الصفحات التالية من كتاب “قضايا ساخنة”* لمحمد سعيد رمضان البوطي**
التصوف بين عشاقه وأعدائه
تزكية النفس وترتيبها:
إن قيمة التزام المسلم بالإسلام، تظهر على صعيدين اثنين، قد يتضافران ويجتمعان، وقد ينفك الواحد منهما عن الآخر:
- أما الصعيد الأول: فهو الساحة الدنيوية التي يتجلى فيها تعامل الناس بعضهم مع بعض، ومن المعروف أن الإنسان يجب أن يعامل على أنه مسلم، من كل الجوانب، بمجرد أن يتوافر أركان الإسلام في ظاهر أقواله وأفعاله، بأن ينطق بشهادة الإسلام، ويذعن لأركانه العملية، ولا يبدو منه في الظاهر ما يدل على إنكاره وتأبيه لشيء منها، كما توصف طاعاته وعباداته جميعا بالصحة والقبول، مادامت هي في الظاهر كذلك، أي فليس لقاض أن يتهم مسلما بخلاف ما قد ظهر منه من الاستقامة في السلوك وصحة الطاعات والعقود. دليل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم بسنده عن أم سلمة أنه صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال: “إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضهم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق، فأقضي له”.
وفي رواية : “فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها”[1]
الصعيد الثاني: وأقول قبل بيانه إننا يجب أن نعلم أن هذا الحكم القضائي، في نطاق التعامل في دار الدنيا، ليس بالضرورة المقياس الدال على الحكم الأخروى الذي سيقضي به الله عزوجل بين عباده في الدار الآخرة. بل إنلذلك القضاء مقياسا آخر.
الصعيد الثاني إذن إنما هو صفاء القصد وإخلاص القلب وموافقة الظاهر الذي كان يراه الناس للباطن الخفي الذي يطلع عليه الله عزوجل.
فهذا هو أساس قضائه عزوجل في حق عباده يوم القيامة، ودليل ذلك قول الله عز وجل:
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) سورة البينة – 4، وقوله عز وجل:
(فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)الكهف-110، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اتفق عليه الشيخان: ” إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..”[2]، والأدلة على هذه الحقيقة في كتاب الله وسنة رسوله كثيرة جدا.
ويعبر علماء الشريعة الإسلامية عن الأحكام التي تتم على الصعيد الأول بالأحكام القضائية، وعن التي يقضي بها الله عزوجل بين عباده أو في حقهم يوم القيامة، بالأحكام الدينية، ويعبر بعضهم عن الأولى بالشريعة، أي المتبعة في دار الدنيا، وعن الثانية بالحقيقة، أى التي ستطبق يوم القيامة… ولا أهمية لاختلاف التعابير، ولا مشاحة في الاصطلاح، إن كان مضمون هذه التعابير والمصطلحات صحيحا، فضلا عن أن يكون محل اتفاق عند سائر علماء الشريعة الإسلامية.
غير أن المشكلة التي كان لابد لها أن تؤرق فكر المسلم الصادق في إسلامه، والراغب حقاً في النجاة يوم القيامة هي مشكلة التوفيق بين الظاهر من أحكام السلوك الدينية، والباطن من الإخلاص لوجه الله فيها، والصدق في الالتزام بأوامره والانتهاء عن نواهيه ابتغاء وجهه وحده، وتطهير القلب من الغوائل التي لا يطلع عليها إلا الله ولا يحاسب عليها غيره، والتي تصد صاحبها عن بلوغ درجة الإخلاص في الأعمال والصفاء في النية …!
ذلك؛ لأن من السهل على الإنسان أن يتحلى، في ظاهره، بكثير من أوامر الله وأحكامه، دون أي انضباط حقيقي وجوهري بها، ودون أي إخلاص قلبي لها، ابتغاء الحصول على الحقوق والامتيازات الإسلامية في حياته الدنيوية … ولا يكلفه ذلك أكثر من مصانعة للناس، وستر لبواطن الزغل والانحراف بظاهر من الاستقامة والالتزام.
أما الأمر العسير حقاً، فهو السعي إلى تطويع الباطن لما قد تحلى به الظاهر، بحيث يصبح ظاهر المسلم عنوانا على باطنه، بحيث إن تلبس ظاهره بأعمال الصلاة أو النسك، كان قلبه منصرفا بالخشية والخضوع إلى مراقبة الله وذكره، وإن عامل الناس بمقتضى الأحكام الشرعية فيما يبديه لهم من ظاهر معاملاته، كان في قلبه من خشية الله وتعظيمه ما يجعله يفيض إخلاصا للناس فيما يظهر لهم، وما يضمن تحقيق كامل التناسق والتفاعل بين ما يريهم من ظاهر أعماله وما يعامل الله به من باطن مشاعره وقصده.
أقول: إن تحقق هذا التناسق يقتضي بالضرورة أن يتجرد القلب من آفات الكبر والأنانية والضغائن، وأن يتجرد عن سلطان الشهوات والأهواء الجانحة، ويتحرر من محبة الدنيا وزخرفها.
أجل؛ إن من العسير جداً تطويع القلب لهذا الذي لا يعسر أن تخضع له الجوارح والظواهر والصور، ذلك لأن إخضاع الظواهر يمكن أن يتم عن طريق التمرين والتمثيل، وبدافع من الطمع في الحصول على حظوظ دنيوية عاجلة، ولكن ما الذي يخضع المشاعر والقلب – بعيداً عن رؤية الناس ورقابتهم – لما خضعت له تلك الظواهر والأشكال؟ بل ما الذي يمكن أن يحرر القلب عن سلطان الشهوات والأهواء، وأن يجرده عن مشاعر الأنانية والأحقاد، حتى يمكن توجيهه بعد ذلك إلى مراقبة الله والمخافة من سطوته وعقابه؟
إن الغرابة كل الغرابة هي أن يكون المسلم صادقاً في إسلامه، ثم لا تؤرقه هذه المشكلة ولا تخطر منه على بال.
ونحن لا نشك في أن القرآن يهدي إلى السبيل الأمثل لحل هذه المشكلة، وربط كل من الظاهر والباطن برباط السعي المخلص الصادق إلى مرضاة الله عز وجل، غير أن القرآن أجمل بيان الحل في كلمة قدسية واحدة كرر الأمر بها وشدد في التنبيه إلى ضرورتها، وهي : “التزكية”، ثم نبه إلى طريق واحد مرسوم لها، ألا وهو الذكر، ذكر الله عزوجل في كل حال، والابتعاد عن مطارح الغفلة وأسبابها. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فزاد الأمر بياناً إذ ربط بين الإيمان والحب، ونبه إلى التلازم المستمر بينهما، وذلك في مثل قوله عليه الصلاة والسلام: “ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان …”[3]، فذكر منهن أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، والحديث متفق عليه. فكيف تتم هذه التزكية، وهي فيما أجمع عليه العلماء، تطهير النفس من رعوناتها، وأهوائها الجانحة؟ وكيف السبيل إلى غرس محبة الله في القلب؟ ثم كيف السبيل إلى التخلص من الغفلات، وإيقاظ القلب والمشاعر إلى ذكر الله ومراقبته؟
هاهنا تكمن العقبة الكؤود، وعندها يتجلى معنى الجهاد الأكبر الذي ابتلى الله به الإنسان، وجعله مجلي حقيقة العبودية لله عزوجل.
وعند هذه المعضلة يبرز دور التصوف. وما ينبغي أن ننسى أننا إنما نتحدث عن مضمون هذه الكلمة، كما هو في ذهن جمهور علماء المسلمين لاسيما الصدر الأول. ولسنا نقف بأي اهتمام عند هذه اللفظة بحد ذاتها، كما هو داْب كثير من المستشرقين ومقلديهم.
إن جوهر التصوف ومعناه ليس أكثر من سلوك السبل التربوية الممكنة، على درب هذا الجهاد الأكبر الذي ابتلى الله به عباده؛ وبوسعنا أن نبصر بوضوح اتجاه همم المسلمين الصادقين في إسلامهم منذ عصر النبوة، إلى خوض غمار هذا الجهاد، جهاد النفس من أجل تزكيتها من الرعونات والأوضار، ثم ربط العاطفة القلبية بحقائق الدين وأحكامه، عن طريق ربطها بمحبة الله ورسوله.
سبيل هذا الجهاد منذ عصر الصحابة فما بعد:
غير أن سبيل هذا الجهاد أمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كان أقل وعورة بالنسبة إلى من جاء بعدهم، وذلك لأسباب، من أهمها رؤيتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وجلوسهم إليه وسماعهم لكلامه وعظاته، فقد كان لذلك أثر كبير في غرس محبته في قلوبهم، وتأثير ذلك على نفوسهم، وهو الأمر الذي يستوجب بطبيعة الحال محبة كل ما يدعوهم إليه رسول الله، وإيثاره على كل ما قد يعارضه من نوازع الشهوات والأهواء. فمن ثم تجلت في حياتهم ظاهرة الطفرة التي لم نجدها ظهرت فيمن بعدهم. وأعني بها سرعة تحولهم عن أوضاعهم الجاهلية التي كانت متحكمة بهم راسخة في حياتهم، إلى أتم معاني الالتزام بعزائم الدين وضوابطه وأحكامه.
ومن هذه الأسباب، بساطة الحياة التي كانت تحيط بهم، فقد كانت مغرياتها محدودة، ومحرماتها معدودة، ومن ثم فقد كان سبيل التسامي فوقها، والتحرر من غوائلها أقصر وأيسر. ولكن لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنجز الله وعده للمسلمين الذين أنجزوا وعدهم له، ففتح لهم البلاد، ووسع من آفاق الدنيا التي خضعت لهم، واندلقت إليهم الدنيا – بزينتها وزخرفها – من كل صوب، كان لابد أن يتضاعف أمامهم الجهد في سبيل تزكية النفس ومجاهدتها، ذلك لأن القيود أصبحت أكثر وأثقل.
فكان أن انصرف كثير منهم إلى استنباط أصول ومناهج تربوية يأخذون أنفسهم بها، ليتساموا بها شيئا فشيئا فيتحرروا من رعونات النفس وأمراضها الباطنة.
ولم يكن في مناهجهم وأصولهم التربوية تلك، ما يتعارض مع كتاب الله وسنة رسوله، بل كان كله مأخوذاً منه مخرّجاً عليه، وكانوا في صنيعهم الذي فعلوه لا يختلفون عن أولئك الذين استشعروا الحاجة، فاستنبطوا قواعد العربية من لسان العرب وسليقتهم، وعن أولئك الذين استشعروا الحاجة فاستخرجوا قواعد الأصول في فهم النصوص من اجتهادات الصحابة، وعن أولئك الذين استشعروا الحاجة فاستخرجوا قواعد البلاغة العربية من كلام الله عزوجل.
ولانزال نذكر في مقدمة من أقدموا على هذا الصنيع جلالة وسبقاً، الحارث المحاسبي (243ت)، وأحمد بن أبي الحواري (246ت)، والجنيد البغدادي(298ت).
وإنما درج هؤلاء فيما كتبوا ونظموا على منوال من سبقهم إلى ذلك سلوكا وعملاً، من جلة التابعين ومن بعدهم كالحسن البصري، وسفيان الثوري، وعطاء بن أبي رباح. وماخرجوا في شيء من أصولهم التربوية على ميزان الكتاب والسنة قط، ولكن إما أن يكون دخوله في الميزان صريحا ومباشراً، وإما أن يكون اجتهادا واستنباطاً.
ونذكر بما اتفق عليه العلماء، من أن كل ما يتوقف عليه الواجب يصبح واجباً، وكل ما يتوقف عليه المندوب يكون مندوباً، ما لم يكن هذا المتوقف عليه منهياً عنه، نهياً لا يقل في أهميته والجزم به من ترك الواجب المنصوص عليه.
إذن، فمهما كانت السبل التربوية غير منصوص عليها في قرآن أو سنة، نصاً مباشراً، ولكنها تعين في تزكية النفس وتصعيد العاطفة والوجدان، فإنها تأخذ حكم الغاية التي تتحقق من ورائها، وهذه الغاية داخلة كما يصرح الإمام ابن تيمية رحمه الله في أصول الإيمان وقواعد الدين. فالسعي إلى التحقق بها واجب على جميع الخلق باتفاق الأئمة[4].
وقد علمنا أن هذه الأصول إنما تدخل كلها في نطاق الأعمال الباطنة، كمحبة الله، والخوف منه، والرضا عنه، والإخلاص له، والتوكل عليه، والزهد في كل ما يحجب أو يبعد عنه، وإنما مدار ذلك كله على العاطفة والوجدان.
فلما أخذ هؤلاء الربانيون أنفسهم بالسبل التربوية المتنوعة للتحقق بهذه الصفات، وأرشدوا إلى ذلك عامة الناس وخاصتهم، وسلك الكثير منهم هذا السبيل – نشأ عن تفاوتهم في السير والسبق إلى ذلك، ومدى الاستمرار عليه ما سمي بالمقامات، كالأحوال، والفناء، والبقاء، وأطلقوا على من أخذوا أنفسهم بهذه السبل التربوية اسم: السالكين.
أن هذا السلوك، قد أدركه هو الآخر، ما أدرك أنواع العلوم والمعارف الإسلامية الأخرى من أدواء البدع والزغل والانحراف عن خط الاستقامة والقصد، فامتزج بالحق الذي ندب إليه العارفون والربانيون، كثير من الباطل الذي روج له الجاهلون آناً، والفسقة والزنادقة آنا آخر.
إذا كان هذا الذي ذكرناه واضحاً وصحيحاً، فما الذي يُنْكَرُ من هذا السلوك التربوي، في ميزان الشريعة الإسلامية ونصوص الكتاب والسنة؟
إننا لن نجد في شيء من هذا السلوك التربوي – بقطع النظر عن الألفاظ والمصطلحات والانحرافات المتربصة به – إلا ما يؤيده الميزان الشرعي، بل يأمر به ويدعو إليه، بل لن نجد الإسلام، إن أسقطنا منه هذا المعنى التربوي، وقطعناه عن الغاية المنوط بها، إلا هيكلاً فارغاً من المضمون، ومظهراً متجرداً عن أى مدلول … وما أكثر ما تخادع الناس بهذه المظاهر، ثم أذاقوا بعضهم بعضاً من مرارة الكيد والأذى، ماهيج بينهم نيران العداوة والبغضاء، وقطعهم في الأرض فئات وجماعات، حتى ظن السذج والجاهلون أن هذا هو شأن الإسلام، فهو أضعف من أن يجمع شملاً أو يكون قوة أو يؤلف بين قلوب ….!
صفوة القول أن غياب التصوف هو المسؤول عن جل مشكلاتنا اليوم، فلو زكيت النفوس، لفاضت القلوب حبا لله عزوجل، وخوفا ومهابة منه؛ ولأثمر هذا الحب حباً لعباد الله وشفقة عليهم (والحب في الله كما يقول ابن تيمية رحمة الله من أرقى درجات التوحيد ومعانيه)، ولشاع فيما بينهم الإيثار بدلاً من الأثرة، وتآلفت أفئدتهم، بدلاً من التناكر والتدابر، ولجاءت نصائح بعضهم لبعض نورانية مؤثرة تستقر في أعماق القلوب وتفعل فعلها الهادي في طوايا النفوس.
تزكية النفوس هذه، من منا يتساءل – على الرغم من أهميتها – عن مصيرها في مجتمعاتنا، ومن منا يهتم بوضع السبل التربوية الكفيلة بها؟
صحيح أن السبيل إلى هذه التزكية الواجبة قد تسلل إليها كثير من البدع والانحرافات ولكن فما الذي يجب أن يفعله العلماء المخلصون الرقباء على دين الله حيال ذلك؟
ونحن نقول: أما البدع والانحرافات فما من ريب أن على المسلمين الابتعاد عنها والتحذير منها. ولكن علينا، ونحن نحارب هذه البدع ونحذر منها، أن نبقي على الأساس السليم وأن نحافظ على جوهر الاتباع. وإلاَ فأي خير حققه ذاك الذي يدمر بالسلاح الذي يحارب به البدعة، جوهر الدين وأساسه؟ وقد علمنا مما أجمع عليه المسلمون أن هذه التربية الباطنية، مأمور بها في حق الخاصة والعامة.
أي خير حققه ذاك الذي حارب الذباب المتساقط على وجه صاحبه، بصخرة طحنت رأسه قبل أن يتطاير الذباب عنه…؟!
والشباب المسلم الذي يتكاثر بفضل الله في كل بقعة من أرضه الواسعة، يظل يسأل، تحت إلحاح فطرته الإسلامية الظامئة: كيف السبيل إلى أن أسمو على نفسي وأهوائها في هذه الأزمنة العصيبة وسط هذه المغريات المتأججة؟ كيف السبيل إلى أن أشعر بلذة المناجاة للخالق إذا وقفت بين يديه في صلاة أو جلست أقرأ قرآناً؟ كيف أصنع لأرقى بمشاعري إلى الرتبة التي أعبد الله فيها كأنني أراه كيف أجعل محبة الله ملء كياني حتى لا أحب مع الله سواه، وكيف أجعل المخافة منه ملء شعوري حتى يذوب من قلبي الخوف من كل ما سواه؟
إن جل مشكلات مجتمعاتنا الإسلامية اليوم إنما يكمن في غياب هذه التربية الوجدانية التي هي العمود الفقري في جوهر الإسلام.
وإننا لواجدون أصول هذه التربية ومنهاجها في كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، فإن اتيح لنا معهما المرشد المخلص الناصح فذاك، وإلا فلنلتزم بما يأمرنا به – في صدد هذه التربية – كتاب الله وسنة رسول الله. وأمره في كل منهما واضح وصريح.
لقد ندبنا القرآن إلى القيام بالأسحار، راكعين وساجدين، مكثرين من الاستغفار بضراعة وذل، فهذا أول جزء من المنهاج المرسوم.
ولقد أمرنا القرآن أيضا بالإكثار من ذكر الله في نفوسنا ودون الجهر من القول. ونهانا أن نكون من الغافلين، ثم زاد الأمر تأكيداً في أوقات البكور والآصال، نكثر فيهما من التسبيح والتحميد بقلب خاشع حاضر. وهذا جزء ثان من المنهاج.
ولقد أوصانا القرآن بالإكثار من تلاوته، وقد ذكر العلماء أن من أعظم أنواع الذكر وأبرها الاشتغال بتلاوة القرآن، فهذا جزء ثالث من هذا المنهاج.
ولقد نهانا كتاب ربنا عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن أن نغذي جسومنا بشيء من الحرام، وأكد نبينا عليه الصلاة والسلام أن الجسم الذي غذي بالحرام فالنار أولى به، وقد علمنا أن أكل الحرام يغلف القلب بالسواد ويجلله بالران، فلا يتفتح لموعظة واعظ ولايهزه ترغيب ولا يخيفه ترهيب … وهذا جزء آخر من المنهاج.
ولقد أمرنا كل من كتاب ربنا عزوجل وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، بمصاحبة الأخيار، والابتعاد عن مجالسة الأشرار، فإن مصاحبة الأخيار تنقل إشراق أفئدتهم إلى قلبك، وإن نظرهم إليك ينير طوايا نفسك. وإن في مجالسة أصحاب رسول الله له والآثار التي اكتسبوها من ذلك، لأكبر شاهد على ما نقول. ولا ريب أن النقيض يورث النقيض. فهذا جزء آخر من المنهاج.
ثم إن كلاً من كتاب ربنا وسنة نبينا قد أمرنا بالإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون قيد من زمان بعينه أو مكان بعينه، إلا ما أكدته السنة من الترغيب في الإكثار من الصلاة عليه في اليوم والليلة الزهراوين، يوم الجمعة وليلتها، وقد أجمعت الأمة على أن الإكثار من الصلاة على سيدنا رسول الله من أفضل ما يجلو القلب ويطهر النفس … وهذا جزء آخر، وليس آخراً من المنهاج.
فمن هذه الأوامر والنواهي يتكامل منهاج تزكية النفس وتربية الوجدان، وهي لب ما جاء به كتاب الله وسنة رسول الله، وباتباع هذا المنهاج تنمو محبة الله في القلب، وتنتشر مهابته في جوانب النفس، وقد يظهر في حياة المسلم ما يسمى بالأحوال والمقامات، ويسمو بالمسلم فوق المشكلات.
وصفوة القول، أن سائر مشكلاتنا النفسية والاجتماعية التي ترزح وتئن مجتمعاتنا الإسلامية تحت وطأتها، إنما هي وليدة إعراضنا عن تربية النفس وإصلاح القلب بوسائلها المشروعة والمعروفة التي طالما نبه إليها الربانيون من علماء هذه الأمة خلال القرون والأجيال.
ومهما بقينا معرضين عن الإقبال إلى هذه التربية بجد وإخلاص، فإن مشكلاتنا هذه ستظل في تكاثر وانتشار، وسيظل الإسلام ينُتقص منه في نفوسنا وحياتنا حتى لاتبقى منه إلا رسوم وأشكال، بل سيزداد انتقاصا حتى لايبقى منه إلا آثار وأطلال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمد سعيد رمضان البوطي (2007). قضايا ساخنة: التشريع مصادره- أصوله ومذاهبه، الإرهاب بين صناعه وسماسرته، العولمة الإنسانية والعولمة الاستعمارية، العلم … . باريس: Sagesse D’ orient. ص ص. 335- 366 .
** محمد سعيد رمضان البوطي (1347 – 1434 هـ / 1929 – 2013 م) عالم سوري متخصص في العلوم الإسلامية، ومن المرجعيات الدينية الهامة على مستوى العالم الإسلامي، اختارته جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم في دورتها الثامنة عام 2004 ليكون «شخصية العالم الإسلامي»، واختاره المركز الإسلامي الملكي للدراسات الإستراتيجية في الأردن في المركز السابع والعشرين ضمن قائمة أكثر 500 شخصية إسلامية تأثيراً في العالم لعام 2012.
[1]رواه مسلم، برقم (4495)، في كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر.
[2]رواه البخاري(1)، في كتاب بدء الوحي إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومسلم يرقم (4904)
[3]رواه البخاري برقم (21)، في كتاب بدء الإيمان، باب حلاوة الإيمان. ومسلم برقم (42)، في كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان.
[4]مجموعة فتاوي ابن تيمية 5/101 ومابعدها.