السنن الربانية في التصورالإسلامي

العنوان: السنن الربانية في التصور الإسلامي.

المؤلف: راشد سعيد شهوان.

الطبعة: ط. 1.

مكان النشر: عَمَّان.

الناشر: الأكاديميون للنشر والتوزيع.

تاريخ النشر: 2009.

الوصف المادي: 2 مج.؛ 24 سم.

الترقيم الدولي الموحد: 3-19-449-9957-978.

كتاب “السنن الربانية في التصور الإسلامي” للدكتور راشد سعيد شهوان، رئيس قسم الدعوة وأصول الدين بكلية أصول الدين (جامعة “البلقاء التطبيقية” بالأردن)، ليس كتابًا عاديًا، بل هو عالمٌ فسيح، تتجول فيه، فيعطيك الرؤية والتصور، ويرشدك إلى المنهج والطريق في كيفية التعامل مع قوانين وسنن الله الموجودة في الكون، والتاريخ، والشريعة، والنفس، والآفاق.

الكتاب المنشور في عام 2009، الصادر عن “الأكاديميون للنشر والتوزيع” بمدينة عمَان (الأردن)، هو في الأصل رسالة علمية، نال مؤلفها درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف من كلية الشريعة بجامعة “الإمام محمد بن سعود الإسلامية” بالرياض، عام 1991.

هذا “العالم الفسيح” المؤلَف من جزء أول (536 صفحة) وجزء ثانٍ (454 صفحة)، كان مُقدرًا لي التعايش معه قُرابة نصف عام. هو “عالم” لم أتطرق إليه من قبل، سواءً علميًا، أو أكاديميًا، أو معرفيًا، أو ثقافيًا. وكيف أتطرق إليه، وهو موضوعٌ بعيدُ كل البعد عن مناهجنا التعليمية، سواءً العربية أو الغربية؛ بعيدٌ كل البعد عن ثقافتنا الغارقةً في عبادة “اليوم الواحد” و”الاستعجال” و”السرعة” و”الأنا” و”المادة” و”اللذة”؟ فكيف لمثل تلك الثقافة أن تفرز أو تنتج فكرًا راقيًا متأملًا في سنن الله وقوانينه؟

عشت قُرابة نصف عام مع ألف صفحة تقريبًا، قراءةً وتفكرًا ودراسةً وفحصًا وتدبرًا ونقلًا، وتلخيصًا، واستقراءً، واستنباطًا. لم يكن جهدًا بسيطًا، ولا سيما مع مؤلفٍ كان مهتمًا بالتفاصيل الدقيقة، كاهتمامه بالكليات؛ وهو الأمر الذي أضفى قدرًا من المعاناة بالنسبة لي. فالسعي نحو هضم وجمع تلك التفاصيل، من أجل تبويبها بعد ذلك، ثم إلحاقها ودمجها تحت الفرضيات الكبرى، لم يكن بالأمر السهل.

اختار المؤلف هذا الموضوع، الماثل أمامنا، متناولًا ومعالجًا ذلك المنهج الفكري المعتل الذي اعترى أمتنا الإسلامية منذ قرون، فإصلاح منهج التفكير هو أساس النهوض؛ “وكل أمةٍ لا تصلح منهج تفكيرها لن تستطيع النهوض أو التحرك للأمام”.

وقد تمثل هذا الاعتلال الفكري – كما يرى المؤلف – في النظرة الخاطئة والسطحية لمفهوم السنن الكونية، باعتبارها “علمية” ومن ثم معارضتها للدين؛ وهي نظرة بعيدة كل البعد عن أصول ديننا الحنيف. فكانت النتيجة أن تم نبذ تلك السنن، تدريسًا وتثقيفًا وتعليمًا وإعلامًا وبحثًا وتنفيذًا، فإذا بنا نجد مؤسساتنا التربوية “الإسلامية” تدرس مفهوم السنن الكونية من منظور الإعجاز اللغوي والأدبي فقط، دون المساس بالمنظور الاستخلافي العمراني الواسع. ساهم ذلك في إضعاف جذوة الإيمان لدى الأجيال المسلمة، مما جعل علاقتهم بالكون علاقةً مفككة مُختزلة. ومن ثم، كانت نقطة ارتكاز المؤلف هي وضع تلك النظرة المعتلة تحت المجهر، كاشفًا عن حقيقة السنن الربانية وأهميتها في قراءة الكون والتاريخ والإنسان قراءةً مبصرةً، والتحرك على ضوء هذا الفهم بأقل قدرٍ من الأخطاء.

وتصير أهمية البحث، كما جاء في المقدمة، في توضيح منهج القرآن والسُنة النبوية في التعامل مع السنن، والتأكيد على أن الهدي القرآني والتوجيه النبوي كانا القاعدة الأساسية التي انطلق منها المسلمون في حضارتهم؛ بل التأكيد أن القرآن هو أول من طرح على العقل البشري مسألة السنن التي تُسيّر حركة الكون والتاريخ. وهو الأمر الذي وضع حدًا للأساطير والخرافات التي كانت تسيطر على أذهان الناس قبل ظهور الإسلام. وفي ظل هذا التأكيد على تأصيل قضية السنن إسلاميًا، يتم تنبيه المسلمين إلى ضرورة معرفتهم بالسنن، وضرورة استثمارها في أمور معاشهم وعمرانهم وآخرتهم.

وقد واجه المؤلف، كما هو وارد بالمقدمة، تحديًا علميًا ومنهجيًا، إذ أنه لم يجد دراسات منهجية سابقة عن موضوع السنن الربانية في التصور الإسلامي. كل ما وجده كانت دراسات جزئية، تتناول السنن من منظور إيماني فقط. إذ ارتكزت مُجمل البحوث في هذا الموضوع على أثر الذنوب والمعاصي في هدم الأمم دون ترجمة ذلك إلى قوانين نفسية واجتماعية تهدف نحو إصلاح مراكز الخلل، وتحقيق التغيير المنشود. بمعنى آخر، لم تُشخص مسألة السنن بصورةٍ متكاملةٍ شاملةٍ مستقلة، وإنما تم عرضها بصورةٍ متفرقة، في مؤلفاتٍ عدة. فكان جديد هذا البحث، الماثل أمامنا، هو لمّ شتات تلك المتفرقات في موضوعٍ واحد متميز، مؤصلًا قضية السنن في التصور الإسلامي.

أما عن مناهج البحث، فقد تحدث المؤلف عن ثلاثة مناهج بحثية، قام باستخدامها:

  • تحليل مضمون لآيات القرآن والأحاديث النبوية لاستنباط ما أشارت إليه السُنن.
  • نقد تحليلي لما أورده المفكرون لبيان مدى اتباعهم للمنهج الإسلامي.
  • المنهج التاريخي الوصفي في دراسة أبرز المذاهب المادية التي تناولت السنن.

وقد جاء البحث في ثلاثة أبواب رئيسية:

الباب الأول: باب تمهيدي عن تحديد المصطلحات، وعن أنواع السنن وخصائصها وثمراتها من منظور إسلامي، ثم مقارنتها بالتصور المادي غير الإسلامي للسنن.

الباب الثاني: باب عن السنن الربانية في الكتاب والسُنة؛ أسسها ومصادرها؛ وعن منهج القرآن والسُنة النبوية في السنن وأثره.

الباب الثالث: باب عن جهود المفكرين المسلمين، القدامى والمعاصرين، في الكشف عن السنن وتطبيقاتها، بالتركيز على أربعة نماذج رئيسية: “ابن تيمية” و”ابن خلدون” من المفكرين القدامى؛ و”سيد قطب” و”مالك بن نبي” من المفكرين المعاصرين.

الباب التمهيدي

تحديد المصطلحات

يبدأ المؤلف بشرح مصطلح “السُنة” لغويًا واصطلاحيًا وثقافيًا. فأما لغويًا، فيتراوح المعنى بين معانٍ عدة، وهي: مُطلق الطريقة خيرًا أم شرًا، الطريقة المحمودة، جريان الشيء في يسرٍ وسهولة، العادة في الأشياء المتماثلة. وأما اصطلاحيًا، فيتعدد المفهوم بتنوع العصور. فاستُعمل المفهوم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى الطريقة، وما صدر عنه من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة؛ بينما توسع المفهوم في عهد الخلفاء الراشدين ليشمل تطبيقات الخلفاء الراشدين، بينما اعتبر المفهوم لدى الفقهاء فكرًا وليس نقلًا. أما ثقافيًا، فتُعتبر السُنة هي السُنة الربانية المضافة إلى الله تعالى، لا السُنة التشريعية المضافة إلى النبي عليه الصلاة والسلام ورسالته.

أما التصور الأقرب لمفهوم السُنة الربانية، فقد يراه المؤلف متمثلًا في “آيات الله تعالى في كونه وخلقه وعاداته في سالف زمانه، ومنهجه في عباده، على مقتضى مشيئته وحكمته وعدله”. 

وقبل دخوله في صلب البحث، يتطرق المؤلف إلى تفسير بعض المصطلحات الرئيسية التي يكثر ورودها في البحث. فكانت من أهم تلك المصطلحات: “الفكر” و”التصور” و”التاريخ” و”السببية” و”الحتمية”، قاصدًا من وراء ذلك وضع النقاط على الحروف من البداية بهدف إزالة أي لبسِ قد يطرأ على القارئ. فنجده يفسر “الفكر” بالعمل العقلي التدريجي على عكس الحدس الذي يأتي دفعةً واحدة. والفكر في الإسلام وليد العقل والاجتهاد والنظر؛ فهو عمل بشري يحتمل الصواب والخطأ، على عكس الدين الذي هو وليد الوحي الحامل للخبر الصادق المطلق، الخالي من أي خطأ. ومن ثم، فإن القرآن والسُنة النبوية (الوحي) بمثابة الخامات أو المشكاة التي يتعامل عبرها العقل الإسلامي لإنجاز “أرقى الصناعات الفكرية”. ويحذر المؤلف هنا من خطورة وفوضى الالتباسات بين الوحي والفكر، الأمر الذي قد يؤدي إلى النظر للوحي نظرةً تراثية، لا باعتباره دينًا من عند الله، له ثباته وقدسيته.

أما “التصور”، فيعني إيجاد الصورة الشاملة المتكاملة، وجمع الأجزاء المتناثرة، وربطها ببعضها البعض. وتكمن أهمية “التصور”، كما يؤكد “شهوان”، في ضبطه للحدود والتعريفات والموضوعات للمفكر الإسلامي؛ وهو ما يعكس مدى وطادة العلاقة بين الفكر والتصور من المنظور الإسلامي؛ وهو ما يفسر تباعًا وجود الكثير من الكتابات الإسلامية المعاصرة الناتجة عن الخلل في التصور.

أما بالنسبة لمصطلح “التاريخ”، فقد آل المؤلف إلى تفسير “ابن خلدون” الذي اعتبره أفضل من قدم تعريفًا لهذا المصطلح. فالتاريخ بالنسبة لـ “ابن خلدون” ليس أخبار الأيام والدول والسوابق فقط، إنما هو نظر، وتحقيق، وتفسير، وتعليل. فهو ليس ماضيًا فقط، كما اعتقد أسلافه، بل هو حركة للكون والبشر على سطح الأرض، وما يتبعها من تغيرات وتحولات. وتتمثل مهمة المؤرخ الإسلامي في اكتشاف السنن والروابط التي تربط الأحداث ببعضها البعض، في ظل فلسفة تاريخية مهتدية بالمصادر الشرعية، تنطلق من تصورات شاملة عن الله، والكون، والحياة، والإنسان. وقد جنح، بكل أسف، عدد غير قليل من المؤرخين المسلمين المعاصرين عن تلك الفلسفة الإسلامية، ليقوموا بتفسير التاريخ وفق المناهج الغربية.

“السببية” مصطلح آخر مهم، يقوم على العلاقة بين السبب والمسبب. وهنا يفصل “شهوان” فصلًا واضحًا بين السببية في المدرسة الإسلامية ونظيرتها في المدرسة المادية التجريبية. فبالرغم من اتفاق المدرستين على وجوب ربط السبب بالمسبب، إلا أن نقطة الاختلاف تكمن بينهما في تأثير الأسباب وفاعليتها. فبينما يؤمن الماديون بفعالية الأسباب المطلقة، باعتبارها تعمل بحركة ذاتية مستقلة عن عناية الله وقدرته؛ فنسبوا الظواهر إلى أسبابها المادية فقط؛ وهو ما ارتدت إليه المذاهب الوضعية الحديثة والفلسفات الوجودية، نجد على الجانب المناقض المؤمنين الموحدين بالله يؤمنون بخضوع الأسباب لمشيئة الله وإرادته؛ فهو سبحانه الخالق لهذه الأسباب ابتداءً، وهو من أودع فيها صفاتها، وهو مَن يُسيّرها، وهو مَن يُعطلها إن أراد (مثل تعطيله سبحانه وتعالى لسبب أو قانون حرق النار في قصة إبراهيم عليه السلام، وكذلك تعطيله لسبب أو قانون الزواج في حمل السيدة مريم بعيسى عليهما السلام).

فالسبب أو القانون بالنسبة للتصور الإسلامي ليس قوةً مدركةً أو عاقلةً أو مبدعةً؛ واكتشاف المرء للقانون ليس معناه أنه هو الذي أوجده؛ بل إن اكتشافه هو بعينه تفسير لسنن الله في خلقه. وقد أقام الله تعالى الحياة الدنيا على قاعدة ربط الأسباب بالمسببات ارتباطًا موضوعيًا لإنقاذ الناس من الخرافات والأساطير.

وأخيرًا، تعرض المؤلف إلى مصطلح “الحتمية” determinism – الذي أنتجه الفكر الغربي الحديث، وبالأخص David Hume – والذي يتمثل في ربط الظاهرة بعلتها ربطًا حتميًا ضروريًا قهريًا؛ فيصير وقوع الظاهرة مستحيلًا في غياب تلك العلة؛ وتصير الأخيرة حادثة سابقة على الظاهرة سبقًا مُطردًا. ويتم في ذلك، التركيز فقط على العلل الفاعلة الخاضعة للقياس الكمي، بينما يتم التغاضي عما عاداها من العلل غير الملموسة أو المحسوسة. وكما يشير “شهوان”، فإن “الحتمية” تفسير جديد للعلية، لا يقتصر فقط على فاعلية الأسباب، بل حتميتها.

أنواع السنن وخصائصها

يبدأ المؤلف فصله الأول، من الباب التمهيدي، بتناول أنواع السنن الربانية، إذ يؤكد انقسامها (في معناها الثقافي) إلى سنن كونية، وتاريخية، وتشريعية، وإنسانية.

فأما السنن الكونية، فهي مجموعة القوانين التي يُسيّر وفقها الكون، والتي يستفيد منها الإنسان، فيسخرها لخدمته وخدمة البشرية؛ وتتمثل أهميتها في كشفها الذي يؤدي إلى سعادة الإنسان، وتحقيق هيمنته وخلافته للأرض.

وأما السنن التاريخية، فهي – كما ورد في البحث – “مجموعة القوانين والقواعد التي تحكم سير الأمم في بقائها أو زوالها، وفي صعودها أو انحطاطها وفق عادات الله تعالى ومشيئته المطلقة”. وتكمن أهمية السنن التاريخية في كونها تعلمنا ماهية التاريخ البشري باعتباره “مدرسة الاعتبار الزمني”، وليس فوضى تتحرك دون هدف.

وأما السنن التشريعية، فهي “مجموعة القواعد والقوانين التي رسمها الله تعالى لعباده من أجل صلاحهم في الدنيا وفلاحهم في الآخرة، على مقتضى حكمته ومشيئته المطلقة”. وأهمية السنن التشريعية تكمن في إحاطتها بحياة الإنسان كلها، دنياه وآخرته؛ فاستمساكه بها يؤدي إلى فلاحه في كلتا الدارين، وتفريطه يؤدي حتمًا إلى خسرانه.

وأخيرًا، نجد السنن الإنسانية مشتملةً على القوانين المتعلقة بالطبيعة البشرية التي تحكم الإنسان؛ فـ”تنظمه في داخله وخارجه بجوانبه المتعددة، على تقدير الله وحكمته”. واتباع تلك السنن يوجد الإنسان القويم في عقله وجسمه ونفسه، المقبل على الله، المتمتع بقلبٍ ساكنٍ وعقلٍ فاعلٍ وإرادة حاضرة.

ويؤكد المؤلف أن كمال الأمم متمثل في الجمع بين تلك السنن كلها؛ وأن مخالفة قوانين الله في أيٍ من تلك السنن يؤدي إلى الهلاك والانهزام في معركة الحياة. “من شذ عن سنن الله في هذا الوجود فهي له بالمرصاد”.

وتجمع السنن الربانية خصائص عدة؛

منها الربانية المتمثلة في إلهية المصدر والمنهج، وربانية الغاية والوجهة؛ إذ تشهد السنن بوحدانية الله الكاملة وربوبيته المطلقة؛ وحيث تقوم على عدل الله وحكمته، وفق ما يريده الله، لا وفق ما تريده أهواءنا، أو ما يمليه علينا الوهم أو الصدفة.

ومن خصائص السنن الربانية، أنها مُسخرة للبشر وقابلة للكشف الآدمي؛ إذ ما كان للإنسان أن يستفيد منها لولا تسخير الله له إياها، وجعلها قابلة لخدمته. فقد سخر الله له العقل والحواس والإدراك، ليستطيع التعامل معها تعاملًا إيجابيًا؛ وسخر له الطبيعة مُسبقًا ليُعمرها على عناية الله ورعايته.

ومن خصائص السنن الربانية أيضًا الثبات، فيما عدا السنن الكونية والإنسانية التي قد تنخرق لحكمةٍ يريدها الله عز وجل، مثل مكوث نبي الله يونس عليه السلام في بطن الحوت حيًا، خلافًا لقانون التنفس الطبيعي (سُنة إنسانية).

وكذلك خاصية الاطراد والتلازم، التي تعني استمرار السنن وعدم تخلفها، وهو ما تدل عليه كلمة “بالحق” التي ترِد كثيرًا في القرآن. فقد أقام الله الكون على الحق، جاعلًا إياه منتظمًا ومُسخرًا للإنسان، وهو ما يناقض مفهوم “الحتمية” في التصورات الغربية الحديثة. ولولا خاصية الاطراد والتلازم في الكون لما استطاع الإنسان الخليفة أن يستشف شيئًا من هذا الكون، ولوجده أمامه غامضًا مقفولًا. وقد نجد هذا الاطراد ماثلًا أمامنا في السنن التاريخية التي تسير وفق قوانين أخلاقية مطردة، حتى إذا حدثت، أنزل الله سننه دون استثناء لأحد.

وأخيرًا، نجد خاصية التوازن والاتساق التي تجعل الكون موزونًا، محكومًا بدقة فائقة، من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة سماوية. فمن خلال هذا التوازن والاتساق، يحقق الله المنفعة التي أرادها الله لعباده، “إنما كل شيء خلقناه بقدر” (القمر، 49). ولننظر مثلًا في تلك الرابطة التعاونية التكاملية التي أوجدها الله بين الإنسان والنبات والبحر في عملية التنفس التي تعتبر من أهم عناصر الحياة.

ثمرات السنن النظرية والعملية

ويمضي المؤلف في تناوله للسنن الربانية، ناقلًا حديثه إلى “ثمرات” السنن؛ مؤكدًا أن الإيمان بسنن الله أفضى إلى ظهور منافع نظرية وعملية، كان لها عظيم الأثر على الإنسان، بل على البشرية قاطبةً. فأما الثمرات النظرية، فقد تمثلت في مقاومة التفكير الخرافي، وفي الدعوة إلى التدبر والنظر العلمي البحثي بدلًا من التشدق بالأوهام والأساطير والخرافات والبدع التي لا تستند إلى دليلٍ أو برهان.

فقد تحدث القرآن عن تاريخ الكون والإنسان، ليربط المسلم بعقيدة التوحيد بدلًا من ربطه بالتنجيم والحظ والظن؛ وبدلًا من ربطه بالقصص الخرافية التي لم تخل الأساطير القديمة منها. لقد دعا القرآن إلى العقيدة عبر التفكر والنظر العلمي في السنن الكونية، “فلينظر الإنسان مم خُلق” (الطارق، 5). فصارت عقيدة التوحيد قائمةً على الدليل والبرهان اللذين يلبيان مطالب العقل والفطرة، لا مطالب الشعوذة والدجل.

أما بالنسبة للثمرات العملية للسنن الربانية، فقد تمثلت أولًا في التقدم العلمي المشهود اليوم، نتيجة للمجهود البشري في فهم الكون وتسخير قوانينه في عمارة الأرض. وتمثلت ثانيًا في استبصار مصائر الأمم عبر السنن التاريخية، والوقوف على أسباب زوالها أو بقائها. وتمثلت ثالثًا في السعي نحو تحقيق العبودية لله عبر التطبيق العملي والكلي لشرع الله، والنظر في الأمم التي حادت عن السنن التشريعية، وما لحق بها تباعًا من تيهٍ وخراب. وتمثلت رابعًا في السعي نحو كشف قوانين الطبيعة البشرية “وفي أنفسكم أفلا تبصرون” (الذاريات، 21)، وترجمة ذلك إلى نظريات تربوية ومناهج دراسية. وأخيرًا، تمثلت في بناء حضارة إسلامية شاملة، أقامها المسلمون طيلة عشرة قرون، حملوا معها لواء المعرفة العلمية والفكرية والصناعية. جميع تلك “الثمرات” تحققت نتيجة التزام المسلمين بجميع السنن الربانية، على مدار العشرة قرون الأولى من بعد الهجرة. أما ما حدث بعدها، فكان النقيض تمامًا.

بالنسبة للسنن الكونية، فقد كان التزام الغرب بها مشهودًا، ولكن دون التزامه بالسنن التشريعية، فانتكس روحيًا وأخلاقيًا ومجتمعيًا، بينما فعل المسلمون العكس، في بداية الأمر؛ فاستُلبت منهم الأمانة واستُودعت لغيرهم؛ “فإن الله لا يوقف عمارة الأرض وحركة الحياة من أجل عيون الذين ارتدوا على أدبارهم”. أما بعد ذلك، فقد انتقل تقصير المسلمين إلى السنن التشريعية، بجانب الكونية.

وبالنسبة للسنن التاريخية، فقد سقط فيها المسلمون أيضًا، و”بجدارة”، حينما أسقطوا الأندلس بأنفسهم، جراء خروجهم عن قوانين الله التاريخية، إذ اجتمعت فيهم حينذاك كل عناصر الفناء والسقوط، من خيانةٍ وارتكان إلى ملوك الفرنجة، وانقسام في عهد ملوك الطوائف؛ فحقت كلمة الله بسقوط الأندلس، ولن تجد لسُنة الله تبديلا. وليت المسلمين انتفعوا من ذلك الدرس التاريخي الأندلسي؛ لا لم ينتفعوا، بل ظلوا غاضين الطرف عن “الدرس” و”العبرة” و”السُنة”.

وبالنسبة لمجال السنن التشريعية، فقد شهد أيضًا سقوطًا واضحًا للمسلمين. فإذا كان هناك – في يومٍ ما – ترابط وثيق بين القيم الإيمانية وواقعيات الحياة العملية في ظل ازدهار الحضارة الإسلامية، مما أدى إلى حلول الحياة الطيبة في الدنيا، وتحقيق خلافة الإنسان بما يرضي الله، فإن ذلك الترابط لم يستمر. نعم، لقد كان من ضمن أسباب أفول الحضارة الإسلامية، حياد المسلمين عن السنن التشريعية، وانصرافهم عن تطبيق تشريعة الله في مجتمعاتهم، ففسدت حياتهم وخربت، كما حدث مع الحضارات الأخرى…الإغريقية والرومانية وغيرها. لم يحذر المسلمون من آثار مخالفة تلك السنن، كما لم يحذروا من آثار مخالفة السنن الكونية والتاريخية.

وأخيرًا، بالنسبة للسنن الإنسانية، المختصة بالطبيعة البشرية، فقد أضحى بالمثل تقصير المسلمين واضحًا.  فلا يزال هذا المجال أقل تقدمًا عن غيره في حل مشكلات الإنسان ومداواتها. ولا تزال هناك الحاجة الماسة لترجمة ذلك إلى نظريات تربوية ومناهج مدرسية.

ومُجمل القول، لقد استطاع المسلمون، طيلة عشرة قرون – بامتثالهم للسنن الربانية كلها – بناء حضارة شاملة قوية ربانية؛ ثم تخلفوا تخلفًا واضحًا بعد تخلفهم عن تلك السنن. فجاء أو هجم الغرب، متقدمًا في جميع المجالات (العسكرية والاقتصادية والعلمية والتقنية)، مُزيحًا الحضارة الإسلامية برمتها، مُفتِتًا العالم الإسلامي إلى كياناتٍ متناحرة، تُرسَم حدودها على أيدي قوى الاستعمار الغربي. باختصار، لقد اكتفى المسلمون بالإيمان، نابذين مهامهم الاستخلافية وراء ظهورهم، تاركين مهام الكشف عن سنن ونواميس الكون والنفس والتاريخ للغرب؛ وهو الأمر الذي أخل بالتوازن الحضاري القائم على ركنين أساسيين: التمدد الروحي والأخلاقي والتطور المادي…فكان السقوط لازمًا.

وحتى يستكمل “شهوان” حديثه عن السنن الربانية من منظور إسلامي، كان ولابد أن يقوم بإدراج المنظور المناقض للسنن، المنظور الغربي المادي؛ فيظهر ويتجلى البون الشاسع بين المنظورين أو التصورين. وهو ما فصله في الفصل الثالث، من الباب التمهيدي، تحت عنوان “التصور المادي للسنن”.

التصور المادي للسنن

بادئ ذي بدء، فإن تاريخ التصور المادي يرجع بجذوره إلى الحضارتين الإغريقية والرومانية؛ فهما الأصل في تدشين الفكر المادي الذي يقول إن المادة هي أصل الوجود وأوله، وهي السابقة عن الفكر والوعي. فلا اعتقاد في غيب، أو إله، أو أنبياء، أو رسالات سماوية. وما الفكر المادي الحديث، الذي شاع في عصر النهضة، ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي، إلا نتاج الفلسفة اليونانية القديمة. وكان من أهم أسس الفكر المادي فكرة الـDialectic  “الديالكتيك” التي أوجدها Heraclitus، لتصير منهجًا لمعرفة الحقيقة؛ وهي فكرة تعني “الجدل” أو “الصراع بين الأضداد”. فاعتبر “الجدل” هو التطور المنطقي الذي يوجب ائتلاف قضيتين متناقضتين، ثم اجتماعهما في قضيةٍ ثالثةٍ تمثل الحقيقة. ومن هنا نشأت نظرية “المادية الديالكتيكية” (المقابلة بين الأضداد)، على اعتبار أن التضاد هو خير وسيلة لتفسير حقيقة الكون التي لا تخرج عن المادة. وقد استغل الماركسيون قوانين المادية الجدلية في مجال التفسير الاجتماعي، فحولوا الصراع بين الأضداد إلى صراعٍ بين الطبقات المجتمعية.

وقد نشأ التصور المادي الحديث، كما يشير الكتاب، نتيجةً لتحريف العقيدة المسيحية في القرن الثالث الميلادي؛ إذ استفز هذا التحريف غير المنطقي العقل الغربي نحو التمرد على الكنيسة، والتشكك في الدين المسيحي في ذاته، مما قاد إلى بعث الحركة العقلانية التي انقلبت على فكرة الدين كلها.

وقد بدأت القصة بإدخال عقيدة التثليث التي كان الهدف منها هو جذب الوثنيين إلى الدين المسيحي. وقد أدى نقل المسيحية من التوحيد للتثليث إلى بلبلة المسيحيين، خاصة في ظل رفض الكنيسة مناقشة تلك البلبلة مع الناس. وساعد على دعم هذا التشكك طغيان الكنيسة دينيًا، باحتكارها حق قراءة وتفسير الكتب المقدسة، وطغيانها سياسيًا بفرض نفسها وصيةً على الملوك والأمراء لتحقيق مصالحها الشخصية، وطغيانها اقتصاديًا باستخدام سلطانها الروحي لابتزاز أموال الناس، وطغيانها علميًا بقهرها للمفكرين والعلماء مخافةً أن يوقظوا الناس.

وأسفر ذلك كله عن ظهور علماء أوروبيين (في القرن السابع عشر الميلادي) مناهضين للكنيسة، مثل Newton الذي وضع أساس الفكر المادي الغربي في أوروبا عبر نظريته عن “المادية الميكانيكية (الساكنة)” التي امتدت إلى جميع العلوم، والتي افترضت سير الكون وفق آلية ميكانيكية ساكنة بحتة، لا علاقة لها بإله أو خالق. ورُغمًا عن استمرارها عقودًا طويلة، إلا أنها بدأت في التهاوي، لعجزها في تفسير ظواهر كثيرة؛ مما أفضى إلى ظهور النظرية “المادية الديالكتيكية” بدلًا منها، لتقول إن الطبيعة ليست ساكنةً وإنما متحركةً ومتطورةً دائمًا.

وقد استغل اليهود ثورة أوروبا ضد الدين المسيحي، ليمحوا بها كره الكنيسة المتأصل لليهود، مستخدمين في ذلك البحث العلمي، مؤسسين به نظرياتٍ مناهضةٍ لفكرة الدين؛ فكان Durkheim في علم الاجتماع، وMarx في علم الاقتصاد، وFreud في علم النفس؛ وغيرهم الكثيرون. وطبعًا، لا يُنسى ذكر Darwin في هذا الصدد، المدشن لنظرية “الارتقاء والانتخاب الطبيعي” في علم الأحياء، والذي قلب الفكر المسيحي الأوروبي رأسًا على عقب، بإدخال فكرة الإلحاد صراحةً، دون مواربة أو تجميل.

ملخص القول، كما يؤكد الكتاب، هو قيام الاكتشافات العلمية الأوروبية على مذاهب الإلحاد والطعن في قضية الخلق؛ وهي المذاهب المنتشرة منذ القرن السابع عشر الميلادي في أنحاء أوروبا. لقد “تغذت” الاكتشافات العلمية على تلك المذاهب. وكان من ضمن نتائج تسيُّد العلماء اليهود في مجال النظريات العلمية اللادينية، نشأة الفكر الصهيوني وتغلغله في أنحاء أوروبا.

بعد عرض المؤلف تاريخ نشوء الفكر المادي، باختصار، انتقل إلى الحديث عن أسس التصور المادي؛ تبيانًا وتوضيحًا لذلك البون الشاسع بين التصورين، الإسلامي والغربي.

أسس التصور المادي

تمثلت أسس التصور المادي في تأليه العقل تأليهًا مطلقًا، باعتباره مصدرًا للمعرفة الإنسانية، ومن ثم إنكار الغيب إنكارًا مطلقًا، لتعثر العقل في إدراكه. كما تمثلت في اعتبار الطبيعة هي وحدها منشئة للعقل والمعرفة، بل اعتبارها “إلهًا جذابا” لا أوامر له، وهو ما قامت عليه الفلسفة الوضعية. كذلك يقوم التصور المادي على أساس الحس والتجربة فقط، حيث تصير الحواس هي السبيل الوحيد للوصول إلى المعارف المحيطة بنا، ومن ثم عدم الاقتناع بالمسلمات الدينية الأساسية؛ وهو ما أدى – كما أشرنا سابقًا – إلى سيطرة فكرة الإلحاد على بحوثهم العلمية، ومن ثم قصور مناهجهم العلمية في مجال الغيبيات.

فالتصور المادي يرى في المادة أصل الوجود والحياة؛ يراها أزلية أبدية؛ لم تُخلق ولن تفنى؛ وإنما هي في تحول وتطور مستمر وفق قانون الطاقة؛ يسير الكون بأسبابها الذاتية فقط، دون أي غاية أو هدف علوي. وكذلك يرى في التطور المطلق أصل التقدم والتغير؛ فكل عقيدة أو نظام أو خلق هو أفضل من غيره ما دام تاليًا في الوجود الزمني؛ وكل المعايير الثابتة تصير ملغية لأنها ستُستبدل بمعيارٍ واحد، وهو الزمان “صاحب السيادة الحقيقية” (كما يقول Gustaf Lubon ). ومن الجدير بالذكر، كما يشير المؤلف، أن يُحدث Darwin، صاحب نظرية “التطور”، ضجةً فكريةً ومعرفيةً – بعد نشر كتابه “أصل الأنواع” عام 1859 – لم يُحدثها أي منظِّر في التاريخ الأوروبي كله. ضجة أشاعت موجةً كاسحةً من الإلحاد في القرن التاسع عشر، أدت إلى الكفر التام بقضية الخلق الإلهي، مستبدلةً إياها بنظرية تطور الكائنات الحية، وخروج بعضها من بعض طوال الأحقاب البيولوجية.

وكذلك من أسس التصور المادي اللاديني، القناعة الكاملة بحتمية الأسباب والقوانين في تفسير جميع الظواهر الطبيعية والحالات النفسية والحوادث التاريخية دون الحاجة إلى الإيمان بقوة عظمى تُسيِّر كل ذلك. وأخيرًا، نجد “الحرية المطلقة” ركنًا أصيلًا في بنيان التصور المادي، حيث القناعة التامة بأن الإنسان مالك مصيره، يشرع لنفسه ما يريد في جميع نواحي حياته. وكان من أبرز داعميه Sartre الذي أسس مفهوم “الوجودية”، الذي يقول باختصار أن الإنسان لا يوجد إلا عندما يحقق حريته المطلقة في الفعل والاختيار؛ فيملأ وجوده على النحو الذي يلائمه ولو على حساب الآخرين. وكما نرى، فإن الإنسان الوجودي يخلع هنا رداء الدين، تحقيقًا لوجوده وذاته.

وقد أفرخ الفكر المادي عن نظريات ومذاهب عدة في تناول السنن، كما أورد الكتاب. فمن النظرية اللاهوتية (اليهودية المحرفة) التي تقول إن البشر كانوا يعيشون حياةً فاضلةً ثم شملتهم الخطيئة، فانقلبت حياتهم إلى شقاء، إلى أن جاء الجنس اليهودي ليمثل الأمة الفاضلة وشعب الله المختار، إلى النظرية الجغرافية التي تجعل البيئة العنصر المتحكم والسُنة المتحكمة في حركة المجتمع البشري، إلى النظرية العرقية التي تجعل الأعراق هي القانون المتحكم في صناعة الحضارات والتاريخ، على اعتبار أن هناك أعراق ذات كفاءة تصلح للمهام العظيمة، وأعراق أخرى لا تصلح. وهي تلك النظرية التي مهدت للفكر النازي وتبريره. وهناك أيضًا نظرية الأبطال التي تجعل النبوغ القانون الأساسي وراء تطور المجتمعات؛ وكذلك نظرية الغريزة الجنسية التي تجعل الاندفاعات الشعورية واللاشعورية القانون المتحكم في الإنسان وأفعاله؛ ثم أخيرًا نظرية التحدي والاستجابة التي تبني نشوء الحضارات على قانون الحمية في مواجهة التحديات؛ فالأكثر تحديًا واستجابةً للضغوط هو الأكثر قدرة على إنشاء الحضارات.

وكما أفرخ الفكر المادي عن نظريات سننية، أفرخ أيضًا عن تعليلات سُننية لقيام الحياة البشرية. فهناك التعليل المثالي الذي يرى العقل البشري صاحب السيادة المطلقة في كل شيء دون الاحتياج إلى سلطة كهنوتية. ومن ضمن رواد هذا التعليل المثالي Hegel.

وهناك التعليل المادي الماركسي، نسبةً إلى Marx، الذي يرى الكون ماديًا بطبيعته، ويرى تطور العالم معتمدًا على سنن وقوانين حركة المادة، وليس بحاجة إلى “عقلٍ كلي”، كما افترض Hegel. وهناك التعليل الوضعي الذي ارتكز على قانون الاختبار والملاحظة لجلب المعرفة دون اللجوء إلى الغيب. وهو التعليل الذي دشنه Comte، مؤسس المدرسة الوضعية، وكان من توابع تأسيس تلك المدرسة إيجاد دين وضعي جديد يحل فيه الإيمان بالإنسان وملكاته مكان الإيمان بالله. خلاصة القول، إن جميع تلك التعليلات التقت على صعيدٍ واحد؛ وهو الاحتكام إلى المادة والاهتداء بالقيم المنبثقة منها.

ونقدًا للفكر المادي اللاديني القائم على قانون الصراع، أوضح المؤلف أن العكس هو الصحيح؛ إذ أثبت البحث العلمي أن التوازن هو الأصل وليس الصراع، وأن المادة لا تقوم على التناقض، بل قوامها وبقاءها مرهون بما فيها من تناسق وتوازن رياضي وهندسي معجز. إذًا، فالاتساق والتكامل والتوازن هو سُنة الكون، وفي كل ذرة من ذراته، “إنا كل شيء خلقناه بقدر” (القمر،49).

وفي نقده للمادية التاريخية، يؤكد “شهوان” استحالة خضوع الإنسان والكون لقانونٍ ماديٍ واحد، كما ادعى Marx، واستحالة خضوع المجتمع البشري للقوانين الطبيعية بطريقةٍ ثابتة في ظل “الحتمية التاريخية”، واستحالة اختزال تاريخ الإنسانية في مجموعة أعمال قامت بدوافع اقتصادية، واستحالة أن يكون الصراع تفسيرًا شاملًا لتقدم الحضارة الإنسانية، لكونه منطقيًا الطريق الأمثل للهدم والتأخر. فحسب الواقع العملي والتاريخي، فإنما العكس هو الصحيح؛ فالوحدة والتآلف هما الطريق الأمثل للبناء والقوة وتكوين المجتمع المناضل.

وكما تناول المؤلف أسس التصور المادي بالنسبة للسنن، فقد تناول بالمثل أسس التصور الإسلامي في فهم السنن، ومنهج القرآن والسُنة النبوية في كشف السنن، وأثر هذا المنهج نظريًا وعمليًا على المسلمين وغير المسلمين. وهو ما أفرد له المؤلف الباب الأول من كتابه، تحت عنوان “السنن الربانية في الكتاب والسُنة”.

الباب الأول

السنن الربانية في الكتاب والسُنة

أولًا: الأسس: يقوم التصور الإسلامي لفهم السنن على عدة أسس: الإيمان بالغيب، اعتماد المصادر الشرعية، ربط السنن بمفهوم العناية والتسخير، ربط الأسباب بالمسببات، مسئولية الإنسان وحدود فعاليته تجاه السنن، النظرة الإسلامية الشاملة للكون والحياة.

فالإيمان بالغيب عنصر بالغ الأهمية في تفسير السنن الربانية، وفقدانه يصيب الدراسة بكثير من التشويه مهما توفر لتلك الدراسة من الموضوعية والمنطقية. فلن يستطيع دارس التاريخ استنباط السنن التاريخية إلا إذا كان مؤمنًا بالغيب. وتباعًا، تأتي أهمية اعتماد المصادر الشرعية التي يستقي منها المسلم الخبر الصادق المتعلق بالسنن، والذي لا يأتيه الباطل بين يديه أو من خلفه. فباعتماد المصادر الشرعية، تُمنع كل الأخبار الواهية والأحاديث الموضوعة المتعلقة بالسنن؛ وتُمنع من الوصول إلى عقول الأمة، ومن إعاقتها في مسيرتها نحو الاستفادة من السنن الربانية المبثوثة في الأنفس والآفاق.

وكذلك من ضمن أساسيات التصور الإسلامي لفهم السنن، ربطها بمفهوم العناية والتسخير، أي عدم اتخاذها معبودًا في حد ذاتها، كما كان يفعل السفهاء السابقون – الذين كانوا يعبدون الكواكب وآلهة النار والشمس والقمر – وإنما ربطها بعناية الله وقدرته؛ فلا يجوز لقانون السببية، وفقًا للتصور الإسلامي، أن يطغى بآليته الظاهرة على الإنسان، فيعميه عن الخالق المدبر لكل شيء. ولا تناقض هنا بين السببية والإيمان بالله، كما يزعم البعض، لأن الله سبحانه هو خالق الأسباب والمسببات، “الله خالق كل شيء” (الزمر، 62). إلا أن قانون السببية، وهو ربط الأسباب بالمسببات، يعتبر دون أدنى شك أساسًا مهمًا من أسس التصور الإسلامي لفهم السنن؛ إذ أن الله خلق هذا الربط السنني لحكمٍ كثيرة؛ منها جعل مصالح العباد في دنياهم وأخراهم قائمًا على الأسباب؛ فينشطون ولا يكسلون؛ ومنها إظهار عدل الله في خلقه، بحيث لا يستوي من أخذ بالأسباب بمن لم يأخذ بها.

ولا يستطيع الباحث المسلم فهم سنن الله إلا إذا كان على وعيٍ صحيح بمسئوليته كإنسان تجاه هذه السنن. بمعنى آخر، لابد أن يكون متجذرًا في صميم عقيدته، أنه خُلق حرًا مُختارًا مسئولًا مُكلفًا؛ وأن آثار السنن ستظهر بناءً على خياراته؛ فإما سنن مثوبة، وإما سنن عقوبة. كذلك لابد أن يكون على وعيٍ كامل بقصة خلقه؛ إذ خُلق خلقًا سويًا منذ الوهلة الأولى؛ خُلق مُكرمًا موحِدًا؛ لم يتركه الله للأوهام والظنون؛ وهو ما يجعل المسلم يقف على أرضٍ ثابتة؛ فيؤمن بسنن الله الثابتة ولا يتصادم معها، منتفعًا بها في تجاربه العلمية والعملية، دون أن يُنسيه ذلك علاقته بربه.

الربط بين سنن الله الكونية والحقائق القرآنية أساسٌ سادس في التصور الإسلامي لفهم السنن؛ إذ لا يمكن أن يتعارض كلام الله في كتبه مع سننه المبثوثة في الكون؛ وما العلم إلا اكتشاف هذه السنن. وقد نجد مساحةً كبيرةً من القرآن موضوعها تجريبي طبيعي حسي؛ تتحدث عن السماء، والأرض، والشمس، والقمر، والماء، والهواء، والمطر، والسحاب، والنبات، والحيوان. ونحن لا نستطيع فهم ظواهر وماهية تلك المخلوقات المسخرة لنا، إلا بالنظر العملي والتجريبي. إذًا، هناك ربط أصيل بين التجربة العلمية وفهم جزء كبير من كتاب الله. بل إن هذا الربط يساهم في دعم قضايا العقيدة لدى المسلم، وإظهار الحق بالدليل العلمي لدى المسلم وغير المسلم.

وأخيرًا، تسهم النظرة الإسلامية الشاملة للإنسان والكون والحياة في تعريف المسلم برب هذه السنن تعريفًا دقيقًا شاملًا؛ فيتعرف على طبيعة الكون الذي يعيش فيه، ويتعرف على الإنسان (بكافة مكوناته) في منهجٍ شامل، يقدم عقيدةً واضحة وشريعةً متضمنة لكافة العبادات والتعاملات، في نظامٍ فريدٍ من التناسق والترابط والوحدة.

المصادر: بعد تناوله لأسس التصور الإسلامي في فهم السنن، ينتقل بنا المؤلف إلى تناول مصادر السنن الربانية؛ وهي: القرآن الكريم، السُنة النبوية الشريفة، الكون، التاريخ. فأما القرآن والسُنة النبوية، فهما يشتملان على سنن الهداية العامة؛ من سنن تشريعية توجه الإنسان في جميع مناحي حياته، إلى مبادئ أساسية حول الإنسان ودوره في حياته؛ إلى قوانين الصراع بين الخير والشر لاستمداد القيم والعبر.

وأما الكون، فهو مظهر لإرادة الله، وميدان فسيح للنظر والاستنباط والاستقراء، ومفتاح لمعرفة السنن الربانية. فالكون كله مؤمن بالله، منقاد لقوانينه: “ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض” (الحج، 18)؛ “كلٌ له قانتون”(الروم،26). فالعلاقة إذًا بين الإنسان والكون هي علاقة تسخير وإنعام من الله، لا علاقة قهر وجدلية. وتكمن الغاية من التسخير أن يتيقن الإنسان من قيام هذا الكون على الحق لا على العبث؛ وأن يتأكد من ثبات مُضي السنن في الكون والنفس والشريعة والتاريخ، رُغمًا عن أي أحد؛ وأن يشكر الله على ما سُخر له، فيستخدمه فيما أمر الله به، محققًا بذلك الخلافة الشرعية والخلافة الكونية في آنٍ واحد.

وأما التاريخ، فقد وجهنا القرآن والسُنة النبوية إلى استقراء حوادثه، واستخلاص عبره، وربط سننه بالقواعد الأخلاقية والإيمانية. فالتصور الإسلامي يرى في كل أحداث التاريخ، الماضية والحاضرة، بل حتى ساعتنا تلك، دروسًا وعبرًا تدعو إلى التدبر، مما يحول التاريخ من مجرد “أخبار” إلى “علم”. فبجمع الأحداث وتبويبها وتصنيفها، يصير لدينا مجموعة من الوقائع المترابطة ترابطًا منطقيًا، متسلسلة مع الزمن، لا يشوبها تناقض. ويشدد التصور الإسلامي على وجوب تسلح الباحث المسلم السُنني بالعلمية لا بالأهواء أو الحزبية أو الطبقية. فالأصل، أن يتحاشى الظنون، وأن يتشدد في إحراز العلم واليقين. “وما لهم به من علمٍ إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني عن الحق شيئًا” (النجم، 28). وثمة نقطةٍ مهمةٍ، يجب الإشارة إليها في هذا المقام، وهي نزوع الفكر الإسلامي دومًا إلى العلم المبني على العمل، أكثر من نزوعه إلى التأمل الفلسفي.

وقد كان “ابن خلدون” خير مثال لذلك الباحث المسلم؛ بل كان أول من حدد وجدد الفكر التاريخي في العالم، جاعلًا منه مادةً حيةً يُستخلص منها القوانين والسنن والمنهج. فقد اهتم بتفسير التاريخ من باطنه؛ ولم يكن مجرد موثق لظاهر التاريخ، أو آلة تصوير، كما اعتاد سابقوه. وفي خضام ذلك “التفسير الباطني”، استطاع أن يغربل التاريخ من أهواء وانتماءات المؤرخين، مستبعدًا الخرافات والتحيزات، كاشفًا أسباب قيام الدول وسقوطها، كاشفًا سنن الله في الأمم والشعوب، مهتمًا بكل جوانب الحياة المتعددة، مستعينًا بها على تفسير الوقائع. باختصار، لقد كان “ابن خلدون” شامل النظرة على عكس المؤرخ الجزئي المحدود. وهو طبَّق بذلك ما أمر به القرآن الكريم، حينما وجه فكر المسلم إلى النظرة الشمولية للتاريخ. لقد كان أول من طرح التساؤلات عن القوانين والسنن التي تحكم العلاقات الاجتماعية بين الناس، وتحكم حركة التاريخ والواقع؛ وكان أول من أكد أن القوانين الاجتماعية والتاريخية لا تقل ثباتًا وأهميةً عن قوانين الظواهر الطبيعية والفلكية.

وإذا أردنا التطرق إلى التاريخ القديم، فإن القرآن هو أصح وأصدق مصدر يمكن الالتجاء إليه؛ وهو ما غفل عنه المؤرخون الغربيون والمستشرقون، وتبعهم بكل أسف الكثير من المؤرخين العرب. فالقرآن قد فصَّل الحديث عن بني إسرائيل، وعن قصة موسى عليه السلام، وعن قصة إبراهيم عليه السلام، وأكثر من تفرد بذكر أقوام عربية بادت، مثل سبأ وعاد وثمود وأصحاب الفيل وأصحاب الأخدود. وليس هدف القرآن تأريخ القصص لمجرد الترف الذهني أو تحقيق نزعةٍ أكاديميةٍ ما تسعى نحو تتبع ما حدث دون الاكتراث بالمدلولات الإيمانية والأخلاقية الكبرى، وإنما غرضه إظهار العِبر للاستفادة بما حل للسابقين، والحذر من الانزلاق نحو مصائرهم المدمرة.

وعند استخلاص واستنباط السنن من التاريخ، حذَّر الكتاب الباحث المسلم من الانزلاق في عدة منزلقات؛ أولها، الحذر من المصطلحات الغربية الدخيلة – مثل “الوحدة العالمية” و”التعاون الدولي” و”السلام الدولي” – لكونها مصطلحات لم تؤسس على منهاج العبودية لله وحده، وإنما أسست على خليط من المناهج اللادينية الجاهلية. ثانيها، الحذر من المصطلحات الأوروبية التي نشأت في بيئة أوروبية معينة لا علاقة لها بتاريخنا أو واقعنا، بل لها علاقة فقط بمصلحة المستعمر الأوروبي الذي اعتبر نفسه مركزًا للأرض وموزعًا للمواقع الجغرافية؛ مصطلحات مثل “الشرق الأقصى”، و”الشرق الأوسط”، و”الشرق الأدنى”. ثالثها، الحذر من التأريخ الأوروبي التابع للتطورات والانقلابات الفكرية والعقائدية التي عاشتها أوروبا؛ وذلك مثل “العصور القديمة” و”العصور الوسطى” و”العصور الحديثة”. وهو تأريخ مخالف تمامًا للتأريخ الإسلامي الذي يتميز بإدراجه لتاريخ الأنبياء الذي يمثل صفحةً واحدةً، لكونه تاريخ أمة ذات عقيدةٍ واحدة، لم تتبدل مع تغير الزمان، والمكان، والدول، والحكام. رابعها، الحذر من المقاييس والموازين المناقضة للتصور العقدي الإسلامي. فمثلًا، وصف الدول الكافرة بالله وشرعه بالعالم المتقدم المتحضر يعتبر من تلك الموازين الخاطئة المختلة، ونسيانًا للسنن الربانية التي لحقت بتلك الدول: “فلما نسوا ما ذُكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون” (الأنعام، 44).  فلابد إذًا وزن الأمم السابقة، ومخلفاتها التاريخية بالميزان الشرعي لإعطائها قيمتها الحقيقية. ثم عرض تلك الأمم أمام السؤال المحوري: هل حققت تلك الأمة شيئًا من وظيفة الإنسان الأساسية، وهي العبودية لله وعمارة الأرض وفق مراد الله.

وبجانب تلك التحذيرات، أوصى المؤلف بعدة توصيات أخرى يجب أخذها في الاعتبار عند دراسة التاريخ، أهمها: الاهتمام بشروط صحة الرواية، البعد عن الدراسات العرقية التي تعمق النزاعات الإقليمية، النظر في تقلبات الدهر وعدم الوقوف على المظاهر الشكلية؛ إبراز دور الأنبياء وأثرهم في تاريخ البشرية، سلامة القصد عند تفسير التاريخ من تحبيب للخير وتبغيض للشر. تلخيصًا لما سبق، إن الأخذ بجميع تلك التوصيات يجعل التاريخ من أصدق المصادر في الدلالة على السنن الربانية، والاستفادة منها مستقبلًا في توجيه الأحداث.  

منهج القرآن والسُنة في بيان السنن

بعد تناوله الأسس والمصادر فيما يتعلق بالسنن الربانية، تطرق “شهوان” إلى المنهج في الكشف عن السنن؛ متعرضًا فقط للسنن الكونية والتاريخية، لعدم اتساع المجال لتناول جميع السنن. ففيما يخص الكشف عن السنن الكونية، أكد المؤلف أن منهج القرآن والسُنة تمثل في الحث على العلم وتحرير الفكر البشري من الجهل والهوى والظن، وتأصيل مناهج البحث العلمي التجريبي من خلال الاستدلال الاستقرائي والاستدلال القياسي. وأما ما يخص الكشف عن السنن التاريخية، فكان منهج القرآن والسُنة متمثلًا في نقل التعامل مع التاريخ من مرحلة السرد إلى محاولة استخلاص القوانين، وجعْل الإنسان بإرادته الحرة (المستقلة عن منطق الحتمية والجبرية) محور التغيير، ومن ثم محور التاريخ، دون إغفال قوة الله المطلقة المهيمنة على كل شيء.

فكلاهما، القرآن والسُنة، يحثان الإنسان على التحرك بإيجابية في الكون، مرتحلًا وسائرًا بهدف معرفة العواقب من تجارب الأمم في مسالكها، مستخدمًا في ذلك قلبه وعقله وحواسه. وكذلك، كان منهج القرآن والسُنة – فيما يخص السنن التاريخية – عرْض أخبار السابقين الذين أعرضوا عن طريق الله؛ عن التقوى والاستقامة. فتحدثت سورة هود، على سبيل المثال، عن ستة أقوام من الحضارات القديمة التي لاقت من العذاب والمحق الكامل جراء خروجهم عن منهج الله. وكان حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “شيبتني هود وأخواتها” خير تحذير من سلك مسالك الحضارات المادية العاصية.

لقد حث القرآن والسُنة على العناية بالعلم كجزءٍ لا يتجزأ من الواجبات اللازمة التي أمرنا بها الله، “فاعلم أنه لا إله إلا الله” (محمد، 19)؛ بل إن أولى آيات القرآن أمرت بالقراءة باسم الخالق “اقرأ باسم ربك الذي خلق” (العلق، 1)، مما يشير إلى انطلاقة حاسمة لإنهاء عهد الأمية والجهالة البشرية، وبدء عهد التعليم الناضج المستخدم لكافة الحواس والملكات البشرية، كما يؤكد مؤلف الكتاب. وكذلك نجد في السُنة النبوية الشريفة حثًا كبيرًا على إعلاء قدر العالِم ليصير بمثابة النور الذي ينير سبل الناس، بل جعل العلم أفضل القربات إلى الله، مصداقًا لقوله عليه الصلاة والسلام: “تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد…” إلى آخر ما هو معروف من حديث معاذ.

وقد رفع القرآن العوائق التي تعيق الإنسان عن ممارسة الفهم الصحيح والتفكير المستبين؛ كما حارب النبي – عليه الصلاة والسلام – التقليد الأعمى الذي يغلق القلوب، ولا يسمح لطالبه بالتجرد في طلب الحق والإيمان. فكانت محاربته للكهانة والعرافة والسحر والتنجيم والطيرة (التشاؤم بالطير) والهامة (التشاؤم بالبوم) معلنًا أن “لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صقر”. وذلك مصداقًا لقوله تعالى: “ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم” (الأعراف، 157).

إن القرآن والسُنة يأمران المسلم باستخدام ملكاته الفكرية والمعرفية والحسية للكشف عن قوانين وسنن الكون “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق” (العنكبوت، 20). فيطالبنا بالاستدلال الاستقرائي أولًا، أي استقراء الجزئيات من عالم الطبيعة للوصول إلى معرفة القوانين العامة؛ وفي ورود كلمة “كيف” – في كثيرٍ من الآيات – دليل على ضرورة استخدام منهاجية الاستقراء. “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت وإلى السماء كيف رُفعت وإلى الجبال كيف نُصبت وإلى الأرض كيف سُطحت” (الغاشية، 17-20)؛ وهو تعبير عن روح العلم الحديث، ومنهجه في السعي نحو معرفة “كيف” تتركب الظاهرة. ثم يطالبنا القرآن بالاستدلال القياسي، أي تطبيق القانون العام على جزئيات جديدة، مستخدمين القياس، للانتهاء من ذلك إلى إثبات وجود صانع مدبر للكون، خالق لجميع تلك القوانين التي تسير بدقة وإحكام، لا يفسرهما أي مصادفة كما يدعي الماديون. وهناك مناهج أخرى أشار إليها القرآن للتعرف على السنن الكونية؛ منها منهج التجربة الشخصية، ومنهج التدرج من المحسوس إلى المجرد، ومن الجزئي إلى الكلي.

ومن هنا يتبين لنا، كيف قام القرآن والسُنة بتأصيل مناهج البحث العلمي، عبر استخدام الملاحظة والتجربة، كما أكد المؤلف. فالمسلمون أول من أصًل الملاحظة والتجربة كمنهجين عِلميين للوصول إلى السنن الكونية والحقائق العلمية. وكان هذا التأصيل نابعًا من التزامهم بإرشادات القرآن وتوجيهات رسول الله – عليه الصلاة والسلام -. فأما القرآن، فكان واضحًا في ربط المقدمات بالنتائج ربطًا موضوعيًا، في آياتٍ عديدة، منها على سبيل المثال “ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة” (الحج، 63). وأما الرسول – عليه أفضل الصلاة والسلام -، فكان واضحًا كل الوضوح في إحالة الناس في أمور دنياهم الكونية الطبيعية إلى تجاربهم الخاصة، ومن ثم تعرضهم للخطأ والصواب. فكان قوله عليه الصلاة والسلام: “إذا أمرتكم بأمرٍ من أمور دينكم فأطيعوا، وإذا أمرتكم بأمرٍ من أمور دنياكم فإنما أنا بشر”.

ونستطيع القول، كما أفاد الكتاب، أن القرآن قد أصَل عددًا من الركائز العلمية:

أولًا: التماس العلم القائم على الدليل لا على الظن أو الوهم، “قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين” (البقرة، 111).

ثانيًا: عدم التأثر بالمحيط الفاسد الذي يحول دون الوصول إلى الحقيقة، “وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله” (الأنعام، 116).

ثالثًا: وصف من يعطل ملكات إدراكه وحواسه بمن هو أضل من الأنعام، “لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون”. (الأعراف، 179).

رابعًا: توجيه النظر إلى منهج الاستقراء الواسع، والسماوات والأرض والإنسان، “قل سيروا”، “قل انظروا”.

خامسًا: الإرشاد إلى المنهج الاستنباطي مثل قصة سيدنا إبراهيم – عليه السلام – في تعرفه على الله – عز وجل -، عبر تفكره في خلق الشمس والقمر.

سادسًا: الدعوة إلى توحيد قيم الروح مع قيم المادة؛ فالتوغل في مسالك الطبيعة وخباياها المادية المحسوسة مع تحقيق مستوى روحي عالٍ في ذات الوقت.

سابعًا: التوجيه إلى منهج الاعتبار من الأمم السالفة، واستقراء السنن الاجتماعية والأخلاقية عبر قراءتها من الحالات الجزئية، ثم نقلها بعد ذلك إلى الكليات، لتصير قانونًا وعلمًا يُستبصر به.

وكما يؤكد المؤلف، أنه حينما اتبع المسلمون منهج البحث العلمي الذي أمر به القرآن والسُنة للكشف عن السنن، كانوا أول من خطى بأرقى الخطوات في مسيرة الحضارة والعلم، متقدمين في علوم الدين، سباقين في علوم الطبيعة. وما نكساتنا الحضارية المتتالية إلا بسبب انطفاء جذوة هذه المناهج في قلوبنا وعقولنا كمسلمين، وتكاسلنا عن السعي في الكشف عن السنن الإلهية في الأنفس (ماضي الأمم والجماعات) وفي الآفاق (الكون).

أثر المنهج الإسلامي في توجيه الفكر الإنساني لمسألة السنن

بعدما تناول “شهوان” أسس ومصادر ومناهج السنن الربانية، تفرغ إلى الحديث عن أثر المنهج الإسلامي في توجيه الفكر الإنساني لمسألة السنن؛ وذلك في عدة مجالات: في مجال المنهج التجريبي الكوني؛ وفي مجال المنهج التاريخي؛ وفي مجال الإنجازات العلمية للمسلمين في مختلف الميادين الحياتية؛ وأخيرًا في مجال العلاقة مع أوروبا عبر إيطاليا الجنوبية وأسبانيا التي تم فتحهما من قبل المسلمين؛ وكذلك عبر الحروب الصليبية التي امتدت عقودًا طويلة بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي الأوروبي.

في مجال المنهج التجريبي الكوني، كان تأصيل المسلمين، كما ذكرنا أعلاه، لمناهج الاستقراء والقياس قد أوصلتهم إلى إبداعاتهم العلمية. فها هو “الحسن بن الهيثم” المتبني لمنهج التدرج والنقد والتمحيص للوصول إلى معرفة السنن. وها هو “ابن سينا” المتبني لمنهج ربط العلية بشروطها فيما يخص الداء والدواء، مبتكرًا العديد من الأدوية. وغيرهما الكثيرون من علماء المسلمين.

في مجال المنهج التاريخي، كان تأصيل المسلمين لمناهج الاعتبار والتدبر والتحليل واستخلاص القوانين الثابتة الحاكمة للمجتمعات والحضارات بهدف الانتفاع البشري، وإصلاح الحاضر وتقويمه. وقد كان لـ “علم الحديث” أثر بالغ في علم التاريخ السنني. إذ أن معظم المؤرخين المسلمين كانوا مُحَدِثين أصلًا قبل أن يكونوا مؤرخين، مثل “الطبري” و”ابن إسحق” و”الوافدي”. ومن هنا نستطيع القول، إن “علم التاريخ السنني” انبثق من “علم الحديث” الذي يعد النواة الأولى للعلوم الإسلامية. ومن الجدير بالذكر، أن علم التاريخ لدى المسلمين قد أخذ طريقة أو منهاجية “الحديث الشريف” في أول تأليفه؛ حيث كان الحُفاظ الموثوق فيهم هم الوسطاء أو الأسانيد بين الحقيقة التاريخية والمؤرخ. وكان لعلماء “الحديث” فضل كبير في التحقق من صحة المادة التاريخية.

ونتيجة للنظرة الشمولية للتاريخ، والتي استقاها المسلمون من القرآن والسُنة النبوية، كان اهتمام المؤرخ المسلم متميزًا؛ إذ لم يعكف على جمع الروايات التاريخية عن الملوك والأسر الحاكمة فحسب، كما كان يفعل المؤرخ الغربي، إنما عكف بالمثل على جمع الروايات التاريخية عن الجوانب الاجتماعية والثقافية والفكرية والحضارية؛ فكتب السير والتراجم عن حياة رسول الله، وعن الخلفاء الراشدين، وعن رجال الفكر والدعوة؛ وكتب عن أيام العرب وأخبار الأمم وآدابهم؛ وكتب عن الأسماء والأنساب والكُني والقبائل؛ وعن الفتوحات والرحلات؛ وعن العلماء والفقهاء والأدباء؛ وعن البلدان والمدن…كل ذلك كان يتم بصورة موسوعية دقيقة. ومن المؤسف أن يُقال إن المسلمين لم يعرفوا علم التاريخ إلا بعد احتكاكهم بالفكر الغربي؛ وتناسوا أن القرآن أول من وجه الفكر نحو النظرة الشمولية للتاريخ؛ جاعلًا الإنسان محوره. وتناسوا كذلك أن “ابن خلدون” هو أول من جدد الفكر التاريخي في العالم، حينما حوَل مادة التاريخ إلى كائنٍ حي، يُستخلص من حركته المنهج والفكر والقانون.

وفي مجال الإنجازات العلمية، أقام المسلمون – بتطبيقهم للمنهج الإسلامي السُنني – صرح العلوم التجريبية لأول مرة في التاريخ، على الطريقة العلمية الصحيحة؛ فقفزوا قفزاتٍ كبيرة في العلوم التجريبية، وسخروا الأرض وخيراتها لمصلحة الإسلام والمسلمين والناس أجمعين. فكانت علومهم تُدرس في مدارس بغداد، ودمشق، والقاهرة، وسمرقند، وقرطبة، وطليطلة. فها هم أطباء الأندلس وجراحوها الذين احتلوا أرفع منزلة بين أطباء العالم حتى القرن السادس عشر الميلادي. وها هو كتاب “القانون في الطب” للعالم المسلم “ابن سينا” – الكتاب العمدة في الدراسة الطبية طيلة ستة قرون –. وها هو “أبو قاسم القرطبي” الشهير بـ “الزهراوي”، أعظم جراحي المسلمين. وها هو “أبو بكر محمد بن زكريا الرازي” وكتبه عن الجدري والحصبة، وسبْقه في اكتشاف هذين المرضين. وها هو كتاب “الحاوي” الذي يُعد من أوسع دوائر المعارف في الطب والجراحة. وها هو “جابر بن حيان” المؤسس الحقيقي لعلم الكيمياء. وها هو “الحسن بن الهيثم” مؤسس علم الضوء في الفيزياء.

وكذلك كان فضل المسلمين في اكتشاف علم “تقويم البلدان” أو الجغرافيا، عبر قيامهم برحلاتهم البحرية الطويلة في مختلف بقاع العالم، والتي كان الأوروبيون يشككون في وجودها. وعبر تلك الرحلات، عينوا بمعارفهم الفلكية مواقع الأماكن تعيينًا مضبوطًا في الخرائط، فصححوا أغاليط اليونان، وقاسوا المسافات بين البلدان بمنتهى الدقة، وربطوا بين الجغرافيا والفلك، وألفوا الكتب الجغرافية العلمية التي اعتمد عليها الغرب قرونًا طويلة. وفي أدبيات “المسعودي” و”ابن بطوطة” و”شهاب الدين أحمد ابن ماجد النجدي” (أسد البحر) خير دليل وشاهد على تجاربهم الملاحية، وشقهم للمحيطات والبحار.

وفي مجال العلاقة مع أوروبا، كان تأثير المنهج الإسلامي منعكسًا في توجيه الفكر الأوروبي عبر التواصل الحي بين العالمين، إذ انتقلت الكثير من المؤلفات العلمية القيمة إلى أوروبا في العصور الوسطى، لتتم ترجمتها إلى اللغات اللاتينية مراتٍ متعددة، ويتم اعتمادها كمراجع أساسية في المعاهد والجامعات الأوروبية.

كانت جامعات الأندلس وجنوب إيطاليا – وقبلها الحروب الصليبية – هي همزة الوصل بين أوروبا والعالم الإسلامي التي انتقل عبرها الفكر الإسلامي بمختلف مناهجه وعناصره العلمية، والأدبية، والدينية، والفلسفية. فقد فتح المسلمون كلًا من أسبانيا، وجنوب إيطاليا (جزيرة صقلية)، ونشروا علومهم وحضاراتهم ومناهجهم في ربوع كل منهما. كانت مساجد صقلية وإشبيلية وقرطبة وغرناطة منارةً لعلومهم ومناهجهم. وحتى بعد زوال حكمهم هناك، بقت آثارهم وعلومهم، يُنتفع منها حتى يومنا هذا. لم يمنع تغير ميزان القوى، لصالح الممالك النصرانية في أسبانيا والبرتغال، من استمرار الاستفادة من ثقافة المسلمين الأندلسيين طيلة ثلاثة قرون كاملة.

أما بالنسبة للحروب الصليبية التي استمرت قُرابة ثلاثة قرون من الزمان (من 1097م حتى 1291م)، فقد اقتبس عبرها الصليبيون – رغم توغلهم الشرس – الكثير من الحضارة العربية الإسلامية، من ثقافة إلى عمارة إلى صناعة إلى حياة اجتماعية. كان اندهاشهم بالعقلية العلمية للمنهج الإسلامي الذي لم يكن معروفًا لدى أوروبا الصليبية في ذلك الوقت. إلا أن هذا لا ينفي أن الصليبيين – مثلهم مثل المغول – قاموا بحرق الكثير من التراث الفكري الإسلامي، جهلًا وحقدًا وغيرةً؛ ومنهم من دفن الكثير منه في بطن المكتبات الأوروبية، ليتم الإنكار والكذب والتزوير بحق المصادر الإسلامية؛ فيُنسب العلم إلى غير أهله. وهو ما يصفه المؤلف بالتعصب العرقي، والذي ظل مستمرًا، إلى يومنا هذا، على أيدي المستشرقين المنكرين لمساهمة المسلمين في بناء التراث الحضاري الإنساني.

نماذج من السنن الربانية

واختتم المؤلف بابه الأول عن السنن الربانية بتطرقه إلى بعض نماذج تلك السنن في المجال الكوني والتاريخي. وهو ما سنقوم بعرض بعض المقتطفات منها.

نماذج من السنن الكونية

تناول القرآن نماذج كثيرة من السنن الكونية، منها ما يتعلق بالمجموعة الشمسية والجغرافيا المناخية؛ وأخرى تتعلق بخواص الماء، وأخرى تتعلق بطبيعة النباتات؛ وأخرى تتعلق بخاصية توازن الأرض بإرساء الجبال “وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم” (النحل، 15)؛ وأخرى تتعلق بسُنة دوران الأرض، والتي نادى بها Copernicus في القرن السادس عشر الميلادي “يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل” (الزمر، 5)؛ وسُنة ارتكاز جميع الكائنات الحية على الماء، “وجعلنا من الماء كل شيء حي” (الأنبياء، 30)؛ وسُنة الزوجية، “ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون” (الذاريات، 49)؛ وسنة الجاذبية؛ وسُنة التنوع مع وحدة الأصل؛ وسنن أخرى كثيرة.

وتعمل جميع مخلوقات الله في إطار هذه السنن الثابتة، في فطرتها وتكوينها، دون خلل أو فتور أو تعارض، “قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى” (طه، 50). بل إنها قد تتداخل مع بعضها البعض، وتتوازن فيما بينها في شكلٍ مبدع، دون أن يترك أي مخلوق قانونه الخاص الذي يعمل وِفقه. فعلى سبيل المثال، يسير كل نجم في مساره بحيث لا يصطدم مع نجمٍ آخر. وكذلك نجد الشمس، تشرق وتغرب يوميًا دون اصطدامها بالقمر، “وإنا كل شيء خلقناه بقدر” (القمر، 49).

أما في السُنة النبوية الشريفة، فقد نجد نماذج من السنن الكونية متمثلةً في سنن العلاج، وأخرى متمثلةً في كيفية الوقاية من الأمراض والاحتراز من العدوى، وأخرى متمثلةً في الوراثة. فالطب النبوي يشتمل على كل ما له علاقة بصحة الإنسان من نظافة وتغذية وتداوٍ، مبينًا أن الدواء موجود في الطبيعة ومُسخر فيها، “لكل داءٍ دواء”؛ مع التشديد على حرمة التداوي بالمحرمات لوجود الضرر في أصلها وطبيعتها. “إن الله أنزل الداءٍ والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بالمحرم”. وكذلك سُنة الأخذ بالأسباب للوقاية من العدوى، “فر من المجذوم كما تفر من الأسد”؛ ولكن اليقين بأن العدوى لا تكون إلا بأمر الله، وأن التوكل عليه سبحانه من أهم أسباب دفع العدوى، مع الأخذ بالأسباب المادية الظاهرة. فهناك من الأسباب الخفية المجهولة ما تجعل الداء دواءً (مثل التطعيم)، وتجعل الدواء داءً. إذًا، فالميكروب ليس هو سبب العدوى الوحيد، إنما هناك أسباب أخرى خفية، ليست بيد العبد، ولا يقدر التحكم فيها.

أما فيما يخص السنن التاريخية، فنجد القرآن متناولًا العديد منها: سنة الابتلاء والتمحيص للخلق جميعا؛ فيكون الابتلاء للمؤمن ابتلاء رحمة واصطفاء وتمكين لحمل الأمانة، وابتلاء الكافر غضب وانتقام، “الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور” (الملك، 2)؛ سنة استحالة دوام الباطل، “فكإين من قريةٍ أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد” (الحج، 45). فلم يحفظ التاريخ اسم دولة أو أمة كانت ظالمة ثم دامت؛ إذ أن وجه الانحلال واحد في جميع الحضارات؛ فالتاريخ في النهاية صفحة واحدة.

وهناك سنة التدافع بين الحق والباطل على امتداد التاريخ البشري؛ التدافع من أجل إبقاء الأمثل والأتقى والأصلح، وإعلاء كلمة الله وتحريرها من الفساد والطغيان، “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” (البقرة، 251)؛ سُنة جلب الذل لمن ترك التدافع والجهاد (وظيفة الأمة الإسلامية)؛ إذ أن حكمة الله تقتضي ضرورة بذل الجهد لكونه المحضن الذي ينمو فيه الإنسان وينضج، “ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين” (العنكبوت، 6)؛ سُنة التمكين بعد الابتلاء التي تعد من مقومات الأهلية في الخلافة على الأرض، “أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون” (العنكبوت، 2)؛ سُنة إنزال العذاب على الأمة التي لا تأخذ على أيدي الظالمين، “واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة” (الأنفال، 25)؛ سُنة عقاب الاستئصال لمن لم يتب في فترة الإمهال، “دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها” (محمد، 10)؛ سنة تنجية المؤمنين “كذلك حقًا علينا ننج المؤمنين” (يونس، 103). فإن عذاب الاستئصال الذي يطول الكافرين مرفوعٌ عن أمة محمد – عليه الصلاة والسلام -، لأن الله جعل الرسالة المحمدية خاتمة الرسالات لجميع الأمم والأجيال؛ ومن ثم فهي لا تخلو من الطائفة القائمة على الحق بأمر الله إلى يوم الدين.

ويجب التنويه هنا، أن التدافع المحمود المحكوم بهداية السماء مختلف تمامًا عن “الصراع” بمحتواه الفلسفي الجدلي وتطبيقه الخاطئ في التصورات المادية، كما يدلي “شهوان”. وإن الإيمان بالله وطاعته يؤديان إلى الرحمة لا إلى الصراع. ومن ثم فإن المادي غير المؤمن لا يستطيع إدراك “التدافع” كسًنة ربانية، ولن يدرك خيرها إلا بتحقيق العبودية الكاملة لله.

أما عن نماذج السنن التاريخية من السُنة النبوية، فهناك سُنة عدم طاعة أئمة السوء، “…إنها ستكون عليكم أمراء، فمن أعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم وغشي أبوابهم فليس مني ولست منه ولن يرد على الحوض”؛ سُنة عاقبة الذل لمن ترك الجهاد، “لئن تركتم الجهاد وأخذتم بأذناب البقر وتبايعتم بالعينة ليلزمنكم الله مذلةً في رقابكم لا تنفك عنكم حتى تتوبوا إلى الله وترجعوا على ما كنتم عليه”؛ سُنة آخر الزمان وغُربة الإسلام، “يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا يبقى من القرآن إلا رسمه، مساجدهم يومئذ عامرة وهي خراب من الهدى، علماؤهم شر من تحت أديم السماء، من عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود”.

الباب الثاني

نماذج من جهود المفكرين المسلمين في الكشف عن السنن

بعدما انتهى “شهوان” من تناوله للسنن الربانية في الباب الأول، عرج بنا في الباب الثاني والأخير إلى مستوى آخر من التناول لقضية السنن؛ وهو المستوى التطبيقي والعملي لبعض المفكرين المسلمين البارزين في هذا المجال.

يؤكد “شهوان” أنه على عكس الفقيه، الذي يستنبط القانون من القرآن لينزله على جزئية معينة في المجتمع، يقوم المفكر الإسلامي بالربط بين الواقع والمثال، منزلًا النص أو القانون الوارد في القرآن على واقع الأمة بأسرها لمعرفة أسباب رقيها أو انحطاطها. وقد أورد الكتاب أربعة نماذج من جهود المفكرين الإسلاميين، ليُرينا كيف يحدث الخلل، وكيف تحدث الاستقامة. فكان اختيار المؤلف لـ “ابن تيمية” و”سيد قطب” في تناول السُنن المعادية، واختيار “ابن خلدون” و”ابن مالك” في تناول السُنن المعاشية.

وأما السُنن المعادية، فهي تلك السُنن التي تربط كلًا من الفرد والأمة بالآخرة؛ إنها رابطة المسئولية، والجزاء، والثواب، والعقاب. وهي مسئولية الفرد والأمة، سواء، عن خياراتهما الإيمانية؛ وربط تلك الخيارات بالسنن الربانية ربطًا حتميًا، لا جدال فيه. فنجد ارتباط المصائب بالذنوب والعدول عن حكم الله؛ ونجد في المقابل ارتباط الفتوحات والانتصارات بالطاعات والامتثال لحكم الله.

ويعتبر شيخ الإسلام “ابن تيمية”، نموذجًا واضحًا ووضاءً في الحديث عن السنن المعادية. وكان عصره محفزًا لإخراج وإنضاج فكره، ليخلف علينا تراثًا سننيًا ضخمًا ما زال ينهل منه علماؤنا وفقهاؤنا حتى هذه اللحظة. فقد عاش شيخنا الجليل في القرن السابع الهجري؛ هذا القرن الشاهد على سقوط بغداد في أيدي المغول والتتار؛ الشاهد على احتلال مدن الساحل في طرطوس وعكا وطرابلس من قبل مماليك الصليبيين المتبقية؛ والشاهد على سيطرة الباطنية الإسماعيلية على شمال سوريا. تلك الوقائع جميعها كان لها أثر قوي في غزو المسلمين غزوًا فكريًا جديدًا، هيمنت فيه الانحرافات الفكرية على بعض مفاهيم الإسلام الأصيلة، وشاعت فيه المفاهيم والمصطلحات اليونانية والباطنية والشعبوية، وقامت فيه الخلافات العقائدية والمذهبية. نظر “ابن تيمية” في أحداث عصره، فإذا به يؤسس منهجًا علميًا معياريًا منبثقًا من الكتاب والسُنة، يساعده على فهم الأحداث والوقائع، ملتزمًا في ذلك التزامًا واعيًا بمصطلحات القرآن والسُنة، محذرًا من التقليد في العبادات والعادات والسلوكيات، لما في ذلك من طمس معالم الإسلام، وإفساد عقيدته ومجتمعه.

تمثلت محاور منهجه في “الإسلام” (وقلبه التوحيد) باعتباره الوحدة الأساسية التي تقيم الحياة السعيدة، وتمنح الحضارة الاستمرارية، وتحقق للبشرية القوة؛ وفي “تطبيق العبادة الدينية والكونية” باعتباره من أعظم مظاهر العدل والصلاح للشعوب؛ وفي “التكامل بين العلوم الدينية والعقلية” باعتباره العلاج لذلك الخلل الذي أصاب منهج المعرفة لدى المسلمين، والذي كان سببًا في إفراز العدد من الفرق والمذاهب المتناحرة. كذلك التف حول محور “الأصالة لا التقليد” الذي ركز من خلاله على إسلامية المصطلح، ومن ثم هدمه للمنطق الأرسطاطليسي، وإحياءه للاجتهاد بدلًا من ذلك المنطق، وهو ما أفضى إلى رفعه لقيمة “الولاء والبراء”، محذرًا من تقليد الأمم الكافرة في الظاهر؛ ذلك لأن المشابهة في الظاهر ستصير يومًا ذريعةً إلى الموافقة في القصد والعمل.

وإذا كان تراث شيخ الإسلام عن السنن المعادية يمثل نهرًا جاريًا، يشرب وينهل منه طلاب العلم الشرعي – وكذلك غير الشرعي – حتى يومنا هذا، فإن “سيد قطب” يمثل نموذجًا آخر للمفكر الإسلامي الذي ترك تراثًا سُننيًا ضخمًا، ولكن من واقع معاصر وقريب لحياتنا؛ واقع القرن العشرين.

فقد عاصر “قطب” أمريكا ذاتها، كما هو وارد بالكتاب، حينما عاش على أرضها فترةً غير وجيزة، أكسبته تجربةً وملامسةً حقيقيةً للحضارة الغربية. فإذا به يخرج من تلك التجربة بقناعةٍ مفادها، أن الغرب يعيش في جاهليةٍ واضحةٍ، تتضح ضآلتها أمام مصادر العقيدة الإسلامية وتصوراتها. وهو الأمر الذي دفعه دفعًا نحو القرآن، مصاحبةً ومطالبةً ومدارسةً.

وفي خضام تلك المعايشة القرآنية، التي استمرت قرابة ربع قرن، أسس واكتشف منهجه في التعامل مع القرآن، وهو المنهج الحركي: أي حيوية النص القرآني وهو يتحرك في وسطٍ حي؛ وذلك باستصحاب الأحوال والملابسات والظروف والمقتضيات الواقعية التي صاحبت نزول القرآن، فنتلقاه كما تلقاه جيل الصحابة، ونتحرك به كما تحركوا. لقد تلقى “قطب” القرآن بروح المعرفة المنشئة للعمل، مؤمنًا بأن إدراك القرآن لا ولن يتم إلا بالتحرك به بشكلٍ حي. ومن خلال اكتشافه لهذا المنهج الحركي – وتناوله للإسلام بوصفه حركة – استنبط السنن المعادية الربانية التي كان من أهمها “إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد، 11). فسُنة تغيير الفرد والأمة نحو الأفضل لن تحدث إلا بتغيير وإصلاح الداخل أو النفس.

وكانت من أهم القوانين التي ركز عليها “قطب” في منهجه التفسيري للقرآن، قانون العقيدة وقانون الحاكمية وقانون الحركة. فأما قانون العقيدة، فيقول إن العقيدة – التي محلها القلب – هي الحامية والحارسة الحقيقية لأحكام الإسلام. فإذا ما تم الربط بين العقيدة والتشريعات البشرية فسيُضمن الالتزام بها. وأما قانون الحاكمية، فيقول إن احتكام الشعوب لغير الله يدل أولًا على فسقهم، ويعرضهم ثانيًا للهلاك، ضاربًا مثلًا بقوم فرعون. “فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين” (الزخرف، 54). وأخيرًا، قانون الحركة الذي يقول إن إدخال القرآن في معركة اليوم، ليخوضها حيةً كاملةً، كما خاضها أول مرة في عهد الصحابة، هو الانتفاع الحقيقي للقرآن.

وتلخصت الجوانب التجديدية في منهجه، كما أوضح الكتاب، في تفسيره الحركي للقرآن؛ وهو ما لم يسبق أن تطرق إليه المفسرون من قبل؛ وفي ربطه الواقع بمنظار القرآن، معرجًا على الواقع باستمرار، معالجًا انحرافاته من وحي القرآن؛ وفي إبراز الوحدة الموضوعية للقرآن، لدرجة استمراره في تأمل سورةٍ واحدةٍ لسنوات حتى يهتدي إلى موضوعها العام؛ وأخيرًا في تجاوزه لعصر الخلاف الجدلي، ودخوله عالم القرآن دون مقررات فكرية سابقة، نابذًا خوض “المتكلمين”، عازفًا عن المثيرين للقضايا الخلافية حول العقيدة، والفقه، والأصول، واللغة. فكانت مواجهته للنصوص مباشرةً هو السبيل الأوحد لتلقي مقرراته الإيمانية.

وانتقالًا من السنن المعادية إلى السنن المعاشية، فإن الأخيرة تعني أكثر بالقوانين الأساسية التي تتحكم في حياة وتطور المجتمعات والدول. ومن أبرز رواد ومنظري تلك القوانين، المفكر الإسلامي “عبد الرحمن بن خلدون” مؤسس علم التاريخ الحديث؛ والمفكر الإسلامي “مالك بن نبي” مؤسس علم الحضارة والعمران.

ولنبدأ بـ “ابن خلدون”، الأقدم زمانًا، إذ كان إنتاجه الفكري من أرقى ما أنتجته الثقافة الإسلامية من الناحية العلمية، كما يشير مؤلف الكتاب. فكان له الفضل في إخراج التاريخ من طور “الأخبار” فقط – عن الأيام والدول – إلى طور التعليل للأحداث، ودراسة أسباب وقوعها، وكيفية حدوثها. فمكنه هذا “التعليل” من شرح أحوال العمران والتمدن، ووصف البيئة الاجتماعية كلها، وما فيها من مظاهر، وحركات، وحضارة، وثقافة، وفنون.

وقد حدد “ابن خلدون” خمسة عوامل من التعليل الاجتماعي الذي يؤثر في حياة المجتمعات:

العامل الطبيعي الجغرافي؛ عامل العصبية التي في ظاهرها وحدة النسب بينما في حقيقتها وحدة المصلحة؛ العامل النفسي الروحي الديني سواءً كان دينًا سماويًا أو وازعًا مستقلًا عن الدين؛ العامل المادي المتمثل في نوعية الأعمال لكسب المعاش؛ وأخيرًا، عامل الزمن المتمثل في حتمية التاريخ، وحتمية هرم الدولة مثلها مثل الإنسان.

واعتمد في تحليله الاجتماعي على عدة سنن أو قوانين: سُنة الدولة التي نظر إليها باعتبارها – مثل الإنسان – تمر بمراحل عدة، مراحل تطور وتدرج، تبدأ فيها بالبداوة وتنتهي بالهِرم والانقراض. ويصير من علامات هرمها الترف في أهلها الذين يضعفون عن مقاومة العصبيات المستجدة؛ وكذلك تفشي الظلم والمجاهرة بالمعاصي مما يعجِّل بانقراضها.

كذلك اعتنى “ابن خلدون” بسُنة الاقتصاد التي رآها تلعب دورًا محوريًا في تحول الدولة من البداوة إلى الترف والحضارة؛ فإذا بالترف يؤدي إلى غلاء الأسعار، وأزماتٍ في المعيشة، مُخلفًا انحطاطًا في أخلاق المجتمع، واندثارًا للقيم البدوية (الشرف). واعتنى أيضًا بسُنة السياسة التي اكتشف اعتمادها الأساسي على العصبية. فالعصبية القوية هي التي تهضم بقية العصبيات لتتربع على عرش السلطة. والظفر يكون دومًا لأهل العصبية العظمى إذا تساوت جميع العصبيات في العدد والعدة؛ فيتغلب فيها البدو على الحضر. أما إذا كانت العصبية العظمى أقل عددًا وسلاحًا وعتادًا، فإنها تُهزم مؤكدًا. والدين يزيد العصبية قوةً على قوتها. فإذا كانت الخلافة طريقها الدعوة الدينية، فإن الملك طريقه العصبية. ومن الجدير بالذكر، كما أكد “ابن خلدون” آسفًا، أن تحولت الخلافة إلى ملكٍ في بعض فترات التاريخ الإسلامي.

وأما عن سُنة “النمو والانحطاط”، فقد اكتشف “خلدون” اقتران دمار المجتمعات بفسوق وفساد المترفين، وانتقالهم من البداوة إلى الحضر. فإذا بلغ العمران غايته من الحضارة والترف انقلب إلى الفساد، وأخذ في الهِرم. والعكس هو الصحيح؛ بمعنى أنه إذا كانت غاية العمران إقامة العدل، تفجرت ثروات الأرض ونزلت البركات من السماء؛ إذ أن العدل يستدر البركة الإلهية.

وأخيرًا كان تناوله لسُنة “الترف وحتمية السقوط” التي أكد من خلالها أن ظلم الحاكم وتسلطه على أموال الرعية، مع التفسخ الأخلاقي المجتمعي الناتج عن الترف، يؤذنان بخراب العمران ودمار المجتمعات والحضارات. وهنا يلفت “ابن خلدون” الانتباه إلى دور الترف المدمر في تاريخ الجماعات البشرية؛ الأمر الذي جعل المؤلف يعرج بنا إلى وضعنا الحالي في القرن الواحد والعشرين، حيث تتجلى أمامنا ظاهرة التكاثر الشيئي، وخنق الإنسان المعاصر، وسحق مطامعه الروحية.

ويختتم المؤلف حديثه عن “ابن خلدون” بتبرئته من ادعاءات المستشرقين التي كانت قد اتهمته بافتقاده لأية أرضية دينية في أبحاثه ودراساته، باعتباره مُفسرًا ماديًا للتاريخ. وينفي المؤلف ذلك، واصفًا تلك الادعاءات بالافتراء المحض، مؤكدًا أن “ابن خلدون” هو ابن الإسلام، ووليد شرعي للبنية الإسلامية؛ وحتى إن كانت له بعض أخطائه التي حادت عن المنظور والمنهج الإسلامي في التأصيل، إلا أن خيره قد زاد وعم وكثر؛ وبالتالي من العدل الأخذ بخيره الكثير والتغاضي عن مواطن زلته القليلة.

ومثل “خلدون”، تناول “مالك بن نبي” – الأحدث زمانًا – السنن المعاشية، مستنبطًا القانون من الواقع، لا من النص القرآني؛ مستقرئًا الأحداث المجزئة، كاشفًا القانون الذي يجمعها، معززًا ما توصل إليه بما ورد في الكتاب والسُنة من دلائل وعبر. اتخذ “مالك” منهج التحول النفسي الفكري، أو “تغير ما بالأنفس” كمقدمةٍ لتغيير “ما بالقوم”، ثم ترجمة ذلك إلى قوانين نفسية واجتماعية. وقد التزم في ذلك بمنهاجين: منهاج النقد الذاتي وفحص التراث القابل للهزيمة، ومنهاج محاربة “أمية التفكير”. وتتمثل سمات منهج “مالك” في ثلاث: النظرة الشاملة للمشكلة الأساسية التي تنبثق عنها كل المشكلات الاجتماعية؛ ثم التحليل والتركيب، بمعنى أن يحلل المشكلة إلى عناصرها الأولية ثم يُركبها لإدراك قانونها الحاكم لها؛ وأخيرًا ربط الأحداث بالسُنن.

أرسى “مالك” قانون الحضارة في نظريته؛ فأوضح أولًا أن الحضارة هي مجموع القيم الثقافية المحققة لبناء اجتماعي مُركب، يشمل الإنسان والتراب والوقت؛ إلا أن هذه المعادلة بحاجةٍ ماسة إلى مفاعل الدين. وأما التاريخ البشري بالنسبة له، فهو عبارة عن مجموعة دورات، يُكمل بعضها بعضًا؛ كل دورة تشكل حضارة معينة لمجتمع معين. وكل دورة تمر بأطوار ثلاثة: مرحلة الروح (اندفاع الضمير)؛ ثم مرحلة العقل (وضع القوانين والتنظيمات)، وأخيرًا مرحلة الترف وسقوط الحضارة.

ويرى “مالك” مشكلة الحضارة لدى المسلمين متمثلةً في كونهم يعيشون على بقايا الحضارة الإسلامية، بكل أسف، مما يستلزم إدخالهم مرةً أخرى في قلب الحضارة. فالمسلم الذي أُهمل تثقيفه، يصير أنانيًا، لا يعلم كيف يكون فعالًا في مجتمعه؛ وهو يحمل فوق ذلك أمراض بيئته المتخلفة التي عاش فيها؛ تلك البيئة غير الإسلامية التي فصلت بين الفكر والضمير، وبعدت عن روح القرآن؛ فأسفرت عن ظهور مجتمع ما بعد الحضارة.

وقد حدد “مالك” مواطن الخلل الحضاري لدينا؛ من تحلل شبكة العلاقات الاجتماعية، إلى انعدام التوازن بين عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء[1]، إلى انعدام الفعالية وهيمنة الجمود على الفرد والجماعة، إلى تمزق عالم الثقافة بانقلاب القيم والمقاييس، إلى الانشغال بالحقوق دون الواجبات، (فتحولت الأمة إلى أمة الاستجداء لحقوقها بدلًا من أمة تقوم بواجباتها)، إلى شيوع الانفصام الأخلاقي الذي يحول دون تطبيق المسلم لشرائعه الإسلامية في دنيا الواقع، إلى شيوع العقلية الذرية العاجزة عن الربط والتعميم لانشغالها بالجزئيات دون الكليات، إلى شيوع فكرة حرفية العلم التي حوَلت العلم إلى آلة للعيش.

وعن كيفية استعادة النهضة، فقد قام “مالك” بوضع الأسس النهضوية التي بموجبها يستطيع المسلمون الدخول في الحضارة من جديد، مؤكدًا عدم كفاية حسن النية، مُلزمًا المسلمين بضرورة إيجاد منهج واضح للنهوض والإصلاح؛ وعلاج المرض في ذاته وليس فقط أعراضه.

يرى “مالك” أن القرآن والسُنة يوفران المناخ العلمي المناسب للعلماء المسلمين لكي يستنبطوا منه المنهج الإسلامي في النظر والاستدلال. فمن قراءته للقرآن والسُنة، استنبط قوانين التغيير والنهوض؛ كان أهمها قانون “تغيير النفس” الذي يؤدي إلى تغيير ما بأنفس الناس، فتتغير العلاقات والأحوال الاجتماعية. “إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم”. ولن يتغير الإنسان من جذوره حتى تُحل مشكلة الثقافة، بحيث يتهيأ المناخ الثقافي الذي يُنشئ الإنسان السوي السليم، المُحرر من الوراثة السلبية التي نقلت إليه مرض “القابلية للاستعمار” على مدار ستة قرون.

بعد مرحلة “تغيير النفس”، تأتي مرحلة “الإقلاع الإيماني”، أي الاندفاع بالإيمان العميق والتوتر الروحي في تطبيق الإسلام الذي يعطي المسلم قوةً فوق قوته؛ فالإيمان هو المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، وحينما يُفقَد تُفقد الروح، فتسقط الحضارة.

بعدها تأتي مرحلة “إعادة شبكة العلاقات الاجتماعية بين المسلمين” بحيث تصير شبكةً فعليةً قويةً لا مجرد خطابية. تلك الشبكة ضرورية لبناء الحضارة، ولربط العوالم الثلاثة (الأشخاص والأفكار والأشياء) في توافق واتزان. فما كان أفول نجم المجتمع الإسلامي الأول إلا نتيجةً لتمزق شبكات العلاقات، ومن ثم عجز الأشخاص عن القيام بأي نشاط مشترك، بالرغم أنه كان مجتمعًا ثريًا بالأفكار والأشياء.

ثم تأتي مرحلة “العمل والإقلاع الاقتصادي”، بما معناه السعي نحو تخطيط اقتصادي يناسب حاجات وموارد بلادنا، وتسخير الاقتصاد للاستقلال، ونشر الدعوة والجهاد لا الرفاهية والاستغلال كما يسخره الغرب. وهو الأمر الذي يتطلب تحريك رأس المال وتوجيهه فيما ينفع الناس باعتبارهم الرصيد الأساسي للبلاد، وليس المال. وفي ذلك، لابد من التركيز على الزراعة أولًا، قبل الصناعة، باعتبارها الأساس الأول لإمداد المواطن بغذائه، ومن ثم حمايته من الضغوط الاستعمارية. وأخيرًا، تأتي مرحلة “توجيه الثقافة”، بما تحويه الأخيرة من أخلاق، وعمل، وجمال، وتقنية. فيتم توجيه الأخلاق لتقوية التماسك بين الأفراد؛ ويتم توجيه الفرد من الكلام المجرد إلى المنطق العملي؛ ويتم توجيه الفرد نحو عنصر الجمال، وجعله ذوقًا عامًا؛ ويتم توجيه فئة مسلمة نحو اتقان تقنية أو صناعة تتناسب مع التصور الإسلامي، بعيدة عن شرور تحكم الآلة.

وبهذا الجزء، يكون المؤلف قد أتم بابه الثاني والأخير من كتابه، ليفتح بابًا آخر من الأمل في كيفية تحقيق التغيير المنشود. إلا أنه باب يستحيل فتحه، من وجهة نظري، في ظل الظروف السياسية الحالية؛ وهو ما قد يقودنا إلى النقطة الأخيرة من الموضوع؛ وهي ما انطبع لدي من تأملات بعد القراءة.

تأملات ما بعد القراءة

بعد قراءتي الكتاب، لح عليَ ذلك التساؤل: كيف صرنا على تلك الحال؟ تساؤل ممزوجٌ بحسرةٍ وخيبة أمل. كيف تحولنا من رواد مُعلمين إلى مروجي صناعة التفاهة والبلاهة والسطحية؟ كيف هوت جامعاتنا إلى أسفل سافلين لتصير في ذيل القائمة؟ كيف صارت ميزانية البحث العلمي في الحضيض بينما ميزانية دراما مسلسلات رمضان في أعلى عليين؟ كيف عزف شبابنا عن العلم بسبب تطلعاتهم نحو الكسب السريع عبر ظهورهم المهين على منصات الإنستغرام، والتيك توك؟

أقولها بمنتهى الصراحة، وبكل أسف، إن ما حاربه الإسلام من الدجل والأوهام والظنون والشعوذة – وكل ما يناقض قيمة العلم القائم على الدليل والبرهان – أضحى هو عين ما يتصف به مسلمو اليوم. فحينما تنظر اليوم إلى عقل المسلم المعاصر، ستجده مسكونًا بأي شيء غير العلم النافع المؤدي إلى العمل النافع. لقد ظل المسلمون، طيلة عشرة قرون منذ الهجرة، يقدرون قيمة العلم والعلماء، وفقًا لقناعاتهم وتصوراتهم الإيمانية التعبدية التي ترفع من شأن العلم وتحض عليه، فكانت النتيجة إنجازات علمية وحضارية مبهرة، كانت محط أنظار العالم كله. ثم انتقل المسلمون بعدها إلى هجر العلم، منحدرين تدريجيًا إلى قاع الحضارات. استمر هذا الانحدار أو السقوط التدريجي نحو خمسة قرون كاملة. نعم، خمسة قرون كاملة من التردي والتراجع والتخلف بعد عشرة قرون من البزوغ والتحضر والتألق. خمسة قرون من هجرٍ للسنن والقوانين الربانية، فكانت العاقبة لهم بالمرصاد؛ فسنن الله لا تحابي أحدًا، حتى ولو كان مؤمنًا موحدًا بالله.

وإذا كان الغرب قد نجح في فهم ودراسة السنن الربانية، بعد أفول الحضارة الإسلامية ليتم استبدالها بالحضارة الغربية (سُنة الاستبدال)، إلا أن خطيئة الغرب الكبرى تمثلت في إنكار الوحي والغيب؛ الأمر لذي جعل العلم الغربي ناقصًا مبتورًا متحيزًا، ومن ثم إنتاجه لحقائق “علمية” مشوهة مغلوطة؛ وهو ما انعكس في حياة الإنسان الغربي التي نُزع منها “الوحي” و”الغيب” نزعًا، لتصير بعدها حياةً بلا معنى، بلا هدف، بلا غاية؛ حياةٌ هي والعدم سواء.

لقد قرر الغرب، بعد تخلصه من السلطة الكنسية منذ القرن السابع عشر الميلادي، تخطي الدين السماوي كمصدر أساسي للعلم والمعرفة؛ واللجوء بدلًا منه إلى عقولهم البشرية التي صارت محل تقديس، وإلى الطبيعة التي صارت محل تأليه. فكانت العاقبة الإلهية لهم، تخبطًا وضلالًا وفسادًا على جميع المستويات؛ علميًا ونظريًا، وعقائديًا، وحياتيًا، وسلوكيًا.

كانت عاقبة إنكار الغرب للغيب، الخروج بأفكار وفرضيات سلبية وعقيمة ومريضة، عقدت الحياة وضيقت الأفق وسطحت التعليل؛ أهمها فرضيات “الصراع” و”الحتمية” و”الجدلية” و”التطور” و”المادية”. وكما أكد مؤلف الكتاب، فقد أوجد فلاسفة التنوير في الغرب “معارف ضالة” أفضت إلى إيجاد مأزق معرفي، أفضى بعدها إلى أزمة أخلاقية، غنية عن البيان.

لقد كانت عاقبة إنكار الغرب للغيب، اتباعهم للظنون والأهواء في نظرياتهم، واهتمامهم بالظاهر المحسوس فقط، وإهمال الباطن، والقلب، والحكمة، والعبرة، والمعنى. فأضحت حياتهم ميكانيكية مادية نمطيةً بامتياز، يعيش فيها الإنسان كآلة مُبرمجة. وإذا بالفكر المادي الصراعي يتأصل في رؤاهم، منتقلًا بعد ذلك إلى كل جوانب حياتهم. وما سياسات الحكومات الغربية تجاه المسلمين في الغرب والشرق إلا انعكاسًا لذلك الفكر. فتحول الحكومات الغربية في الألفية الثانية من استراتيجية الإدماج حيال المسلمين بالغرب إلى استراتيجية المواجهة، وتصعيدها للإسلاموفوبيا وحركات اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية …. كل تلك المشاهد ما هي إلا ترجمةً لذلك الفكر المادي الصراعي. ثم كان المشهد الأعظم والأكثر دلالة، هو رد الفعل الرسمي الأمريكي والأوروبي تجاه “طوفان الأقصى” منذ أكتوبر 2023، وتأييده لإبادة الفلسطينيين في غزة، فعلًا وتطبيقًا وممارسةً وسياسةً، وإن كان مُغلفًا بالقول “الناعم” الكذوب.

لقد كانت عاقبة بتر الغيب – من المعرفة والفكر والعقيدة والحياة والسلوك – الوصول إلى أشرس مراحل المادية اللادينية؛ إلى مرحلة “التطرف الوضعي”، حيث الادعاء بـ “موت الإله”، وحيث العلمانية الشاملة التي تمثل مرحلة ما بعد الحداثة ومرحلة ما بعد الأيديولوجيا؛ وتحول المادة ذاتها إلى المطلق، وهو ما تناوله “عبد الوهاب المسيري” في العديد من أدبياته.[2]

والحقيقة إن البون شاسع بين التصورين الإسلامي والمادي، وهو ما أحسن المؤلف في توضيحه بشكلٍ وافٍ وموسعٍ ومفصل. إنهما ليسا فقط تصورين متباينين، بل عالمين متضادين تمامًا. الأمر الذي يدلل على مدى الجُرم الذي أحدثه الكثير من المفكرين والباحثين العرب العلمانيين – مسلمين ومسيحيين – حينما استبدلوا تصورنا الإسلامي بالتصور المادي الغربي، بحجة الرغبة في التقدم والتمدن والتطور. لقد قاموا بخلع العقيدة من عقول المسلمين، وإخراجهم من حياة الإيمان بالوحي إلى حياة الإيمان بالمادة. باعتقادي، إن هذا العمل الإجرامي هو أكبر عملية مسخ يمكن أن يتعرض لها إنسان، بل أكبر ظلم له، وأكبر تجني على فطرته وعقله.

وبعد هذه “العملية” المجرمة التي نالت وطالت الكثير من المسلمين، لا يسعني إلا القول بأن عمليةً مضادةً صارت ذات أولوية قصوى في هذا المقام؛ وهي عملية بلورة منظور جديد بمدخل قيمي وأخلاقي، وتشكيل رؤية حضارية جديدة تعتق الإنسانية من تحكم سياسات القوى العظمى الباطشة التي تستهدف، عبر هذا التحكم، تحقيق مصالح كلٍ من الرأسمالية العالمية والشركات العابرة للقارات ومنظومة المركَب الصناعي العسكري.

نحن بحاجةٍ إلى رؤية حضارية جديدة – كما أكدت “هبة رؤف” – تستلهم القواعد والسنن الحاكمة من الكون، ثم تُتزلها على المنظومة المجتمعية. رؤية حضارية تساعدنا على التعلم من مخلوقات الله، وعدم التكبر عليها، وعلى تحرير قوة التدبر والتخيل الكامنة فينا، وعلى إطلاق فطرتنا لإعادة اكتشاف أنفسنا بعدما تمت إسالتنا بفعل الحداثة، والمادية، والرأسمالية، والعولمة. (هبة رؤف، “إطلاق العنان أمام تخيل نموذج حضاري جديد”.

نحن بحاجةٍ إلى تحرير أنظمتنا التعليمية الحداثية من أفكار المادية المطلقة والحتمية والميكانيكية، ومن ذلك الضبط الصارم الذي أغلق القلوب والعقول، ومنعها من التواصل مع الوحي والخبر الصادق، المصدر الأول والأساسي للمعرفة، ومن ثم منعها من التواصل مع سنن الله، ومقاصد تشريعاته. نحن بحاجةٍ إلى إعادة برمجة تفكيرنا وسلوكياتنا من جديد، بإدخال المنهج السُنني في التفكير والعمل، وبجعل السنن منطلقًا للتغيير، وفقًا للتصور الإسلامي، وأن نكف عن اتباع التغيير الخطي الصاعد كما ينص التصور الغربي المادي الوضعي.

حتى في الغرب ذاته، بدأت إرهاصات التحرر من النموذج الفكري الغربي المادي البحت. فكثير من الباحثين الغربيين لم يعودوا مقتنعين بالتفسير المادي الاختزالي المعتمد فقط على قوانين الفيزياء والكيمياء. فها هو Thomas Nagel يعلن شكوكه في علمية ومنطقية ذلك التفسير، متسائلًا: كيف للقانون المادي الطبيعي أن يفسر العقل والضمير، والوعي، والمقاصد، والقيم؟ كيف تُقاس الحقائق المعيارية الأخلاقية بمقياس المادة؟ وهو ما جعله يؤكد في النهاية، أنه لابد من وجود نظرية ما بعد مادية تفسر الكائنات الواعية المتجاوزة للمادة الفيزيائية. وها هي Sharon Street تؤكد أنه لابد من وجود تفسير تاريخي للحياة، يتضمن تفسيرًا للقيم؛ وأنه لابد من وجود حقائق أخلاقية معيارية لا يعود تفسيرها إلى الوقائع المادية الطبيعية.

عرض:

د. شيرين حامد فهمي*

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] فإما تطغى النزعة الكمية، فتطغى الأشياء على الأشخاص والأفكار؛ وإما يطغى الأشخاص على حساب التعلق بالمبدأ أو الفكرة؛ إما أن تطغى الأفكار المجردة التي لا تأخذ طريقها إلى التطبيق بسبب نقص الأشخاص والأدوات.

[2] لمزيد من الاطلاع، راجع:

عبد الوهاب المسيري، “حداثة داروينية أم حداثة إنسانية”، الجزيرة. نت www.ajnet.me، 10/10/2009.

* دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة.

عن شيرين حامد فهمي

شاهد أيضاً

السنن والتنظير: مساحات الالتقاء والافتراق

أ. د. شريف عبد الرحمن سيف النصر

خلال عصر التنوير الغربي (القرن الثامن عشر) وما تلاه، تأسس "التنظير العلمي" على الإيمان المطلق بقدرة العقل البشري على فهم العالم وحل مشكلاته، مما أدى إلى استبعاد الغيب، والاقتصار على التفسيرات المادية القائمة على الملاحظة والتجريب والقياس.

نحو علم للسنن الإلهية

أ. عادل بن بوزيد عيساوي

لقد أولى القرآن الكريم موضوع السنن الإلهية «المساحة الأكبر» ضمن مجموع الآيات والسور، وذلك لأهميتها كفلسفة في توجيه حركة الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.