

وحدة البشرية: وفي ذلك تنبيه على وحدة البشرية وضرورة استفادة اللاحق بميزات السابق من المعرفة والخبرات والتجارب، والتواصل معها، واستعمال القلم – الذي علم الله به، وجعله وسيلة للمعرفة وتبادلها وإنمائها وتناقلها، ثم ما يمن الله -تعالى- به من معارف تنقدح بها العقول من مستنبطات ومخترعات وغير ذلك مما يندرج تحت قول الله تعالى: ﴿علَّم الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ٥].

فهناك -إذن- مصدران للمعرفة الإنسانية -لن نمل التأكيد على ترابطهما- يتضافران في توصيل الإنسان إلى معارف الشهود الحضاري، والقيام بمهام العمران والاستخلاف في هذا الكون، ولابد للإنسان من الجمع بينهما، وعدم الغفلة عن أي منهما؛ فيفهم القرآن العظيم ومدلولاته بالخلق وبالوجود والسنن والقوانين الضابطة لحركته وحركة ما فيه، ويفهم الكون ويهتدى في أداء مهام الخلافة فيه والعمران، والقيام بمقتضيات الأمانة بالقرآن المجيد ونور هدايته. ولابد من قراءة المصدرين -معًا-، وتنفيذ الأمر بالقراءتين سويًا: قراءة الوحي النازل المتمثل في الكتاب الكريم الذي حدد غاية الحق من الخلق وبين تلك السنن والقوانين الضابطة لحركة الوجود. إضافة إلى ما اشتمل عليه من الشرعة والمنهاج والحقائق الأساسية التي تحتاج إليها البشرية، وقراءة في الكون وآفاقه والنفس البشرية وما يصلحها أو يفسدها، والفطرة، وما ينميها، وما يطمس عليها.

أخطاء القراءات المنفردة وسلبياتها

إذا تبين هذا يتضح أن القراءتين في الوحي وفي الكون فريضتان، لأنهما أمران إلهيان فيهما كل ما في الأمر الملزِم من شروط وصفات، والجمع بينهما ضروري، إذ بدونه يقع الخلل.

إهمال القراءة الأولى

فمن تجاوز القراءة الأولى في الوحي النازل إلى النبيين، واستغرق استغراقًا كليًا في القراءة الثانية التي تمثل علم الكون أو معارف الطبيعة، منقطعة عن الله -تعالى- فَقَد العلاقة بالله، وتجاهل الغيب، وانطلق بفلسفة إنسانية مستقلة وضعية منبتة عن الله، عوراء قاصرة في مصادرها، تحاول أن توحد بين الإنسان والطبيعة بإطلاق. وتَعُدُ الخالق والغيب كله مجرد ما ورائيات أو ميتافيزيقا يمكن تجاهلها أو تجاوزها. وإذا كانت -هناك- قوة غيبية قد مارست خلقًا أو إيجادًا، فقد تكون مارسته بقوة الدفعة الأولى، ثم تناسته أو نسيته ليستمر الكون بعد ذلك فاعلًا ومنفعلًا بشكل آلي كما ذهب إلى ذلك أرسطو[6] في القديم، ونيوتن[7] وغيره في الحديث. وحين يحلو لبعض هؤلاء المتفلسفين أن يتذكروا البارئ – جل شأنه – فإنهم قد يتذكرونه بشكل حلولي يزعم أصحابه أن الله – تعالى – قد حل في قوى الطبيعة ذاتها، وذاب فيها ليتحول إلى جزء حال فيها لينتهوا بعد ذلك إلى «المادية الجدلية» -التي أنكرت الخالق تمامًا، وطرحت بدائل له من اتجاهات النمو عبر خصائص التطور المادي المعقد ليشعر الإنسان باندماجه الكامل بالطبيعة بحسبانها كائنًا طبيعيًا، وهنا يبدأ الإنسان بالشعور بالغنى أو الاستغناء عن خالقه – جل شأنه -، لأنه لم يعُد يرى غير الطبيعة أمامه فهي كل شيء، وهي وراء كل شيء، وهو في ظاهر الأمر قادر على قهرها بالعلم: فلا يراها وهي مُسخَّرة مقهورة بسنن الله تعالى، بل يراها كونا مستقلًا أي امتدادًا غيبيًا، وآنذاك لا يشعر بأن الله – تعالى – قد سخرها له، وأنه الخالق له ولها، بل يرى الإنسان أنه الفاعل المبدع، المتعدد القدرات، المسيطر على الطبيعة المفجر لكوامن ما فيها: وفي ذلك انحراف في الرؤية والتصور خطير. فالكون مهيأ مسخر للإنسان، والإنسان مزود بالقدرات التمكينية الذهنية – والعقلية والعلمية التي تمكنه من تسخير الكون، ليقوم بأمانة الاستخلاف، وحين يغفل الإنسان أو يعشو عن ذكر الرحمن، ولا يرى القدرة الإلهية في ذلك كله ظاهرة بهداية الوحي يشده الشعور بالاستغناء، والإحساس بالقدرة والإبداع إلى أن يجعل من علاقته بالكون علاقة تسلّط وقهر وصراع واستعلاء، لا استخلاف. ويفقد بوصلة الاهتداء، وتفقد عناصر الطبيعة علاقتها الودية بالإنسان، ويفقد الإنسان بدوره شعوره بأنه المخلوق المستخلف المؤتمن على الكون كله، وأن كل هذه الأشياء المخلوقة مسخرة لهذا المؤتمن والمستخلف، وكلاهما في المخلوقية والعبودية لله -تعالى- سواء، ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: ٩٦]. فإذا فقد هذا التصور فقد يتخذ الوجود –في نظره- شكل القوى المتصارعة المتنابذة، ويتخذ الإنسان الغافل –من نفسه وهواه- شكل المتألِّه المسيطر بالعلم على كل شيء، فيمجد ذاته ويتخذ إلهه هواه، ويتوهم أن له أن يستمد قـيـمـه من ذاته ومن الـطـبـيـعـة. والدين والإيمان -نفسه- قد يتحول في إطار هذه القراءة المنفردة العوراء إلى شيء يوظفه مَن شاء ساعة يشاء لتلبية رغبة، أو لأداء خدمة. وهنا يحق عليه القول: ﴿كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: ٦، ٧]، فيقع في الاستبداد والطغيان على أخيه الإنسان، وتحدث كوارث البيئة، ويظهر التلوث والفساد في البر والبحر والجو بما كسبت أيدي الناس، ويختل التوازن وتظهر أمراض الانحراف والشذوذ في المعمورة، فقارات يعمها الجوع والخراب وأخرى تعمها الأمراض بكل أشكالها، والجرائم بكل أنواعها، وتسود المعيشة الضنكة: ﴿ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ معيشَةً ضَنكًا ونحشره يوم الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: ١٢٤].

وقد يُقنع الغافلون عن ذكر الرحمن أنفسهم بأن ما يحدث ضريبة طبيعية لازمة لا مناص للراغبين في التمتع بالمعطيات الحضارية من احتمالها ودفع قيمتها الفادحة. لكن ذلك خداع للنفس، وزخرف من القول، فالعمران الرباني تحكمه قيم الحق والخير والجمال معًا، فإن وقعت بعض الأعراض الجانبية أمكن احتواؤها وتلافي آثارها بتوفيق الله وهدايته؛ لأن العمران المهتدي لا ينفك عن المرجعية الإلهية للكون.

إهمال القراءة الثانية

أما إهمال القراءة الثانية في الكون والطبيعة المسخرة، أي إهمال قراءة الوجود والكون والاقتصار على قراءة الوحي وحده منقطعًا منبتًا عن الوجود، فإنه يؤدى إلى نفور من الدنيا، واستقذار لها ولما فيها، ويشل طاقات الإنسان العمرانية والحضارية، ويعطله عن أداء مهام الخلافة والأمانة والعمران، ويحول بينه وبين التمتع بنعمة التسخير، ويعطل فكره، وينقص من قيمة فعله، بل قد يلغى إدراكه لفعله فلا يرى الإنسان نفسه فاعلًا في شيء، ولا يرى لوجوده في الحياة معنى عمرانيًا، وكل هذه الأفكار منافية تمامًا لمنهج القرآن العظيم .

كما أن تجاوز القراءة الثانية في الكون وإهمالها، أو عدم جمعها مع الأولى يؤدى إلى ظهور العجز الإنساني الحضاري، وتعطل طاقات الإنسان، وإلى خلط عجيب بين قضايا عالم الغيب وعالم الشهادة كما تقدم.

وقد يتوهم المقتصرون على القراءة الأولى -قراءة الوحي منفردًا- أن تنزيه البارئ -جل شأنه- لا يتم إلا إذا أُلغيت قيمة الفعل الإنساني ونُفيت إرادة الإنسان واختياره، واستُلِب استلابًا لاهوتيًا كهنوتيًا من دوره، واقتنع بأنه مسير في كل شيء. وبذلك ينتهي دوره الاستخلافي العمراني، وتستحيل قدراته إلى عجز مطلق.

والناظر في مقالات الإسلاميين في الماضي[8]، وكتب الفرق الإسلامية يجد في مقالاتهم العجب العجاب في قضايا الخلط بين الفعل الإنساني والفعل الإلهي والإرادة الإنسانية وقضايا الاختيار والعلل والأسباب وسواها، ذلك الخلط الذي أدى إلى كثير من الغبش والاضطراب في النظام المعرفي الإسلامي.

إذن لا بد من الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي، وقراءة الوجود، وبناء العقل الإنساني بهما -معًا- لئلا يقع الإنسان في أي من ذينك الطرفين الذميمين.

منهجية القرآن المعرفية

من هنا كان ما سميناه بـ منهجية القرآن المعرفية دعامة أساسية[9] للجمع بين القراءتين، وضرورة معرفية وحضارية لا على المستوى الإسلامي وحده، بل على المستوى العالمي -كله- للخروج من المأزق المعرفي المعاصر[10] والأزمة الفكرية العالمية المعاصرة.

 فنحن –المسلمون- شركاء في الأزمة العالمية لأن علاقتنا بها لم تعد علاقة برانية أو هامشية – كما قد يتوهم البعض – فالحضارة المعاصرة قد نجحت من خلال غزوها الفكري والثقافي والمؤسسي أن تفرض علينا وعلى العالم كله منهجها ووعيها العلمي والمفاهيمي للوجود وللحركة الكونية. كما فرضت على الجميع رؤيتها للتاريخ والعلم والمعرفة والحضارة والثقافة، والتقدم، والتخلف، وغيرها. فما حقيقة «المنهجية القرآنية» التي نقترحها حلًا لأزمتنا المعرفية والفكرية وأزمة العالم معنا؟.

محددات ومعالم: تبرز محددات (منهجية القرآن المعـرفـيـة)* وتتحقق من قراءة الكتابين: القرآن والكون، وتؤسَس على مقابلتهما والكشف عن التكامل والتفاعل بينهما، وإبراز المنهجية في البحث والاكتشاف انطلاقًا منهما:

الكتاب الأول: هو كتاب الوحي المقروء، ونعني به «القرآن»، لأنه وحده الكتاب الكوني، الذي يعادل الوجود الكوني وحركته ويستوعبهما بأبعاده الكونية.

والكتاب الثاني: هو كتاب الكون المتحرك الذي يتضمن ظواهر الوجود كافة.

 فالقرآن العظيم والكون البديع كلاهما يدل على الآخر، ويرشد إليه، ويقود إلى قواعده وسننه، فالقرآن يقود إلى الكون ويمارس دوره في الهداية فيه، ويوظفه بوجوه كثيرة، لتسخير مكوناته، ولتوضيح قضاياه، وتأييد دعاواه، والكون أيضًا يقود إلى القرآن ليُسقط أسئلته عليه، ويستعين به لإرشاد الإنسان إلى كيفية التعامل معه، واستثمار تسخيره. ومعرفة هذا وإدراكه والعمل بمقتضاه هو ما أطلقنا عليه «الجمع بين القراءتين»: قراءة تبدو غيبية تنشأ في إطار الوحي وتنطلق باتجاه الكون. وقراءة موضوعية تنطلق من الكون وعناصره باتجاه الوحي. فقراءة الوحي بمثابة تنزل من الكلى إلى الجزئي، فتدرك بقدر ما تتيحه القدرات البشرية النسبية من الفهم لتنزلات الكلي وكيفياتها، وقراءة الكون تقدم القضايا والمسائل، والأسئلة الجزئية وترفعها إلى سدة الوحي ليهتدي الإنسان القارئ في الاثنين إلى الإجابات السليمة من المصدر الذي يهدي للتي هي أقوم. وتبدو للإنسان القارئ – آنذاك – جدلية العلاقة بين المصدرين: الوحي والكون أو علاقة الفهم التكاملي المتبادل والجدل والتفاعل بينهما بأوضح ما تكون.

دور قراءة السنة

هنا يبدو دور قراءة السنة والسيرة في كليتهما ضروريًا مع استحضار أبعاد الهيمنة والتصديق القرآنيين مع الاستيعاب والتجاوز، وتكون قراءة الكون بمثابة تطلع وعروج من الجزئي باتجاه الكلي المتمثل بالوحي وتطبيقات رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلّم- له فيُقرأ ذلك كله وفق قدرات البشر النسبية على فهم الظواهر، فلا يقع الفصام المزعوم بين معطيات الوحي ونتائج المعرفة الموضوعية، إذا فهمت السنة والسيرة فهمًا دقيقًا في هذا الإطار.

وإضافة إلى فهم السنة والسيرة في كليتهما، وجمعهما مع القرآن الكريم في الطريق إلى ((الجمع بين القراءتين))، نحتاج إلى أن ندرك أن القرآن قد نزل به الروح الأمين على قلب رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم – ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ(193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ(194) بِلِسَانٍ عَرَبِي مُبِينٍ﴾ [الشعراء: ١٩٢ – ١٩٥] فنزوله كان على القلب.

ولذلك نُهِى -صلى الله عليه وآله وسلم- أن يحرك لسانه به بادئ ذي بدء: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به(16) إنَّ علينا جمعه وقرآنه(17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرآنه﴾ [القيامة: ١٦ – ١٨]. وما ينزل على القلب فإنه ينزل ويراد له الفهم والتدبر والاستيعاب والاستقرار في القلب، ولذلك فإن التالي للقرآن المجيد إذا أراد فهم ما يقرأ، وإدراك معانيه، ومس مراد الحق منه، فعليه أن ينزله على قلبه، ويدرك معانيه ببصيرته.

وعلى التالي الذي يريد أن يبلغ في تلاوته مستوى «حق التلاوة»: أن يدخل إلى رحاب القرآن، وهو على يقين من أنه سوف يجد فيه الجواب الشافي عن كل ما يريد معالجته إذا نزله على قلبه وتلاه حق التلاوة، ورتله ترتيلًا، وتدبره وتعقله وتفكر بما فيه وتذكره. فالقرآن يكون بمثابة النموذج المعرفي الكلي للإنسان القارئ التالي المتدبر للقرآن في كليته.

الجمع بين القراءتين ومداخل قراءة القرآن:

هنا سنحاول أن نمهد لبيان كيفية الجمع بين القراءتين، وذلك ببيان بعض المداخل المهمة لقراءة كل من القرآن والكون، نستعين بها على منهج التعامل مع ((الجمع بينهما)). ولنبدأ بمداخل قراءة القرآن:

أولًا– إن تنزيل القارئ على قلبه للقرآن -بالشكل الذي أوضحنا- مدخل أساسي من مداخل فهمه، والفقه فيه. ولعله أهم مداخل ((الجمع بين القراءتين)) فالله -تبارك وتعالى – قال: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192) نزل بهِ الرُّوحُ الأَمِينُ(193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ﴾ [الشعراء: ١٩٢- ١٩٤]. وهناك مداخل أخرى للدخول إلى عالم القرآن المجيد، منها:

ثانيًا- مدخل الإيمان بالوحدة البنائية للقرآن المجيد، وقراءته مع استصحاب هذا المدخل. والوحدة البنائية تجعل التالي المرتل المتدبر يطوف في رحاب القرآن ناظرًا في آياته -كلها- باحثًا عن جميع الروابط وشبكات العلاقات بينها ليدرك ما يقرأ، ويفهم ما يتلو[11].

ثالثًا- مدخل الانطلاق من الإيمان ((بوحدة السورة))، وهو مدخل لا يختلف كثيرًا عن مدخل «الوحدة البنائية»، لكن التركيز فيه يكون على سورة واحدة يتخذها القارئ المتدبر بمثابة وحدة متميزة. وهنا ينطلق في تدبره باتجاه البحث عن عمودها، والأعمدة أو الأوتاد الساندة. ونعنى بذلك: أن لكل سورة موضوعًا أساسيًا تأتي آياتها -كلها- لتوضيحه وبيانه، وتجلية ما يتعلق به. وتكون الموضوعات الأخرى دائرة حول ذلك الموضوع الأساسي تعززه، وتزيد في بيانه وتوضيحه، فتكون بمثابة الأوتاد المساندة لعمود البيت ودعامته الكبرى. وقد كتب فيه الإصلاحي[12] ونبه إلى ذلك الشيخ أمين الخولي[13].

رابعًا- مدخل القيم العليا، وهي: «التوحيد والتزكية والعمران»، فهذه القيم الثلاث بلغت من الأهمية مستوى يمكن من القول بأنها محاور القرآن المجيد الأساسية التي تدور سوره وآياته وكلماته -كلها– حولها وتشترك في العمل على تكريسها وتعزيزها

ف«التوحيد» حق الله ـ تعالى ـ على عباده أن يؤمنوا بواحديته ووحدانيته، وتفرده في ذاته وصفاته وأفعاله، ومعظم سور القرآن وجل آياته دارت حول التوحيد لأهميته القصوى، إذ عليه يتوقف كل ما عداه. فهو جوهر العقيدة، وركن الإيمان وعموده.

ثم «التزكية» وهي المؤهل الأساسي والشامل الذي يجعل الإنسان قادرًا على القيام بمهام الاستخلاف، وأداء الأمانة والوفاء بعهده تعالى، وإعمار الأرض ووراثتها في الدنيا ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] وهي التي تهيئ الإنسان لوراثة الفردوس في الآخرة ﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفَرْدَوسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: ١١].

ثم «العمران» وهو المهمة التي أوكلت للإنسان بعهد الاستخلاف، وهو الغاية التي سخر الله الطبيعة -كلها- للإنسان من أجل تحقيقها والقيام بحقها. وبذلك يتحول الإنسان إلى قائد مسيرة التسبيح التي يمارسها كل شيء في الكون بالتوجيه التلقائي والذاتي عدا الإنسان الذي يمارس ذلك بحريته واختياره. ﴿وَإِن مِن شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حليما غَفُورًا﴾ [الإسراء: ٤٤].

خامسًا– وهو مدخل الولوج إلى رحاب القرآن بمدخل العلاقات بين الله -تبارك وتعالى- والإنسان والكون المسخر. فحين نقول: «الله» فإننا نستحضر بذلك علم الغيب كله. وحين نقول: «الإنسان» فإننا ننبه بذلك إلى كل ما يتعلق به ابتداءً من عالم العهد الأول، أو عالم الذر مرورًا بعالم الخلق والإبراز للوجود والأمر بالتصدي للمهمة، وانتهاء بعالم المآل إلى الجنة أو النار. وحين نقول: «الكون» فإنَّنا نعنى به عالم الخلق أو الأشياء والسنن والقوانين الموجهة، والمسيِّرة له، وتنوع الخلق فيه من حيوان وبحار وأنهار وشمس وقمر وموجودات ومنها الإنسان نفسه… وذلك يعنى: أننا نبحث عن العلاقات بين الله -تعالى- والإنسان والكون، وكيفية حدوث الفعل والانفعال أو ما يسمى «بالتفاعل» في كل ما قصه الله -تبارك وتعالى- في القرآن المجيد، فنكتسب بذلك وعيًا وقدرة نتمكن بهما من تدبر القرآن وتلاوته وترتيله، لنتعقل به أوضاعنا، وما نعايشه في مرحلتنا التي لا تعدو أن تكون حلقة من حلقات تاريخ أسرتنا البشرية الممتدة. ومدخل القيم العليا والعلاقات بين الخالق والمخلوق سوف يكونان خير رفيق لنا في الطواف في آيات القرآن المجيد.

سادسًا- مدخل التصنيف الموضوعي، وذلك بعد أن نداوم على قراءة القرآن، ونتدبر أهم الموضوعات التفصيلية التي تناولها، ونمرن أنفسنا على تحديد موضوعات مثل الإيمان والكفر والشرك والنفاق والحق والباطل والصلاة والعلم والإصلاح والإفساد وما إليها. ثم نبدأ -بعد القراءات الكاملة- بجمع الآيات التي تتعلق –في نظرنا- بذلك الموضوع، باستقرائها وتتبعها في آيات القرآن –كلها– دون غفلة عن «وحدة القرآن البنائية» التي تستلزم أن نستحضر القرآن –كله- في دراسة أي موضوع؛ ثم نبدأ عمليات التدبر والتأمل، ونحذف ونضيف إلى أن نطمئن إلى أن ما جمعناه من الآيات هو كل ما يتعلق بذلك الموضوع. على ألا نتوقف عن التأمل والتدبر فيها والحذف والإضافة، فبعد فترة سنجد أنفسنا مشدودين إلى القرآن -كله- في كليته ووحدته البنائية، فيزداد فهمنا ووعينا بالقرآن المجيد عمومًا. وهنا يمكن أن نستشهد بما نُقل عن الإمام الشافعي -يرحمه الله- فقد عمل الشافعي على جمع آيات الأحكام في القرآن المجيد، وله كتاب يحمل اسم «أحكام القرآن» جمعه البيهقي. وآيات الأحكام معدودة لدى الفقهاء فهي في تقديرات جمهرتهم لا تتجاوز خمسمائة آية، وبعضهم لا يجاوزون بها أربعين ومائتي آية. لكن الإمام الشافعي بعد أن ركز على هذا النوع من الآيات وجد أن من المتعذر حصر الأحكام فيها. فأشار إلى أن في الأمثال أحكامًا كثيرة. بل يمكن القول[14]: إن في القصص القرآني أحكامًا، فالحكم لا تستطيع استنباطه والإلمام بجوانبه كلها بدون معرفة سياقه وعلاقاته كلها.

سابعًا- مدخل البحث في المناسبات: والمناسبات أو التناسب بين الآيات والسور علم دقيق ومهم حاوله كثير من المتقدمين فقاربه بعضهم، وأعلن بعضهم العجز عنه، فتجاوزه إلى المداخل الأيسر.

ويقول الإمام الرازي (ت: ٦٠٦ هـ) (… مَن تأمل لطائف نظم السور وبديع ترتيبها، علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو -أيضًا- معجز بسبب ترتيبه ونظْم آياته) ويقول -أيضًا- (أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط)[15]

ويقول القاضي أبو بكر بن العربي من علماء القرن الخامس (ت: ٥٤٣) (ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني، منتظمة المباني علم عظيم..)[16].

ويقول برهان الدين البقاعي صاحب أشهر كتاب في الموضوع «نظم الدرر في بيان تناسب الآيات والسور» «إن السورة وإن تعددت قضاياها في كلام واحد يتعلق آخره بأوله وأوله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، كما تتعلق الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة. ولا غنى لمتفهم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها، كما لا غنى عن ذلك في أجزاء القضية الواحدة..» يريد القضية المنطقية وهي عبارة عن جملة واحدة.

فحين نعمد إلى القراءة المتدبرة بهذا المدخل فإن من الممكن التدرب عليه بأن نأخذ سورة من تلك السور التي تعددت نجومها، وتنوعت موضوعاتها، وكثرت معانيها. ثم نتتبع آياتها آية بعد آية، ومجموعة بعد أخرى ثم نتفكر في بدايتها ومسيرتها وانسيابها حتى نبلغ خاتمتها. ونعود من الخاتمة إلى البداية، وننظر في العلاقات بين اسمها وتسويرها لتكون صورة مستقلة، ثم علاقتها بما قبلها وما بعدها فسنكتشف شبكة من العلاقات بينها تجعلنا نشعر أنها نزلت حين نزلت، وكأنها نجم واحد، أو أنها نزلت مرة واحدة.

هذه المداخل هي مداخل مقترحة تمثل حصيلة معايشة للقرآن ومحاولة للاقتراب منه، وليست -بحال من الأحوال- نهاية المداخل المطلوبة لمقاربة القرآن المجيد، وهي قابلة للإنماء والإضافة، فالقرآن لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد.

مداخل قراءة الكون:

للكون مداخل للقراءة، كما كان للوحى مداخل للقراءة. ومداخل قراءة الكون متعددة كذلك، منها:

مدخل الخلق:

هذا المدخل يقتضي الإيمان التام واليقين الخالص بأن الكون –كله– مخلوق لله -تعالى- عن إرادته صدر، وبكلماته تكوًّن، وبتقديره تشيَّأ: فصار شيئًا مذكورًا.

وأنه -سبحانه- ما خلقه إلا بالحق، وأن كل شيء فيه بقدر ومقدار، وتقدير محدد، وأنه سائر إلى غاية معينة، فلا مجال للقول بالمصادفة أو العبث أو العدم أو اللاغاية!! وأن كل شيء فيه له علة، كما أن له غاية. والقيام بمهمة الاستخلاف، والوفاء بالعهد الإلهي، والقيام بحق الأمانة، والنجاح في اختبار الابتلاء، كل ذلك يتوقف القيام بها على إدراك هذه الأمور، والوعي بها وعيًا يجعل منها آيات للحق -تبارك وتعالى- موصلة اليه، منبهة الى صفات الكمال التي يتصف بها، موجهة للإيمان به، وإدراك عظمته، وفهم حسن تدبيره وحكمته وإعجاز تقديره.

والقرآن المجيد – وهو يدعونا للنظر في الخلق والطبيعة – لا يرشح نفسه مصدرًا للعلم الطبيعي، ولكنه يوجه إلى ذلك للأخذ بيد الإنسان للوصول إلى معرفة الخالق وإدراك وحدانيته، واليقين باتصافه بكل صفات الكمال، وتنزهه عن كل صفات النقصان، وفى ذلك – كله – بناء لطاقات الإنسان الإدراكية وقابلياته العقلية والفكرية، واستعداداته المعرفية، وتحريك لسائر قوى الوعي فيه، وتأهيله للمهام الكبرى التي أوكلت إليه. وإذا كان الوحي يعينه على تحقيق التزكية بكونها ذات أولوية كبرى بعد التوحيد وبه ومعه، فإن النظر في الخلق والطبيعة يعينه على كسب الأهلية لتحقيق العمران، والنظر في الخلق والطبيعة، وهي مسخرة خاضعة لله – تعالى – وبسننه وقوانينه تتحرك أو يتشكل كل شيء فيها، فليس الإنسان خاضعًا لها، وليس له أن يغتر بتسخيرها له فيستكبر، ويقول: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِن الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدّ منه قوة وأكثر جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [القصص: ٧٨]، أو يحسب نفسه مقهورًا لها فيُشرك، أو قاهرًا لها بنفسه فيُلحد، ولكنه يراها مسخرة لله خاضعة له. وأن ربه وربها واحد أوكل إلى هذا الإنسان مهمة الخلافة فيها، واستثمارها وإعمارها.

 ولهذا المدخل المهم مداخل فرعية يرشد الوحي إليها، منها:

معرفة مبدأ الخلق، وكيفية تكوين الموجودات وأهم وظائفها: ﴿أو لم يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شيء حي أفلا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنبياء: ٣٠]. ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سبع سموات طباقًا(15) وجعل القمر فيهن نورًا وجعل الشمس سراجا﴾ [نوح: ١٥، ١٦]. كما يربط بينه وبينها: ﴿واللهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا(17) ثُمَّ يُعيدكُمْ فِيهَا ويُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾ [نوح: ۱۷، ۱۸]. وهذا المدخل يؤدى – أيضًا- إلى كشف النظام الدقيق للكون وغائية الخلق: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ في الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: ٧٣]. ﴿وما خَلَقْنَا السَّمَاء والأرض وما بينهما لاعبينَ(16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهُوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: ١٦، ١٧].

والإنسان مطالب بأن يتفكر في خلق السماوات والأرض ليدرك ذلك – كله – ويكشف عما في الكون والخلق من دقة ونظام، وسنن حاكمة، وغايات وعلل ويتبين وحدانية الله – تعالى – ويبنى تصوراته عن الكون والحياة والإنسان انطلاقًا من ذلك، فيتمكن من تحقيق العمران، وإلا كانت الحياة الدنيا بالنسبة إليه لهوًا ولعبًا، وعبثًا يتنزه الخالق عنه ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَينا لا ترجعون﴾ [المؤمنون: ١١٥].

كما يكتشف الإنسان بتدبر هذا المدخل أن هذا النظام الدقيق المحكم لا يعنى أن الخلق خالد، أو أنه مستمر دائم لا نهاية له، بل هو محكوم بأجل مسمى، فدقة نظامه، والبدائع التي اشتمل عليها، واتساعه وعظمته لن تمنحه صفة الخلود. ﴿أو لم يتفكروا في أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وما بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ [الروم: 8]

وكونه سائرًا إلى نهاية وأجل مسمى لا يزيل عنه صفة الحق، الذي خُلق به وقام عليه. ولأن الإنسان جزء من الخلق وابن شرعي للطبيعة فلا ينبغي له أن يغفل عن أنه يجرى عليه ما يجرى عليها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيات الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُم إِن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فَاسْتَعذ بالله إنه هو السميع البصير(56) لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ [غافر: ٥٦، ٥٧]. وهم إن علموا شيئًا وهم في حالة كفر بالوحي أو انفصال عنه فإنما ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافِلُونَ﴾ [الروم: ٧].

والتفكر في هذا المدخل وتدبره بعناية يؤدى بالإنسان إلى إدراك ذلك التلازم العجيب الذي أوجده الخالق البارئ المصور – جل شأنه وعزت قدرته – بين العلم والإيمان. وأن العلم حين ينفصل عن الإيمان قد يفقد صفة العلم وقد يكون ضرره أكبر من نفعه: ﴿وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ ولكنكم كنتم لا تعلمون﴾ [الروم: ٥٦].

لقد عمل القرآن المجيد على بناء أمتن وأقوى وأفضل العلاقات بين الإنسان والعالم المخلوق لله، والمســخــر لـه، لـئـلا يقع بينهــمـا تنابذ أو تصارع، أو علاقات مضطربة فتضيع حِكم كثيرة قد لا تؤثر في تسخير الطبيعة أو الكون الخاضع لسنن لا تبديل لها، ولكنها تحرم الإنسان من تلك المشاعر السامية، وهي المشاعر التي تجعله يحس بحب واحترام بيئته، وما فيها ومن فيها، فيحقق السلام النفسي والذاتي، ويحقق السلام مع كل ما حوله، ويدرك قدر نعم الله التي لا تحصى عليه حين سخر له الكون، وعلمه كيف يستفيد به، ويستخلف فيه ويعمره، ويقيم الحق والعدل فيه، ويقوده في قافلة العبادة والتسبيح للذي خلق سبحانه .

فالإنسان لا يحتاج لقهر الطبيعة والخلق، وكيف يحتاج لذلك والكل مسخر له بتسخير الله تعالى، وهو الذي مكنه من ذلك – كله – ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يتفكرون﴾ [الجاثية: ١٣].

﴿وَلَقَدْ مَكَنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: ١٠]، فالإنسان مطالب باستثمار ذلك كله والاستفادة به، وإن هو لم يفعل فإنه يكون قد أخل بوظيفته في الكون، فالعمران من العبادة وأي جزء منا أجزاء الطبيعة يُهمل، فذلك يعني أنه ميت أو مقتول. ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرضُ الميتةُ أحييناها وأخرجنا منها حبًا فمنه يأكلون﴾ [يس: ٣٣]. ولذلك وضع الفقهاء بابًا في الفقه أطلقوا عليه إحياء الموات أي الأراضي المهملة التي لا تُزرع ولا يُبنى عليها، ولا تستثمر.

وإن القرآن المجيد قد أقام هذه العلاقات الودية بين الإنسان وعناصر الكون كلها – ولم يقصر ذلك على البيئة المحيطة به وحدها أو البيئة المباشرة، بل تعدى ذلك إلى الشمس والقمر والنجوم ﴿وجعل القمر فيهن نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾ [نوح: ١٦]، ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: ٩٧].

والقرآن ينبه هذا الإنسان المستخلف المسؤول عن العمران، والتعبد لله – تعالى – به إلى أن عليه أن يستعمل سائر إمكاناته الذاتية، والطاقات التي زوده الله – تعالى – بها لبناء علاقاته بالكون بالشكل المناسب ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَار والأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ۷۸]. فالإنسان في حاجة ماسة وضرورية إلى هذه الأدوات والقوى. ولكي يشحذ هذه القوى ويضاعف طاقاتها، هو في حاجة إلى النظر في الأرض والكون فيكون النفع بينهما متبادلًا، فالنظر والمشاهدة والتدبر والتفكر والتعقل تُمكِن الإنسان من حسن استثمار الكون، وتنمى طاقاته. ونظره في الكون يعود على هذه الوسائل والأدوات بطاقات مضاعفة. وتعطيلها عن ذلك يصيبها بالكسل والفتور، أو يؤدى بها إلى الانحراف.

مدخل العناية:

هذا المدخل من مداخل قراءة الكون لا يبعد كثيرًا عن (مدخل الخلق)، وإذا كان مدخل الخلق يقودنا إلى النظر في الخلق كيف (بدأ الله الخلق)، وإدراك الغاية منه وسيرورته وما سينتهي إليه: فإن مدخل «العناية» يؤدى بنا إلى النظر في نظام الكون الدقيق، واكتشاف بدائع الصنع الإلهي فيه، والقوانين والسنن التي لا تبديل لها، ويوضح في الوقت نفسه الرعاية الإلهية للإنسان بهذه العناية. وهذا النوع من النظر يربي في الإنسان العقل، ويدربه على النظر العقلي في كل ما حوله، ويعلمه كيف يدرك المقاصد والكليات والحِكم والغايات من مداركها وبوسائلها، فيؤمن بربه، ويثق في نفسه. ويدرك أن الكون ليس مركبًا من عناصر مشتتة أو أجزاء منفصلة، بل يراها في ترابطها الدقيق وانتظامها المتماسك. فذلك هو الذي يعود على الإنسان بالرؤية الكلية للكون والإنسان والحياة.

 ولقد أجهد الفلاسفة ومؤسسو المدارس الفلسفية أنفسهم عبر التاريخ وما يزال الكثيرون منهم يسعون إلى معرفة المنهج، أو الكيفية التي يمكن بمقتضاها إرجاع سائر عناصر الكون إلى أصل واحد. والوصول إلى نظام معرفي أو نموذج معرفي يمكِن من تفسير الظواهر الكونية الطبيعية به بشكل عام شامل. إذ لا شك في أن كثيرًا من الظواهر الطبيعية ما يزال العلماء الماديون – بخاصة – يتخبطون في تفسيرها، ويقلبون أفئدتهم وأبصارهم فيها فلا تعود عليهم بالكثير. ولعل السبب الأول لذلك يكمن في عدم التفات هؤلاء العلماء الماديين إلى ما وراء تلك الظواهر من نظام دقيق، وعناية إلهية فائقة، فتنحصر أنظارهم في الظواهر الحسية التي تجعلهم مقيدين بالجدل بين عناصر الطبيعة المادية. أما لطف التدبير، ووحدة نظامه، فإنه لا يُدرَك إذا لـم يـؤمـن الـعـالـم الباحث بوجود المدبر الواحد، وعنايته وحكمته، ومطلق قدرته، فذلك هو الذي يعصم الباحث من التيه، والوقوع في الخطأ.

مثل من القرآن: ويضرب الله – تبارك وتعالى – للبشرية مثلًا بأبي الأنبياء إبراهيم – عليه السلام – حيث نظر في مجموعة من الظواهر والموجودات الكونية باحثًا متأملًا ليحدد موقع كل من تلك الظواهر منه من ناحية، ويحدد لنفسه موقفًا منها، يقول الله -تعالى-: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كوكبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78) إِنِّي وَجَهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المشركين﴾ [الأنعام: ٧٦، ٧٩]. فسيدنا إبراهيم كانت لديه إشكالية أو أزمة برزت وهو يشاهد قومه يعبدون أصنامًا لهم يصنعها أبوه، ويبيعها عليهم، فأراد لتلك الأزمة المؤرقة حلًا. توجه بالسؤال إلى أبيه آزر صانع الأصنام فقال له ولقومه: ﴿واتل عليهم نبأ إبراهيم(69) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون(70) قالوا نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين(71) قال هل يسمعونكم إذ تدعون(72) أو ينفعونكم أو يضرون(73) قَالُوا بَلْ وجدنا آباءنا كذلك يفعلون﴾ [الشعراء: ٦٩ – ٧٤]. فلم يكن لديهم جواب شاف أو مقنع غير الحجة المكررة التي لا تقنع أحدًا وهي تقليد الآباء وهنا يتجه إبراهيم – بتوفيق من الله- إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض ليقوده إلى الدواء الشافي من تلك الأزمة/ الإشكالية.

لقد جزأ إبراهيم سؤال الأزمة لديه إلى أجزاء كثيرة أو أسئلة فرعية متعددة. ففي الكواكب نظر في ظاهرتي الأفول – الغياب والنقص – بعد البزوغ، والإشعاع بالنور، وأدرك أن الأفول والنقص والغياب لا يمكن أن يتصف الإله بشيء منها، إذ كيف يدبر مخلوقاته وهو بهذه الصفات؟ ومن ذا الذي يقوم بالعناية بها إذا غاب؟ فكانت تلك أسئلته في ملكوت السماوات، حتى إذا التفت إلى ملكوت الأرض سأل قومه وأباه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيم(69) إِذْ قَالَ لأبيه وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ(70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ(71) قَالَ هَلْ يسمعونكُم إِذْ تَدْعُون(72) أو ينفعونكم أو يضرون(۷۳) قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون(74) قال أفرأيتُم ما كنتم تعبدون(75) أنتم وآباؤكم الأقدمون(76) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين(77) الذي خلقني فهو يهدين(78) والذي هو يطعمني ويسقين(79) وإذا مرضت فهو يشفين(80) والذي يميتني ثم يحيين(81) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين(82) رب هب لي حكمًا والحقنى بالصالحين(83) واجعل لي لسان صدق في الآخرين(84) واجعلني من ورثة جنة النعيم(85) واغفر لأبي إنه كان من الضَّالِّين(86) ولا تخزني يوم يبعثون(87) يوم لا ينفع مال ولا بنون(88) إلا من أتى الله بقلب سليم﴾ [الشعراء: ٦٩ – ٨٩].

هنا وبعد أن أجهد نفسه في النظر العقلي في ملكوت السماوات والأرض ﴿وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين﴾ [الأنعام: ٧٥] تبرأ من آلهة أبيه وقومه كلها، ووجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض فأسلم وجهه لله رب العالمين، فبلغ بذلك توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية. ومدخل العناية إن عرفه الباحثون حق المعرفة، وتبينوا معالم النظام البديع المعجز الذي يسيِّر الله -تعالى- الكون بمقتضاه، فإن ذلك سوف يوجد فيهم أقوى الدوافع للبحث الجاد المتواصل للكشف عن الكون، والبحث في الطبيعة، وبلوغ العلاقات والقوانين التي يقوم عليها النظام الكوني.

والباحث المؤمن حين يعجز عن اكتشاف حلقة من حلقات ذلك النظام في ظاهرة من الظواهر فإنه لن يتهم المنهج العلمي الذي استخدمه، ولن ينفي وجود النظام لمجرد أنه لم يضع يده عليه في تلك الظاهرة، فهو يدرك أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، ولذلك فإن الباحث المؤمن سوف يعاود البحث مرة أخرى، وثانية وثالثة، وينسب القصور إلى نفسه، أو طريقته في استعمال المنهج. ولن يلجأ إلى القول بالاحتمالية، أو المصادفة، أو نفى النظام كما يحدث لبعض العلماء اليوم.

مدخل النظر في الواقع الموضوعي الخارجي:

 إن للأشياء وجودًا ذهنيًا ووجودًا واقعيًا، فالوجود الذهني عبارة عن تلك الصور الذهنية التي ترسمها المخيلة الإنسانية للأشياء، فإذا خرجنا بها إلى الواقع فإما أن نجده مطابقا لما ارتسم في أذهاننا، فيصدق الواقع الخارجي الصورة الذهنية، فيتضح لنا آنذاك أن لتلك الصورة الذهنية تحققًا عينيًا. ولو أنَّ الواقع الخارجي لم يصادق على تلك الصورة الذهنية، فذلك يعني أن تلك الصورة غير دقيقة، أو هي مجرد صورة متخيلة لا سند لها من الواقع. ﴿أولَم يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: ١٨٥].

فقضية الجمع بين القراءتين مسألة منهجية في المعرفة وتقود الى نتيجة حضارية، فالذي يجمع بين القراءتين لا يستغنى عن الله لأنه يُدرك دومًا افتقاره لله -سبحانه وتعالى- فلا يستبد ولا يبتغى علوًا في الأرض ولا فسادًا ولا يطغى، ولا يلحد ولا يدمر الحياة والأحياء، ولا يعيث في الأرض فسادًا.

كيفية الجمع بين القراءتين:

إن المدخل الأساسي للجمع بين القراءتين يبدأ باكتشاف العلاقة المنهجية بين الناظم المنهجي لآيات القرآن الذي أعطى القرآن وحدته البنائية وإعجاز نظمه، وبين السنن والقوانين المبثوثة في الوجود والمهيمنة على حركته، للكشف عن الناظم المنهجي الذي يربط بينهما. فالقرآن وحىٌ إلهي نتعقل به ونتفهم به هذا الوجود انطلاقًا من أن القرآن مطلق، ومحيط وشامل. وبقدر ما تتسع معرفتنا للاثنين معًا بقدر ما تتكون لدينا القدرة على الجمع بين القراءتين، واكتشاف التداخل المنهجي بين منهجي الوحي والكون. فمنهجية القرآن موازية لمنهجية الوجود، ولا ينبغي الاقتصار على قول ذلك نظريًا أو إدراجه في دائرة (فضائل القرآن)، ولكن ينبغي اكتشاف ذلك تطبيقيًا. فالقول النظري قد لا يتجاوز حالة تبشير بفرضية قد تكون غير صحيحة أو مما يمكن الطعن فيه، ولهذا يكون التحدي الأول والأهم للمسلم المعاصر هو الكشف عن التداخل المنهجي بالجمع بين القراءتين: أي بين الوحي الإلهي والعلوم الطبيعية والإنسانية القائمة على السنن الإلهية في الكون والحياة والإنسان. أما الحديث عن عظمة القرآن وفضائله، فإن القرآن عظيم حقًا ومعجز فعلًا وذو فضائل تجل عن الحصر، وقد كتب الناس عن عظمته وإعجازه وفضائله آلاف الصفحات، بل ملايينها، لكن تلك الكتابات لم تستطع أن تكشف للناس عن منهجيته المستوعبة للكون وحركته، والمتجاوزة لها، والقادرة على إقامته على قواعد الهدى ودين الحق. كما لم تؤد إلى الكشف عن التداخل المنهجي بين قراءة القرآن في وحدته البنائية، وقراءة الكون في وحدته القائمة على سننه وقوانينه. فقد بقيت آيات كريمة كثيرة ومقولات دينية كثيرة عرضة لتأويلات شتى. وفي كثير من تلك التأويلات تبدو الإسقاطات الإسرائيلية ونحوها واضحة.

كذلك بقيت في المعارف الإنسانية والاجتماعية الحديثة، بل وفي العلوم الطبيعية المعاصرة كذلك أبعاد غائبة، وأسئلة كثيرة حيرى لا تجد من مدارس تلك العلوم المختلفة إجابات شافية، لأنها لم تكتشف ذلك التداخل المنهجي بين القراءتين إلا في حدود جزئية تمثلت في محاولات انتقائية يغلب على بعضها التلفيق الذي يجعلها تبدو مفتعلة إلى حد كبير، كتلك المحاولات التي عُرفت (بالإعجاز العلمي).

 فتأكيدنا[17] الدائم على ضرورة وجوب الجمع بين القراءتين، وحسبان ذلك شرطًا مسبقًا للخروج من الأزمة الفكرية والمعرفية في مستوياتها العالمية والمحلية يحمل توكيدًا على وجوب الالتفات إلى ذلك الارتباط المنهجي بين القرآن والكون والإنسان. فالقرآن ضم قواعد الوحي الإلهي الذي جاء به المرسلون كافة. والكون مجال كلمات الله ومظهر إرادته ومشيئته. والإنسان مستخلف للاهتداء بالوحي في إعمار الكون. وبذلك تكتمل حلقات التصور الإنساني، وتظهر سائر مقوماته وتبرز علاقة الغيب بالطبيعة والإنسان. ويتخلص الإنسان من مأساة الفصام بين اللاهوت والناسوت والملكوت أو بين الدنيا والآخرة، أو بين التنزيل الإلهي والفلسفات الوضعية البشرية، وماجره ويجره ذلك الفصام النكد من مشكلات.

 إن هذه المهمة لا يستطيع النهوض بها إلا من أوتي القرآن وحظًا من العلوم والمعارف كافيًا لاكتشاف ذلك التداخل المنهجي بين القرآن والكون والإنسان، ولذلك أرسيت قواعد المنهج القرآني على الدعائم التالية:

أولًا- إعادة بناء الرؤية الإسلامية المعرفية القائمة على أركان العقيدة المحددة كما جاء بها القرآن ومقومات وخصائص التصور الإسلامي السليم المنبثق عنها، ليتضح ما يمكن حسبانه «النظام المعرفي الإسلامي» القادر على الإجابة عن الأسئلة الكلية النهائية ومعالجة ما أسماه الفلاسفة المتقدمون «بالعقدة الكبرى» دون تجاوز شيء منها، وبناء قدرة ذاتية على النقد المعرفي الذي يمكِن من الاستيعاب والتجاوز بشكل منهجي منضبط، في الوقت نفسه يعطي القدرة على التوليد المعرفي والمنهجي وبه يتحقق الإبداع والتفسير المعرفي الذي لا يقوم على الخطابة بل على المعرفة المنهجية.

ثانيًا- إعادة فحص وتشكيل وبناء قواعد المناهج الإسلامية في مجالاتها المختلفة، وذلك بعرضها على «المنهجية المعرفية القرآنية» وتعديلها بنورها وعلى هدى منها. فإن أضرارًا بالغة قد أصابت هذه المنهجية نتيجة القراءات المفردة والتجزيئية التي جعلت القرآن عضين، وقرأت الوجود والإنسان في معزل عنه قديمًا وحديثًا. وليتمكن العقل المسلم من تجاوز تلك الأمراض الفكرية التي شلت فاعليته كالاضطراب في فهم علاقة الغيب بالشهادة، وعلاقة النقل والعقل، وعلاقة الأسباب بالمسببات وغير ذلك من أمور.

ثالثًا- بناء منهج للتعامل مع القرآن المجيد ومعرفة مداخل قراءته من خلال هذه الرؤية المنهجية التحليلية، بحسبان القرآن مصدرًا منشئًا للمنهج والعقيدة والشرعة والمعرفة، ومحددًا لمقومات الشهود الحضاري والعمراني، وقد يقتضي ذلك إعادة بناء وتركيب نظريات علوم القرآن المطلوبة لهذا الغرض، وتجاوز بعض الموروث في هذا المجال من تلك المعارف التي أدت دورها في خدمة النص القرآني، واستفاد بها العلماء في مراحل تأسيسها التاريخية، وبدأت الحاجة تبرز إلى البناء عليها تلبية لحاجات الأمة في حاضرها ومستقبلها. فالإنسان العربي قد فهم القرآن ضمن خصائص تكوينه الأولى عقليًا ونفسيًا ولغويًا، وكانت تلك الخصائص التكوينية بسيطة في بداياتها ومحدودة اجتماعيًا وفكريًا يغلب أن تتم في إطار لغوىّ ومعطيات نقلية شفوية تجعل الاهتمام ينصب على صحة النقل، وتوثيق الرواية بالطرق المتعارف عليها لديه والتي كانت تمثل أرقى المعارف في طرق التوثيق في عصره. وحين بدأ التدوين الرسمي للعلوم والمعارف النقلية الإسلامية التي دارت حول النص القرآني والحديث النبوي في القرن الهجري الثاني، برزت تلك الخصائص فيما كان قد دُوِن من علوم ومعارف. كما ظهرت إلى جانبها خصائص العقلية البلاغية واللغوية العربية في تلك المرحلة وما تقتضيه من اتجاه نحو التجزئة باتجاه دراسة الجمل والتراكيب مع ملاحظة المفردات ابتداءً. فلا غرابة أن يعرف «التفسير» وهو أهم علوم الفهم: بأنه «معرفة أحوال كلمات القرآن وألفاظه»، فتلك كانت هي المنهجية السائدة، ولذلك عد الفهم الذي تولد عنها مقبولًا وكافيًا في تلك المرحلة والمراحل التي تلتها.

أما في المرحلة العالمية الإنسانية الراهنة، حيث تسيطر «عقلية الإدراك الإنساني المنهجي» للأمور، والبحث عن العلاقات الناظمة لها بطرق تحليلية ونقدية توظف الأطر والقواعد العلمية المختلفة، وتربطها بموضوعات حضارية متشعبة، وعلاقات متنوعة، فلا بد من إعادة النظر في كيفية إنماء وتجديد علوم وسائل فهم النص وخدمته وقراءته قراءة الجمع مع الكون، وإدراك أبعاد التداخل المنهجي بين القرآن والكون، وتنقية كثير من جوانب التفسير والتأويل والتراث المتعلق بتلك المراحل، لإزالة آثار الربط الوثيق بالنسبي من خلال الإسقاطات الإسرائيلية وغيرها، والربط التام بأسباب النزول والمناسبات. ولكي تظهر وجوه التحدي بالقرآن العظيم، وجوانب إعجازه المؤثرة في هذا العصر ينبغي أن يضاف إليها البعد الاجتماعي والمنهجي ليتحقق التحدي الدائم به، ويبرز إعجازه الذي يُعَدُّ الدليل المنهجي الأول على إطلاقيته، وعدم نسبيته، وبطبيعة الحال فإننا نتجاوز الإعجاز العلمي، لأنه لا يعدو أن يكون اسقاطًا لثقافة العصر على القرآن، وذلك ليس من مقصودنا.

رابعًابناء منهج للتعامل مع السنة النبوية المطهرة: من خلال تلك الرؤية المنهجية، وبحسبان السنة النبوية المطهرة مصدرًا مبينًا للقرآن المجيد وتطبيقًا لما جاء القرآن به، وتنزيلًا له في الواقع المتحرك، يحمل تفاصيل وتطبيقات المنهج والشرعة، وقواعد المعرفة ودعائم ومقومات الشهود الحضاري والعمراني. فقد كانت مرحلة النبوة وعصر الصحابة مرحلة تعتمد على الاتصال المباشر برسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- ومتابعته والتأسي به فيما يقول أو يفعل: «خذوا عني مناسككم»، «صول كما رأيتموني أصلى»[18]، والاتباع والتأسي يعتمدان على ملاحظة التحرك العملي والتطبيقي لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- وسيرته في الواقع. فالرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يجسد بسلوكه القرآن في الواقع، ليحقق الربط بين النص والحياة، ويبين «فقه التنزيل». فالتطبيق النبوي والبيان المحمدي كانا يضيقان الشقة تمامًا بين مكونات ومكنونات المنهج الإلهي القرآني، وبين الواقع بمستوى ثقافة أهله وعقلياتهم وقدراتهم الفكرية والمعرفية، وتصوراتهم السائدة آنذاك، وبشروط ذلك الواقع الاجتماعية والفكرية في إطار ذلك السقف المعرفي والعلمي واللغوي السائد فيه، ولذلك كان الرواة من الصحابة -رضوان الله عليهم- حريصين على ألا تفوتهم أي جزئية تتعلق بحياة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لأن ذلك هو البديل الوحيد عن الوعي بالمنهج الناظم للقضايا المختلفة في عصرهم، واستخلاص منهج التطبيق منها لمن يأتي بعدهم. ولذلك اشتملت المرويات على ذلك الكم الهائل من أقوال وأفعال وتقريرات رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وتلقينا كل تلك التفاصيل التي تجعل سائر الأجيال التالية لجيل التلقي قادرة على أن تتأسى به، وتستخلص من ذلك منهجًا لاتباع القرآن وهي تتابع حركته اليومية -عليه الصلاة والسلام- في غدوه ورواحه وسلمه وحربه وتعليمه وقضائه وقيادته وفتواه، وممارساته الإنسانية بطريقة تكشف عن أسلوبه أو سنته -عليه الصلاة والسلام- أو منهجه في التعامل مع الواقع، وتكشف -إضافة إلى ذلك- عن خصائص الواقع الذي كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يتعامل معه، ويمارس حياته فيه، ويتحرك في مجالاته. وهذا الواقع -لا شك- مغاير للواقع الذي نحياه في تركيبته وقضاياه ومشكلاته، وعلاقات أهله، مغايَرة نوعية.

لقد كان -عليه الصلاة والسلام- في سيرته وسنته يمثل تجسيدًا للربط بين المنهج القرآني والواقع المعيش، ولذلك فإن من الصعب فهم الكثير من القضايا في معزلٍ عن فهم ذلك الواقع الذي كان -عليه الصلاة والسلام- يتحرك فيه، ويجاهد ويجتهد لتغييره وإصلاحه، ويكون ذلك الفهم بدراسة واقع عصر النبوة وما فيه، إضافة إلى أسباب ورود الأحاديث والأحداث التي ترتبط بها.

وهذه الأحاديث قد يحولها المختلفون إلى أقوال جزئية قد تدل على الشيء ونقيضه، وكأنها أقوال أئمة المذاهب المختلفة، إذا لم يلاحظ الرابط المنهجي بينها. لقد ارتبط المسلمون في مرحلة نزول القرآن بمفهوم التأسي والاهتداء والاتباع والاقتداء ولم يؤمروا بالتقليد أبدًا. وهذه المفاهيم الأربعة تشترك في أن تحقيقها يقتضي معرفة منهج المتأسَى به -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولذلك أُمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بالاهتداء بهَدْي من سبقه من الأنبياء والرسل: ﴿أولئك الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبهُدَاهُمُ اقْتَدَه قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذكرى للعالمين﴾ [الأنعام: ٩٠]، أي بمنهجهم في الطاعة والدعوة والتبليغ والبيان والتطبيق، ولم يؤمر بتقليدهم. وقد مكَّن ذلك من اتخاذ الصحابة من رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – قدوة عملية جسدت لهم «المنهج» طبقًا لشروطهم الواقعية الحياتية. ويمكن ملاحظة ذلك في مواقف الشيخين -رضى الله عنهما- من السنن، وأم المؤمنين عائشة وبقية كبار قراء وفقهاء الصحابة. ومن الاتباع والاقتداء والاهتداء نشأت اتجاهات التعامل مع «المأثور والمنقول»، فأصاب الفهم الدقيق لذلك المأثور من وفقه الله، وجانبه من خذل. فبرزت لدى بعض من جاء بعدهم الحاجة للتخفيف من الآثار التي نجمت عن التعامل الجزئي مع القرآن المجيد، ورواية الأحاديث والسنن مجزأة وبعيدة عن سياقها ومنفصلة عن القرآن. فلجأ -بعد ذلك – من لجأ إلى التأويل الباطني والتفسير الرمزي والإشاري بوصفه مخرجًا من التقيد بحرفية المأثور أو بجزئياته، واستسهل البعض رد الأحاديث، ولكن بعض التأويلات ما زادت ذلك الأمر إلا اضطرابًا. وثارت بعد ذلك مشكلات «حجية السنة» جملةً أو حجية بعض أنواعها، وغير ذلك من قضايا لا نزال نعاني منها ومن الآثار الفكرية التي تخلفت عنها. ولو أنه تم الكشف عن المنهج القرآني للتعامل مع ما قاله أو فعله أو أقره الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- لأمكن أن ينضبط التعامل مع ذلك المنقول كله ولردت الجزئيات إلى الكليات، ولفُهمت في إطار المنهج سائر القضايا الجزئية، لأن المنهج كفيل بتبيُن المقاصد، واتضاح الغايات.

إن العقلية المعاصرة عقلية تبحث – باستمرار – عن الناظم الموضوعي للأمور، وتحاول النفاذ إلى المنهجية الكاملة. هذه المنهجية تعتمد على التحليل المنهجي والتفكيك والنقد والتفسير؛ وتجعلها الوسائل الأساسية والإطار الموضوعي للحركة الفكرية في تعاملها مع النصوص والقضايا الكونية والمحلية. وبهذه المنهجية يمكن النفاذ إلى مقاصد القرآن المجيد ومحاوره وقيمه العليا وكلياته، وتفهم السنن النبوية فهمًا منهجيًا يحمي من الوقوع في إطار ماضوية أو تاريخانية سكونية أو تأويلات باطنية، أو محاولات تجديدية تعمل على إحداث تعديلات أو تأويلات لتطبيقات الماضي لتعيد إنتاجها في الحاضر، فكأنها تعبير عن الماضي في ثوب جديد.

خامسًاإعادة دراسة وفهم تراثنا الإسلامي وقراءته قراءة نقدية تحليلية معرفية، ومقايسته إلى منهج التصديق والهيمنة القرآنيين، لنخرج من الدوائر الثلاث السائدة التي تحكم أساليب تعاملنا مع تراثنا -في الوقت الحاضر-: دائرة الرفض المطلق له، ودائرة القبول المطلق، ودائرة الانتقاء اللامنهجي. فهذه الدوائر الثلاث لا تمكننا من التواصل مع ما يجب التواصل معه من هذا التراث، كما لا تساعدنا في تحقيق القطيعة مع ما يجب إحداث القطيعة معه من ذلك.

سادسًا- بناء منهج للتعامل مع التراث الإنساني المعاصر: أو ما يعرف بـ «التراث الغربي» أو «الفكر الغربي»، منهج يُخرج تعامل العقل المسلم معه من أساليب التعامل الحالية التي تخلفت عن أطر ومحاولات المقاربات، ثم المقارنات، ثم المقابلات والمعارضات، لتنتهي بالرفض المطلق بروح مستعلية متجاهلة، أو القبول المطلق بروح مستلبة تمامًا، أو الانتقاء العشوائي المتحيز له أو عليه.

فهذه الخطوات أو المحاور أو المهام الست هي التي يمكن أن نطلق عليها خطوات أولية باتجاه بناء «المنهج التوحيدي للمعرفة». وذلك لأننا نجد أنفسنا لأول مرة أمام وضعية عالمية تعمل على توظيف المعارف والعلوم واكتشافات العلوم ومنجزاتها توظيفًا يفصم العلاقة بين الخالق والكون والإنسان، وذلك بطرح تصورات حول الوجود يبدو بعضها نقيضًا للتصور الديني عامة ولرؤيتنا المعرفية الإسلامية خاصة، وإن تجاوز هذا الأمر لن يكون بأن ننتقى من مقولاتنا التراثية ما يجعلنا نقاربها مع ما يتوافق مع تلك التصورات لنقول: إنها لدينا من قبل أو نرفضها وندمغها بالكفر، فمنطلقنا ومنذ الأساس تجاه العلوم الكونية ليس منطلقًا لاهوتًيا أو كهنوتيًا، وليس مطلوبًا منا تقليد غيرنا، فإن تجربتهم في مواجهة العلم ومنجزاته تختلف عن تجربتنا، فلو كان القرآن لاهوتًا لما جازت فيه إلا قراءة البُعد الواحد، أي القراءة الأولى فقط، وقد أمرنا بقراءتين، فنحن لم نصارع العلم، ولم نقابله بالرفض وقتل العلماء، لأننا ندرك أن الوحي في الكون الكتابي هو الوحي الذي في الكون الطبيعي، ولكل منهما أسلوب ومنهج قراءة يخصه، فإذا ظهرت انحرافات أسندت إلى العلم، فالمطلوب منا هو تطهير العلم منها، وإذا ظهرت انحرافات في التفسير والتأويل فيجب حماية النص منها. وهذا أساس «الجمع بين القراءتين». إذ لم يكن الدين من قبل يواجه سوی فکر عقلي وضعي مجرد ولم يكن مسلحًا بالعلم التطبيقي المعاصر ونتائجه التي أدت إلى قيام مذهبيات تجاوزت الوضعية التقليدية، فالمطلوب منا -كما أُمرنا- استرجاع أو استرداد العلم من هذه المذهبيات وتطهيره وإعادة توظيفه، وتنقية علوم ومعارف خدمة النص مما ألحق بها أو أضيف إليها، لتستقيم القراءة وتتحقق إمكانات «الجمع بين القراءتين».

المهمة قرآنية وكذلك عالمية

هذه المهمة – المتمثلة في بيان وإبراز منهجية القرآن المعرفية مهمة عالمية: تهم العالم كله، ويحتاج إليها العالم كله، وإن تصورها البعض مهمة في إطار الخصوصية الجغرافية والبشرية الإسلامية، فنحن – في عصرنا هذا – جزء متفاعل مع عالم اليوم، لا بغزوه الثقافي، فذاك أمر كان سائدًا في القرنين -الثامن عشر والتاسع عشر-، ولكن تفاعلنا مع عالم اليوم يتم بغزو العلم التجريبي التطبيقي الذي يتطلب منا جهدًا في بيان «منهجية القرآن المعرفية» يعادل جهد أسلافنا الكرام في مواجهة الغزو الفكري الذي دق أبوابنا مع الثورة الفرنسية، إذ كنا نواجه وقتها حالة عقلية مجردة، وبإمكانيات الوضعية العقلية المحدودة، أما الآن فإن المواجهة مع عقل علمي تجريبي فرض نفسه، وأعاد صياغة العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية كلها بمرجعية تجريبية، فإما أن نتحول إلى موقف الدفاع اللاهوتي العاجز -ومنا من يفعل ذلك- وإما أن نتحول إلى العمل على اختراق النسق الحضاري والثقافي المعاصر برؤية قرآنية كونية وجامعة!! فهذه العلوم التجريبية -كافة- ما زالت تتعثر في انطلاقاتها، مقيدة إلى الجزئي ولم تأخذ بُعدًا كونيًا كليًا يحتويها، والبُعد الكوني كامن في الوحي القرآني: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البصير(56) لخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يعلمون﴾ [غافر: ٥٦، ٥٧].

ومع كون المهمة عالمية يتأكد -أيضًا- كونها قرآنية محضة، فأمام التدافع الديني، وإفلاس الأنساق الحضارية العالمية، وختم النبوة، وبروز الأزمات الفكرية والمعرفية عالميًا ومحليًا، يتصدى القرآن وحده لخوض معركة شاملة بحسبانه كتاب وحي مطلق، ليستمر في عطائه وكرمه بعد أن لم يعد لدى الآخرين ما يقدمونه، فهي معركة اختبار لنا في مدى فهمنا لمنهجية القرآن وقدرتنا على إصلاح وتسديد المسيرة الحضارية به، وإخراج مختلف مناهج العلوم من أزماتها عبر «الجمع بين القراءتين»، فالعلوم المعاصرة قد بلغت اليوم مراحل متقدمة جدًا في معرفة وإدراك الظواهر، فلم تعُد الظواهر كما فهمها جمهرة المتقدمين أو تمثلها العالم القديم، تلك الظواهر الشاخصة والمجسدة أمام العين الناظرة، فالحواس التي كانت هي وسيلة التعقل أفسحت المجال الآن لحواس مجهرية وإلكترونية أعطت مفاهيم جديدة للظاهرة، فإذا فهم الأقدمون الذرة بوصفها حبة رمل أو تراب مرئية، فإن الذرة اليوم ذرة مجهرية قد تحول معناها مما يُبصَر إلى ما لا يُبصَر: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تبصرون﴾ [الحاقة: ۳۸، ۳۹].

منهجية القرآن والمصير الإنساني:

ليست قضية «منهجية القرآن» -إذن- مجرد ضرورة أو حاجة فلسفية مجردة، لأنها وهي تقدم «الجمع بين القراءتين» تقدم دليل إنقاذ الفكر البشري من أزمة اللاهوت المستلب للإنسان والطبيعة، وهي في الوقت ذاته تُخرِج من الإطار الوضعي كل ما يفصم العلم عن خالقه، فلكل من المنهجين آثاره وإسقاطاته على حياة الإنسان ونسقه الحضاري ومبادئه وتشريعاته، فمنهجية القرآن تُعد أهم مقدمة لبديل حضاري عالمي لا يستهدف إصلاح أوضاع المسلمين فقط، بل يستهدف إصلاح العالم كله، وهذه مهمة تتطلب الكثير من البحوث المتميزة الجادة في القرآن العظيم نفسه بفهم تحليلي جـيـد ومن منظور علمي وعالمي منهجي، وهذه هي غاية «منهجية القرآن» الأساسية أن تجعل من القرآن كتاب هداية، ودليل استخلاف، وسبيل خلاص ومنطلق عمران. فبدون فهم القرآن فهمًا منهجيًا في إطار وحدته وبنائيته الكاملة فهمًا يتصل وينعكس على فهمنا المنهجي المعاصر للظواهر الكونية، وسنن حركتها، يستحيل تأسيس عمران سليم. فمنهجية العالم المعاصرة من شأنها أن ترد الكثرة إلى الوحدة، وتحلل الظاهرة بحثًا عن العلاقات والسنن الكامنة فيها وفيما وراءها، ولا يكتفى بتفسيرها. والقرآن الكريم قابل في وحدته البنائية الكلية لهذا الفهم المنهجي، بحيث ندرس الكتاب الكريم بمثل المنهجية التي يدرس بها العلماء الكون العظيم، وكما ذكرت بعقلية علمية عالمية قادرة فاعلة تستطيع إدراك التداخل المنهجي بين منهجية القرآن وسنن ومنهجية الكون.

لا شك في أن هناك أزمة لابد للعالم من تجاوزها والتغلب عليها، وتبدو هذه الأزمة – بوضوح – في أن العقل العلمي العالمي المعاصر يرفض كل الكتب الدينية، وإن يتسامح مع بعض موضوعاتها، فإنه يصمم على رفض منهجية أي منها، ولا يدرك وحدة بنائية لأي منها، ولا يتفهم إطارها الغائي مؤكدًا على أن اختصاص أي كتاب ديني يجب أن يتوقف عند الاقتناعات الإيمانية وغيبيات ما وراء الطبيعة. وبالتالي فإن «الجمع بين القراءتين» – الغيبية والموضوعية – يبدو في نظر هؤلاء العلمويين مستحيلًا طالما أن هناك مقولات في الكتب الدينية تتعلق بالغيب الذي لا يمكن إدخاله المختبر والتجريب عليه، فإنه لا مجال لاتخاذ أي منها مصدرًا من مصادر العلم، وإلا تم تزييف العلم أو هدم نظرياته. فكل ما تشير إليه الكتب السماوية من كائنات غير مرئية أو بعض القصص التاريخي الذي لا يخضع لاختبارات العلم الوضعي المعاصر لا يملك أحد -في نظرهم- إعطاءه الصفة العلمية، ولذلك خرجت اليونسكو على العالم بتعريف للمعرفة ينص على أنها: (كل معلوم خضع للحس والتجربة).

إن هذا المنطلق يصدر عن فهم خاطئ لم يلاحظ قضية «الجمع بين القراءتين» فغاية «الجمع بين القراءتين» أن تنتهي إلى «فهم كوني» للوجود لا يقتصر على القراءة الثانية بمفردها. فلو اكتفينا بالقراءة الثانية فقط لبقينا في حدود الإطار الوضعي للفكر الإنساني ومقولاته. ولمارسنا مفهومًا يعتمد على تفكيك الظاهرة وتجزئتها انطلاقًا من الجدلية العلمية المعاصرة واحتماليتها ونسبيتها، وهنا تبرز محاذير القراءة الثانية المنفردة، إذ إنها تنتهي بنا إلى فكر وضعي جزئي لا الى فكر كوني. أما حين نجمع القراءة الثانية مع الأولى، فإننا نعرج من الجزئي الموضعي المحدود إلى الكلي في إطلاقه الكوني بما فيه من ظواهر مرئية وغير مرئية، فكل رفض لما يسمونه بالغيبيات والماورائيات هو رفض للقراءة الأولى. القراءة الكونية -في الوحي- باسم الله خالقًا، فالوحي كلي يستوعب الجزئي، والقراءة الأولى تأخذ بعين الاعتبار كل الغيبيات والماورائيات على أنها جزء أساسي في المنهج، لا بوصفها مجرد مسلمات يجب الإيمان بها فقط، ولكن بوصفها دليلًا على وجود كوني أكبر من معطيات القراءة الثانية، وهذا ما يعطى الخلق حقيقته الكونية المتكاملة. فاستبعاد الغيبيات هو استبعاد للقراءة الأولى التي نجد دلالاتها على مستوى الوجود والخلق الكوني، فهي ليست أساطير أوَّلين كما يتوهم البعض، بل هي أمور ثابتة بأدلة كافية للتدليل على وجودها، وإذا لم نأخذ بدلالاتها فذلك قد يردنا إلى القراءة الثانية الوضعية المتفردة، فلا يَسمح لنا ذلك بمعرفة التاريخ الكوني في معناه الحقيقي. فالقراءة الأولى لا تطلب فقط منا الإيمان بوجود الله، ولكنها توجه إلى ألوهية الله وهيمنة كلماته على التكوين الكوني وارتباط المصير الإنساني بالتخليق الكوني كله، أي منهجية الخلق المستوعبة لمنهجية الأشياء الموضوعية التي نتعلمها بالقلم.

إن العالم ليخرج من أزمته الفكرية والحضارية يحتاج إلى إدراك البعد الكوني بمعناه الغيبي في تركيب الوجود ومصيره، وتلك هي مهمة القراءة الأولى التي تبدو للبعض قراءة يجب استبعادها من الدائرة العلمية، لأنها قراءة في الوحي الذي استبعدوه، وعلينا أن نرد الإنسانية إليه ردا جميلًا.

خاتمة:

وبعد: فهذه قضية «الجمع بين القراءتين». وإن شئت أطلقت عليها النظرية، قضية تعرض إليها بإيجاز بعض كبار علمائنا أمثال الحارث المحاسبي، وأبي طالب المكي وإمام الحرمين والفارابي والغزالي والرازي وابن حزم والقاضي عبد الجبار الهمداني. كما تجد شذرات تنبه إليها في الموسوعات الأصولية. وتنادى لها الإصلاحيون في إطار اتجاهات «المقاربات الفكرية» للفكر الوافد: الشيخ محمد عبده، ومحمد إقبال، ومصطفى صبري، وغيرهم. فلم تأخذ حظها من التداول بين أهل العلم لتنضج، وتستوى على سوقها، وتبرز جوانبها. وزاد في وضع الحواجز بين العقل المسلم وإبرازها منهاجًا، أو محددًا منهاجيًا ما عُرف بالإعجاز العلمي، وقد رأيت أن الشقة بين «الجمع بين القراءتين» و«الإعجاز العلمي» بعيدة جدًا.

ولعل من أهم معاصرينا الذين تناولوها الأخ محمد أبو القاسم حاج حمد المفكر السوداني -يرحمه الله- الذي قدمها في إطار فلسفي. ونحن إذ نقدمها لأمة القرآن اليوم بهذه الحلة مترسمين خطى من سبقنا فإن لنا كبير الأمل في أننا قد أبرزنا أهميتها في محور المنهجية القرآنية وأظهرنا كونها موضوعًا شديد الأهمية عظيم الخطر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* منقول بتصرف من:

الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي وقراءة الكون/ طه جابر العلواني. ط. 1. القاهرة: مكتبة الشروق الدولية. 2006. (دراسات قرآنية؛ 2). ص ص. 14 – 76.

** أستاذ أصول الفقه في عدد من الجامعات العربية والإسلامية، شارك في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي.

[1] أبدى الأصوليون اهتمامًا شديدًا بدلالة السياق. فالسياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد… وذلك لأن دلالة النصوص نوعان: حقيقية وإضافية، فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته وهذه الدلالة لا تختلف. والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها. وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك…. راجع بدائع الفوائد لابن القيم (٩١٤-١٠) وإعلام الموقعين (٣٥٠/١- (٣٥١) وقد أوردت ابنتنا د. رقية العلواني تفاصيل مهمة في دلالة السياق، فراجع ذلك في رسالتها القيمة أثر العرف في فهم النصوص: قضايا المرأة أنموذجا رسالة دكتوراه طبع ونشر وتوزيع دار الفكر في دمشق عام ١٤٢٤ هـ / ٢٠٠٣ ص ٢٦٠ – ٢٦٥. وكذلك رسالة صديقنا د. إبراهيم أصبان التي نال بها درجة الدكتور بعنوان دلالة السياق في القرآن لم تطبع طبعة عامة.

[2] أما السباق: فهو لصيق جدا بالسياق، وكبير الأثر في إدراك المناسبات، وهو ربط الكلمات والآيات والسور بما يسبقها، وحسبانها حلقة في سلسلة مترابطة.

[3] نحو القرطبي الذي عد «اقرأ» الثانية توكيدًا، وجعلها تمام الآية الأولى (۲۰ / ۱۱۹) والألوسي (۲۹ / ۱۸۰). ويشير عدم ذكر فعل «اقرأ» الثانية لدى الطبري إلى حسبانها مرادفا، أو توكيدا فراجع (۹۲) / ٢٥٣) منه. أما الرازي فقد أعطى لكل من الفعلين معنى يخصه فقال – ناقلًا عن بعضهم: اقرأ – أولًا – لنفسك. والثاني للتبليغ أو الأول للتعلم من جبريل والثاني للتعليم. أو اقرأ في صلاتك والثاني خارج صلاتك، فانظر تفسيره (٣١ / ١٦). وقال البغوي في تفسيره معالم التنزيل»: «اقرأ: كرره تأكيدا، ثم استأنف.. وربك الأكرم (٤ / ٢) أما ابن كثير فلم يذكر عن «اقرأ» الأولى والثانية شيئًا (٨ / ٤٥٩) ط دار الشعب القاهرة. وذهب ابن الجوزي في زاد المسير (٩ / ١٧٦) إلى أنها للتوكيد كذلك. وابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير (۲۰ / ۱۳۳) أورد ثلاثة أقوال: الثاني منها: … أن الباء في باسم ربك للمصاحبة، والمجرور في موضع الحال من ضمير «اقرأ» الثاني مقدمًا على عامله للاختصاص – أي: اقرأ ما سيوحى إليك مصاحبا قراءتك اسم ربك. فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة الجلالة، ويكون هذا إثباتًا لوحدانية الله بالإلهية….. وهذا هو الأقرب لما ذهبنا إليه. وأما الطوسي فقد اعتبر الباء زائدة، ومفعول اقرأ اسم ربك وأما «اقرأ الثانية فمفعولها المقدر هو «القرآن» فانظر التبيان (۱۰ / ۳۷۹).

[4] راجع تفسير الرازي فقد ضعف ما ذهب إليه جل المفسرين من القول بزيادة «الباء» في باسم ربك ورجح أن الباء ليست زائدة وذكر لها ثلاثة أوجه (٣١ / ١٣، ١٤) ط دار الفكر. وانظر التحرير والتنوير (٢٠ / ٤٣٦) وذكر أن الباء» للاستعانة أو المصاحبة أو بمعنى «على»، وذلك قريب مما ذكر الفخر. ومثله في روح المعاني للألوسي (۲۹) (۱۷۹) ط مكتبة دار التراث – القاهرة بدون تاريخ. وقال الطباطبائي في الميزان: «إن الباء للملابسة» (۲۰ / ۳۲۳).

[5] اشارة لحديث بدء الوحي الذي أخرجه البخاري في باب: كيف بدأ الوحي إلى رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلّم – وقول الله – جل ذكره -: (إِنَّا أوحينا إلَيْكَ كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) [النساء: ١٦٣]. الحديث رقم (۲و ۳).

[6] أرسطو: فيلسوف شهير ومعلم يوناني يُعد من أهم فلاسفة اليونان القدماء، ترجم فلاسفة المسلمين تراثه الفلسفي، والمنطقي، وأعجب الكثيرين منهم، حتى إنهم قد لقبوه بالمعلم الأول». (٣٨٤-٣٢٢) ق. م.

[7] نيوتن، إسحاق: فيزيائي إنكليزي صاحب قانون الجاذبية العام وقوانين الحركة. (١٦٤٢-١٧٢٧) م.

[8] إشارة إلى قوله: تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أشركنا ولا آبَاؤُنَا وَلا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا باسنا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْم فتخر ترجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون﴾ [الأنعام: ١٤٨].

[9] عني بـ منهجية القرآن المعرفية المنهج الذي يقدمه لنا القرآن المجيد في شكل محددات وسن قوانين يمكن استنباطها من استقراء آيات الكتاب الكريم تلاوة وتدبرًا وترتيلًا وتنزيلًا وتفكرًا وتعقلًا وتذكرًا، ثم التعامل مع هذه المحددات تعاملًا يسمح لنا بأن نجعل منها محددات تصديق وهيمنة، وضبط لسائر خطواتنا المعرفية، ومنها: تصحيح مسار المنهج العلمي، وإخراج فلسفة العلوم الطبيعية والاجتماعية من مضايق النهايات التي تتوقف عندها الآن. وفي مقدمة هذه المحددات الجمع بين القراءتين» و«الوحدة البنائية للقرآن… إلخ.

[10] الذي يتردى فيه المنهج والمعرفة على حد سواء، فأزمة المنهج وفلسفة العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية أصبحت تقض مضاجع العلماء.

* للأخ الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد كتاب مطبوع يحمل هذا العنوان.

[11] لمعرفة تفاصيل المراد بالوحدة البنائية، وكيفية استعمالها بحسبانها محددًا منهاجيًا ونشأتها وسيرورتها أفردناها بدراسة نشرت ملخصه في مجلة الكلمة عدد (٤٣) ربيع (٢٠٠٤).

[12] راجع كتب الأستاذ عبد الحميد الفراهي الإصلاحي يرحمه الله سلسلة دراسات في التأويل وعلوم القرآن، منها حلقة خصصها للحديث عن «عمود السورة» أكد فيها: أن كل سورة لها عمود لابد للقارئ المتدبر من الكشف عنه ليدرك معانيها، وما اشتملت عليه من موضوعات. وقد نشرت هذه الدراسات المكتبة الإصلاحية في عليكر في الهند. وأعادت نشر بعضها دار الغرب الإسلامي.

[13] على ما في مسئولية التأويل: ص ۱۳۹ وما بعدها للدكتور مصطفى ناصف القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، ١٣٢٥ هـ ٢٠٠٤م. وقد أحسن تناول هذا النوع وأتقنه كل من الشيخ الراحل محمد عبد الله دراز في كتابه «النبأ العظيم» ود. منى أبو الفضل في كتابها نحو منهاجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي.

[14] تشتمل الأمثال القرآنية على أحكام وتشريعات، كما تشتمل على خلاصات التجارب والخبرات. وإن جاءت على غير ما عهد في آيات الأحكام والتشريع من أساليب، ولهذا فقد عد الإمام الشافعي الأمثال القرآنية مما يجب على المجتهد معرفته، فقال – وهو يبين مؤهلات المجتهد العلمية.. طاعته المثبتة لاجتناب معصيته ثم معرفة ما ضرب فيه من الأمثال الدوال على فجعلها بذلك جزءًا مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن» كما في الإتقان (2/ 131). وذكر الماوردي…. أن من أعظم علم على ما في البرهان للزركشي (1/ ٤٨٦) القرآن علم أمثاله والناس في غفلة عنه والإتقان (2/ 131).

ونقل السيوطي عن الشيخ عز الدين قوله: إنما ضرب الله الأمثال في القرآن تذكيرًا ووعظًا، فما اشتمل منها على منها على تفاوت في الثواب، أو على إحباط عمل، أو على مدح أو ذم، أو نحوه، فإنه يدل على الأحكام (الإتقان: ۱۳۱/۲). وقال ابن خلاد الرامهرمزي: “… أمثال التنزيل التي وعد الله – عز وجل – بها وأوعد وأحل وحرم، ورجى وخوف، وقرع بها المشركين، وجعلها موعظة وتذكيرًا، ودل على قدرته مشاهدة وعيانا، وعاجلًا وأجلًا، ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم…” على ما في مقدمة أمثال الحديث للرامهرمزي، وراجع الأمثال في: القرآن الكريم / لأخينا الراحل د. محمد جابر الفياض. – ص ٢٦٦.

[15] راجع الوحدة البنائية مصدر سابق.

[16] المرجع نفسه.

[17] الإعجاز العلمي كان قد بدأه – فيما نعلم – الإمام فخر الدين الرازي بتفسيره مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير، ولكنه شاع – أخيرًا – وانتشر بين المتأخرين وقامت على أساس من خدمته مؤسسات كثيرة، وكتب فيه كاتبون، ومع إقرارنا بفوائده في تعزيز إيمان بعض من استولت عليهم ثقافة العصر، وصار إسقاط ثقافة العصر على القرآن وتعزيز موقعه بها مريحًا لهم، ومخرجًا لهم من الحيرة والتردد بين القرآن وثقافة العصر فإننا نربأ بالقرآن أن يدور حول ثقافة العصر القلقة المترددة، وعلومها المتذبذبة بين اليقينية والنسبية والاحتمالية. إن قصارى ما يقدمه الإعجاز العلمي، أن يجعل القرآن مساويًا لثقافة العصر يحاول الحصول على تأييدها ومباركتها، وذلك سوف يخدم ثقافة العصر، ويروج لها بين المسلمين أكثر مما يخدم القرآن المجيد نفسه، وذلك يصادم القول بإطلاقية القرآن، ويسقط عليه نسبية واحتمالية ثقافة العصر. وإذا كان العلم قد تحول في قرن واحد أو أكثر قليلًا من اليقينية إلى الاحتمالية والنسبية، ومن السببية الصلدة الجامدة إلى السببية السائلة فما الذي سوف يحدث للقرآن وصفاته إن نحن أسقطنا ثقافة العصر عليه؟! أما الجمع بين القراءتين ومنهجية القرآن المعرفية فإنها على النقيض من ذلك تجعل القرآن هو المصدق على ثقافة العصر وعلومه ومناهجه، وهو الذي يقرر صلاحية الصالح منها، أو عدم صلاحيته، وهو المهيمن عليها، والحاكم فيها، والله أعلم.

[18] وحديث: “… لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتي هذه” صحيح مسلم / تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. – دار إحياء التراث، رقم الحديث (۱۲۹۷)، (ج۲، ص ٩٤٣) تجده فيه بتمامه وبلفظ آخر. وحديث: “…. وصلوا كما رأيتموني أصلى…” صحيح البخاري / تحقيق مصطفى دیب. – دار ابن كثير واليمامة – ط ٣، ١٤٠٧هـ، رقم الحديث فيه (٢٢٦)، ص ٦٠٥) فراجعه بتمامه فيه. وراجع المحصول للإمام الرازي بتحقيقنا (٣ / ٢٤٣ و٢٥٠).

عن طه جابر العلواني

شاهد أيضاً

علم المناسبة في القرآن الكريم

أ. شوقي البوعناني

يمكن التمييز ضمن علوم المناسبات في القرآن بين صنفين من المناسبات أحدهما يتعلق بمناسبة اللفظة للسياق الذي يكتنفها، وهو ما يجمعه مبحث تناسب الفواصل.

الإسلام والنسوية ونساء غزة

أ. منال يحيى شيمي

شرعت في كتابة هذا المقال في محاولة للاقتراب من مفهوم "النسوية الإسلامية" وتحديد موقعه على خريطة النسوية العالمية والتعريف به وتحديد الموقف منه من منظور حضاري إسلامي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.