في الكسل

الصفحات التالية من كتاب “المرشد الأمين للبنات والبنين”* لرفاعة رافع الطهطاوي**

في الكسل

هذا ولو أن الإنسان ناطق متفكر وقادر على إعمال فكره فى الحقائق والدقائق، إلا أن الدعة في كل إنسان طبيعية؛ حيث إعمال الفكر لا يخلو من التعب والنَّصَب، وقد قيل:

فَكَمْ دَعَةٍ أَتْعَبَتْ أَهْلَهَا     وَكَمْ رَاحَةٍ نَتَجَتْ مِنْ تَعَبْ

وقال آخر:

إنّ الشّبابَ والفراغَ والجِدَة    مَفْسَدةُ للمرءِ أيُّ مَفْسَدةْ

فتجد الإنسان دائمًا ينجذب للراحة ويميل إليها كل الميل آناء الليل وأطراف النهار كانجذاب الأَجْرَام[1] بما فيها من الثقل إلى المركز؛ فقوةّ الجذب وقوة الدفع اللتان في الأجرام الجوية موجودتان في الحالة الإنسانية؛ حيث إن الدعة تجذب الإنسان للسكون والارتياح، وقوّة العمل تدفعه عن مركز الدعة  إلى حركة النشاط والفلاح، وهاتان القوتان متعادلتان لا ترجح إحداهما على الأخرى، حيث اتحدت فيه هاتان القوتان إحداهما وهي محبة الدعة مسببة عن شهواته الشديدة، والثانية وهي الانهماك على العمل ناشئة عن نفوره من البطالة وإيثاره للأعمال الرشيدة.

والقوّة الأولى تسمي قوّة الملاذ والشهوات فهي قوّة في الحقيقة جسمانية خدمة للجسم، قال الشاعر:

يا خادمّ الجسمِ كّمْ تسعَى لخدمتِهِ    وتطلبُ الرَّبْحَ مما فيه خُسْرَانُ

عليكَ بالنفسِ فاستكملْ فضيلَتَها   فأنتَ بالنَّفْس لا بالجِسْمِ إِنْسَانُ

والثانية: تسمى قوة الأمل والعمل، قال بعضهم: إن طلبت المورد العذب  فاسلك طريق الصعب، وسِرْ سَيْرَ المجد الحازم، ولا تتكاسل في العزائم، واطلب مطالب الرجال، وإياك أن تدُعى بالبطال لعلك تجد على النار هدى، والناس في النشاط أقسام: هذا يسير وهذا يطير، فهيهات متى يلحق السائر بالطائر.

ومن كلام لقمان الحكيم: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، فهاتان القوتان متباينتان، ومستويتان في الإنسان بدون راجحية ولا مرجوحية، فحب الدعة يبعث الإنسان على أن يجر لنفسه جميع ملاذ الحواس، وأما الآمال فتبعثه على الحصول على راحة الروح وكمال التمدّن والائتناس، فالأولى تجمع في الإنسان جميع الملاذ البدنية وتسقطه في حضيض الإنسانية وتوصله إلى درجة الحيوانية:

تَزَوَّجَتِ البَطَالَةُ    فَأّوْلَدَهَا غُلامًا أَوْ غُلاَمَةْ

فأمَّا الابنُ لقَّبَهُ بِفَقْرٍ    وَأَمَّا البِنْتُ سَمَّاهَا نَدَامَةْ

وآمال الروح النورانية تجمع فيه جميع أنواع السلطنة العقلية وترقيه وتقربه من الدرجة الملكية الكاملة.

وهاتان اللذتان المتباينتان يظهر أثرهما في جميع البشر فترى هذا الأثر فيهم على اختلاف درجاتهم قد انبسط وانتشر فيوجدان على حد سواء في أفراد الملوك والرعايا، إلا أن لذة العمل منحة إلهية ولذة الدعة محنة شهوانية.

وقد عَلَّمَنَا سبحانه وتعالى وجوه المكاسب والمنافع، وألهمنا دقائق الفنون والصنائع؛ حيث مدح السعي وذم البطالة بقوله تعالى: (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) [النجم – 39] وقال تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة – 10] أي اطلبوا المعاش الذي فيه قوامكم، وفضل الله هو رزقه الذي تفضل به على عباده وأباحه بالبيع والتجارات المشروعة، فلا خلاف في أن طلب الرزق مشروع، قال صلى الله عليه وسلم: “اطلبُوا الرَّزق في خَبَايا الأرض”. وإنما الكلام في أن التكسب بعد الطلب هل يدخل في حد الفرض؟ وجوابه ما قاله الإمام الراغب من أن التكسب في الدنيا وإن كان معدودًا من المباحات من وجه فإنه من الواجبات من وجه، وذلك أنه إذا لم يكن للإنسان استقلال بالعبادة إلا بإزالة ضروريات حياته فإزالتها واجبة؛ لأن كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كوجوبه.

وقال الجُنْيد – رحمه الله تعالى: ” إذا رأيت الفقير يطلب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة، والله لا يحب الرجل البطال، فإن تعطل وتبطل فقد انسلخ عن الإنسانية وصار من جنس الموتى،وذلك أن الله خص الإنسان بالقوى؛ فالقوة الفكرية تطالبه بالعلوم التي تهديه وبالصنائع التي يترتب عليها من المكاسب والمنافع ما يرضيه ويصونه ويحميه، فحق الإنسان أن يتأهل بقوّة فكره ويسير بقدر ما يطيقه، فيسعى لما يفيده السعادة، ويتحقق أن سعيه سبب انتقاله من الذل إلى العز؛ ومن الفقر إلى الغنى ومن الضعة إلى الرفعة، ومن الخمول إلى النباهة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله تعالى من الكسل، وقال بعض الحكماء من تَخَلَّق بالكسل فَلْيَنْسَلّ عن سعادة الدَّارَيْن. وكان أبو مسلم الخراساني في مبادي خروجه للدعوة لبني العباس ينشد هذا البيت:

فَلاَ أُوَخَّر شُغْلَ اليَوْمِ عَنْ كَسَلٍ    إلى غدِ إنَّ يومَ العَاجِزِينَ غَدُ

ومن كلام أزدشير بن بابك كسرى الفرس: “شَهْدُ الجهد أحلى من عسل الكَسَل”، يعني أن الشهد الحاصل بالجهد أحلى من الكسل الشبيه بالعسل في ميل النفس إليه والتذاذها به، وقال بعض العقلاء: راحتي في جراحة راحتي، أي بالشغل، ومن شأن البطالة أنها تبطل الهيئات الإنسانية، فإن كل هيئة بل كل عُضْو تُرِكْ استعماله يبطل كالعين إذا غمضت، واليد إذا عطلت، فإن الأعضاء خلقت لحكم في كل شيء، فإن الله سبحانه وتعالى لما جعل للحيوان قّوة التحرك لم يجد له رزقَّا إلا بسعي ما منه لئلا تتعطل فائدة ما جعله له من قوّة التحرك، ولما جعل للإنسان الفكرة ترك له من كل نعمة أنعمها عليه من الأعضاء ما يحصله حينئذ بفكرته، لئلا تبطل فائدة الفكر فيكون وجودها عبثاً  .

وتأمل حال السيدة مريم – عليها السلام – وقد جعل لها من الرطب ما كفاها مؤنة الطلب، ولم يَحْن لها النخلة[2] وفيه أعظم معجزة، فإنه تعالى أمرها بهزَّها فقال: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)[ مريم – 25] وقد أخذ بعضهم منه إشارة إلى أن الرزق من الله تعالى، ولكنه مسبب تسبباً عادياً عن الطلب من العبد ومباشرة أسبابه،  فقال:

أَلَمْ ترَ أنَّ الله قالَ لمريم   وَهُزِّي إِلَيكِ الجِذعِ تساقط الرُّطَبُ

ولوشاءَ أَحْنَى الجِذْعَ من غير هَزَّه    إِلَيْهَا وَلَكِنَّ كُلَّ شَيْءٍ له سَبَبُ

وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن التوكل ليس التعطيل، بل لابّد فيه من التوسل بنوع من السبب؛ حيث قال : ” لوتوكَّلتم على الله حقَّ التوكُّل لرُزِقْتُم كما تُرْزَق الطيرُ تَغْدُو خِمَاصًا[3] تروح بِطَانًا”، فإن الطير ترزق بالطلب والسعي، نعم إنه لاينبغي الإفراط في الكدّ وصرف النظر عن الاستراحة بعض الأحيان يشهد لذلك حديث: ” إنّ المُنْبَتَّ[4] لا أرضا قطع ولاظهراً أبقى”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* رفاعة رافع الطهطاوي (2011). المرشد الأمين للبنات والبنين/ تقديم منى أحمد أبوزيد. القاهرة: الدار المصرية اللبنانية. ص ص. 67 – 73.

** رفاعة رافع الطهطاوي (1216 هـ/1801 – 1290 هـ/1873) من قادة النهضة العلمية في مصر في عهد محمد علي باشا.

[1] الأَجْرَام: الأجسام التي في الفلك مع ما فيها.(م)

[2] ولم يَحْن لها النخلة: لم يجعلها تتعطف وتنحني.(م).

[3] خِمَاصًا: جمع “خمصية” وهي ضامرة البطن من الجوع.(م).

[4] المُنْبَتَّ: الذي أتعب دابته حتى عطبت، فبقى منقطعا في سفره.(م).

عن رفاعة الطهطاوي

شاهد أيضاً

في تربية النشء الصغير وآثاره

أ. رفاعة الطهطاوي

عرف بعضهم التربية بأنها تنمية أعضاء المولود الحسية من ابتداء ولادته إلى بلوغه حد الكبر، وتنمية روحه بالمعارف الدينية والمعاشية؛ فبهذا انقسمت التربية إلى قسمين: حسية وهي تربية الجسد، ومعنوية وهي تربية الروح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.