التدمير الخلاق: أبطال موجة الذكاء الاصطناعي وضحاياها

العنوان: التدمير الخلاق: أبطال موجة الذكاء الاصطناعي وضحاياها.

المؤلف: أيمن البوغانمي[1]

الطبعة: ط. 1.

مكان النشر: الرباط.

الناشر: مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

تاريخ النشر: 2020.

الوصف المادي: 270 ص.، 24 سم.

الرقم الدولي الموحد: 9-070-64-9953-978.

المقدمة

 يبدأ الكاتب بتسليط الضوء على التحولات التكنولوجية العميقة التي يشهدها العالم اليوم، والتي يصعب مقارنتها إلا بالثورتين الصناعيتين السابقتين اللتان غيرتا طبيعة المجتمعات الإنسانية في مختلف عناصرها وأدق تفاصيلها، وعلى الرغم من ذلك لم تدرك الأجيال التي عاشت تلك التغيرات حدة ما كانت تشهد من انعطافه حولت مسار التاريخ. ويرى الكاتب أن جيلنا يعيش اليوم التحدي نفسه مع ما يسمى بالذكاء الاصطناعي، بل لعله تحدي أكبر بحكم تسارع نسق التغيير وما يترتب على ذلك من عسر التأقلم وتبديل لكل قيمة. إذن فإن العالم اليوم يشهد طيًا لحقبة وابتداءً لأخرى، بما يعنيه ذلك من نشأة توترات عميقة في المجالات السياسية والاقتصادية.

ويشير الكاتب إلى أن الخطاب السياسي اليوم ما زال متأثرًا بأفكار الحقبة السابقة، وأن هناك هوة تفصل بين وسائل الإنتاج من ناحية والوعي السياسي من ناحية أخرى. ويرى أن تأقلم الاقتصاد مع التحولات التكنولوجية أيسر من تأقلم السياسة.

يوضح الكاتب أن الهدف من هذا الكتاب ليس التنبؤ بما يأتي به الغد، بقدر ما يسعى لفهم الحاضر في علاقته بهذا المستقبل، وهذا معنى “الاستباق”. كما يرى الكاتب أن بناء المستقبل مسار مضنِ، ولا سيما في عالم يتغيّر دون أن يعلم أي وجهة يقصد، فقد انتهت الغائية في التاريخ، وحتى التطور الذي كان غاية التغيير في فكر الحداثة هو محل مساءلة ونقد. وعلى الرغم من أن الإنسان لم يعد يعلم لِمَ يغير فإنه يمعن في التغيير بعمق وبسرعة منقطعة النظير.

ويفرق الكاتب بين المعلوماتية والذكاء الاصطناعي والروبوتية، ويرى أن هناك ثلاث عوامل قد أدت الى تغيير في طبيعة التفاعل بينهم، أولها تراكم كم لا محدود من المعطيات في مختلف الأشكال والأنماط، وثانيها الارتفاع المطرد في القدرات الحسابية التي تتمتع بها الحواسيب، وثالثها تطوير خواريزمات قادرة على تحليل المعطيات المختلفة وتنسيقها من أجل استغلالها بشكل آلي ودقيق.  

ويميز الكاتب بين ثلاث مراحل في تطور الذكاء الاصطناعي، مرحلة الخواريزمات الحاسبة، ومرحلة الخواريزمات المتعلمة وأخيرًا مرحلة الخواريزمات الواعية. ويؤكد الكاتب أنه لا يؤمن بحدوث وعي اصطناعي، والذي يُقصد به امتلاك الذكاء الاصطناعي وعيًا بالذات وبالمصلحة وبالغاية، بل يُقصد به أيضًا التمتع بالإرادة الحرة وبمشاعر مثل الحب والكراهية والخوف وغيرها… وهنا يوضح الكاتب أنه لا يؤمن أو لا يقبل فرضية أن يصل الذكاء الاصطناعي لمستوى الوعي الذاتي الحقيقي مثل الإنسان.

ثم يتناول الكاتب تطور مفهوم الذكاء الاصطناعي، فهذا المصطلح نشأ في عام 1956م على يد باحثي المعلوماتية للإشارة الى تطوير خوارزميات قادرة على أداء عمليات محددة انطلاقًا من قواعد يضعها المهندسون، ويرى الكاتب أن ليس في ذلك أي نوع من أنواع الذكاء. وفي عام 2012، ظهر مفهوم “التعلم العميق” الذي يقوم على اكتساب الخواريزمات لقدرة ذاتية لتطوير مردودها وإصلاح أخطائها من خلال استبطان القواعد.

ويرى الكاتب أن التعلم العميق يتميز بقدرته على التعامل مع كميات كبيرة من البيانات، في الوقت الذي تكون فيه الخوارزميات التقليدية باهظة الثمن وصعبة التعامل مع البيانات الضخمة، بينما يمكن لخوارزميات التعلم العميق أن تتعلم من ملايين النقاط وتحقق أداءً جيدًا، مما يجعلها أكثر فعالية في تحليل البيانات والتنبؤ بها.

مع ذلك، يواجه التعلم العميق تحديات عديدة، إلا أنه يعتبر أداة قوية لأتمتة العديد من المهام، مثل التعرف على الصور والكلام، ومعالجة اللغة الطبيعية، والتحليل التنبؤي، مما يجعله خيارًا مهمًا للعديد من التطبيقات في المجتمعات المعاصرة.

الجزء الأول

رحلة الإنسانية إلى الثورة الثالثة

يوضح الكاتب أن الإنسانية عاشت ثلاث ثورات ناعمة غيّرت جذريًا طبيعة القيود الماديّة حيث قامت بتخفيفها والإفلات من أثرها. وهي على التوالي: تطوير الكتابة، واختراع الطباعة، ومسار الرقمنة. وكل ثورة ناعمة تأتي في تفاعل مع تطوّر الواقع الماديّ، فتدعمه وتؤثّر فيه، وتتأثر به، فتأتي ثمارها وفقًا له. ويخصص الكاتب هذا الجزء لدراسة وتحليل الثورة الناعمة الأولى والثانية كخلفية معرفية قبل الانتقال في باقي الأجزاء الى الثورة الناعمة الثالثة.

لقد كانت الكتابة سليلة الثورة الزراعية، والطباعة حليف الثورة الصناعية، وقد تغير وجه العالم بهما، فاستحقت لقب الثورات الكبرى في التاريخ. وإذا كان هذا التأويل يؤكد ارتباط تطور تاريخ الإنسان بتطور علاقته بالمعلومة، فإن الإنسانية تتهيّأ لثورة الرقمنة، المقترنة بالذكاء الاصطناعي والروبوتية، وهي ثورة تفوق سابقاتها عمقًا وخطورة. ثم يقوم الكاتب بتسليط الضوء أولًا على تأثير الكتابة في تغيير مسار الإنسانية، ثم انتقل الى تأثير الطباعة.  

ويرى الكاتب أن “اختراع الطباعة” في أواخر القرن الخامس عشر، هذا الاختراع الذي ساهم في انتشار المعرفة والثقافة أفقيًا وعموديًا، كان بداية معنى “التدمير الخلاّق”، حيث أدى ظهور الطباعة إلى تغيير قد لا يبدو كيفيًا بما فيه من امتداد الكتابة، ولكن بُعده الكمي وأثره التراكمي تمنحه قيمة نوعية أكيدة. ففي رحاب الثورة الناعمة الثانية التي أطلقتها الطابعة حدثت ثورتان صلبتان: الثورة الصناعية الأولى ثم الثانية، وهما اللتان أنتجتا كل الأطر المادية والمعنوية التي نتصور اليوم أنها طبيعية، فيذكر الكاتب هنا بعض السرديات الكبرى التي نشأت على إثر التصنيع ومنها الرأسمالية الصناعية والقوميات المختلفة والليبرالية والماركسية وثقافة الاستهلاك وغيرها من مظاهر الحداثة. إذن فالتغييرات الناعمة هي التي كانت المحرك والمسرع لنسق التغيير الذي أنتجته الثورات الصلبة.

يؤكد هنا الكاتب على معنى “التدمير الخلاق” الذي اتخذه إطارًا نظريًا لهذه الدراسة، فمن خلال هذا المفهوم يعرف الفيلسوف النمساوي “جوزيف شمبتر” بالفترة الشمبترية كل مرحلة انتقالية يؤدي فيها التطور التقني إلى إنهاء مرحلة، قبل التأسيس لأخرى. وقام الكاتب بعد ذلك بتتبع التطور الحادث في العالم والانتقال الحاد على المستوى الثقافي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي في أعقاب الثورتين الناعمتين تأكيدًا لمفهوم التدمير الخلاق.   

   فالثورة الصناعية هي تغيير مادي يتمثل في إنتاج مصدر جديد للطاقة (المحرك البخاري)، ينعكس على الواقع الاجتماعي والاقتصادي (ظهور المدن وبالتالي الفردانية) من خلال تغيير نمط الاتصال والتواصل (القطار، السفن البخارية) الذي يتسبب بدوره في تطوير أنماط الإنتاج (ظهور المصانع بدلًا من وحدات الإنتاج الصغيرة) بما يؤدي تفاعليًا الى تغيير القواعد السياسية. إذن تتضمن الثورة الصناعية أربعة أركان متداخلة: طاقة جديدة، وبنية تواصل مختلفة، ومنظومة إنتاج شمبترية قائمة على تدمير خلاّق، وانتظام سياسي متأقلم.

ولقد أدى تطور التصنيع ووسائل النقل مع ظهور الليبرالية الى تغيير وجه أوروبا، وظهرت رسالة الإنسان الأبيض الحضارية، وهي السردية الأخلاقية التي استند اليها الاستعمار لتبرير توغله في كل القارات خدمة للتصنيع عنده ونشرًا لديناميكيات تدميره الخلاق.

وقد تبع فقدان الكثير من الحرف القديمة وأغلب مصادر الرزق التقليدية وتفكيك الروابط الاجتماعية وإنتاج الفردانية ظهور وعي طبقي متزايد في الدول الأوروبية الكبيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكذلك ظهور تيار الامبريالية الاجتماعية تأسيسًا على مبادئ الداروينية الاجتماعية.   

وقد تحققت مرحلة جديدة في ثمانينات القرن التاسع عشر في الثورة الصناعية الثانية قامت على مصادر طاقة جديدة هي الكهرباء والمحرك الانفجاري. هذا التحول تسبب في تغيير جذري في طريقة التصنيع وبنية المجتمعات. وظهرت العديد من الاختراعات الهامة في هذه الفترة مثل القطار الكهربائي والهاتف والسيارة والطائرة، تلك الاختراعات التي سمحت بظهور الشركات العالمية متعددة الجنسيات، فالتكنولوجيا الجديدة قد زادت من هرمية المنظومة الرأسمالية بتوسيع قاعدتها التي لم تعد مرتهنة بالضوابط الجغرافية.

ووفقًا للكاتب فإنه يمكن تقسيم كل ثورة صناعية إلى مرحلتين متعاقبتين. في المرحلة الأولى، تسود نزعة التدمير الخلاق حيث تقوم التكنولوجيا الجديدة بتدمير ما قبلها، خاصة فيما يتعلق بفرص العمل ومصادر الرزق. وفي المرحلة الثانية، يحدث انتقال العمل من المنظومة القديمة إلى المنظومة الجديدة بعد فترة تمرد من الخاسرين. ويعود التوازن من خلال ظهور نموذج اقتصادي أكثر تطورًا من سابقه.  

ثم قام الكاتب بتحليل العلاقة بين الرأسمالية والماركسية وأسباب عدم قيام ثورة البروليتاريا الموعودة، بل وتدعيم النظام الرأسمالي الليبرالي، وظهور الطبقة الوسطى التي كانت من أبرز المنجزات السوسيولوجية للثورة الصناعية الثانية. فقد أدى التطور العلمي والتقني والسياسي الى بروز الحاجة الى كفاءات جديدة، هذه الكفاءات استفادت من منجزات الثورة الصناعية الثانية مما شجعهم على تبني قيمها وعلى رأسها ثقافة الاستهلاك. كما تدعمت صفوف الطبقات الوسطى ببعض مِمَن ارتقى السلم الاجتماعي من الطبقة الكادحة، فساهم هذا في دعم البراجماتية لدى قطاعات واسعة من البروليتاريا، مما أدى الى تجاوز العديد منهم الأطروحات الثورية لتعتنق الديمقراطية. وقد أدى اتساع الطبقة الوسطى الى تنامي قيمة “الاستاتيكية” مقابل القيمة الثورية التي ميزت الطبقة الكادحة.

ويرى الكاتب أن مرحلة الثورة الصناعية الثانية قد اتسمت بنضج المنظومة الرأسمالية وتوازنها، وذلك نتيجة لوعي الرأسمالية بالمخاطر التي تحيط بها بما جعلها تسمح بقيام الدولة والمؤسسات الاجتماعية بتأدية أدوارًا لكبح جماح الرأسمالية سعيًا لتقليص تناقضاتها والحد من تبعاتها. وهو ما أطلق عليها الكاتب المرحلة الكينزية. إلا أن هذه المرحلة الواعدة بدأت تتباطأ في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وبدأ ظهور مشكلات مثل تراكم العجز في ميزانيات الدول وارتفاع مستويات التضخم وعودة مشكلة البطالة في المجتمعات المتقدمة، مما يشير إلى عودة الصراع ولكن بقواعد جديدة.

يستعرض الكاتب بعد ذلك تأثير العولمة على التوازن الاقتصادي والاجتماعي العالمي، فبعد نهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الشيوعي ودخول الصين الى منظومة الاقتصاد العالمي تضاعفت قوة العمل المتاحة لرأس المال، وهو ما شجع الشركات الكبرى على تحويل مواقع إنتاجها خارج البلدان الغربية ذات الأجور العالية، أي أن المنافسة على مجالات العمل لم تعد منحصرة بين الأفراد في البلد الواحد بل إنها قد أمست ضارية بين مختلف شعوب العالم. وهذا يعني أن الصراع قد انتقل من البُعد العمودي الثنائي بين العمل ورأس المال الى أبعاد أفقية أشد تركيبًا. 

كما أن العولمة قد أعلنت النهاية للإمبريالية الاجتماعية، وذلك بالحد من الريع الذي استفادت منه الشعوب الغربية على حساب باقي العالم خلال الفترة الاستعمارية وما بعدها، ومما يثبت هذا الطرح عودة كثير من الشعوب والدول وعلى رأسها الصين والهند ومختلف البلدان المصنعة الجديدة الى معترك المنافسة العالمية.

ويؤكد الكاتب أن العالم يشهد حاليًا تحولات اقتصادية عميقة، فالتكنولوجيا في تطور عميق ومستمر في صورة نمط جديد من الميكنة يَعِد بتغيير جذري في البنية الاقتصادية، بما يوحي باضطرابات كبيرة في كل ما ارتبط بها من عناصر القيمة وطرق توزيعها، وذلك يعني بداية مرحلة جديدة من التدمير الخلاق أي نهاية حقبة رأسمالية وبداية أخرى.  

ويختم الكاتب هذا الجزء بالقول إن خلال السنوات الأخيرة حدثت طفرة تمثلت في امتداد الميكنة الى قلب قطاع الخدمات وذلك من خلال الجمع بين الرقمنة والروبوتية والذكاء الاصطناعي، وهو ما أنتج بنية اقتصادية جديدة قائمة على شبكات تنزع الى الإفلات من القيود الجغرافية، وتعتمد على تكنولوجيا أضحت تنافس الإنسان في أبرز مزياته ألا وهو الذكاء.

الجزء الثاني

الثورة الناعمة الثالثة

البنية الشبكية للعالم

في هذا الجزء يسعى الكاتب الى توصيف متكامل للوضع الجديد الذي يجد الإنسان فيه نفس في عالم الإنترنت والذكاء الاصطناعي. فيرى الكاتب أن الإنترنت يشكل البعد التواصلي للثورة الصناعية الثالثة، فنحن نشهد اليوم ثورة ناعمة ثالثة تؤسس للتغيير المعرفي وتنشئ في الوقت نفسه بنية اقتصادية جديدة بالاعتماد على الشبكات والذكاء الاصطناعي، بما يؤذن بتغييرات غير مسبوقة في حجمها وعمقها ووتيرتها. فقد بدأت هذه الثورة بتحطيم الأسس الهرمية لصناعة المعلومات، فحولت أنماط العلاقات الإنسانية من الهرمية العمودية الى أشكال أفقية.

ثم ينتقل الكاتب الى تتبع التطور التاريخي للإنترنت، من الحواسيب الضخمة التي كانت حكرًا على المؤسسات الكبرى الى الحاسوب الفردي ثم دخول الإنترنت، وقد أدى هذا التطور الى تولد أحلام ميلاد مجتمع المعرفة، حيث يُكسر احتكار المعلومة، وينتهي الزيف والأخبار الكاذبة ويبدأ عصر الانفتاح والتسامح وإسقاط كل أشكال التسلط. ولكن الكاتب يؤكد أننا على العكس من ذلك نحن نعيش اليوم ما يمكن أن نعبر عنه بثورة تكنولوجية مضادة أخذت أشكال حملات التضليل ونشر الإشاعة والمعلومات المغلوطة. وليس في ذلك تقليل من أهمية الاختراع ذاته، ولكن هذا يؤكد على قصر نظر التفكير القائم على الحتمية التكنولوجية، فهناك تجاهل لحقيقة أساسية، ألا وهي أن ما يصنع التاريخ ليس التكنولوجيا، بل ما يصنعه هو التقاء تلك التكنولوجيا مع البنى المعرفية والنفسية والاجتماعية وغيرها، أي التقاءها مع الإنسان، ومن ثم ضرورة فهم الآثار البنيوية للثورة التكنولوجية.

ويؤكد الكاتب أن المعلومة الآن ليست مجرد معطى فكري، فهي أيضًا قيمة اقتصادية وقوة سياسية، وقد بدأت في تغيير وجه العالم من خلال مسارين متكاملين، أولهما ربط أكبر عدد ممكن من الأفراد بالشبكة العنكبوتية كي تصبح عالمية بالفعل، وثانيهما، إخضاع أكبر قدر ممكن من الخدمات لضوابط المعلوماتية تحريرًا لها من عوائق الانتقال المادي. وقد مثل ذلك ديناميكية استثنائية من التدمير الخلاق، كانت ضحيتها الأولى كل النماذج الاقتصادية التقليدية كالصحف والكتب والأقراص، مما اضطر هذه الأخيرة للتأقلم مع الواقع الجديد بتحويل جزء كبير من أعمالها الى الشبكة العنكبوتية.   

ثم تطرق الكاتب لظاهرة “أوبرة الاقتصاد”، وهي ظاهرة اقتصادية تتمثل في تقديم خدمات متنوعة على الإنترنت خارج الأطر التقليدية، في تجاوز واضح للمهنيين الذين أمست “الأوبرة” تمثل واحدًا من أكثر هواجسهم.

ينقل الكاتب عن جيريمي ريفكين (أحد أبرز المنظرين في هذا المجال) أن إنترنت الاتصال ليس إلا واحدًا من منظومة ثلاثية، عناصرها الأخرى ما يسميه بإنترنت الطاقة وإنترنت النقل. وهو ثالوث يؤسس لشبكة رابعة يعبر عنها بإنترنت الأشياء، وهي تتكون من كل الأجهزة القابلة للوصل بالشبكات الثلاث المذكورة. على هذا الأساس يكون الإنترنت بصدد إنشاء بنية تحتية لعالم جديد لم تتضح معالمه بعد.

الإنترنت والطاقة المتجددة: يبشر ريفكين بأن الطاقة في هذا العصر ستشهد نفس مسار المعلوماتية من خلال دمقرطة الطاقة وانتقالها من الهرمية الى الانسيابية الأفقية. وقد تزامن عصر الإنترنت مع تصاعد تكنولوجيا الطاقة الخضراء (الرياح والشمس والأمواج)، وتطور هذا المصدر الجديد من الطاقة سيحتاج الى تغيير منظومة الإنتاج وزيادة تركيب العلاقات الاقتصادية والاجتماعية من خلال مرحلة من التدمير الخلاق الشامل.

ولكن وسائل الطاقة الخضراء تواجه مشكلة أساسية وهي التناقض بين الفائض في الإنتاج في حالة توافرها (بزوغ الشمس مثلًا) والعجز في حالة غيابها، وهو ما يطرح مشكلة التخزين لتحقيق التوازن. ويقترح ريفكين إنشاء شبكة طاقة ذكية تقوم بتوزيع ما زاد عن حاجة المنتجين ذوي الفائض المؤقت لصالح المستهلكين ذوي العجز في الطاقة المؤقت، وهو ما سماه إنترنت الطاقة.

 الإنترنت وعقلنة النقل: يتحدث الكاتب في هذا الجزء عن مفهوم “انترنت النقل” الذي يعني استخدام الكهرباء بدلًا من الوقود في وسائل النقل المختلفة، إلا أن السيارة الكهربائية لم تنجح حتى الآن في منافسة سيارات الوقود. ومن ناحية أخرى يعني إنترنت النقل تزايد العقلنة في استخدام وسائل النقل الفردية بحيث تتحول تدريجيًا الى وسائل نقل مشتركة، نظرًا لأن النقل الفردي يؤدي الى ازدحام الطرق والى إهدار الوقت والجهد والطاقة ويزيد من التلوث.

كما يشير الكاتب إلى فكرة “الانترنت المادية” Physical Internet، والتي تعتبر خطوة مهمة نحو تسهيل انتقال المعلومات في مجال النقل واللوجستيات، حيث يتم إقامة بنية تحتية تواصلية تنقل المعلومات آنيًا بما يمَكِن من الاستجابة للحاجات المختلفة بفعالية. سواء تعلق الأمر بالنقل أو الشحن.

إذن بثالوث الإنترنت: الاتصال والطاقة والنقل ستتغير مسارات الإنتاج والتوزيع وطبيعة القيمة في شتى المجالات تأقلمًا أو تطورًا أو انحسارًا أو اندثارًا.    

إنترنت الأشياء والاقتراب من رقمنة العالم

ثم يقدم لنا الكاتب مفهوم “انترنت الأشياء” Internet of Thingsالذي يعتبر منظومة تربط كل الأشياء ذات القيمة بشبكات مزودة بذكاء اصطناعي يتحكم فيها عن بُعد. ويرى الكاتب أننا إزاء ثورة ستغير كل شيء وكل قيمة، فالإنسان سيكتسب قدرات فائقة بحكم تحويل كل شيء الى مصدر معلومة، وهذا التضخم التراكمي للمعلومات لم يعُد يطرح أي مشكلة، بل هو الوقود الذي يتطور بفضله الذكاء الاصطناعي فيزيد من كفاءته. إذن لا حد لممكنات الثورة الجديدة على كافة الأصعدة من إنتاج وتسويق ورقابة صحية للفرد للتنبؤ بالأمراض وغيرها من الممكنات، بما يتطلبه ذلك الأمر من مراقبة لصيقة للإنسان وبكل ما يحيط به، فهي في نفس الوقت نهاية للخصوصية.  

ويُحذر الكاتب من استمرار النخب المثقفة والسياسية في إنكار الواقع الجديد وفي تجاهل أهمية الوعي بحقيقته، والتمسك بمفاهيم قديمة سيتم اكتساحها في خضم التغير السريع الحادث.   

رقمنة العالم: نحو القضاء على التكلفة الحدية

الحماية اليوم ليست فقط لحدود الدول بل أيضًا للبيانات الشخصية والرسمية التي تخزن على الإنترنت، والتي يمكن أن تتحول الى سلاح خطير في حالة سرقتها. كما أن تحول الإنترنت من مجرد نموذج للمعلومات الى وسيلة للطاقة والنقل أيضًا يؤدي إلى ظهور بنية اقتصادية واجتماعية جديدة تقوم على منطق مختلف عما كانت عليه في الماضي، يتم فيه تخفيض التكلفة الحدية للسلعة الى أدنى حد لها نظرًا لانخفاض العديد من التكاليف المصاحبة للسلع المادية، وقد ضرب مثلًا لهذا بطباعة الكتب أو وضعها رقميًا على الشبكة العنكبوتية.  

ويستعرض الكاتب هنا تجربة شركة “أمازون” التي تبيع الكتب الرقمية بنفس الكفاءة التي تبيع بها الكتب المادية، وقد نجحت في هذا من خلال نماذج ذكية مرنة توجهها حواسيب ذات فعالية عالية. فإذا كان هناك طلب معين تقوم الخواريزمات باختيار جهة التزويد الأقرب ضغطًا على التكلفة وضمانًا لكفاءة الأداء.

ويشير الكاتب الى أن تحالف ديناميكية استغلال المعلومات مع قيمة الشفافية الراسخة في الثقافة الديمقراطية أعطى لهذه المنظومة الجديدة شرعيتها. وقد لفت الكاتب هنا الى ما جاء في كتاب (مجتمع الشفافية) من أن قيمة الشفافية قد أضحت سردية نيو ليبرالية تعمل على تحويل الإنسان الى ما يشبه الزجاج.

منظومة الشبكات الذكيّة وأوبرة العالم: يؤكد الكاتب على أهمية تطوير منظومة الشبكات الذكية في قطاع الخدمات ومنها قطاع النقل، مشيرًا إلى أهمية الحديث عن “أوبرة العالم” كمرحلة مستقبلية للتطور في قطاع الخدمات، حيث سيجد مَن يعملون خارج هذه المنظومة أنفسهم في منافسة غير متكافئة مع الذكاء الاصطناعي.

 من المجّانية إلى الثروة: يجيب الكاتب هنا على سؤال يتبادر الى الذهن وهو: كيف يمكن للإنترنت بكل ما يقدمه من خدمات أن يكون مجانيًا؟ والجواب أن المجانية يمكن أن تكون مصدر ربح حقيقي للمنتِج. فمجانية الإنترنت هو الذي أدى الى تحوله الى بنية تحتية للاقتصاد الجديد، أي أن هذه المجانية هي جزء من فعاليتها ووجودها كمعطى بديهي في حياة الجميع.  

والمصدر الرئيسي لتحويل المجانية الى مصدر للأرباح الطائلة، بجانب التجارة الإلكترونية، هو بيع المعلومات التي يجمعها الإنترنت والشبكات الذكية من بيانات المستخدمين، إذ تقوم الخواريزمات بإنشاء نسخة مرقمنة من المستخدمين، تسعى الشركات المنتجة الحصول عليها لمعرفة ميول المستهلكين وكيفية التأثير عليها من أجل ملاءمة المنتجات لأذواقهم، أو توجيه استهلاكهم نحو منتجاتهم.

الذوات المستنسخة وسؤال الإرادة الحرّة: يرى الكاتب أن القائمين على المنظومة الجديدة قد احترفوا السمسرة بالوعي، فهم يقدمون المعلومات ومختلف وسائل الترفيه والإثارة مجانًا فيستقطبون أكبر قدر ممكن من الناس ثم يبيعون كل معلوماتهم الى الشركات، التي تقوم بدورها على استباق الحاجات الفردية من خلال الخواريزمات الذكية فتبدأ مرحلة الاستهداف الدقيق الذي يتم بموجبه التأثير في المستهلك لدفعه نحو قرار قد يأخذه تحت الإثارة والضغط ولكنه يأخذه بمحض إرادته في نهاية المطاف. إذن فمجانية الإنترنت هي وسيلة الشركات المهيمنة على الذكاء الاصطناعي لسلعنة المستخدمين وللاتجار بحياتهم الشخصية. إذن فمنظومة الشبكات الذكية قائمة على تحويل أكبر قدر ممكن من العالم الواقعي وسردياته الإنسانية الى منظومة معلوماتية تمهيدًا لسلعنتها.  

كما يؤكد الكاتب أن نموذج الاقتصاد التعاوني الذي يتيح للشركات استخدام البيانات بشكل فعّال لتحقيق الفوائد التجارية والاجتماعية يثير قضايا هامة تتعلق بالخصوصية والأخلاق في التعامل مع البيانات الشخصية التي يقدمها الأفراد طواعيةً. فعلى الرغم من الالتزامات التي تعلنها الشركات بحماية البيانات، إلا أن مصالحها الاقتصادية قد تتعارض في بعض الأحيان مع هذه الالتزامات.

الجزء الثالث

الثورة الصناعية الثالثة

بين توزيع الثروة وتوزيع الذكاء

يجمع المتخصصون على أن عقودًا قليلة تفصلنا عن عهد تعميم السيارات ذاتية القيادة، وشمولية إنترنت الأشياء، وتحقيق كل ممكنات الاندماج الثلاثي بين الرقمنة والذكاء الاصطناعي والروبوتية. إلا أن هذا العالم الجديد الذي يشهد بروز إنتاج قائم على الميكنة الذكية الشاملة، يعني تهميش الدور الإنساني في منظومة الإنتاج. وإذا أخذنا في الاعتبار التطور الضخم في الإنتاج والتراجع المتوقع في الحاجة الى العمل، يكون هناك ضرورة الى إعادة بناء المنظومة الاقتصادية وتحديد طبيعة العلاقات التي تحكمها.

وفي ظل التطور المتسارع الذي يشهده العالم يمكن للمستهلك أن يصبح منتجًا لما يحتاج اليه من أشياء مادية، مثل الطاقة المتجددة من خلال انتشار المولدات لدى صغار المستهلكين في منازلهم. وكذلك من خلال ظهور تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد التي تسمح بتحويل التصاميم الرقمية إلى أشياء مادية في الواقع، هذه التقنية التي كسرت الحواجز الفاصلة بين المستوى المعلوماتي ومسارات الإنتاج من ناحية وبين العالم المادي من ناحية أخرى، مما يفتح الأبواب أمام تحقيق ابتكارات جديدة وتطورات مثيرة في مجال الصناعة والتصميم.

خطر التدمير الراديكالي: يركز الكاتب في هذا الجزء على ما أسماه بالتدمير الراديكالي أو التدمير غير الخلاق الذي وصلت اليها تجربة التصنيع، والتي تظهر في صورة التكلفة المناخية التي نتجت عن تكنولوجيا الثورات الصناعية السابقة. فتحول النمو والاستهلاك الى غاية في حد ذاته، في ظل اعتقاد أن الموارد الطبيعية غير متناهية، مما جعل الاقتصاد يعمل تحت ضغط المدى القصير، مع تجاهل كلي للتبعات على المدى الطويل.

من ناحية أخرى أدى استفحال ثقافة الاستهلاك وتعميم طموح الوصول الى الرفاه لدى العامة الى بروز اختلال في التوازن بين سرعة استهلاك الموارد الطبيعية وبطء إعادة إنتاجها من قِبل الطبيعة، وأي محاولة لكبح جماح الاستهلاك لحل هذه المشكلة يعتبر أمر خارج السياق التاريخي المحكوم بعقيدة التطور المادي التي أتت بها الحداثة. تلك الحداثة التي تجاوزت العقائد الدينية والمثل العليا التي كانت يمكن أن تساعد على حل هذا الإشكال كما يؤكد الكاتب. ونتيجة لذلك يرى الكاتب أن الإنسان يندفع اليوم بكل ثقة وحماس على طريق التدمير الذاتي.   

ترياق التكنولوجيا وعودة الطوباويات: وفق منطق “داوني بالتي كانت هي الداء”؛ يشير الكاتب إلى أن التكنولوجيا توفر الحلول للتحديات التي تواجه البشرية. فالمنظومة الاقتصادية الجديدة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي ستنشئ علاقات اجتماعية غير مسبوقة قائمة على التجربة المشتركة وتقاسم الخبرات من خلال منطق غير ربحي معتمد على أساسين: أولهما الإنتاج المشترك، وثانيهما التكلفة الحدية المنعدمة. ومثال ذلك المنتديات الخاصة التي انتشرت على الشبكة العنكبوتية لتقديم خدمات استشارية ذات قيمة مضافة عالية، وكذلك الويكيبيديا التي تمثل أكبر نجاح لهذه العلاقات الجديدة. ومن الأمثلة الواضحة أيضًا مجال الطاقة البديلة التي يؤهلها التوزيع الأفقي لأن تكون العمود الفقري للاقتصاد التعاوني الجديد، ولا يحول دون ذلك الا تطور الوسائل التقنية لإنتاجها على المستوى الفردي وبعد ذلك يصبح إنتاج الطاقة منعدم التكلفة تقريبًا. كما أورد الكاتب في هذا المجال مثال خدمة النقل على الشبكة العنكبوتية.  

إشكالية احتكار البنية التحتية: حتى لو نجحت التكنولوجيا في تجنب أخطار التدمير الراديكالي –السابق الإشارة اليه- يستبعد الكاتب إمكانية تحقيق الوضع الأمثل اقتصاديًا واجتماعيًا، لأن التكنولوجيا تحمل بداخلها بذور التدمير الذاتي من خلال بنيتها الشمولية. فرغم قيام الشبكة العنكبوتية بتجاوز الحدود والإفلات من إكراهات الرأسمالية تأسيسًا لعلاقات تعاونية، إلا أن البنية التحتية التي تعتمد عليها هي بنية احتكارية بامتياز، فهي قائمة على عدد قليل من الشركات تحتكر نصيب الأسد من إنتاج عناصر البنية التحتية الضرورية للمنظومة الجديدة، من أشهرها جوجل وأمازون وفيسبوك وآبل وميكروسوفت في الولايات المتحدة، وشاومي وتانسانت وبايد وعلي بابا في الصين.

سؤال نهاية العمل: ثم يناقش الكاتب الإشكالية التي طرحتها “حنة آرنت” من أن الإنسانية تشهد كابوسًا اسمه نهاية العمل فيأتي ببعض السيناريوهات المتفائلة التي ترى أن العمل سيشهد تطورًا ثوريًا، فالمهام الشاقة والرتيبة ستختفي، لتظهر –تبعًا لمنطق التدمير الخلاق- مهن أفضل منها. كما أنه يجب ألا نتوهم أن الدور المركزي للرقمنة والبعد الافتراضي سيلغي تمامًا البعد المادي، فكل الشبكات الذكية تحتاج الى بنية تحتية مادية. فالتكنولوجيا أثبتت على مر التاريخ أنها لا تنهي العمل، ومن يقل ذلك يخلط بين قتل العمل واندثار المهن.

ويكمن القلق في الفارق بين سرعة التدمير وقسوته –عند اختفاء المهن- وغموض الخلق وتدرجه خاصة في عصر الذكاء الاصطناعي، فالتصنيع في الثورة الصناعية الثانية قام انطلاقًا من منطق الجغرافيا والتاريخ، أي أن التصنيع يبرز جانبه المادي بوضوح ويتنزل في أطر زمانية، أما الذكاء الاصطناعي فهو يخرج من هذه الضوابط، فالشركات الناشئة اليوم تظهر على أساس تطبيقات معلوماتية مخزنة فيما يسمى السحاب الرقمي فهي غير متعينة في المكان.   

بين الذكاء الإنساني والذكاء الاصطناعي: بوادر الفجوة: يؤكد الكاتب مرةً أخرى أن نهاية العمل مستحيلة بحكم أن الذكاء الاصطناعي لا يعمل إلا بفعل الذكاء الإنساني. ومهما بلغت قدراته الحسابية فإنه يفتقد أبرز ما يميز الذكاء الإنساني ألا وهو الوعي. إن تبعية الذكاء الاصطناعي للإنسان مزدوجة، ذلك أن الذكاء الاصطناعي يحتاج الى مراكمة المعطيات ومن ثم يحتاج الى أكثر عدد ممكن من مستخدمي الشبكة العنكبوتية، ولكن في المقابل يحتاج توجيه الذكاء الاصطناعي الى وعي كفء لا تمتلكه إلا الأقلية؛ أي أن الجميع يساهم في تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي، في حين أن الأقلية فقط تمتلك القدرة على التحكم في هذا الذكاء. إذن فالذكاء الاصطناعي وسيلة بعض الأذكياء لإدراك مستوى غير مسبوق من التأثير والهيمنة ما كان لهم أن يحققوه من دون هذا الذكاء الاصطناعي. فظهرت مجموعة من العمالقة تتحكم في منجزات الذكاء الاصطناعي من أمثال بيل جيتس وايلون ماسك ومارك زوكربيرج وغيرهم. ولهذا الوضع الجديد يبدو العالم مقبلًا على مستوى غير مسبوق من التفاوت وعدم المساواة، ففي اللحظة التي تقرب فيها التكنولوجيا الإنسانية أفقيًا من بعضها البعض، تتأهب الإنسانية للانقسام على أساس الذكاء الطبيعي والاصطناعي بما يمكن تسميته بالأرستقراطية التكنولوجية.   

ونظرًا لأنه لم يعد من الممكن القيام بأي عمل بدون الاعتماد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، سواء كان ذلك في مجال الأبحاث العلمية أو الطب أو التسويق…الخ. فإن ذلك يدفع الى ازدياد تبعية الذكاء الإنساني للذكاء الاصطناعي مما يوجد تفاوتًا كبيرًا بين فئة محظوظة وأخرى محرومة وفق معيار التحكم في التكنولوجيا، فيحدث التفاوت لا على أساس الثراء بل على أساس التأثير، أي أن رأس المال الثقافي بصدد الارتقاء ليكون المصدر الرئيسي لرأس المال المادي.

وفي هذا السياق تظهر أحلام المزج بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي من خلال أسلوبين: ما يُسمى السيبورج، الذي يُعرف بتعزيز دماغ الإنسان من خلال وصله بقواعد المعلومات المتراكمة أو بتجهيزه بحواسيب مجهرية. أما الأسلوب الآخر فهو تطوير الذكاء البيولوجي باستخدام الذكاء الاصطناعي من أجل الانتقاء العلمي للجينات المسؤولة عن تطوير الذكاء البشري. وهذا يعني الانتقال من إنتاج الذكاء الاصطناعي الرقمي الى إنتاج ذكاء بيولوجي اصطناعي، بما يطرح إشكاليات فلسفية متعلقة بالحدود بين الذكاء الإنساني والذكاء الاصطناعي.

إذن التحدي الذي يرسم الذكاء الاصطناعي ملامحه يحيل الى خطر فصل عنصري جديد؛ فصل لا يقوم على الدين أو اللون أو اللغة، إنما يقوم على أساس الفرق في الذكاء. فالعالم الجديد عالم لا يرحب بغير الأذكياء. ويتوقع الكاتب ازدياد الحاجة الى الكفاءات العالية للتعامل مع الذكاء الاصطناعي بما من شأنه التسريع في نسق الفوارق الاجتماعية، ذلك أن الندرة النسبية تسمح بزيادة القدرة التفاوضية لمَن يمتلكون الكفاءات المطلوبة في سوق العمل وهو ما يزيد من تمركز رأس المال.

ويمثل هذا السياق تهديدًا صريحًا للطبقة الوسطى في المجتمعات. ومما يؤكد هذا الطرح ما نشاهده من عجز الطبقات الوسطى في العقدين الماضيين عن تعزيز قدراتها الشرائية في الوقت نفسه الذي تصاعدت فيه دخول أصحاب الكفاءات التقنية بشكل خرافي. فنجد مثلًا أن عمل المصمم المعماري اليوم أقل حصانةً من عمل البناء، فعلى الرغم من أن التكنولوجيا تسمح عمليًا بتعويض كليهما، فإن المنطق الاقتصادي ينتصر للثاني بسبب ضعف الأجر وارتفاع تكلفة الاستثمار في الروبوتات، أما المصمم المعماري فهو أرفع أجرًا والبرمجيات الرقمية التي تعوضه أبخس ثمنًا.

ويتساءل الكاتب هنا عن الحل لهذه المعضلات الكبيرة. ويرى أن الحل الأقرب الى الذهن يتمثل في تدخل الدولة لفرض معايير تضمن حدًا أدنى من الإنصاف والعدالة. ولكن يؤكد الكاتب أن هذا الحل غير فعال. ذلك لأن الدولة محدودة جغرافيًا في حين أن المنظومة التكنولوجية غير محدودة. وهذا الاختلال بين السياسي من ناحية والاقتصادي والتكنولوجي من ناحية أخرى يعمق ما قد بدأته العولمة من تكبيل لأيادي الدول.

من ناحية أخرى إن التعقيد التقني وتسارعه الاستثنائي واحتكار معطياته الأساسية من قِبل بعض العمالقة يجعل مؤسسات الدولة رهينة في قبضة مقدم الخدمات الجديدة، فهي مضطرة لاستخدام البنية التحتية نفسها للاقتصاد الجديد مما يجعلها تمامًا كالمواطنين الآخرين قابلة للاختراق من منشئ تلك التكنولوجيا والمتحكمين فيها. ولا خيار للسلطة السياسية إلا اللجوء إليهم لتأمين معلوماتها أمام تعاظم مخاطر السيبرانية.  

الجزء الرابع

تعميم الرأسمالية أو التكامل الهرمي الأفقي

يشير الكاتب في بداية هذا الجزء الى نظرية نهاية الرأسمالية، التي يرى البعض أنها تتأقلم مع سياق الثورة الصناعية الثالثة. فعلى الرغم من أن الاقتصاد التعاوني يمَكن الشركات المنظمة له من تحقيق أرباح خيالية في أوقات قياسية، فضلًا عن اكتسابها تأثيرًا خرافيًا على حياة الناس، فإن تنظيمه الأفقي يبدو للبعض بديلًا مغريًا عن المنظومة الهرمية التي أنتجتها مسيرة التصنيع والتحديث، أي أن هؤلاء يعتقدون أن الاقتصاد الجديد قد يتحول تدريجيًا الى تحدٍ جوهري للرأسمالية التي أنشأته.

فنجاح الإنترنت وما تشكل حولها من شبكات ذكية ليس فقط فتحًا تكنولوجيًا خارقًا ولكن للإنترنت قدرة فائقة على الاستجابة للنزعات الفردية من خلال فتح آفاق رحبة أمام الأفراد لتجاوز الانعزال دون فقدان الاستقلالية ولمواجهة شتى أشكال الهيمنة الاقتصادية دون الوقوع في فخ السلطوية السياسية، وهذه الدوافع هي التي تفسر شعبية القول بنهاية الرأسمالية. إذن فلا حدود للثورة التي يشهدها هذا العصر، إنها تعلن نهاية كل المنظومات الاجتماعية التي عرفتها الإنسانية منذ الثورة الصناعية، فالتغييرات الجديدة تتجه نحو رفع المسئولية عن كلٍ من سلطة الدولة التي هي بصدد فقدان كل وسائل تأثيرها في عالم أصبحت فيه الحقيقة الاقتصادية معولمة لا معنى للحدود فيها، وعن الأفراد الذين يقومون بتسليم كل أشكال القرار لخواريزمات تتلاعب بهم في الوقت الذي تستجيب فيه لحاجاتهم.

من ناحية أخرى هناك تغييرًا نوعيًا في علاقة رأس المال بالعمل بما يجعل الثورة التكنولوجية تطرح احتمالين كبيرين: فإما أن تكون مرحلة من التدمير الخلاق، بمعنى أن التاريخ يعيد كتابة نفسه بوسائل جديدة تجاوزًا لقيم مرحلة وإنشاءً لأخرى، وإما أن تكون فترة من التدمير الراديكيلي غير الخلاق، حيث يدخل العالم مرحلة ما بعد العمل، وما بعد القيمة، وما بعد التاريخ، بل وما بعد الإنسان.

ويلفت الكاتب النظر هنا الى القانون الأساسي في الرأسمالية القائم على تتبع الأسعار للتكلفة الحدية للمنتج ارتفاعًا وانخفاضًا استجابة لقانون العرض والطلب، إلا أن هذا القانون غير قابل للتطبيق في السياق التكنولوجي الجديد، إذ تنزع السوق التكنولوجي نحو تركز احتكاري متزايد بحكم ما تتمتع به الشركات العملاقة من أسبقية متصاعدة، بما يجعل من العسير ظهور منافسين جدد في ظل تحديات الموارد المالية والبشرية التي يواجهها اللاعبون الصغار، فهم لا يملكون القوة المالية والحصانة التكنولوجية الضرورية لحماية اختراعاتهم من إمكانية استخدام العمالقة لإمبراطورياتهم المالية لتقديم خدمات مشابهة، ربما حتى بالمجان أو وفق نموذج شركة أمازون بالبيع بالخسارة. فإنتاج الشركات العملاقة قائم على سمعة طاغية واحتياطات مالية ضخمة، بما يدفع صغار اللاعبين الى التفريط في حقوقهم مقابل المليارات التي تقدمها الشركات الكبيرة. ومن هنا يمكن القول إن لا خوف من مقولة نهاية الرأسمالية، ذلك أن ثورة الذكاء الاصطناعي تعمل على تعميق الرأسمالية بما نراه من تركز تدريجي لكل مصادر القوة والتأثير.   

ومن مفارقات الذكاء الاصطناعي أنه يدمج التعاون والمساهمة الجماعية في المنطق التجاري، فالجميع يساهمون في تطوير الذكاء الاصطناعي من خلال تزويده بالمعطيات الضرورية لرفع كفاءته، والجميع يستفيد من منظومة الشبكات لزيادة العلاقات الاجتماعية، والجميع يملك القدرة على استغلال البنية التحتية للمنظومة الجديدة في سبيل الخلق والابتكار والترويج التجاري لما يملكون أو ينتجون، فالرأسمالية الجديدة قادرة على المتاجرة بالتعاون والمساهمة الجماعية، إذ أنها تمنح الجميع فرصة تحويل ما يملكون من قيمة خاصة لوسيلة للربح. إن تعميم المنطق الربحي يدخلنا في مرحلة جديدة من مراحل الرأسمالية.

العمل من التنظيم العلمي إلى التنظيم الشبكي: يتناول الكاتب التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على الرأسمالية نتيجة التقدم التكنولوجي. فقد قامت الرأسمالية بتحرير الأفراد من القيود الاجتماعية التقليدية مثل العائلة أو القبيلة، لكنها في الوقت ذاته أدت إلى تفكيك الآليات التكافلية التي كانت تحملها تلك الأطر الاجتماعية التقليدية، وتكرست الفردانية التي ميزت الرأسمالية اقتصاديًا واجتماعيًا. وقد ظهر المجتمع المدني في هذه المرحلة لتعويض بعض الأطر التقليدية التي تفككت بفعل الثورة الصناعية.

من ناحية أخرى أدى سعي الثورة الصناعية الى رفع إنتاجية العامل الى ظهور التنظيم العلمي للعمل حيث أصبح الإنسان جزءًا من منظومة ميكانيكية بحتة، فأصبح العامل مجرد آلة بيولوجية، وكل ما سعت اليه النقابات هو تعويض هذا الوضع بضمان حد أدنى من سلامة ظروف العمل وتوفير تغطية اجتماعية وتقليص ساعات العمل. وهذا التصالح بين رأس المال والعمال تم التعبير عنه بالدولة الاجتماعية باعتبارها تأليفًا بين استلاب الفرد في العملمن جهة وحريته في المجتمع المدني ولا سيما من خلال استفادته من ثقافة الاستهلاك من جهة أخرى.

إلا أن العالم اليوم قد تجاوز هذا النموذج القائم على تبعية العمل لقرار رأس المال، وبدأ في التحرر من القبضة الحديدية التي مثلها التنظيم العلمي للعمل. فالمنظومة التي هي اليوم بصدد التشكل تفرض التأقلم المستمر مع الإشارات التي تأتيها في كل لحظة عبر مختلف المنظومات الشبكية، ويعني ذلك تغييرًا عميقًا في تنظيم الإنتاج. فلم يعد العمل قائمًا على التبعية البيولوجية مع انعدام التفكير والمسئولية، ولم يعد الخنوع السلبي ما تنتظره المنظومة الجديدة من العامل.

إن هذا النموذج الجديد للعمل، رغم رفعه لجزء كبير من القيود على العمل، إلا أنه لا يقدم تجاوزًا لمنطق الربح أو ثقافة الاستهلاك. بل إن كل فرد هو اليوم رأسمالي بالقوة أو بالفعل، فالبنية التحتية الشبكية للرأسمالية الجديدة تمنحه فرصة تحويل كل ما تقع عليه سلطته الى مصدر للربح.

الأثر التراكمي وانتشار العمل المجّاني: يتحدث الكاتب عن ظاهرة العمل المجاني الذي تعتبر المناولة أبرز آلياتها من خلال دمج المستهلك في مسار الإنتاج، وما لهذه الوسيلة من أثر تراكمي غير منظور، حيث يتمثل هذا العمل المجاني في تقليص تكاليف الإنتاج وتخفيض الأسعار للمستهلكين. وتسمح الثورة التكنولوجية بتعميم هذا النموذج، فنجد مثلًا انتشار الخدمات الإلكترونية في مجال السفر الجوي من خلال استخدام الإنترنت لحجز تذاكر السفر، وغيرها من الأمثلة. وقد يبدو العمل في كل مرة هامشيًا في كمه وكيفه، ولكن أثر التراكم الذي يقوم عليه الاقتصاد التعاوني يجعله يعادل الجزء الأكبر من العمل العادي.

إذن فإن العمل المجاني المتسلسل من خلال المساهمة الجماعية غير الواعية واعتمادًا على الذكاء الاصطناعي سيؤثر على منظومة العمل التقليدي وتكون النتيجة التخلي عن المعايير القانونية المقيدة لنظام العمل ويسمح لرأس المال من تحقيق أقصى درجات الإفلات من القواعد.، بما يعني الخروج عن كل معيارية قانونية أو مسئولية اجتماعية.

إذن لن ينتهي العمل ولكن تنظيمه القانوني وأنماطه التعاقدية ستشهد تغييرات عميقة، أول سماتها الاتجاه نحو بطالة هيكلية متصاعدة. ويلاحظ أن الأفراد يواجهون صعوبة في التكيف مع هذه التغييرات، بينما تختلف آراء المجتمعات بين الحاجة إلى حماية الدولة الاجتماعية ومؤسساتها، وبين عدم التدخل.

ويشير الكاتب إلى أن التكنولوجيا تجعل العمل أكثر مرونة وتتيح العمل عن بعد، مما يقلل من الحاجة إلى العمل الحضوري والتنظيم النقابي التقليدي. لكنَّ هذا الوضع يضع تحديات كبيرة أمام العمال للحفاظ على حقوقهم والحصول على حصتهم العادلة من القيمة المضافة، ويجعلهم يتنافسون بشكل أكبر من أجل البقاء في السوق.

جدلية رأس المال البشري: يتحدث الكاتب عن أهمية رأس المال البشري وتطوره، ويعرفه بـ “أنه مجموعة الكفاءات العلمية والتقنية والمهنية والفنية المتوافرة لدى مجتمع ما”. ويرى الكاتب أن فكرة رأس المال البشري قد وصلت الى مرحلة دياليكتيكية، فقد بدأت تنتج نقيضها، فإذا كان الهدف من تطوير رأس المال البشري يتمثل في تحقيق التعويض التدريجي للقوة الجسدية، فإن المنعطف الجديد يدفع نحو تعويض أسرع لقوة الفكر الإنساني بقوة عقل إلكتروني يفوقه في كثير من القدرات.

ويمكن القول إنه بمقدار الانضباط الصارم لسياق محدد بقدر سهولة تفوق الذكاء الاصطناعي في هذا النشاط كما نرى مثلًا في الحساب أو العمل الفكري المقيد بالسياق أو القائم على التكرار، إلا أن الذكاء البشري له أسبقية في مجال الإبداع التجاوزي والتأليف المفاهيمي والتفاعل الإنساني.

وينتقل الكاتب الى موضوع الروبوتات الذكية في مجال الخدمات علمًا بأن دخول التكنولوجيا الى مجال الخدمات جاء متأخرًا عن دخوله في المجال الزراعي والصناعي. ويستعرض الكاتب التحديات والفرص التي تواجه الروبوتات الذكية في قطاع الخدمات، ويشير إلى أن بعض الروبوتات يمكن دمجها بشكل كامل في بيئة العمل بجانب العمال البشريين خاصةً في المهام البسيطة، مما يتطلب تأقلمًا مع تنظيم جديد يتيح للآلات أداء المهام بشكل آمن وفعال.

 ويرى الكاتب أن تطور التكنولوجيا يفتح الباب أمام استخدامات جديدة ومتطورة للروبوتات بما يطرح تحديات أخلاقية وقانونية جديدة تتعلق بالمسؤولية المدنية والأخلاقيات المتعلقة باستخدام التكنولوجيا الذكية.

من التدمير الخلّاق إلى الخلق التدميري: يناقش الكاتب تأثير التكنولوجيا على سوق العمل، ويرى أن المعيار المحدد لقيمة العمل يتوقف على مردود العامل على المستوين الكمي والكيفي. ويعتبر الكاتب أن العمل يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام: القيادة والإدارة، والتكرار الروتيني، والعمل اليدوي غير الروتيني. ويرى أن القسم الأول هو الأكثر استفادة من التطور التكنولوجي والأقل تأثرًا من الميكنة الذكية لما يتطلبه من القدرة على التحليل وسرعة ردة الفعل واتساع الخيال والأفق، أما القسم الثاني فهو الأكثر عرضة للتفكيك تحت ثورة الرقمنة، في حين يبقى مستقبل العمل اليدوي غير الروتيني غامضًا لتوقفه على تدني تكلفة عملهم الى سعر الروبوتات، وعلى العمالة اليدوية إحداث طفرة في طبيعة كفاءتهم من أجل التأقلم مع الديناميكية الجديدة. إلا أن الكاتب يتوقع مع هذه الديناميكية الجديدة أن تخلق طبقة من العاطلين الذين لا أمل لهم في الاندماج الاجتماعي عبر العمل مما يجعل الاستقرار الاجتماعي أكثر صعوبة وقد ينبئ بتدخل أكبر للحكومات من أجل الحفاظ على شيء من الاستقرار الاجتماعي.

ويتنبأ الكاتب بفترة من التغييرات السريعة تتسم بنهاية التدمير الخلاق لصالح الخلق التدميري، فالتدمير الخلاق ينشئ فرص جديدة للأغلبية، أما الخلق التدميري فهو يهدم القيم القديمة لصالح الأقلية. وفي جميع الأحوال انتهى العصر الذهبي لاستقرار سوق العمل.

وينهي الكاتب هذا الجزء بالقول بأن نجاح عمالقة المعلوماتية ليس نتاج عبقرية تكنولوجية فحسب، بل إنه أيضًا انعكاس لالتقاء التكنولوجيا مع سردية الديمقراطية من جهة، ومع حالة نفسية وسوسيولوجية تميز الأفراد الذين لا يعنيهم كثيرًا حفظ معطياتهم الخاصة من جهة أخرى. ما يهمهم فعلًا هو اكتساب مزيد من القدرة على الفعل وعلى الاستفادة من منجزات ثقافة الاستهلاك، وكذلك الحصول على فرصة للمساهمة في مسار التدمير الخلاق كي لا يكون حكرًا على الرأسماليين. ولقد بدأ كل ذلك بالثرثرة على مواقع الاتصال الاجتماعي، ثم انتهى بكسر الحصون التي تحمي مختلف النشاطات الاقتصادية سواء على أساس الكفاءة أو الضوابط القانونية أو حتى الأوضاع الاقتصادية الاحتكارية وغيرها من أشكال الهيمنة.   

الجزء الخامس

الثورة المنشودة في التعليم

معركة الحسم

يرى الكاتب أن الإنسانية، ولأول مرة في تاريخها، لا تعلم الكفاءات التي يحتاجها جيلها التالي؛ بمعنى أننا لا نعلم اليوم ما ينبغي أن نعلم أبناءنا. فنجاح التعليم في التأقلم مع دوامة التكنولوجيا عاملًا أساسيًا من عوامل الحفاظ على العمل والدفاع عن الميزات التفاضلية للذكاء الإنساني. والثورة التكنولوجية الجارية تحوي في طياتها مراحل ثورية عديدة، وهو ما يعني أن الاضطرار للتأقلم من خلال رفع الكفاءة لن يحصل على الأرجح مرة واحدة في حياة الإنسان بل إنه قد يتكرر مرات عديدة، وهذا يعني أن الأفراد سيكونون أمام محك الصلابة النفسية والذهنية، وأهم ما ينبغي إعدادهم له هو مفهوم التغيير وعملية التأقلم، فالكاتب يرى أن النجاح يتطلب تحديات متكررة لرفع مستوى المهارات والتأقلم مع التحولات في العمل، وهذا التحدي لا يقتصر فقط على المهارات الفكرية والمعرفية ولكن أيضًا على النواحي النفسية والاجتماعية.

ويفرق الكاتب بين مفهومي للتعليم وهما: التعليم المتجدد والتكوين المستمر. والمقصود بالتكوين المستمر ضرورة رفع مستوى كفاءة الفرد خلال مسيرته المهنية في مجال تخصصه المهني الضيق أو ما يحيط به من مجالات لصيقة. أما التعليم المتجدد فهو العودة الى الصفر من أجل تعلم مهنة جديدة وهو ما يستجيب لطبيعة عالمنا الذي أصبح فيه التغيير قاعدة وليس استثناءً.

ويسلط الكاتب الضوء على التحدي الذي يواجه الإنسان في مواجهة التقدم السريع للذكاء الاصطناعي، ويشير إلى أن الإنسان لديه ميزات فريدة تجعله متفوقًا على الذكاء الاصطناعي، مثل المرونة والقدرة على التأقلم والإبداع الفني. ولكن عيب الإنسان في هذه المنافسة البطء ومحدودية الذاكرة.

 ويعتبر الكاتب أن التعليم الأولي يلعب دورًا حاسمًا في تحضير الأفراد للاستفادة من التكنولوجيا بفعالية وتعزيز مزايا الذكاء البشري، ودفع الناشئة نحو المجالات التي يمكنهم فيها التكامل مع الذكاء الاصطناعي لا توجيههم بفعل العادة شطر النشاطات التي نعلم يقينًا أنها ستكون ضحية منافسته.

في السياق ذاته، يشير الكاتب إلى ثلاث مجالات يتفوق فيها الذكاء الإنساني على الذكاء الاصطناعي، وهي الرؤية الشاملة التي تمنح القدرة على التأقلم، والقدرة على التفاعل العاطفي الذي ينشئ العلاقات الاجتماعية، والإبداع الفني. وهذه المهارات تعتمد على القيم الإنسانية والجمالية التي يمتلكها الإنسان والتي لا يمكن للذكاء الاصطناعي مضاهاتها.

بشكل عام، يرى الكاتب أن الإنسان يحتفظ بميزاته الفريدة التي تجعله قادرًا على التفوق في بعض الجوانب على الذكاء الاصطناعي، ويجب على الإنسان استغلال هذه الميزات بشكل مستدام والتكيف مع التكنولوجيا بفاعلية.

أهمية الكفاءات المتنوعة: إذن فالتكامل مع الذكاء الاصطناعي لم يعد اختيارًا بل ضرورة؛ فالاقتصار على الذكاء الإنساني يقصي أصحابه من سوق العمل. وتجدر الإشارة الى ضرورة مراقبة الحدود التي تفصل قدرات الذكاء الإنساني عن الذكاء الاصطناعي، إلا أن هذه الحدود متحركة ويجب التأقلم المتواصل معها لضمان استمرار التكامل. إنه تحدٍ هائل يقع الجزء الأكبر منه على التعليم المتجدد الذي يعيد إنشاء رأس المال البشري بالسرعة المطلوبة من أجل تجسير الهوة بين العمل والعمال.

إذن هناك نقطتين أساسيتين يختصر فيهما الكاتب سر النجاح في سوق العمل مستقبلًا، أولها اكتساب قدرات متخصصة مطلوبة في سوق العمل، وثانيها التمتع بمستوى محترم في المجالات الأساسية العامة بما يمثل قاعدة لإعادة التكوين عند الحاجة، وهذه النقطة تشكل حزام الأمان الذي يعين في سوق خاضع للتدمير المتواصل.   

تحرير سوق المعلومات: يسلط الكاتب الضوء على دور التعليم في تحقيق رسالة أخلاقية تهدف إلى إعداد مواطني المستقبل الذين يتمتعون بحد أدنى من المعرفة والحس النقدي والمشاركة المجتمعية. ويوضح الكاتب أن في الماضي كانت صناعة وعي الناس تتم من خلال انتقاء ما ينفذ للمجال العام من معلومات، ولكن هذه الوسيلة كانت تشترط ندرة المعلومات وضعف وتيرة تدفقها، ولكن اليوم، وقد تحولت المعلومات الى سيل جارف، أصبح من المستحيل استمرار سياسة الحجب. ولكن يبقى بالإمكان التحكم في تشكيل الوعي بتوجيه الاهتمام الى سفاسف الأمور والتافه من الأخبار، فيتم إغراق وسائل التواصل الاجتماعي بالمعطيات الكاذبة والمغلوطة. هنا نصل الى مستوى آخر من المنافسة بين الذكاء الإنساني والذكاء الاصطناعي، وهو مستوى انتقاء المعلومة وسط هذا الكم الهائل منها، ذلك أن تضخم المعلومات يؤدي الى تقوية الانحياز الذهني للمواقف المسبقة، فالكثرة تعني زيادة الحجج التي تؤكد تلك المواقف، ومهما كانت الفكرة التي يتبناها الفرد شاذة فإنه يجد اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي ما يدعمها، فيعزز ذلك شعوره بأنه على حق، وبأن الآخر يزور الحقيقة ليفتن القلوب والعقول. هذا ما أطلق عليه الكاتب “غباء يتذاكى اصطناعيًا”.

 إذن فمن أولويات التعليم اليوم هو ضمان الحد الأدنى من الحصانة الذهنية حماية للفرد في مسيرة تحرره المتزايدة، فالحس النقدي والقدرة على اتقاء منزلقات التضخم الكمي على حساب الانتقاء النوعي هي السلاح الوحيد الذي يبقى أمام غياب ضوابط الحوار ومقاييس الموضوعية في هذا السوق المعلوماتي الذي يعظم الأحكام المسبقة والمعتقدات الشاذة والأخبار الهامشية والتفاهة المنمقة.

ويرى الكاتب أن هذا الوضع الذي يعظم الحجج الأضعف يقدم إطار دارويني مقلوب؛ حيث البقاء فيه ليس للأقوى، إلا إذا فهمنا القوة لا على أساس الجودة ولكن وفقًا للاستجابة لأكثر النزعات سلبية في الإنسان.

الخاتمة

ينهي الكاتب هذا العمل المهم بقوله “قد يُقال إن في هذا الكتاب تشاؤمًا، فهو أقرب الى تعريف المشاكل منه الى وصف الحلول. لهذا القول ما يبرره؛ فالتغييرات العميقة المعاصرة، التي يعد ثالوث الرقمنة والذكاء الاصطناعي والروبوتية عناوينها البارزة، من الخطورة والتركيب ما يفرض التفصيل في التحليل، وما يحث على الحذر في ادعاء امتلاك الحلول. ولا يبقى لنا بعد ذلك إلا أن نعلن رفضنا لكل وعي حزين لا يرى إلا عنصر الهدم، فيعرض عن التأمل في أبعاد البناء، ونرى في فكرة التدمير الخلاق التي اعتمدناها اقتباسًا من جوزيف شمبتر لفهم ممكنات المرحلة التاريخية المعاصرة تأليفًا بين ما فيها من هدم وبناء. وهو تأليف يرفض التفاؤل الساذج في تطور يأخذ الإنسانية الى طوباويات تكنولوجية تتغير بموجبها طبيعة الإنسان، ولكنه مع ذلك لا يستسلم للتشاؤم”.

عرض:

أ. أحمد محمد علي*

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] أستاذ الحضارة واللغة الإنجليزية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة القيروان، تونس.

*  ماجستير في العلوم السياسية. جامعة القاهرة.

عن أحمد محمد علي

شاهد أيضاً

ما بعد الإنسانية: الفرص والتحديات

أ. منال يحيى شيمي

يشهد العالم اليوم ثورة تقنية وتكنولوجية هائلة، ورغم ما تحمله هذه التكنولوجيا من إمكانات وفرص لتحسين جودة الحياة وحمل القدرات البشرية إلى أفق جديد، فإنها وبنفس القدر تهدد الحياة البشرية والطبيعة الإنسانية بالمعنى الذي نعرفه.

البيئة الثقافية للصناعة والتقنية

أ. د. ممدوح عبد الحميد فهمي

لا أستطيع أن أبدأ هذا البحث قبل أن أُعرِّف القارئ بنفسي وبعلاقتي بموضوع البحث. ولدت في الجيزة وتلقيت تعليمي الجامعي في هندسة الطيران وفي الرياضيات في جامعة القاهرة في الستينيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.