أصول المنهج المعرفي من القرآن والسنة*
د. محمد أمزيان**
يتعلق هذا البحث ببيان الأصول التي ينبني عليها المنهج المعرفي في الإسلام من خلال استقراء نصوص الوحي، وهي أصول يمكن إجمالها في النقاط الآتية:
*اعتبار الوحي مقومًا وموجهًا للبحث العلمي، ومصدرًا معرفيًّا.
*اعتبار العقل مقومًا موازيًا للوحي والحس يتعامل معهما في حدود معطيات كل منهما.
*باعتبار الوجود أساسًا ومنطلقًا لممارسة النشاط المعرفي المنتج على مستوى الواقع.
الأصل الأول : الوحي
1-مصداقية الوحي:
إن اعتبار الوحي أصلاً من أصول المنهج الإسلامي له دلالته من الناحية المعرفية؛ إذ المعرفة الإسلامية لا يمكن أن تنفصل عن توجيه الوحي، بل إن من أخص خصائص هذه المعرفة أنها منضبطة ومحكومة بهذا الأصل، وهي الميزة التي تجعلها منفردة بمنهجها عن بقية المعارف الإنسانية التي تصدر عن اجتهاد إنساني محض.
إن المنهج المعرفي الإسلامي لابد أن يتكيف مع الإسلام في كل أبعاده، في ثوابته ومتغيراته. فهو لا يملك أن يجاوز الثوابت التي أقرها الإسلام؛ إذ يعتبر كل اجتهاد فيها إهدارًا للوحي ومصادمة لليقينيات التي ثبتت بطريق الوحي. وقد كانت نكبة المعرفة الإنسانية نتيجة مباشرة لعدم احترام هذه القاعدة المنهجية، فانتهت النظريات الفلسفية والمذاهب الفكرية المختلفة المشارب إلى التيه والتحكم وطغيان النزعة الذاتية وفرض الأفكار القبلية…، وهو ما يفسر شدة التضارب والاختلاف الذي تشهده الساحة المعرفية. والباحث في مجال المتغيرات يملك أن يجتهد ويبدع، ولكن عملية الاجتهاد والإبداع تظل بدورها مشروطة بموافقة الحق، ومحكومة بالمقاصد العامة التي أراد الإسلام تحقيقها وهي التي تنتهي إلى تحصيل مصلحة البشر في أوسع معانيها.
إن الإنسان لا يتأتى له أن يحيا حياة مستقيمة بمعزل عن توجيه الوحي، وقد كان للإعراض عن هذا الطريق انعكاساته السلبية على المجتمع الإنساني، وهي نتيجة طبيعية لتحكيم الإنسان عقله في مجالات لا يملك أن يفصل فيها كإنسانن وهذا يكفي للدلالة على مصداقية الوحي موجهًا ومقومًا لحركة الإنسان على الأرض، يحدد له سلوكه وأخلاقه، ويضبط فكره وتصوره، ويجيب على كثير من تساؤلاته الفطرية المشروعة حول الأبعاد الغيبية التي لا يملك الإجابة عنها، ويحدد له مكانته في هذا الوجود والغاية منها، ويعرفه بخالقه وما يلزمه في مقام العبودية، كما يعرفه بحقوقه تجاه نفسه وغيره….ن وهي مجموع القضايا التي تشكل الحقل المعرفي لنشاط الإنسان في سعيه الدءوب نحو إعطاء إجابات مقنعة وصحيحة قد يقترب فيها من الحقيقة بدرجات متفاوتة، ولكنه قد يتنكب الطريق بمعزل عن الوحي وهو الأغلب الأعم.
إن المعرفة الإنسانية المحضة لا يمكن أن تكون إلا نسبية ومحددة؛ لأنها محكومة بمحدودية الزمان والمكان، والإنسان قد يجد بعض الحلول لمشكلاته المختلفة في حدود ضيقة، ولكنها لا تجاوز معطيات زمانه ومكانه الخاصة به، ومن هنا حاجته إلى معرفة يقينية لا تكون في نهاية المطاف مجرد إفراز لمعطيات وحيثيات الزمان والمكان، وهي سمة تخص الوحي وحده. إن الوحي تقدير إلهي كتب في اللوح المحفوظ قبل أن يوجد الزمان والمكان، ومهمة الإنسان أن يتفاعل مع هذا الوحي وفق معطيات زمانه ومكانه إذا تعلق الأمر بالمتغيرات، بينما تظل الثوابت جامعة مشتركة؛ لأنها تخص الإنسان كإنسان بغض النظر عن حدود الزمان والمكان.
2-وظيفة الوحي
إن الوظيفة التي يقوم بها الوحي في المجالات المعرفية المختلفة ليست على درجة متساوية، وحضور النص القرآني أو الحديثي ليست له نفس الأهمية من حيث الوظيفة التي يؤديها. إن النص قد يستقل بإعطاء إجابات نهائية في بعض القضايا، ولكنه في قضايا أخرى قد يكون حضوره لمجرد التوجيه والترشيد، فحاجتنا إلى النص قد تقوى أو تضعف بحسب طبيعة المجال المعرفي الذي نعمل فيه:
- قد يستقل الوحي بتقديم معرفة جاهزة حول قضايا معينة بحيث يكون دور الإنسان فيها هو التلقي والفهم دون تدخل منه في تحديد عناصر هذه المعرفة أو اختيار موضوعها أو التعديل فيها بالزيادة والنقصان… وهنا يواجه الإنسان مجموعة من المعارف التي تعتبر حقائق يقينية ونهائية، يجد نفسه مطالبًا بالتسليم بصحتها ابتداءً، ومن هذا القبيل مجموع المعارف التي يتلقاها الإنسان عن عالم الغيب الذي لم يُعْط إمكانات البحث فيه.
إن القرآن يفصل بين عالمين مختلفين: عالم الغيب، وعالم الشهادة، لكل منهما مجاله الخاص وطبيعته الخاصة. فإذا تعلق الأمر بعالم الغيب أحال القرآن على الوحي كمصدر وحيد يستمد منه الإنسان معارفه على جهة الإخبار. بينما نجده فيما يتعلق بعالم الشهادة يحيل على الواقع ويدعو الإنسان إلى استعمال قدراته العقلية والحسية.
إن القرآن يؤكد بإصرار أن عالم الغيب من اختصاص الوحي وحده، وهذا الإصرار-من الناحية المنهجيةـ له دلالته في توجيه الإنسان إلى توفير الجهد العقلي الذي يبذله في محاولة استكشاف عالم الغيب، وتوظيف طاقاته في عالم الشهادة، وهو المجال الذي يمكن أن يبدع فيه. إننا نقرأ في القرآن الكريم آيات متتالية في هذا المعنى، يقول تعالى:
}وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) {الأنعام: 59 ({فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} (يونس: 20 ) {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} (هود :123)، بل إننا نجد أن القرآن ينفي أن يكون لأحد من البشر-حتى ولو كانوا أنبياء- دور في إدراك هذا الغيب والقدرة على كشفه ما لم ينزل بذلك وحي {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (الجن: 26- 27)، {وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 5)، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِين فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 44- 47) ، {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67). وهكذا يفهم من هذه الآيات أن الإنسان ليس له من الغيب سوى التبليغ وهو خاص بالأنبياء، والتلقي وهو لعامة الناس. ومن هذه الجهة جهة إخبار الوحي -تثبت جميع الحقائق التي يحتاج إليها الإنسان ويتوقف عليها نظامه الحياتي لتحقيق مقام العبودية، مع العلم أن الوحي لا يكشف للإنسان من هذه الحقائق إلا القدر الذي يصلح له ويحقق الاستقامة وينفي عنه الحيرة والتردد ويمنحه اليقين والطمأنينة.
- قد يستقل الوحي كذلك ببيان مجموعة من المعارف التي تتصل بتنظيم حياة الإنسان من الناحية الأخلاقية والتشريعية، وتقدَّم له في صيغة مجموعة من المبادئ والأوامر والنواهي، ويكون دوره فيها مجرد التلقي للامتثال لا غير، وهي مجموعة المعارف المتعلقة ببعض الأحكام الشرعية التي تكفَل الوحي ببيانها، وتعتبر أحكامًا قطعية ثابتة بالنص ولا تقبل الاجتهاد. وهذه المعارف لها أهمية قصوى في ضبط حركة الإنسان في علاقاته مع نفسه ومع الناس، وقد كان لعدم احترام هذا الأصل انعكاساته السلبية على واقع المجتمع الإنساني على المستوى الأخلاقي والتشريعي معًا.
- قد لا يكون للوحي هذه السلطة المطلقة في تقديم معرفة في شكل أحكام تشريعية نهائية، ولكنه يظل سلطة مرجعية يهتدى به في تحديد قواعد السلوك فيما لم يأت فيه نص صريح، وذلك من باب الاجتهاد وفق القواعد المقررة عند علماء التشريع.
وهذه الخاصية التي تميز بها المنهج الإسلامي في هذا المجال تمنحه بعدًا خاصًّا يتميز بموافقة الفطرة الإنسانية ويجعل تأثيره على الناس قويًّا جدًّا إلى الحد الذي يجعل استجابة الناس لهذا التشريع أمرًا تعبديًّا محضًا، كما يعتبر الخروج عنه تمردًا على قدسية الشريعة. إن انعدام هذه الخاصية في الدراسات القانونية الوضعية جعلت منها مجرد إجراءات لا سلطة لها على النفوس، ولم تفلح الآداب الصناعية في التخفيف من وطأة الإجرام وإعادة الثقة إلى الإنسان. لقد اعترف علماء الغرب بفشل مؤسساتهم القانونية ـرغم تقدمها- في صنع الإنسان الذي تحكمه النوازع الإنسانية، وتعتبر اعترافات الدكتور “ألكسيس كاريل” واحدة منها. يقول الكاتب: (ألم تهبط الحياة العصرية بمستوى ذكاء الشعب كله وأخلاقه؟ لماذا يجب أن ندفع ملايين الملايين من الدولارات كل عام لنطارد المجرمين؟ لماذا يستمر رجال العصابات في مهاجمة المصارف بنجاح، وقتل رجال البوليس، واختطاف الناس وارتهانهم، أو قتل الأطفال بالرغم من المبالغ الضخمة التي تنفق في مقاومتهم؟ لماذا يوجد مثل هذا العدد الكبير من المجانين وضعاف العقول بين القوم المتحضرين؟ ألا تتوقف الأزمة العالمية على الفرد والعوامل الاجتماعية الأكثر أهمية من العوامل الاقتصادية؟ من المأمول أن يضطرنا منظر الحضارة في بداية تداعيها إلى أن نتأكد مما إذا كانت أسباب الكارثة غير كامنة في أنفسنا ومعاهدنا، وأن ندرك تمامًا ألا مناص من تجديد أنفسنا[1].
إن ما ذكرناه في المجال التشريعي والأخلاقي ينطبق على المجال التربوي إلى حد بعيد، وإن استقلالية معاهدنا ومؤسساتنا التربوية عن توجيه الوحي الذي يكفل الحفاظ على هوية الأمة وشخصيتها الحضارية كان المسئول المباشر عن ظهور أجيال الاغتراب الفكري والحضاري والثقافي. والتربية التي تتحرر من قدسية الوحي وسلطته تظل مجرد إجراءات شكلية فارغة من أي محتوى إيماني، وهو أمر يكفي لقتل الحوافز الدافعة نحو الإبداع والتفوق، وأعراض هذه الظاهرة تغني عن كل بيان.
علاقة الوحي بالعلوم
أولاً: في مجال العلوم الإنسانية
علاقة الوحي بالعلوم الإنسانية علاقة متعددة الجوانب، ومن الصعب أن نلم بمختلف أطرافها في هذا الحيز الضيق.
وأهمية العلاقة بين الوحي والعلوم الإنسانية تكمن في أن كليهما يعالج موضوعًا مشتركًا هو عالم الإنسان بكل أبعاده المادية والنفسية والتنظيمية والأخلاقية…، وهي موضوعات لا بد أن يقول فيها الوحي كلمته الفاصلة ولا يتصور أن يستقل بدراستها الإنسان بمعزل عن رقابة الوحي وتوجيهه.
ودون الدخول في تفاصيل الموضوع نحدد طبيعة هذه العلاقة في اتجاهين:
الأول: يخص بعض التوجيهات والقيود المنهجية التي يفرضها الوحي؛ لتقترب هذه العلوم من الصواب. والثاني: يخص المعلومات الجاهزة التي يكشف عنها الوحي والتي من شأنها أن تعين هذه البحوث.
المستوى الأول: يمكن أن نستفيد من الوحي عدة ضوابط منهجية تمكن هذه العلوم من تحقيق موضوعيتها. نعرضها مختصرة :
* إن شمولية الوحي واستيعابه لمختلف النشاطات الإنسانية المادية منها والروحية من شأنه أن يفتح آفاقًا واسعة أمام العلوم الإنسانية؛ لتخرجها من إطارها المادي الضيق الذي وجدت فيه والذي انتهت معه إلى اختزال الإنسان في جوانبه المادية مع إغفال جوانبه الروحية والنفسية والعناصر الجمالية فيه.
* إن هذه الشمولية يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة بإمكانها أن تغير الصورة التقليدية لمفهوم العلمية في هذه العلوم، فتحرر العلمية من سلطة النزعة التجريبية كما تُمَارَس في العلوم الطبيعية والفيزيائية البحتة، وتعيد الاعتبار للأنساق المعرفية التي تعيد الاعتبار للقيم وتعتمد الدين مصدرًا معرفيًّا. وهنا فقط تتحرر العلمية من رواسب التاريخ الثقافي الغربي وتضع حدًّا لكونيته المزعومة.
* إن الوحي من شأنه أن يحرر العلوم الإنسانية من المنحى المادي الذي يكرس النزعة الإلحادية، وهي إشكالية غربية محضة ارتبطت بتاريخ الغرب الثقافي. وفي أفق التوحيد الذي يفرضه الوحي تتحول العلوم الإنسانية من مهمة تبرير مشروعية التصورات المادية حول الإنسان والمجتمع… إلى العمل على اكتشاف القدرة الإلهية المبدعة في الإنسان والمجتمع والحياة.
* إن تعاليم الوحي التي تدعو إلى الصدق والأمانة واحترام الحقوق وحسن الجوار يمكن أن تقوم بدور أساسي في إنقاذ العلوم الإنسانية من التوجهات الأيديولوجية، حيث تحولت هذه العلوم عن وظيفتها العلمية إلى تكريس نتائجها لخدمة مصالح طبقية وقومية وحكومية واستعمارية … والعلوم الإنسانية لن تتمكن من التحرر من ثقل الأيديولوجيا الذي يفرضه الوضع الطبقي للباحث وانتماؤه الاجتماعي والقومي والسياسي… إلا في ظل عقيدة التوحيد التي ترتفع عن مجموع هذه الانتماءات وتحترم الإنسان لإنسانيته.
* العلوم الإنسانية في عمومها ـ وإن على المستوى التنظيري ـ تفصل بين أحكام الواقع وأحكام القيمة، أي بين مجال البحث العلمي ومجال القيم، وذلك لأسباب منهجية، باعتبار أن القيم التي يدين بها الباحث تقف حائلًا دون تحقيق الموضوعية العلمية المرجوة، ومع أن هذا الإجراء المنهجي له قيمته العلمية في تحرير الباحث من ثقل العادات والتقاليد والموروث البيئي، فإن الثابت هو استحالة الفصل بين الباحث وبين مجموع القيم التي اكتسبها من وسطه؛ ولذلك لم يتم احترام هذه القاعدة النظرية على المستوى العملي، وظلت البحوث الإنسانية مثقلة بالتعصب والانحياز. وحل القضية في منظور الوحي ليس في تجريد الباحث من قيمه ـ فهي عملية مستحيلة ما دمنا لا نستطيع أن نجرد الإنسان من نوازعه الإنسانية ـ ولكن في ربط الباحث بقيم الحق والعدل، وتحريره من ثقل العادات والتقاليد التي يمليها الوسط الاجتماعي الضيق، والاحتكام إلى القيم العادلة التي تأخذ شرعيتها من الوحي باعتبارها متحررة من ثقل الميولات البشرية.
* العلوم الإنسانية تُحكِم المتواضعات الاجتماعية بما فيها من أعراف وتقاليد، وهي بذلك تعمل على تبرير الواقع الاجتماعي الفاسد وتعطي للسلوكيات المنحرفة شرعية الوجود لافتقارها إلى المقاييس التي تضبط بها قيم الحق والعدل والجمال، والتي تتيح لها التمييز بين الثوابت والمتغيرات، وهي ثغرة لن نتمكن من سدها إلا في ضوء حقائق الوحي.
إن الوحي يفصل بين مجالي الثوابت والمتغيرات، الثوابت الأخلاقية والأدبية والإيمانية التي ينبغي الرضوخ لهان والمتغيرات السلوكية التي ينبغي تكييفها وفق مقتضيات القيم العادلة. ولقد أدى تجاهل هذا الأصل إلى انحطاط الإنسان وقتل نوازع الإنسانية فيه. وقد عزى الدكتور “الكسيس كاريل” انحطاط الإنسان الأوروبي بالدرجة الأولى إلى غياب قيم الحق والعدل والجمال، وهو يتوقع أن تكون الجماعات التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نموها وتقدمها هي الجماعات والأمم الآخذة في الضعف والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من غيرها، بعد أن طرحت الآداب العامة ولم يعد هناك خلاف بين الخطأ والصواب والعدل والظلم.[2] إن العلوم الإنسانية في الغرب ـ على تقدمها وعمق بحوثها وحجم معاهدها والمتخصصين فيها ـ لم تفلح في رفع المستوى الأخلاقي للإنسان، ومن هنا كانت حاجتها الملحة إلى أخلاقيات الوحي.
المستوى الثاني: أما على المستوى الثاني في علاقة الوحي بالعلوم الإنسانية، فإن اعتبار الوحي ضمن المصادر المعرفية للعلوم الإنسانية يمكن أن يصحح كثيرًا من نتائج هذه العلوم، ويقدم معلومات جزئية إضافية تعين على كشف حقائق قد لا يتوصل إليها بمعزل عن إخبار الوحي.
إن الوحي يستوعب التاريخ الإنساني في خطوطه العريضة ويرسم حركته على الأرض ليس فقط في ماضيه، بل في مستقبله أيضًا، وتلك خاصية من خصائصه التي لا تشاركه فيها المعارف الإنسانية باعتباره أحكامًا إلهية نهائية، تظهر في صيغة الخبر عما كان وما سوف يكون. ولقد أخبر القرآن عن قطعية الوحي كمصدر معرفي في أكثر من مناسبة، كما تدل على ذلك هذه النماذج : قال تعالى:} فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} (الأعراف: 7) {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَ {(طه: 52(، {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} (هود: 100)، {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود: 120)، {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} (طه: 99)، وخلاصة ما تفيده هذه الآيات أن الوحي يمكن اعتباره وثيقة تاريخية فريدة في تغطية حياة الإنسان الممتدة في أعماق التاريخ، وهذا أمر له أهميته في إضاءة جوانب ظلت غامضة في تاريخ الإنسان الحضاري والاجتماعي والسياسي والمالي والقانوني والأخلاقي والأسري والديني[3].
فمثلاً بخصوص تطور المجتمعات البشرية حاول علماء الاجتماع أن يتطلعوا إلى اكتشاف القوانين الاجتماعية التي تخضع لها المجتمعات البشرية في مراحل تطورها, وظهرت نظريات متعددة متضاربة كنظرية الإنتقاء الطبيعي، ونظرية “كونت” في قانون الأحوال الثلاث، والنظرية الماركسية، وكلها تقع في التعميم؛ إذ إن صياغة قانون من هذا النوع ضرب من الوهم كما عبر عن ذلك منتقدوهم.
وحينما نعود إلى الوحي لنستقرئ من خلاله القانون المتحكم في سير المجتمعات وضبط حركتها غبر التاريخ، والموجه لمؤسساتها ونظمها والذي يرسم آفاقها المستقبلية نجده يرتبط بوجود عقيدة دينية، فنقطة الانطلاق في تكوين المجتمعات كانت عقيدة دينية، كما أن الثورات الاجتماعية العظمى والانقلابات التاريخية الكبرى في تاريخ الإنسانية كانت مرتبطة بالأنبياء والرسالات السماوية. وقد سجل القرآن العلاقة الطردية بين سلامة العقيدة واستقامة الناس عليها وبين توازن واستقرار المجتمعات وبالعكس، ومن مجموع الأحداث التاريخية التي عرفتها البشرية في نهوضها ونكوصها يسجل القرآن وجود سنن مطردة تحكم سير هذه الحركة وهي لا تخرج عن كونها سننًا هادية أو مدمرة.
ثانياً: علاقة الوحي بالعلوم البحتة:
إذا كان تعلق الوحي بالعلوم الإنسانية ظاهرًا إلى حد بعيد، فإن تعلقه بالعلوم البحتة لا يمكن إلغاؤه. وفي تقديري أن التقاء الوحي بالعلوم البحتة يتم عبر نقاط أربع يلتحم فيها الدين بالعلم لتوجيه مساره التطوري توجيهًا سليمًا.
* مهما كانت العلوم البحتة ذات طبيعة عملية فإنها لا تخلو من بعد أيديولوجي بشكل من الأشكال، وقد تستخدم كثيرًا من النتائج العلمية لتأكيد بعض الفرضيات والمواقف التي تمس قضية الإيمان بشكل مباشر. وعلى سبيل المثال فقد استثمرت النظرية المادية نتائج الكشوف العلمية في مجال الذرة والخلية لتأكيد نزعتها المادية واعتبار الطبيعة مصدر الحياة والقول بنفي الخالق.. ولقد قدر للعلم أن يسير في هذا الطريق المنحرف من منطلق ردود الفعل التي وقع فيها العلماء ردًّا على تعسف رجال الدين في الغرب، غير أن هذه الجفوة بين العلم والدين أخذت تضيق، ولم يكن أمام العلماء بد من الاعتراف بأن العلم لا يملك إلا أن يسير في طريق الإيمان[4].
* إن تقدم العلم المستمر وما حققه من كشوف قد طرح مشكلات جديدة لم تكن معهودة من قبل تمس قضايا إنسانية ليست بمعزل عن أحكام الدين. إن كشوف العلم حول زرع الأعضاء وبنوك الحليب وأطفال الأنابيب وبعض أساليب تحديد النسل… وغيرها كثير، لا يمكن اعتبارها قضايا علمية محضة، إنها تمس الوضع الأخلاقي والسلالي للإنسان، وهي قضايا تعد من صلب الدين، وتستوجب رقابته وتدخله لحسم الموقف لصالح القيم الإنسانية.
* إن الوضع الحالي للعلم ـ كما هو الآن في الغرب ـ قد أصبح مصدر قلق للإنسان بعد أن انفصل التقدم العلمي الذي أحرزه الإنسان في عالم المادة عن التوجيه الديني والروحي؛ مما نتج عنه عدم التوازن بين الحاجات الروحية للإنسان الآخذة في الضمور، وبين حاجاته المادية التي أصبحت طاغية إلى درجة تقلق راحته وتهدد وجوده. (إن العلم المادي ـكما يقول الكسيس كاريل ـ اهتم إلى حد بعيد بتنمية الخصائص الكمية للإنسان، ولكنه أهمل بنفس العمق خصائصه النوعية، ولقد أدى فهم العلم المادي الذي استأثر باهتمام وإرادة الإنسان بصفة مستمرة إلى نسيان العالم الروحي نسيانًا تامًّا…وقادتنا علوم الجماد إلى بلاد ليست لنا…. ولقد أصبح الفرد ضيقاً متخصصًا فاجرًا غبيًّا غير قادر على التحكم في نفسه ومؤسساته. والتقدم الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التي عانت منها الإنسانية.. ولم يفلح رجال الدين في إنقاذ مجتمع يتداعى تحت وطأة الآداب الصناعية التي تقتل إنسانيته لتملقهم شهوات الجمهور ووقوفهم إلى جانب الساسة والأغنياء[5]. ولسنا في حاجة بعد هذه التصريحات إلى القول بأن الوحي وحده يضمن إعادة التوازن إلى المجتمع الإنساني وإعادة بناء الإنسان وإعادة الاعتبار لأبعاده الروحية والمعنوية والقيمية، والتخلص من الدمار الذي خلفته الآداب الصناعية.
* النقطة الأخيرة من نقاط الاتصال بين الوحي والعلم تخص المعطيات العلمية التي يقدمها الوحي في شكل معارف مجملة أو مفصلة، والتي ينتهي العلم إلى اكتشافها مع تطور الزمن وتقدم الوسائل العلمية. والحقائق العلمية التي تضمنها الوحي إذا واجهها العلماء بعقلية مجردة من الخلفية اللادينية التي أصبح العلم مثقلًا بها فسوف تشكل مصدرًا معرفيًّا مهمًّا ومؤشرًا قويًّا لتطويع طريق الكشوف العلمية. وإذا كانت كثير من المعارف التي تضمنها الوحي قد كشفها العلم أو بعضًا منها، فإن هذا التلاقي بين العلم والوحي حول حقائق علمية ثابتة من شأنه أن يعيد الثقة التي فقدت بين العلم والدين، ويعود العلم بعد شروده الطويل إلى رحاب الإيمان.
الأصل الثاني : العقل
سبق القول إن من سمات المنهج الإسلامي في المعرفة الوحدة والتكامل، فحيث فرض الوحي قضية الإيمان لم يطالب بمجرد التصديق الأعمى المجرد من البرهان العقلي، وحيث فرض التكليف لم يجرده من التعليل العقلي، وحيث فرض الأحكام الشرعية لم يغفل جانب العلة والحكمة فيها، وهي مسألة تتوقف على الإدراك العقلي، وحيث فرض عمارة الأرض كان مقتضى العمارة والاستخلاف نفي العبثية والتصرف الأعمى، وهي كل المعاني التي حمَّلها القرآن كلمة الأمانة، والأمانة تكليف، والتكليف مداره اليقظة وقوة الإدراك. فالوحي لا يلغي العقل بل يكمله ويغذيه ويرشده، كما أن العقل لا ينفي الوحي بل يتمثله ويكيفه حسب مقتضى الزمان والمكان، وكما لا يُخشى على العقل من الوحي، لا يُخشى على الوحي من العقل.
- ماهية العقل عند المسلمين
كان من المنطقي أن يختلف التصور الذي يعطيه الإسلام لماهية العقل- وهو تصور واقعي ـ عن التصور الميتافزيقي الذي تحمله الثقافة اليونانية.إن الفلاسفة يعرفون العقل (بأنه جوهر قائم بنفسه)، ومن هنا جاءت بحوثهم حول ماهية العقل كشئ له وجوده المستقل عن الإنسان، وهي بحوث ليس تحتها طائل؛ لأنها تحمل تصورًا غيبيًّا وتبحث في شئ لا وجود له على مستوى الوجود الواقعي.
ولقد أدرك المسلمون خطأ الفلاسفة في تعريف العقل فلم يهتموا بالبحث في ماهيته كجوهر مستقل بذاته قائم بنفسه، بل اهتموا به كوسيلة للتفكير والإدراك، أي صفة لازمة للعاقل لا يتصور لها وجود البتة بمعزل عن موصوفها، فالتعقل عندهم صفة لازمة للعاقل نفسه[6]. فسمي (العقل) عند المسلمين صفة، هو عرض قائم بالعقل. وعلى هذا دل القرآن في قوله تعالى {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، {يَعْقِلُونَ بِهَا}، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}. ومعنى كونه صفة أنه قوة مدركة فطرية في الإنسان؛ ولذلك قالوا إنها غريزة فطرية في الإنسان يدرك بها الأشياء ويستنبط بها الأحكام, تمامًا كما أن في العين قوة بها يبصر، وفي اللسان قوة بها يتذوق، وفي الجلد قوة بها يلمس[7].
- معنى العقل في القرآن والسنة
الحديث عن معنى العقل في القرآن والسنة يستلزمه ذلك الجدل الحاد حول هذا الموضوع، الذي يهدف إلى إفراغ هذا المصطلح القرآني من كل دلالاته المعرفية والعلمية وحصر مدلوله في معناه اللغوي الذي يعني مجرد المنع والكبت والإمساك، ومن ثم وصف الإسلام بالتحجر والإنغلاق وضيق الأفق، أو في معناه الأخلاقي الذي يأتي في صورة تأنيب وتقريع، وهنا تضيق دائرة العقل في الإسلام لتختزل مجموع العلميات العقلية في الوجدان والإحساس والشعور، أو في معناه الإيماني الذي يعني التفكير بنعم الله وإحسانه وإثارة مشاعر التعجب في الإنسان لاستجاشة وجدانه، ومصدر التعقل هنا دائمًا هو القلب لا غير[8].
والقاعدة العامة التي تحكم هذا التصور أن العقل في التصور الذي تنقله اللغة العربية المعجمية يرتبط دومًا بالذات وحالاتها الوجدانية وأحكامها القيمية، وهو في نفس الوقت عقل وقلب ووجدان وتأمل وعبرة…. أما في التصور الذي تنقله اللغات الأوروبية فالعقل مرتبط دومًا بالموضوع فهو إما نظام، وإما إدراك هذا النظام، وإما القوة المدركة[9]. وإذا وجد شئ من هذه المعاني في الثقافة الإسلامية فهو دخيل عليها وتسرب إليها من دخول الفكر الإغريقي إلى العلم الإسلامي[10].
هذا باختصار شديد ما يوصف به معنى العقل في القرآن والسنة وفي الثقافة العربية الإسلامية عمومًا قبل أن تنفتح على المفاهيم الخارجية التي غيرت الكثير من معالمها حسب هذا التصور، وهو تصور يقدم نفسه بنفسه؛ إذ يظل حبيسًا للمقولات الاستشراقية التقليدية لا يقدم جديدًا في هذا الموضوع.
على أننا نقرر هنا ـ وهي قضية منهجية محضة ـ أن تحديد معنى العقل في القرآن والسنة يتوقف أساسًا على استقراء معطياتهما، وقد دل الاستقراء على أن المعنى الذي توحي به النصوص على اختلاف ألفاظها واستعمالاتها تجعل من العقل قوة إدراكية معيارية. وهذه أمثلة تدل على ذلك، استندنا في تصنيفها إلى كتاب “مفهوم العقل والقلب في الكتاب والسنة”:
- يوجه القرآن الكريم الإنسان إلى تأمل ظواهر الطبيعة كدليل على وحدة الخالق: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 164) والآيات التي ترد في مجال الظواهر الطبيعية كثيرة ونكتفي بهذه لكونها جامعة.
قيل إن الآيات القرآنية التي جاءت في هذا السياق تؤدي مجرد وظيفة (إشارية) أي إنها تشير إلى عظمة الخالق فحسب، وهي قضية وجدانية لا علاقة لها بالعقل الذي هو فهم نظام الطبيعة[11]. والحقيقة أن القرآن يضع كتاب الطبيعة أمام الإنسان ليقرأ صفحاته؛ واعتبارها (آيات) أي أدلة وبراهين، يقتضي أن تكون البراهين عقلية أيضًا لأنها تساق إلى قوم يعقلون. فإذا كان تأمل الطبيعة ودراسة أسرارها ودقائقها ودراسة مظاهر الحياة والموت والإنسان والحيوان والنبات.. يلقي ضوءً كاشفًا على الحقيقة، فإن الفعل (يعقلون) يوحي لنا بأن العقل واسطة هذا الكشف، فالعقل هنا أداة التعقل ودوره تتبع الظواهر وإدراك العلائق التي تربط بينها وبين استنباط الحقائق[12].
- يوجه القرآن الإنسان إلى تأمل العلاقات السببية القائمة بين ظواهر الطبيعة كجعل الماء سببًا في الحياة ـكما هو في الآية السابقة ـ ومن البدهي أن التعقل الذي يدعو إليه القرآن هنا هو إدراك طبيعة هذه الارتباطات القائمة بين الظواهر كمعطى خارجي لا علاقة له بالوجدان وهذا الإدراك يورث معرفة عقلية منطقية.
- يصل الطرح القرآني للعقل بمعنى الفهم والإدراك إلى أبعد مستوى حينما يقرر أن الأمثال المضروبة في القرآن الكريم, وهي الأقيسة العقلية، لا يعقلها إلا العالمون{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (العنكبوت: 43).
- إن القرآن ينفي الجنون عن محمد صلى الله عليه وسلم- بعد أن أشاع الكفار ذلك، والجنون ضد العقل، وهذا معناه أن العقل هو الميزة الأساسية التي دافع القرآن بها عن الرسول ودعوته.
- إن القرآن يعيب على اليهود مواقفهم المتناقضة بين القول والفعل, وينفي عنهم بسببها صفة التعقل؛ لأن العقل يقتضي التوافق ودفع التناقض, ومن هنا يأتي هذا الإنكار عليهم : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّوَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44).
- إن القرآن يستعمل ألفاظًاً أخرى كالقلب والفؤاد والنُّهى والحلم والحجر للدلالة على نفس المعنى، وإن كانت لها معانٍ جزئية جانبيةن فالحلم من التحلم، والنهى من النهي، والحجر من المنع.. وهي صفات العقل التي تمنع من الجهل والتورط والاندفاع فيما لا ينبغي له، وهذا جانب من جوانب المهمة التي توكل للعقل في هداية النفس. لقد ورد لفظ القلب في قوله تعالى : {إِنَّفِيذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) أي قلب سليم يدرك به كنه ما يشاهده من الأمور، ويتفكر فيها كما ينبغي. وقد فسره «ابن عباس» و«مجاهد» و«أبو الليث» بالعقل. وفي نفس المعنى يذكر القرآن أن الرجل له قلب واحد، فيلزمه أن يتخذ موقفًا واحدًا؛ حتى لا يناقض نفسه، فيأتي القلب في معنى العقل {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ في جَوْفِهِ {(الأحزاب: 4).
وورد لفظ النُّهى بمعنى العقل {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لأولِي النُّهَىٰ} (طه: 128)، والآية تدخل تضمن الأمثال المضروبة في القرآن وأخذ العبرة من الأقوام السابقين، وقد استخلص ابن تيمية من هذه الأمثال قانونًا عامًا سماه قياس الطرد وقياس العكس، وهذه مسألة برهانية منطقية.
وجدير بالذكر أن العقل في القرآن والسنة إلى جانب كونه عقلًا برهانيًّا إدراكيًّا، فهو في الوقت نفسه عقل معياري قيمي، لا يكتفي بالإدراك المجرد، ولكنه يدرك الإدراك الذي يجعله يتعرف الهداية، ويسلك سبيلها، ويتقرب إلى الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولا تعارض بين هاتين السمتين، فكونه معياريًّا قيميًّا ـ وهي مسألة لا تقوم على الإدراك والتعقل ـ لا ينفي كونه إدراكيًّا برهانيًّا. فلإنه يميز بين الحق والباطل، والحسن والقبح، والخير والشر، يقف إلى جانب الحق والعدل والخير، ويتجنب الانحراف والضلال، وهو موقف قيمي؛ ولهذا بين القرآن الكريم أن سبب الانحراف يعود إلى عدم العمل بمقتضى هذا العقل السليم {وقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك:10- 11). والجمع بين الإدراك الموضوعي إلى جانب الوقفة المعيارية سمة الإسلام الذي لا يعرف الانفصام والانفصال.
ومن جهة أخرى يخص القرآن القلب بوظائف أخرى تجاوز مجرد الإدراك، فالقرآن أسند إليه وظائف تتصل بالتفكير والعقل تارة، وتارة أخرى بالحس والإلهام، وأخرى بالإحساس والمشاعر…. ويمكن القول بوجود عموم وخصوص بين العقل والقلب، فهما معًا يشتركان في الناحية الفكرية ويختص القلب بالناحية الوجدانية[13].
- وظيفةالعقل
من البدهي أن يكون العقل الذي يتحدث عنه القرآن والسنة هو العقل الذي يتميز بالقدرة على الإدراك الواعي لطبيعة هذا الوجود ونظامه وترتيبه وعلاقاته، فهي معان أولية يتوقف عليها حمل الأمانة التي كلف بها الإنسان، وكان عبثًاً أن يُحَمِّل القرآن الإنسان أمانة عمارة الأرض ـ بكل ما تحمله هذه الوظيفة من أبعاد معرفية وحضارية ـ ثم يلغي بعد ذلك عقله ويختزل إدراكه في دائرة الإحساس والوجدان.
إن هذه الوظيفة التي كلف بها الإنسان تقتضي بالضرورة أن يمتلك الإنسان القدرة على فهم النظام السنني الذي رتب عليه هذا الوجود كشرط أولي لصنع الحدث التاريخي وإنتاج الحضارة.
إن علماء الإنثروبولوجيا والإنسان يميزون بين إنسان بدائي وإنسان حضاري، والشعوب البدائية هي التي بقيت على هامش التاريخ وعاشت حياة الهمجية المتدنية تتحرك بدوافع غريزية محضة تمامًا كما تفعل الحيوانات التي تدفعها غريزة الأكل والشرب والتناسل إلى حفظ بقائها، ولكنها لم تصنع تاريخًا ولم تنتج حضارة. ويعتقد علماء الإنثروبولوجيا أن الفرق بين الشعوب البدائية والشعوب التاريخية يكمن في طريقة التفكير، فالعقلية البدائية عقلية بسيطة غريزية خرافية سحرية تفسر ظواهر الكون بالخوارق والأرواح التي تتوهمها، ولكنها لا تدرك النظام السببي والعلاقات العلمية القائمة بين ظواهر الكون. وسواء صحت هذه الفرضية أم لا، فإن الثابت أن توفر القدرات العقلية عند الإنسان هي منطلق فاعليته وحركته في التاريخ وشرط في أداء وظيفته الحضارية.
ولكن ما هي الحدود التي يرسمها الوحي لوظيفة العقل؟ أهي وظيفة مطلقة تُسيِّد الإنسان وتجعله حَكَمًا في كل شئ؟ أم أنها تخضع لضوابط معينة؟.
قلنا إن سمة المنهج المعرفي الإسلامي التي تميز بها وانفرد بها هي الوحدة والانسجام، وهنا نعود مرة أخرى إلى طرح مشكلة العقل ضمن نسقها العام في علاقتها بالوحي وفي علاقتها بالوجود.
- العقل والوحي:
العلاقة بين العقل والوحي جدلية، فالوحي باعتباره خطابًا تكليفيًّا يحتاج فهمه إلى فقه عميق لفهم ألفاظه ودلالاتها ومستويات هذه الدلالة لتنزيل النص القرآني على الواقع الإنساني وتكييفه وفق مقتضيات الزمان والمكان. فالوحي بمعزل عن اجتهاد الإنسان يظل معطلاً، كما أن الاجتهاد الإنساني خارج حدود الوحي نقض للأمانة والتكليف.
على أن هذه العملية الاجتهادية لا تتحدد ضمن إطارها التشريعي الضيق، كما قد يتبادر إلى الذهن، فهي عملية تقويمية تمس مختلف الجوانب الإنسانية التصورية والتشريعية والفكرية والاجتماعية والسياسية، والإنسان مدعو إلى أن يقوِّم دائمًا أوضاعه تلك في ضوء حقائق الوحي ما كان منها نصًّا صريحًا أو كليات ومبادئ حتى يسلم من الانحراف.
ولسنا في حاجة إلى التذكير هنا بأن وظيفة العقل إنما تتحدد في عالم الشهادة، بينما يكون عملها في الجوانب الغيبية هو التلقي والفهم القائم على البرهان العقلي، بمعنى أن القضايا الاعتقادية التي يطرحها الوحي لا يتنافي كونها غيبية مع إمكانية إثبات صدقها عقليًّا، فالألوهية والتوحيد وقيام الساعة والبعث قضايا غيبية من جهة الإخبار، ولكن إثبات صدقها ممكن من جهة البرهان العقلي، وهذه البرهنة تؤسسها النصوص نفسها، فالنص نقلي خبري في مصدره وبرهاني عقلي في محتواه ومضمونه. وسواء تعلق الأمر بقضايا تشريعية أو اعتقادية فعمل العقل عمل استنباطي استدلالي وقياسي برهاني، وتلك أخص خصائصه.
- العقل والوجود:
تتحدد المعرفة الإنسانية المتعلقة بالوجود المادي للأشياء انطلاقًا من معطيات الحس والتجربة كشرط أولي لبناء معرفة يقينية في هذا المجال؛ ولهذا السبب وجدنا القرآن يوجه العقل إلى معطيات الحس ويجعلها مناط المسئولية {لا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36) وهي التفاتة لها دلالة علمية تقتضي استثمار الإنسان حواسه المختلفة باعتبارها منافذ يطل من خلالها على الوجود الحسي، كما هو محدد في الزمان والمكان.
يشكل الوجود -إذن- المجال الذي يمارس فيه الإنسان نشاطه المعرفي، يتعرف فيه على خصائص الأشياء وصفاتها. ولكن المعرفة العقلية في مجال الأشياء ـ كما يقول عبد المجيد النجارـ لا يتعدى نطاقها حدود الظواهر والصفات والآثار إلى حقيقة الماهيات والأكناه[14]. ومعنى ذلك أن الإنسان بإمكانه أن يبحث في صفات الأشياء وخصائصها وتركيبها كمعطيات حسية آنية، ولكنه ليس من اختصاصه أن يبحث في أصل وجود هذه الأشياء وكيف وجدت، فتلك أسئلة لا تمس الأشياء في خصائصها المادية المدركة، ولكنها تمس الأشياء في بعدها الغيبي الذي يخرج عن حدود الزمان والمكان، وتلك قضية تخرج عن اختصاص العقل.
لقد وجه الوحي الإنسان إلى تأمل الطبيعة من حوله، ووراء هذا التوجيه حكمة بالغة، ولم يكن عبثًا أن يحشد القرآن هذا السيل من الآيات التي تدعو إلى التفكير في أجزاء الطبيعة، فلم يكن ذلك إلا لتنبيه الإنسان إلى الانتفاع بها، وهو الأمر الذي يعبر عنه القرآن بـ(التسخير). فكل شئ في هذه الطبيعة مسخر للإنسان {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} (الحج: 65 )، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (إبراهيم: 32- 33) {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} (النحل: 14)، على أن هذه الأشياء الهائلة الممتدة التي سخرها الله للإنسان لا يمكن أن ينتفع بها إلا إذا عرف خصائصها ووقف على السنن التي أودعها الله فيها، وتلك قضية نالت اهتمام القرآن؛ ليغرس في شعور الإنسان أن كل ما حوله من أشياء تمضي وفق قانون ثابت لا يتخلف، والوقوف على اكتشاف القانون هو وحده الذي يمكنه من الانتفاع بها {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}) الأنعام:96)، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الأنعام: 97)، {وَالَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس: 5)، {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (الرعد: 2)، {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون} (يس: 40)، وهكذا نجد حشدًا هائلًا من الآيات تحيل الإنسان على استقراء ما حوله من أشياء وظواهر تشير إلى ثباتها في سنن تسمح له باستثمارها والانتفاع بها، ومن ثم تأتي دعوة الوحي إلى العقل لتدبرها والتفكير فيها.
- واقعية العقل في المنظور الإسلامي :
الواقعية سمة طبعت التفكير الإسلامي في كل المجالات المعرفية التي يتحرك في أفقها، وهي واقعية تصادفنا على مستويات مختلفة، تظهر في الإعراض عن الخوض في المشكلات التي تأخذ بعدًا افتراضيًّا، وتظهر في معارضة التفسير الخرافي الوثني، كما تظهر في تحكيم الحس لاختبار صدق القضايا الحسية، وتحكيم الوحي في اختبار صدق القضايا الغيبية.
- التزام البحث في القضايا العملية :هذه القاعدة الثابتة يعبر عنها الإمام مالك -رحمه الله- فيقول: (الكلام في الدين أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه… ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل[15]. ومقتضى هذه القاعدة أن كل اجتهاد فكري ليس تحته عمل أي ليس له تعلق بقضايا عملية، فالخوض فيه ضرب من الوهم؛ ولذلك رفض طريقة المتكلمين الذين تكلموا في قضايا عقدية خالفوا فيها المنهج القرآني، ودعا إلى نبذ المناظرة في الدين، ودعا إلى الاجتهاد في القضايا التي تمس واقع الناس. وعلى المستوى الفقهي المحض رفض فقهاء الإسلام ما اصطلح عليه بالفقه الافتراضي، وهو الفقه الذي يفترض القضايا ليبحث لها عن الحلول، فكانت القاعدة المشهورة عند الفقهاء (دعها حتى تقع) لأن الواقعة متى وقعت درست في إطار شروطها الموضوعية وحيثياتها الملموسة.
- تحكيم الحس في القضايا الحسية :يميز علماء الإسلام بين الإمكان الذهني والإمكان الخارجي. والإمكان الذهني معناه أن الشئ الذي نتصور وجوده في الذهن لا نعلم ما يمنع وجوده في الخارج، أما الإمكان الخارجي فمعناه: أننا نعلم بوجود الشئ في الخارج. وهم يقولون إن الإمكان الخارجي لا يثبت بمجرد الإمكان الذهني بمعنى أنه ليس كل شئ نتصور وجوده في الذهن يمكن أن يوجد في الواقع، وهم يعتبرون ذلك مذهب السوفسطائيين وأهل الجدل الباطل[16]. والتمييز بين الإمكان الذهني والإمكان الخارجي دليل على الحس العلمي في منهج المعرفة الإسلامية الذي يرفض الاحتكام إلى الفرضيات العقلية في القضايا الحسية، وينطلق من التجربة الحسية ذاتها في إثبات صدق القضايا الحسية. يقول الأستاذ محمد المبارك (إن الوحي يتحدث عن طبيعة حية ملموسة، يتحدث عن أجزائها وظواهرها وعناصرها المختلفة باعتبارها عناصر واقعية ممكنة الإدراك وفي متناول العقل والحس؛ ولذلك يستحث الإنسان على إعمال سمعه وبصره ونظره وتفكيره، وبذلك يكون الوحي قد أحدث تغييرًا جذريًّا عميقًا بالغ الأهمية، فبدل المنهج التأملي الذي كان ينهجه اليونان والذي يعتمد على مجرد التصور العقلي والقياس المنطقي المجرد، أقام المنهج التجريبي وجعله المنهج الأساس في مجال البحث الطبيعي[17].
- تحكيم الوحي في القضايا الغيبية :ليس اعتباطًاً أن يتعرض المسلمون لنقد الفكر الفلسفي الذي احتكوا به في تلك الفترة المبكرة من تاريخهم، فقد كان الفكر الفلسفي اليوناني ذا نسق ميتافيزيقي، ينشد تحصيل الحقائق الغيبية بالأقيسة العقلية والأنظار الفكرية، وتصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع، وتلك إحدى الدعامات التي استند إليها المسلمون في تعليل رفضهم لهذا الفكر[18]. هذا المسلك يقوم على دمج عالم الغيب في عالم الشهادة وإخضاعهما لنفس القانون في الإدراك، وهي مجازفة لا يقبل بها العقل الإسلامي الذي لا يقحم نفسه في قضايا تفوق إمكاناته وقدراته، وقد قال ابن خلدون قولته الشهيرة: (إن من يسعى إلى أن يزن حقائق الغيب بعقله كمن يسعى إلى أن يزن الجبال بميزان الذهب)[19]. واعتراف العقل الإسلامي بهذا العجز، ومن ثم تحكيمه الوحي في الغيبيات هو تمام كماله ومنتهى واقعيته.
- رفض التفسير الخرافي: يقوم المنهج الإسلامي على إقصاء الخرافة والتعليل الخرافي القائم على ربط حادثتين ربطًا اعتباطيًّا. لقد كان اليونان يعللون حمرة الشفق بالحرب بين الآلهة في عقيدتهم الوثنية، وكان العرب يربطون بين وجهة طيران الطائر ونجاح العمل أو إخفاقه، وكانت الوثنية حيثما كانت مباءة للخرافة ومرتعًا للأساطير، وقد جاء الإسلام ليحارب الوثنية ويخرج الكون من رتبة التأليه حين عبد الإنسان الشمس والقمر[20]. إن تحرير الإنسان من الوثنية التي تكرس الخرافة والأسطورة يعني إعادة الاعتبار للفكر العلمي الذي يفسر الظواهر بعللها كما هي مستجدة في عالم الواقع، وتلك سمة من سمات الكمال في هذا المنهج.
الأصل الثالث : الوجود
إن اعتبار الوجود ضمن الأصول التي يقوم عليها منهج المعرفة الإسلامي يأتي مؤشرًا على انسجام هذا المنهج وتكامل عناصره التي لا تعرف طغيان جانب على آخر. إن الوحي يصور الوجود كمصدر معرفي للإنسان يسعى في دروبه وشعابه ومختلف ظواهره؛ ليتعرف على الأسرار التي أودعها الخالق سبحانه فيه، والمعرفة الإنسانية التي يملكها الإنسان عن نفسه وعن أجزاء الطبيعة من حوله تبقى مبتورة ما لم تنطلق من صميم المعطيات الحسية المجسدة في عالم الوجود من حوله.
- صورة الوجود في الوحي
إن الصورة التي يقدمها الوحي عن الوجود تختلف عن الصورة التي ترسمها المناهج الفلسفية إلى حد بعيد، فصورة الوجود في الوحي هي جزء من الصورة العامة التي جاء بها الإسلام عن الكون والحياة والإنسان. إن الفلسفات القديمة كانت تصور هذا الوجود على أنه مجرد أشباح وصور ناقصة لعالم آخر هو عالم المثل الذي يتمتع وحده بالوجود الحقيقي، ثم جاءت الفلسفات الحديثة لتقدم نقيض هذه الصورة، وتعلن تأليه العالم المادي لتجعل منه العالم الوحيد الذي يتمتع بالوجود حقيقة، وتنزع بذلك صفة الوجود عن العالم الآخر الذي يجاوز حدود الحس، ومن هنا تأتي أهمية العرض الذي يقدمه القرآن للطبيعة.
فالطبيعة التي يتحدث عنها القرآن ـ كما يقول الأستاذ محمد المبارك (هي الطبيعة الحية الواقعية، لا الطبيعة المجردة المتخيلة، فالقرآن لا يذكر الجوهر والصورة والهيولي والجزء الذي لا يتجزأ، إنما يذكر الهباء والذرة والدخان والماء والنار.. وغيرها من الموجودات الواقعية. فالعرض القرآني حسي واقعي وليس عرضًا تجريديًّا خياليًّا)[21].
وفي مقابل النظرة المادية التي تؤلِّه الطبيعة، نجد العرض القرآني يجعل هذا الوجود وما فيه ومن فيه مجرد مخلوق من بين مخلوقات الله عز وجل، ومن ثم يعرفنا ببدايته ونهايته والغاية من وجوده. وفي ظل هذا العرض القرآني فقط تكتمل الصورة النهائية لهذا الوجود، ويزول عنه كل ما علق به من تصورات وهمية كانت تلغيه أحيانًا، وأحيانًا تؤلهه فتجعله مصدر شر أو سلطان تقرب له القرابين.
- الوجود موضوع المعرفة
الحديث عن الوجود يتضمن كذلك الوجود الإنساني، وحينما دعا القرآن إلى تأمل هذا الوجود كانت دعوته شاملة تخص الوجود الطبيعي كما تخص الكينونة الإنسانية، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِين وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون} (الذاريات: 20- 21). فالوحي يقدم الوجود كموضوع للمعرفة يستغرق مجموع عناصره وأجزائه وأحداثه ومتغيراته…، وهو الذي يعبر عنه بـ (الآفاق)، وقدم الإنسان نفسه موضوعًا للمعرفة، يستوعب تركيبه العقلي والنفسي والفيسيولوجي والفيزيقي… وهو الذي يعبر عنه بـ (الأنفس)، وهو بعد ذلك يقدم حركة الإنسان على هذا الوجود كموضوع للمعرفة، يتسوعب تاريخه وحركته عبر هذا التاريخ؛ ليقدم بذلك مجالًا حيويًّا خصبًا لبناء الحقل المعرفي المتعلق بالإنسان.
إن الوحي حينما يطرح هذا الوجود كموضوع للمعرفة والدراسة يقدمه عبر مجالاته الثلاثة: الوجود (الطبيعة)، والإنسان، ثم حركة الإنسان في هذا الوجود. ومن المجازفة أن نجعل حديث الوحي عن الوجود مقصورًا على جانبه الطبيعي فحسب، فالظواهر النفسية والتركيب العضوي للإنسان، إلى جانب الظواهر الاجتماعية والحوادث التاريخية، إلى جانب الظواهر الطبيعية وحوداثها…. تستغرق مجموع معاني الوجود.
ومن البدهي أن المقام يضيق هنا عن سرد كل ما ورد حول هذه الجوانب الثلاثة من نصوص الوحي، ولكن الأهم من ذكر النصوص هو لفت الانتباه إلى المشكلات المعرفية التي تثيرها هذه النصوص، فليس المهم أن نردد العناصر الجزئية التي تذكرها هذه النصوص ولكن المهم أن نذكر ما تحمله من إشارات شكلت المجال المعرفي الذي استأثر باهتمام الإنسان.
إن القرآن لا يكتفي بذكر عناصر الوجود المادية وآحادها دون أن يستثمر ما فيها من تناسق وتقابل وانتظام، كما أنه لا يكتفي بذكر وقائع وحوادث الإنسان عبر التاريخ كمواقف فردية أو حالات خاصة، فالقرآن ليس سجلًا تذكاريًّا يجد فيه القارئ قصصًا ممتعة حول هموم الناس وشئونهم الخاصة، ولكنه يستثمر معطيات التجربة الاجتماعية التي عاشها الناس ليكشف أبعادها القيمية، ويحدد عناصر القوة والضعف فيها. ومن هذا المنطلق سأكتفي بذكر نماذج من هذه المثيرات المبثوثة في الوجود كمعطيات علمية تحمل أبعادًا معرفية تستحق التسجيل والدراسة، كالتقابل بين الأشياء المختلفة، والتكامل بين عناصر الوجود، والحركة الدءوبة التي لا تهدأ، والنظام الذي يرتب هذه الحركة في سنن مطردة، والمقادير التي وضعت وفقها الأشياء بدقة وإحكام، وأصناف المخلوقات وما توحي به من اتحاد في النوع، ومن ثم في الوظيفة… إلى غير ذلك من المؤشرات المعرفية.
- تقابل عناصر الوجود:
يلاحظ في العرض القرآني هذا التقابل بين عناصر الوجود، وهو تقابل جدير بأن يلفت نظر الإنسان إلى دراسة هذه الظاهرة والوقوف على أسبابها واستجلاء خفاياها وكشف نظامها. لم يكن عبثًاً أن يذكر القرآن الليل في مقابل النهار، ويجعل ذلك قانونًا مطردًا في الحياة. فهذا التقابل لا بد أن يثير فضول الإنسان لكشف حركة الزمن وفك رموزها. ولم يكن عبثًاً أن يذكر القرآن الخلق في مقابل الفناء، ويجعل ذلك سنة تحكم الإنسان والحيوان والوجود كله… وهكذا في كل العناصر المتقابلة التي ذكر القرآن أمثلة كثيرة منها، إنه يعرض لاختلاف الليل والنهار، والبعد الفاصل بين المشرق والمغرب، وانبثاق النور عن الظلام، والحركة عن السكون، والحياة عن الموت، والموت عن الحياة، ورفع السماء وانبساط الأرض، وخفض البحار ورفع الجبال، ويشير إلى الخسوف والكسوف…
- الحركة والتغير في عناصر الوجود :
من خلال المشاهد التي يعرضها التي يعرضها الوحي يبدو الوجود حيًّا دائم الحركة لا يهدأ لحظة واحدة؛ حتى أن ذلك ليترك في الحس والعقل انطباعًا قويًّا بأن التوقف عن الحركة لحظة واحدة إنما يقود إلى الفناء والدمار. كل شئ في الوجود حي نابض متحرك، حركة الزمن: تعاقب الليل والنهار، والشهور والسنون، ودوران الشمس والقمر. وحركة الجماد: بحيث يظهر كل شئ متغيرًا على وجه الأرض تبعًا لحركة الزمن وفصول السنة، حتى المظاهر والألوان والأشكال تربو حينًا وتخمد حينًا, تخضر وتصفر…. وكذلك حركة الإنسان كفرد بين القوة والضعف، وكجماعة حيث تتعاقب وتعاقب الأجيال، وحركة الصراع بين الحق والباطل، والطاعة والعصيان، وتدافع الخير والشر، والكفر والإيمان…
- الانتظام والسننية:
يعرض الوحي الوجود في صورة حية متحركة، ولكن هذه الحركة ليست حركة عشوائية عبثية، إنها حركة منتظمة وفق ترتيب معين وسنة معينة تحكم كل أفراد الوجود وآحاده وأجناسه بما فيها حركة الإنسان. والحقيقة التي لا يجادل فيها إلا مكابر أن هذا الانتظام يشكل أكبر تحدِّ للعقل الإنساني، ومن ثم دعوته للوقوف طويلًا أمام هذا الكم الهائل من الأجرام والمخلوقات والعوالم التي لا يتصور العقل مداها وحدودها وآفاقها، هي مع ذلك لا تتخلف طرفة عين عن سننها وقانون سيرها؛ فكان حتمًا أن ينتهي البحث العلمي المتحرر من الجحود ومغالبة الفطرة إلى الحكم القرآني :{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} (آل عمران: 191).
- التقدير المحكم:
من خصائص العرض القرآني لمعطيات الوجود أنه ينبه إلى التقدير المحكم لهذه العناصر وحركتها وانتظامها ووجودها وفنائها، يكثر في القرآن ذكر هذه التقديرات والكميات {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (الحجر: 19)، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8)، {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار} (المزمل: 20)، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرً} (الفرقان: 20)، وتصريح القرآن بتعميم التقدير على كل آحاد الوجود يغني عن التفصيل، فلا شئ يشذ عن هذا التقدير حتى الورقة تسقط من شجرتها، وهو أمر جدير بأن يلفت انتباه الإنسان ويسخر كل طاقاته العلمية لتعميق معرفته وكشف خصائص الأشياء ومكوناتها وأجزائها، وهو الأمر الذي استفادت منه علوم الفيزياء والفلك وغيرها… إلى حد بعيد.
إن تتبع طريقة العرض القرآني يكشف كثيرًا من المثيرات العلمية اللافتة لانتباه الإنسان، فهناك تكامل عناصر الوجود ودلالته على شدة التفاعل والارتباط بين هذه الأجزاء والعناصر، وهناك تصنيف هذه العناصر في أجناس وأنواع وجماعات وأمم وما تثيره في العقل الإنساني من تساؤلات حول خصائصها وعاداتها ووظائفها وطريقتها في العمل، وهناك ظاهرة الخلق وما يتعلق بها من انتقال من طور إلى طور وهكذا..
وفي تقديري أن هذه الظواهر وهذه المثيرات هي التي تستحق التسجيل، وهي التي كانت وراء الجهد العلمي الجبار الذي قطع فيه الإنسان أشواطًاً بعيدة، وهذه الظواهر والمثيرات تكفي وحدها لتلهم الإنسان طريق العلم دون الرجوع إلى آيات القرآن، وتلك نعمة إلهية على الإنسانية أن جعل لها كتابًا مفتوحًا تقرأ آياته في الكون؛ ولذلك لم يكن عبثًاً أن ينعتها القرآن بكونها آيات{وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِين وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20- 21)، فهي تقابل آياته في الذكر الحكيم، وتظل هذه الآيات تلهمه طريق العلم، سواء تعرف عليها في كتابه المقروء كما في كتابه المفتوح ما دامت تعرض نفسها في صورة تحد تثير فضوله وانتباهه، وتضعه وجهًا لوجه أمام غوامض الكون ورموزه ومثيراته.
العلاقة بين هذه الأصول
لعل السمة التي تميز بها الإسلام في كل تجلياته هي الوحدة والانسجام والتناغم، وهي نفس السمة التي تطبع منهج المعرفة الإسلامية باعتبارها جزءً ينبثق عن هذا الكل، والوحدة تنفي التقاطب والتنافر بين الأصول المعرفية، وهو التنافر الذي سجله تاريخ العلم في البيئات التي ظلت معزولة عن التوجه الإسلامي. إن الحقل المعرفي متنوع بطبيعته ولا يتصور أن ينفرد به أصل دون آخر. وتردد النشاط المعرفي بين دوائر الوحي والعقل والحس يستدعي بالضرورة حضور العناصر الثلاثة مجموعة دون أن يلغي أحدها الآخر. إن العلاقة التي تنتظم هذه الأصول هي علاقة تكامل أو هي علاقة تساند لا تعاند، حيث يكمل بعضها بعضًا، ووجود هذه العناصر مجتمعة يمثل تمام المنهج المعرفي الإسلامي في شموليته. إن المنهج المعرفي الإسلامي منهج إيماني يقوم على التسليم ببداهات الوحي وأحكامه في الوجود الدنيوي والأخروي، وفي أحكامه القضائية والكونية، وهو منهج عقلي يعتد بأحكام العقل، كما أنه منهج واقعي لا يلغي الوجود الحسي من اعتباره في بناء معرفة يقينية وعلمية.
هذه الأصول الثلاثة تتوزع المجالات المعرفية التي ينهض الإنسان بتغطيتها، ولو اقتصر على أصل واحد منها لجاءت معرفته مبتورة وناقصة، ولما استطاعت أن تستوعب مختلف المجالات المعرفية الضرورية للإنسان في تحقيق وجوده وأداء وظيفته.
إن مجالات المعرفة مجالات مختلفة، منها ما يدرك بالحس دون العقل أو الوحي، ومنها ما لا حظَّ فيه للعقل والحس، ومنها ما يتوقف على الإدراك الحسي المباشر، ولا يغني فيه وجود مصادر أخرى قد تأخذ صفة التوجيهات والكليات والمبادئ أو صفة العموم والإجمال.
هذه فكرة مجملة عما نقصده بوحدة المعرفة في المنظور الإسلامي، ولكنها غير كافية في الدلالة على المقصود، وهو الأمر الذي سوف توضحه هذه الفقرات.
- التحام الغيب بالحس
في المنظومة المعرفية الوضعية تكون العلاقة بين الغيب والحس علاقة تنافر وتقابل، فالغيب يقابله الواقع، والإيمان بالغيب يعني الإيمان بالخرافة في مقابل الإيمان بالواقع الذي يعني التفسير العلمي. فالإيمان بالغيب هنا يصبح إيمانًا بشئ لا وجود له على المستوى الوجودي لعدم خضوعه للحواس. والنظريات المعرفية الوضعية المادية على اختلاف منطلقاتها تلتقي ـ في العموم ـ حول قاعدة تعتبرها من البدهيات، وهي أن الوجود كله منحصر في الوجود الحسي، وهو وحده مصدر المعرفة[22]. هذه النظريات على اختلافها تهدف إلى التأكيد على مشروعية التصورات المادية حول قضايا الإنسان والمجتمع والطبيعة، وتسقط من حسابها البعد الغيبي الذي تراه منافيًا لكل معرفة علمية جديرة بهذا الوصف.
أما في المنهج الإسلامي في بناء المعرفة فإن ثنائية الحس والغيب لا تأخذ بعدًا تقابليًّا، فالاثنان ينسجمان في كل ٍّ واحد. ولا يمكن أن ترتسم الصورة الكاملة للحقيقة العلمية في تصور الواقع مع غياب أحدهما أو إسقاطه. إن الغيب لا يقابله الواقع كما لا يقابله الوجود إنما يقابله الحس. فالوجود يشمل ما أدركناه بحواسنا وما غاب عنها سواء بسواء، وعدم إدراكنا للشئ لا يعني عدم وجوده، فما غاب عن حواسنا قد ندركه بعقولنا. إن الوجود وجودان: وجود حسي ووجود غيبي. والقرآن حينما يتحدث عن الوجود يتحدث عنه بهذا المعنى الشمولي كما في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (التغابن: 18)، {هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (الحشر: 22)، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِم الْغَيْب وَالشَّهَادَة} (الجمعة: 8)، فأخبر أن علمه يتعلق بالوجود كله في جانبيه الحسي والغيبي معًا.
إن ما غاب عن حواسنا قد ندركه من جهة العقل أو من جهة الوحي، وهنا يأخذ المجال المعرفي الذي يمارس فيه الإنسان نشاطه طابعًا شموليًّا وتكامليًّا في نفس الوقت، ويجاوز دائرة الحس الضيقة. وبالمقابل فإن حصر النشاط المعرفي والتفكير العلمي في حدود المادة يقف عائقًا في وجه العلم دون الوصول إلى إدراك الحقيقة في شموليتها تلك ما دام الحقل المعرفي الذي يتحرك فيه جزئيًّا ومحدودًا بحدود الحس والمادة.
ومن جهة أخرى لا يخلو النشاط المعرفي الذي يتقيد بالحس من مخاطر الشك والريبة؛ لعجزه عن استيعاب الوجود في كليته، وهو الأمر الذي نبه عليه “بول زاله” في كتابه عن تاريخ الفلسفة (المطالب والمذاهب) حيث نبه إلى أن التوغل في التجربة ينتهي إلى الحسبانية، أي السفسطائية الريبية، وسبب ذلك أن المجرب لا بد أن يبقى أمامه ناحية لا تصل إليها تجربته مهما تقدم، فيساوره الشك من تلك الناحية[23].
إن الحقائق الغيبية متى ثبتت صحتها، مهما كانت الطرق المنهجية التي ثبتت بواسطتها مخالفة للطريقة الحسية تبقى حقائق علمية نهائية وقطعية، قد لا تصل الحقائق التجريبية نفسها إلى درجة قطعية ثبوتها، فمع سلامة المنهج التجريبي في الحسيات قد تخطئ التجربة وقد تتخلف ولا تَطَرد في كل الحالات.
لكن لماذا اقتضت الحكمة الإلهية أن يخفي جانبًا من الوجود وهو الذي يعبر عنه القرآن بعالم الغيب في مقابل الجانب الحسي الذي يعبر عنه بعالم الشهادة؟ سؤال جدير بالطرح وجدير بالاهتمام معًا.
إن الإنسان لو قدر له أن يعلم كل شئ ويجد الجواب جاهزًا لكل تساؤلاته الفطرية حول المشكلات الفلسفية الكبرى التي شغلت اهتمام العقلاء، لو قدر له ذلك لما كان للحياة معنى قط. إن الإنسان بفطرته يتطلع دائمًا إلى اكتشاف المجهول، وتلك حكمة إلهية بالغة، فكلما استشعر الإنسان عجزه عن اكتشاف المجهول استشعر عظمة الخالق المدبر الحكيم، وهو شعور للإنسان يمنحه كثيرًا من الطمأنينة والأمن النفسي في الحياة كلما تذكر أن للكون خالقًا رتب أجزاءه وحدد نظامه؛ إذ مقتضى هذا الترتيب والنظام أن الإنسان له مكانته وقيمته في أفق هذا الوجود الفسيح وليس مجرد ذرة منفلتة تائهة في أعطافه. وبالمقابل لو قدر للإنسان أن يعيش في عالم حجب عنه كل شئ لاستحالت عليه الحياة وسط هذا العماء المعرفي القاتم.
وبين جلاء الحس وخفاء الغيب، وبتعبير القرآن بين عالم الغيب وعالم الشهادة تكمن الوحدة والانسجام وتكتمل الصورة المعرفية للإنسان حول الوجود (فالعقيدة التي لا غيب فيها ولا مجهول ولا حقيقة أكبر من الإدراك البشري المحدود ليست عقيدة، ولا تجد فيها النفس ما يلبي فطرتها وأشواقها الخفية إلى المجهول، كما أن العقيدة التي لا شئ فيها إلا المعميات التي لا تدركها العقول ليست عقيدة، فالفكر البشري لا بد أن يتلقى شيئًا مفهومًا له، فيه عمل يملك أن يتدبره ويطبقه، والعقيدة الشاملة هي التي تلبي هذا الجانب وذاك)[24].
إن منهج المعرفة الإسلامية الذي يتميز بالتكامل يرفض تلك الثنائية التي تقيمها المذاهب الفلسفية بين ما هو حسي وبين ما هو غيبي أو مثالي؛ لتختزل الوجود في أحد جوانبه، هو ينظر إلى هذا الوجود كما هو في حقيقته بكل مكوناته وعناصره المادية والمعنوية، الحسية وغير الحسية، يؤمن بالوجود المشاهد الذي تدركه الحواس قدر إيمانه بالغيب الذي يدركه العقل.
- تعاضد العقل والدين أو العلم والإيمان
لا شك أن أخطاء كبرى وقعت واعترضت سبيل التقدم المعرفي للإنسان وفهم حقيقة وجوده، وكانت في أصلها ناتجة عن غياب الفهم الواضح لهذه العلاقة التكاملية بين هذه الأصول المعرفية، وعدم فهم المجالات التي يستقل بها بعضها دون الآخر، وعدم فهم الحدود الفاصلة أو المتداخلة بينها. لقد ظلت المعرفة الغربية لمدة تقارب على خمسة عشر قرنًا تتيه في الخرافة والوهم نتيجة هذا الخطأ، عندما سيطرت على العقلية الغربية أفكار كهنوتية يدعمها منطق صوري أقعدها عن العطاء المستمر، وجعلت منها عقلية مثالية تحلق في عالم المثل متجاهلة عالم الواقع.
وفي مقابل إلغاء الكنيسة كل اعتبار للعقل الإنساني الحر، وإلغاء كل اعتبارات غير دينية في فهم ما يحتاج الإنسان إلى فهمه في عالم الطبيعة، وإقصاء الأصول الأخرى عن دائرة العمل العلمي، كان من الطبيعي أن تنشأ تلك التناقضات التي أدت إلى ردود فعل قاسية وقفت على الطرف المناقض؛ لتلغي بدورها كل الاعتبارات الدينية، وتبقي فقط على الاعتبارات المادية والحسية دون سواها، وهو المسلك الذي نهجته الفلسفة الوضعية والمادية التاريخية.
على أن النظرة الإسلامية التي تقوم على وحدة المعرفة وتكامل الأصول المعرفية تبدو أكثر أهمية إذا علمنا أن المنهج المعرفي الغربي لا يزال توجهه ردود الفعل تلك، ويصر على اختزال المعرفة الإنسانية في أبعادها الحسية على حساب الروافد الأخرى، وهذا يجعلنا نعلق آمالًا عريضة على منهج المعرفة الإسلامية لتخليص نظرية المعرفة من صراعاتها المفتعلة.
إن النظريات المعرفية الغربية عامة وعلى اختلاف مشاربها تتحدد فيها العلاقة بين العقل والدين في كونها علاقة تقابل وتعارض، وفي أحسن الأحوال علاقة انفصال وانقطاع، فالحكم العقلي إما أن يناقض الحكم الديني أو يستقل عنه، فيكون للعقل مجاله وللدين مجاله. الموقف الأول تجسده الفلسفات والمذاهب الوضعية والمادية التي تقوم في جوهرها على أساس وجود قطيعة معرفية بين المعرفة العلمية المرتبطة بكل ما هو محسوس، وبين المعرفة الدينية التي تعبر في جوهرها عن تصور ميثولوجي خرافي مناف للتفسير العلمي. أما الموقف الثاني فيمثله أصحاب المذاهب الفلسفية المسيحية الذين فصلوا بين دائرة اختصاص كل منهما حيث يستقل العقل بالعلم وتنمية الخبرة الإنسانية في الحياة، ويستقل القلب بالإيمان وقضايا الاعتقاد، والإيمان فوق العقل ولا يثبت عن طريقه.
إن كانط -من كبار الفلاسفة المسيحية- يؤمن بوجود الله، ولكنه ينفي إمكانية تأسيس هذا الإيمان على العلم. يقول كانط: (إن الإيمان على الأكثر يكون أقوى من العلم)[25]. ويقول فرح أنطون -من المفكرين المسيحيين العرب- في تأكيده هذه القطيعة بين العلم والإيمان: (إن العلم يجب أن يوضع في دائرة العقل؛ لأن قواعده مبنية على المشاهدة والتجربة والإمعان، وأما الدين فيجب أن يوضع في دائرة القلب؛ لأن قواعده مبنية على التسليم بما ورد في الكتب المقدسة من غير فحص في أصولها). ويقول: (إن الدين متى صار عقليًّا لم يعد دينًا بل أصبح علمًا[26]. والموقفان معًا يقيمان نوعًا من التقابل بين طريق العلم وطريق الإيمان، فمن ينحاز إلى طريق العلم ينكر طريق الإيمان، ومن ينحاز إلى طريق الإيمان ينكر طريق العلم ويرفع شعار: اعتقد وأنت أعمى.
وإذا نظرنا إلى المشكلة في طرحها الإسلامي نجد علماء الإسلام يقولون: أن الإيمان الذي لا يستند إلى العلم ـ أي الدليل ـ عرضة للتشكيك[27]. فكون الإيمان مسألة قلبية وجدانية لا يتعارض مع كونها أيضًا مسألة عقلية يمكن إثباتها بالدليل العلمي القاطع.
إن هذه النتيجة التي انتهى إليها علماء الإسلام هي نتيجة لاستقراء الشواهد القرآنية، ونحن نقتطف أمثلة مما ذكره ابن القيم في كتابه (مفتاح دار السعادة) والحارث المحاسبي في كتابيه (العقل) و(فهم القرآن).
قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَآئـِمَا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 18). فقد استشهد سبحانه على وحدانيته بأولي العلم دون غيرهم من البشر، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وموضوع الشهادة هو التوحيد، وهي أعظم قضية شغلت فكر الإنسان وأجلها على الإطلاق، فاختار لها أجل الخلق وأكابرهم وسادتهم وهم أولو العلم.
إن القرآن يجعل شهادة العلماء تلك حجة على المنكرين، فآيات الله لا يعقلها إلا العالمون ولذلك قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} (الرعد: 19)، فإذا رأى أولو العلم أن ما أنزل على الرسول حق فلا عبرة لإنكار غيرهم ممن عمت بصيرتهم عن إدراك آيات القرآن ودلائله. وإذا كان موقفهم هذا عن جهل وكان موقف المؤمنين عن علم، فإيمانهم أو عدمه لا قيمة له ولا يغير الموقف من قضية الإيمان، وهذا المعنى هو ما تؤكده الآية القرآنية {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} (الإسراء: 107)، فما دام أهل العلم قد آمنوا، فسواء أن يؤمن غيرهم أو ينكر.
إن القرآن يخبر أن الجديرين بالإيمان بالله وخشيته إنما هم العلماء، وقد خصهم من بين الناس بذلك، قال تعالى: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (فاطر: 28)، وهذا حصر لخشية الله في أولي العلم. وحينما ذكر القرآن مصير العلماء ذكرهم في مقام الرضي {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة: 8)، وقد أخبر أن أهل خشيته هم العلماء لعلمهم، وذم المنكرين لجهلهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (الأنعام: 111)، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}) الأنعام: 37).
إن القرآن ينزع صفة التعقل عن المنكرين لقضية الدين {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} (الأنفال: 22)، {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك: 10)، والتعقل كفعل وممارسة عملية صفة مشتركة بين سائر البشر، والقرآن إذ يصفهم بالصم البكم الذين لا يعقلون، لم يعن أنه خرس مجانين، فهم في الدنيا أهل بصر وسمع وعقل، والواقع يشهد بوجودهم، ولم ينف عنهم القدرة على كشف الروابط القائمة بين ظواهر الأشياء للنفاذ إلى حقيقتها، ولكن العقل السليم لا بد أن يوصل صاحبه إلى الإيمان بوحدة الخالق المدبر، كما أن العقل المجرد عن هذه الخاصية يظل عقلًا معتلًا مهما كان دقيقًا في كشف أسرار الكون ونظامه. فالعاقل هو الذي يفهم عن الله أدلته وآياته.
قال ابن القيم عن العلاقة بين العلم والإيمان والجهل والإنكار[28]: إن مما يقف دليلًا على اتحاد طريق العلم والإيمان، أن الأنبياء وهم رسل الإيمان كانوا يتعوذون من الجهل كما قال موسى عليه السلام {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة: 67)، وقال تعالى لـنوح {إٍنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (البقرة: 67)، وأمر القرآن النبي ـصلى الله عليه وسلم- بالإعراض عن الجاهلين {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعرااف: 199). وأثنى على عباده المؤمنين لإعراضهم عنهم {سَلامُ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (القصص: 55)، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (الفرقان: 63). وهكذا نجد القرآن يصور العلاقة بين العلم والإيمان بأنها علاقة توافق واتحاد، ويصور العلاقة بين الإيمان والجهل بأنها علاقة اختلاف وتضاد، فحسّن العلم ورغّب فيه، وقّبح الجهل وحذر منه، ووصف العلم بمستلزماته من النور والضياء وبعث الحياة، كما وصف الجهل بمستلزماته من الظلمة والشر والهلاك: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُلُمَاتِ لَيْسَ بخَارِج مِنْهَا} (الأنعام: 122)، {قَدْ جَاءَكٌمْ مِنَ الله ِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبينٌ يَهدِي بهِ اللهُ مَنِ اتَبَعَ رِضْوَاَنهُ سُبُلَ السَلاَمِ وَيُخْرِجُهُمُ مِنَ اَلظُلُمَاتِ إِلَى النُورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمِ} (المائدة: 15- 16)، {يَا أَيُهَا النَاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (النساء: 174).
- التوحيد والتفسير العلمي
لا يمكن أن نتصور مذهبًا عقديًا مجردًا عن أسسه الفلسفية التي يقيم عليها بناءه ويحدد سلفًا تصوره للوجود، ويحكم تفكيره ومزاجه وأخلاقه …، وهذا الأساس الفلسفي هو الذي يمنحه وحدة المفاهيم والتصورات، ويجعل مجموع عناصره الفكرية والثقافية والسلوكية تنصهر في هذه الوحدة بحيث تظهر منسجمة في تصوراتها وطرق تفكيرها وقواعد سلوكها. ومن هذا المنطلق يمكن أن نميز بين الأنماط الحضارية ذات الأسس الفلسفية المتباينة. إن هذه الوحدة نلمسها في النمط الحضاري المادي للكون والتفسير المادي لكل ظواهره، تمامًا كما نلمسها في النمط الحضاري الذي يقوم على الاعتراف بوجود الخالق، ومن ثم يبني تصوره على ثنائية الخالق والمخلوق انسجامًا مع العقيدة التي توجهه وتؤسسه .
وفي حين نجد المنحى المادي يقدس الإنسان والطبيعة، ويعتبرهما القوة الوحيدة الفاعلة في الوجود، نجد المنحى الإسلامي يتجه أساسًا إلى اكتشاف القدرة الإلهية المبدعة في الإنسان والمجتمع والطبيعة. وفي حين نجد المنحى المادي يعتبر أن كل تفسير لظواهر الكون وحوادثه خارج الحدود المادية التي لا ترى في هذا العالم سوى مجموعة تفاعلات ذاتية وتلقائية ضرباً من السحر، وهو أمر ينسجم مع تصوره الفلسفي، على حين يعتبر المنحى الإسلامي أنه ما من حركة أو سكنة تقع في هذا الكون الفسيح إلا وهي تقدير إلهي سابق في الأزل، وهو حكم ينسجم مع التوحيد الذي يشكل أساسه الفلسفي .
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، يتعلق بمصداقية التعارض الذي يقيمه المنحي المادي بين التفسير السببي والاعتراف بوجود الخالق، فهل التفسير السببي الذي يقوم على إدراك النظام الترتيبي للوجود وإرجاع الظواهر إلى عللها وأسبابها الكامنة وراءها يتنافي حتمًا مع القول بوجود خالق يملك القدرة المطلقة ويتصرف تصرفًا مطلقًا في ظواهر الكون؟ وبكلمة، هل القول بالتوحيد يتنافي مع التفسير السببي؟ .
يقول المرحوم محمد المبارك: (إن الإسلام إذ قرر ترابط أجزاء الكون وحوادثه ترابطًاً مطردًا منظمًا، وهو ما يسمي في الفلسفة الحديثة بالنظام السببي للكون، لم يقف عنده كما وقف الماديون بل جاوزه إلى طرح أعظم قضية كونية: من أين جاء الكون ونظامه؟، من خلقه؟، من قدر نظامه؟، ثم الإجابة عليها بتسلسل منطقي وإلزام عقلي. إن هذه النظرة التي لا تقف عند حدود العلم التجريبي هي استمرار واستكمال للفكر العلمي، بل إن سلسلة التفكير العلمي تبقى ناقصة وغير منطقية دون هذا التحديد للخط البياني لبحث ما وراء منطقة العلم التجريب)[29].
نفهم من هذا أن الوقوف عند إدراك النظام السببي للكون هو وقوف في منتصف الطريق، ولابد من مجاوزة ذلك إلى الأهم: الوقوف على موجد هذا النظام ومرتبه لتكتمل الصورة. وهنا يظهر جلياً أن التعارض المزعوم بين قدرة الله خالق الكون ونظامه السببي تعارض مفتعل؛ فالإيمان بقدرة الله المطلقة التي أبدعت هذا النظام لا يقف حائلاً دون النظر في تعاقب الحوادث وترابطها وتعليلها وخضوعها لسنة مطردة وقانون عام، فالأحرى أن يعارضه، بل إننا حينما نتعرف بوسائلنا وإمكاناتنا العلمية على هذا النظام لا نفعل شيئًا أكثر من اكتشاف هذه القدرة المطلقة المبدعة لنجد أنفسنا واقفين على عتبة التوحيد.
يقول الدكتور أحمد فؤاد باشا أستاذ الفيزياء بجامعة القاهرة: (إن الإيمان بوحدانية الله سبحانه تعالى يستلزم بالضرورة العقلية أن يرد الإنسان كل شيء في هذا الكون إلى الخالق الحكيم الذي أوجد هذا العالم بإرادته المباشرة المطلقة، وخلقه على أعلى درجة من الترتيب والنظام والجمال، وأخضعه لقوانين معينة ثابتة لا يحيد عنها .. وقد شاءت إرادته تعالى أن تبين لنا من خلال نظام الكون ووحدته استمرارية المواد كأشياء وتكرر الحوادث والظاهرات كعلاقات سببية؛ لنراقبها وندركها وننتفع بها في حياتنا الواقعية)[30].
وخلاصة القول: إن البحث العلمي المتحرر من الخلفيات المادية لابد أن ينتهي من البحث في ترابط الأسباب إلى مسبب الأسباب، فالتوحيد يحيل مباشرة على القوة الفاعلة في الطبيعة ونظامها على السواء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمد أمزيان (1998). أصول المنهج المعرفي من القرآن والسنة. مجلة المسلم المعاصر. ع. 87. ص ص. 77 – 112.
** أستاذ الفكر الإسلامي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الأول. وجدة- المغرب.
[1] الإنسان ذلك المجهول. ص. 313.
[2] الإنسان ذلك المجهول ص ص. 41- 177.
[3] ينظر بعض النماذج في مؤلفنا: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية ص : 179. منشورات ببيت الحكمة للترجمة والنشر. وجدة.
[4] انظر في هذا السبيل كتاب : الله يتجلى في عصر العلم، لمجموعة من العلماء والمتخصصين، وكذلك كتاب الإسلام يتحدى، لوحيد الدين خان.
[5] الإنسان ذلك المجهول صفحات : 21-41-177-309….
[6] مجموع فتاوى ابن تيمية ج9 ص : 271 توزيع المكتب السعودي ـ الرباط.
[7] المصدر السابق ص : 287 وكذلك العقل وفهم القرآن ص :215.
[8] L’étrange et le Merveilleux dans L’Islam Médival. Arkoun، P:10 édition (J.A): Paris1978
[9] محمد عابد الجابري: تكوين العقل العربي- دار الطليعة بيروت ط/1 / 1984.
[10] L’étrange et le Merveilleux dans L’Islam Médival : P:27
[11] ذهب إلى ذلم الدكتور “محمد عابد الجابري” في مشروعه حول نقد العقل العربي.
[12] مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة. ص : 63.
[13] مفهوم العقل والقلب في القرآن والسنة، ص : 250-278.
[14] خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، عبد الحميد النجار ص : 61.
[15] ابن عبد البر، جامع بيان العلم وفضله. باب ما يكره فيه المناظرة، ص : 411، ط/2، دار الكتب الإسلامية، القاهرة 1982.
[16] ابن تيمية : درء تعارض العقل والنقل ج1ص : 30-31، ج3 ص : 358، 365. تحقيق محمد رشاد سالم، دار الكنوز الأدبية 1979.
[17] الإسلام والفكر العلمي محمد المبارك ص : 122-126.
[18] مقدمة ابن خلدون ج4 ص : 1199. طبعة لجنة البيان العربي 1965.
[19] المصدر نفسه.
[20] محمد المبارك : الإسلام والفكر العلمي ص : 41، 44، 111.
[21] الإسلام والمنهج العلمي ص : 122-126. وكذلك أحمد فؤاد باشا : فلسفة العلوم بنظرة إسلامية ص : 20.
[22] حول هذا الموضوع ينظر : محمد البهي : الفكر الإسلامي وصلته بالاستعمار الغربي ص : 343، الطبعة السادسة ـ دار الفكر القاهرة 1973. وكذلك إميل بوترو : العلم والدين في الفلسفة المعاصرة ص : 41.
[23] في هذا الموضوع ينظر : الشيخ مصطفي صبري : موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين ج2ص : 129.
[24] سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ص : 137. الطبعة السابعة، دار الشروق، 1980م.
[25] موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين 2/24.
[26] فلسفة ابن رشد صفحات 112،181.نقلًا عن المرجع السابق.
[27] موقف العقل والعلم والعالم 2/24.
[28] تنظر هذه الشواهد بالتفصيل في : مفتاح دار السعادة 1/48 وما بعدها، وكذلك الحارث المحاسبي : العقل وفهم القرآن ص : 217 وما بعدها..
[29] محمد المبارك، الإسلام والفكر العلمى، ص: 118.
[30] نسق إسلامي لمناهج البحث العلمي ص: 16، وينظر أيضًا خصائص التصور الإسلامي ص: 142. وكذلك إسماعيل راجي الفاروقي ، المسلم المعاصر ع 27 ص 15 مقال سابق.